كلمة الناشر

تشكل مسألة الامامة ركنا جوهريا في العقيدة الشّيعية ، حيث يؤمن اتباع مذهب أهل البيت (ع) بأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله وإمام. وانطلاقا من هذا المعتقد الذي يستند الى في تأسيسه الى منطق العقل يؤمن الاماميّون بوجود الامام في العصر الحالي والعصور الغابرة واللاحقة وان الحكمة الالهية اقتضت غيابه عن الانظار حتى تتمهد الظروف المؤاتية لظهوره.

على أن مسألة الايمان بالمهدي لا تتوقف على القواعد العقلية التي تقضي بانتفاء ضرورة استمرار النوع الانساني في غياب المثال الذي يجسد مسارها التكاملي.

فهناك الوثائق التاريخية التي سجلت ولادته في الخامس عشر من شعبان سنة ٢٥٦ ه‍ ، في مدينة سامراء ، اضافة الى حشد هائل من الروايات والاحاديث الشريفة التي بشّرت بظهور منقذ للبشرية في آخر الزمان.

والكتاب الذي بين يديك عزيزى القارئ محاولة لمؤرخ كبير هو المسعودي ، صاحب تاريخ «مروج الذهب» من اجل تقديم تفسير للحديث الشريف بأن الارض لا تخلو من حجة لله.

و «اثبات الوصية» يواكب تسلسل الحجج الالهية من لدن آدم وبدء تاريخ النوع البشري على سطح الارض وحتى ولادة الامام محمد المهدي ، واختفائه عن الانظار.

وتمتاز هذه الطبعة الجديدة بتبويبها وتصحيحها مما علق بها من أخطاء في التركيب اللغوي وبعض التواريخ ، اضافة الى اعتماد قواعد الاملاء الحديث في تركيب المفردات.

ولا ننسى أن ننتهز هذه الفرصة لنقدم شكرنا وتقديرنا الى كل من الاستاذ كمال السيد والاستاذ عبد الرضا افتخاري على ما بذلاه من جهد في إخراج هذا الكتاب بحلته الجديدة ... سائلين الله أن يوفقهما للمزيد من اعمال البرّ والخير. انه سميع مجيب.

أنصاريان



ترجمة المؤلف

هو ابو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي الهذلي (١). من ذرية عبد الله بن مسعود الصحابي ولذا قيل له المسعودي (٢). وهو جد الشيخ الطوسي (٣).

ولد في «بابل» كما نص عليه في «مروج الذهب» ، ج ١ ، ص ٢٧٣ عند وصف الارض والبلدان وحنين النفوس للاوطان. قال :

«واوسط الاقاليم الاقليم الذي ولدنا به وان كانت الأيام أنأت بيننا وبينه وساحقت مسافتنا عنه وولدت في قلوبنا الحنين إليه اذ كان وطننا ومسقطنا وهو اقليم بابل وقد كان هذا الاقليم عند ملوك الفرس جليلا وقدره عظيما ... الخ».

وحينئذ فلا موقع لقول ابن النديم في «الفهرست» ، ص ٢١٩ انّه من اهل المغرب.

نشأ في بغداد وأقام بها زمانا ، وبمصر اكثر ، ودخل البصرة فلقي بها ابا خليفة الجمحي (٤) ورحل في طلب العلم الى اقصى البلاد فطاف فارس وكرمان سنة ٣٠٩ حتى استقر في «اصطخر» وفي السنة التالية قصد الهند الى ملثان والمنصورة ثم عطف الى كنباية فصيمور فسرنديب (سيلان) ومن هناك ركب البحر الى بلاد الصين وطاف البحر الهندي الى مداغسكر (مدغشقر) وعاد الى عمان ورحل رحلة أخرى سنة ٣١٤ الى ما وراء اذربيجان وجرجان ثم الى الشام وفلسطين.

وفي سنة ٣٣٢ جاء الى انطاكية والثغور الشامية الى دمشق واستقر اخيرا بمصر ونزل الفسطاط سنة ٣٤٥ (٥) توفي في مصر (٦) ، في جمادى الآخرة (٧) سنة ٣٤٥.

__________________

(١) الخلاصة للحلي ، ص ٤٩.

(٢) آداب اللغة العربية ، جرجي زيدان ، ج ٢ ، ص ٣١٣.

(٣) رياض العلماء مخطوط.

(٤) طبقات الشافعية للسبكي ، ج ٢ ، ص ٣٠٧.

(٥) آداب اللغة العربية ، ج ٢ ، ص ٣١٣ ، ومعجم المطبوعات ، ج ٢ ، ص ١٧٤٣.

(٦) لسان الميزان ، ج ٤ ، ص ٢٢٥.

(٧) شذرات الذهب ، ج ٢ ، ص ٣٧١.


عقيدته

كان اماميا اثنا عشريا ومن الاجلاء الثقات. وقد اعترف بذلك علماؤنا الاعلام. ففي «الخلاصة» للعلامة الحلي : ثقة من اصحابنا.

ولم يتعقب عليه الشهيد الثاني في «حواشي الخلاصة».

وفي «رياض العلماء» للمولى عبد الله المعروف بالافندي : كان شيخا جليلا متقدما في اصحابنا الامامية عاصر الصدوق عليه الرحمة.

ثم حكى عن السيد الداماد في حاشيته على اختيار رجال الكشي للشيخ الطوسي انه قال : شيخ جليل ثقة ثبت مأمون الحديث عند العامة والخاصة.

وعدّه المجلسي (قدّس سره) في «الوجيزة» من الممدوحين. وفي «البحار» ، ج ١ ، فصل ٢ ذكر ان النجاشي عدّه من رواة الشيعة ولم يتعقب عليه.

وفي «فرج المهموم» للسيد ابن طاوس :

من العاملين بالنجوم الشيخ الفاضل الشيعي علي بن الحسين المسعودي صاحب مروج الذهب.

وقال ابن إدريس الحلي في «السرائر» في كتاب الحج :

هو من مصنفي اصحابنا معتقد للحق.

وقال أبو علي الحائري في «منتهى المقال» : هو من جلة العلماء الامامية ومن قدماء الفضلاء الاثنا عشرية. ولم اقف الى الآن على من توقف في تشيع هذا الرجل.

وفي «روضات الجنات» :

اشتهر بين العامة بانه شيعي المذهب.

ثم ذكر الشواهد على تشيعه وانه من الامامية الاثنا عشرية.

وحكى خاتمة المحدثين ميرزا محمد حسين النوري (قدّس سره) في «خاتمة


المستدرك» ، ج ٣ ، ص ٣١٠ كلمات العلماء في عده من ثقات الامامية ثم قال :

ولم يطعن عليه الا في تصنيف «مروج الذهب» وليس بشيء ، اذ هو بمرأى من هؤلاء ومسمع.

والمتأمل في خباياه يستخرج ما كان مكتوما في سريرته ، فانه ذكر من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام المقتضية لأحقيته بالخلافة شيئا كثيرا كحديث المنزلة والطير والغدير والاخوة. واصرح من ذلك ما ذكره في مروج الذهب ، ج ١ ، ١٧ عند ذكر المبدأ وشأن الخليقة. ونص ما قال :

«وروي عن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام انه قال : ان الله حين شاء تقدير الخليقة وذرء البرية وابداع المبدعات ، نصب الخلق في صورة كالهباء قبل دحو الأرض ورفع السماء وهو في انفراد ملكوته وتوحد جبروته فأتاح نورا من نوره فلمع ونزع قبسا من ضيائه فسطع ثم اجتمع النور في وسط تلك الصورة الخفية فوافق ذلك صورة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله فقال الله عز من قائل : أنت المختار المنتجب وعندك مستودع نوري وكنوز هدايتي ، من اجلك أسطح البطحاء وأمواج الماء وأرفع السماء وأجعل الثواب والعقاب والجنة والنار وأنصب اهل بيتك للهداية وأوتيهم من مكنون علمي ما لا يشكل عليهم دقيق ولا يعييهم خفي وأجعلهم حجتي على بريتي والمنبهين على قدرتي ووحدانيتي.

ثم أخذ الله الشهادة عليهم بالربوبية والاخلاص بالوحدانية فقبل أخذ ما أخذ جل شأنه ببصائر الخلق انتخب محمدا وآله وأراهم ان الهداية معه والنور له والامامة في آله تقديما لسنة العدل وليكون الاعذار متقدما ثم اخفى الله الخليقة في غيبه وغيبها في مكنون علمه.

الى ان قال : فكان حظ آدم من الخير ما آواه من مستودع نورنا ولم يزل الله يخبئ النور تحت الزمان الى ان وصل الى محمد صلّى الله عليه وآله في ظاهر الفترات فدعا الناس ظاهرا وباطنا وندبهم سرا وإعلانا.

واستدعى (عليه السّلام) التنبيه على العهد الذي قدمه الى الذر قبل النسل. فمن وافقه


واقتبس من مصباح النور المقدم اهتدى الى سيره واستبان واضح أمره ، ومن ألبسته الغفلة استحق السخط.

ثم انتقل النور الى غرائزنا ولمع في ائمتنا فنحن انوار السماء وانوار الأرض فبنا النجاة ومنا مكنون العلم وإلينا مصير الامور وبمهدينا تنقطع الحجج خاتمة الائمة ومنقذ الامة وغاية النور ومصدر الامور فنحن أفضل المخلوقين واشرف الموحدين وحجج رب العالمين فليهنأ بالنعمة من تمسك بولايتنا وقبض عروتنا.

فهذا ما روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي ابن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ولم نتعرض لكثير من اسانيد هذه الاخبار وطرقها لأنا قد اتينا على جميع ذكرها واتصالها في النقل بمن ذكرناها عنه وعزوناها إليه فيما سلف من كتبنا خوف الاكثار والتطويل في هذا الكتاب.

وعلى هذا فلا موقع لما في لسان الميزان ، ج ٤ ، ص ٢٢٥ من انه شيعي معتزلي وحيث لم يتحققه السبكي نسبه الى القيل ، فقال في «طبقات الشافعية» ، ج ٢ ، ص ٣٠٧ : قيل كان معتزلي العقيدة.

مؤلفاته

ذكر النجاشي في «الرجال» ، ص ١٧٨ :

له كتاب المقالات في اصول الديانات والزلف ، والاستبصار ، وبشر الحياة ، وبشر الابرار ، والصفوة في الامامة ، والهداية الى تحقيق الولاية ، والمعالي في الدرجات ، والابانة في اصول الديانات واثبات الوصية ورسالة الى ابن صفوة المصيصي ، واخبار الزمان من الامم الماضية والاحوال الخالية ، ومروج الذهب.

وفي «أمل الآمل» للحر العاملي نقلا عن «حواشي الشهيد» على الخلاصة :

ان له كتاب الانتصار وآخر اسمه الاستبصار وآخر اكبر من مروج الذهب اسمه


الاوسط وآخر اسماه القضاء والتجارب والنصرة ومزاهر الاخبار وطرائف الآثار وحدائق الازهار في اخبار آل محمد عليهم السّلام والواجب في الاحكام اللوازب.

وفي «روضات الجنات» ، ص ٣٧٩ :

له كتاب ذخائر العلوم وما كان في سالف الدهور ، والرسائل والاستذكار لما مر في سالف الاعصار ، والتاريخ في اخبار الامم من العرب والعجم ، والتنبيه والاشراف وخزائن الملك وسر العالمين والبيان في اسماء الائمة وكتاب اخبار الخوارج.

وفي بعض المواضع المعتبرة : له كتاب الادعية نسبه إليه الكفعمي في مصباحه.

وفي «فهرست ابن النديم» ، ص ٢١٩ :

له اسماء القرابات والرسائل.

وفي «لسان الميزان» لابن حجر ، ج ٤ ، ص ٢٢٤ :

له كتاب التعيين للخليفة الماضي.

وفي «فوات الوفيات» للكتبي ، ج ٢ ، ص ٤٥ :

له كتاب البيان في اسماء الائمة.

وذكر كتاب البيان في اسماء الائمة ياقوت في المعجم ، ج ١٣ ، ص ٩٤.

كتاب اثبات الوصية

ذكره النجاشي في الرجال

والعلامة الحلي في الخلاصة

والشهيد الثاني في الحاشية عليها

والمجلسي عند ذكر الكتب التي ينقل عنها في البحار

وابو علي الحائري في منتهى المقال

والخونساري في روضات الجنات

والمحدث النوري في خاتمة المستدرك

والشيخ العلامة الشيخ عبد الله المامقاني في تنقيح المقال.


ولعل ما ذكره ياقوت في المعجم ، والكتبى في فوات الوفيات من البيان في اسماء الأئمة عين اثبات الوصية ، كما ان ما ذكره ابن حجر في لسان الميزان من كتاب تعيين الخليفة الماضي لعله يوافقه.

والحجة الامام كاشف الغطاء في كتابه «اصل الشيعة واصولها»

والعلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني في كتابه «الذريعة الى تصانيف الشيعة» في الجزء الاول.


القسم الاول

اتصال الحجج والأنبياء

من أبينا آدم الى سيدنا محمد [ص]



مقدمة في بدء الخليقة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان الا على الظالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

(روي) عن عالم اهل البيت (عليهم السلام) انه قال لشيعته : اعلموا العقل وجنوده واعرفوا الجهل وجنوده تهتدوا.

فقيل له : انا لا نعرف الا ما عرفتنا.

فقال عليه السلام : ان الله جل وعلا خلق العقل وهو اول خلق خلقه من الروحانيين من يمين العرش من نوره فقال له أدبر فأدبر ، ثم قال له أقبل فأقبل. فقال له : خلقتك خلقا عظيما وكرمتك على جميع خلقي. ثم خلق الجهل من البحر الاجاج الظلماني فقال له ادبر فلم يدبر ثم قال له اقبل فلم يقبل فلعنه وقال له استكبرت ، ثم جعل للعقل خمسا وسبعين جندا فلما رأى الجهل ما اكرم الله به العقل اضمر له العداوة وقال يا رب هذا خلق مثلي خلقته وكرمته وقويته بالجنود وانا ضده فتضعفني ولا يكون لي قوة فاعطني من الجند مثل ما أعطيته.

فقال : نعم ، فان عصيت بعد ذلك اخرجتك وجنودك من رحمتي.

قال : قد رضيت.


فاعطاه خمسا وسبعين جندا. فكان ما اعطاهما من الجنود ما فسره العالم عليه السّلام وهو كما يوضع في الجهة التي تتلوها إن شاء الله تعالى.

جند العقل

الخير وزير العقل ، الاخلاص ، العلم ، التهيئة ، الرفق ، الستر ، النفس ، الصبر التذكر ، التوبة ، الدعاء ، التصديق ، الاسلام ، الشهامة ، المداراة ، البركة ، الرهبة ، الحلم ، النظافة ، الراحة ، الحفظ ، المواساة ، النشاط ، السلامة ، الحق ، الايمان ، الطمع في الغفران ، سلامة العيب ، البر للوالدين ، الصمت ، العفو ، السهولة ، الحكمة ، المودة ، الفرح ، الالفة ، العدل ، الامانة ، التوكل ، الصلاة ، العفة ، الحقيقة ، التقية ، الرحمة ، الصفا ، الوقار ، الاستغفار ، السخاء ، الحب في الله عز وجل ، الفهم ، الصوم ، الزهد ، التواضع ، الانصاف ، الحياء ، الغنى بالله عز وجل ، التعطف ، المحافظة ، الإغضاء ، الصدق ، الرجاء ، المعرفة ، الجهاد ، الكتمان ، التؤدة ، الاستسلام ، القصد ، العافية ، القناعة ، الوفاء ، الشكر ، الرضاء ، الرأفة ، الحج ، صون الحديث ، المعروف ، التسليم ، اليقين ، القوام ، السعادة ، الطاعة.

جند الجهل

الشر وزير الجهل ، الكفران ، البلادة ، المكاشفة ، الخرق ، التبرج ، الجحود ، الكفر ، الطمع ، المماكرة ، الجرأة ، الاضاعة ، التطاول ، الباطل ، الحرص ، التهتك ، العقوق ، الافطار ، البلاء ، الخيانة ، الغباوة ، الرعنة ، الرياء ، السفه ، الجور ، القنوط ، الانكار ، الافشاء ، الكبر ، الهذر ، البغض ، السخط ، الغلظة ، النميمة ، التسرع ، الاذاعة ، الكذب ، الشؤم ، الجهل ، الغضب ، المنكر ، الحمية ، الاستكبار ، العدوان ، الخلع ، المحق ، البلوى ، الشره ، المعصية ، التجبر ، الشك ، الفرقة ، المكاثرة ، الشقاوة ، الاستنكاف ، الحسد ، الجزع ، البخل ، السهو ، الاصرار ، الكسل ، الغدر ، الحرص لغير الله ، التعب ، النسيان ، المنع ، الحزن ، الحقد ، النكول ، الصعوبة ، الهوى ، العداوة ، القساوة ، نبذ الميثاق ، الانتقام ، الخفة ، الاغترار ، القحة ، البغي ، الفقر ، القطيعة ، التهاون ، العصبية.


فلا يجمع هذه الخصال كلها التي هي جنود العقل الا نبي أو وصي نبي أو مؤمن قد امتحن الله قلبه للايمان ، فاما ساير المؤمنين فلا يخلو احدهم من بعض هذه الجنود للخير حتى اذا استكمل وصفا من جنود الجهل كان في الدرجة العليا مع الأنبياء. تدرك معرفة العقل وجنوده بمجانبة الجهل وجنوده.

بدء الخليقة

وروي ان الله جل وعلا خلق الجن والنسناس وأسكنهم الارض فسفكوا الدماء وغيّروا وبدلوا فأهبط الله إبليس اللعين في جند من الملائكة وكان اسمه عزازيل فأبادوا الجن والنسناس الى اطراف الارض وسكن ابليس ومن معه العمران وكان يحكم بين أهل الارض ويتشبه بالملائكة ، ولم يكن منهم ، ويظهر الطاعة لله عز وجل ويبطن المعصية ، ثم لعنه الله ، وأظهر معصية الله وحكم بخلاف ما أمر الله وغيّر وبدل فلما اراد ـ جل وعلا ـ أن يخلق آدم (صلّى الله عليه) وذلك بعد أن مضى للجن والنسناس سبعة آلاف سنة وبعد ان مضى لابليس (لعنه الله) حين من الدهر كشف عن اطباق السماوات ثم قال للملائكة انظروا الى أهل الارض من خلقي.

فلما رأى الملائكة الفساد في الارض وسفك الدماء عظم ذلك عليهم ، فأوحى الله إليهم (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) يكون حجة لي على من في ارضي على خلقي.

فقالت الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) فقالوا اجعله منا فانا لا نفسد في الأرض ولا نسفك الدماء. فقال : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) اني اريد ان أخلق خلقا بيدي وأجعل من ذريته انبياء مرسلين وعبادا أئمة مهديين أجعلهم خلفاء على خلقي وحججا ينهونهم عن معصيتي وينذرونهم من عذابي ويهدونهم الى طاعتي ويسلكون بهم الى سبيلي وابتر النسناس عن أرضي وأهل مردة الجن العصاة عن بريتي وخلقي وأسكنهم في الهواء وفي أقطار الأرض وأجعل بين الخلق وبين الجن حجابا فلا يرى نسل خلقي الجن ولا يجالسونهم.

فقالت الملائكة : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).


قال الله عز وجل (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

وكان ذلك تقدمة من الله عز وجل في آدم عليه السّلام قبل أن يخلقه ؛ احتجاجا به عليهم.

قال فاغترف ـ تبارك وتعالى ـ من ذات اليمين بيمينه غرفة من الماء العذب الفرات فصلصلها فجمدت ثم قال لها : منك أخلق النبيين والمرسلين وعبادي الصالحين الأئمة المهديين والدعاة الى الجنة وأتباعهم الى يوم القيامة ولا أبالي (ولا أسأل عما أفعل وهم يسألون) يعني خلقه.

ثم اغترف غرفة من الماء المالح الأجاج من ذات الشمال فصلصلها فجمدت فقال لها : منك أخلق الخنازير والفراعنة وأئمة الكفر والدعاة الى النار واتباعهم الى يوم القيامة.

وشرط ـ جل وعز ـ في هؤلاء البدء ثم خلط الطينتين جميعا ثم أكفاهما مثله قدام عرشه.

وروي ان الله جل وعلا فرق الطينتين ثم رفع لهما نارا فقال لهما ادخلوها ناري فدخلها اصحاب اليمين فكان أول من دخلها محمد وآل محمد عليهم السلام ثم اتبعهم أولو العزم من الرسل وأوصياؤهم واتباعهم فكانت عليهم بردا وسلاما. وأبى أصحاب الشمال أن يدخلوها ، فقال للجميع كونوا طينا باذني ثم خلق منه آدم.

قال : فمن كان من هؤلاء لا يكون من هؤلاء ومن كان من هؤلاء لا يكون من هؤلاء.

وقال العالم عليه السلام للذي حدثه من شيعته ومواليه : فما رأيت من فرق أصحابك وخلقهم ما أصاب من لطخ أصحاب الشمال ، وما رأيت من حسن سيما ووقار أعدائك ما أصاب من لطخ أصحاب اليمين.

وروي ان الله جل وعز أخذ عليهم الميثاق بالتوحيد والرسالة والامامة وثبت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف وسيذكرونه. ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه.

وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : كل مولود يولد على الفطرة (يعني تلك المعرفة) ان يقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين.


وروي أنه سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض من عذبها ومالحها ومرّها ومنتنها فجعلت الملوحة في العينين ولو لا ذلك لذابتا وجعلت المرارة في الأذنين ولو لا ذلك لدخلها الهوام وجعل النتن في الانف ليجد الانسان الروايح الطيبة وجعلت العذوبة في الفم ليجد به لذة المطعم والمشرب.

ولما خلق الله تعالى آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح وأمر بالسجود له وانما كان السجود لله تبارك وتعالى والطاعة لآدم عليه السّلام وامتنع ابليس حسدا له وطغيانا وقال (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ *).

وأخطأ إبليس اللعين في القياس لان الطين الذي خلق منه آدم أنور من النار لأن النار من الشجر والشجر من الطين.

ثم قال ابليس : يا رب اعفني من السجود لآدم حتى أعبدك عبادة لم يعبدك بها أحد.

فأوحى الله تعالى : لست أقبل شيئا من عبادتك الا الطاعة لآدم.

فأبى ابليس اللعين ذلك ، فلعنه الله وغضب عليه وأمر الملائكة بإخراجه ثم قال له (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).

فسئل العالم عن السبب في اجابته الى الإنظار. فقال له : انه لما هبط الى الأرض تحكّم فيها وغيّر وبدل ، فغضب الله عليه فسجد أربعة آلاف سنة سجدة واحدة فجعل الله تلك السجدة سببا للاجابة للنظرة الى قيام صاحب الامر عليه السّلام وهو يوم الوقت المعلوم.

قال : فقال اللعين (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فروي أنه لا سلطان لابليس على المؤمنين في اخراجهم من ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام الى ولاية الجبت والطاغوت ، وله عليهم سلطان فيما سوى ذلك.

وروي ان رجلا سأل العالم عليه السلام عن قول الله عز وجل (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) فقال : ما زال مذ خلق الله آدم في كل زمان دولتين دولة لله جل وعز وهي دولة الأنبياء والاوصياء ، ودولة لابليس. فاذا كانت الدولة للانبياء والاوصياء عبد الله نبيّه في الظاهر ، واذا كانت دولة ابليس (لعنه الله) عبد الله في السر.


هبوط آدم [ع]

قال : وكان مكث آدم في الجنة فيما روي سبع ساعات الدنيا ؛ روي أنه دخلها قبل زوال الشمس وخرج قبل ان تغيب ، وأنها كانت جنة تطلع فيها الشمس والقمر. ولو كانت جنة الخلد لما أخرج منها ، وأنه لما ذاق الشجرة انتزعت عنه زينته وكان عليه أحسن الثياب وأنفس الجواهر فاستتر بورق الموز ثم أمر الله جل وعز الملائكة باخراجه فاخذوا بيده ليخرجوه فقال اللهم بحق محمد وعلي والحسن والحسين تب علي فاوحى الله إليه : اهبط الى الأرض حتى أتوب عليك ، فهبط وأهبط معه من الحمرات ، فلما استوى على الأرض مدّ بصره فرأى ابليس قد سبقه الى الأرض.

وروي انه لم يصعد آدم شجرة الا صعد ابليس بحياله شجرة مثلها فرفع آدم يده ثم قال : يا رب انك تعلم اني لم أطقه وأنا في جوارك ، وقد أهبطته معي الى الأرض حتى أطيقه.

فأوحى الله إليه : يا آدم السيئة سيئة والحسنة عشر الى سبعمائة.

قال : يا رب زدني.

فأوحى الله إليه : لا يأتي احد من ولدك بمثل الجبال من الذنوب ثم يتوب منها الا غفرت له.

قال يا رب : زدني.

فأوحى الله إليه : أغفر الذنوب ولا أبالي.

قال : حسبي.

فقال ابليس : قد حلت بيني وبينه ومنعتني منه.

فأوحى الله إليه : انه لا يولد له ولد الا ولد لك ولدان.

قال يا رب : زدني.

فأوحى الله إليه : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً).

قال : حسبي.


فصار اللعين ضدّا لآدم عليه السّلام وولده من ذلك الوقت.

وروي في قول الله عز وجل (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) قال : عهد إليه في النبي والأئمة (صلّى الله عليهم) فلم يكن له منهم عزيمة أي قوة. وانما سموا اولو العزم لأن الله (جل ذكره) لما عهد إليهم في السيادة أجمع عزمهم ان ذلك كذلك.

وقد هبط آدم على الصفا وحوّاء على المروة ، فاشتق للجبلين هذان الاسمان ، وكان جبرئيل يأتيهما بأرزاقهما من الجنة ثم احتبس الرزق عنهما فاشتد جوعهما فنزلا الى الوادي بين الصفا والمروة فالتقيا وأكلا من ثمره.

وروي في خبر آخر أمر الحنطة والطحين والعجين والخبز ؛ قال : ولم يكن آدم يقارب حوا. وقال هو لها : انما فرّق بيننا في الهبوط لأنك قد حرمت عليّ ، فمكثا ما شاء الله على تلك الحال ثم هبط جبرئيل عليه السّلام.

وكان من خبر حج آدم والجمع بينه وبين حوا ما قص به ، ومن مولد هابيل وقابيل ونشوئهما ، فكان هابيل راعي غنم وقابيل حراثا ، فقال لهما آدم عليه السّلام : اني احب ان تتقربا الى الله ـ عز ذكره ـ بقربان فلعله ان يتقبل منكما فتقرا بذلك عيني ، فانطلق هابيل الى اكبر كبش في غنمه فقرّبه ، وانطلق قابيل الى شر ما كان له من الطعام وأنقصه فقرّبه ، فتقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل ، فحسد أخاه واظهر عداوته ثم أخذ حجرا ففض رأس أخيه هابيل به حتى قتله.

وكان من قصة الغراب والدفن ما قص الله به. ورجع قابيل الى آدم ، فلما لم ير معه أخاه هابيل قال له : اين تركت أخاك؟

قال له قابيل : أرسلتني راعيا لابنك؟

قال له : انطلق معي الى الموضع الذي فقدته فيه ، فلما بلغ المكان ورأى آدم عليه السّلام أثر قتل هابيل اشتد حزنه عليه ولعن قابيل ونودي من السماء : لعنت كما قتلت أخاك ، ولعن آدم الأرض كما بلعت دم هابيل ، فانبعثت الأرض بعد ذلك دما وصار يجمد عليها ويجف.

وانصرف آدم حزينا فبكى على هابيل أربعين يوما ، فأوحى الله إليه : اني أهب لك


مكانه غلاما أجعله خليفتك ووارث علمك ، فولد له شيث وهو هبة الله ، فأوحى الله إليه ان سمه في اليوم السابع ، فجرت سنة ، فلما شب وكبر أوحى الله إليه اني متوفيك ورافعك إليّ يوم كذا وكذا فأوص الى خير ولدك هبة الله وسلم إليه الاسم الأعظم واجعل العلم في تابوت وسلمه إليه فاني آليت الا اخلي أرضي من عالم أجعله حجة لي على خلقي ، فجمع آدم عليه السّلام ولده الرجال والنساء ثم قال : يا ولدي ان الله عز وجل اوحى إليّ انه رافعي إليه ، وأمرني ان اوصي الى خير ولدي هبة الله فانه قد اختاره لي ولكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا أمره فانه وصيي وخليفتي. فقالوا : سمعنا وأطعنا.

فأمر بتابوت فعمل وجعل فيه العلم والأسماء والوصية ثم دفعه الى هبة الله وقال له : انظر يا هبة الله فاذا انا مت فغسلني وكفّني وصلّ عليّ وأدخلني حفرتي في تابوت تتخذه لي. فاذا حضرت وفاتك وأحسست بذلك من نفسك فأوص الى خير ولدك فان الله لا يدع الخلق بغير حجة عالم منا أهل البيت وقد جعلتك حجة الله على خلقه فلا تخرج من الدنيا حتى تدع لله حجة ووصيا من بعدك على خلقه وتسلم إليه التابوت وما فيه كما سلمته إليك ، وأعلمه أنه سيكون نبيا واسمه نوح يكون في الطوفان والغرق فمن أدرك فلكه وركب معه فيه نجا ومن تخلف عنه هلك. وأوص وصيك أن يحتفظ بالتابوت فاذا حضرت وفاته ان يوصي الى خير ولده وأكرمهم له وأفضلهم عنده ، وليوص من بعده الى من بعده. واحذر يا هبة الله الملعون قابيل وولده ولا تناكحوهم ولا تخالطوهم.

قال ثم اعتلّ آدم عليه السّلام فدعا (هبة الله) وقال له قد اشتهيت من فواكه الجنة.

وروي انه قال له : امض الى الجنة فجئني منها بعنب.

فانطلق هبة الله لطلب ما أمره به ، فاستقبله جبرئيل عليه السّلام ومعه الملائكة فقال : اين تذهب؟

فقال : اشتهى آدم فاكهة فأمرني ان اطلبها له.

فقال جبرئيل : أعظم الله اجرك فيه. ان اباك آدم قبضه الله جل وعز إليه. ارجع.

فرجع فوجده قد قبض (صلّى الله عليه وسلّم) ، فغسله والملائكة يعينونه ، وكفّنه وكان جبرئيل عليه السّلام قد هبط من الجنة بكفنه وحنوطه.


فلما وضع للصلاة عليه قال هبة الله عليه السّلام : تقدم يا روح الله فصل عليه.

قال جبرئيل : بل تقدم أنت فصلّ عليه فانك قد قمت مقام من امر الله له بالسجود.

فلما سمع هبة الله ذلك تقدم فصلى عليه.

وأوحى إليه أن كبّر خمسا وسبعين تكبيرة ، بعدد صفوف الملائكة الذين صلوا عليه.

ودفن بمكة في جبل ابي قبيس.

ثم ان نوحا عليه السّلام حمل بعد الطوفان عظامه في تابوت فدفنه في ظاهر الكوفة. فقبره هناك مع قبر نوح في الغري ، وتابوت أمير المؤمنين عليه السّلام فوق تابوتهما (صلّى الله عليهم) في موضع واحد.

وكان عمره الف سنة ؛ وهب لداود منها سبعين سنة فصار عمره بعد ذلك تسعمائة وثلاثين سنة ، وكانت كنيته ـ فيما روي عن الصادقين عليهم السّلام ـ ابا محمد.

وروي : انه لما كان اليوم الذي اخبره الله عز وجل أنه متوفيه فيه تهيأ آدم عليه السّلام للموت وأذعن به ، فهبط عليه ملك الموت (صلى الله عليه).

فقال له : دعني حتى أتشهد وأثني على ربي خيرا بما صنع لدي قبل ان تقبض روحي. فقال له ملك الموت : افعل.

فقال : أشهد ان لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أني عبد الله وخليفته في أرضه ابتداني باحسانه وخلقني بيده ولم يخلق بيده سواي ونفخ فيّ من روحه ثم أجمل صورتي ولم يخلق على خلقي أحدا مثلي ثم أسجد لي ملائكته وعلمني الاسماء كلها ثم اسكنني جنته ولم يكن يجعلها دار قرار ولا منزل شيطان وانما خلقني ليسكنني الأرض الذي أراد من التقدير والتدبير وقدر ذلك كله عليّ قبل أن يخلقني ، فمضت قدرته فيّ وقضاؤه ، ونافذ أمره ثم نهاني عن أكل الشجرة فعصيته ، فأكلت منها ، فأقالني عثرتي وصفح لي عن جرمي ، فله الحمد على جميع نعمه حمدا يكمل به رضاه عني.

ثم قبض ملك الموت عليه السّلام روحه (صلى الله عليه) ، فصار التشهد عند الموت سنة في ولده.


فلما أفضى الأمر الى هبة الله عليه السّلام ـ وهو شيث بالعبرانية ـ قام في ولد أبيه بطاعة الله عز وجل وبما أوصاه به أبوه. وزاده الله فيما كان اهبطه الى آدم من الصحف خمسين صحيفة وشرّفه بالحوراء التي أهبطها إليه من الجنة.

واعتزل قابيل وولده. وبنى الكعبة بالحجارة ، وكانت قبل ذلك مكانها الحية التي انزلت من الجنة وقص خبرها ، وكان قابيل وولده في اعلى الجبل ، وهبة الله وولده وشيعته في أسفله ، فنزل وجاء الى هبة الله عليه السّلام فقال له : قد علمت انك صاحب الأمر وان اباك قد اوصى إليك واستودعك العلم وإن نطقت أو اظهرت شيئا من ذلك ألحقتك بأخيك هابيل فوضع هبة الله يده على فيه وأمسك ، فلزمت الأوصياء التقية والإمساك الى ان يقوم قائم الحق.

وأمر هبة الله ولده والشيعة بالحضور عنده في يوم من السنة ، وكانوا اذا حضروا فتح التابوت ونظر فيه وجعل ذلك يوم عيد لهم.

وانما كان نظره في التابوت توقعا لقيام القائم نوح عليه السّلام.

وكان عمر هبة الله تسعمائة سنة.

وروي ان ابليس اتى قابيل فقال له انما قبل قربان اخيك هابيل لأنه كان يعبد النار فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك ، فبنى بيت نار فهو أول من نصب النيران وعبدها وسنّ الكفر في ولد آدم ، وكان الملك والتدبير والامر والنهي له ، وهبة الله صامت مغمور وهو صاحب الحق.

فلما حضرت وفاته اوحى الله إليه ان يستودع التابوت والاسم الأعظم ابنه ريسان بن نزله وهي الحورية التي اهبطت له من الجنة اسمها نزله.

وروي ان اسم ريسان أنوش ، فأخبره وسلم إليه التابوت ومواريث الأنبياء وأمره بمثل ما كان آدم عليه السّلام اوصى به إليه ، وقال له : إن أدركت نبوة نوح فسلم إليه العلم وما في يديك.

واستخفت الامامة وجميع المؤمنين خوفا من قابيل وولده يتوقعون من قيام نوح عليه السّلام.

ومضى هبة الله واستخلف ريسان.


قام ريسان (ابن نزلة الحورية) واسمه أنوش عليه السّلام بأمر الله (جل وعلا) ومات اللعين قابيل فأفضى الملك الى ابنه طهمورث فملك مائتين وستا وثلاثين سنة ووضع في زمانه لباس الشعر والصوف واتخذ الدواب والآلات والانعام.

واستخفى أنوش الأمر ومن اتبعه من المؤمنين. فمن آمن به كان مؤمنا ، ومن جحده كان كافرا ، ومن تخلف عنه كان ضالا.

فلما أراد الله ان يقبض انوش اوحى الله إليه ان يستودع نور الله وحكمته والتابوت والاسم الأعظم والعلم ابنه امحوق واسمه أيضا قينان فأحضره وجمع ثقات شيعته وأوصى إليه وسلم جميع ما أمر بتسليمه إليه وأوصاه بما احتاج الى توصيته به وذلك كله في خفاء وتقية وستر من طهمورث بن قابيل.

وقبض الله ـ جل وعز ـ انوش ، وقام من بعده بالامر امحوق وهو قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.

فقام قينان بامر الله جل وعز وظهر ملك عوج بن عناق من ولد قابيل في ذلك الزمان ، وطغى وأفسد في الأرض ، واشتد امر الشيعة وغلظت عليهم المحنة.

فلما حضرت وفاة قينان اوحى الله إليه ان يستودع نور الله وحكمته والتابوت والعلم ابنه الحيلث ، فأحضره وجمع ثقات شيعته واوصى إليه وسلم جميع مواريث الأنبياء والاسم الأعظم إليه.

فلما قبض الله تبارك وتعالى قينان عليه السّلام قام الحيلث بن قينان عليه السّلام بامر الله مستخفيا من طهمورث ومن عوج بن عناق واولادهم واصحابهم لكثرتهم وقوة امرهم وقلة المؤمنين على ما عهد إليه ابوه الى ان حضرته الوفاة فاوحى إليه ان استودع الاسم الأعظم والحكمة والتابوت غنميشا ، فأحضره واوصى إليه بمثل ما كان اوصى به وسلم إليه ما في يده من التابوت والعلم ومضى (صلى الله عليه).


فقام غنميشا بامر الله عز وجل على منهاج آبائه فلما حضرته الوفاة اوحى الله إليه ان استودع نور الحكمة وما في يديك من التابوت والاسم الأعظم اخنوخ وهو إدريس عليه السلام وهو هرمس ، فأحضره واوصى إليه وسلم إليه العلم والتابوت.

فلما قبضه الله جل وعلا قام بالامر بعده إدريس وهو هرمس وهو اخنوخ عليه السّلام بامر الله جل وعز وجمع الله له علم الماضين وزاده ثلاثين صحيفة وهو قوله عز وجل ان هذا لفي الصحف الاولى صحف ابراهيم وموسى ، يعني الصحف التي انزلت على هبة الله وإدريس.

وكان اخنوخ جسيما وسيما عظيم الخلق. وسمي إدريس لكثرة دراسته في الكتب. وهو أول من قرأ وكتب وسن سنن الاسلام بعد هبة الله وأول من خاط الثياب وكان اللباس قبل ذلك الجلود.

فعند ذلك وفي ايامه ملك بيوراسب من ولد قابيل الف سنة وكان ولد قابيل الفراعنة الجبابرة لا يملكون ولا يقعدون على ترتيب الابن وابن الابن كما يملك هؤلاء من ولد هبة الله فصار رسما لمن غلب من الظالمين الطغاة بعدهم يملك الرجل ثم يملك أخوه وابن اخيه وابن عمه والأبعد دون الولد وولد الولد.

وكان بيوراسب أول من احدث في ملكه الفراسة فمن هناك سمي كتاب الفراسة وكان قد وقع إليه كلام من كلام اذب فاتخذه سحرا وأحاله عن معناه. وكان بيوراسب يعمل السحر بذلك الكلام وطغى في الأرض وكان اذا أراد شيئا من مملكته نفخ بقصبة كانت له من ذهب فيأتيه بنفخته كلما يريد فمن هناك تنفخ اليهود بالشبور. فركب الجبار (لعنه الله) ذات يوم الى نزهة فمر برياض لرجال من شيعة إدريس عليه السّلام حسنة خضرة فسأل عنها فقيل انها لرجل من الرافضة وكان من لا يتبعه على كفره ويرفضه يسمى رافضيا. فدعا به وقال له أتبيعني هذه الأرض فقال له عيالي أحوج إليها منك؟ فغضب وانصرف عنه. فشاور في أمره امرأة كانت له وأخبرها بقوله فاشارت إليه بقتله فابى قتله الا بحجة عليه.


فقالت له : فانا أحتال لك في قتله ، ائت بقوم يشهدون عندك انهم قد سمعوه قد برئ منك ومن دينك. ففعل وقتل ذلك المؤمن وأخذ ضيعته.

فغضب الله ـ جل وعز ـ للمؤمن وأوحى الى إدريس أن ائت هذا الجبار العنيد فقل له : ما رضيت إن قتلت عبدي المؤمن حتى أخذت ضيعته وأفقرت عياله ، أما وعزّتي لأنتقمن له منك ولأسلبنك ملكك ولأخربن مدينتك ولأطعمنّ الكلاب لحم امرأتك.

فقال الجبار لإدريس : اخرج عني وأرح نفسك.

ثم ان الملك اخبر امرأته بنبوة إدريس وما قال له.

فقالت له : لا يهولك أمره فاني سأبعث إليه بمن يقتله اغتيالا فجمع إدريس عليه السّلام شيعته فأخبرهم بما أرسل به من الرسالة الى الجبار وما قالته له امرأته ، فأشفقوا عليه.

ثم ان امرأة الجبار بعثت بأربعين رجلا ليقتلوا إدريس فقصدوا مجلسه الذي كان يجلس فيه وكان منزله مسجد السهلة بظاهر الكوفة فوجدوه قد تنحى عن القرية مع نفر من اصحابه. فلما كان في السحر ناجى ربه وسأله ان لا يمطر السماء على اهل القرية ولا ما حولها حتى يسأله ذلك.

فاوحى الله إليه قد اجبتك.

فأخبر شيعته بذلك وأمرهم بالخروج من تلك النواحي ، وكانت عدتهم عشرين رجلا ، فتفرقوا في اقصى القرى والسواد. وصار إدريس الى كهف جبل شاهق ووكل الله به ملكا باستطعامه في كل ليلة وسلب الله ذلك الجبار ملكه وخرب مدينته واطعم الكلاب لحم امرأته. ومكث إدريس غائبا عشرين سنة وأمسكت السماء من المطر ، والأرض عن النبات فقحط الناس واشتد البلاء حتى هلك خلق منهم جوعا ، واعلموا ان ذلك بدعوة إدريس عليه السّلام فتضرعوا وسألوا الله العفو والتوبة. فاوحى الله الرحيم ـ جل وتعالى ـ الى إدريس انهم قد سألوني وقد رحمتهم فاسألني حتى أمطر السماء وأنبت الأرض.

وابى إدريس ذلك. فاوحى الله إليه : لم تسألني فأجبتك وأنا أسألك ان لم تسألني. فابى ان يسأله.

فامر الله الملك ان يحبس عنه الرزق واوحى إليه ان اهبط من الجبل.


فهبط وقد اشتد جوعه فرأى دخانا فقصده فوجد عجوزا كبيرة وقد خبزت قرصين على مقلي. فقال لها : ايتها المرأة اطعميني فاني مجهود بالجوع.

فقالت له : هما قرصان احدهما لي والآخر لولدي فان اطعمتك قرصي تلفت وان أطعمتك قرص ابني هلك.

فقال لها : ابنك صغير ونصف قرص يكفيه.

فأجابته. فأخذت القرص فكسرته نصفين ودفعت إليه.

فلما رأى الصبي انّه شورك في قرصه تضوّر واضطرب ومات.

فقالت امّه : يا عبد الله قتلت ولدي.

فقال لها إدريس : أنا أحييه بإذن الله.

فأخذ بعضدي الصبي ثم قال : أيتها الروح الخارجة ارجعي الى بدن هذا الغلام بإذن الله.

فلما سمعت المرأة كلامه ونظرت الى ابنها قد تحرّك وعاش قالت : اشهد إنّك إدريس وخرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية : ابشروا بالفرج.

وجلس إدريس على تل من مدينة الملك الجبّار فاجتمع إليه نفر من شيعته فقالوا له : ما رحمتنا هذه العشرين سنة قد مسّنا الضرّ والجوع والجهد ادع الله لنا فقال : لا أدعو حتى يأتيني الجبّار وجميع أهل مملكته مشاة حفاة.

واتصل الخبر بالملك ، فبعث بجماعة وأمرهم باحضاره فلما قربوا منه دعا عليهم فماتوا ثم بعث إليه بخمسمائة رجل فدعا عليهم فماتوا فصار أهل المدينة إلى الجبّار فقالوا : أيّها الملك إن إدريس نبيّ مستجاب الدعوة ولو دعا على الخلق لماتوا. وسألوه المصير إليه.

فصار إليه هو وأهل مملكته مشاة حفاة فوقفوا بين يديه خاضعين طالبين ، فقال إدريس : اما الآن فنعم.

فسأل الله أن يمطرهم ، فأظللهم سحابة من ساعتهم حتى ظنّوا انّه الغرق. فلم يزل إدريس يدبّر أمر الله وعلمه وحكمته حتى ما ظهر من ذلك وما بطن حتى أراد الله


عزّ وجلّ ان يرفعه إليه فأوحى إليه أن يستودع نور الله والحكمة والتابوت ابنه برد فأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه مواريث الأنبياء ورفعه الله جلّ وعزّ إليه وكانت سنه في الوقت الذي رفع فيه ثلاثمائة وستا وخمسين سنه لما أفضى الأمر الى برد بن اخنوخ.

وقام برد بن أخنوخ عليه السّلام بأمر الله عز وجل فلم يزل قائما يحفظ ما استودع والمؤمنون معه على حال تقيّة واستخفاء إلى أن حضرت وفاته فأوحى الله إلى برد أن أوص إلى ابنك اخنوخ فأوصى إليه وأمره بمثل ما كان أوصى به ومضى.

فقام أخنوخ بن برد بن أخنوخ عليهم السّلام بأمر الله عز وجل إلى أن حضرته الوفاة على سبيل من تقدّمه من آبائه عليهم السّلام.

فلما قضى وتوفي قام بالأمر ابنه متوشلخ بن أخنوخ عليهما السّلام بأمر الله عز وجل ولم يزل يدين ويحفظ ما استودع سرا وخفاء على حال غيبة من الجبابرة من أولاد قابيل وأصحابه على منهاج آبائه عليهم السّلام يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم فلما أراد الله قبضه أوحى إليه ان أوص إلى ابنك لمك وهو ارفخشد ففعل ومضى.

وقام لمك وهو ارفخشد بن متوشلخ عليه السّلام بأمر الله جلّ وعلا مقام آبائه (صلّى الله عليهم) فلما أراد الله أن يقبضه اختار جل وعز لإظهار نبوّته ورسالته القائم المنتظر ابنه نوحا عليه السّلام فأمر لمك بتسليم الأمر إليه والاسم الأعظم والوصية والتابوت وجميع علوم الأنبياء فأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه جميع مواريث الأنبياء عليهم السّلام.

فلما مضى لمك عليه السّلام قام نوح بن ارفخشد بأمر الله تبارك وتعالى وهو أوّل ذوي العزم من الرسل وأظهر نبوّته وأمره الله جلّ وعلا بإظهار الدعوة فأقبل نوح عليه السّلام يدعو قومه والملك في بني راسب وأهل مملكته عوج بن عناق وكان دعاؤه إيّاهم في أوّل أمره سرّا


فلم يجيبوه فلم يزل يدعوهم تسعمائة وخمسين سنة كلّما مضى منهم قرن تبعهم قرن على ملّة آبائهم وكان اسمه عبد الغفّار وإنمّا سمّي نوحا لأنّه كان ينوح على قومه إذا كذّبوه وكان الذي آمن به العقب من ولد هبة الله والذين كذّبوه العقب من ولد قابيل وعوج ابن عناق بني عمّهم مع كثرتهم وعظم أمرهم وسلطانهم في الأرض وكانوا إذا دعاهم يقولون له : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون؟ يعنون العقب من ولد شيث ، يعيّرونهم بالفقر والفاقة وأنّه لا مال لهم ولا عزّ ولا سلطان في الأرض.

وكانت شريعة نوح عليه السّلام التوحيد وخلع الانداد والفطرة والصيام والصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وبعث بعد أن صارت ثمانمائة وخمسين سنة يدعوهم فلا يزيدهم دعاؤه إلّا فرارا منه وطغيانا. فلمّا طال عليه تكذيب قومه وطال على شيعته الأمد صاروا إليه فقالوا له : يا نبي الله قد كنّا نتوقع الفرج بظهورك فنحن على مثل تلك الحال فادع الله لنا أن يفرّج عنّا فناجى نوح ربّه.

فأوحى الله إليه : مر شيعتك فليأكلوا التمر ويغرسوا النوى فاذا صار نخلا فرّجت عنكم.

فأمرهم بذلك.

فارتد من أصحابه الثلث وبقي الثلثان صابرين فأكلوا التمر وغرسوا النوى وجلسوا يحرسون نباته وحمله حتى إذا حمل بعد سنين كثيرة أخذوا من ثمره وصاروا به الى نوح مستبشرين.

فناجى الله في ذلك.

فأوحى الله إليه : مرهم فليأكلوا من هذا التمر وليغرسوا النوى فإذا أنبتت وأثمر فرّجت عنهم.

فأخبرهم بذلك فارتد الثلثان وبقي الثلث صابرين.

فأكلوا تلك الثمرة وغرسوا النوى ولم يزالوا يحرسونه عدّة من السنين حتى أثمر ثم أتوا نوحا عليه السّلام فقالوا له يا رسول الله قد تفانينا وتهافتنا فلم يبق منا إلّا القليل وقد أدركت


هذه الثمرة من الغرس الثالث.

فنادى نوح ربّه جل وعلا وسأله وتضرّع إليه وقال : يا ربّ لم يبق من شيعتي الا القليل وان لم أرجع إليهم بما فيه فرجهم تخوفت عليهم.

فأوحى الله إليه (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) وأمره أن يجعل جذوع النخل الأول عرض السفينة والثانية جوانبها والثالثة سقوفها.

فروي انّ قومه مروا عليه وعلى شيعته وقد غرسوا النوى فجعلوا يضحكون ويقولون قد قعد (فلما قطع النخل ونحته جعلوا يمرّون ويضحكون ويقولون قد) قعد نجارا فلمّا الف السفينة جعلوا يقولون قد جلس في البر ملّاحا.

وروي انّه عملها في دورين وهما ثمانون سنة وكان طولها ألف ومائتي ذراع وعرضها مائة ذراع وارتفاعها ثمانون ذراعا وكان بنيتها في المكان الذي هو مسجد الكوفة.

وأوحى الله جل وعز إليه (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) فعند ذلك دعا عليهم فقال (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) فروي ان الله تعالى أعقم النساء قبل الغرق أربعين سنة فلم يغرق إلّا الرجال البالغين.

وأوحى الله إليه ان احمل في السفينة من كلّ زوجين اثنين. فحمل كلّ شيء إلّا ولد الزنا.

وكان ميعاده في إهلاك القوم أن يفور التنور ففار فجاءت ابنته فقالت ان التنور قد فار. فقام عليه السّلام الى الماء فختمه فوقف حتى أدخل في السفينة ما أراد إدخاله ثم جاء الى الخاتم ففضّه وكشف الطبق ففار الماء وأرسل الله إليهم المطر وزعموا ان التنور كان يفور وفار الفرات وفاضت العيون والأودية (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) ... (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) فأجابه بما قص الله في كتابه.

وروي ان فرش الأنبياء عليهم السّلام لا توطأ وان الله جلّ وعلا نفى عنه ان يكون ابنه لما لم يتبعه فقال له انّه ليس من أهلك انّه عمل غير صالح ، فأغرق الله الكفّار وأنجى المؤمنين الذين كانوا في السفينة.


وروي ان السفينة طافت بالبيت سبعة أشواط وسعت بين الصفا والمروة ثم استوت على الجودي في اليوم السابع. والجودي فرات الكوفة الموضع الذي منه بدأت فصار الطواف حول البيت سنة.

وإنمّا سمّى الطوفان لأن الماء طغى فوق كلّ شيء أربعين ذراعا وتصبب ماء الأرض وبقي ماء السماء فصار بحرا حول الدنيا. فماء البحر من بقية ذلك الماء وهو ماء سخط.

فخرج نوح عليه السّلام ومن معه من السفينة وعدّتهم ثمانية نفر ، وروي ان عدّتهم أربعة نفر. فلما رأى العظام قد تفرّقت من ذلك الماء الحار هاله واشتد حزنه فأوحى الله إليه : هذا آثار دعوتك. اما اني آليت على نفسي ألّا أعذب خلقي بالطوفان بعد أبدا.

وأمره أن يأكل العنب الأبيض فأكله فأذهب الله عنه الحزن وخرج معه من السفينة ابنة واحدة من بناته وثلاثة بنين وأربعة من المؤمنين وكان نوح التاسع ، فجاء كلّ واحد من الأربعة من المؤمنين يخطب ابنته على حدته سرّا من أصحابه بذلك فضاق ذرعا وشكا الى الله جل ذكره وقال يا ربّ لم يبق من أصحابي إلّا هؤلاء الأربعة وكلّ قد خطب ابنتي وان زوّجت واحدا أغضب الباقون.

فأوحى الله إليه أن يأخذ كساء فيجعل ابنته تحت الكساء ويجعل معها هرّة وقردة وخنزيرة ويستر الجميع ثم يرفع الكساء فانّك ترى أربع جوار لا تعرف ابنتك منهن فزوّج كلّ واحد من أصحابك بواحدة منهم.

فروي عن العالم عليه السّلام انّه قال : فمن هناك تناسخ الخلق.

وعقد نوح في وسط المسجد قبة فأدخل إليها أهله وولده والمؤمنين إلى أن مصر الأمصار وأسكن ولده البلدان فسمّيت الكوفة قبّة الاسلام بسبب تلك القبة.

ثم أوحى الله إلى نوح عليه السّلام : قد انقضت أيّامك فاجعل الاسم الأعظم وميراث الأنبياء عند ابنك سام فإنّي لا أترك الأرض بغير حجّة عالم يكون على خلقي وأمره أن يبشّر المؤمنين بأن الله سيفرّج عن الناس بنبي اسمه هود يهلك من يكفر به بالريح. فمن أدركه فليؤمن به. ويأمرهم أن يفتحوا الوصية في كلّ سنة وينظروا فيها.

فدعا نوح عليه السّلام ابنه سام وسلّم إليه مواريث الأنبياء وأوصاه بكلّ ما وجب.


وقبض عليه السّلام وأنّه كان له فيما روي ألف وأربعمائة وخمسين سنة. وفي خبر آخر انّه كان سنه حين بعث ثمانمائة وخمسين سنة. ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد خروجه من السفينة خمسمائة سنة فكان عمره ألفي سنة وثلاثمائة سنة.

وروي أيضا انّه عاش ألفي وثمانمائة سنة وان ملك الموت لمّا هبط لقبض روحه أتاه وهو جالس في مشرقة الشمس فسلّم عليه وعرفه ان الله عز وجل قد أمره بقبض روحه فقال نوح : اتركني حتى انتقل من هذا الموضع.

فقام إلى فيء شجرة فنام تحتها ثم أذن لملك الموت فدنا منه فقال له : يا أطول ولد آدم عمرا كيف وجدت الدّنيا؟

فقال : ما أذكر منها شيئا إلّا انتقالي من الشمس الى ظلّ هذه الشجرة.

فقبض روحه (صلّى الله عليه) وتولّى سام عليه السّلام ابنه غسله ودفنه والصلاة عليه.

وقبره في ظاهر الكوفة بالغري مع آدم عليه السّلام.

وروي بين آدم ونوح عشرة أيام بينهما من السنين ألفي سنة ومائتي واثنان وأربعون سنة. وكانت أعمار قوم نوح ثلاثمائة سنة.

وقام سام بن نوح عليهما السّلام بأمر الله عز وجل فآمن به شيعة نوح وأقام ولد قابيل وعوج ابن عناق على كفرهم وطغيانهم وخالف حام ويافث على أخيهم سام ولم يؤمنا به. وولد لحام كنعان بن النمرود. وكان ملوك النبط من ولد حام ويافث واستخلف سام بالأمر وهو أبو النبيين والمرسلين والأوصياء وأبو العرب والعجم (صلّى الله عليه) ، وحام أبو الحبشة والسند والهند ، ويافث أبو البربر والروم والصقالبة والترك.

فلما انقضت أيّامه عليه السّلام أوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته والاسم الأعظم وميراث النبوّة ابنه ارفخشد عليه السّلام فدعاه وأوصاه وسلّم إليه.

وقام ارفخشد عليه السّلام بأمر الله تعالى وحيث قام ارفخشد عليه السّلام بأمر الله تعالى آمن به شيعة أبيه واتبعوه فعند ذلك ملك أفريدون وهو ذو القرنين وكان من قصته ان الله تبارك


وتعالى بعثه إلى قومه فدعاهم الى الله فكذّبوه وجحدوا نبوته ثم أخذوه فضربوه على قرنه الأيمن فأماته الله مائة عام ثم أحياه فبعثه فجحدوا نبوّته وضربوه على قرنه الأيسر فأماته الله مائة عام ثم أحياه وجعل دلائله في قرنيه فكان موضع الضربتين نورا يتلألأ وكان إذا غضب وصرخ خرج من قرنيه الرعود والبروق والصواعق.

وملّكه الله مشارق الأرض ومغاربها وقتل به الجبّارين وهو الذي أوقع بيبوراسب وكان من قصته ما نبأنا الله به من أمر ياجوج وماجوج والسند وغير ذلك من المشرق والمغرب لا يدع جبّارا إلّا قصمه. وكان زمانه زمان عدل وخصب وبركة.

وروي أن الخضر بن ارفخشد بن سام بن نوح كان على مقدّمته وكان من قصّة الخضر ما جاءت به الرواية الثانية أنّه لما عرج بالنبيّ صلّى الله عليه وآله إلى السماء مر ومعه جبرئيل عليه السّلام في بقعة من الأرض فاشتم منها روايح المسك فسأل جبرئيل عليه السّلام عنها فقال له : كان ملك من الملوك ذا عدل وحسن سيرة وكان له ابن واحد لا ولد له غيره فلما شبّ الولد اعتزل أباه والملك ولزم العبادة ورفض الدنيا فاجتمع أهل المملكة الى الأب فوصفوا حسن سيرته فيهم وعرفوه وانّهم مشفقون من حادثة تحدث عليه فيخرج الملك في عقبه وسألوه أن يزوّج ابنه من بعض بنات الملوك لعلّ الله عز وجل أن يرزقه ولدا ذكرا من ابنه هذا يكون الملك له بعد الملك إذ كانوا آيسين من تقلّد ابنه الزاهد شيئا من أمره.

فاختار الملك بعض بنات الملوك فزوّج ابنه بها ثم احضرها فعرّفها صورة أمر ابنه الزاهد وسألها أن تتألفه وترفق به وتحسن خدمته مقدار أن يرزقه الله تعالى منها الولد. وزيّنها بأحسن الزينة وأمر بإدخالها إليه فدخلت وهو يصلّي فلما فرغ من صلاته التفت إليها فسألها عن شأنها فأخبرته ان أباه زوّجه بها وانّها من بنات الملوك وقالت له : انّك لا تستغني عمّن يخدمك ويؤنسك ويعينك على أمرك ، فرقّ لها ثم قال لها : خير القول أصدقه ، انّي لست من الدنيا وأسبابها في شيء ، فإن أردت المقام معي على هذا أبثك سرّي على أن تكتميه وإلّا فلا.

فأجابته الى المقام معه ووجّه الملك إليها يسألها عن حالها فأخبرته انّها بخير. فأخبر


بذلك أهل المملكة فاستبشروا ثم أتوا إليه بعد مدّة فسألوه البعثة إليها ومسألتها هل بها حمل فوجّه إليها الملك بذلك فقالت لرسوله انّها بخير وعلى ما تحبّ. فلم تسأل أنها حملت.

فلما مضى من الأيام أكثر من مدّة أيام الحمل وهي على حالها استحضرها وسألها عن حالها فلم تخبره وقالت أنا بخير وما أزيد على هذا شيئا. فأحضر القوابل فنظرن إليها فوجدنها بكرا.

فأحضر الملك أهل مملكته وعرّفهم ذلك فأشاروا أن يفرّق بينهما وان يزوّجه امرأة ثيبا قد عرفت الرجال ، لتعامله بما يبعثه على القرب منها. ففعل الملك وأحضر المرأة وقال لها ما أرادوا ووصّاها ووجّه بها إليه.

فلما نظر إليها ابنه خاطبها بمثل ما كان خاطب به الاولى فأجابته بذلك الجواب فأنس بها وعرفها صورة أمره فأقامت معه ما شاء الله.

ثم ان الملك بعث إليها يسألها عن حالها فوجهت إليه انّها مع رجل كالمرأة لا حاجة لها فيه.

فأحضره الملك فأغلظ عليه في القول ثم حبسه في بيت وسدّ الباب في وجهه وتركه ثلاثة أيام فلما كان في اليوم الثالث فتح الباب فلم يجده في البيت فهو الخضر عليه السّلام.

ثم خرج من مدينة ذلك الملك رجلان في تجارة فركبا البحر فكسر بهما فخرجا في جزيرة من جزائر البحر فوجدا فيها رجلا يصلّي فلما فرغ من صلاته سألهما عن حالهما فعرفاه وشأنهما وذكرا بلدهما فعرفهما واجتازت به سحابة فدعا بها وسألها إلى أين أمرت أن تمضي فعرفته فقال لها : امض الى حيث أمرت. ثم دعا بسحابة اخرى فسألها فأخبرته انّها أرسلت لتمطر في موضع كذا وكذا. فأمرها بأخذ الرجلين على ظهرها الى منازلهما فبعثت السحابة وألقت كلّ واحد منهما على سطح دار قد عرفاه جميعا.

فنزل أحدهما من السطح واضعا في نفسه الكتمان ونزل الآخر واضعا في نفسه الإذاعة فلم يستقر في منزله حتى صاح بصيحة الى الملك فحمل إليه فأخبره ان ابنه في الجزيرة ووصفها له فسأله كيف نعلم صدقك؟ فقال له : كنت وفلان ، وحدّثه بحديثهما


فأحضر الملك الآخر فسأله فجحد وألحّ عليه فأقام على الجحود فقال المذيع للملك : وجّه معي بجماعة حتى أتاك به فان لم أفعل افعلن بي ما تشاء. ففعل الملك ذلك وحبس الرجل المنكر فرجع المذيع والجماعة فأخبروا أنّهم لم يصادفوا أحدا. فأطلق الملك الرجل المنكر وصلب المذيع.

ثم عمل أهل تلك البلدة بالمعاصي فأمرني الله أن أقلب تلك المدينة على أهلها فرفعتها حتى صارت في الهواء ثم قلبتها فلما صارت على وجه الأرض خرج منها رجل وامرأة وساخت المدينة بأهلها فكان الرجل الذي كتم على الخضر والمرأة التي كتمت عليه فاجتمعا وحدّث كلّ واحد منهما صاحبه بأمره فتزوّجها الرجل وأولدها أولادا واحتاجا إلى خدمة الناس فاتصلت المرأة بابنة الملك فبينما هي ذات يوم تسرّح رأسها سقط المشط من يدها فقالت «تعس من كفر بالله» فأخبرت ابنة الملك أباها بما قالت فدعا المرأة فأقرّت له بقولها ، فأحضر زوجها وأولادها فاستتابهم ودعاهم إلى دينه فأبوا عليه ، فغلى لهم الزيت ثم كان يطرح فيه واحدا بعد واحد وهم مقيمون على أمرهم ، فلما بلغ إليها قال لها قبل أن يطرحها : هل لك من حاجة؟ قالت : نعم تحفر لجماعتنا حفيرة وتأمر بدفننا فيها ففعل.

فرائحة تلك الحفيرة يفوح منها المسك إلى يوم القيامة.

ثم كان من قصّة الخضر مع موسى عليهما السّلام ما هو مبيّن في موضعه. وكان ملك ذي القرنين خمسمائة عام ثم ملك بعده منوشهر مائة وست وعشرين سنة وهو الذي كرى الفرات يعني حفره واتخذ الأساورة والزي والسلاح والضياع والبساتين وكان زمانه زمان صلاح ولين.

فلما حضرت ارفخشد النبيّ المغمور الصامت عليه السّلام الوفاة أوحى الله جل وعز إليه أن يستودع أمر الله ونوره ابنه شالح فدعاه وأوصى إليه بما كان أبوه أوصاه به وسلّم إليه ما في يده.

فقام شالح عليه السّلام بأمر الله عز وجل ومعه المؤمنون وسلك سبيل آبائه وجرى مجراهم


وعلى سنّتهم إلى أن حضرته الوفاة فأمره الله أن يستودع الأسماء والحكمة والنبوّة إلى ابنه هود (صلّى الله عليه) ودعاه إليه وأوصى ومضى عليه السّلام.

وقام هود بن شالح بأمر الله جل وعلا فأظهر الله تبارك وتعالى نبوّته فسلم له العقب من ولد سام وقال الآخرون من ولد حام ويافث وكان هود عليه السّلام أشبه الناس بآدم (صلّى الله عليه) وكان تاجرا.

وروي انّ طوله كان أربعين ذراعا وكانت أعمار أهل زمانه أربعمائة سنة وكانت منازلهم في أحقاف الرمل الذي في طريق مكّة وكانت جبالا وعيونا ومراعي فطحنتها الرياح فصارت رمالا وكانوا قد عذّبوا بالقحط ثلاث سنين فلم يرجعوا عمّا هم عليه وبعثوا وفدا منهم إلى مكّة ليستسقوا قال : فرفعت لهم ثلاث سحائب فاختاروا منها التي فيها العذاب وهي الريح الصرصر فعصفت عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسوما وكان رئيسهم الخلجان فقالوا من أشدّ منّا قوّة نحن ندفع الريح أن تدخل مدينتنا فقاموا متضامين بعضهم إلى بعض فكانت الريح ترمي بهم كأجذاع النخل فصار الخلجان الى هود فقال له : انا نرى الريح اذا أقبلت أقبل معها خلق كمثال الآباء معهم الأعمدة هم الذين يفعلون الأفاعيل بنا.

فقال لهم هود : أولئك الملائكة. فقال له الخلجان : أفترى ربّك ان نحن آمنا بك يديل لنا منهم؟

قال هود : ان أهل الطاعة لا يدال منهم لأهل المعاصي ولكنّي أسأل الله أن يكشف عنكم العذاب.

فقال الخلجان : فكيف لنا بالرجال الذين هلكوا؟

قال هود : يبد لكم الله بهم من هم خير منهم.

فقالوا : لا خيرة لنا في الحياة بعدهم.

فأهلكهم الله بالريح.

فلما انقضت أيام هود بعدهم أمره الله عز وجل بأن يستودع أمر الله ونوره وحكمته


ابنه (فالغ) فدعاه وأوصى إليه.

ومضى هود (صلّى الله عليه) ودفن فيما روي على شاطئ البحر تحت جبل على صومعة.

وروي انّه صار الى مكّة هو وشيعته بعد أن أهلك الله قومه فأقام بها إلى أن مات صلوات الله عليه.

وقام فالغ بن هود عليهما السّلام بأمر الله جل جلاله بعد أبيه هود وسلك مسلكه وجرى في الأمور والسيرة مجراه حتى إذا حضرت وفاته وانقطع أجله أوحى الله تعالى إليه أن يستودع النور والاسم الأعظم ابنه يروغ فدعاه وأوصى إليه ومضى عليه السّلام.

فقام يروغ بن فالغ عليهما السّلام بأمر الله جل وعز وملك الأرض في أيامه فراشيات اثنتي عشرة سنة وكانت معه ساحرة تعمل السحر ولم يزل يروغ بن فالغ القائم بأمر الله مستخفيا الى أن قتله الجبّار في زمانه من ولد عوج بن عناق (لعنه الله) وقتل من أولاده خمسة كلّهم أنبياء وأوحى الله جل وعزّ في ذلك الزمان إلى ألف وأربعمائة نبي أن يقتلوا أهل ذلك الزمان ومن كان أعان على قتل يروغ وأولاده ففعلوا.

فعند ذلك ملك طهمسعان مائتين وثماني وتسعين سنة فكثر الخصب في زمانه وعمل البساتين وزكت الزروع والغروس وأعان ولد عوج على الأنبياء حتى قتل منهم ثمانمائة وأربعة عشر نبيّا.

فقام نوشا بن أمين عليه السّلام بالأمر لما اختاره الله وجمع له أنبياء ذلك الزمان فاجتمع إليه المؤمنون والشيعة والصديقون وورثه الله العلم والحكمة وما كان خلفه يروغ بن فالغ من مواريث النبوّة فلم يزل يجاهد حتى رفعه الله إليه من غير موت ، وأمره قبل أن يرفعه إليه أن يستودع نور الله وحكمته صاروغ بن يروغ بن فالغ فأوصى إليه وسلّم ما في يده إليه.


وقام صاروغ بن يروغ عليه السّلام مقام آبائه (صلوات الله عليهم) فلما حضرته وفاته أوحى الله إليه أن يستودع الاسم الأعظم والنور ابنه تاجور بن صاروغ ففعل وأوصى وسلّم إليه ومضى على منهاج آبائه صلوات الله عليهم.

وقام تاجور بن صاروغ عليه السّلام وولده بأمر الله جل وعلا فمن آمن بهم كان مؤمنا ومن جحدهم كان كافرا ومن جهل أمرهم كان ضالّا ثم أوحى الله إليه أن يستودع الاسم الأعظم وميراث النبوّة وما في يده تارخا ابنه ففعل صلّى الله عليه.

وقام تارخ وهو ابو ابراهيم الخليل (صلّى الله عليهما) بالأمر في أربع وستين سنة من ملك رهو بن طهمسعان ، وفي رواية اخرى أربع وثمانين سنة وهو نمرود.

وإبراهيم (صلّى الله عليه) اختاره الله جل وعلا لنبوّته

وانتجب لرسالته وتفصيل حكمته خليله إبراهيم (صلّى الله عليه) وكان بين نوح وإبراهيم عليهما السّلام ألف سنة.

وروي عن العالم عليه السّلام انّه قال : ان آزر كان جدّ إبراهيم لامّه منجما لنمرود وهو رهو ابن طهمسعان فنظر في النجوم ليلة فقال لنمرود : قد رأيت الليلة عجبا وهو حال مولود في أرضنا يكون هلاكنا على يديه ولسنا نلبث إلّا قليلا حتى تحمل به امّه. فأمر الملك فحجب الرجال عن النساء فلم يترك امرأة في المدينة وكان تارخ عنده ابنة آزر أمّ ابراهيم عليه السّلام فحملت به فظنّ آزر انّه هو فأرسل الى نساء من القوابل فنظرن فألزم الله ما في الرحم الظهر فلم يرين شيئا في بطنها فلما وضعت إبراهيم عليه السّلام أراد آزر أن يذهب به الى نمرود فقالت له ابنته : لا تذهب به إليه فيقتله ولكن دعني حتى أذهب به الى بعض الغارات فأجعله فيه حتى يجيء أجله فأجابها ، فذهبت به الى غار في الجبل فوضعته فيه وجعلت على باب الغار صخرة وانصرفت عنه فأنزل الله عز وجل رزقه في إبهامه فجعل يمصّها فتشخب لبنا وجعل يشب في اليوم ما يشب غيره في شهر وألقى الله عليه المحبة


من امّه وكذلك سبيل الأنبياء والأئمة عليهم السّلام.

ومضى تارخ ؛ وابراهيم مولود صغير ، ومكث حينا غائبا ، وجاءت امّه لتعرف خبره فإذا هي به وعيناه تزهران فأخذته وضمّته إلى صدرها وأرضعته وانصرفت عنه فأخبرت أباها انّها مضت فما رأته وكانت تأتيه في ذلك الغار إلى أن تحرّك فانصرفت عنه ذات يوم فأخذ بثوبها فقالت له : ما لك؟ فقال : اذهبي بي معك. فقالت له : حتى استأذن أباك.

قال : فأتت أباه فأخبرته الخبر فقال لها : اقعديه على الطريق فإذا مر به اخوته دخل معهم حتى لا يعرف. ففعلت ذلك به ، فلما رآه أبوه ألقى الله عليه محبته له.

فبينا قومه يعملون الأصنام إذ أخذ ابراهيم عليه السّلام خشبة وأخذ الفأس ونجر منها صنما لم يروا مثله قط فقال آزر لامّه ، اني لأرجو أن أصيب خيرا كثيرا ببركة ابنك هذا.

فأخذ إبراهيم الفأس فكسّر الصنم. فأنكر ذلك أبوه عليه. فقال له إبراهيم : وما تصنعون به؟ قال : نعبده. قال إبراهيم : أتعبدون ما تنحتون بأيديكم؟! فقال آزر جدّه هذا الذي يكون ذهاب الملك على يده. قال : فلما شبّ إبراهيم عليه السّلام وكبر صار يجادل قومه في الله جل وعز ويخاصمهم وكان رفيقا بالغريب والضعيف ويقري الضيف حتى سمّي أبو الأضياف.

ثم بعثه الله عز وجل بالحنيفية والتوحيد والإخلاص وخلع الانداد وإقامة الصلاة والصيام والحجّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجميع شرايع الاسلام وسننه ، وبالختان والتنظيف والتطهير. وأعطاه الله جميع ما أعطى الأنبياء وزاده عشر صحائف وكشف الله عز وجل له عن الأرض فنظر الى جميعها.

وكان من قصته فيما دعا به على الرجل الزاني وما أمره الله في ذلك وفي قوله وقد رأى جيفة بعضها في البر وبعضها في البحر ودواب البر والبحر يأكل منها ثم يأكل بعضها بعضا (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) ما قص الله جل وتعالى به وجاءت الرواية بشرحه ما هو مشهور.

وشاع خبره عليه السّلام فقبض عليه وأتي به الى نمرود وأخبر خبره فبنى له حيزا وجمع فيه الحطب وأحرق ، ثم وضع في المنجنيق ليرمى به الى النار فلما صار بين الكفة والنار


ضجّت الملائكة فقالوا يا ربّ خليلك ما في أرضك من يعبدك غيره. فأوحى الله عز وجل إليهم : امضوا إليه وامسكوا أمره.

فسبق جبرئيل عليه السّلام وهو بين المنجنيق والنار فقال له : يا إبراهيم هل لك من حاجة؟ فقال : أما إليك فلا. فلما تنحى عنه جبرئيل دعا بسورة التوحيد فقال : اللهم انّي أسألك بحق محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين نجّني من النار.

فأوحى الله الى النار : (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ).

فروي ان النار لم تحرق شيئا ثلاثة أيام ولم يسخن الماء مخافة من عذاب الله ثم بعث الله إليه بقميص من ثياب الجنّة ولبسه وكان عليه حتى كساه اسحاق ثم ورثه يعقوب ثم يوسف وهو القميص الذي وجد يعقوب ريحه.

قال : وأشرف نمرود على النار وبعد ثلاثة أيام فوجد إبراهيم سليما قاعدا فقال لأصحابه : إذا عبد الناس فليعبدوا مثل إله ابراهيم.

وكان نمرود أوّل من لبس التاج وأظهر التجبّر والكبر فأمر بإبراهيم فاخرج إليه وأمره بالخروج عن دار مملكته وبلده ومنعه ماله وماشيته فحاكمهم ابراهيم عند ذلك الى قاضي المدينة فقال : ان أخذتم ماشيتي ومالي فردوا عليّ ما ذهب من عمري في بلادكم. فقضي لإبراهيم على نمرود بردّ ما ذهب من عمره عليه أو ردّ ماله وماشيته فأمر نمرود بردّ ماله وماشيته عليه وتخلية سبيله.

فخرج من أرض كوپي فاتى نحو بيت المقدس وعمل تابوتا حمل زوجته سارة لأنّه كان غيورا وكان من قصّة الجبّار القبطي ما كان من خروجه وتشييعه لإبراهيم وما أوحى الله إلى إبراهيم أن لا تمش قدام الجبار واجعله امامك وما قاله القبطي في جواب ذلك لإبراهيم ان إلهك حليم كريم رفيق ؛ ما قد قص.

وسار ابراهيم حتى نزل بأعلى الشامات ونزل لوط وكان ابن اخته نازلها وكان بينهما فيما روي ثمانية فراسخ.

وابتاع ابراهيم عليه السّلام هاجر من سارة فوقع عليها فحملت وولدت اسماعيل عليه السّلام وهو الذبيح وهو أكبر أولاده ومن اسحاق بخمس سنين وكان من قصّة اسماعيل في الذبح ما


قص الله به.

وولد اسحاق من سارة فلما بلغ ثلاث سنين أقبل إسماعيل إلى اسحاق وهو في حجر أبيه إبراهيم فنحاه وجلس مجلسه ونظرت به سارة وقالت يا إبراهيم تنحي ابني اسحاق من حجرك وتجلس مكانه ابن هاجر لا والله لا تجاروني هاجر وابنها في بلد أبدا.

فشقّ ذلك على إبراهيم. فلما كان في الليل أتاه آت برؤيا الذبح فلما حضر الموسم انطلق باسماعيل وأمّه هاجر الى مكّة ودخلها فبدأ ببناء قواعد البيت وكان الطوفان ثلم شيئا منه فرفع القواعد وإسماعيل معه يعينه على البناء ثم خرج الى منى ثم خرج الى مكّة بعد الحجّ فلما ان صار في السعي قال لإسماعيل (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) في الموسم في عامي هذا فما ذا ترى.

(قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

فانطلق إبراهيم إلى منى في يوم النحر فلما انتهى الى الجمرة الوسطى كان من الأمر ما قصّ الله به فداه الله بالكبش ورجع إبراهيم عليه السّلام ومعه إسماعيل إلى مكّة فأقام بها ما شاء الله ثم ودّع اسماعيل وأمّه هاجر لينصرف عنهما فبكيا فقال لهما إبراهيم ما يبكيكما؟ وقد جعلتكما في أحبّ البقاع إلى الله جل وعز. فقالت له هاجر : ما كنت أرى نبيّا مثلك يخلف امرأة ضعيفة وغلاما ضعيفا لا حيلة لهما في مكان قفر لا أنيس له ولا زرع ولا ضرع.

فرقّ إبراهيم ودمعت عيناه وأقبل حتى انتهى إلى باب الكعبة وأخذ بعضادتي الباب ثم قال اللهم (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إلى قوله ... يشكرون.

فأوحى الله إليه ان اصعد أبا قبيس وناد : يا معشر الخلائق ان الله يأمركم بحجّ هذا البيت من استطاع إليه سبيلا فريضة من الله.

قال : فمدّ الله لإبراهيم صوته ثم أسمع أهل المشرق وأهل المغرب وجميع ما بينهما وجميع ما قدّر الله وما في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة. فالتلبية من


الحاجّ إجابة النداء.

وروي ان جبرئيل عليه السّلام حفر زمزم فنبع الماء فحجزها من حول الماء فلولا ذلك لساحت على الأرض.

وروي ان هاجر واسماعيل كانا في ذلك الوقت قد صعدا إلى الجبل في طلب الماء فلما بصرت هاجر الى الماء صارت إليه وصاحت بإسماعيل بالعبرانية فأجابها بالعربية. لبيك لبيك. ونسي ذلك اللسان فهو أوّل من تكلّم بالعربية في ذلك الزمان.

وروي في خبر آخر انّها صاحت به فصار إليها فلما نظر الى الماء وكان عطشانا انكب عليه فشرب منه ورفع رأسه وقال «الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله» ونسي اللسان الأول بالعبرانية.

وروي في خبر آخر ان هاجر لما عطش إسماعيل جعلت تسعى من الجوع بين الصفا والمروة فلقيها جبرئيل عليه السّلام فتعلّق بها فجزعت وجذبت نفسها منه.

فقال لها : من أنت؟.

فقالت أنا أمّ إسماعيل ولد إبراهيم خليل الرحمن.

فقال لها : فعلى من خلفك؟

فقالت له : قد قلت مثل مقالتك ، فقال : وكلتكم إلى الله جلّ وعلا وحده لا شريك له.

فقال لها : اما انّه وكّلك إلى كاف كريم.

وأمر الله عز وجل قطعة من بلاد الأردن فانقطعت بأشجارها وثمارها فطافت بالبيت اسبوعا ثم استقرت فسمّيت الطائف ليلحق اسماعيل الخصب والرفاهة.

ولما شخص إبراهيم الى الشام كان يأتي إسماعيل وهاجرا زائرا فأنكرت سارة ذلك وأحلفته أن لا يبيت عندها وكان يكرمها ويعظّمها لأنّها كانت من أولاد الأنبياء المؤمنات.

وكان إذا اشتاق إسماعيل يركب حمارا له ابتر الذنب ثم يأتي مكّة ويقضي وطره من النظر إلى اسماعيل وهاجر ويرجع فيبيت بالشام.

ثم ماتت هاجر عليها السّلام فدفنها إبراهيم عليه السّلام في الحجر ؛ والحجر من الكعبة. فكان إبراهيم


يأتي بعد ذلك زائرا فأتاه يوما لم يصادفه فجمع أولاد إسماعيل وزوجته الجرهمية ودعا لهم وبرّهم فلما رأت المرأة ذلك سألته النزول عندهم والغداء معهم فأبى. فسألته شرب اللبن ففعل. واستأذنته في غسل رأسه وهو على راحلته وقرّبت الجرهمية إليه حجرا فوضع إحدى رجليه عليه ودلت رأسه فغسلت إحدى شقيّه وألان الله ذلك الحجر تحت قدمه حتى غاصت قدمه فيه ثم دارت الحجر إلى الجانب الآخر فغسلت الشقّ الآخر من رأسه وشعره وانغمست قدمه اليسرى في الحجر فهو المقام.

ورجع عليه السّلام الى الشام. فلما قربت وفاته قالت له سارة : قد كبرت وقرب أجلك وزيد في عمرك فتعبد وأنت خليل الرحمن فسأل الله أن ينسي في أجلك ويزيد في عمرك فتعيش معنا فسأل إبراهيم ربّه فأوحى الله إليه قد أجبتك إلى ما سألت ولن أتوفاك حتى تسألني ذلك فأخبر إبراهيم سارة بذلك فقالت : أشكر الله واعمل طعاما تدعو إليه المؤمنين.

فعمل طعاما وجمع الناس للأكل. وكان فيمن أتاه رجل كبير السن مكفوف. فلما جلس تناول من الطعام وأهوى به الى فيه فجعلت يده ترتعش وتذهب يمينا وشمالا من ضعفه ثم أهوى بيده الى جبهته مرّة وإلى عينه مرّة من الكبر والضعف.

فلما رأى إبراهيم ذلك قال : اللهم توفني في الأجل الذي كتبته لي في الزيادة عليه.

وروي انّه سمّي خليل الله لرفقه بالمساكين ومحبته لهم وانّه لم يكن يأكل طعاما إلّا معهم فحضر طعامه يوما وليس عنده أحد منهم فخرج يلتمس من يأكل معه فلم يجد إلّا رجلا مذموما منقطعا [مصابا] بالجذام وكان فيه عليه السّلام تعزز ؛ فدعاه إلى طعامه واحتمل ما دخل نفسه من أمره وكان طعامه اللبن. فجعل الرجل يأكل منه فإذا أخرج يده من الصحنة بقي أثر أصابعه في اللبن. فجعل ابراهيم يلسع موضع أصابعه فيأكله.

فلما فرغ من الأكل كشف عن الرجل الغطا فإذا هو جبرئيل عليه السّلام والطعام الذي يرى أنّه يأكله موضوع في إناء تحته فقال له : ان الله جل وعز يقرأ عليك السلام ويقول لك : قد اتّخذتك خليلا برحمتك للضعفاء المساكين.

وكان عمره فيما روي مائة وخمسا وسبعين سنة.


وروي أيضا انّ نبوّته ظهرت وله ثمانون سنة وكانت مدّة نبوّته أربعين سنة وكان عمره مائة وعشرين سنة.

ولمّا حضرت وفاته أمره الله أن يستودع نور الله وحكمته ومواريث الأنبياء عليهم السّلام إسماعيل ابنه فدعاه وأوصى إليه وسلّم إليه جميع ما في يده.

وتوفي (صلّى الله عليه) ودفن في أرض كان قد ابتاعها بناحية بيت المقدس.

وكان بين نوح وإبراهيم عليه السّلام ألف وخمسمائة سنة. ونمرود قد ملك مشارق الأرض ومغاربها وهو صاحب النسور.

وكان أبو إبراهيم توفي وإبراهيم طفل وبقيت أمّه ابنة آزر فلما شب وترعرع واستقل بنفسه ماتت عنه امّه.

فقام إسماعيل بن إبراهيم بالنبوة والأمر مقامه ولم يزل يدبّر أمر الله جل وعز وهو أوّل من تكلّم بالعربية وأبو العرب وكان إبراهيم عليه السّلام قد خلف عنده سبعة أعنزة فكانت أصل ماله.

وأقام أكثر أيّامه بمكّة وتزوّج بهالة بنت الحارث فولدت (قيدار) وكان فيه شبه رسول الله صلّى الله عليه وآله وكان لإسماعيل ثلاث عشر ذكرا كان كبيرهم ورئيسهم (قيدار) وهو أوّل من ركب الخيل وكسا البيت ولبس العمائم وأطعم الحاجّ.

وعاش مائة وعشرين سنة إسماعيل ، كما روي أن أباه إبراهيم عاش مائة وخمسا وسبعين سنة.

فلما حضرت وفاته أوحى الله إليه أن يستودع الاسم ونور الله وحكمته أخاه اسحاق.

وروي انّه شريكه في الوصيّة وتقدّمه إسماعيل بالسن لأنّه أكبر منه بخمس سنين فسلم الأمر إلى اسحاق وتوفي إسماعيل عليه السّلام ودفن بمكة وهو : اسماعيل صادق الوعد وكان وعد رجلا إلى موضع يجتمعان فيه فأنسى الرجل وحضر إسماعيل الموضع وأقام فيه ثلاثة أيام ينتظره فلما كان في اليوم الرابع فقده الرجل فجاء إلى الموضع الذي وعده فوجده فيه ينتظر فأعظم ذلك وأكبره فقال له إسماعيل : لو لم تحضر لأقمت حتى يصير


المحشر من هذا المكان.

وقام اسحاق بن إبراهيم بالأمر والنبوّة بعد أخيه إسماعيل وكان من حديث اسحاق عليه السّلام في قول الله عز وجل (فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ).

قال ان الملائكة لمّا جاءت في هلاك قوم لوط عليه السّلام قالوا (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) فقالت سارة ومن يطيق قوم لوط يعني كثرة عددهم ، فبشرناها باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب ، فصكت وجهها وقالت : عجوز عقيم.

وهي يومئذ ابنة تسعين سنة وإبراهيم له أكثر من مائة سنة فلما ولد لإبراهيم اسحاق قال من حوله : ألا تعجبون من هذه العجوز وهذا الشيخ وجدا صبيّا منقطعا فأخذاه يزعمان انّه ولدهما وهل تلد مثل هذه العجوز.

وكان الله جل وعلا قد صوّره على صورة إبراهيم والعجوز سارة فلما رأوه قالوا :

نشهد انّه ابن الشيخ إبراهيم والعجوز سارة.

فلما قام اسحاق بالأمر بعد أخيه إسماعيل عليه السّلام سلم له المؤمنون وجميع شيعة أبيه وأخيه.

وتزوّج اسحاق من أخواله بالشام وولد له يعقوب عليه السّلام والعيص وكان من حديثهما ما اقتص وكان لا يفرّق الناس بين إبراهيم وبين ابنه اسحاق حتى شاب إبراهيم فكان يعرف منه بالشيب.

فلما حضرت وفاة اسحاق أوحى الله إليه ان يستودع الاسم الأعظم والنور وجميع ما في يديه من المواريث ابنه يعقوب عليه السّلام وهو إسرائيل الله فأحضره وسلّم إليه.

ومضى اسحاق عليه السّلام ودفن في بيت المقدس وكان عمره مائة وثمانين سنة.

وقام يعقوب عليه السّلام بالأمر بعده وهو إسرائيل الله وآمن به المؤمنون ، وجحد نبوّته الكفّار والشّكاك.

وتزوّج بالشام بابنتي خالته وكان في ذلك الوقت يجمع بين الاختين فولد منهما اثنا


عشر ذكرا.

وغلب العيص أخوه على بيت المقدس والملك الجبّار في ذلك الوقت (فيتساد) ملك مائة سنة وهو أوّل من قطع القطائع بغير حقّ فصارت سنة للظالمين إلى هذا الوقت وأخذ من الناس الخراج.

وخرج يعقوب عليه السّلام يريد بيت المقدس واتصل الخبر بأخيه العيص فخرج بجميع جيشه يستقبله ليقتله وبلغ يعقوب فأهدى إليه هدية يتألّفه بها وكتب إليه كتابا وقع على عنوانه : عبدك يعقوب.

فلما قرأ العيص كتابه عطف عليه وفرّق جيشه عن نفسه فلما قرب منه جمع يعقوب عليه السّلام أولاده حوله خوفا منه وأمرهم إذا قرب منه العيص أن يمنعوه من الدنو منه وكانوا أولي قوّة وبأس شديد فلما قرب منه منعه الأسباط من التقدّم إليه.

وروي ان العيص كان قد صمّم إذا سلم عليه أخوه يعقوب أن يعتنقه ثم يقرص حلقه فيقتله فقالوا له تنح عن نبي الله ، فارتاع العيص لذلك.

ودخل يعقوب بيت المقدس وقام يصلّي وحوله الأسباط الاثنا عشر والمؤمنون ، والعيص ناحية يراهم. فلما جنّ عليه الليل كشف له عن بصيرته فرأى العيص ونظر الى الملائكة الليل كلّهم ينزلون من السماء ويصعدون ويسلّمون على يعقوب ويسبّحون ويهللون ويقدّسون ، فاغتاظ لذلك وعلم انّه لا طاقة له به وحسده.

فاستأذنه العيص في التنحي عنه فاذن له ، فعبر مع ولده البحر فأقام هناك ، وولده الأصغر عملاق. فالأصغر أبو الأشراف من الروم وعملاق أبو العمالقة الذين قاتلهم يوشع ابن نون عليه السّلام.

ورأى يوسف عليه السّلام الرؤيا فقصّها على أبيه وكان من حديثه ما أخبر الله عز وجل به في كتابه وجاءت به الروايات من قصّته مع اخوته الأسباط. وحزن يعقوب حتى ابيضت عيناه وتقوّس ظهره فروي عن العالم عليه السّلام انّه يعلم ان يوسف باق لم يأكله الذئب فقال : كان يعلم بجميع أمره. فقيل له : فمن أي شيء كان حزنه؟ فقال : من خوف البداء فيما وعده الله به من الجمع فيما بينه وبين يوسف.


وكانت مدّة المحنة عشرين سنة (وروي) سبع عشر سنة فلما أراد الله إزالتها وكشفها رفع يعقوب عليه السّلام يديه ثم قال يا من لا يعلم أحد كيف هو وحيث هو وقدرته إلّا هو يا من سد الهواء بالسماء وكبس الأرض على الماء واختار لنفسه أحسن الأسماء ائتني بروح من عندك وفرج قريب.

فما انفجر عمود الصبح حتى أتي بالقميص وطرح على وجهه فرد الله عليه بصره وولده.

وخرج الى مصر وجمع الله مع ذلك أهله وماله. وخرج يوسف عليه السّلام لتلقيه فلما رآه يعقوب ترجّل له والأسباط.

ولم ينكر ذلك ويعظّمه إيّاه فأخرج الله الإمامة من عقبه وجعلها في ولد أخيه الأكبر لاوي بن يعقوب لأنّه لم يعرف أباه حقّه.

ثم صار بهم إلى منزله فرفع أبويه إلى سرير الملك وهو العرش الذي ذكره الله وهما أبوه وخالته لأن امّه راحيل كانت توفيت قبل الرؤيا التي رآها وتكفلت خالته بتربيته.

ودخل فلبس ثياب العزّ والملك وخرج فلما رأوه سجدوا لله شكرا فعند ذلك قال يوسف (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا).

ومكث يعقوب مع يوسف عليهما السّلام بمصر سنتين فلما حضرت وفاته فأوحى الله إليه أن يسلم مواريث الأنبياء والنور والاسم الأعظم إلى يوسف فدعاه وجمع أولاده وأوصى إليه ثم قبض (صلّى الله عليه) وسنّه مائة وست وأربعون سنة.

وقام يوسف عليه السّلام مقامه ووضعه بين يديه أربعين يوما يبكي عليه ويعدّد حتى ركب إليه الملك في زمانه مع عظماء أهل مملكته فكلّموه ووعظوه.

وحمله من مصر الى بيت المقدس ليدفنه مع آبائه فوجد العيص قد رجع إلى بيت المقدس فمنع من دفنه ونازعهم فيه فوثب ابن شمعون [و] كان ايدا على العيص فوكزه فقتله فدفن يعقوب والعيص في مكان واحد.

ورجع يوسف إلى مصر فلم يزل يدبّر أمر الله ومعه أهله والمؤمنون فمن أطاعه كان


مؤمنا ومن عصاه كان كافرا.

وكان يوسف عليه السّلام اماما ملكا يلبس الديباج والوشي والابريسم المنسوج بالذهب والجوهر ولم يكن نزل تحريم لبس ذلك.

وملك اثنين وسبعين سنة وعاش مائة وعشرين سنة وكان له ابنان يقال لأحدهما افرائيم وهو جدّ يوشع بن نون والآخر ميشا.

فلما قربت وفاته أوحى الله إليه عز وجل ان استودع نور الله وحكمته وجميع المواريث التي في يديك ببرز بن لاوي بن يعقوب فاحضر ببرز بن لاوي وجمع آل يعقوب وهم يومئذ ثمانون رجلا فقال لهم : ان هؤلاء القبط سيظهرون عليكم ويسومونكم سوء العذاب ونعوت الإمامة مكتومة ثم ينجيكم الله ويفرّج عنكم برجل من ولد لاوي اسمه موسى بن عمران طوال جعد آدم مفلفل الشعر أحلج على لسانه شامة وعلى أرنبة أنفه شامة ولن يظهر حتى يخرج قبله سبعون كذّابا ، وروي خمسون كلّ يدّعي انّه هو ، ثم يظهر وينصر الله بني إسرائيل ويفرّج عنهم.

وسلم التابوت والنور والحكمة وجميع المواريث الى ببرز بن لاوي عليه السّلام ومضى (صلّى الله عليه).

ودفن بمصر في صندوق من مرمر في بطن النيل ثم استخرجه موسى عليه السّلام من ذلك الموضع ومضى به الى الأرض المقدّسة فدفنه فيها.

وكان سبب حمله من مصر أن المطر احتبس على بني إسرائيل فأوحى الله جل وعلا الى موسى عليه السّلام ان اخرج عظام يوسف.

فسأل موسى عن الموضع فأتي بعجوز عمياء مقعدة فقالت أنا أعرف موضعه ولا أخبرك به حتى تعطيني ثلاث خصال : تطلق لي رجلي وتعيد لي صورتي وشبابي وعيني وتجعلني معك في الجنّة وكانت العجوز من بني إسرائيل فأوحى الله إلى موسى ان اعطها ما سألت فانّما تعطى على ما سئلت ففعل فدلّته فأخرجه ونقله إلى الأرض المقدّسة (صلوات الله عليه).


قام ببرز بن لاوي بن يعقوب عليهم السّلام بأمر الله جلّ وعز يدبره على سبيل آبائه عليهم السّلام فروي انّه كان إذا ولد في بني إسرائيل كلّ واحد منهم يدّعي انّه هو ويسمّى عمران ثم يأتي عمران ولد فيسمّى الولد موسى يتعرّضون بذلك لقيام القائم موسى عليه السّلام. فما ظهر موسى حتى خرج سبعون كذّابا «وروي» خمسون من بني إسرائيل كلّ واحد منهم يدّعي انّه هو وعند ذلك ملك الأرض بعد فرعون يوسف فيقابوس مائة وخمسون سنة وبنى مدينة سمّاها قيفدون وهو الذي كانت الشياطين معه قبل سليمان بن داود عليهما السّلام.

فلما حضرت ببرز عليه السّلام الوفاة أوحى الله إليه ان يستودع نور الله وحكمته وما في يديه ابنه أحرب فدعاه وأوصى إليه بمثل ما كان يوسف (صلّى الله عليه) أوصى به ففعل ذلك.

وقام أحرب بن ببرز بن لاوي عليهم السّلام بأمر الله عزّ وجل واتبعه المؤمنون وجرى على منهاج آبائه حتى إذا حضرته الوفاة أوحي إليه أن يجعل الوصيّة إلى ابنه ميتاح فأحضره وأوصى إليه وسلّم مواريث الأنبياء وما في يديه إليه ومضى (صلّى الله عليه).

وقام ميتاح بن أحرب عليهما السّلام بأمر الله جل ذكره واتبعه المؤمنون وهم الأقلون عددا في ذلك الزمان المستخفون من الجبّار المتوقعون الفرج.

فلما حضرت ميتاح الوفاة أوحى الله إليه أن يوصي إلى ابنه عاق فأحضره وأوصى إليه.

وقام عاق بن ميتاح عليه السّلام بأمر الله جل وعلا واتبعه المؤمنون على سبيل من تقدّمه من آبائه فلما حضرته الوفاة أوحى الله تعالى إليه أن يوصي إلى ابنه خيام فأحضره وأوصى إليه ومضى صلّى الله عليه.

وقام خيام بن عاق عليه السّلام بأمر الله جل وتعالى ونوره حكمته إلى أن حضرته الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ابنه مادوم فاتبعه المؤمنون مدّة زمانه على


خوف واستخفاء وأودع نور الله وحكمته ابنه مادوم.

وقام مادوم بن خيام عليه السّلام بأمر الله جل وعلا ونوره حكمته الى ان حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يوصي إلى شعيب فأحضره وأوصى إليه ومضى عليه السّلام وكان شعيب من ولد نابت بن إبراهيم صلّى الله عليه لم يكن من ولد اسماعيل واسحاق صلوات الله عليهم.

فقام شعيب بالأمر بعد مادوم فعند ذلك ظهر ملك فرعون ذو الأوتاد وهو فرعون موسى عليه السّلام واسمه الوليد بن ريان بن مصعب وكان ملكه أربعمائة سنة وفي سنة من ملكه بعث الله أيوب صاحب البلاء صلّى الله عليه وكانت امرأته رحمة بنت يوسف عليه السّلام وهو أيوب بن أموص بن العيص بن اسحاق بن يعقوب وكان من قصّة شعيب عليه السّلام ان الله بعثه الى قوم نبيا حين كبرت سنّه فدعاهم إلى التوحيد والإقرار والطاعة فلم يجيبوه فغاب عنهم ما شاء الله ثم عاد إليهم شابّا فدعاهم فقالوا ما صدقناك شيخا فكيف نصدّقك شابا (فروي) ان أمير المؤمنين عليه السّلام كان يعيد ذكر هذا الحديث ويكرّره ويتمثّل به كثيرا وكان سبب نبوّة شعيب ان قومه اتخذوا ميكائيل وموازين مختلفة يأخذون بالأوفر ويعطون بالأنقص. وفي الحديث طول.

وبلغ فرعون قرب أمر موسى بن عمران عليه السّلام وان زوال ملكه وهلاكه على يديه وفي أيامه فوكّل القوابل بالنساء الحوامل فلم يكن يولد غلام إلّا ذبح وإذا ولدت المرأة جارية استحييت وتركت فغلظ الأمر على بني إسرائيل من فرعون واجتمعوا الى فقيه كان لهم عالم فقالوا : لا نقرب النساء حتى لا يذبح الأطفال من أولادنا فقال عمران عليه السّلام وكان عالما مؤمنا تقيّا من أولاد المؤمنين : والله لا تركت ما أمر الله به فان أمره عز وجل واقع ولو كره المشركون اللهم من حرّم ذلك فانّي لا أحرّمه ومن تركه فإنّي لا أتركه.

وروي ان أصحاب فرعون شكوا قلّة النسل من بني إسرائيل لأنّهم كانوا يستعبدونهم


ويستخدمونهم فأمر فرعون بأن تستحيى الذكور سنة ويقتلون سنة فولد هارون بن عمران في سنة الاستحياء وولد موسى في سنة القتل حتى يري الله عز وجل قدرته.

وروي ان أمّ موسى لما حملت فطن بها ووضع عليها قابلة تلزمها فأوقع الله على القابلة محبّة قبل ولادته وكذلك حجج الله على من خلقه.

فكانت أمّ موسى عليه السّلام تضمر وتذوب ، فقالت لها القابلة : يا بنية أراك تذوبين وتحزنين.

قالت لها : كيف لا أذوب وأحزن وإذا ولدت أخذ ولدي وذبح؟

قالت لها : لا تحزني فانّي سوف أكتم عليك ولادة موسى بن عمران عليه السّلام.

فلما ولد موسى عليه السّلام قالت القابلة لامّه : ادخليه المخدع.

وخرجت القابلة الى الحرس وكان مع كلّ قابلة حرسا يقتل من يولد من الذكور فقالت له ولمن معه : انصرفوا فقد كفينا إنمّا خرج دم متقطّع.

فانصرفوا ورضعته أمه وخافت على الصوت فأوحى الله إليها ان اعملي تابوتا فإذا خفت عليه فاجعليه فيه وألقيه في أليم بالليل في نيل مصر ، ففعلت وطرحته وجعل يرجع إليها وجعلت تدفعه في غمر الماء ثم ان الريح ضربته بالأمواج فانطلقت بالتابوت فلما رأته قد ذهب به الماء جزعت وأيست وهمّت أن تصيح فربط الله على قلبها.

وكانت المرأة الصالحة آسية امرأة فرعون على دين بني إسرائيل تكتم ايمانها. قالت لفرعون : هذه أيام الربيع فاخرجني وتقدّم أن يضرب لي قبّة على شاطئ النيل حتى اتفرّج في هذه الأيام بالنظر الى الخضرة والرياض. ففعل وكان يقعد معها ، فأقبل التابوت نحوهما حتى صار بين أيديهما فقالت : هل ترون ما أرى؟ قالوا : بلى انّا لنرى شيئا.

فلما دنا التابوت بادرت الى الماء فجذبته إليها وكاد الماء أن يغمرها فأخرجته ووضعته في حجرها ووقعت عليها له محبّة وقالت : هذا ابني ولم يكن لها ولا للملك ولد.

وقال فرعون : نقتله فانّا نتخوّف أن يكون من بني إسرائيل.

فلم تزل ترفق به حتى أمسك عن قتله ورضي ووهبه لها.

وطلبت آسية من ترضعه فلم يبق أحد إلّا وجّه بامرأته لترضعه فامتنع من رضاع كلّ واحدة منهنّ وأبى تناول ثديهن.


وروي ان في قول الله عز وجل (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) قال : فارغا من كلّ شيء إلّا من ذكر ولدها موسى والفكرة فيه. فقالت لاخته : انظري هل ترين أو تسمعين له خبرا أو اثرا.

فانطلقت فوجدت من يطلب الدايات فرجعت إلى امّها فعرفتها الخبر.

فانطلقت حتى أتت باب الملك فقالت : ان هنا امرأة صالحة تكفله لك.

فأدخلت فقالت لها آسية امرأة فرعون : ممّن أنت؟ قالت : من بني إسرائيل. فقالت لها :

اذهبي يا بنية فلا حاجة بنا إليك.

فقلن لها النساء : فانظري يأخذ منها ثديها أم لا يأخذ.

فرفع موسى إليها فوضعته في حجرها ثم ألقمته الثدي فأخذه ومصّه حتى روي فقامت آسية إلى فرعون فأخبرته.

فقال لها : الغلام من بني إسرائيل والظئر من بني إسرائيل ؛ هذا ما لا يكون أبدا ولا يجوز أن نجمعهما.

فلم تزل ترفق به حتى رضي وأمسك.

فروي انّه لما وضعته امّه في حجرها اشتدّ فرحها به فقالت : فديتك يا موسى. فسمع فرعون فاستشاط فأرسل الله جل وعز فنطق على لسانها فقالت : بلغني انّكم مشتموه من الماء فقلت يا موشى بالعبرانية. فقال لها فرعون : صدقت ، من الماء مشتناه وانّا نسمّيه موشى فعربت ، فهو ميشا عليه السّلام في دار فرعون.

وكتمت أمه واخته والقابلة خبره. وماتت القابلة فلم يعلم بخبره أحد من بني إسرائيل.

واشتد أمر الغيبة في توقعه وانتظاره على بني إسرائيل وكانوا يتجسّسون من خبره بالليل والنهار وغلظ عليهم سيرة فرعون وجنوده فخرجوا في ليلة مقمرة الى فقيه لهم وكان الاجتماع عنده يتعذّر عليهم ويخافون فقالوا له : قد كنّا نستريح الى الأحاديث فحتى متى؟ فقال لهم : لا تزالون في هذا أبدا حتى يأتي الله بموسى بن عمران ويظهر في الأرض.

وأخذ يصف لهم وجهه وطوله ولحيته وعلاماته إذ أقبل موسى عليه السّلام وقد كان خرج


الى الصيد على بغلة له شهباء وعليه طيلسان خز فوقف عليهم فرفع العالم رأسه فنظر إليه فعرفه فوثب إليه ثم قال له : ما اسمك يرحمك الله؟

فقال له : موسى بن عمران فانكبّ على يده ورجله فقبّلهما. وثار القوم فقبّلوا يده ورجله وقالوا له : الحمد لله الذي لم يمتنا حتى أراناك.

فلم يزد على أن قال : أرجو أن يعجل لكم الفرج فاتخذهم شيعة من ذلك اليوم.

ثم غاب بعد ذلك بضعة عشر سنة ثم خرج من الدار الى السفينة فوجد فيها رجلا من شيعته اولئك ؛ يقاتله رجل من آل فرعون ؛ وكان القبطة يحملون على بني إسرائيل الماء والحطب والصخور والحجارة «فروي» انّه كان طبّاخا لفرعون قد حمل على ذلك المؤمن حطبا فلم يطق حمله فجعل يضربه.

فلما رأى موسى المؤمن استغاث به على الطبّاخ القبطي فوكزه موسى فقضى عليه ودخل الدار. وانتشر الخبر في المدينة وبلغ الملك وقد كان أعلم ان موسى إذا خرج يقتل طباخا له فبذل الرغائب لمن يأتي به.

وخرج موسى بعد ذلك إلى المدينة (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) على رجل آخر من القبط.

فقال له موسى (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) بالأمس رجل واليوم رجل. ثم دنا من القبطي فتخلّص الرجل منه ، فظن القبطي انّه قاتله وظن المؤمن انّه دنا منه ليعاقبه لقوله (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) فقال له : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس.

وبصر به أهل المدينة ، فخرج منها خائفا يترقب ، بغير ظهر يركبه ولا خادم يخدمه حتى انتهى الى أرض (مدين) وهي مسيرة بضعة عشر يوما فروي انّه صار إليها في ليلة واحدة وبعض يوم فانتهى الى أصل شجرة تحتها بئر يستقي منها الماء فوجد عندها أمة من الناس يسقون فكان قصّته مع شعيب وابنته ما قصّ الله به.

فلما قضى موسى الأجل وأراد أن يودّع شعيبا قال له : ادخل الى البيت فاخرج من تلك العصي واحدة وكان شيعة شعيب وأصحابه حوله فدخل فأخرج العصا فقام شعيب فردّها وجعلها تحت العصي وأمره أن يدخل فيخرج غيرها فدخل فوجدها فوق


العصي فأخرجها ثلاث مرّات.

فقال له شعيب : انّي أرى انّك المتكلّم على الطور. فكانت تلك إشارة من شعيب بحضرة شيعته ، وكانت العصا قضيب آس لرأسها شاختان. فأخذها وسار بأهله يريد الأرض المقدّسة فغلط في الطريق وجنّه الليل فأخذ الزناد ليقدح به فلم ينقدح فلما طال عليه كلمته الحديدة وقالت له يا سيدي لا تتعبن فانّي مأمورة. فالتفت فرأى نارا فأقبل إليها فلما دنا منها طفرت فصارت من خلفه فالتفت إليها فصارت عن يمينه فالتفت إليها فصارت عن يساره ثم صارت على الشجرة وسمع الكلام فقال : يا رب هذا الذي اسمعه كلامك؟ قال : نعم. فنودي : ان يا موسى اني أنا الله ربّ العالمين وأن ألق عصاك ، فلما رآها تهتز كأنّها جانّ ولّى مدبرا.

واذا حيّة مثل الجذع ولأسنانها صرير يخرج من فيها كالنار.

سئل العالم عليه السّلام عن قوله تعالى : (تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً). فقال : كانت كالجذع العظيم وحركتها حركة الجان الصغير.

فأمر بالرجوع فرجع وهو خائف فأمر بأخذها فوضع رجله على ذنبها ثم تناول لحيتها فاذا يده في شعبة العصا قد عادت كما كانت وقالت له : اخلع نعليك.

وارسله الله تعالى الى فرعون والعصا بيده وأمر بتبليغ رسالته وتحذيره وانذاره وأوصاه بما يقوله له وكان فيما ناجاه به قال له : يا موسى أتدري لم اصطفيتك على الناس بوحيي وكلامي؟

قال : لا يا رب.

قال : اني قلبت عبادي ظهرا لبطن فلم أر منهم أذلّ نفسا لي منك.

قال : وكان موسى إذا صلّى لا ينفتل من صلاته حتى يضع خدّه الأيمن والأيسر على التراب.

فسأل الله عز وجل أن يجعل معه أخاه هارون عليهما السّلام وزيرا وقصّ الله من شأنه ما قص فأجابه الله عز وجل إلى ذلك وقال لهما : نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون.


وروي انّه انما عني بقوله اخلع نعليك : أردد صفورا على شعيب. فرجع فردّها وخرج الى مصر بعد غيبته بضع عشرة سنة وقد كان طال على الشيعة الانتظار بعد أن رأوا موسى عليه السّلام فاجتمعوا إلى فقيههم وعالمهم فسألوه الخروج معهم إلى موضع يحدّثهم فيه فخرج بهم الى الصحراء وقعد يحدّثهم وقال لهم ان الله جل وعلا أوحى إليّ أن يفرّج عنكم بعد أربعة أشهر.

فقالوا : ما شاء الله.

فقال لهم : ان الله أوحى إليّ أن يفرّج عنكم بقولكم ما شاء الله ثلاثة أشهر.

فقالوا : كلّ نعمة من الله.

فقال لهم : ان الله تعالى أوحى إليّ أن يفرّج عنكم بقولكم كلّ نعمة من الله شهرين.

فقالوا : لا يأتي بالخير إلّا الله.

فقال لهم : ان الله جل جلاله أوحى إليّ أن يفرّج عنكم بما قلتم بعد شهر.

فقالوا : لا يصرف السوء إلّا الله.

فقال لهم : فان الله قد أوحى إليّ بأنّه يفرّج عنكم إلى جمعة بما قلتم فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.

فقال لهم : ان الله قد أوحى إليّ أن يفرّج عنكم هذا اليوم فانتظروا.

فقالوا : الحمد لله ربّ العالمين.

وجلسوا ينتظرون إذ أقبل موسى عليه السّلام وبيده العصا وعليه مدرعة صوف وهو راكب حمارا فقام إليه العالم وسلّم عليه ثم قال له : يا سيدي بما ذا جئت.

قال له : جئت بالرسالة إلى فرعون وملئه.

وأمرهم بما أراد ودخل مصر بالليل مستخفيا فجاء الى دار والدته واخته فروي انّه قد وقف على الباب وقفة فسمع أمه تقول لاخته : ترى ما فعل الشريد الطريد الغائب.

فدقّ الباب ودخل فلما رأته أمه سقطت مغشيا عليها ثم أفاقت فحمدت الله وسلّمت عليه.

وأمر بإحضار أخيه هارون وكان أحد خواص فرعون (وروي) انّه كان يسقيه الخمر


وكان يلبس الجواهر والمزاد المذهبة فاحضر وخبره بالخبر وأمره بما احتاج إليه وردّه الى دار فرعون.

وروي في خبر آخر ان الله عز وجل أوحى إلى هارون في رؤيا الليل ان اخرج الى باب المدينة حتى تلقى أخاك. فخرج وأقبل موسى فلم يعرفه للنور الذي كان قد علا وجهه ولبسه حتى ناداه موسى فقال هارون مرحبا بسيدي وأخي ثم قصّ عليه القصص.

وروي ان هارون كان أخاه لامّه وأبيه وكان أسنّ منه بثلاث سنين وكان موسى أكبر جسما وخلقا وكان الوحي ينزل على موسى عليه السّلام ويوحيه الى هارون.

وغدا موسى عليه السّلام الى باب فرعون وعليه مدرعتان من شعر فاستأذن فحجب فضرب الباب بعصاه فاصطفقت الأبواب كلّها بينه وبين فرعون وتفتّحت.

وكان لفرعون في عمران داره أسد فأمر فرعون بتخليتها في طريقه فخليت ودخل موسى عليه السّلام فأقبلت الأسد تبصبص وتضرب بأذنابها بين يديه وتحت رجليه.

فقال فرعون لجلسائه : أرأيتم مثل هذا قط؟

قالوا : لا.

فلما وصل إليه وأدى رسالة ربّه إليه وسأل ان يرسل معه بني إسرائيل ولا يعذّبهم فعرفه فرعون وقال له (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) الى قول الله (فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) فلم يبق أحد إلّا هرب.

وفتحت الحيّة فاها فأهوت الى قبّة فرعون ان تبتلعها فنادى : يا موسى انشدك الله والرضاع الا امتنعت.

فأخذ موسى العصا ورجعت الى فرعون نفسه ، وهمّ بتصديقه ، فقام إليه هامان فمنعه من ذلك وقال له : بينما أنت إله تعبد تصير تابعا لعبد انما هو أمر السماء وأمر الأرض فاما أمر السّماء فاني ابني لك بناء تقاوم به ملك السماء واما أمر الأرض فالسحرة يقاومون موسى ؛ فصدّه عن الايمان والتصديق لموسى.

ف (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ).


ثم قال له : من يشهد لك بالرسالة؟

فقال : هذا الواقف على رأسك يعني أخاه هارون

فالتفت الى هارون فقال له : ما تقول؟

قال له : صدق هو رسول الله

فأمر فرعون فنزعت عنه ثياب الملك والحلل التي كانت عليه

فبادر موسى فنزع إحدى المدرعتين فألبسها هارون فلما وقعت على جلده بكى عليه السّلام ثم كان من قصة موسى والسحرة ما قص الله به الى قوله (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (فروي) انّه لم يخف على نفسه وانما خاف على شيعته الفتنة.

وألقى عصاه فتلقفت جميع ما عملوه من الحبال والعصي وكان فيما روي حمل مائتي بعير.

فلما رأى السحرة ذلك قالوا : ليس هذا سحرا ، هذا أمر الله وإلا فأين أحمال مائتي بعير حملناها؟

قال : وسجدوا وآمنوا فقال لهم فرعون : آمنتم به قبل ان آذن لكم؟

فقالوا له : اقض ما أنت قاض.

ورجع فرعون وأصحابه مغلوبين واشتدت المحنة على بني اسرائيل بعد ظهور موسى عليه السّلام وكانوا يضربون ويحمل عليهم الحجارة والماء والحطب فصاروا إلى موسى صلّى الله عليه فقالوا له : كنّا نتوقع الفرج فلما فرّج عنّا بك غلظت المحنة علينا.

فناجى موسى ربّه في ذلك.

فأوحى الله إليه : عرّف بني إسرائيل اني مهلك فرعون بعد أربعين سنة.

فأخبرهم بذلك فقالوا : ما شاء الله كان.

فأوحى الله إليه : عرّفهم اني قد نقصت من مدّة فرعون بقولهم «ما شاء الله كان» عشر سنين واني أهلكه بعد ثلاثين سنة.

فقالوا : كلّ نعمة من الله.

فأوحى الله إلى موسى : فانّي قد نقصت من أيامه لقولهم «كلّ نعمة من الله» عشر سنين


وانّي مهلكه بعد عشرين سنة.

فقالوا : لا يأتي بالخير إلّا الله.

فأوحى الله إليه : قد نقصت من أيامه بقولهم «لا يأتي بالخير إلّا الله» عشر سنين وانّي مهلكه بعد عشر سنين.

فقالوا : لا يصرف السوء إلّا الله.

فأوحى الله إليه : اني قد بترت عمره ومحقت أيامه بقولهم «لا يصرف السوء إلّا الله»

فأخرج بني إسرائيل من مصر فعذّب موسى عليه السّلام فرعون قبل أن يخرج من مصر يوما بالقمل ويوما بالجراد ويوما بالضفادع ويوما بالدم ويوما بالريح الصفراء ويوما بالريح السوداء

ثم خرج موسى ببني إسرائيل نحو الأرض المقدّسة واتبعه فرعون في جميع جنوده وجيشه وكان في خيله سبعون فرسا أبلق.

وكان من شيعة موسى قوم قد تبعوا فرعون طلبا لدنياه وهم من بني اسرائيل وقالوا : هذا الذي قد كنّا نرجوه ، رجعنا وصرنا مع موسى.

فلما خرج موسى عليه السّلام من مصر اتبعوه واسرعوا في السير فأرسل الله إليهم ملائكة يضربون وجوههم ودوابهم حتى ردوهم الى عسكر فرعون فهلكوا فيمن هلك ونودوا : حقّا على الله أن يصيركم مع من عشتم في دولته.

فلما قرب موسى عليه السّلام من البحر لحقه فرعون وجنوده فاشتد خوف بني إسرائيل وشكوا ذلك الى يوشع بن نون فصار الى موسى عليه السّلام فقال له : يا سيدي قد أدركنا فرعون فأي شيء تأمر؟

فقال له : البحر يا يوشع.

فبادر الى البحر فاقتحمه بفرسه حتى كاد أن يغرق.

فلما رأى الماء قد غمره رجع الى موسى فقال له : أي شيء تأمر؟

فقال له : البحر يا يوشع.

فاقتحمه ثلاث مرّات كان أن يغرق فيه.


فقال موسى : وإله بني اسرائيل ما كذبت ولا كذبت.

فأوحى الله الى موسى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) فضربه (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) وتقدّم يوشع وكان فرسه يخطو على جدد الأرض الصلبة.

وروي انّه كان تحته برذون أشهب فأنجى الله بعظمته وقدرته موسى ومن معه وغرق فرعون وجنوده وآل فرعون.

فلما خرج قوم موسى من البحر مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا : يا موسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة.

قال : انّكم قوم تجهلون.

فلما انتهى بهم الى الأرض المقدّسة قال لهم : يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم.

قالوا : ان فيها قوما جبّارين وانا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ـ يعنون العمالقة.

فحرّمها الله عليهم ورجعوا نحو مصر فتاهوا في أربعة فراسخ أربعين سنة فنزل عليهم المن والسلوى فهلكوا جميعا فيها إلّا يوشع بن نون وابن عمه كالب بن يوحنا وهما اللذان قال الله في حقّهما : قال رجلان من الذين أنعم الله عليهما.

وكان معهم في التيه حجر يحمله أحدهم على كتفه وروي انّه كان يحمل على حمار فاذا وضعه «انبجست (مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) فيشربون فاذا أرادوا الرحيل بلع الماء وغاض وحمل الحجر معهم وإذا ولد لهم ولد انزل له القميص فطرح عليه فاذا اتسخ طرح في النار فيتنظف ولم يحترق. وكلّما طال المولود طال القميص معه.

ولما مضى موسى لميعاده وهو ثلاثون يوما عرّف موسى أصحابه ذلك.

فلما انقضت وتممها الله له بعشر ، صنعوا في عشرة أيام ما صنعوا من أمر العجل. وكان أصل ذلك السامري كاهنا يتنجم فرأى في نجومه ان بني اسرائيل يقطعون البحر فدخل معهم ولم يكن منهم وكان من قرية من أرض مدينة الموصل من قوم يعبدون البقر فنظر الى جبرئيل عليه السّلام لا يضع حافر فرسه على شيء من الدواب الميتة ولا شجر قد سقط ومات ونخر إلا عاش. فلما رأى ذلك وهو لا يعلم انّه جبرئيل قبض قبضة من


من تحت حوافر الفرس فصرّها في صرّة. فلما ابطأ موسى على قومه قال لهم هارون : انّكم كنتم قد استعرتم حليا من آل فرعون وأخرجتموها معكم فاخرجوه وارموا به وتوبوا منه وتطهروا.

ففعلوا ما أمرهم به ورموا بالحلي فأخذه السامري وكان صائغا فصاغ منه عجلا جسدا ثم ادخل الصرّة التي أخذها من تحت الحوافر في فم العجل فاذا هو يخور وقال لهم : هذا (إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) فعكفوا عليه.

فقام هارون خطيبا فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال لهم (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى).

فلما رجع موسى وخبر بالخبر قال له هارون ما قاله وأجابه بما قص الله به ، فأخذ موسى العجل فوضع عليه المبارد حتى برد كلّه وذراه في البحر فبادر بنو اسرائيل الى البحر ليطرحوا أنفسهم فيه ندامة على ما فعلوه ورجوعا وتوبة فمنعهم.

وأمرهم أن لا يشربوا من النهر وكان خليجا من البحر.

فشربوا منه إلّا قليلا منهم فصار حول شفاههم من ذهب فعرف المخالفين منهم ثم قام موسى عليه السّلام خطيبا وذكّرهم بأيام الله وجميل بلائه فأخذ بقلوب بني إسرائيل فقالوا له : يا نبي الله هل بقي نبي أعلم منك؟ فقال : لا.

فأوحى الله إليه : يا موسى هلّا وكلت العباد إلى علمي حين سألوك.

فروي انّه كان تحت المنبر في ذلك اليوم ألف نبي مرسل ثم جاءه جبرئيل عليه السّلام فأمره عن الله عز ذكره بطلب العلم وقال له : هو في مكان كذا وكذا.

فسأل موسى أن يعرفه مكانه فأعطى مكتلا فيه حوت مملوح وقيل له هذا زادك وهو يدلّك على المكان.

فخرج هو وفتاه يوشع فسارا حتى انتهيا الى عين فأخرج يوشع الحوت ليغسله في الماء فاضطرب في يده ، وكان من العين نفق الى البحر ونسي الحوت فلما جاعا دعا موسى بالطعام فذكر الفتى يعني يوشع ما صنع الحوت.


فقال له موسى : ذلك ما كنّا نبتغيه.

فارتدا على آثارهما قصصا ، أي على آثار أقدامهما ، فأخذا في جزيرة في البحر فاذا رجل عليه ثياب صوف قائم يصلّي فسلّم عليه موسى وجلس فلما انصرف من صلاته ردّ عليه السلام وقال له : من أنت يا عبد الله؟

قال : أنا موسى بن عمران صاحب بني اسرائيل.

وقال : اني سألت ربي أن اتبعك فأعلم من علمك.

قال له : يا موسى اني وكلت بأمر لا تطيقه.

ثم قص عليه العالم عليه السّلام ما كان وما يكون حتى ذكر سيّدنا محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم ذكر له ما يصيبهم من المحن وذكر القائم من ولده في آخر الزمان وما يجري على يده من الخيرات والبركات.

وأقبل طائر «روي» انّه الجندب وانّه أصغر من العصفور وانّه الخطاف حتى وقع بالبحر فأخذ بمنقاره من ماء البحر فقال العالم لموسى عليه السّلام : هل رأيت الطائر وما صنع؟.

قال : نعم.

قال له : ما علمي وعلمك في علم محمّد وآل محمّد عليهم السّلام إلّا بمقدار ما أخذه هذا الطائر بمنقاره من البحر فهل تراه نقص من ماء البحر بما أخذه بمنقاره.

ثم كان بينهما من قصّة السفينة والغلام والجدار ما قص الله به.

وانزل الله ـ جلّ وعز ـ على موسى التوراة في شهر رمضان لست ليال مضين منه وأمره أن يأمر بني اسرائيل بالصوم والإمساك عن جميع ما يؤكل ويشرب في يوم الجمعة. فتركوا الجمعة فأمسكوا يوم السبت. فحرّم الله عليهم فيه الصيد وقتل الله فيه عوج بن عناق على يدي موسى عليه السّلام وكان ولد في زمن آدم عليه السّلام.

فعند ذلك ملك كيخسرو خمسين سنة وقتل من بني اسرائيل ثمانية وعشرين ألف نبي واختلف بنو اسرائيل فاختار منهم موسى سبعين رجلا وقد كانوا طالبوه وقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة. فماتوا.

وروي ان موسى مات بموتهم ، فلذلك روي عن العالم عليه السّلام انّه قال : لا تجالسوا


المفتونين فينزل عليهم العذاب فيصيبكم معهم.

ثم أحيا الله موسى قبلهم فلما رآهم صرعى اغتم وقال : يا رب أصحابي أصحابي.

فأوحى الله إليه : اني ابدلك بهم من هم خير لك منهم.

قال : يا رب اني قد عرفتهم وعرفوني ووجدت ريحهم.

فبعثهم الله عز وجل له أنبياء.

ثم أخذ موسى بيد هارون ومضيا الى جبل طور سيناء فاذا هم ببيت على بابه شجرة فتدلت من الشجرة على موسى حلتان فأخذهما موسى وقال لهارون : انزع ثيابك وادخل هذا البيت والبس هاتين الحلتين ونم على السرير الذي في البيت.

ففعل هارون ذلك فلما نام على السرير قبضه الله عز وجل إليه وارتفع البيت المعمور والشجرة ورجع موسى صلّى الله عليه الى بني اسرائيل فأخبرهم بذلك فكذّبوه وقالوا بل أنت قتلته.

فشكا ذلك إلى الله جلّ وتعالى فأمر الله الملائكة فنزلت بهارون على سرير بين السماء والأرض حتى رأوه وعلموا انّه مات ورفع.

وأمر الله موسى أن يستودع علم الله ونوره وجميع ما في يديه ابن عمه يوشع بن نون فاحضره وأوصى إليه وسلّم إليه التابوت والعلم وعرّف بني اسرائيل انّه هو القائم مقامه وان عليهم فرض طاعته.

ومكث عليه السّلام ما شاء الله ثم مر برجل وهو يحفر قبرا فقال له ألا أعينك على حفر هذا القبر.

فقال له الرجل : بلى.

فأعانه حتى حفر فأراد الحفّار أن يضطجع في اللحد لينظر كيف هو فقال له موسى : أنا أضطجع فيه.

فاضطجع فرأى مكانه من الجنّة فقال : ربّ اقبضني إليك.

فقبض ودفن في ذلك القبر. وكان الذي يحفر القبر جبرئيل عليه السّلام في صورة آدمي. فذلك قبر موسى ولا يعرف به أحد. وكان موته آخر يوم من أيام التيه.


وروي انّه سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن قبر موسى فقال : عند الطريق الأعظم عند الكثيب الأحمر.

وعاش موسى مائة وستا وعشرين سنة وعاش هارون نحوا من ذلك وكان بين ابراهيم وبين موسى عليهما السّلام أربعمائة وثمان وستون سنة.

يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليهم السّلام

وخرج يوشع عليه السّلام وجمع أولاد بني إسرائيل الذين ولدوا في التيه معه وهم لا يعرفون الجبارين ولا العمالقة ولا يمتنعون من قتالهم فقاتل بهم العمالقة وفتح بيت المقدس وجميع مدائن الشام حتى انتهى الى البلقاء لأنّه قاتل فيها رجلا يقال له بالق فجعلوا يخرجون ويقاتلون ولا يقتل منهم أحد فسأله يوشع عن ذلك فقيل له ان في مدينته امرأة كاهنة تدّعي انّها منجمة تستقبل الشمس بفرجها ثم تحسب وتعرض عليها الخيل والرجال ولا يخرج يومئذ الى الحرب رجل قد حضر أجله.

قال : فصلّى يوشع بن نون عليه السّلام ركعتين ودعا ربّه أن يحبس الشمس عنهم ساعة فأجابه واخرت الشمس ، فخرجت فاختلط عليها حسابها فقالت لبالق : انظر ما يعرض عليك يوشع ويلتمسه فاعطه فان حسابي قد اختلط عليّ.

فقال لها : انّه لا يكون صالح إلّا بقتال.

فقاتل يوشع فقتل أصحاب «بالق» قتلا ذريعا كثيرا لم يقتل مثله قبل. فسأل الصلح فأبى يوشع بن نون أن يفعل حتى يسلّم إليه المرأة.

فقالت : ادفعني إليه.

فدفعها فقالت : هل تجد فيما أوحي الى صاحبك موسى عليه السّلام قتل النساء؟.

قال : لا.

قالت : أليس إنمّا تدعوني الى دينك؟.

قال : بلى.

قالت : فاني قد دخلت فيه.


فتركها ثم انتهى الى مدينة اخرى فأرسل صاحب المدينة الى (بلعم) وكان يقال ان (بلعم) قد أوتي الاسم الأعظم وهو الذي قال الله جل وعز عنه : (آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها).

نسأل الله الثبات وان يجعل ما أعطانا مستقرا ولا يجعله مستعارا مستودعا وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة انّه هو الوهّاب.

قال : فركب (بلعم) حمارته ثم توجّه الى صاحب المدينة ليعين على (يوشع) فعثرت حمارته فقال لها : لم عثرت ولم تكوني تعثرين؟ قالت : ولم لا أعثر وهذا جبرئيل بيده الحربة ينهاك أن تدعو على أصحاب (يوشع).

فدخل (بلعم) على أصحاب المدينة وصاحبها وقال له : ادع الله عليهم.

فقال : ليس الى ذلك سبيل ولكن أشير عليك أن تزيّن النساء وتأمرهن أن يأتين عسكر (يوشع) فيتعرضن للرجال فإن الزنا لم يظهر في قوم قط إلّا بعث الله عليهم الموت ، ففعل ، فلما دخلت النساء العسكر وقع الرجال عليهن ، فوجد ابنا هارون ريح الخطيئة فخرجا فوجدا رجلا من بني اسرائيل قد وقع على امرأة فطعنه أحدهما بالرمح ، فقوى الله ـ عز ذكره ـ الرمح وذراع الفتى حتى شكهما جميعا فيه وشالهما عليه ، فصارت المرأة فوق الرجل على الرمح ، فأخرجهما الى بني إسرائيل ؛ حتى نظروا إليهما.

وأوحى الله الى (يوشع بن نون) ان شئت سلّطت عليهم عدوّهم ، وان شئت أهلكتهم بالسنين ، وان شئت فبموت حثيث.

فقال يوشع : انّهم بنو اسرائيل ولا أحبّ أن تسلّط عليهم عدوّهم ولا أن تهلكهم بالسنين ، ولكن بموت حثيث.

فمات في ثلاث ساعات سبعون ألفا بالطاعون.

وقد روي في «بلعم» أحاديث توجب انّه لم يخرج عن شيء من دينه وهو من ولد (لوط) عليه السّلام.

ثم خرجت «صفورا» بنت شعيب امرأة موسى على «يوشع» وركبت الزرافة وكان ظهر الزرافة كالسرج فلما حاربت حجّة الله وظفر بها ومن عليها صير الله ظهر الزرافة


كالزلاقة وحماه فكانت الحرب لها أوّل النهار الى قبل زوال الشمس ثم صارت له الى آخر النهار فظفر بها وأشار عليه بعض من معه بقتلها ، فقال لهم : قد عرفني موسى أمرها وخروجها وأمرني أن أحفظه فيها وأحسن صونها فوكّل بها نساء متلثمات أركبهن الخيل في زي الرجال ووجّه بهن. فلما صارت هناك جمعت النساء والرجال وقالت : ان (يوشع ابن نون) أسرني وبعث بي مع رجال ليس فيهم محرم الى هذا المكان.

فكشف النساء اللثام حتى نظر بنو اسرائيل إليهن وكذبنها.

فلما حضرت يوشع الوفاة أوحى الله إليه ان يستودع ما في يده ابنه (فينحاس) فأحضره وسلّم إليه علوم النبيين ومواريثهم ومضى صلّى الله عليه.

فقام فينحاس ابنه (صلّى الله عليه) بأمر الله جل وعلا واتبعه المؤمنون من بني اسرائيل على قلّة عددهم الى أن حضرت وفاته فأوحى الله إليه ان يستودع ما في يده ابنه بشيرا فأحضره وأوصى إليه وسلّمه ما في يده ومضى صلّى الله عليه.

فقام بشير بن فينحاس عليه السّلام بأمر الله جل وعز مقام آبائه عليهم السّلام الى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه ان يوصي الى ابنه (جبرئيل) فأوصى وسلّم ما في يده إليه ومضى.

فقام جبرئيل بن بشير عليه السّلام بأمر الله جل وعز مع من اتبعه من المؤمنين مقام آبائه عليهم السّلام الى أن حضرته وفاته ، فأوحى الله تعالى إليه أن يجعل الوصيّة في ابنه «ابلث» فأوصى وسلّم جميع ما في يده الى «ابلث» ابنه ومضى صلّى الله عليه.

وقام ابلث بن جبرئيل بن بشير عليه السّلام بأمر الله عز وجل على سبيل آبائه الى أن حضرته الوفاة ، وأوحى الله تعالى إليه الى ابنه «أحمر» فأحضره وسلّم إليه ما في يده ومضى عليه السّلام.


فقام أحمر بن ابلث مقام أبيه ومن تقدّمه من آبائه عليهم السّلام بأمر الله جل جلاله ، حتى اذا حضرت وفاته أوحى الله إليه أن يستودع الاسم الأعظم والنور ابنه «محتان» فأحضره وسلّم إليه الوصيّة ومواريث الأنبياء ومضى عليه السّلام.

وقام محتان بن أحمر عليه السّلام بأمر الله جل وتعالى مقام أبيه الى أن حضرت وفاته فأوحى الله إليه أن يستودع ما في يده ويوصي الى ابنه «عوق» ففعل ومضى عليه السّلام.

وقام عوق (صلّى الله عليه) بأمر الله عز وجل مقام آبائه واتبعه المؤمنون ، وملك الأرض حينئذ (بهراسب) مائة وعشرين سنة ، وكان في ملكه العدل والأمن. وفي ملكه رجعت اليهود إلى الأرض المقدّسة فأقاموا فيها آمنين وكان يدبّر أمر الله عز وجل يومئذ (عوق) من ولد (يوشع) والمؤمنون متّبعون له ولمن تقدّمه من آبائه عليهم السّلام.

ولما حضرت الوفاة (عوق) أوحى الله إليه أن يستودع الاسم الأعظم وجميع مواريث الأنبياء (طالوت) فأحضره وسلّم إليه الوصية وجميع ذلك.

وقام طالوت عليه السّلام بأمر الله جل وعلا وأظهر أمر الله في أيام نبوّته وكان من ولد «بنيامين» بن يعقوب وكان راعيا فآتاه الملك والحكمة والعلم وخالف عليه بنو إسرائيل وهو قول الله جل جلاله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

وكان الملك في ذلك الزمان هو الذي يسيّر الجيوش ، والنبي يقيم أمر الله وينبئه بالخير من عند الله.

فلما قالوا ذلك لنبيّهم ، قال لهم : أليس عندكم ذمّة ولا وفاء ولا رغبة في الجهاد؟

قالوا : بلى قد أخرجنا من ديارنا وابنائنا ولا بد لنا من قتال عدوّنا وطاعة ربنا.

قال لهم : فان الله قد بعث لكم (طالوت) ملكا.

قالت عظماء بني اسرائيل : (طالوت) من سبط (بنيامين بن يعقوب) ، والملك والنبوّة


في أولاد (يهودا) و (لاوي) ابني يعقوب ، فكيف يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه.

قال لهم : ان الله قد اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ، والملك لله عز وجل يضعه حيث يشاء وليس لكم ان تتجبروا على الله جل وعز في أمره وملكه وسلطانه ، وان آية ملكه أن يأتيكم التابوت من قبل الله تحمله الملائكة ، وهو الذي كنتم تهزمون به من لقيتم من أعدائكم. قالوا : ان جاءنا بالتابوت رضينا فسلمنا ، فروي ان التابوت كان على صورة البقرة وان السكينة على صورة الإنسان ، فجاء بالتابوت تحمله الملائكة فسلّموا حينئذ فقام بأمر الله ، وجيش الجيوش لقتال الجبار (جالوت) وكان أبو داود عليه السّلام شيخا كبيرا وله أربعة أولاد فوجّه الشيخ مع (طالوت) بأولاده كلّهم سوى داود فانّه خلفه في الغنم وفصل طالوت لقتال الجبار (جالوت) فقال الشيخ أبو داود لداود اذهب بسلاح قد صنعته الى اخوتك ليقووا به على عدوّهم ، وكان داود عليه السّلام قصيرا أزرق قليل الشعر فمضى الى اخوته فنزل في خيمتهم (وروي) انّه في طريقه مر بحجر فناداه الحجر يا داود خذني فاقتل بي جالوت فاني انما خلقت لقتله فأخذه فوضعه في مخلاته فلما دخل العسكر سمع الناس يعظّمون أمر جالوت وجنوده فقال لاخوته وللناس : ما تعظيمكم أمره؟ لئن عاينته لأقتلنه! فتحدّث الناس بهذا الحديث وارتفع الخبر به الى طالوت فأمر بإحضاره ثم قال له ما بلغ من قوّتك؟ فقال له داود قد كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه فآخذ برأسه فأفكّ لحييه عنها وآخذها من فيه ، وكان الوحي قد نزل على طالوت عليه السّلام انّه لا يقتل جالوت إلا من لبس درعك فملأها ، وكان طالوت يلبس الدرع رجلا رجلا من أصحابه فيضطرب عليه. فدعا اخوة داود فسألهم عنه ثم قال لهم كيف صدقه ، قالوا ما جربنا عليه كذبا قط ، قال لهم فكيف عقله ، قالوا أحسن عقل وأوفره ، قال فكيف منزلته عند أبيه ، قالوا هو آثرنا عنده ، فدعا طالوت بالدرع فألبسها داود فانتقض فيها فتفضلت عليه فقال له : يا داود أنت الذي يقتل بإذن الله جالوت. فلما التقى الجمعان قال داود عليه السّلام أروني جالوت فأروه إيّاه فأخذ الحجر فجعله في مقلاع معه فرماه به فصك به بين عينيه فخر على وجهه صريعا. وكان طويلا جسيما فسقط ميّتا وبادر إليه فحز


رأسه ووضعه في مخلاته ، فروي ان طالوت استخلفه في مجلس القضاء والفقه فكان يحكم بين الناس فلما حضرت طالوت الوفاة أوحى الله إليه أن يسلّم ما في يده من المواريث والعلوم الى (الياس) وداود عليهما السّلام وروي انّه أمر بتسليم ذلك إلى داود عليه السّلام فسلّم طالوت نور الله وحكمته وجميع ما في يديه الى داود عليه السّلام.

فقام داود صلّى الله عليه بأمر الله بعد طالوت واجتمعت بنو اسرائيل على داود ، وأنزل الله جل ذكره عليه الزبور ، وعلّمه صنعة الحديد ، وليّن الحديد في يديه ، وأمر الجبال والطير أن يسبّحن معه وأعطي صوتا لم يعطه أحد من الأنبياء قبله ، وأعطي النور والحكمة والتوراة وزاده الله الزبور وأقام في بني اسرائيل مستخفيا وأعطي القوة في العبادة ثم انّه سأل ربّه أن يجعله رابع أربعة من ولد اسرائيل يدعى بآلهه كما كان يدعى ابراهيم واسحاق ويعقوب حتى يقال وإلهه داود فأوحى الله إليه ان أولئك ابتليتهم فصبروا. فقال : يا رب ابتلني. فأوحى الله عز وجل إليه اني مبتليك في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا في ساعة كذا. فلما كان في ذلك اليوم تخلى داود في محرابه وكان يدعو على الخاطئين وكان أمره ما قصّ الله به من حديث الطائر والمرأة والملكين فأتاه جبرئيل فقال له : ان أردت أن يتوب الله عليك فاسأله بحق محمد وآل محمّد فبذلك سأل آدم ربّه وبذلك سأل ابراهيم حين ألقي في النار وبذلك سأل الأنبياء ربّهم. فقال : اللهم بحق محمّد وآل محمّد. فأجابه وتاب عليه فكان بعد ذلك يبتدئ بالدعاء للخاطئين (وروي) انّه كان في محرابه إذ مرّت به دودة تدبّ حتى انتهت الى موضع سجوده فنظر إليها فوجد في نفسه ، ثم قال : يا ربّ لم خلقت هذه؟ فأوحى الله إليها أن تكلّمه ، فقالت له : أنا على صغري وتهاونك بي أكثر لذكر الله منك يا داود. هل سمعت حسي أو تبينت أثري؟ فقال لها : لا. قالت : فان الله ليسمع دبيبي ونفسي وحسّي ويرى شخصي فاخفض من صوتك. وكان داود يكثر من الدعاء بأن يلهمه الله القضاء بين الناس بما هو عنده الحق فأوحى الله إليه ان الناس لا يحملون ذلك. فعاود في الدعاء فأوحى الله إليه اني سأفعل. فارتفع إليه رجلان استعدى أحدهما على الآخر فأمر المستعدى عليه أن يقوم الى المستعدى فيضرب


عنقه ، ففعل ، فعظم ذلك على بني اسرائيل ، وقالوا : رجل جاء يتظلّم من رجل ظلمه.

فأمر الظالم أن يضرب عنق المظلوم. فقال : يا رب انقذني من هذه الورطة فاني بأمرك أمرت.

فأوحى الله إليه سألتني أن ألهمك القضاء بين عبادي بالحق ، فاعلم ان هذا المستعدي الذي هو عند الناس مظلوم قتل أبا من استعدي عليه سرّا وهو عندهم ظالم له. فألهمتك القود منه فهو المدفون في حائط كذا وكذا تحت شجرة. ناده باسمه فانّه يخبرك بقصته.

ففرّج عن داود وقال ذلك لبني اسرائيل ومضى الى الموضع فنادى القتيل : يا فلان.

فقال له : لبيك يا نبيّ الله.

قال : من قتلك؟.

فقال : فلان الفلاني قتلني.

وكانت بنو اسرائيل بعد ذلك يقولون لداود يا نبيّ الله وانما كانوا يقولون له يا خليفة الله.

ثم أوحى الله الى داود أن الناس لا يحتملون إلّا الظاهر دون الباطن فاسأل المدّعي البينة وأضف المدّعى عليه الى اسمي يعني اليمين بالله جل وعز.

قال : وصار إليه صاحب الحرث والزرع فتحاكما إليه فحكم داود بما حكمت به الأنبياء قبله وهو ان لصاحب الحرث رقاب الغنم بما أفسدت عليه من زرعه ، وكان كرما قد أينع ، فألهم الله (سليمان) في تلك الحال لما شاء أن يظهر من أمره ويدلّ الناس عليه أن قال أي غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلّا ما يخرج من بطون الغنم في تلك السنة فجرت السنّة بعد سليمان بذلك فحكم كلّ واحد منهما بحكم الله. وكانت هذه إشارة في سليمان عليه السّلام.

وروي ان الله تبارك وتعالى أوحى إلى داود ان أردت أن أعطف عليك بقلوب عبادي فاحتجز الايمان بيني وبينك وتخلق للناس بأخلاقهم (وروي) ان الله عز وجل أوحى الى داود ان لي وللجن والانس يوم القيامة نبأ عظيما ، أخلقهم ويعبدون غيري ، وأرزقهم ويعبدون سواي.


وروي انّه أوحى الله إليه يا داود كما لا تضيق الشمس على من جلس فيها كذلك لا تضيق رحمتي على من دخل فيها وكما لا يضر الطير من يتطير منها كذلك لا ينجو من الفتنة المتطيرون وكما ان أقرب الناس من الله يوم القيامة المتواضعون كذلك أبعد الناس من الله المتكبرون.

وروي انّه أوحى الله إليه يا داود مالي أراك منتبذا؟.

قال : أعيتني الخليقة فيك.

قال : فما ذا تحبّ؟.

قال : محبتك.

قال : من محبتي التجاوز عن عبادي فإذا رأيت لي مريدا فكن له خادما.

وولد (سليمان) فلما ترعرع أوحى الله إلى داود انّه القيم بالأمر بعدك.

فصعد داود المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ان الله جل جلاله أمرني أن استخلف سليمان عليكم بعدي.

فضجّت رؤساء أسباط بني اسرائيل وقالوا : غلام حدث يستخلف علينا وفينا من هو أعلم منه ونحن كبراء بني اسرائيل.

فبلغ ذلك داود فجمعهم وقال لهم : احضروا لي عصيّكم فأية عصا أورقت وأثمرت فصاحبها ولي الأمر بعدي.

فسروا بذلك وقالوا : قد رضينا.

وأحضروا العصي وكتب عليها أسماء أصحابها وأدخلها بيتا ، وغلق الباب ، وأجلس رؤساء الأسباط على الباب يحرسون عصيّهم فلما أصبح صلّى بهم الغداة ، ثم فتح الباب فأخرج عصيّهم وقد أورقت عصا سليمان وأثمرت.

وروي انّه حمل سليمان فطاف به في بني اسرائيل ينادي هذا خليفتي من بعدي.

ومات داود عليه السّلام وعقدوا الأمر لبعض أولاده غير سليمان ، واعتزلهم سليمان فاتصل الخبر بنبي من أنبياء بني اسرائيل يقال له (أرميا) وكان متخليا في بعض الجبال فنزل وصار الى سليمان فقال له : يا نبي الله ان بني إسرائيل قد عقدوا الأمر لغيرك.


فأمسك عنه سليمان عليه السّلام فلم يزل (أرميا) يسأله الى ان اقامه وأخرجه وأركبه بغلة داود وألبسه عمامته ووضع على رأسه شبيها بالقرن كان إذا وضع على رأس الامام يسمع له صوت كصوت خرير الماء ثم شدّ (أرميا) وسطه بشريط وأخذ بزمام بغلة سليمان عليه السّلام وطاف به مناديا في بني اسرائيل : هذا حجّة الله عليكم.

فانفضّ الناس عن الرجل الذي كانوا نصبوه وعادوا الى سليمان وكان الرجل المنصوب أحد أولاد داود وكان بنوا اسرائيل يميلون إليه لأن أمه كانت منهم ولم تكن أم سليمان منهم.

وروي ان داود عليه السّلام أوّل من صنع بناء بيت المقدس فبنى بعضه وتممه سليمان ونصب فيه المحاريب.

فقام سليمان (صلوات الله عليه) بأمر الله جل ذكره ونوره وحكمته وجميع مواريث الأنبياء.

ثم انّه لما استوى له الأمر قام خطيبا فذكر الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) وسخّر الله له الجنّ والانس والطير والهوام والسباع وكان لا يسمع بملك في ناحية من أقطار الأرض إلّا أتاه يذلّه ويدخله في الاسلام.

وروي ان القحط اشتد في زمانه فشكا الناس إليه ذلك وسألوه أن يستسقي لهم فخرج معهم فلما صار في بعض الطريق إذا هو بنملة رافعة يديها الى السماء واضعة رجليها في الأرض وهي تقول اللهم انّا خلق من خلقك ولا غنى بنا عن رزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم.

فقال سليمان لأصحابه : ارجعوا فقد سقيتم بغيركم.

فسقوا في ذلك العام ما لم يسقوا مثله.

وروي ان الهدهد كان يدلّ أصحاب سليمان عليه السّلام فلم يلبث أن أتى سليمان (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ).


فكتب معه بما قصّ الله جل وعز به واستعجله فقال له : كيف تستعجلني يا نبي الله وأنا أخاف سباع الطير يعني الجوارح تأكلني.

فأرسل معه الصقر ـ وروي العقاب ـ وأمره بحفظه ولذلك صار العقاب رئيس الجوارح.

فمضى الهدهد حتى ألقى الكتاب الى ملكة سبأ وهي على سرير الملك فجمعت أهل مملكتها وقالت (أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ). وروي انّه مختوم وان أوّله (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ثم قالت لهم : ما ذا تأمرون؟.

قالوا : نحن أولو قوّة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين؟.

وقالت لهم ما قص الله به جل وتعالى ثم اهدت إليه من الوصائف والعبيد والخيل وساير الأصناف ما له مقدار جليل عظيم.

فقال سليمان عليه السّلام للرسل : (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ).

فرجع الرسل إليها فقالوا لها : ما هذا ملكا ومالنا به طاقة.

فبعثت إليه : اني قادمة عليك بملوك قومي حتى أمتثل أمرك.

ثم أمرت بسرير ملكها وكان من ذهب مرصّعا بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ وجعلته في سبعة أبيات بعضها في جوف بعض وغلقت الأبواب كلّها وكانت تخدمها ستمائة جارية فقالت لمن خلفت على سلطانها احتفظوا بسريري لا يصل إليه أحد حتى أرجع.

ثم خرجت نحو سليمان عليه السّلام وكان ملكها باليمن فشخصت في اثني عشر فيلا من أفيال اليمن والفيل الملك وجعل الجنّ يأتون سليمان بخبرها حتى اذا قربت (قالَ) ... (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).

وكان من قصة العفريت ما قص الله به فقال آصف بن برخيا عليه السّلام (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ).

وكان آصف كاتب سليمان عليه السّلام في تلك الحال وابن عمّه ووصيّه وزوج ابنته فروي ان الأرض طويت حتى تناول السرير في أسرع وقت من طرف العين وأمر سليمان أن


ينكر لها عرشها فنكر فلما قدمت وكان من أمرها ما قصّ الله به (قِيلَ) لها (أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ).

ثم أمر سليمان عليه السّلام بالصرح وقد عملته الشياطين من زجاج كأنّه الماء بياضا ثم أرسل الماء تحته ووضع سريره فيه وجلس «و (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) وأراد بذلك أن يريها ملكا أعظم من ملكها.

فلما رأته حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها وجعلت تسأله حتى سألته عن الربّ جلّ جلاله وأخبرها ثم دعاها الى عبادة الله ونهاها عن عبادة الشيطان من دون الله وذكرها بأيام الله عز وجل فقالت عند ذلك (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وحسن اسلامها.

فلما فرغ من أمرها قال لها : اختاري لنفسك رجلا من قومك أزوّجك به.

فزوجها (ذا تبع) ملك همدان باختيارها وردّها الى اليمن ، فلم يزل ذو تبع ملكا باليمن الى أن قبض سليمان عليه السّلام.

قال وجلس سليمان يعرض الخيل لبعض الغزوات وكانت تعجبه فتشاغل بعرضها عن التسبيح حتى غابت الشمس وكان عددها أربعة عشر رأسا فلما أمسى ندم على ما صنع وقال : شغلتني الخيل عن ذكر ربي فأمر بها فعوقبت وضربت أعناقها.

فروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السّلام انّه قال قتل الخيل عند الله أعظم عن ترك التسبيح.

قال : فسقط خاتمه من اصبعه وكان حلقة من ياقوت أحمر من الجنّة عليها صورة كرسي فأعاده إلى اصبعه فسقط ثلاث مرّات فقال له آصف : انّه لن يتماسك الخاتم في يدك أربعة عشر يوما بعدد الخيل التي قتلتها فادفع إلي الخاتم حتى أقوم مقامك وأهرب الى الله عز وجل وآخذ بالاستغفار والتوبة. وكانت هذه اشارة من آصف عن نفسه.

وقال له : اني أسير في رعيتك وأهل بيوتك بسيرتك الى ان ترجع.

فدفع سليمان الخاتم الى (آصف) فلما جعله في اصبعه ثبت. فأقام في ملك سليمان يعمل عمله ، وألقى الله عليه شبه سليمان عليه السّلام فلم يفقد سليمان أحد من الناس إلّا حرمه.


ثم رفع سليمان إلى مجلسه ، فلما بصر به قام على رجليه وتنحى له من مجلسه حتى جلس فيه فأخذ الخاتم ووضعه في يده فثبت.

وحدثه آصف بما عمل في تلك الأيام التي غاب فيها فدعا سليمان ربّه وناجاه وقال يا ربّ أتخوّف ان يعلم بنو اسرائيل بما كان مني فتنقص منزلتي عندهم «ف (هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ، فاعطي زيادة في ملكه وسخّر الله له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ثم أوحى إليه في تلك الحال (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) ثم أثنى الله عليه عند أهل مملكته وعالمه ان له عندنا لزلفى وحسن مآب ، وكان إذا أراد الركوب أمر بجمع العسكر وضربت له الخشب ثم جعل عليه الناس والدواب وآلة الحرب كلّها حتى اذا حمل على ذلك الخشب كلّ ما يريد أمر الريح فدخلت تحت الخشب وحملته حتى ينتهي به الى حيث يريد.

وروي انّه خرج في وقت من الأوقات من بيت المقدس على هذه السبيل عن يمينه ثلاثمائة كرسي عليها الانس وعن يساره ثلاثمائة ألف كرسي عليها الجن وأمر الطير فأظلتهم والريح تحملهم حتى ورد (المدائن) من يومه ثم رجع فبات ب (اصطخر) ثم غدا فانتهى الى (جزيرة كاوان) ثم أمر الريح أن تحفظهم حتى كادت أقدامهم تلحق الماء فقال بعضهم لبعض هل رأيتم ملكا أعظم من هذا؟.

فروي انّه مر برجل حراث من بني اسرائيل فلما رأى الرجل ذلك الملك قال : الحمد لله لقد أوتي آل داود ملكا عظيما.

فألقت الريح الكلام في اذن سليمان فمال إليه فلما رآه فزع فقال له : سليمان أي شيء قلت؟

فجحد ما قاله. فلم يزل به الى أن قال : قلت : الحمد لله أكثر ممّا أوتي داود آل داود.

وكان لسليمان ثلاثمائة زوجة مهيرة وسبعمائة سرية وملك مشارق الأرض ومغاربها وملك سبعمائة سنة وست عشرة سنة وستة أشهر ولم يزل يدبر أمر الله جل وعز فلما حضرت وفاته أوحى الله إليه ان يجعل وصيّه والمواريث والنور والحكمة الى (آصف بن برخيا) فأوصى وسلّم إليه ذلك ومضى عليه السّلام وكان في قبّة زجاج فكان من قصته ما نبأنا


الله من أمر منسأته الى قوله (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ).

وقام آصف بن برخيا بأمر الله وأعطاه الله عز وجل من الاسم الأعظم حرفا وكان يرى المعجزات.

وفي أيامه ملك «كشتاسب» مائة وستا وعشرين سنة ، وفي أربعة وثلاثين سنة من ملكه ظهر أمر «الهرابذة» وبنى مدينة بفارس سمّاها «نشا» وتسلّط اليهود على نسل داود فقتلوا منهم مائة وعشرين نبيّا وقتلوا من شيعة الأنبياء خلقا كثيرا فعند ذلك لعنهم الله باللعنة التي لعن بها ابليس ومسخهم قردة وخنازير وأنواعا شتى من المسوخ في البر والبحر ومنهم الجري والمارماهي والزمار على حسب ذنوبهم وكفرهم مسخ كلّ صنف وكان أمر الله مفعولا.

ولما حضرت «آصف» الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته وجميع ما في يديه ابنه «صفورا» فدعاه وسلّم إليه التابوت والوصيّة ومضى.

وقام صفورا بن آصف عليهما السّلام بأمر الله جل وعز فاتبعه المؤمنون من بني اسرائيل فلما حضرته الوفاة أوحى الله إليه ان استودع الاسم الأعظم والتابوت والحكمة والنبوّة الى ابنك «مبنه» وأحضره وأوصاه وسلّم إليه ومضى.

وقام مبنه بن صفورا عليهما السّلام بأمر الله جل وعلا فعند ذلك وفي أيامه ملك أردشير بن اسفنديار مائة واثنتي عشرة سنة.

وفي خمس سنين من ملكه بنى مدينة بفارس وسماها «اصطخر» وسيكون فيها ملحمة عظيمة في آخر الزمان على ما روي عن عالم أهل البيت عليهم السّلام.

ولما حضرت مبنه الوفاة أوحى الله إليه ان يستودع ويوصي «هندوا» فأحضره وأوصى إليه وسلّمه ما في يديه ومضى.


وقام هندو بن مبنه عليه السّلام بأمر الله جل وعز فلما حضرت وفاته أوحى الله إليه ان استودع مواريث الأنبياء ابنك «اسفر بن هندوا» فأحضره وسلّم إليه ومضى عليه السّلام.

فقام أسفرا بن هندوا بأمر الله جل وتعالى وتبعه المؤمنون فعند ذلك ملكت حماه بنت شهرزان ثلاثين سنة وكان في ملكها تخفيف الخراج وصلاح أمر الناس ولم يخرج عليها أحد إلّا ظهرت عليه ، وكانت امرأة بغية ، وكانت لها امرأة تخدمها تطلب لها كلّ ليلة رجلا شابّا جميلا تدخله إليها فيبيت عندها ليلتها فاذا أصبح أمرت به فقتل لئلا يشنع عليها ويذيع خبرها.

فعند ذلك ـ قال عالم أهل البيت عليهم السّلام ـ لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما أعطى ملكها امرأة بغية.

فلما حضرت «اسفر» الوفاة أوحى الله إليه ان استودع النور والحكمة والمواريث ابنك «رامن» فأحضره وأوصى إليه وسلّمه ما في يده ومضى عليه السّلام.

فقام رامين بن اسفر عليه السّلام بأمر الله عز وجل وتبعه المؤمنون وقد كانوا قلوا وفنوا وبقي منهم عدد يسير الى ان حضرت وفاته فأوحى الله إليه ان يستودع ما في يده «اسحاق» فأحضره وأوصى إليه وسلّمه جميع المواريث والنور والحكمة والاسم الأعظم ومضى.

وقام اسحاق بن رامين بأمر الله جل جلاله مقام آبائه عليهم السّلام فلما حضرته الوفاة أوحى الله إليه ان استودع الاسم الأعظم ابنك «أيم» فأحضره وأوصى إليه وسلّم ما في يديه ومضى صلّى الله عليه.

وقام ايم بن اسحاق بأمر الله جل وعز مقام آبائه عليهم السّلام فلما حضرته الوفاة أوحى الله إليه ان يستودع الاسم الأعظم ويوصي الى ابنه «زكريا» روي ان اسمه «زمرتا» فأحضره وأوصى إليه ومضى صلوات الله عليه.


فقام زكريا عليه السّلام بأمر الله وهو «زكريا بن ايم» ويروى ابن (اردن) واتبعه المؤمنون من ولد داود من سبط يهودا.

وكان زكريا متزوجا (ايساع) اخت (حنة) (أم مريم أمّ عيسى).

وروي ان زكريا عليه السّلام لم يزل خائفا من اليهود مستخفيا ، ثم هرب منهم فالتجأ الى شجرة فنشرت لحاها ثم نادته «يا زكريا ادخلني» فدخلها فانضم عليه اللحاء فلم يوجد فاتاهم ابليس فدلهم عليه فاتوا الشجرة فنشروها ونشروه عليه السّلام معها فروي ان الله عز وجل قبض روحه قبل وصول المنشار إليه ، ورفع عنه الألم.

وكان الله أوحى إليه قبل ذلك أن يسلّم مواريث الأنبياء وما في يديه الى عيسى عليه السّلام وروي في خبر آخر ان الله أوحى الى زكريا أن يستودع النبوّة ومواريث الأنبياء وما في يديه الى نبي من بني اسرائيل يقال له (اليسابغ).

فقام اليسابغ عليه السّلام بما أوصاه به زكريا عليه السّلام من أمر الله جل وعلا وأعطاه ثلاث آيات متظاهرات بيّنات ليريها بني اسرائيل فأبى أكثرهم إلّا طغيانا وكفرا.

فعند ذلك ملك (دارا بن شهزادان) اثنتي عشرة سنة وهو أوّل من صنع السكك وأعد لنفسه الأموال والخزاين فلما أراد الله أن يقبض (اليسابغ) أوحى إليه أن يستودع النور والحكمة والاسم الأعظم ابنه «روبيل».

وقام روبيل بن اليسابغ بأمر الله جل وعز وتدبير ما استودعه وملك في أيامه (دارا بن شهزادان) أربع عشرة سنة وبعد سنة من ملكه بنى مدينة وسمّاها «داراجرد» ثم ملك بعده (الاسكندر) أربع عشرة سنة وذلك كلّه في وقت إمامة (روبيل).

وقتل «الاسكندر» (دارا بن دارا) وهدم بيوت النيران وقتل (الهرابذة) وكان في زمانه العدل والإنصاف فلما مات (الاسكندر) وكان أصحابه يعبدون الحجارة فحملوه في


تابوت من ذهب الى بلاد الروم وكان بنى بعد سنتين من ملكه مدينة باصبهان سمّاها «جي» فأسرف كفرة بني اسرائيل في قتل المؤمنين وتعذيبهم فدعوا الله أن يخرجهم من بينهم ويبعد بين أقطارهم فبعث الله إليهم ملائكة فسيرهم على الماء ومعهم الكتاب المنزل على موسى عليه السّلام.

وملك عند ذلك (أشبح بن اشبحان) مائتي سنة وستين سنة ، وفي احدى وخمسين سنة من ملكه بعث الله عز وجل المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام

فقال العالم عليه السّلام : ان امرأة عمران لما نذرت ما في بطنها محررا ، والمحرّر للمسجد وخدمة العلماء وقال في خبر آخر ان الله أوحى الى عمران اني أهب لك ابنا يبرئ الاكمه والأبرص ويحيي الموتى باذني.

فلما ولدت امرأته بنتا وهي مريم قالت انّي وضعتها انثى وليس الذكر كالانثى ـ تريد أن الانثى لا تكون نبيا مرسلا.

وانما كان الوعد لعمران بعيسى عليه السّلام من ابنته مريم فنشأت مريم أحسن نشوء ولزمت العبادة والصلاة في الكنائس والبيع مع العلماء وأحصنت .. لم ترغب في أحد من الرجال وكان زكريا قد كفلها في حياته فكان إذا دخل إليها وهي في المحراب وجد عندها رزقا. قال : يا مريم انّى لك هذا قالت هو من عند الله.

قال : كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف وروي انّه كان الرزق علما من العلوم وروي انّه حمل مريم كان ثلاث ساعات وروي سبع ساعات من النهار وروي تسعة أيام وان جبرئيل عليه السّلام أتاها بسبع تمرات من العجوة وهي الصرفان فأكلتها فحملت بعيسى وروي ان جبرئيل عليه السّلام نفخ في جيبها وقد دخلت الى المغتسل للتطهير فخرجت وقد انتفخ بطنها فخافت من حالتها ومن زكريا فخرجت هاربة على وجهها وان نساء بني اسرائيل ومن كان يتعبّد معها رأوا بطنها فشتمنها ونتفن شعرها وخمشن وجهها فأنطق الله المسيح عليه السّلام في بطنها فقال وحق النبي المبعوث بعدي في آخر الزمان لئن أخرجني الله من بطن أمي مريم لأقيمن عليكن الحد.

ومضت مريم على وجهها حتى أتت قرية في غربي الكوفة يقال لها «بشوشا»


ويروى (بانقيا) وهي اليوم تعرف بالنخيلة. وفيها عظام هود وشعيب وصالح وعدّة من الأنبياء والأوصياء عليهم السّلام فاشتد بها الطلق فاستندت الى جذع نخلة نخرة قد سقط رأسها فولدته فاخضرت النخلة من وقتها وأثمرت وأينعت وسقط منها على مريم رطب جني ، وكان فيما روي في كانون من زمان الشتاء فلذلك تطعم النفساء التمر والرطب.

واشتد خوفها من زكريا ومن خالتها وكانت امها حنة قد ماتت وكفلتها ايساع حتى قالت (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) وروي انّها قالت يا ليتني قبل أن أرى في بني اسرائيل ما قد رأيت من الافتتان بسبي وباتهامهم لي إشفاقا منهم فناداها عيسى عليه السّلام (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) يعني نفسه و (هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) ثم ضرب برجله فانبعث من تحت رجله عين ماء جار فقال لها «كلي (وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي صمتا (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا).

فطابت نفسها وأكلت وشربت ثم حملته ورجعت الى الشام وكان مجيئها من الشام الى الكوفة ورجوعها في ثلاثة أيام فلقيها زكريا عليه السّلام ومعه خالتها فكلّماها فأشارت إليه ان كلمهما فانطقه الله حتى (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) إلى قوله (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) فطابت نفس زكريا وايساع خالتها وظهرت حجّتهم عند أهل بيتهم وعند الناس.

فأقبلت الى منزلها وقد حملت عيسى عليه السّلام على صدرها فخرج من عواتق القرية سبعون عاتقا فقلن لها قد (جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) ... الآية ، فأشارت إليه ، فقال عيسى عليه السّلام لهن : يا ويلكن ا تفترين على أمي ، اني عبد الله ... إلى قوله (ما دُمْتُ حَيًّا).

وتكلّم بالحكمة ثم صمت بعد ذلك الى أن أذن الله له بالكلام وروي انّه بعد ذلك بسبع سنين وروي بعد أربع سنين فأوتي الحكمة فأخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.

وروي أن إبليس مضى في طلبه في وقت ولادته فلما وجده وجد الملائكة قد حفّت به فذهب ليدنو فصاحت به فقال : من أبوه؟ فقالوا له : مثله كمثل آدم. فقال : والله لأضلّن به أربعة أخماس الخلق.


ثم نشأ وأرسله الله عز وجل وكان مربوع الخلق الى الحمرة والبياض سبط الشعر كان رأسه يقطر من غير ماء يصيبه وكانت شريعته التوحيد شريعة نوح وإبراهيم وموسى فأنزل الله عليه الإنجيل وأخذ عليه ميثاق الأنبياء بتحليل الحلال وتحريم الحرام والأمر والنهي والإنجيل مواعظ وأمثال ليس فيه قصص ولا حدود ولا فرائض ولا مواريث وأنزل الله عليه تخفيفا ممّا كان في التوراة وهو قوله (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) فآمن به المؤمنون بالحجج وكذّبه بنو اسرائيل فافترقوا فيه فرقا يختلفون فيه حتى قال بعضهم انّه إله وقال بعضهم انّه ابن الله جلّ الله وتعالى فاقشعرت الأرض وتشوّك الشجر من ذلك الزمان.

ثم أحيا الموتى وأبرأ الاكمه والأبرص باذن الله.

وروي انّه لم يحي إلّا ميتا واحدا وانّه قام خطيبا في بني اسرائيل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا بني اسرائيل لا تأكلوا حتى تجوعوا فاذا جعتم فكلوا ولا تشبعوا فانّكم إذا شبعتم غلظت رقابكم سمنت جنوبكم ونسيتم ربّكم. انّي أصبحت فيكم ادامي الجوع وطعامي ما تنبت الأرض للوحوش والبهائم ، وسراجي القمر ، وفراشي التراب ، ووسادي الحجر ، ليس لي بيت يخرب ولا مال يتلف ، ولا ولد يموت ، ولا امرأة تحزن ، وكان صلّى الله عليه قد بعث بالسياحة والتقشف فمر وهو يسيح في الأرض بقوم يبكون فقال من أي شيء يبكي هؤلاء القوم؟ قالوا له على ذنوبهم فقال عليه السّلام يتركونها يغفر الله لهم.

واتبعه الحواريون وكانوا اثني عشر رجلا وهم التلاميذ ووجّه الى البلدان بالرسل ودعاهم الى التوحيد فاتصل به ان ملكا في بعض البلدان يأكل الناس هو وأهل مملكته وانّهم يسمنون الناس ويغذونهم بأغذية تزول بها أفهامهم حتى يسمنوا ثم يأكلونهم فأمر المسيح عليه السّلام أحد خواصّه أن يرسل ببعض ثقاته إليهم ينذرهم ويحذّرهم فوجّه إليهم وكان بينه وبينهم مسيرة ثلاثة أشهر فلما دخل الى مدينتهم اتاهم ابليس فأغراهم به حتى أخذوه فحبسوه في الموضع الذي يسمنون فيه الناس وسقوه ما كانوا يسقونهم فمكث على عادته وكانت العادة أن يخرجوا الرجل بعد شهر من محبسه فيذبحوه فلما مضى للرجل سبعة وعشرون يوما قال المسيح للمرسل به ادرك أخاك فانّه لم يبق من أيامه إلّا


ثلاثة أيام فخرج الرجل مبادرا حتى صار الى شاطئ البحر فوجد مركبا صغيرا فجلس فيه فقال له الملّاحون ـ وكان في المركب ثلاثة نفر ـ أين تريد؟.

فلم يخبرهم فلما ألحوا عليه عرّفهم الموضع الذي يريده فجعلوا يتضاحكون به وصاحب السكان من بينهم يهزأ منه ويقول كيف تبلغ مسيرة ثلاثة أشهر في يوم واحد.

فاغتم وأوقع الله عليه السبات فانتبه وهو على باب المدينة فخرج من المركب فلما دنا من باب المدينة وجد المسيح عليه السّلام يطلع من السور فكلّمه وسأله من خبره فقال له الرجل أرى انّك كنت صاحب السكان في المركب ثم دخل الى المدينة وصار الى الملك فزجره ووعظه فأتاه ابليس فأغراه به فأخذوه وأدخلوه الى المجلس الذي يسمنون فيه فلما رآه صاحبه وثب إليه فسأله عن خبره فأمره بالخروج فقال له أين أخرج وانما أردت إذا خرجت أن أصير إليك. فقال : تنتظرني على باب المدينة.

فخرج والحرس جلاس فلم يره منهم أحد.

وأغرى ابليس بالرجل وقال لهم هذا وأمثاله آفة الملوك والوجه أن يعذّب حتى يرتدع به غيره وأشار أن يرجم بالحجارة ويسحب على الحصباء لوجهه وساير جسده حتى يترضض فيألم جسده ، ففعل به ذلك وغلظ عليه الأمر ، فشكا الى الله عز وجل وقال يا ربّ ان كان أجلي قد قرب فاقبضني إليك وإلّا ففرّج عني فلم يبق فيّ موضع للصبر فأوحى الله إليه أن لك عندي منزلة لم تبلغها إلّا بالصبر على أغلظ المحن وقد فرّجت عنك وأمرت كلّ ما في المدينة بطاعتك فاخرج فخرج الى صنم لهم من حجارة فأمره أن ينبعث من سائره الماء فنبع الماء من عينيه وأنفه وأذنه وفمه وساير أعضائه فغرق خلق من أهل المدينة ، وعلم الباقون السبب في غرقهم فصاروا إليه خاضعين طالبين ، وآمنوا ونزلوا على حكمه واتبعوه فأمر الصنم ان يبتلع الماء فابتلعه وبقي من مات بذلك العذاب مطروحا فأحياهم باذن الله جميعا فآمن به جميع أهل المدينة.

وكان المسيح صلّى الله عليه يبشّر الحواريين بالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله فيقولون هو منّا ونحن شيعته فكان في الانجيل لا يلي أمر الامّة رجل وفيهم من هو أعلم منه إلّا كان أمرهم إلى سفال.


وروي أن الدنيا تمثّلت للمسيح في أحسن صورة ، وروي في خبر آخر انّها تمثلت في صورة امرأة زرقاء شمطاء عجوز فقال لها : هل تزوجت؟ فقالت : كثيرا. فقال لها : فكلّ طلّقك؟ فقالت : بل كلّ قتلته. فقال لها : فويح لأزواجك الباقين كيف لم يعتبروا بالماضين.

وروي عنه عليه السّلام انّه قال : أوحى الله الى الدنيا : من خدمك فاستعبديه ، ومن خدمني فأخدميه.

وروي انّه عليه السّلام دعا الحواريين في يوم من الأيام ثم قام يخدمهم حتى يفعلوا مثله ثم يعلمونه الناس.

ومكث عليه السّلام في الأرض ثلاث وثلاثين سنة وكان فيما أمر به الحواريين قوله : ارضوا بذي الدنيا مع سلامة دينكم كما رضي أهل الدنيا بذي الدين مع سلامة دينهم ، وتحببوا الى الله ببغض أهل المعاصي والبعد منهم.

فقالوا : ومن نجالس يا روح الله؟.

فقال : من يذكركم الله رؤيته ، ويزيد في علمكم منطقه ، ويرغبكم في الآخرة عمله.

ثم نزلت المائدة عليهم فأمر بتغطيتها وأن لا يأكل رجل منها شيئا حتى يأذن لهم ، ومضى في بعض شأنه ، فأكل منها رجل منهم فقال بعض الحواريين : يا روح الله قد أكل منهم رجل.

فقال له عيسى : أكلت منها؟.

فقال الرجل : لا.

فقال الحواريون : بلى يا روح الله لقد أكل منها.

فقال عليه السّلام للحواريين : صدق أخاك وكذب بصرك.

وروي في المائدة أخبار كثيرة يطول شرحها.

قال : واشتد طلب اليهود له حتى هرب منهم ثم جمع أصحابه وأوصى الى شمعون وأمرهم بطاعته وسلّم إليه الاسم الأعظم والتابوت ثم قال للحواريين في تلك الليلة وقد جمعهم في بيت ، أيّكم يكون رفيقي غدا في الجنّة على أن يتشبّه للقوم غدا في صورتي فيقتلوه؟.


فقال له شاب منهم : أنا يا روح الله.

فأمره بالجلوس في مجلسه الذي كان يجلس فيه فامتثل أمره وطرح عليه شبهه فدخل إليه اليهود فقتلوه وصلبوه فروي أن بعض الحواريين مر بشمعون عليه السّلام وهو تحت الخشبة يجمع ما يسقط من جلده وأعضائه فقال له : يا نبي الله إذا رآك الناس تفعل هذا افتتنوا.

فقال له : اني رأيت الله عز وجل قد أضلّ قوما وأحببت أن أزيدهم.

وكان فيما قاله المسيح عليه السّلام : اما انّكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق ، فرقتين تفتري على الله الكذب وهي في النار وفرقة مع شمعون صادقة على الله وهي في الجنّة.

ورفع الله جل وعز المسيح إليه من ساعته ثم صارت مريم عليها السّلام الى ملك اليهود فسألته أن يهب لها المصلوب ففعل فدفنته فخرجت هي واختها لزيارة قبره فاذا المسيح جالس عند القبر فقالت لاختها : ما ترين الرجل الذي عند القبر؟ قالت : لا. فأمرتها أن ترجع ومضت الى المسيح عليه السّلام فأخبرها ان الله عز وجل قد رفعه إليه وأوصى بما أراد. فرجعت قريرة العين.

ثم افترقت امته ثلاث فرق ، فرقة قالوا ان الله عز وجل فينا فارتفع ، وفرقة قالوا كان ابن الله فينا فرفعه الله. وفرقة مؤمنة مع شمعون.

وروي أن الله عز وجل أظهر دعوة المسيح عليه السّلام وهو ابن ثمان وعشرين سنة وعمره ثلاث وثلاثون سنة.

وقام شمعون عليه السّلام بأمر الله جل وعز وكان يفعل فعل المسيح يبرئ الاكمه والأبرص ويحيي الموتى باذن الله ومعه الشيعة الصديقون فمن آمن به كان مؤمنا ومن جحده كان كافرا ومن شك فيه كان ضالّا.

ووجّه (شمعون) عليه السّلام بالحواريين الى البلدان يدعون الناس وكان المسيح عليه السّلام وشمعون لا يبعثان الى الروم بأحد إلّا قتل. فقال شمعون لرجلين من أصحابه : اذهبا في وقت كذا وكذا الى بلد الروم فعجلا فذهبا قبل الوقت فأخذهما الملك وحبسهما فلما


حضر الوقت مضى شمعون في صورة متطبب فكان لا يعالج أحدا إلّا أبرأه وغلب على الملك.

ثم ان الملك رأى رؤيا فقصّها على شمعون فقال شمعون : لعلّ في حبسك قوما مظلومين ، فأمره بالنظر في أمور جميع الناس. فجلس الملك وجلس معه شمعون وأخذ ينظر في أمورهم حتى انتهى الى الرجلين فسألهما عن قصّتهما فعرّفاه انّهما رسل المسيح وانّهما يبرئان الاكمه والأبرص فقال : احضر رجلا أعمى فأحضر من لم يبصر قط فوضع شمعون يده على عينيه ثم قال لهما أنا أبرئه قبلكما ونحى شمعون يده فأبصر الرجل ثم لم يزل يري الملك وأصحابه آية بعد آية ومعجزة بعد معجزة الى أن أحيى ابنا كان للملك قد مات منذ سبع سنين فآمن الملك وجميع أهل مملكته وبه عظموا أمر المسيح وقالوا فيه ما قالوا.

فلما حضرت شمعون الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع نور الله والحكمة وجميع مواريث الأنبياء يحيى بن زكريا ففعل وأوصى وسلّم إليه ومضى.

وقام يحيى بن زكريا عليه السّلام بأمر الله جل وتعالى وكان من حديثه أن زكريا عليه السّلام دعا ربه فقال (إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) وأعني بني العمومة (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً).

وحملت به امّه فلما ولد عليه السّلام غذي بانهار الجنة حتى فطم ثم انزل به الى أبويه فكان يضيء البيت لنوره ثم نشأ وبعثه الله عز وجل بالحكمة واتاه زيادة على ما سلم إليه شمعون خمس كلمات وأمره يضربهن مثلا لقومه فقال يحيى بن زكريا لقومه الكلمات وانما هي :

١ ـ مثل الشرك بالله مثل رجل كان له عبد ولم يكن له مال غيره يملكه فاضطرب العبد في الأرض فأصاب مالا كثيرا فانطلق فجعل سعيه وخيره لغيره فذلك مثل الشرك بالله.


٢ ـ ومثل الصلاة مثل رجل صار الى باب سلطان مهيب فظن ان لا يمكنه الكلام فأمكنه حتى تكلّم بحاجته فان شاء أعطاه وإن شاء حرمه.

٣ ـ ومثل الصدقة مثل رجل كان له أعداء فأرادوا قتله فقال ما ينفعكم قتلي كاتبوني ونجموا عليّ نجوما فكلما أديت نجما حللتم عني عقدة.

٤ ـ ومثل الصوم مثل رجل أخذ من السلاح ما أطاق حتى رأى انّه لا يصل إليه شيء من السلاح فكذلك الصوم جنّة.

٥ ـ ومثل القرآن مثل قوم في حصن ولهم قوم يطلبون غرّتهم فكلما جاءوهم وجدوهم حذرين في حصنهم فكذلك صاحب القرآن.

فعند ذلك ملك (أردشير بن بابكان) أربع عشرة سنة وعدّة شهور ، وفي ثماني سنين من ملكه قتل يحيى بن زكريا عليه السّلام ، وكان سبب قتله ان امرأة بغية كانت تختلف الى الملك وكانت إذا مرت بيحيى عليه السّلام تقول فلا يكفي فلانا من عنده ، فامتنعت من المصير الى الملك إلّا أن يقتل يحيى فبعث الملك الى يحيى فقتله وأتى برأسه ، وكان عند الملك في ذلك اليوم رقّاص ملهي ، فقال له : ادفعه إليّ فانّه كان يؤذيني. فدفعه إليه فذهب به الى منزله فانبعث الدم منه وأخذ يفور فكان ممّا رآه ان أفلت من الدم فلم يغرق فيه وطرحه في ناحية وجعل الناس يلقون عليه التراب والكناسة ، والدم يفور ويغلي حتى صار الموضع مثل الجبل العظيم. فلم يزل يفور حتى قتل يحيى سبعون ألفا ثم سكن.

وكان الذي تولّى قتله ولد الزنا ، وكذلك روي فيمن تولى قتل الحسين بن علي عليه السّلام من ابن مرجانة وغيره كانوا أولاد زنا.

وروي أن يحيى عليه السّلام كان عمره ثلاث وثلاثين سنة فلما أراد الله عز وجل أن يقبضه إليه أوحى إليه أن يجعل الامامة في ولد شمعون فأحضر ولد شمعون والحواريين من أصحاب عيسى عليه السّلام وأمرهم باتباع (منذر بن شمعون) والتصديق لما يأتي به.

وقام منذر بن شمعون بأمر الله جل وعز فعند الله ذلك ملك (سابور بن أردشير) ثلاثين سنة. وفي ثلاث عشر سنة من ملكه جاهد صاحب الزنادقة وقتله. وخرج (بخت


النصر بن ملتنصر بن بخت نصر الأكبر) وملك سبعا وثمانين سنة. وفي ثلاثة عشر سنة من ملكه سلّطه الله على من في بيت المقدس من اليهود فقتل سبعين ألفا على دم يحيى ابن زكريا عليه السّلام وأخرب بيت المقدس وتفرّق اليهود في البلدان. وفي سبع وأربعين سنة من ملكه بعث الله العزير وخرج قوم من المؤمنين هاربين من القتال فنزلوا بالقرب من جوار (العزير) فلما رآهم وسمع منهم كلام الايمان اجتباهم ثم غاب عنهم يوما أو بعض يوم ورجع إليهم فوجدهم كلّهم موتى صرعى لم ينجهم فرارهم من الموت فقال انى يحيي هذه الله بعد موتها فعند ذلك ألحقه الله بهم ميتا فلبث فيهم مائة عام ثم أحياه الله قبلهم وأحياهم بحضرته فكان ينظر الى العظام والمفاصل كيف تضاف وتجتمع كلّ مفصل الى صاحبه ثم كسيت لحما فقال (العزير) عند ذلك اعلم ان الله على كلّ شيء قدير.

ثم انّ الله جل جلاله أمر الوصي (منذر بن شمعون) أن يستودع النور وميراث الأنبياء (دانيال) عليه السّلام.

وقام دانيال عليه السّلام بالأمر بعده ومضى بخت نصر ، وملك ابنه (فهر) ـ وكان كافرا خبيثا ـ ست عشر سنة وأياما فأمر أن يتّخذ له اخدود ثم جاء بدانيال وأصحابه الصديقين فطرحهم في النار فلم تقربهم ولم تحرق منهم شيئا.

فلما رأى ذلك لا يضرّهم استودعهم الجبّ وفيه سباع ضارية فلما رأتهم السباع لاذت بهم وبصبصت حولهم.

فلما رأى ذلك عذّبهم بأنواع العذاب فخلصهم الله منه وأدخلهم جنّة وضرب لهم مثلا في كتابه (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

وكان أوحى الله إلى دانيال أن يوصي الى مكيخا ويستودعه الحكمة وكان ابنه ففعل ، وقد روي في خبر آخر ان (العزير ودانيال كانا قبل المسيح ويحيى بن زكريا عليه السّلام) وروي أن يحيى مضى في آخر أيام المسيح وبعده. ودفن دانيال بتستر وقد روي بالسوس.


وقام مكيخا ابن دانيال بأمر الله واتبعه المؤمنون من بني إسرائيل وملك «بهرام بن هرمز» ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأربعة أيام وكان زمانه زمان أمن وعدل والإمامة مكتومة. ثم ملك (بهرام بن بهرام) اثنين وعشرين سنة ، ثم ملك بعده «نرسي بن بهرام بن بهرام» ولما حضرت «مكيخا» الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع الحكمة ابنه (انشوا) فأحضره وأوصى إليه.

فقام انشوا بن مكيخا بأمر الله تعالى واتبعه المؤمنون سرّا وملك «هرمز بن نرسي» سبع سنين ثم ملك بعده ابنه «سابور» وهو أول من عقد التاج على رأسه وبنى «السوس» و «جنديسابور» ثم حكم بعده «أردشير» أخوه سنتين.

وفي ذلك الزمان بعث الله الفتية المؤمنين (أصحاب الكهف والرقيم) الذين آمنوا بربّهم وزادهم الله هدى ، وكان من قصتهم أنّهم أصابوا كتابا من كتب المسيح عليه السّلام فأقاموا عليه بأرض الروم مستخفين وهو الرقيم الذي ذكر الله جل وعز به وكان من شأنهم في بعثهم بالورق الى المدينة ليأتيهم بطعام يأكلونه ما قصّ الله جل وعز به وكان المرسل بالورق يسمّى (مكيخا) فروي انّهم كانوا يخفون الايمان ويظهرون الكفر ويصلّون في البيع مع النصارى ويشربون الخمر ويشدون في أوساطهم بالزنانير فآتاهم الله أجرهم مرّتين على إظهارهم الكفر وإسرارهم الايمان.

وحضرت «نشوا» الوفاة فأوحى الله إليه أن يوصي الى ابنه «رشيخا» فأحضره وأوصى إليه وسلّمه ما في يديه فتسلمه ومضى صلّى الله عليه.

وقام رشيخا بن انشوا بأمر الله جل وعلا واتبعه المؤمنون في ذلك الزمان وملك (بهرام جورسابور) فملك سنتين وملك بعده (يزدجرد بن سابو) احدى وعشرين سنة وكان منزله ودار ملكه «كرمان».

فلما أراد الله أن يقبض (رشيخا) أوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته والاسم الأعظم «نسطورس» فأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه مواريث الأنبياء.


وقام نسطورس بن رشيخا بأمر الله جل وتعالى فاتبعه المؤمنون في ذلك الزمان وملك (بهرام جور) ستا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأياما وهو من ولد سام بن لاوي ثم ملك بعده (يزدجرد بن بهرام) ابنه ثمان عشر سنة وثلاثة أشهر وأياما وملك بعده ابنه «فيروز» سبع عشرة سنة.

فلما حضرت «نسطورس» الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع النور «مرعيد» ابنه ففعل.

وقام مرعيد بن نسطورس بأمر الله جل وعز واتبعه المؤمنون وصار الملك الى «كسرى بن هرمز» فملك ثماني وثلاثين سنة فلما حضرت «مرعيد» الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته «بحيرا» فأحضره وأوصى إليه.

وقام بحيرا عليه السّلام بأمر الله جل وعلا واتبعه المؤمنون. وملكت في ذلك الزمان «بوران بنت كسرى» ثم ملك بعدها «يزدجرد بن كسرى» أخوها وقوي أمر الكفر في الأرض ودرس اسم الايمان ما استوجبوا العمى ونسيت الصلاة وتحيّرت الجماعة واختلفت الكلمة فعند ذلك استخلص الله تبارك وتعالى الشجرة الطيبة الطاهرة المخزونة والصفوة الخالصة والنور الزاهر سيّد الأولين والآخرين محمّدا صلّى الله عليه وآله الطاهرين.

وروي في خبر آخر أن الله جل وعز لما أراد أن يقبض يحيى بن زكريا أوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ما بطن منها وما ظهر «منذر بن شمعون» فأحضره وأوصى إليه.

فقام منذر بن شمعون بأمر الله واتبعه المؤمنون الى أن حضرته الوفاة وأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ابنه «سلمه بن منذر» فأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه.

وقام سلمة بن منذر عليه السّلام بأمر الله جل وعز واتبعه المؤمنون الى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ابنه «برزة» فأحضره وأوصى إليه.


وقام برزة بن سلمة عليه السّلام بأمر الله جل وعز واتبعه المؤمنون الى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع ويوصي الى «أبي بن برزة» ويستودعه النور والحكمة ففعل.

وقام أبي بن برزة عليه السّلام بأمر الله جل وتقدّس وتبعه المؤمنون الى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ابنه «دوس» فأحضره وسلّم إليه.

وقام دوس بن أبي عليه السّلام بأمر الله جل وعلا وتبعه المؤمنون الى أن حضرته الوفاة وأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته «أسيد» فأحضره وأوصى إليه.

وقام أسيد بن دوس عليه السّلام بأمر الله جل وعزّ وتبعه المؤمنون الى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته «هوف» فأحضره وأوصى إليه.

وقام هوف عليه السّلام بأمر الله جل وعزوتبعه المؤمنون فلما حضرته الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع ما في يديه ابنه «يحيى بن هوف» فأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه.

وقام يحيى بن هوف ـ عليه وعلى من تقدّمه السلام من النبيّين والأوصياء والأئمة أجمعين ـ بأمر الله جل جلاله الى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ومواريث الأنبياء (وأنا) وهو سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وأسماه بالعبرانية والسريانية في التوراة والإنجيل والزبور وأسماء وصيّه معروفة مشهورة لا يجحدها إلّا كافر ضال غوي شقي معاند مفتتن.

انتهى هذا القسم ويتلوه سيرة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونشأته ومهاجرته وفتوحه ومغازيه ومحنته بقومه وعشائره من قريش ليقضي الله أمرا كان مفعولا حسبنا الله ونعم الوكيل.


القسم الثاني

اتصال الحجج والاوصياء

من سيدنا محمد [ص] حتى ولادة المهدي



مولد سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم

روى الخاصة والعامة ان الله جل وعلا لما أراد أن يخلق سيّدنا محمّد أمر جبرئيل عليه السّلام أن يأتيه بالقبضة البيضاء التي هي قلب الأرض ونورها فهبط جبرئيل عليه السّلام في ملائكة الفراديس عليه وعليهم السلام فقبض قبضة من موضع قبره وهي يومئذ بيضاء نقية فعجنت بماء التسنيم وزعزت حتى جعلت كالدرّة البيضاء ثم غمست في جميع أنهار الجنّة وطيف بها في السموات والأرض والبحار وعرفت الملائكة محمّدا صلّى الله عليه وآله وفضله قبل أن تعرف آدم عليه السّلام.

ولما خلق الله تعالى آدم عليه السّلام سمع من تخطيط أثناء جبهته نشيشا كنشيش الذرّ فقال سبحانك ربي ما هذا؟.

قال الله عز وجل : هذا تسبيح خاتم النبيين وسيّد المرسلين من ولدك ولو لاه ما خلقتك ولا خلقت سماء ولا أرضا ولا جنّة ولا نارا فخذه بعهدي وميثاقي على ان لا تودعه إلّا في الأصلاب الطاهرة.

قال آدم عليه السّلام : نعم الهي وسيدي قد أخذته بعهدك وميثاقك على أن لا أودعه إلّا في المطهرين من الرجال والمحصنات من النساء. وروي أن المحصنات هن الصالحات العفائف.


قال : وكان نور رسول الله صلّى الله عليه وآله يرى في دايرة غرّة جبين آدم عليه السّلام كالشمس في دوران فلكها وكالبدر في ديجور ليله فكان آدم عليه السّلام كلّما أراد أن يتغشى حوا يتطهّر ويتطيب ويأمرها أن تفعل ذلك ويقول يا حوا تطهّري فلعلّ الله أن يستودع هذا النور المستودع ظهري عن قليل طهارة بطنك.

قال : فلم تزل حوا كذلك حتى بشّرها الله عزّ وجل بشيث أبي الأنبياء ورأس المرسلين ، وفتح لآدم وحوا نهر من الجنّة وبسط الله عليهما الرحمة واجتمعا في ذلك اليوم فحملت بشيث عليه السّلام.

وكان أبا الأنبياء عليهم السّلام فأصبح آدم عليه السّلام وذلك النور مفقود من وجهه ونظر إليه في جبهة حوا فسر بذلك وكانت حوا تزداد في كلّ يوم حسنا وكانت طير الأرض وسباع الآجام إليها يشيرون والى نورها يشتاقون.

وبقي آدم لا يقربها لطهارتها وطهارة ما في بطنها وقابلتها الملائكة كلّ يوم بالتحيات من عند ربّ العالمين وتؤتى كل يوم بماء التسنيم من الجنّة تشربه حتى خلق الله عز وجل لنور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فلم تزل كذلك حتى وضعت شيئا فنظرت الى نور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد صار بين عينيه وضرب الله بينهما وبين الملعون إبليس حجابا من النور في غلظ خمسمائة عام فلم يزل إبليس محبوسا في قرار محبسه حتى بلغ شيث سبع سنين وعمود النور بين السماء والأرض ثم لم يزل ذلك النور في الأرض ممدودا حتى أدرك شيث.

فلما أيقن آدم عليه السّلام بالموت أخذ بيد شيث وقال له يا بني ان الله أمرني أن آخذ عليك العهد والميثاق من أجل هذا النور المستودع وجهك ان لا تضعه إلّا في أطهر نساء العالمين واعلم ان ربّي جل وعز أخذ عليّ فيه قبلك عهدا غليظا.

ثم قال آدم عليه السّلام : ربّي وسيدي انّك أمرتني أن آخذ على شيث من بين ولدي جميعا عهدا من أجل هذا النور الذي في وجهه فأسألك أن تبعث إليّ ملائكة يكونون شهودا عليه.

فما استتم عليه السّلام الدعوة حتى نزل جبرئيل عليه السّلام في سبعين ألف ملك معهم حريرة بيضاء


وقلم من أقلام الجنّة فسلّم عليه وقال له ان الله يقرأ عليك السلام ويقول لك قد آن لحبيبي محمّد أن ينتقل إلى الأصلاب والأرحام الطاهرة وهذه حريرة بيضاء وقلم لك من الجنّة تشهد لك بغير كتاب فاكتب على ابنك شيث كتابا بالعهد والامانة بشهادة هؤلاء الملائكة.

وطوى الحريرة طيّا شديدا وختمها بخاتم جبرئيل عليه السّلام وكسا (شيئا) حلتين حمراوين أضوأ من نور الشمس وفي رقة لجج الماء وزوجه الله قبل أن تزول الملائكة بحوراء اهبطها له من الجنّة تسمى (نزله) فحملت ب (أنوش) فلما حملت به سمعت الأصوات من كلّ مكان «هنيئا هنيئا لك ابشري فقد أودعك الله نور محمّد المصطفى» ، وضرب لها حجابا من النور عن أعين الناس ومكايد الشيطان (لعنه الله).

وكان إبليس لا يتوجّه في وجه من الأرض إلّا نظر الى ذلك الحجاب مضروبا عليه فلم يزل كذلك حتى وضعت (أنوش) فلما وضعته نظرت الحوراء «نزله» الى نور رسول الله صلّى الله عليه وآله بين عينيه فلما ترعرع دعاه أبوه شيث فقال له : يا أبتي أمرني ربّي أن أتخذ عليك عهدا وميثاقا ، ألا تتزوج إلّا بأطهر نساء العالمين.

فحمد الله وقبل وصيته.

وأوصى انوش الى ابنه «قينان» بمثل ذلك من وصيّة آبائه عليهم السّلام.

وأوصى قينان الى ابنه «مهائيل» وأوصى مهائيل ابنه «بردا» فتزوج بردا امرأة يقال لها «برة» فحملت ب «أخنوخ» وهو إدريس ، فلما ولد إدريس نظر أبوه الى النور يلوح بين عينيه فقال : يا بني أوصيك بهذا النور كلّ الوصاية ، فقبل وصيّته وتزوّج امرأة يقال لها «بزرعا» فولدت له «متوشلخ».

وولد لمتوشلخ لمك ، كان لمك رجلا أشقر قد أعطي قوّة وبطشا فتزوج امرأة يقال لها «قنسوس» بنت «تركاسل» فولدت له نوحا وتحول إليه نور رسول الله صلّى الله عليه وآله فلما نظر الى النور في وجهه قال : يا بني ان هذا النور هو النور الذي تتوارثه الأنبياء عليهم السّلام وهو نور المصطفى محمّد صلّى الله عليه وآله ينتقل بالعهود والمواثيق الى يوم خروجه واني آخذ عليك عهدا وميثاقا ألا تتزوّج إلّا بأطهر نساء العالمين.


فقبل نوح وصيّة أبيه فتزوّج امرأة يقال لها (عمودة) وكانت من المؤمنات فولدت (ساما) وفيه نور محمّد صلّى الله عليه وآله فلما نظر نوح الى النور في وجه سام سلّم إليه تابوت آدم عليه السّلام وكان التابوت من الياقوت ويقال انّه من درّة بيضاء له بابان مغلقان بسلسلة من ذهب أحمر ابريز وعروتان من الزمرد وفيه العهد والديباجة وزوّجه امرأة من بنات الملوك لم يكن لها في الحسن شبه فولدت له «ارفخشد» وسلّم إليه التابوت فتزوج امرأة يقال لها «مرجانة» فحملت بغابر ، وهو هود النبيّ صلّى الله عليه. فلما وضعته سمعت نداء الأصوات من كل مكان «هذا نور محمّد صلّى الله عليه وآله تكسّر به الأصنام كلّها ويقتل به من طغى وكفر».

فخرج أجمل نوره جمالا وأشدّه زهرا فزوّج امرأة يقال لها (منساحا) فولدت له (فالغا) وولد لفالغ (شالخ) وولد لشالخ (ارغو) وولد لارغو (سروع) وولد لسروع (ناحور) وولد لناحور (تارخ) فتزوج امرأة يقال لها (أدنى بنت سمن) فولدت له (الخليل) إبراهيم صلّى الله عليه ، فلما ولد إبراهيم ضرب له علمان من نور ، علم في شرق الأرض وعلم في غربها فصارت الدنيا كلّها نورا واحدا وضرب له عمود من نور في وسط الدّنيا لا حق بأعنان السماء له اشراق وطنين تهتز الملائكة من حسن طنين ذلك العمود فقالت ربنا ما هذا؟. فنوديت : هذا نور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قال ورفع لإبراهيم صلّى الله عليه كما رفع لآدم من قبل ، فقال : ربي وسيدي ما رأيت لك خلقة أحسن من هذه الخليقة ولا امة من أمم الأنبياء هي أنور من هذه الامة فمن هذا؟ فنودي : هذا محمّد حبيبي أجريت ذكره قبل أن أخلق سمائي وأرضي وجعلته نبيّا وأبوك آدم مدرة بين الروح والجسد ولقد لقيته أنت في الذروة الأولى ثم أجريته في صلبك الى صلب ابنك اسماعيل.

وكان إبراهيم قد خبر سارة بخبره ان الله عز وجل سيرزقها ولدا طيّبا فطمعت في نور محمّد صلّى الله عليه وآله وكان إبراهيم صلّى الله عليه قد خبرها بعظيم نوره وبهائه فلم تزل متوقعة لذلك حتى حملت هاجر باسماعيل.

فلما حملت هاجر اغتمت سارة من ذلك غمّا شديدا فلم تزل في أشد الغم والكرب.


فلما ولدت هاجر أدرك سارة الغيرة فأخذها ما يأخذ النساء فبكت وقالت : يا إبراهيم ما لي من بين الخلق حرمت الولد؟.

قال إبراهيم عليه السّلام : ابشري وقرّي عينا فان الله منجز وعده انّه لا يخلف الميعاد.

فلم تزل سارة كذلك حتى رزقها الله اسحاق النبيّ صلّى الله عليه ، فلما نشأ وصار رجلا أدركت إبراهيم الوفاة وجمع أولاده وهم يومئذ ستة فلما نظر الى النور في وجه اسماعيل قال له : بخ بخ هنيئا لك يا اسماعيل قد خصّك الله بنور نبيّه محمّد وأنا آخذ عليك عهدا وميثاقا.

فأخذ عليه السّلام متمسكا بذلك العهد حتى تزوّج (هالة بنت الحارث) فواقعها فولدت (قيدار) وفيه نور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلما نظر اسماعيل الى النور في وجه قيدار سلّم التابوت إليه وأوصاه بدين الله وسنّته وأمره أن لا يضع النور إلّا في أطهر النساء.

وكان قيدار ملك قومه وسيّدهم وكان قد أعطي سبع خصال لم يعطها من كان قبله : القنص ، والرمي ، والفروسية ، والشدّة ، والبأس ، والصراع ، والجماع ، وكان قد تزوّج مائتي امرأة من بنات اسحاق وأقام معهنّ مائتي سنة لا يحبلهن ولا يلدن. فبينما هو ذات يوم وقد جمع قنصه إذ تلقته الوحوش والسباع والطير من كلّ مكان فنادته بلسان الآدميين : يا قيدار قد مضى عمرك وانما همّتك اللهو ولذّة الدّنيا فما آن لك أن تهتم بنور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أين تضعه ولما ذا استودعته.

فرجع قيدار الى منزله مغموما مكروبا وحلف بإله إبراهيم أن لا يطعم طعاما ولا يقرب امرأة أبدا حتى يأتيه بيان ما سمع على لسان الوحش والطير.

فلم يزل قاعدا على فلاة من الأرض إذ بعث الله إليه ملك الهواء في صورة رجل من أهل الأرض ، لم ير قيدار أحسن وجها منه وزيا وخلقا فهبط عليه السّلام فسلّم فرد عليه السلام وقعد مع قيدار وقال : يا قيدار انّك قد زيّنت بالقوّة والبأس وملكت البلاد ونقل إليك نور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وانّه كاين لك ولد من غير نسل اسحاق عليه السّلام فلو انّك نذرت نذورا وقربت لإله إبراهيم قربانا وسألته أن يبيّن لك من أين لك ذلك التزويج لكان خيرا من التواني.

ثم تركه الملك وقد عرج الى مقامه فقام قيدار من مقامه وساعته وكانت له رحمة


وجمال وبهاء وكمال ، وقرب يومئذ سبعمائة كبش أقرن من الكباش التي ورثها من إبراهيم عليه السّلام وكان كلّما ذبح كبشا جاءت نار من السماء حمراء لا دخان لها في سلاسل بيض فتأخذ ذلك القربان فتصعد به الى السماء.

فلم يزل قيدار يذبح ويقرب حتى نادى مناد : حسبك يا قيدار قد استجاب الله منك دعوتك وقبل قربانك انطلق الآن من فورك هذا الى شجرة الوعد فقم في أصلها وانته الى ما تؤمر به في المنام فافعله.

فأقبل قيدار حتى أتى الشجرة فقام في أصلها فأتاه آت في المنام فقال له : قيدار ان هذا النور الذي في ظهرك هو النور الذي فتح الله به الأبواب كلّها وخلق الدّنيا طرا من أجله واعلم ان الله جلّ اسمه لم يكن ليخزنه إلّا في الفتيات العربيات فابتغ لنفسك امرأة طاهرة من العرب وليكن اسمها (غاضرة).

فوثب قيدار فرحا فرجع الى منزله وبعث رسلا يطلبون له امرأة من العرب اسمها الغاضرة ولم يرض برسله حتى ركب جواده وأخذ السيف معه شاهرا له وجعل يستقرئ أحياء العرب وينزل على قوم ويرحل الى آخرين حتى وقع على ملك الحرمين وكان من ولد ذهل بن عامر بن يعرب بن قحطان وله بنت يقال لها الغاضرة وكانت من أجمل نساء العالمين فتزوّجها وحملها الى أرضه فواقعها فحملت بابنه (حمل) واصبح قيدار والنور مفقود من وجهه ونظر إليه في وجه الغاضرة فسر بذلك سرورا شديدا.

وكان عنده تابوت آدم عليه السّلام وكان ولد اسحاق ينازعونه في التابوت ليأخذوه وكانوا يقولون ان النبوّة قد انتقلت عنكم فليس لكم إلّا هذا النور الواحد فاعطنا التابوت.

فكان يمتنع قيدار عليهم ويقول انّه وصيّة أبي اسماعيل ولا أعطيه أحدا من العالمين.

فذهب قيدار ذات يوم ليفتح التابوت فعسر فتحه عليه وناداه مناد من الهواء : مهلا يا قيدار وليس لك الى فتح التابوت سبيل. انّك وصيّ نبيّ ولا يفتح هذا التابوت إلّا نبي فادفعه الى ابن عمّك يعقوب إسرائيل الله.

فلما سمع ذلك أقبل الى أهله وهي الغاضرة فقال لها انظري ان أنت ولدت غلاما فسمّيه حملا فأني أرجو أن يكون نسمة طيبة.


وحمل قيدار التابوت على عاتقه وخرج يريد ارض كنعان وكان يعقوب عليه السّلام بها فأقبل يسير حتى قرب من البلاد فصر التابوت صريرا سمعه يعقوب فقال لبنيه أقسم بالله حقّا لقد جاءكم قيدار فقوموا نحوه.

فقام يعقوب وأولاده جميعا فلما نظر يعقوب الى قيدار استعبر باكيا وقال ما لي أرى لونك متغيّرا وقوّتك ناقصة؟ أرهقك عدو أم أتيت معصية؟.

قال : ما أرهقني عدوّ ولا أتيت معصية ولكن نقل من ظهري نور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فلذلك تغيّر لوني وضعف ركني.

فقال : بخ بخ شرفا لك بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن الله عز وجل ليخزنه إلّا في العربيات الطاهرات يا قيدار فانّي مبشّرك ببشارة.

قال : وما هي؟.

قال : اعلم ان الغاضرة قد ولدت في هذه الليلة الماضية غلاما.

قال قيدار : ما علمك يا ابن عمي وأنت بأرض الشام وهي بأرض الحرم من تهامة.

قال يعقوب : لأني رأيت أبواب السماء قد فتحت ورأيت نورا كالقمر الممدود بين السماء والأرض ورأيت الملائكة ينزلون من السماء بالبركات والرحمة فعلمت ان ذلك من أجل محمّد صلّى الله عليه وآله.

قال : فسلّم قيدار التابوت الى يعقوب عليه السّلام ورجع الى أهله فوجدها قد وضعت حملا فلما ترعرع أخذ بيده وانطلق به يريد مكّة والمقام وموضع البيت الحرام.

فلما صار الى جبل (ثبير) تلقاه ملك الموت (صلّى الله عليه) في صورة آدمي فقال له : الى أين يا قيدار؟.

قال : انطلق بابني هذا فأريه مكّة والمقام وموضع البيت الحرام.

قال : وفّقك الله ولكن عندي ضحية فادن الي.

فدنا منه ليساره فقبض روحه من اذنه فخرّ ميتا بين يدي ابنه حمل.

قال : فغضب حمل من ذلك غضبا شديدا وقال : يا عبد الله فتكت بأبي.

قال له ملك الموت عليه السّلام : انظر الى أبيك أميت هو أم حي؟


قال : فانكبّ حمل على أبيه ليعرف حاله فوجده ميتا ، وعرج ملك الموت الى السماء فرفع حمل رأسه فلم ير ديارا ولا مجيبا فعلم انّه كان ملكا ، فقعد عند رأسه يبكي فقيّض الله له قوما من ولد اسحاق فغسلوه وكفّنوه وحنّطوه ودفن في جبل ثبير.

وبقي حمل وحيدا فكلاه الله عز وجل حتى بلغ ذكره في العزّ والشرف فتزوّج امرأة من قومه يقال لها (حريزة) فحملت بابنه (نبت) عليه السّلام وولد لنبت ولد هو «سلامان» وولد لسلامان «الهميسع» وولد للهميسع «اليسع» وولد لليسع «أدد» وانما سمّي أدد لأنّه كان ماد الصوت طويل العزّ والشرف.

وولد لأدد (أد) ، وولد لأد عدنان وإنمّا سمّي عدنان لأن أعين الأحياء كلّها كانت تنظر إليه وقالوا ان تركنا هذا الغلام حتى يدرك مدرك الرجال ليخرجن من ظهره من يسود الناس كلّهم أجمعين ، فأرادوا قتله فوكّل الله تعالى به من يحفظه فلم يقدروا على حيلة فيه فنشأ أحسن أهل زمانه خلقا وخلقا فولد له (معد) وإنمّا سمّي معدا لأنّه كان صاحب حروب وغارات على يهود بني إسرائيل ولم يواقع أحدا إلّا رجع منصورا مظفرا فجمع من المال ما لم يجمعه أحد في زمانه وولد له (نزار) ، سمّي نزارا لأن معدا نظر الى نور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في وجهه فقرب له قربانا عظيما وقال «لقد استقللت هذا القربان» فمن أجل ذلك سمّي نزارا.

فتزوج امرأة من قومه يقال لها (سعيدة) فولدت له (مضر) وإنمّا سمّي مضر لأنّه أخذ بالقلوب فلم يره أحد إلّا أحبه وكان صاحب قنص وصيد وكان كلّ رجل منهم يأخذ على ابنه كتاب عهد ألّا يتزوّج إلّا أطهر النساء في زمانه وكانت الكتب بالعهود تعلّق في البيت الحرام فلم تزل معلّقة من لدن اسماعيل (صلّى الله عليه) الى أيام الفيل. وكان أوّل من بدّلها وغيّرها وزاد فيها ونقص منها عمر بن اللحي صاحب استخراج الأصنام من الكعبة فلم يزل ذلك حتى تزوّج امرأة من قومه يقال لها (خزيمة) وتدعى أم حكيم فأولدها (الياس) وإنمّا سمّي الياس لأنّه جاء على يأس وانقطاع وكان يدعى كريم قومه وسيّدهم ويسمع من ظهره أحيانا دوي نور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم يزل كذلك حتى تزوّج امرأة يقال لها «فرعة» فولدت له «مدركة» وولد لمدركة «خزيمة» وإنمّا سمّي خزيمة


لأنّه خزم نور آبائه فلم يزل كذلك حتى تزوج «بنت طابخة» فأولدها «كنانة».

فتزوّج كنانة بامرأة يقال لها «الحافة» فأولدها «النضر» وإنمّا سمّي النضر لأن الله سبحانه وتعالى اختاره وألبسه نضرة وسمّي النضر قريشا فكلّ من ولده النضر قرشي وهو الذي قال رأيت كأنّما خرجت من ظهري شجرة خضراء حتى بلغت عنان السماء وأن أغصانها نور في نور فلما انتبهت أتيت الكعبة وأخبرت من فيها بذلك فقالوا ان صدقت رؤياك صرف إليك العزّ والكرم وخصصت بالحسب والسؤدد.

فأعطاه الله ذلك ونظر الله تبارك وتعالى نظرة الى الأرض فقال للملائكة : انظروا من أكرم أهل الأرض اليوم عندي وأنا أعلم وأحكم؟.

فقالت الملائكة : ربّنا وسيّدنا ما نرى أحدا يذكرك بالوحدانية مخلصا إلّا نورا واحدا في ظهر رجل من ولد اسماعيل.

قال : فقال الله : اشهدوا اني قد اخترته لنطفة حبيبي محمّد صلّى الله عليه وآله.

قال : فانبسط له بالعزّ والشرف حتى ولد له «مالك» وإنمّا سمّي مالكا لأنّه ملك العرب فأوصى الى ابنه «فهر» وأوصى فهر إلى ابنه «غالب» وأوصى غالب إلى ابنه «لؤي» وأوصى لؤي الى ابنه «كعب» وأوصى كعب إلى «مرّة» وأوصى مرّة إلى «كلاب» وأوصى كلاب الى «قصي» وأوصى قصي الى «عبد مناف» لأنّه أناف علا الناس وعلا فضرب الى الركبان من أطراف الأرض فأول ولد ولد له هاشم ، وإنمّا سمّي هاشما لأنّه أوّل من هشم الثريد لقومه وكان الناس في جدب شديد ومحل من الزمان وكانت مائدته منصوبة وكان يحمل ابناء السبيل ويؤمن الخائفين وكانت صفته وحليته على حلية اسماعيل عليه السّلام.

فلما خصّ الله عز وجل هاشما بالنور واصطفاه على العرب وفضّله على ساير قريش قال للملائكة اشهدوا انّي قد طهّرت عبدي هذا من دنس الآدميين وأحدثت نطفة محمّد في ظهره.

وكان يرى على وجهه كالهلال والكوكب الذي يتوقّد شعاعه ، لا يمر بشيء إلّا سجد له ، ولا يمر بأحد من الناس إلّا أقبل نحوه ، تفد إليه قبائل العرب وملوك الروم ووفود


الدّنيا من الأحياء ، ويحملون إليه بناتهم يعرضونهن عليه ، وكان يأبى ويقول : لا والذي فضّلني على أهل زماني لا تزوجت إلّا بأطهر نساء العالمين.

قال : فلم يزل كذلك حتى رأى في المنام أن يتزوّج بسلمى بنت زيد بن عمرو بن لبيد ابن خراش بن عدنان فتزوجها وكانت كخديجة بنت خويلد في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكان لها عقل ويسار وحلم فواقعها فولدت له عبد المطلب وكان هاشم خطب خطبته المعروفة بالمنذرة.

روى هارون عن زكريا الهجري عن أبي جميل البحراني باسناد له رفعه الى علي بن جعفر الصادق عليه السّلام قال سمعت أخي موسى ـ عليه السّلام وعلى آبائه ـ يقول : رأى اعرابي رؤيا لهاشم بن عبد مناف فقصّها عليه ، فقال له هاشم : سل اعطك.

قال : تجيد حلّتي وتسدّ خلّتي وتحمل وجلتي.

قال : فأمر له بناقة حمراء دريرة يتبعها من نتاجها خمسة أبطن كلّها منتج فأمر له بمائة نعجة شحمة حلوب وكساه من حلل صنعاء وعدن وقال له : لئن أخرني الله الى كون لأجعلنك سيّد العرب.

فلما كان الليل رأى هاشم في منامه كأنّه رفع إليه لواء فركزه على باب داره وكأن شهاب نار خرج من ظهره أضاءت له الدّنيا ولم يبق شيء من الجن والانس والطير والوحوش إلّا صار تحت ذلك اللواء حتى نطحت الشاة الذئب ونبح الكلب الأسد وورد ذلك الجمع كلّه شربا واحدا وسمع هاتفا يقول : يا أبا نضلة هذا بيت شعر يكتب بسطر منفرد :

على رغم آناف الذين تحزّبوا

سيظهر محمود وينصر ناصره.

فلما أصبح هاشم أمر مناديا فنادى في شعاب مكّة : يا معشر أولاد النضر بن كنانة ومن سكن بمكّة من قبايل مكّة لا يتخلفن أحد عن ندائي.

فلما اجتمع الناس وأوفت الركبان من كل مكان خرج عليهم وقد نصب له منبره المركز فجلس عليه ساكتا لا يتكلّم فقالت قريش يا أبا نضلة لأمر كان نداؤك فانبه فلقد ضاقت منه الصدور.


فقال : والله هيه عن قريب أضيق ، اذا حضرت القروم تنفخ شقّا شقا ، وخنس كل حادل يحك عجب الذنب فكيف بكم اذا صرتم كدوحة القاع أحاط بها الراعي بغنم المرعى فهي تحصد هشيم أغصانها ، فعندها تصبح تلك الأعلام سهلة محجتها ، لحافر العير وظلف المعزى ويتواضع كلّ شموخ عالي الذروة صعب المرتقى فاذا كان ذلك قرع النبع بالنبع وأرثت الزناد بجناتها وساد ذليل القوم عشيرته ، واتبع المتبوع تابعه ، واضطربت أمواج العرب. واصطكت جنادل قريش ، فثم تنكر قريش أمرها.

فقالت قريش : يا أبا نضلة ان سحابك ليرعد بغرق العشيرة فأبن القول نعلمه ، واشرح الأمر نفهمه.

قال : انّه لأمر عجيب وكاين عمّا قريب يعزّ تابعه ويذلّ دافعه ، فاذا أنار بدره ، وشدّ أزره ، وقاتل فظفر ، وغزا فنصر ، فليست مكّة لقريش ، ولتلقيه رجالات قريش تمنعها أواصر الألفة من اتباعه ، كالابل حول قليب السقي ، والله والله ليكونن ما أقول ولو أدركته اذا والله حاميت عنه محاماة الأسد عن عرينه ، وضاربت دونه مضاربة الجمل الهايج عن النوق الضبع ، فثم ترزأ الحاضن بيضها وتثكل المفردة وحيدها ويبكم خطيب العشيرة ، ويقدم كسير القطيع ، والله ليكونن وليظهرن وان رغمت منه أنف رجال ، حين يهتف بي فلا أجيب.

قال : وخرج فمات بغزّة. فرآه أبوه يوما في الحجر مكحولا مدهونا قد كسي حلّة من حلل الجنّة فبقى متحيرا لا يدري من فعل به ذلك. فأخذ بيده وانطلق به الى كهنة قريش فأخبرهم بذلك فقالوا اعلم يا أبا نضلة ان إله السماء قد أذن لهذا الغلام بالتزويج.

قال : فزوّجه (قبلة بنت عمرو بن عائشة) فولدت له الحارث فماتت ، فزوّجه بعدها هندا بنت عمرو ، وحضرت هاشم الوفاة فدعا بعبد المطلب وقال له : يا بني اجمع إليّ بني النضر كلّها عبد شمسها ومخزومها وفهرها ولؤيها وغالبها وهاشمها.

فجمعهم عبد المطلب وهو يومئذ غلام ابن خمس وعشرين سنة أطول قريش باعا وأشدّهم قوّة تفوح منه روايح المسك ويسطع من دائرة جبينه النور.

قال : فلما أبصر هاشم ذلك النور قال : معاشر قريش ، أنتم مح أولاد اسماعيل


وأولادي وقد اختاركم الله جل وعز لنفسه ، فجعلكم سكّان حرمه وبيته ، وأنا ربيبكم وسيّدكم ، فهذا لواء نزار ، وقوس اسماعيل ، وسقاية الحاج ومفاتيح الكعبة ، قد سلّمتها الى ابني عبد المطلب فاسمعوا له وأطيعوا أمره.

قال : فوثبت قريش فقبلت رأس عبد المطلب ونثروا عليه ورقا وعينا وقالوا سمعنا وأطعنا.

فكان لواء نزار وقوس اسماعيل وسقاية الحاج ومفاتيح الكعبة كلّ ذلك يجري على يديه وكانت ملوك الأطراف والأكناف جميعا تكاتبه وتهاديه وتعرف له فضله ما خلا كسرى صاحب المدائن فانّه كان معاندا مكاشفا.

وكانت قريش إذا أصابها محل أو شدّة يأخذون بيد عبد المطلب ويخرجونه الى جبل ثبير فيتقرّبون الى الله عز وجل به ويستسقون ، فكان الله عز وجل يسقيهم بنور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الغيث.

ولقد روي من نور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عجب يوم قدوم ابرهة بن الصباح الملك الذي قدم لهدم الكعبة وبيت الله الحرام فقال عبد المطلب : يا معشر قريش انّه لا يصل الى هدم هذا البيت لأنّ له ربا يحفظه.

وجاء ابرهة الملك فنزل بفناء مكّة فاستاق ابلا وغنما لقريش وأربعمائة ناقة حمراء لعبد المطلب فقام فركب في نفر من قومه فلما صار على جبل ثبير استدارت دائرة غرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على جبين عبد المطلب كالهلال وزهر شعاعها على البيت الحرام كالسراج اذا وقع على الجدار ضوء.

فلما نظر عبد المطلب الى ذلك من نفسه قال : معاشر قريش ارجعوا فقد كفيتم فو الله ما استدار هذا النور مني قط إلا كان الظفر.

ثم قصد الملك وقال الملك وقد سأله عبد المطلب في الابل والغنم : جئت لأخرّب بيته وشرفه وهو يسألني في الإبل.

فأخبر الترجمان عبد المطلب بذلك عنه ؛ قال : سألت فيما هو لي ولقومي ؛ والبيت لمن يحميه ولا يدع أحدا يصل إليه ، ومتى تهيأ له الوصول الى البيت واخرابه فليقتلني فيه.


فاشتد ذلك على (ابرهة) وقيل ان ابرهة عند ما حاصر مكّة بعث إليها رجلا من قومه يقال له حنظلة الحميري وكان شديد البأس فأقبل يسير حتى دخل مكّة فسأل عن خير الناس فقيل له عبد المطلب فلما ادخل عليه حنظلة حضر وتلجلج لسانه وخرّ مغشيا عليه يخور كما يخور الثور اذا جز.

فلما أفاق خر ساجدا له فقال : اشهد انّك سيّد قريش حقا.

قال : وكان لا يدخل مكّة أحد وينظر الى وجه عبد المطلب إلّا خرّ له ساجدا إكراما من الله جل وعز لنبيّه محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ثم أدّى رسالة ابرهة الملك الى عبد المطلب فركب في نفر من قومه فلما توسط العسكر سبقه حنظلة وجعل يسعى سعيا حثيثا حتى دخل على الملك فقال له قد جاءك سيّد قريش حقّا.

قال : وكيف علمت.

قال : لأنّي لم أر في الآدميين أجمل منه وجها ، كان صفاء لونه اللؤلؤ المكنون. واعلم انّه لم يمر بشيء إلّا خرّ له ساجدا.

فأخذ ابرهة أحسن زينته وأذن له بالدخول فلما دخل عبد المطلب على ابرهة وهو على سرير ملكه في قبّة ديباج سلّم عليه فرد ابرهة عليه السلام وقام قائما فأخذ بكلتا يديه فأقعده معه.

فأقبل الملك ابرهة ينظر الى وجهه ثم قال له هل كان في آبائك أحد له مثل هذا النور؟

قال : نعم كلّ آبائي كان لهم هذا النور.

قال ابرهة : فأنتم قوم قد فاخرتم الملوك شرفا وفخرا.

ثم التفت الى سايس الفيل الأبيض وكان عظيما أبيض له نابان مرصعان بالدرّ والجواهر كان يباهي به جميع ملوك الأرض وكان من بين الفيلة لا يسجد لابرهة فقال له : اخرجه.

فأخرجه وقد زيّن فلما نظر الفيل الى عبد المطلب برك كما يبرك البعير وخرّ ساجدا


ونادى بلسان عربيّ مبين : السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب سيّد قريش حزت العز والسناء والشرف.

فلما سمع ابرهة مقال الفيل وقع عليه الإفك وهي الرغدة فظن ان ذلك سحره فبعث من ساعته فجمع له كلّ ساحر في المملكة وقال لهم حدّثوني عن شأن هذا الفيل انّه لا يسجد لي وقد سجد لعبد المطلب.

قالت له السحرة أيها الملك ان هذا الفيل لم يسجد لعبد المطلب وإنمّا سجد لنور يخرج من ظهره في آخر الزمان يقال له محمّد يملك الأرض شرقا وغربا وبرّا وبحرا وسهلا وجبلا وتذلّ له الملوك ويدين بدين صاحب هذا البيت إبراهيم ، وملكه أعظم من ملك أهل الدنيا فتأذن لنا أيّها الملك أن نقبّل يديه ورجليه ، فأذن لهم ابرهة في ذلك.

فقامت السحرة فقبلت يدي عبد المطلب ورجليه وقام الملك متواضعا فقبّل رأسه وأمر له بأجزل الجوائز والعطايا ورد عليه وعلى عشائره من قريش ما أخذ منهم.

وعاد عبد المطلب الى مكّة فتزوج هالة بنت الحارث فولدت أبا لهب واسمه عبد العزى فخرج كافرا شيطانا وماتت هالة فتزوج بعدها عدّة من النساء وولد له عدّة أولاد.

ثم نام يوما في الحجر قال فرأيت كأنّه قد خرج من ظهري سلسلة بيضاء لها أربعة أطراف طرف منها بلغ مشارق الأرض وطرف بلغ مغاربها وطرف لحق أعنان السماء وطرف جاوز الثرى فبينما أنا أنظر إليها إذ صارت في أسرع من طرف العين شجرة خضراء لم ير الراءون أنضر منها ولا أحسن فبينما أنا كذلك فإذا أنا بشخصين بهيين قد وقفا عليّ فقلت لأحدهما من أنت؟ فقال أما تعرفني؟ قلت لا. قال : أنا أبوك نوح رسول ربّ العالمين.

وقلت للثاني من أنت؟ فقال : أنا أبوك إبراهيم خليل ربّ العالمين.

ثم انتبهت.

فقيل له ان صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السموات والأرض وليكونن في الناس علما مبينا.


فرجع عبد المطلب وبقي زمانا لا يدري بمن يتزوج حتى رأى في منامه بأن يتزوّج بفاطمة بنت عمرو بن عامر المخزومي فتزوجها وأمهرها مائة ناقة حمراء وحملت منه فولدت أبا طالب ثم حملت فولد الزبير.

وأقام على ذلك زمانا لا يزول النور عن وجهه. فلما كان يوم من الأيام رجع من قنصه في الظهيرة وهو عطشان يلهث فرأى في الحجر ماء معينا وشرب من ذلك الماء فوجد برده على قلبه ثم دخل تلك الساعة على فاطمة فواقعها فحملت بعبد الله بن عبد المطلب وهو أصغر ولده وأخو أبي طالب لأبيه وأمه فلما ولدته سر أبوه به سرورا شديدا فلم يبق أحد من احياء العرب ولا الشام إلا علم بمولده وذلك انّه كانت عنده جبّة صوف بيضاء مغموسة في دم يحيى بن زكريا عليهما السّلام وكانوا يجدون في الكتب (ان اذا رأيتم الجبّة البيضاء والدم يقطر فيها فاعلموا ان عبد الله بن عبد المطلب عليه السّلام قد ولد) فما زالوا يترقبون الجبّة على مرّ السنين حتى اذا صار عبد الله غلاما مترعرعا قدمت عليه الاحياء ليقتلوه فصرف الله كيدهم عنه فرجعوا خائبين لم يقدروا في أمره على حيلة.

وكان تجارة قريش يومئذ بأرض الشام فكان لا يقدم على احبار يهود الشام أحد من أهل الحرم وتهامة إلّا سألوه عن عبد الله بن عبد المطلب فيقول بخ بخ تركناه يزداد في قريش تلألأ وحسنا وجمالا وكمالا فيقول الأحبار : معاشر قريش ان ذلك النور ليس لعبد الله بن عبد المطلب ... ذلك النور لمحمّد نبي يخرج من ظهره في آخر الزمان يغيّر عبادة الأصنام ويزيل عبادة اللات والعزى ويبطلها.

فكانت قريش إذا سمعت بذلك يغشى عليها فإذا رجعت عادت في كفرها ثم تقول : القول كما يقولون وربّ الكعبة.

وعبد الله يومئذ أجمل أهل زمانه كلّهم قد شغف به نساؤهم حتى لقي في زمانه ما لقي يوسف الصدّيق عليه السّلام من امرأة العزيز في زمانه فقالت السحرة انّا إذا لم نغلب هذا الفتى على هذا النور الذي بين عينيه تخوفنا أن يسلب علمنا عن قليل وكهانتنا.

فكانت الكهنة تعرض أنفسها عليه مع المال الكثير فيأباهم ويقول : لا سبيل لي إلى كلامكم وكان يخبر أباه عبد المطلب بالعجائب. فقال له يوما : يا أبه اني خرجت من


بطحاء مكّة فخرج من ظهري نوران أحدهما يأخذ المشرق والآخر المغرب وان النورين استدارا في ظهري كأسرع من طرف العين.

فقال له : ان صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك خير العالمين.

وبقي عبد الله على ذلك زمانا ودهرا ليس لنساء قريش تشوّق ولا همّة غيره.

وقدم عليه بعد ذلك سبعون حبرا من يهود الشام فتحالفوا أن لا يخرجوا أو يقتلوا عبد الله فجاءوا معهم بسبعين سيفا مسقاة سمّا فجعلوا يسيرون الليل ويكمنون النهار حتى نزلوا بفناء مكّة وأقاموا. فلما كان في بعض الأيام خرج عبد الله الى الصيد وحيدا فأصاب الأحبار منه خلوة فأحدقوا به ليقتلوه فلما نظر الى ذلك وهب بن عبد مناف الزهري وهو أبو آمنة أم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أدركته الحمية فقال : سبعون رجلا يحدقون برجل واحد من أهل مكّة لا ناصر له ولا معين أشهد لأنصرنه عليهم.

قال : فحمل من مكانه لنصرة عبد الله على اليهود فحانت منه التفاتة فنظر الى رجال لا يشبهون رجال الدّنيا ينزلون على الأرض من السماء فحملوا على اليهود فقطعوهم إربا إربا.

فلما نظر وهب الى ذلك رجع إلى أهله مبادرا فخبرها بالخبر وقال انطلقي الى عبد المطلب فاعرضي عليه ابنتك لابنه عبد الله لعلّه يتزوّجها قبل أن يسبقنا إليه قوم آخرون فتكون الحسرة الكبرى والمصيبة العظمى.

فجاءت (برة) الى عبد المطلب فعرضت ابنتها عليه وهي (آمنة) فقال عبد المطلب : لقد عرضت امرأة لا يصلح لا بني من النساء غيرها. فزوّجها إيّاه على مائة ناقة حمراء فلما ابتنى عبد الله (بآمنة) مرض نساء قريش وتلف خلق منهنّ ومن غيرهن أسفا إذ لم يتزوجهن عبد الله.

وأعطى الله عز وجل آمنة بنت وهب من النور والجمال والبهاء والكمال ما كانت تدعى سيدة قومها.

وبقي عبد الله على ذلك سنين ونور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم بين عينيه لا يخرج الى بطن زوجته حتى أذن الله عز وجل لذلك النور أن ينزل من ظهر عبد الله الى بطن آمنة في ذي الحجة


عشيّة عرفة وليلة جمعة وأمر الله تبارك وتعالى رضوان خازن الجنّة عليه السّلام أن يفتح أبواب الجنّة وفتحت أبواب السماء والفراديس كلّها وبشّرت الأرض بأن النور المكنون منه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الليلة يستقر في بطن آمنة امّه.

وأصبحت يومئذ أصنام قريش وأصنام الدّنيا كلّها منكوسة مصفدة فيها شياطينها وأصبح عرش إبليس اللعين منكوسا أربعين يوما وأفلت محترقا هاربا حتى أتى جبل أبي قبيس فصاح صيحة اجتمع إليه كلّ شيطان مريد فقالوا لسيّدهم ما ذا الحال؟.

فقال : ويلكم هلكتم بهذه المرّة هلاكا لم تهلكوا مثله قط.

قالوا : ما القصة؟.

قال : هذا محمّد مبعوث بالسيف القاطع الذي لا حياة بعده. امّته امة هي التي ألعنني ربي من أجلها وجعلني شيطانا رجيما ، يظهرون الوحدانية ولا يشركون بربّهم شيئا ، وسيأتي من هذا النبي ومن امّته ما يسخن عيني وقلبي فإلى أين المفر والملجأ؟

فقالت له عفاريته : طب نفسا وقرّ عينا فان الله جل وعز خلق ذرية آدم على سبعة أطباق ولكلّ طبق منهم جزء مقسوم وقد مضت ستة أطباق وكانوا أشدّ من هؤلاء وأكثر جمعا وأولادا وقد استوثقنا منهم ولا بد من أن نستوثق من في الطبق السابع.

قال إبليس : فكيف تقدرون عليهم وفيهم الخصال الجميلة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟.

قالت العفاريت : نأتي العالم من جهة علمه والجاهل من جهة جهله وصاحب الدّنيا من جهة الدّنيا ونأتي الزاهد من جهة زهده وصاحب الزنا من زنائه.

قال إبليس : انّهم يعتصمون بالله وحده.

قالت العفاريت : فان اعتصموا بالله ثبتنا فئة الأهواء الضالة المضلّة.

فضحك إبليس وقال : أقررتم عيني.

وكانت قريش في جدب جديب من الزمان ومحل وقحط فسمّيت السنة التي فيها حمل رسول الله صلّى الله عليه وآله سنة الفتح والاستبهاج وذلك ان الأرض في تلك السنة اخضرت وحملت الأشجار ووافاهم الوفود من كلّ مكان فخصبت مكّة وأكنافها خصبا


عظيما.

وكان عبد المطلب إذ ذاك يستسقى به قبل أن ينتقل منه النور الى ابنه عبد الله.

ما روي من يعقوب بن جعفر بن سليمان الهاشمي عن جدّه قال حدّثني أبي عن عبد الله عن عباس عن أبيه عبد الله بن عباس قال : قحطت بلاد قيس وأجدبت جدبا شديدا فلم يصبهم سماء يعقد الثرى ولا ينبت الكلإ فذهب اللحم وذاب الشحم وتهافتوا ضرّا وهزلا فاجتمعت قيس للمشورة واجالة الرأي وعزموا على الرحلة وانتجاع البلدان فقالت فرقة منهم : معشر قيس عيلان انّكم أصبحتم في أمر ليس بالهزل هذا أمر عظيم خطره ، بعيد منظره وقد بلغنا ان عبد المطلب سيّد البطحاء استسقى فسقي ودعا فأجيب وشفع فشفع فاجعلوا قصدكم إليه واتكالكم عليه واستشفعوا به كما استشفع به غيركم.

فقالوا : أصبت الرأي.

فأتوا عبد المطلب وقالوا : افلح الوجه أبا الحارث ، نحن ذوو أرحامكم الواشجات أصابتنا سنون مجدبات أهزلن السمين وأفقرن المعين وقد بلغنا خبرك وبان لنا أثرك فاشفع لنا إلى مشفعك.

فقال لهم : موعدكم جبل عرفات.

ثم خرج في بنيه وبني بنيه حتى أتى جبل عرفات فرفع عبد المطلب يديه ثم قال ، اللهم ربّ الريح العاصف والبرق الخاطف ، والرعد القاصف ، منشئ السحاب ، ومالك الرقاب وخالق الخلق ، ومنزل الرزق والحق ، هذه مضر ، خير البشر ، تشكو شدّة الحال ، وكثرة الامحال ، قد احدودبت ظهورها ، وشعثت شعورها ، وهزل سمينها ونضب معينها ، وغارت عيونها ، وقد خلفوا نشأ ظلعا ، وبهائم رتعا ، وأطفالا رضّعا ، اللهم فاتح لهم ريحا خرارة ، وسحابة درارة ، تضحك أرضهم وتذهب ضرّهم.

قال : فما برحوا حتى نشأت سحابة دكناء فيها دوي شديد.

فقال عبد المطلب : ايه. هذا أوان خريرك فسحي.

ثم قال : ارجعوا معاشر قريش فقد سقيت أرضكم.


فرجعوا وقد فعل الله بهم ذلك ، فأنشأ أبو طالب يقول شعرا :

أبونا شفيع الناس حين سقوا به

من الغيث رجاس العشير بكور

ونحن سنين المحل قام شفيعنا

بمكّة يدعو والمياه تغور

فلم تبرح الأقدام حتى رأوا بها

سحابات مزن صوبهن درور

وقيس أتتنا بعد أزم وشدّة

وقد عضّها دهر أكب عثور

فما برحوا حتى سقى الله أرضهم

بشيبة غيثا فالنبات نضير

وكان صاحب أحكام قريش يخرج في كلّ يوم فيطوف بالبيت وكان ينظر الى جمال شخص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ممثلا بين عينيه كأنّه قطعة نور فكان يقول : معاشر قريش اني إذا خرجت أطوف أنظر الى جمال شخص بين عيني كأنّه النور.

فتقول قريش : ولكنّا نحن لا نرى مثل ما يرى عبد المطلب.

قال ابن عباس : فكان من دلايل حمل محمّد صلّى الله عليه وآله ان كلّ دابة كانت لقرشي نطقت في تلك الليلة بأن قالت : حملت بمحمّد بربّ الكعبة وهو أمان الدنيا وصلاح أهلها.

ولم تبق كاهنة في قريش إلّا حجب عنها صاحبها وانتزع علم الكهانة منها ومرّت وحش المشرق الى وحش المغرب بالبشارات وكذلك أهل البحار بشّر بعضهم بعضا بحمله صلّى الله عليه وآله.

وروي عن العالم عليه السّلام انّه قال : لما أراد الله عز وجل أن يظهر سيّدنا محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أنزل قطرة من تحت العرش فألقاها على ثمرة من ثمار الأرض فأكلها أبوه فلما واقع آمنة وصارت في الموضع الذي خلقه الله جل وعلا فيه ومضى لها أربعون يوما سمع الصوت في بطن امّه فلما مضى له أربعة أشهر كتب على عضده الأيمن (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، فلما ظهر بأمر الله جل وعز رفع له في كلّ بلدة عمود من نور ينظر به الى أعمال العباد.

وروي عن آمنة بنت وهب انّها قالت لما قربت ولادته صلّى الله عليه وآله وسلّم : رأيت جناح طاير أبيض قد مسح على فؤادي وكان قد دخلني رعب فذهب الرعب عني وأتيت بمشربة بيضاء كأنّها لبن وكنت عطشى فناولنيها مناول فشربتها فأضاء مني نور عال ثم رأيت


نسوة كأطول النخل يحدّثنني فعجبت وجعلت أقول في نفسي : من أين علم هؤلاء بموضعي. ثم اشتد بي الأمر وأنا أسمع الوجبة في كلّ وقت حتى رأيت كالديباج الأبيض قد ملأ ما بين السماء والأرض وقائل يقول «خذوه من أعين الناس» ثم رأيت رجالا وقوفا في الهواء بأيديهم أباريق ثم كشف الله لي عن بصري ساعتي تلك فرأيت مشارق الأرض ومغاربها ورأيت ثلاثة أعلام منصوبة علما في المشرق وعلما في المغرب وعلما على ظهر الكعبة ثم خرج صلّى الله عليه وآله ، فخرّ ساجدا لله جلّ ذكره ورفع أصبعه إلى السماء كالمتضرع المبتهل ورأيت سحابة بيضاء تنزل من السماء حتى غشيته وسمعت مناديا ينادي : طوفوا بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم شرق الأرض وغربها والبحار ليعرفوه بصورته واسمه ونعته.

ثم تجلّت عنه الغمامة وإذا أنا به في ثوب أبيض أشدّ بياضا من اللبن وتحته حريرة خضراء وقد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب وقائل يقول : قبض محمّد صلّى الله عليه وآله على مفاتيح الجنّة ومفاتيح النصر ومفاتيح النبوّة ومفاتيح الريح.

ثم أقبلت سحابة اخرى أنور من الاولى وسمعت مناديا ينادي : طوفوا بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم المشرق والمغرب واعرضوه على روحاني الانس والجن والطير والسباع واعطوه صفاء آدم ورقّة نوح وحلّة إبراهيم ولسان اسماعيل وجمال يوسف وبشرى يعقوب وصوت داود وصبر أيوب وزهد يحيى وكرم عيسى.

ثم انكشف عنه فإذا انا به وبيده حريرة خضراء قد طويت طيّا شديدا وقد قبض عليها وقايل يقول : قد قبض محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم على الدّنيا كلّها لم يبق شيء إلّا دخل في قبضته.

ثم أتاني ثلاثة نفر كأن الشمس تطلع من وجوههم في يد أحدهم ابريق فضّة رايحته كالمسك وفي يد الثاني طشت من زمرد خضراء لها اربعة جوانب في كلّ جانب لؤلؤة بيضاء يقول : هذه الدّنيا فاقبض عليها يا حبيب الله.

فقبض على وسطها فقال قائل : قبض على الكعبة.

ورأيت في يد الثالث حريرة بيضاء مطوية نشرها وأخرج منها خاتما تحار أبصار الناظرين فيه ثم حمل ابني فغسل بذلك الماء من الابريق سبع مرات ثم ختم بين كتفيه


بالخاتم ولفّف في الحريرة وادخل بين أجنحتهم ساعة.

وروي عن العالم عليه السّلام : ان الفاعل به ما فعل من الغسل (رضوان) عليه السّلام ثم انصرف وجعل يلتفت إليه ويقول : ابشر يا عز الدّنيا وشرف الآخرة.

وولد صلّى الله عليه وآله وسلّم طاهرا مطهّرا (وروي) ان الوصي الذي كان هو صاحب الزمان في ذلك الوقت هو أبي فلما ولد صلّى الله عليه وآله خبر ثقاته بأمره ثم صار بابا له عليه السّلام وكان ذلك الوصي حجّة له في الظاهر وبابا في الباطن لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم تكن له حجّة عليه قط ولا كان إلّا حجّة فكان صلّى الله عليه وآله وسلّم منذ وقت ولادته الى ان نطق بالرسالة حجّة على الوصي وعلى ثقات الوصي وذلك الوصي حجّة على الخلق في الظاهر وباب السيّد عليه السّلام محجوب به في الباطن.

وروي عن عبد المطلب انّه قال : كنت في ليلة ولادة ابني محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في الكعبة أؤم من البيت شيئا فلما انتصف الليل إذا أنا ببيت الله الحرام قد استمال بجوانبه الأربعة وخرّ ساجدا في مقام إبراهيم عليه السّلام ثم استوى كما كان. فسمعت منه تكبيرا عظيما الله أكبر الله أكبر ربّ محمّد المصطفى الآن طهرني الله ربّي من أنجاس المشركين ورجسات الجاهلية. ثم انتقضت الأصنام كما تنتقض البيوت فكأني أنظر الى الصنم الأعظم (هبل) وقد انكسف فلما رأيت البيت وفعلها لم أدر ما أقول وجعلت أحسر عن عيني وأقول انّي لنائم ثم أقول كلا اني ليقظان ثم انطلقت الى بطحاء مكة وخرجت فإذا أنا بالصفا تتطاول والمروة ترتج واذا أنا أنادى من كلّ جانب : يا سيد قريش ما لك كالخائف الوجل؟ أمطلوب أنت؟.

ولا أخبر جوابا إنمّا همّتي آمنة حتى أنظر الى ابنها محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإذا أنا بطير الأرض حاشرة إليها وإذا أنا بجبال مكّة مشرفة عليها وإذا أنا بسحابة بيضاء بازاء حجرتها فلما رأيت ذلك دنوت من الباب فاطلعت فإذا أنا بآمنة قد غلقت الباب على نفسها ليس بها أثر النفاس والولادة فدققت الباب فأجابت بصوت خفي. فقلت : عجّلي وافتحي الباب.

فأوّل شيء وقعت عيني عليه وجهها فلم أر موضع نور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقلت : أنا نائم يا آمنة أم يقظان؟.


قالت : بل يقظان. ما لك كالخائف الوجل؟ أمطلوب أنت؟.

قلت : لا ولكني منذ ليلتي في كلّ ذعر وخوف. وما لي لا أرى النور الذي كنت أراه بين عينيك ساطعا؟.

قالت : قد وضعته.

قلت : وكيف وليس بك أثر نفاس؟ وما أنكر من أمرك شيئا.

قالت : بلى قد وضعته أتمّ الوضع وأطيبه وأسهله وهذه الطير التي تراها بإزائي تنازعني أن أدفعه إليها فتحمله إلى أعشاشها ، وهذه السحاب تسألني مثل ذلك.

قال عبد المطلب : فهاتيه حتى أنظر إليه.

قالت آمنة : حيل بينك وبينه أن تراه لأنّه أتاني آت كأنّه قضيب فضة أو كالنخلة الباسقة فقال لي : انظري يا آمنة لا تخرجيه الى خلق من ولد آدم حتى يأتي عليه منذ ولدته ثلاثة أيام.

فغضب عبد المطلب من قولها وقال : تخرجينه إليّ أو لأقتلنّ نفسي.

فلما رأت الجدّ منه قالت : شأنك وإيّاه ، هو في ذلك البيت مدرج في ثوب صوف أشدّ بياضا من اللبن تحته حريرة خضراء ..

قال عبد المطلب : فقصدت لألج الباب ، فبدر الي من داخله رجل فقال لي : مكانك وارجع فلا سبيل لأحد من ولد آدم إلى رؤيته ثلاثة أيام أو تنقضي زيارة الملائكة له.

قال : فارتعدت جوارحي وخرجت مبادرا لأخبر قريشا بذلك ، فأخذ الله عز وجل بلساني فلم أنطق بخبره سبعة أيام بلياليها.

وروي ان السيد محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ولد مع طلوع الفجر من يوم الاثنين مطهّرا ـ وروي يوم الجمعة ـ لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول في عام الفيل وهو عام الفتح ـ وهو أصحّ ـ فعظمت قريش في العرب وسمّوا آل الله جل جلاله.

ودفعه عبد المطلب الى حليمة بنت أبي ذويب ، وكان من حديثها في ارضاعه ما رواه الناس وشرح في كتاب الدلائل لنبوّته صلّى الله عليه وآله وسلّم ودلايله في نحو مائتي ورقة بروايات المشايخ الثقات.


ومات أبوه وأمّه وهو صلّى الله عليه وآله صغير السن وكفله جدّه عبد المطلب مدّة قليلة ثم عمّه أبو طالب الى أن بعث وأمره الله تعالى بإظهار أمره وتبليغ رسالاته.

فروي عن العالم عليه السّلام انّه قال : ان الله جلّ وعلا أيتم نبيّه صلّى الله عليه وآله لئلا تكون عليه رئاسة لأحد من الناس.

ثم نشأ فكان من خبره مع عمّه أبي طالب ما قصّ به من حديثه وخدمة زوجته فاطمة بنت أسد له ، وكان من قصّة اليهود وطلبهم إيّاه ومن خبر خروج السيّد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع عمّه أبي طالب واجتيازه ببحيرا الراهب في طريق الشام ونزوله من صومعته لما رأى الغمامة قد أظلّت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وما ظهر من الدلالة في تلك الحال حتى أطعمهم الطعام وما كان من خبر تزويجه بخديجة عليهما السّلام وهو ابن نيف وعشرين سنة وما خطب به أبو طالب حيث زوّجه بها ، الى غير ذلك ممّا ظهر من كلام الشجر والمدر والحصى له ودعوتهم إيّاه بالرسالة في حال صغر سنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وصلاته وصيامه وحجّه على خلاف ما كانت قريش تعمله وانكارهم ذلك ما أتت به الأخبار ورواه الرواة من كافّة الناس.

الوحي

فلما أراد الله جل تعالى جلاله أن يتمّ نوره ويظهر برهانه وأتت له أربعون سنة ـ وقبل ذلك كان نبيّا مستخفيا ـ أمر الله عز وجل جبرئيل عليه السّلام أن يهبط إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم بإظهار الرسالة فقال له ميكائيل عليهما السّلام : أين تريد؟.

فقال له : لقد بعث الله جل وعلا نبيّ الرحمة فأمرني أن أهبط إليه بإظهار الرسالة.

فقال له ميكائيل : فأجيء معك؟.

قال له : نعم.

فنزلا فوجدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نائما بالأبطح ، بين أمير المؤمنين علي وبين جعفر ابني أبي طالب عليهما السّلام فجلس جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ولم ينبهاه إعظاما له وهيبة فقال ميكائيل له : إلى أيّهم بعثت؟.

فقال : إلى الأوسط.


فأراد أن ينبهه فمنعه جبرئيل عليه السّلام فانتبه أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له : تنبّه ابن عمّك؟.

فنبهه فأدّى جبرئيل الرسالة إليه عن الله جل جلاله.

فلما نهض جبرئيل ليقوم ، أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بثوبه وقال : ما اسمك؟.

قال : جبرئيل.

فنهض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلحق بغنمه ، فلم يمر بشجرة ولا مدرة إلّا سلّمت عليه وهنأته بالرسالة.

وكان جبرئيل عليه السّلام يأتيه فلا يدنو منه إلّا بعد أن يستأذن عليه ، فأتاه يوما وهو بأعلى مكّة بناحية الوادي فغمز بعقبه فانفجرت عين فتوضأ جبرئيل عليه السّلام وتطهّر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للصلاة ثم صلّى وهي أول صلاة صلّاها في الأرض فرضها الله جل وعز.

وصلّى أمير المؤمنين عليه السّلام تلك الصلاة مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فرجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من يومه الى خديجة عليها السّلام فأخبرها فتوضّأت وصلّت صلاة العصر من ذلك اليوم ، فكان أول من صلّى من الرجال أمير المؤمنين عليه السّلام ومن النساء خديجة.

وأعطى الله جلّ ذكره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جميع ما أعطى الأنبياء المرسلين والملائكة المقرّبين وعلّمه جميع الكتب المنزلة والصحف على الأنبياء وأنزل عليه الكتاب والحكمة وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين.

وروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال : أعطيت ما أعطي النبيّون والمرسلون جميعا وأعطيت خمسة عشر لم يعطها أحد : نصرت بالرعب ، وجعل لي ظهر الأرض مسجدا وطهورا ، وأعطيت جوامع الكلم ، وفضلّت بالغنيمة ، وأعطيت الشفاعة في أمّتي.

وأعطاه الله عز وجل كلّما أعطى الأنبياء من المعجزات والآيات والعلامات وفضل بما لم يؤته أحدا منهم.


حديث الدار

ثم أنزل الله جلّ وتعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فجمع صلّى الله عليه وآله بني هاشم وهم في ذلك الوقت أربعون رجلا من المشايخ الرؤساء ، فأمر أمير المؤمنين عليه السّلام فاطبخ لهم رجل شاة وخبز لهم صاعا من طعام ثم ادخل إليه منهم عشرة ، فأكلوا حتى تصدروا ثم جعل يدخل إليه عشرة بعد عشرة حتى أكلوا وشربوا جميعا وشبعوا ، وان فيهم من يأكل الجذعة ويشرب الزق.

وروي أنّه أمر بشاة فذبحت لهم فأكلوا منها ثم أمر بجمع أهابها وعظامها ثم أحياها ثم أنذرهم ودعاهم الى نبوّته وقال لهم : قد بعثني ربي جل وعز الى الإنس والجن والأبيض والأسود والأحمر.

وروي انّه قال لهم : ان الله جل وتعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين واني لا أملك لكم من الله حظّا إلّا أن تقولوا «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله».

فقال أبو لهب له : ألهذا دعوتنا؟

ثم تفرّقوا عنه فأنزل الله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) ... السورة.

وروي انّه دعاهم ثانية فأطعمهم وسقاهم جميعا لبنا من عس واحد حتى تصدروا ثم قال لهم : يا بني عبد المطلب أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكّامها. ان الله عز وجل لم يبعث نبيا قط إلّا جعل له وصيّا وأخا ووزيرا فأيّكم يكون أخي ووصيي ومؤازري وقاضي ديني؟.

فأبوا قبول ذلك وقالوا : ومن يطيق ما تطيقه أنت؟.

فقام إليه أمير المؤمنين عليه السّلام وهو أصغرهم سنّا فقال له : أنا يا رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فقال له : أنت لعمري تقبل ما قلت وتجيب دعوتي.


ولذلك كان وصيّه وأخاه ووارثه دونهم.

وفي رواية اخرى : انّه صلّى الله عليه وآله جمع عشيرته من بني هاشم وهم خمسة وأربعون رجلا فيهم عمّه أبو لهب فظنّوا انّه يريد أن ينزع عمّا دعا إليه.

فقال له من بينهم أبو لهب : يا محمّد هؤلاء عمومتك وبنو عمومتك قد اجتمعوا فتكلّم بما تريد واعلم انّه لا طاقة لقومك بالعرب.

فقام صلّى الله عليه وآله فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه كثيرا وذكّرهم بأيام الله جلّ ذكره والقرون الخالية من الأنبياء ـ صلّى الله عليهم ـ والجبابرة والفراعنة ووصف لهم الجنّة والنار ثم قال :

«ان الرايد لا يكذب أهله. والله الذي لا إله إلّا هو ، اني رسول الله إليكم حقّا وإلى الناس كافة. والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن كما تعلمون ولتجزون سرمدا وانّكم أوّل من أنذره».

وروي انّهم اجتمعوا إليه صلّى الله عليه وآله فقالوا له : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف ـ يعنون من ذهب ـ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك ، والله لو فعلت ذلك ما كنّا ندري أصدقت أم لا.

ثم آمن من بعد أمير المؤمنين عليه السّلام قوم من عشيرته ، أولهم : جعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب.


تآمر قريش ، ومعجزاته [ص]

واجتمعت قريش في دار أبي سفيان صخر بن حرب (وسمّيت دار الندوة للتدبير والمشاورة) وكتبوا بينهم صحيفة بخط معاوية وهو حدث أخذوا فيها الايمان الفاجرة الكافرة وحلفوا جميعا باللات والعزى ان لا يكلّموا بني هاشم ولا يبايعوهم أو يسلموا إليهم محمّدا صلّى الله عليه وآله فيقتلوه.

ثم أخرجوهم من بيوتهم حتى نزلوا شعب أبي طالب ووضعوا عليهم الحرس فمكثوا كذلك ثلاث سنين.

ثم بعث الله الارضة على الصحيفة فكان من حديثهم ما رواه الناس وكان من آيات رسول الله صلّى الله عليه وآله ما بهر العقول من أمر الحصاة ، وشقّ القمر ، ودعاء الشجر ، وكلام الوحش والبهائم والطير ، واخبارهم بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم ، ونبع الماء من بين اصابعه ، الى غير ذلك من آياته ومعجزاته صلّى الله عليه وآله مما قد روي.

المعراج

وأنزل الله القرآن في ليلة من ليالي شهر رمضان دفعة واحدة ثم أوحى الله إليه : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه.

وأتاه جبرئيل عليه السّلام ليلا ـ وهو بالأبطح ـ بالبراق ، وهو أصغر من البغل وأكبر من الحمار فركبه صلّى الله عليه وآله وأمسك جبرئيل عليه السّلام بركابه ومضى يزفّه زفا الى بيت المقدس ثم الى السماء فتلقته الملائكة فسلّمت عليه وتطايرت بين يديه حتى انتهى الى السماء السابعة ، فروي ان الأنبياء بعثوا إليه ودفعوا له ذلك الموضع حتى صلّى بهم وأمّهم ثم أوحى الله إليه : ان كنت في شكّ ممّا أوحينا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ـ يعني الأنبياء.

فالتفت إليهم فقال : بما ذا تشهدون؟.


فقالوا : نشهد أن لا إله إلّا الله وانّك رسول الله وان عليّا ابن عمّك وصيّك أمير المؤمنين.

وروي في خبر آخر انّه قال : لا أشكّ يا ربّ ولا أسأل.

ثم روي : انّه عرج به الى السماء السابعة حتى كان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى وان الحجب رفعت له ومشى فنودي : يا محمّد انّك لتمشي في مكان ، ما مشي عليه بشر قبلك.

فكلّمه الله جل وعلا فقال : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) فقال النبيّ : نعم يا ربّ (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

فقال الله جل وعلا : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) ... الى آخر السورة.

فقال الله جل وعز له : قد فعلت.

ثم قال له : من لأمّتك من بعدك؟.

فقال : الله أعلم.

فقال : علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السّلام.

فكانت إمامته من الله مشافهة ..

وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله انّه قال : ان الله جل وعلا لمّا عرج بي إليه مثل لي امتي في الطين من أوّلها إلى آخرها ، فأنا أعرف بهم من أحدكم بأخيه وعلّمني الأسماء كلّها.

وفرض على امته الصلاة في تلك الليلة ، وروي انّه كان بعد مبعثه بخمس سنين ففرضت خمسين ركعة ثم ردت الى سبع عشرة ركعة تخفيفا عن امّته.

وروي احدى عشرة ركعة ففرض رسول الله صلّى الله عليه وآله ست ركعات وأضافها الى تلك وهي التي تسقط في السفر.


وروي ان الله جل وعز فرض على امته بعد الصلاة الصيام ثم فرض زكاة الفطرة ثم زكاة الأموال ثم الحج بعد الفرائض ثم الجهاد ثم ختم جميع ذلك بالولاية.

ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وكان فقده في تلك الليلة أبو طالب ولم يزل يطلبه ووجّه الى بني هاشم ان البسوا السلاح فقد فقدت محمّدا صلّى الله عليه وآله.

فخرج بنو هاشم سوى أبي لهب فانّه كان حليف بني عبد شمس بن أميّة وأشدّ الناس عداوة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وصاهر أبا سفيان باخته حمالة الحطب ، وأبو طالب يقول : يا لها من عظيمة ان لم أر ابني رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فبينما هو كذلك إذ تلقاه السيّد صلّى الله عليه وآله وقد نزل من السماء على باب أم هاني اخت أمير المؤمنين عليه السّلام.

فقال له أبو طالب : انطلق معي فادخل المسجد بين يدي.

فدخل ومعه بنو هاشم فسل سيفه أبو طالب عند الحجر ثم قال : يا بني هاشم اظهروا ما معكم.

فاخرجوا السلاح ثم التفت الى بطون قريش فقال : والله لو لم أره لما بقي فيكم عين تطرف.

فقالت قريش : يا أبا طالب لقد كنت منّا عظيما.

واتقته قريش بعد ذلك اليوم أن تفكر في اغتياله.

وأصبح السيّد صلّى الله عليه وآله فصلّى بالناس وحدّثهم بحديث المعراج فقالوا : صف لنا بيت المقدس ، فرفعه جبرئيل عليه السّلام حتى جعله تجاهه وجعل يراه ويحدّثهم بصفته حتى حدّثهم بخبر عير أبي سفيان والجمل الأحمر الذي يقدمها.

فكذّبوه وقالوا : هذا سحر مبين.

وأقام صلّى الله عليه وآله بمكة يدعو الناس سرّا وجهرا فأجابه المؤمنون وجحده من حقت عليه كلمة العذاب.


الهجرة والمبيت

واجتمعت قريش في دار الندوة يأتمرون في قتله ، فاتاهم إبليس في صورة شيخ من مضر فاستقرت آراؤهم بمشورة اللعين أن يخرج كلّ بطن منهم رجلا بأسيافهم فيضربوه ضربة رجل واحد وذلك في السنة التي توفي فيها أبو طالب وتوفيت خديجة عليها السّلام.

فأخبر الله رسوله بذلك وأمره بالخروج عن مكّة الى المدينة وان ينوم أمير المؤمنين عليه السّلام على فراشه ، ففعل.

وكان من قصته في خروجه وحديث الغار وهجرته الى المدينة ما رواه الناس ، فروي ان الله جل وتعالى واخى بين ملائكته المقربين ، فواخى بين جبرئيل وميكائيل ثم أوحى إليهما : ان كتبت على أحدكما نائبة أو محنة عظيمة هل فيكما من يقي أخاه بنفسه؟.

فقالا : نعم يا ربّ.

فأوحى الله إليهما : ان كتبت على أحدكما الموت قبل أخيه ، هل فيكما من يبذل مهجته ويفدي أخاه بنفسه؟.

قالا : لا يا رب.

فأوحى الله إليهم : اهبطا الى الأرض فانظرا.

فهبطا فوجدا أمير المؤمنين عليه السّلام نائما على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله قد وقاه بنفسه من المشركين. فقالا : بخ! بخ! هذه المواساة بالنفس.

وكان من حديث هجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله الى المدينة ما كان. ودخل مسجد قبا واجتمع إليه جمع من المسلمين ثم ركب راحلته عليه السّلام متوجها الى المدينة فاستقبله الأنصار وقالوا : هلم إلينا يا رسول الله الى العدّة والعدد والنصر والمواساة.

وجعلوا يتعلقون بزمام ناقته فقال عليه السّلام : خلّوا عنها فانّها مأمورة.

حتى انتهت الى اسطوانة الخلوق فأمر باحضار الحجارة ثم نصبها في قبلة المسجد. وروي ان هجرته كانت في شهر ربيع الأول.


الدعوة

وأمره الله جل وعز باشهار سيفه واظهار الدعوة والجهاد لأعداء الله وأعداء دينه ، فكتب الى ملوك الطوائف وجميع النواحي يدعوهم الى توحيد الله عز وجل جلاله والى نبوّته.

ثم عبأ جيشه لغزاة بدر ـ وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ـ فغزاهم فأظهره الله على المشركين ، فقتل منهم وسبى وأسر.

ثم لم يزل يفتح البلدان عنوة وصلحا ، وكان عدد الغزوات تسعا وعشرين غزوة وعدد سراياه نحو ثمانين سرية الى أن فتح مكّة ، وكان من حديثه ما رواه الناس.

حجة الوداع

ثم حجّ رسول الله صلّى الله عليه وآله في سنة عشر من الهجرة فاذن في الناس بالحجّ وكان خروجه لخمس ليال بقين من ذي القعدة. وأحرم (من ذي الحليفة). وقضى مناسكه صلّى الله عليه وآله في ذي الحجة وانصرف ..

فلما صار بوادي خم نزل عليه الوحي في أمير المؤمنين عليه السّلام آية العصمة من الناس وقد كان الأمر قبل ذلك يأتيه فيتوقف انتظارا لقول الله عز وجل (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فلما نزلت قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه كثيرا ثم نصب أمير المؤمنين عليه السّلام علما وقيّما مقامه بعده. وكان من حديث غدير خم ما رواه الناس ثم انصرف في آخر ذي الحجة.

وروي ان الله عز وجل علم نبيّه كل ما كان وما هو كائن الى يوم القيامة ثم فوّض إليه أمر الدين والشرائع فقال : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وقال : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ).

ثم وصفه الله عز ذكره بما لم يصف به أحدا من أنبيائه وجميع خلقه فقال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).


وروي ان الاسم الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا ، أعطى الله آصف بن برخيا منه حرفا واحدا فكان من أمره في عرش بلقيس ما كان ، وأعطى عيسى منه حرفين فعمل بهما ما قص الله به ، وأعطى موسى أربعة أحرف ، وأعطى إبراهيم ثمانية أحرف ، وأعطى نوح خمسة عشر حرفا ، وأعطى محمّدا صلّى الله عليه وآله اثنين وسبعين حرفا واستأثر الله جل وتعالى بحرف واحد ، فعلم رسول الله صلّى الله عليه وآله ما علمه الأنبياء وما لم يعلموه.

الوصية

فلما قرب أمره صلّى الله عليه وآله أنزل الله جل وعلا إليه من السماء كتابا مسجّلا نزل به جبرئيل عليه السّلام مع امناء الملائكة فقال جبرئيل : يا رسول الله مر من عندك بالخروج من مجلسك إلّا وصيّك ليقبض منّا كتاب الوصيّة ويشهدنا عليه.

فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله من كان عنده في البيت بالخروج ما خلا أمير المؤمنين عليه السّلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام فقال جبرئيل : يا رسول الله ان الله يقرأ عليك السلام ويقول لك : هذا كتاب بما كنت عهدت وشرطت عليك واشهدت عليك ملائكتي وكفى بي شهيدا.

فارتعدت مفاصل سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله فقال : هو السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام ، صدق الله ، هات الكتاب.

فدفعه إليه ، فدفعه من يده الى علي وأمره بقراءته وقال : هذا عهد ربي إليّ وامانته ، وقد بلغت وأديت.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : وأنا اشهد لك بأبي أنت وأمي بالتبليغ والنصيحة والصدق على ما قلت ، ويشهد لك به سمعي وبصري ولحمي ودمي.

فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله : أخذت وصيتي وقبلتها مني وضمنت لله تبارك وتعالى ولي الوفاء بها؟.

قال : نعم عليّ ضمانها وعلى الله عز وجل عوني.

وكان فيما شرطه فيها على أمير المؤمنين عليه السّلام : الموالاة لأولياء الله والمعاداة لأعداء


الله والبراءة منهم ، والصبر على الظلم ، وكظم الغيظ ، وأخذ حقّك منك وذهاب خمسك وانتهاك حرمتك ، وعلى أن تخضب لحيتك من رأسك بدم عبيط.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : قبلت ورضيت وان انتهكت الحرمة وعطلت السنن ومزّق الكتاب وهدمت الكعبة وخضبت لحيتي من رأسي صابرا محتسبا.

فأشهد رسول الله صلّى الله عليه وآله جبرئيل وميكائيل والملائكة المقرّبين على أمير المؤمنين عليه السّلام.

ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله فاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام فأعلمهم من الأمر مثل ما أعلمه أمير المؤمنين وشرح لهم ما شرحه له.

فقالوا مثل قوله وختمت الوصيّة بخواتيم من ذهب لم تصبه النار ودفعت الى أمير المؤمنين عليه السّلام.

وفي الوصية سنن الله جلّ وعلا وسنن رسول الله صلّى الله عليه وآله وخلاف من يخالف ويغيّر ويبدّل وشيء شيء من جميع الأمور والحوادث بعده صلّى الله عليه وآله وهو قول الله عز وجل (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ).

وفاة الرسول [ص]

ثم اعتل رسول الله صلّى الله عليه وآله فجيّش أكثر أصحابه مع اسامة بن زيد للغزاة فلم يتّبعوه وتثاقلوا وقعدوا عنه وخالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله للخروج مع أميرهم.

فلما كان الوقت الذي قبض فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله دعا أمير المؤمنين عليه السّلام فوضع ازاره سترا على وجهه ولم يزل يناجيه بكلّ ما كان وما هو كائن الى يوم القيامة ثم مضى صلّى الله عليه وآله وقد سلّم إليه جميع مواريث الأنبياء والنور والحكمة.

وروي انّه كان ممّا قال له في تلك الحال : إذا أنا متّ فغسّلني وكفّني وحنطني ثم اجلسني فاسأل عمّا بدا لك واكتب.

وروي : ان جبرئيل قال له : هذا الوقت يا محمّد ، هذا آخر نزولي الى الدنيا.

فسمعوا صوتا منه عليه السّلام يقول : عليكم السلام أهل البيت والرسالة. ان في الله خلفا من


كلّ هالك وعزاء من كلّ مصيبة ودركا من كلّ فائت ، ليس المصاب من أعقبه الثواب.

ثم سكنت حركة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وستر بثوب.

وتولّى أمير المؤمنين عليه السّلام غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه في البقعة التي قبض فيها صلّى الله عليه وآله.

وروي ان سنه كانت ثلاثا وستين سنة ، وكانت ولادة آمنة بنت وهب بن عبد مناف أمّ السيّد صلّى الله عليه وآله في شهر ربيع الأول من عام الفيل ، وكان ملك ذلك الزمان كسرى انوشيروان صاحب المدائن ، وهو الذي يروى ان رسول الله صلّى الله عليه وآله قال فيه : ولدت في زمن الملك الصالح ، لو لحقني لآمن بي. وظهرت نبوّته بعد أربعين سنة.

وروي انّه أقام بمكّة قبل الهجرة ثلاث عشر سنة وهاجر صلّى الله عليه وآله فمكث بالمدينة مهاجرا عشر سنين وشهورا.

وروي انّه قبض في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة فكانت ثلاثا وستين سنة صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين.


خطبة أمير المؤمنين عليه السّلام

وخطب أمير المؤمنين عليه السّلام خطبة في انتقال سيّدنا رسول الله من آدم الى ان ولد صلّى الله عليه وآله : الحمد لله الذي توحّد بصنع الأشياء وفطر أجناس البرايا على غير مثال سبقه في انشائها ، ولا أعانه معين على ابتداعها بل ابتدعها بلطف قدرته ، فامتثلت لمشيته خاضعة مستحدثة لأمره الواحد الأحد الدائم بغير حد ولا أمد ولا زوال ولا نفاد وكذلك لم يزل ولا يزال لا تغيّره الأزمنة ، ولا تحيط به الأمكنة ، ولا تبلغ مقامه الألسنة ولا تأخذه سنة ولا نوم ، لم تره العيون فتخبر عنه برؤيته ، ولم تهجم عليه العقول فيتوهم كنه صفته ، ولم تدر كيف هو إلّا بما أخبر عن نفسه ، ليس لقضائه مرد ولا لقوله مكذّب ابتدع الأشياء بغير تفكير وخلقها بلا ظهير ولا وزير فطرها بقدرته ، وصيّرها بمشيته ، وصاغ أشباحها ، وبرأ أرواحها ، واستنبط أجناسها ، خلقا مبروءا مذروءا ، في أقطار السموات والأرضين ، لم يأت بشيء على غير ما أراد أن يأتي عليه ليري عباده آيات جلاله وآلائه ، فسبحانه لا إله إلّا هو الواحد القهّار ، وصلّى الله على محمّد وآله وسلّم تسليما.

اللهم فمن جهل فضل محمّد صلّى الله عليه وآله فاني مقر بأنّك ما سطحت أرضا ولا برأت خلقا حتى أحكمت خلقه وأتقنته من نور سبقت به السلالة ، وأنشأت آدم له جرما فأودعته منه قرارا مكينا ومستودعا مأمونا وأعذته من الشيطان وحجبته عن الزيادة والنقصان وجعلت له الشرف الذي به يسامى عبادك ، فأي بشر كان مثل آدم فيما سبقت الأخبار. وعرفتنا كتبك في عطاياك ، أسجدت له ملائكتك وعرّفته ما حجبت عنهم من علمك إذ


تناهت به قدرتك وتمّت فيه مشيتك دعاك بما أكننت فيه فأجبته إجابة القبول ، فلما أذنت اللهم في انتقال محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من صلب آدم ألفت بينه وبين زوج خلقتها له سكنا ووصلت لهما به سببا.

فنقلته من بينهما الى (شيث) اختيارا له بعلمك ، فأي بشر كان اختصاصه برسالتك ، ثم نقلته الى (انوش) فكان خلف أبيه في قبول كرامتك ، واحتمال رسالتك ، ثم قدّرت نقل النور الى (قينان) وألحقته في الحظوة بالسابقين ، وفي المنحة بالباقين ، ثم جعلت (مهلائيل) رابع اجرامه قدرة تودعها من خلقك في من تضرب لهم بسهم النبوّة ، وشرف الابوّة حتى تناهى تدبيرك الى (اخنوخ) فكان أوّل من جعلت من الأجرام ناقلا الرسالة وحاملا لأعباء النبوّة ، فتعاليت يا ربّ ، لقد لطف علمك وجلّت قدرتك عن التفسير إلّا بما دعوت إليه من الإقرار بربوبيتك ، واشهد ان الأعين لا تدركك ، والأوهام لا تلحقك ، والعقول لا تصفك ، والمكان لا يسعك وكيف يسع المكان من خلقه وكان قبله أم كيف تدركه الأوهام ولا نهاية له ولا غاية وكيف يكون له نهاية وغاية ، وهو الذي ابتدأ الغايات والنهايات أم كيف تدركه العقول ولم يجعل لها سبيلا الى إدراكه ، وكيف يكون لها سبيل الى إدراكه وقد لطف بربوبيته عن المحاسة والمجاسة ، وكيف لا يلطف عنهما من لا ينتقل عن حال الى حال ، وقد جعل الانتقال نقصا وزوالا ، فسبحانك ملأت كلّ شيء وباينت كلّ شيء فأنت الذي لا يفقدك شيء وأنت الفعّال لما تشاء ، تبارك يا من كلّ مدرك من خلقه ، وكلّ محدود من صنعه أنت الذي لا يستغني عنك المكان والزمان ولا نعرفك إلّا بانفرادك بالوحدانية والقدرة ، وسبحانك ما أبين اصطفاءك (لإدريس) على سائر خلقك من العالمين لقد جعلت له دليلا من كتابك إذ سمّيته صدّيقا نبيّا ، ورفعته مكانا عليّا ، وأنعمت عليه نعمة حرمتها على خلقك ، إلّا من نقلت إليه نور الهاشميين وجعلته أوّل منذر من أنبيائك ثم أذنت في انتقال نور محمّد صلّى الله عليه وآله من القابلين له (متوشلخ) و (لمك) المفيضين به الى نوح فأي آلائك يا ربّ لم توله ، وأي خواص كرامتك لم تعطه ، ثم أذنت في ايداعه (سام) دون (حام) و (يافث) فضربت لهما بسهم في الذلّة ، وجعلت ما أخرجت بينهما لنسل سام خولا ، ثم تتابع عليه القابلون من حامل الى حامل ومودّع الى مستودع


من عترته في فترات الدهور حتى قبله (تارخ) أطهر الأجسام وأشرف الأجرام ونقلته منه الى «إبراهيم» فأسعدت بذلك جدّه ، وأعظمت به مجده وقدّسته في الأصفياء وسمّيته دون رسلك خليلا ، ثم خصصت به اسماعيل دون ولد إبراهيم فأنطقت لسانه بالعربية التي فضّلتها على ساير اللغات فلم تزل تنقله من أب الى أب حتى قبله (كنانة) عن «مدركه» فأخذت له مجامع الكرامة ، ومواطن السلامة ، وأحللت له البلدة التي قضيت فيها مخرجه فسبحانك لا إله إلّا أنت أي صلب أسكنته فيه ولم ترفع ذكره ، وأي نبيّ بشّر به فلم يتقدّم في الأسماء اسمه ، وأي ساحة من الأرض سلكت به لم يظهر بها قدسه ، حتى الكعبة التي جعلت منها مخرجه ، غرست أساسها بياقوتة من جنّات عدن ، وأمرت الملكين المطهرين جبرئيل وميكائيل فتوسطا بها أرضك وسمّيتها بيتك ، واتخذتها معبدا لنبيّك وحرّمت وحشها وشجرها ، وقدّست حجرها ، ومدرها وجعلتها مسلكا لوحيك ومنسكا لخلقك ومأمنا للمأكولات وحجابا للآكلات العاديات ، تحرم على أنفسها أذعار من أجرت ثم أذنت للنضر في قبوله وايداعه (مالكا) ثم من بعد مالك «فهرا» ثم اختصصت من ولد فهر «غالبا» وجعلت كلّ من تنقله إليه أمينا لحرمك ، حتى اذا قبله لؤي بن غالب آن له حركة تقديس فلم تودعه من بعده صلبا إلّا جللته نورا تأنس به الأبصار وتطمئن إليه القلوب ، فانا يا الهي وسيدي ومولاي المقرّ لك بأنّك الفرد الذي لا ينازع ولا يغالب ولا يجادل ، سبحانك سبحانك لا إله إلّا أنت ما لعقل مولود ، وفهم معقود ، مدحو من ظهر ، مزيج بمحيض لحم وعلق درء الى فضالة الحيض ، وعلالات الطعم ، شاركته الأسقام والتحفت عليه الآلام ، لا يمتنع من قيل ولا يقدر على فعل ، ضعيف التركيب والبنية ، ما له والاقتحام على قدرتك. والهجوم على إرادتك ، وتفتش ما لا يعلمه غيرك سبحانك أيّ عين تصب نورك ، وترقى الى ضياء قدرتك ، وأي فهم يفهم ما دون ذلك الا بصائر كشفت عنها الأغطية ، وهتكت عنها الحجب العمية وفرّقت أرواحها الى أطراف أجنحة الأرواح فتأملوا أنوار بهائك ونظروا من مرتقى التربة الى مستوى كبريائك فسمّاهم أهل الملكوت زوارا دعاهم أهل الجبروت أغمارا فسبحانك يا من ليس في البحار قطرات ، ولا في متون الأرض جنّات ولا في رتاج الرياح حركات ولا في قلوب العباد خطرات ، ولا في


الأبصار لمحات. ولا على متون السحاب نفحات ، إلّا وهي في قدرتك متحيرات ، أما السماء فتخبر عن عجائبك ، وأما الأرض فتدلّ على مدائحك ، وأما الرياح فتنشر فوائدك ، واما السحاب فتهطل مواهبك ، وكلّ ذلك يحدث بتحننك ويخبر العارفين بشفقتك وأنا المقرّ بما أنزلت عند اعتدال نفسه وفراغك من خلقه رفع وجهه فواجهه من عرشك رسم فيه لا إله إلّا الله محمّد رسول الله فقال الهي من المقرون باسمك فقلت محمّد صلّى الله عليه وآله خير من أخرجته من صلبك ، واصطفيته بعدك ، من ولدك ، ولولاه ما خلقتك ، فسبحانك لك العلم النافذ والقدر الغالب ، لم تزل الآباء تحمله ، والأصلاب تنقله ، كلّما أنزلته ساحة صلب جعلت له فيها صنعا يحثّ العقول على طاعته ، ويدعوها الى مقته حتى نقلته الى (هاشم) خير آبائه بعد اسماعيل ، فأي أب وجدّ ، ووالد اسرة ، ومجتمع عترة ، ومخرج طهر ، ومرجع فخر ، جعلت يا ربّ هاشما ، لقد أقمته لدن بيتك ، وجعلت له المشاعر والمتاجر ، ثم نقلته من هاشم الى عبد المطلب فانهجته سبيل إبراهيم ، وألهمته رشدا للتأويل ، وتفصيل الحق ، ووهبت له عبد الله وأبا طالب وحمزة وفديت عبد الله بالقربان ولقد بلغت يا الهي ببني أبي طالب الدرجة التي رفعت إليها فضلهم في الشرف الذي مددت به أعناقهم والذكر الذي حلّيت به اسماءهم وجعلتهم معدن النور وجنته ، وصفوة الدين وذروته ، وفريضة الوحي وسنّته ، ثم أذنت لعبد الله في نبذه عند ميقات تطهير أرضك من كفّار الامم الذين نسوا عبادتك ، وجهلوا معرفتك ، واتخذوا اندادا ، وجحدوا ربوبيتك ، وأنكروا وحدانيتك ، وجعلوا لك شركاء وأولادا ، وصبوا الى عبادة الأوثان ، وطاعة الشيطان ، فدعاك نبينا صلوات الله عليه لنصرته فنصرته بي وبجعفر وحمزة فنحن الذين اخترتنا له وسميتنا في دينك لدعوتك أنصارا لنبيّك ، قائدنا الى الجنّة خيرتك ، وشاهدنا أنت ربّ السموات والأرضين ، جعلتنا ثلاثة ما نصب له عزيز إلّا أذللته بنا ولا ملك إلّا طحطحته بنا أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركّعا سجّدا ، وصفتنا يا ربنا بذلك وأنزلت فينا قرآنا جليت به عن وجوهنا الظلم ، وأرهبت بصولتنا الامم ، إذا جاهد محمّد رسولك عدوا لدينك تلوذ به اسرته ، وتحفّ به عترته كأنّهم النجوم الزاهرة اذا توسطهم القمر المنير ليلة تمه ، فصلواتك على محمّد عبدك ونبيّك وصفيّك وخيرتك وآله


الطاهرين ، أي منيعة لم تهدمها دعوته ، وأي فضيلة لم تنلها عترته جعلتهم خير أئمّة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويجاهدون في سبيلك. ويتواصلون بدينك ، طهّرتهم بتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ ونسك به لغير الله ، تشهد لهم وملائكتك انّهم باعوك أنفسهم ، وابتذلوا من هيبتك ابدانهم ، شعثة رءوسهم ، تربة وجوههم ، تكاد الأرض من طهارتهم أن تقبضهم إليها ومن فضلهم أن تميد بمن عليها. رفعت شأنهم بتحريم أنجاس المطاعم والمشارب. فأي شرف يا ربّ جعلته في محمّد وعترته فو الله لأقولن قولا لا يطيق أن يقوله أحد من خلقك ، أنا علم الهدى ، وكهف التقى ومحلّ السخاء ، وبحر الندى ، وطود النهى ، ومعدن العلم ، والنور في ظلم الدجى وخير من أمر واتّقى وأكمل من تقمّص وارتدى ، وأفضل من شهد النجوى بعد النبيّ المصطفى ، وما أزكي نفسي ولكن أحدث بنعمة ربّي أنا صاحب القبلتين ، وحامل الرايتين ، فهل يوازي فيّ أحد؟ وأنا أبو السبطين فهل يساوي بي بشر؟ وأنا زوج خير النسوان فهل يفوقني رجل؟ أنا القمر الزاهر بالعلم الذي علّمني ربّي ، والفرات الزاخر ، أشبهت من القمر نوره وبهاءه ومن الفرات بذله وسخاءه ، أيّها الناس بنا أنار الله السبل ، وأقام الميل ، وعبد الله في أرضه ، وتناهت إليه معرفة خلقه ، وقدّس الله جل وتعالى بإبلاغنا الألسن ، وابتهلت بدعوتنا الأذهان ، فتوفى الله محمّدا صلّى الله عليه وآله سعيدا شهيدا ، هاديا مهديا ، قائما بما استكفاه ، حافظا لما استرعاه ، تمم به الدين ، وأوضح به اليقين ، وأقرّت العقول بدلالته وأبانت حجج أنبيائه ، واندمغ الباطل زاهقا ووضح العدل ناطقا ، وعطل مظانّ الشيطان ، وأوضح الحق والبرهان. اللهم فاجعل فواضل صلواتك ونوامي بركاتك ورأفتك ورحمتك على محمّد نبي الرحمة وعلى أهل بيته الطاهرين.



مولد الامام علي عليه السّلام

قام أمير المؤمنين عليه السّلام ، مقام رسول الله صلّى الله عليه وآله.

روي عن سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله انّه قال : كنت أنا وعلي نورا في جبهة آدم عليه السّلام فانتقلنا من الأصلاب الطاهرة الى الأرحام المطهّرة الزاكية حتى صرنا في صلب عبد المطلب فانقسم النور قسمين فصار قسم في عبد الله وقسم في أبي طالب فخرجت من عبد الله وخرج علي من أبي طالب وهو قول الله جل وعز (الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً).

وروي ان فاطمة بنت أسد بن هاشم أم أمير المؤمنين عليه السّلام كانت في الليلة التي ولدت فيها آمنة بنت وهب أم رسول الله صلّى الله عليه وآله حاضرة عندها وانها رأت مثل الذي رأته آمنة ، فلما كان الصبح انصرف أبو طالب من الطواف فاستقبلته فقالت له : لقد رأيت الليل عجبا ، قال لها وما رأيت؟ قالت : ولدت آمنة بنت وهب مولودا أضاءت له الدّنيا بين السماء والأرض نورا حتى مددت عيني فرأيت سعفات هجر ، فقال لها أبو طالب انظري سبتا فستأتين بمثله. فولدت أمير المؤمنين عليه السّلام بعد ثلاثين سنة وروي ان السبت ثلاثون سنة وروي انّه ثمان وعشرون سنة.

وروي ان فاطمة بنت أسد لما حملت بأمير المؤمنين عليه السّلام كانت تطوف بالبيت فجاءها المخاض وهي في الطواف فلما اشتد بها دخلت الكعبة فولدته في جوف البيت على مثال ولادة آمنة النبي صلّى الله عليه وآله ما ولد في الكعبة قبله ولا بعده غيره.


ايمان علي عليه السّلام

وروى عبد الله بن محمد بن غياث عن أبي نصر رجاء بن سهل الصاغاني قال حدّثنا وهب بن منبّه القرشي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السّلام انّه سئل عن بدو ايمان أمير المؤمنين عليه السّلام برسول الله صلّى الله عليه وآله فقال أبو عبد الله جعفر عليه السّلام : اذا ذكرت الفضائل والمناقب ففي شرح ايمان أمير المؤمنين عليه السّلام برسول الله صلّى الله عليه وآله ما تنفتح الأذهان ، وتكثر الرغائب لأن حبّ عليّ عليه السّلام فرض على المؤمنين ، وغيظ على المنافقين ، فمن أحبّ عليّا فلرسول الله صلّى الله عليه وآله أحبّ ومن أمسك عنه فقد عصى الله ونكب عن سبيل النجاة لأنّه أول من آمن برسول الله صلّى الله عليه وآله ، وصلّى معه ، وصدّق بما جاء من الله وسارع الى مرضاة الله ومرضاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وصبر على البأساء والضرّاء في كلّ شدّة وعسر ، وكان أكثر أصحابه نصحا له ، وأكثرهم وأشدّهم مواساة بنفسه وذات يده له ، وكان ممّا منّ الله به على أمير المؤمنين عليه السّلام في دلائله ، واختصه بفضائله ، ومنحه من الكرامة ، والحباء وشرّفه بسوابق الزلفى ، انّه كان في حجر رسول الله صلّى الله عليه وآله قبل مبعثه ، يغذوه بما يغذو به نفسه.

كفالة ابي طالب للنبي عليه السّلام

وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجر أبي طالب يغذّيه ويحوطه ، وذلك أن أبا الحرث عبد المطلب بن هاشم كان يكفل الأرامل والأيتام ويغيث الملهوف ويجير المظلوم وينظر المعسر ويحمل الكلّ ويقري الضيف ، ويمنع من الضيم ، وكان برسول الله صلّى الله عليه وآله حفيّا في السر والاعلان يتفقّده في مطعمه وأغذيته ، ويعدله قريشا ، يخضع له الأشراف ، ويذلّ له عظماء الملوك ويدين بدينه جميع أهل الملل والأديان ، وترعد لهيبته فرائص الجبارين ويظهر على من خالفه وناوأه حتى يقرنهم في الأصفاد ويبيع ذراريهم في الأسواق ويتخذ ابناءهم عبيدا ، وشجعانهم جنودا ، وتعينه الملائكة على نصرته فطوبى لمن آمن به من عشيرته وطوبى لامّته.

فلما مرض مرضه الذي مات فيه وضع رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجر أبي طالب عليه السّلام


ووصّاه به ، وقال له : يا بني هذا فضل من الله عليك ومنحة وهدية مني إليك الهمنيه في أمرك وهو ابن أخيك لأبيك وأمّك دون ساير اخوانك ثم اطلعه على مكنون سر علمه ودلائله وأخبره بما بشّر به عن الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليهم ، وما رواه فيه أفاضل الأحبار ، وعبّاد الرهبان ، وأقيال العرب وكهّان العجم.

ولم يكن لأبي طالب يومئذ ولد ، وكان فردا وحيدا ، امرأته فاطمة بنت أسد بن هاشم ابن عبد مناف بنت عمه وكانت ممنوعة من الولد تنذر لذلك النذور ، وتتقرّب الى الأصنام وتستشفع بالأزلام الى الرحمن وتعتر العتائر ، وتضخ وجوه الأصنام ، بذكي المسك وخالص العنبر ، تطلب الولد. وكانت كلّما لقيت كاهنا أو حبرا عالما من السدنة بشّرها انها تبتني ولدا لم تلده وتربيه ويأمرها إذا رزقته أن تضمّه وتكنفه وتحفظه ولا تبعده فتسألهم أن يسمّوه ويصفوه لها فيقولون ذاك نور منير بشير نذير مبارك في صغره منبئ في كبره ، يوضح السبيل ، ويختم الرسل ، يبعث بالدين الفاضل ويزهق العمل الباطل ، يظهر من أفعاله السداد ويتبيّن باتّباعه الرشاد ، وينهج الله له الهدى ، ويبيّن به التقى. فكانت فاطمة بنت أسد ترقب ذلك وتنتظره. فلما طال انتظارها ، وذهل اصطبارها ، أنشأت تقول :

طال الترقّب للميعاد إذ عدمت

مني الحوائل ولدا من عناصيري

لما أتيت الى الكهّان بشّرني

عند السؤال عليم بالمخابير

فقال يوعدني والدمع مبتدر

يا فاطم انتظري خير التباشير

نورا منيرا به الأنباء قد شهدت

والكتب تنطق عن شرح المزامير

انى بذاك فقد طال الطلاع الى

وجه المبارك يزهو في الدياجير

فلما مات عبد المطلب كفل أبو طالب رسول الله صلّى الله عليه وآله بأحسن كفالة ، وحن عليه ، ودأب في حياطته وتمسّك به والتحف عليه وعطف على جوانبه.

وكان أبو طالب محترما معظّما كشّافا للكروب غير هذر ولا مكثار ولا عاق بل بر وصول ، جواد بما يملك ، سمح بما يقدر ، لا يثنيه عن مبادرة الخطاب وجل ، ولا يدركه لدى الخصام ملل ، فشغف برسول الله صلّى الله عليه وآله شغفا شديدا. وولهت بحبّه فاطمة بنت أسد


وذهلت بمحبته ودلاله التي وعدت بها فكانت تقول : وإله السماء لقد قبل نذري وشكر سعيي وأجيبت دعوتي ، لأنزلن محمّدا من قلبي منزلة صميم الاحشاء ولألهون برؤيته عن كلّ نظرائه ، ومن أولى بذلك ممّن أعطي مثله ، وليس هذا من أمر الخلق بل هو من عند الإله العظيم.

فكانت قد جعلته صلّى الله عليه وآله نصب عينها ان غاب لحظة لم يغب عنها مثاله ولم يفقد شخصه وتذهل حتى تحضره فتشتغل بتغذيته وغسله وتنظيفه وتلبيسه وتدهينه وتعطيره واصلاح شأنه وتعاهد ارضاعه بالنهار فإذا كان بالليل اشتغلت بفرشه ونومه وتوسيده وتمهيده وتعوّذه وتنيمه

قال : وكانت في دار أبي طالب نخلة منعوتة بكثرة الحمل موصوفة بالرّقة وعذوبة الطعم شهية المضغ يعقب طعمها رايحة طيبة عطرية كرائحة الزعفران المذاب بالعسل ، كثيرة اللحا قليلة السحا ، دقيقة النوى فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يأتي إليها كلّ غداة مع أتراب له منهم أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ابن عمه وأبو سلمة بن عبد الأسد ومشروح بن نويبة فيلتقطون ما يتساقط تحتها من ثمرها بهبوب الرياح ووقوع الطير ونقره.

وكانت فاطمة بنت أسد لا ترى رسول الله صلّى الله عليه وآله يسابق اترابه على البسر والبلح والرطب في أوانه ، وكان الغلمة يبادرون لذلك وهو ـ عليه السّلام ـ يمشي بينهم وعليه السكينة والوقار بتواضع وابتسام ويتعجب من حرصهم وعجلتهم ، فكان ان وجد شيئا ساقطا بعدهم أخذه وإلّا انصرف بوجه منبسط طلق وبشر حسن.

فكانت فاطمة تعجب من شدّة حيائه وطيب شأنه ورقّة قلبه وسرعة دمعته وكثرة رخمته ، فربما جمعت له من تمر النخلة قبل مجيئهم فاذا أقبل صلّى الله عليه وآله قدّمته إليه ، فيحبّ أن يأكله معهم.

قالت فاطمة : ودخل على أترابه يوما وأنا مضطجعة ولم أره معهم فقلت : اين محمد؟.

قالوا : مع عمّه أبي طالب وراءنا.


فسكنت نفسي قليلا ، ولقط الغلمان ما كان تحت النخلة. وجاء بعدهم محمّد فلم ير تحتها شيئا ، فصار إليها ووقف تحتها ، وكانت باسقة ، فأومأ بيده إليها ، فانثنت بعراجينها حتى كادت تلحق بثمارها الأرض ، فلقط منها ما أراد ثم رفع يده وأومأ إليها ، فرجعت ، وحسبني راقدة.

قالت : وكنت مضطجعة ، فلما رأيت ذلك استطير في روعي ، ولم أملك نفسي فأتيت أبا طالب فخلوت به ، فقلت له : كان من أمر محمّد صلّى الله عليه وآله كيت وكيت.

فقال : مهلا يا فاطمة لا تذكري من هذا شيئا فانّه حلم وأضغاث.

فقلت : كلا والله ، بل هو حقّ يقين في يقظة لا في نوم ، ورأي العين لا رؤيا ، واني لأرجو الله أن يحقّق ظنّي فيه وان يكون الذي بشّرت بتربيته ووعدت الفوز عند كفالته.

فكانت فاطمة لا تفارق رسول الله صلّى الله عليه وآله في ليل ولا نهار ، ولا تغفل عنه وعن خدمته وتفقّد مطعمه فكان صلّى الله عليه وآله يسمّيها أمي ، وهجرت الأصنام ، وقطّعت القربان إليها من الذبائح في الأعياد تسأل الولد. وتسلّت برسول الله صلّى الله عليه وآله والتبني له وخدمته عن كلّ شيء. فلما قطعت عادتها ، وجد عليها السدنة من ذلك ومنعوها من الدخول على الصنم الأعظم ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يحضر قريشا في مشاهدهم كلّها غير السجود للأصنام ، والذبائح للأنصاب ، وفي حال شرب الخمر ووصف الشعر ، وقول الزور ، فانّه كان يجتنبهم مذ كان طفلا حتى استكمل فدخل يوما على سادن من سدنة الأصنام ، فقال له : لم تعتب على أمي فاطمة وتمنعها من زيارة هذه الأحجار المؤثرة فينا الاعتبار؟.

فقال له السادن : لأنها أتت بأمور متشابهة ، وقطعت بر الآلهة ، وهي لمن عبدها نافعة ، ولمن جاء إليها شافعة ، وستعلم ابنة أسد انها لا ترزقها ولدا.

فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله : أأصنام ترزقكم الولدان ، وتأتيكم بالغيث عند المحل في السنوات الشداد؟.

قال له السادن : نعم! أو ما علمت نحن نحمد ذلك عند الأصنام عاجلا في الفاقة وآجلا مدّخرا.


والتفت الى السدنة فقال : هذا غلام مات أبوه وجدّه وامّه وظئره وهو طفل فكفله من لا يعبأ به ولا يدلّه على رشده ـ وهو عمّه وامرأة عمّه.

فقال له النبي صلّى الله عليه وآله : فأخبرني عن هذه الأصنام من خلقها ومن ابتدع الامم السالفة ورزقها؟.

قال السادن : الله فعل ذلك ، وهو لجميع الخلق مالك.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : فان أمي تجعل قربانها لله الحي القائم القديم فهو أحقّ من الأصنام.

ثم انطلق الى فاطمة من ساعته وحدّثها بما جرى بينه وبين السادن وقال لها : قرّبي إلى الله قربانك.

فاصطفت القربان وقالت : هذا لله خالصا .. جعلته ذخرا .. قبلته من محمّد حبيبي.

فما أصبحت من ليلتها حتى اكتست حسنا الى حسنها وجمالا إلى جمالها.

فحملت فولدت عقيلا ثم حملت فولدت طالبا ثم حملت فولدت جعفرا ، وكان وجهها في كلّ يوم يزداد نورا وضياء لما حملت بأزكاهم وأطهرهم وأبرّهم وأرضاهم عليّ ، فولدته ونالها في ولادته بعض الصعوبة ثم جاءت به الى بيت أبيه حتى حنكه رسول الله صلّى الله عليه وآله ووضعه في حجره وقمطه في حضنه قبل كلّ أحد من الناس.

ثم رزقت بعد علي أم هاني واسمها فاختة وهي المباركة الطيبة اخت الطاهرين من ولد أبيها أبي طالب.

مولد علي عليه السّلام

وكانت فاطمة حملت بعلي عليه السّلام في عشر ذي الحجة وولدته في النصف من شهر رمضان ، وحملت به أيام الموسم. وبعد حملها بخمسة أيام كانت جالسة وقد كسيت نورا وجمالا ، ووجهها يزهر ، وجبهتها تتلألأ بين الأكارم من الفواطم من قريش ، منهنّ فاطمة بنت عمرو بن عائذ جدّة رسول الله صلّى الله عليه وآله لأبيه ، وفاطمة بنت زائرة بن الأصم أم خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت عبد الله بن ورام ، وفاطمة بنت الحرث بن عكرمة ، وممّن لم


يحضرن ويلحقن من الفواطم اللواتي يقربن من رسول الله صلّى الله عليه وآله ومن علي عليه السّلام بالنسب واللحمة : فاطمة بنت النضر أم ولد قصي. فانهنّ لجلوس يتفاخرن بالذراري والأولاد إذ أقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وكان وجهه المرآة مصقولة والمهاة مجلوة ينثني كغصن مياد وقد تبعه بعض الكهان ينظر إليه نظرا شافيا.

فجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله الى فاطمة أم علي بين العجائز من الفواطم وجلس الكاهن بازائه لا يمر به كاهن مثله ولا حبر ولا قايف ولا عايف إلّا همس إليه وغمزه واستوقفه ، ينظرون إليه فبعض يشير إليه بسبّابته وبعض يعضّ على شفته.

فغاب رسول الله صلّى الله عليه وآله بقيامه ودخل الى منزل عند عمّه.

فقال الكاهن للعجائز : من هذا الفتى الذي قد زها بحسنه على كلّ الفتيان والرجال والنساء؟.

قالوا : هذا المحبّب في قومه محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب ذو الفضل والعرف والسؤدد

فقال الكاهن : يا معشر قريش ايذنوا بالحرب ، بعد الهرب ، من سيف النبيّ المنتجب ، الويل منه للعرب وللأصنام والنصب.

ثم نادى : يا أهل الموسم الحافل ، والجمع الشامل ، قرب ظهور الدين الكامل ، ومبعث النبيّ الفاضل ، ثم أنشأ يقول :

اني رأيت نبيّا ما كنت أعرفه

حقا تيقنه قلبي باثبات

في الكتب أنزله لما تخيره

وكنت أعرف ما في شرح توراة

من فضل أحمد من كالبدر طلعته

يزهو جمالا على كلّ البريات

من أمّة عصمت من كلّ خائنة

وصار مجتنبا رجس الخسارات

ما زلت أرمقه من حسن بهجته

كالشمس من برجها تبدي الطليعات

فان بقيت الى يوم السباق وقد

نادى قريشا لتبليغ الرسالات

كنت المجيب له لبيك من كتب

أنت المفضّل من خير البريات

يا خير من حملت حواء أو وضعت

من أوّل الدهر في رجع الكريرات

قد كنت أرقب هذا قبل فجوته

حتى تلمسته قبضا براحات


فاليوم أدركت غنما كنت أرقبه

من عند ربّي جبار السموات

فيا لها فرحة يعتادها نجح

لما حبيت بتحبير التحيات

فكيف ينزل من نال الرياح ومن

أهدى له موهب من خير خيرات

ذاك النبيّ الذي لا شك منتجب

جبريل يقصده بالوحي تارات

في كلّ يوم بوحي الله يمنحه

ينبيه عن كلّ معلوم الدلالات

قال : فقالت فاطمة بنت أسد : فرأيت حبرا منهم يسمع شعر الكاهن ودموعه تسحّ على خدّيه فتبعته فقلت له : أقسمت عليك بدينك وسفرك وكتابك لتخبرني بالأمر على حقيقته ، فان الحكيم لا يكتم من استنصحه نصيحة يقوي بها بصيرته.

فنظر الحبر الى رسول الله صلّى الله عليه وآله نظرا مستقصيا ثم قال : والله هذا غلام همام ، آباؤه كرام ، يكفله الأعمام ، دينه الاسلام ، شريعته الصلاة والصيام ، تظلّه الغمام ، يجلي بوجهه الظلام ، من كفله رشد ، ومن أرضعه سعد ، وهو للأنام سند ، يبقى ذكره ما بقي الأبد.

ثم ذكر كفالة أبي طالب إيّاه وعدّد سيرته وخاتمة أمره وعقباه.

ثم قال : وتكفله منكم امرأة تطلب بذلك زيادة العدد فسيكون هذا المبارك المحمود لها في طيب الغرس أفضل ولد.

قالت : فقلت له : لقد أصبت فيما وصفت الى حيث انتهيت ، وقلت الحق عند ما شرحت ، انا المرأة التي أكفله ، زوجة عمّه الذي يرجوه ويؤمله.

فقال لها : ان كنت صادقة فستلدين غلاما ، رابع أربعة من أولادك شجاعا قمقاما عالما إماما مطواعا همّاما ، بدينه قوّاما ، لربّه مصلّيا صوّاما ، غير خرق ولا نزق ولا أحيف ولا جنف ، اسمه على ثلاثة أحرف ، يلي هذا النبي في جميع أموره ، ويواسيه في قليله وكثيره ، يكون سيفه على أعدائه ، وبابه الذي يؤتى منه الى أوليائه ، يقصع في جهاده الكفّار قصعا ، ويدع أهل النكث والغدر والنفاق دعا ، يفرّج عن وجه نبيّه الكربات ، وتجلي به دياجر حندس الغمرات ، أقربهم منه رحما ، وأمسهم لحما ، وأسخاهم كفّا ، وأنداهم يدا ، يصاهره على أفضل كريمة ، ويقيه بنفسه في أوقات شدّته ، تعجب من صبره ملائكة الحجاب إذا قهر أهل الشرك بالطعن والضراب ، يهاب صوته أطفال المهاد ، وترعد


من خيفته الفرائص يوم الجلاد ، مناقبه معروفة ، وفضائله مشهورة ، هزبر دفاع ، شديد مناع ، مقدام كرّار ، مصدّق غير فرّار ، أحمش الساقين ، غليظ الساعدين ، عريض المنكبين ، رحب الذراعين ، شرّفه الله بأمينه ، واختصه لدينه ، واستودعه سرّه ، واستحفظه علمه ، عماد دينه ، ومظهر شريعته ، يصول على الملحدين ، ويغيظ الله به المنافقين ، ينال شرف الخيرات ، ويبلغ معالي الدرجات ، يجاهد بغير شكّ ، ويؤمن من غير شرك ، له بهذا الرسول وصلة منيعة ، ومنزلة رفيعة ، يزوّجه ابنته ، ويكون من صلبه ذرّيته ، يقوم بسنّته ، ويتولّى دفنه في حفرته ، قائد جيشه ، والساقي من حوضه ، والمهاجر معه عن وطنه الباذل دونه دمه ، سيصح لك ما ذكرت من دلالته إذا رزقتيه ، وترين ما قلته فيه عيانا كما صح لي دلائل محمّد المحمود بالله ، ان ما وصفته من امرهما موجود مذكور في الأسفار والزبور ، وصحف إبراهيم وموسى ، ثم أنشأ يقول :

لا تعجبي من مقالي سوف تختبري

عمّا قليل ترين القول قد وضحا

أما النبي الذي قد كنت أذكره

فالله يعلم ما قولي له مزحا

يأوي الرشاد إليه مثل ما سكنت

أمّ الى ولد إذ صادفت نجحا

ثم المؤازر والموصى إليه اذا

تتابع الصيد من أطرافه كلحا

فأحمد المصطفى يعطيه رايته

يحبوه بابنته يا خير ما منحا

بذاك أخبرنا في الكتب اولنا

والجن تسترق الأسماع متّضحا

قالت فاطمة : فجعلت أفكر في قوله ، فلما كان بعد ليال رأيت في منامي كأن جبال الشام قد أقبلت تدبّ على عراقبها ، وعليها جلابيب حديد وهي تصيح من صدورها بصوت مهول فأسرعت نحوها جبال مكّة وأجابتها بمثل صياحها وأهول وهي تنضح كالشرر المجمر ، وجبل أبي قبيس ينتفض كالفرس المسربل بالعدّة وفصاله تسقط عن يمينه وشماله ، والناس يلتقطون تلك النصول ، فلقطت معهم أربعة أسياف وبيضة حديد مذهبة ، فأوّل ما دخلت مكّة سقط منها سيف في ماء فعبر ، وطار الثاني في الجو فانثمر وسقط الثالث الى الأرض فانكسر ، وبقي الرابع في يدي مسلولا ، فبينما أنا به أصول إذ صار السيف شبلا أتبينه ثم صار ليثا مستأسدا فخرج عن يدي ومر نحو تلك الجبال


يجوب بلاطخها ، ويخرق صلادحها ، والناس منه مشفقون ، ومن خوفه حذرون إذ أتاه محمّد ابني فقبض على رقبته ، فانقاد له كالظبية الألوف ، فانتبهت وأنا مرتاعة ، فغدوت على الحبر والكاهن اللذين بشّراني ووعداني وعلى ساير القافة والعافة بأن قصدت (أبا كرز) الكاهن وكان عارفا محذقا فوجدته قد نهض في حاجة له فجلست أرقبه وكان عنده (جميل) كاهن بني تميم فكرهت حضوره وعملت على انتظار قيامه وانصرافه ، فنظر جميل إليّ وضحك ثم قال لي : أقسم بالأنواء ومظهر النعماء ، وخالق الأرض والسماء ، انّك لتكرهين مثواي وتحبين مسراي لتسألي (أبا كرز) عن الرؤيا ، فينبئك بالأنباء ، فقلت له : ان كنت صادقا فيما قلت من الهتف حين زجرت فنبئني بما استظهرت فأنشأ يقول :

رأيت أجبالا تلي أجبالا

وكلّها لابسة سربالا

مسرعة قد تبتغي القتالا

حتى رأيت بعضها تعالى

ينثر من جلبابه نصالا

أخذت منها أربعا طوالا

وبيضة تشتعل اشتعالا

فواحد في ثج ماء عالا

وآخر في جوّها قد صالا

بذي طواف طار حين زالا

وثالث قد صادف اختلالا

لما غدا منكسرا أوصالا

ورابع قد خلته هلالا

مقتدح الزندين قد تلالا

ولت به صائلة ايغالا

حتى استحال بعدها انتقالا

أدرك في خلقته الاشبالا

ثم استوى مستأسدا صوّالا

يخطف من سرعته الرجالا

فانسل في قيعانها انسلالا

يخرق منها الصعب والمحالا

والناس يرهبون منه الحالا

حتى اتى ابن عمّه ارسالا

فتلّه بعنقه اتلالا

كظبية ما منعت غفالا

ثم انتبهت تحسبين خالا

قالت فاطمة : فقلت : صدقت والله يا جميل وبررت في قولك ، هكذا رأيت مما رأيت في الكرى فنبئني بتأويله. فأنشأ يقول :


أما النصول فهي صيد أربع

ذكور أولاد حكتها الأسبع

والبيضة الوقداء بنت تتبع

كريمة غرّاء لا تروع

فصاحب الماء غريب مفتقد

في لجّة ترمى بأصناف الزبد

والطائر الأجنح ذو الغرب الزغب

تقتله في الحرب عبّاد الصلب

والثالث المكسور ميت قد دفن

ينزل عقبا بعده طول الزمن

والرابع الصائل كالليث المرح

يرفل في عراصها ويقترح

فذاك للخلق امام منتصح

إذا بغاه كافر جهرا ذبح

وان لقاه بطل عنه جنح

حتى تراهم من صياصيهم بطح

فاستشعري البشرى فرؤياك تصحّ

قالت فاطمة فما زلت مفكّرة في ذلك وتتابع حملي وولادتي لأولادي.

فلما كان في الشهر الذي ولدت فيه عليّا رأيت في منامي كأن عمودا حديدا انتزع من أمّ رأسي ثم شع في الهواء حتى بلغ عنان السماء ثم رد إليّ فمكث ساعة فانتزع من قدمي فقلت : ما هذا؟ فقيل : هذا قاتل أهل الكفر ، وصاحب ميثاق النصر ، بأسه شديد تجزع من خيفته الجنود ، وهو معونة الله لنبيّه ومؤيده به على أعدائه ، بحبّه فاز الفائزون ، وسعد السعداء ، وهو ممثل في السماء المرفوعة والأرض الموضوعة والجبال المنصوبة ، والبحار الزاخرة والنجوم الزاهرة ، والشموس الصاحية ، والملائكة المسبّحة ، ثم هتف بي هاتف يقول :

جال الصباح لدى البطحاء إذ شملت

(سودا) بذي خدم فرش المراقيل

من دلج هام جراثيم جحاجحة

من كلّ مدرع بالحلم رعبيل

من الجهاضم إذ فاقت قماقمها

دون السحاب على جنح الاثاكيل

يا أهل مكّة لا تشقى جدودكم

وأبشروا ليس صدق القيل كالقيل

فقد أتت سود بالميمون فانتحجوا

واجفوا الشكوك واضغاث الأباطيل

من خازن النور في أبناء مسكنه

من صلب آدم في نكب الضماحيل

انّا لنعرفه في الكتب متّصلا

بشرح ذي جدل بالحق حصليل


قال فولد علي عليه السّلام ولرسول الله صلّى الله عليه وآله ثلاثون سنة فأحبّه رسول الله صلّى الله عليه وآله حبّا شديدا.

وقال لفاطمة امّه : اجعلي مهد علي بجنب فراشي ، وكان صلّى الله عليه وآله يلي تربيته ويوجره اللبن في ساعة رضاعه ويحرّك مهده عند نومه ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره تارة وعلى عاتقه اخرى ويتكتّفه ويقول : هذا أخي ووليي وناصري وصفيي ووصيي وذخيرتي وكهفي وصهري وزوج كريمتي وأميني على وصيتي. وكان يحمله ويطوف به جبال مكّة وشعابها وأوديتها وفجاجها.

فلما تزوّج صلّى الله عليه وآله خديجة بنت خويلد علمت بوجده بعلي عليه السّلام فكانت تستزيره وتزيّنه بفاخر الثياب والجوهر وترسل معه ولا يدها ، فيقلن : هذا أخو محمّد وأحبّ الخلق إليه وقرّة عين خديجة ومن ينزل السكينة عليه.

علي ربيب الرسول

وكانت ألطاف خديجة وهداياها الى منزل أبي طالب متصلة حتى أصابت قريشا أزمة شديدة ، وسنة معصوصبة ، وكان أبو طالب رجلا جوادا معطاء سمحا فقل ماله وكثر عياله وأجحفت السنة بحاله.

فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله عمّه العباس وكان أيسر بني هاشم في وقته وزمانه فقال له : يا عم ان أخاك كثير العيال متضعضع الحال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، وذوو الأرحام أحقّ بالرفد وأولى من حمل عنهم الكلّ ، فانطلق بنا إليه لنحمل من كلّه ونخفف من عيلته فيأخذ بعض ببنيه ونأخذ البعض.

فقال له العباس : نعم ما رأيت يا بن أخ وعلى الصواب أتيت هذا والله التيقظ على الكرم والعطف على الرحم.

فمضيا الى أبي طالب فأجملا مخاطبته وقالا له : ان لك سوابق محمودة ومناقب غير مجحودة وأنت صنو الأباة الانجاد وقد جمع لك العرف في قرن فهو إليك منقاد ، ولسنا نبلغ صفاتك ، وقد أضلت هذه السنة الغبراء ، وعيالك كثير ولا بد أن نخفّف عنك بعضهم


حتى ينكشف ما فيه الناس من هذا القمطرير.

فقال أبو طالب : اذا تركتما لي عقيلا وطالبا فشأنكما الاصاغر.

فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّا وأخذ العباس جعفرا عليه السّلام.

فتولّى رسول الله صلّى الله عليه وآله منذ ذلك الوقت تربية أمير المؤمنين عليه السّلام وتغذيته وتعليمه بنفسه.

وكان يصلّي معه قبل أن تظهر نبوّته بسنتين ثم كان من قصّته وقت إظهار النبوّة الى وقت مضى رسول الله صلّى الله عليه وآله ومن أمر غدير خم وغيره ما هو مشهور وقد روي وقص به وذكرنا بعضه.

وقام بأمر الله جل وعلا وسنه خمس وثلاثون سنة واتبعه المؤمنون وقعد عنه المنافقون ، ونصبوا للملك وأمر الدّنيا رجلا اختاروه لأنفسهم دون من اختاره الله ـ جلّ وعز ـ ورسول الله صلّى الله عليه وآله.

في الحوادث التي اعقبت وفاة النبي [ص]

فروي ان العبّاس رضي الله عنه صار الى أمير المؤمنين عليه السّلام وقد قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال له : امدد يدك ابايعك.

فقال : ومن يطلب هذا الأمر ومن يصلح له غيرنا.

وصار إليه ناس من المسلمين فيهم الزبير وأبو سفيان صخر بن حرب ، فأبى.

واختلف المهاجرون والأنصار فقالت الأنصار : منّا أمير ومنكم أمير.

فقال قوم من المهاجرين : سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : الخلافة في قريش.

فسلّمت الأنصار لقريش بعد أن ديس سعد بن عبادة ووطئوا بطنه.

وبايع عمر بن الخطاب أبا بكر وصفق على يديه ثم بايعه قوم ممّن قدم المدينة ذلك الوقت من الأعراب والمؤلفة قلوبهم ، وتابعهم على ذلك غيرهم.

واتصل الخبر بأمير المؤمنين عليه السّلام بعد فراغه من غسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وتحنيطه وتكفينه وتجهيزه ودفنه بعد الصلاة عليه مع من حضر من بني هاشم وقوم من صحابته


مثل سلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار وحذيفة وأبيّ بن كعب وجماعة نحو أربعين رجلا فقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

«ان كانت الإمامة في قريش فأنا أحقّ قريش بها وان لا تكن في قريش فالأنصار على دعواهم».

ثم اعتزلهم ودخل بيته فأقام فيه ومن اتبعه من المسلمين وقال :

ان لي في خمسة من النبيين اسوة : نوح إذ قال اني مغلوب فانتصر ، وإبراهيم إذ قال : واعتزلكم وما تدعون من دون الله ، ولوطا إذ قال : لو ان لي بكم قوّة أو آوي الى ركن شديد ، وموسى إذ قال : ففررت منكم لما خفتكم ، وهارون إذ قال : ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني.

ثم الف عليه السّلام القرآن وخرج الى الناس وقد حمله في ازار معه وهو يئط من تحته فقال لهم : هذا كتاب الله فد الفته كما أمرني وأوصاني رسول الله صلّى الله عليه وآله كما انزل.

فقال له بعضهم : اتركه وامض.

فقال لهم : ان رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لكم : اني مخلّف فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فان قبلتموه فاقبلوني معه ، أحكم بينكم بما فيه من أحكام الله.

فقالوا : لا حاجة لنا فيه ولا فيك ، فانصرف به معك لا تفارقه ولا يفارقك.

فانصرف عنهم فأقام أمير المؤمنين عليه السّلام ومن معه من شيعته في منزله بما عهد إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله فوجهوا الى منزله فهجموا عليه ، وأحرقوا بابه ، واستخرجوه منه كرها ، وضغطوا سيّدة النساء بالباب حتى اسقطت (محسنا) وأخذوه بالبيعة فامتنع وقال : لا أفعل.

فقالوا : نقتلك.

فقال : ان تقتلوني فاني عبد الله وأخو رسوله.

وبسطوا يده فقبضها ، وعسر عليهم فتحها ، فمسحوا عليها وهي مضمومة.

ثم لقي أمير المؤمنين عليه السّلام بعد هذا الفعل بأيام أحد القوم فناشده الله وذكره بأيام الله


وقال له : هل لك ان أجمع بينك وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى يأمرك وينهاك؟.

فقال له : نعم!.

فخرجا الى مسجد (قبا) فأراه رسول الله صلّى الله عليه وآله قاعدا فيه فقال له : يا (فلان) على هذا عاهدتموني به في (تسليم الأمر الى علي وهو أمير المؤمنين).

فرجع وقد همّ بتسليم الأمر إليه ، فمنعه صاحبه من ذلك ، فقال : هذا سحر مبين معروف من سحر بني هاشم ، أو ما تذكر يوم كنّا مع ابن أبي كبشة فأمر شجرتين فالتقتا فقضى حاجته خلفهما ، ثم أمرهما فتفرّقتا ، وعادتا الى حالهما؟.

فقال له : اما ان ذكرتني هذا فقد كنت معه في الكهف فمسح يده على وجهي ثم أهوى رجله فأراني البحر ثم أراني جعفرا وأصحابه في سفينته تقوم في البحر.

فرجع عما كان عازم عليه ، وهمّوا بقتل أمير المؤمنين عليه السّلام وتواصوا وتواعدوا بذلك وان يتولى قتله خالد بن الوليد فبعثت (اسماء بنت عميس) الى أمير المؤمنين عليه السّلام بجارية لها فأخذت بعضادتي الباب ونادت : ان الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج اني لك من الناصحين.

فخرج عليه السّلام مشتملا سيفه وكان الوعد في قتله : ينتهي امامهم من صلاته بالتسليم فيقوم خالد إليه بسيفه.

فأحسوا بأسه فقال الإمام قبل أن يسلم : لا يفعلن خالد ما أمرته به.

ثم كان من أقاصيصهم ما رواه الناس.

وفي سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام من إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام مات (ابن أبي قحافة) وهو عتيق بن عثمان وأوصى بالأمر بعده الى عمر بن الخطاب لعهد كان بينهما ، واعتزله أمير المؤمنين عليه السّلام كاعتزاله لصاحبه قبله ، لا يأمر إلّا بما لم يجد من الأمر به بدا ، ولا ينهى إلّا عمّا لم يجد من النهي عنه بدا ، وهم في خلال ذلك يسألونه ويستفتونه في حلالهم وحرامهم وفي تأويل الكتاب وفصل الخطاب.

وبعد اثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر وأيام من إمامة أمير المؤمنين قتل أبو لؤلؤة مولى المغيرة بن شعبة عمر بن الخطاب بخنجر جرحه به ، وكان الخنجر مسموما فمكث ثلاثة


أيام ثم مات ، وجعل الخلافة بعده شورى بين ستة وقال : هؤلاء أحقّ الناس بالخلافة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا ما اختلجني فيه الشكوك ان أقلّده هذا الأمر بعدي.

وجعل أمير المؤمنين عليه السّلام في الشورى آخر الستة منهم وبدا فسمّى عثمان بن عفان وأشار إليه وعرض بتوليه الأمر بعده ثم طلحة بن عبيد الله التيمي والزبير بن العوام الأسدي وعبد الرحمن بن عوف الزهري وسعد بن أبي وقاص ثم علي بن أبي طالب الهاشمي بعدهم في وصيته ، وأمر صهيبا أن يصلّي بالناس الى أن يستقرّ أمر القوم في الشورى فان اختلف الستة قتل الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن ونصب الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف من يتّفقون عليه ، وان انقضت ثلاثة أيام ولم يقع الاختيار والاتفاق على أحدهم قتل الستة بأجمعهم.

فصلّى صهيب ـ وروي عبد الرحمن بن عوف ـ بالناس ثلاثة أيام ثم وقع اختيار عبد الرحمن بن عوف على عثمان فقلّده الأمر ، ولم يجد عبد الرحمن عنده ما قدره مع المواخاة والصهر الذي كان بينهما فأظهر الندامة والأسى على فعله واختياره وصار أحد من يؤلب عليه الناس. واعتزلهم أمير المؤمنين عليه السّلام.

وكان من حديث عثمان ما رواه الناس من ايوائه طريد رسول الله الحكم بن العاص ومروان ابنه وانّه استوزر مروان ورد أموره والنظر في أعماله وأحكام المسلمين إليه ونفيه أبا ذر جندب بن جنادة بعد أن وجر حلقه وضرب ظهره وحمل على قتب يابس الى الربذة حتى مات فيها.

وقد روى الناس ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله فيه ووصفه له بالصدق وشهادته له بالجنّة.

ثم اجتمع المهاجرون والأنصار على محاصرة عثمان والهجوم عليه حتى قتلوه ، وذلك في أربع وعشرين سنة من إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام.

ثم صار الناس الى أمير المؤمنين ليبايعوه ، فامتنع عليهم ، فألحوا عليه حتى أكرهوه وتداكوا عليه تداك الإبل على الماء ، فبايعهم على كتاب الله وسنّة نبيّه طائعين راغبين.

فلما بايعوه قام خطيبا في الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكّرهم بأيام الله ثم قال : يا


أيها الناس أن أوّل قتيل بغى على وجه الأرض عناق بنت آدم خلق الله لها عشرين اصبعا لكلّ اصبع فيها ظفران كالمنجلين الطويلين من حديد وكان مجلسها على جريب من الأرض فبغت في الأرض ثمانين سنة فلما أراد الله هلاكها خلق لها أسدا مثل الفيل وذئبا مثل الحمار الكبير ونسرا مثل البعير فسلّطهم عليها فمزقوها فقتلوها وأكلوها ثم قتل الله الجبابرة في زمانها ، وقد اهلك الله فرعون وهامان وخسف بقارون وقد قتل عثمان وكان لي حق حازه من لم آمنه عليه ولم اشركه فيه فهو منه على شفا حفرة من النار لا يستنفذه منها إلّا نبي مرسل يتوب على يديه ولا نبي بعد محمّد صلّى الله عليه وآله.

ثم قال : أيها الناس! الدّنيا دار حق وباطل ولكل أهل. ألا ولئن غلب الباطل فقديما كان ، ولئن قلّ الحق وضعف صاحبه فليس بما عاد ، ولئن رد عليكم أمركم انّكم لسعداء ولقد خشيت أن تكونوا في فترة من الزمن اما اني لو أشاء أن أقول لقلت سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب همّته بطنه ، يا ويحه لو قص جناحه وقطع رأسه كان خيرا له ، شغل عن الجنّة والنار امامه.

ثم قال بعد كلام طويل في هذه الخطبة :

ان الله جل وعلا أدّب هذه الامّة بالسيف والسوط فاستتروا ببيوتكم وأصلحوا ذات بينكم فان التوبة من ورائكم ، من أبدى صفحته للحق هلك ، ألا وان كلّ قطيعة أقطعها عثمان ـ أو قال أعطاه ـ من مال الله فهو مردود على بيت مال المسلمين فان الحقّ قديم لا يبطله شيء ولو وجدته تفرّق في البلدان لرددته فان في الحق سعة ، ومن ضاق عنه الحق فالجور عنه أضيق ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

ثم استأذنه طلحة والزبير في الخروج الى مكّة وكانا أوّل من بايعه ومدا يده وصفقا عليها ومسحاها فاذن لهما وحذّرهما النكث والغدر وجدّد عليهما بيعته وذكّرهما ما سمعاه من قول رسول الله صلّى الله عليه وآله لهما وله بحضرتهما : انّك تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين.

وقد روي في قتالهم ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله رواه الخاص والعام ولا يدفع ذلك إلّا معاند ، فخرجا الى مكّة فألّبا عليه الناس وأخرجا عائشة الى البصرة وقد


أنذرها رسول الله صلّى الله عليه وآله انّها تقاتله ظالمة له وبكلاب الحوأب إذا نبحت في طريقها وما رواه الناس في ذلك.

فدخلوا البصرة ونهبوا ما في بيت مال المسلمين وضربوا جماعة من أصحابه بالسوط حتى ماتوا فنهض إليهم يذكّرهم بأيام الله فأبوا إلّا طغيانا وبغيا فوعظهم وجاهدهم بلسانه فلم يرجعوا ولا اتّعظوا بوعظه وأقاموا على محاربته فأظهره الله عليهم وأظفره بهم وقتل طلحة مروان بن الحكم وكان معه في صحابته ورجاله واتبع الزبير به ابن جرموز ممّن خرج بعد ذلك على أمير المؤمنين من الخوارج وقتله أمير المؤمنين عليه السّلام فيمن قتل منهم ولذلك بشّره بالنار لما أتاه بخبر الزبير وانّه قتله بوادي السباع فتولى قتلهما من كان معهما ومع عائشة وكانوا سبعين ألف رجل وكانت عائشة على جمل أورق يقال له عسكر فأمر به أمير المؤمنين عليه السّلام فعرقب فقام على ثلاث فعرقب الثاني من رجليه فقام على يديه فعرقب فقام على يد واحدة فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : شيطان وربّ الكعبة ، فقطع الرابع فسقط والهودج على ظهره وظفر بعائشة.

فقال له ناس من أصحابه فيها ما لم يقبله وخطأهم ووكّل بها نساء متلثمات أركبهن الخيل وردّها معهن الى المدينة.

وانقضت حرب الناكثين والحمد لله ربّ العالمين.

وخرج عليه معاوية بن أبي سفيان رأس القاسطين فنهض إليه فذكّره بأيام الله فأبى إلا نفورا أو بغيا وعدوانا فحاربه وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة.

فلما رأى معاوية انّه قد أخذ بكظمه شاور عمرو بن العاص فأشار عليه بمكيدة ان يرفع له المصاحف فرفعها إليه على رءوس الرماح فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : انها مكيدة وكلمة حق أريد بها باطل.

ثم كان من الأمر ما رواه الناس وحكم أمير المؤمنين عليه السّلام كتاب الله دون غيره فخالف أبو موسى الأشعري وصيته وأمره وفعل وعمرو بن العاص ما فعلاه.

وانصرف أمير المؤمنين ليعد وليستعد ويرجع لقتال معاوية ومن معه من القاسطين فخالف عليه أصحابه أهل العراق وخرجت الخارجة المارقة الذين مرقوا من الدين كما


مرق السهم من الرمية فحاربهم بالنهروان فقتل منهم أربعة آلاف لم ينج منهم إلّا أربعة نفر وقعوا على أطراف الأرض وتناسلوا فالخارجة الى يوم القيامة من نسل أولئك الأربعة.

فانصرف الى الكوفة ليعاود الى قتال معاوية فكان من أمره مما رواه الناس.

معجزات علي

وروي عن العالم عليه السّلام انّه قال : الاسم الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا اعطي جميع الأنبياء منه خمسة عشر حرفا واعطي محمّد صلّى الله عليه وآله اثنين وسبعين حرفا وأعطي أمير المؤمنين عليه السّلام ما اعطي رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وروي ان أمير المؤمنين عليه السّلام قال بعد ان حمد الله وأثنى عليه : وعلمنا منطق الطير وأوتينا من كلّ شيء ان هذا لهو الفضل العظيم.

وروي ان بعض أصحابه أتاه فقال يا أمير المؤمنين عليه السّلام : قد نشق الفرات من الزيادة فقام حتى توسط الجسر ثم ضربه بعصاه ضربة فنقص ذراعين ثم ضربه ضربة اخرى فنقص ذراعين.

وروي ان جماعة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله أتوه فقالوا له : يا رسول الله ان الله اتّخذ إبراهيم خليلا وكلّم موسى تكليما وكان عيسى عليه السّلام يحيي الموتى فما صنع بك ربّك؟.

فقال : ان كان الله اتخذ إبراهيم خليلا فقد اتخذني حبيبا ، وان كان كلّم موسى من وراء حجاب فقد رأيت جلال ربّي وكلّمني مشافهة ، وان كان عيسى يحيي الموتى باذن الله فان شئتم أحييت لكم موتاكم باذن الله.

فقالوا : قد شئنا.

فأرسل معهم أمير المؤمنين عليه السّلام بعد أن رداه بردائه الّذي كان يقال له المستجاب ثم أخذ طرفيه فجعلهما على كتفيه ورأسه وأمره أن يقدمهم الى قبور موتاهم وأمرهم باتباعه.

فاتبعوه فلما توسط الجبانة سلّم على أهل القبور ودعا وتكلّم بكلام لم يسمعه القوم


فاضطربت الأرض وارتجّت فدخلهم من ذلك ذعر شديد فقالوا : اقلنا يا أبا الحسن أقالك الله.

ورجعوا الى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا له : اقلنا.

فقال لهم : انما رددتم على الله لا أقالكم الله عثرتكم يوم القيامة.

وروي عن أبي اسحاق السبيعي قال : دخلت مسجد الكوفة فاذا أنا بشيخ لا أعرفه ودموعه تسيل على خدّيه فقلت له : ما يبكيك يا شيخ؟.

قال : انّه قد أتت عليّ مائة سنة ونيف على المائة لم أر فيها عدلا ولا حقّا إلّا ساعة من ليلة أو الا ساعة من يوم.

فقلت : وكيف ذلك؟.

فقال : اني كنت رجلا من اليهود وكانت لي ضيعة بناحية (سورا) فدخلت الكوفة بطعام على حمير أريد بيعه بها فبينا أنا أسوق الحمير إذ افتقدتها فكأن الأرض ابتلعتها فأتيت منزل الحرث الهمداني وكان لي صديقا فشكوت إليه ما أصابني فأخذ بيدي ومضى بي الى أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبرته الخبر فقال للحرث : انصرف يا حارث الى منزلك فاني الضامن للحمير والطعام ، وأخذ أمير المؤمنين عليه السّلام بي فمضى حتى انتهى الى الموضع الذي فقدت فيه الحمير فوجه وجهه القبلة ورفع يده الى السماء ثم سجد وسمعته يقول في سجوده : والله ما على هذا عاهدتموني وبايعتموني يا معشر الجن وأيم الله لئن لم تردوا على اليهودي حميره وطعامه لأنقضن عهدكم ولأجاهدنكم في الله حق جهاده.

قال اليهودي : فو الله ما فرغ من كلامه حتى رأيت الحمير عليها الطعام تجول حولي فتقدّم إليّ يسوقها فسقتها معه حتى انتهينا الى الرحبة فقال : يا يهودي عليك بقية من الليل فضع عن حميرك حتى تصبح.

فوضعت عنها.

ثم قال لي : ليس عليك بأس.

ودخل المسجد فلما فرغ من صلاته وبزغت الشمس خرج إليّ فعاونني على الطعام


حتى بعته واستوفيت ثمنه وقضيت حوائجي.

فلما فرغت لقيته وقلت : أشهد ان لا إله إلّا الله وأشهد ان محمدا رسول الله وأشهد انّك عالم هذه الامة وخليفة الله على الجنّ والإنس فجزاك الله عن الاسلام وأهله والذّمة وأهلها خيرا.

ثم انطلقت حتى أتيت ضيعتي فأقمت بها مدّة ثم اشتقت الى لقائه فقدمت الآن فوجدته قد قتل ، فجلست حيث تراني أبكي عليه.

وروي أن أمير المؤمنين عليه السّلام كان على منبر الكوفة يخطب الناس إذ أقبلت حيّة من باب الفيل فقال : افرجوا لها فان هذا رسول قوم من الجنّ يقال لهم بنو عامر.

فافرجوا وجاءت الحية حتى صعدت الى أمير المؤمنين عليه السّلام فوضعت فاها في اذنه وهي تنق فكلّمها مثل نقيقها وولّت خارجة من حيث دخلت.

فنزل عليه السّلام بعد فراغه من خطبته فأخبر الناس : ان قتالا وقع بين قوم من الجن فأتت هذه الحية تسأله عمّا يصلح بينهم فعلّمها.

وروي أن تلك الحية كانت وصي أمير المؤمنين عليه السّلام على الجن.

رد الشمس للامام على عليه السّلام

وروي أن أمير المؤمنين عليه السّلام مر بأرض بابل وقد غابت الشمس واشتبكت النجوم فنزل وجثا على ركبتيه ودعا ما شاء الله أن يدعو ، فرجعت الشمس بيضاء نقية حتى صلّى العصر ثم انقضت كما ينقض الكوكب حتى غابت وعاد الظلام.

وقد روي انما ردّت عليه في حياة السيد رسول الله صلّى الله عليه وآله بمكّة وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله موعوكا فوضع رأسه في حجره وحضر وقت العصر فلم يزل من موضعه حتى انتبه فقال صلّى الله عليه وآله : اللهم ان كان عليّا في طاعتك فرد عليه الشمس.

فردّها الله عز وجل بيضاء نقية حتى صلّى ثم غربت.


كراماته الاخرى عليه السّلام

وروي انّه خرج على أصحابه بعد عشاء الآخرة في ليلة مظلمة وهو يهمهم همهمة لا تدرى وعليه قميص آدم وبيده عصا موسى وخاتم سليمان عليهم السّلام.

وروي انّه اجتاز في طريقه الى الشام «ببادوريا» فخرج أهل قرية منها يقال لها «قطفتا» فشكوا إليه ثقل الوضايع في الخراج وانها مخالفة لسائر وضائع السواد بالعراق فقال لهم بالنبطية «وغرار وطاهوا غررنا» يعني رب جحش صغير خير من حمار كبير.

فكانوا كلّموه بالنبطية فأجابهم بكلامهم ، ثم قال لهم : أنتم تبيعون ثماركم بضعف ما يبيعها غيركم من أهل السواد.

وروي انّه كان اذا جلس للناس فوقف الرجل بين يديه قال له : اقعد واستعد وأعد لنفسك فأنت تموت في يوم كذا وسنة كذا وسبب مرضك كذا.

وروي عن الحرث الهمداني قال : خرجنا مع أمير المؤمنين عليه السّلام حتى انتهينا الى «العاقول» فاذا هو بأصل شجرة قد وقع لحاؤها وبقي عودها فضربها بيده ثم قال : ارجعي باذن الله خضراء مثمرة فاذا هي تهتزّ بأغصانها حملها الكمثرى فأكلنا وحملنا معنا.

وروي انّه قال في خطبة له بعد حمد الله والثناء عليه : انّه يموت منّا من مات وليس بميّت ويبقى من بقي منا حجّة عليكم.

وروي أنّه قال لأصحابه : اعرضوا عليّ مسائلكم فكان ممّا سألوه عن صياح البهائم من الوحش والطير والدّواب. فقال : أما الدراج فانّه يقول (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وأما الديك فانّه يقول «اذكروا الله يا غافلين» واما الحمار فيلعن العشّارين وينهق في وجه الشياطين ، وأما الضفدع فانّه يقول «سبحان المعبود بكلّ مكان .. سبحان المعبود في لجج البحار .. سبحان المسبّح بكلّ لسان» ، واما القنبرة فانّها تقول «اللهم العن مبغضي آل محمّد» ، وأما الفرس فانّه يقول «سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح» ، وأما الورشان فيقول «آل محمّد خير البرية» ، وأما القمري فيقول «جزى الله محبي آل محمّد خيرا».


شهادة الامام علي عليه السّلام

وكان من حديث الضربة وابن ملجم (لعنه الله) ما روي. وكانت الضربة لتسع ليال بقين من شهر رمضان سنة إحدى وأربعين من الهجرة. وروي أن الناس اجتمعوا حوله وان أم كلثوم صاحت «وا أبتاه» فقال عمرو بن الحمق : ليس على أمير المؤمنين بأس ، إنمّا هو خدش. فقال عليه السّلام انّي مفارقكم. ثم قال الى السبعين بلاء ، حتى قالها ثلاث مرّات.

قال له عمرو بن الحمق : فهل بعد البلاء رخاء؟. فلم يجبه.

وروي عن العالم عليه السّلام ان معنى قوله «الى السبعين بلاء» ان الله ـ جلّ وعزّ ـ وقّت للفرج سنة سبعين. فلما قتل الحسين عليه السّلام غضب الله على أهل ذلك الزمان فأخّره الى حين.

وروي أن أم كلثوم بكت ، فقال لها : يا بنية ما يبكيك؟ لو ترين ما أرى ما بكيت! ان ملائكة السبع سماوات مواكب ؛ بعضهم خلف بعض ، والنبيّون خلفهم ؛ كلّ نبي كان قبل محمّد ، وها هو ذا رسول الله صلّى الله عليه وآله عندي أخذ بيدي يقول لي انطلق يا علي فان أمامك خيرا لك مما أنت فيه.

ثم قال : اخلوني وأهل بيتي أعهد إليهم.

فقام الناس إلّا اليسير ، فجمع أهل بيته وهم اثنا عشر ذكرا وبقي قوم من شيعته ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : ان الله تبارك وتعالى أحبّ أن يجعل فيّ سنّة نبيّه يعقوب إذ جمع بنيه وهم اثنا عشر ذكرا فقال «اني أوصي الى يوسف فاسمعوا له وأطيعوا أمره» واني أوصي الى الحسن والحسين فاسمعوا لهما وأطيعوا أمرهما.

فقام إليه عبد الله فقال : يا أمير المؤمنين أدون محمّد ـ يعني ابن الحنفية ـ فقال له : أجرأة في حياتي ، كأنّي بك وقد وجدت مذبوحا في خيمته.

وأوصى الى الحسن وسلّم إليه الاسم الأعظم والنور والحكمة ومواريث الأنبياء وقال له : إذا أنا متّ فغسّلني وكفّنّي وحنّطني وأدخلني قبري ، فإذا أشرجت عليّ اللبن فارفع أوّل لبنة فاطلبني ؛ فإنّك لن تراني.


وقبض عليه السّلام في ليلة الجمعة لتسع ليال بقين من شهر رمضان فكان عمره خمسا وستين سنة (وروي ثلاثا وستين سنة) منها مع النبي وخمس وثلاثون سنة ، وبعده ثلاثون سنة. ودفن بظاهر الكوفة بالغري.

وقد روى الناس بما أوصى به الى الحسن عليه السّلام أن يحمل هو وأخوه الحسين عليه السّلام مقدم الجنازة فاذا وقفت الجنازة حفر في ذلك الموضع فانّهما يجدان خشبة كان نوح عليه السّلام حفرها له فدفناه فيها.

وروي أن الجنازة حملت الى مسجد السهلة ووجدت ناقة باركة هناك فحمل عليها وأقاموها وتبعوها فلما وقفت بالغري وبركت حفر في ذلك المكان فوجد الخشبة المحفورة فدفن فيها حسب ما أوصى ، وان آدم ونوحا وأمير المؤمنين عليهم السّلام في قبر واحد.

وكان حمله ودفنه ليلا ؛ لم يتولّ أمره في ذلك سوى الحسن والحسين عليهما السّلام.

وروي أنّه لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله) وحمل الى منزله ، اجتمع إليه الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : كلّ امرئ ملاق ما يفرّ منه ، والأجل تساق إليه النفس ، والهرب منه موافاته. كم اطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى الله ـ جلّ ذكره ـ إلّا اخفاءه. هيهات .. علم مكنون. أمّا وصيتي لكم فالله ـ جل وتعالى ـ لا تشركوا به شيئا ومحمّدا صلّى الله عليه وآله لا تضيّعوا سنته. أقيموا هذين العمودين وخلاكم ذم ما لم تشردوا كل امرئ مجهوده ، وخفّف عن الجهلة ربّ رحيم ، ودين قويم ، وامام عليم ، كنار في أعصار ودوي رياح تحت ظلّ غمامة اضمحل راكدها ، فحطّها من الأرض حبا جاوركم بعدي خيرها ساكنة بعد حركة كاظمة بعد نطق ليعظكم هدى وخفرت أطوافي انّه أوعظ لكم من نطق البليغ ، ودّعتكم وداع امرئ مرصد للتلاق ، غدا تروى آثاري ، ويكشف لكم عن سرائري ، عليكم السلام الى يوم اللزازم ، كنت بالأمس صاحبكم ، وأنا اليوم عظة لكم. وغدا مفارقكم. ان أبق فأنا وليّ دمي ، وان أفن فالقيامة ميعادي والعفو أقرب للتقوى فاعفوا عفا الله عني وعنكم ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم!

وروي انّه لما قتل لم يبق حول بيت المقدس حجر إلّا دمي.

وروي ان ابن عباس قال في صبيحة اليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين عليه السّلام : اني


رأيت البارحة في منامي كأن جبل أبي قبيس قد انهدّ وتقطّع وسقط حوالي الكعبة واظلمّت الكعبة ومكّة وما حولهما من غبار الجبل حتى لم ير الناس بعضهم بعضا.

قال : فقلت : انا لله وانّا إليه راجعون. ما أخوفني أن يكون ذلك لشيء قد نال أمير المؤمنين عليه السّلام.

قال فورد الخبر بقتله في تلك الليلة التي رأيت فيها هذه الرؤيا.

وروي أن الحسن قام خطيبا بعد دفنه ، فعلا منبر الكوفة وعليه عمامة سوداء مسدولة وطيلسان أسود ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : انّه والله قد قبض في هذه الليلة رجل ، ما سبقه الأولون ، ولا يدركه الآخرون ، ان كان لصاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وآله ، جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، لا ينثني حتى يفتح الله على يديه ، والله ما ترك بيضاء ولا حمراء إلّا سبعمائة درهم من فضل عطائه ، ولقد قبض في الليلة التي نزل فيها القرآن ، وفي الليلة التي قبض فيها يوشع بن نون ، وفي الليلة التي رفع فيها عيسى بن مريم عليه السّلام.

الحسن السبط عليه السّلام

وقام أبو محمد الحسن بن علي عليه السّلام مقامه صلوات الله عليه.

ولدت سيّدة النساء فاطمة (صلوات الله عليها) بعد مبعث السيد رسول الله صلّى الله عليه وآله بخمس سنين ، فأقامت بمكّة مع النبيّ صلّى الله عليه وآله ثماني سنين ، وبالمدينة عشر سنين وشهورا. وولدت أبا محمّد وسنّها احدى عشر سنة بعد الهجرة بثلاث سنين ، وكانت ولادته مثل ولادة جدّه وأبيه ، وولد طاهرا مطهّرا ، وربّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وتولّى تعليمه وتلقينه وتأديبه بنفسه. ومضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وله سبع سنين وأشهر ، وأقام مع أمير المؤمنين عليه السّلام ثلاثين سنة ، وكان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في خلال ذلك يشير إليه وينصّ عليه بآي من القرآن والأحاديث. فلما حضرت وفاته دعاه ودعا بأبي عبد الله وبجميع أولاده وثقات شيعته وسلّم إليه الوصيّة التي تسلّمها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وأوصى بما أراد واحتاج. وأمره بغسله وتكفينه ودفنه وقال له في رفع اللبن عند ما ذكرناه ففعل عليه السّلام ما أمره به.

وروي أن أبا عبد الله الجدلي كان فيمن حضر الوصيّة بالدفن فسأل أبا محمّد عن رفع


اللبنة فقال : يا سبحان الله أتراني كنت أغفل عن هذا!

فقال له : فوجدته في القبر؟

فقال : لا والله.

ثم قال عليه السّلام : ما من نبي يموت في المغرب ، ويموت وصيّه في المشرق إلّا جمع الله بينهما في ساعة واحدة.

وقام أبو محمّد بأمر الله ـ جل وعلا ـ واتّبعه المؤمنون وأتاه الناس فبايعوه وقالوا له : يا ابن رسول الله نحن السامعون المطيعون لك.

قال : كذبتم فو الله ما وفيتم لمن كان خيرا منّي ، فكيف تفون لي وكيف أطمئن إليكم إن كنتم صادقين ، فموعدنا بيني وبينكم المعسكر في المدائن.

فركب ، وتخلّف عنه أكثر الناس ، فقام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه وذكّرهم بأيام الله ثم قال : يا أيها الناس قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ، فلا جزاكم الله عن رسول الله وأهل بيته خيرا. مع أي إمام تقاتلون بعدي ، مع الظالم الكافر الزنديق الذي لم يؤمن بالله وبرسوله قط ، ولا أظهر الإسلام ومن تقدّمه من الشجرة الملعونة في كتاب الله بني أمية إلّا خوفا من سيوف الحق. ولو لم يبق منهم إلّا عجوز درداء لبغت لدين الله الغوائل.

ثم نزل ووجّه برجل من كندة في أربعة آلاف على مقدّمته لحرب معاوية ، وأمره أن يعسكر بالأنبار ولا يحدث شيئا حتى يأتيه أمره.

فلما نزل الكندي الأنبار ، بعث إليه معاوية رسولا يعده ويمنيه ويبذل له الرغائب من المال وحطام الدّنيا وان يولّيه من أعمال الشام والجزيرة ما يختاره ويسوقه مال ما يقلّده ، وحمل إليه خمسين ألف درهم صلة له ومعونة على سفره ، فقبض عدوّ الله الكندي المال ومضى الى معاوية.

فقام أبو محمّد عليه السّلام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس هذا فلان الكندي قدمته بين يدي الله لمحاربة عدوّ الله وابن آكلة الأكباد فبعث إليه بمال ووعده ومنّاه حطام الدّنيا ومتاعها فباع دينه وآخرته بدنيا زائلة غير باقية وقد توجّه إليه ، وقد


أخبرتكم مرّة أخرى انّه لا وفاء لكم ولا ذمّة ولا خير عندكم وأنّكم عبيد الدّنيا. واني موجّه مكانه رجلا وإني لأعلم انّه يفعل فعل صاحبه غير مفكّر في عاقبة أمره ومرجعه ولا مراقب لله في دينه.

وبعث رجلا من (مراد) في أربعة آلاف وتقدّم إليه بمشهد من الناس وحذّره الغدر والنكث.

فلما صار الى الأنبار أتاه رسول معاوية بمثل ما أتى الكندي من الصلة والمواعيد ، فتوجّه إليه مؤثرا لدنياه على آخرته وبايعا دينه بالتافه القليل الفاني ومختارا على الجنّة.

فقام أبو محمّد عليه السّلام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وقال : قد عرفتكم انّكم لا تفون بعهد ولا تستيمنون الى عقد ، وقد غدر المرادي الذي اخترتموه وقبله ما اخترتم الكندي. فقام أناس فقالوا ان كان الرجلان غدرا فنحن ننصح ولا نغدر.

فقال لهم : كلّا واني أعذر بيني وبينكم مع علمي بسوء ما تبطنون وتنطوون عليه ، وموعدكم عسكري بالنخيلة.

ثم خرج ، فعسكر بالنخيلة وأقام به عشرة أيام ، فلم يلحق به منهم إلّا عدد يسير ، فانصرف الى الكوفة وقام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا عجبا من قوم لا حياء لهم ولا دين .. من غدرة بعد غدرة. أما والله لو وجدت أعوانا لقمت بهذا الأمر أي قيام ، ونهضت به أي نهوض ، وأيم الله لا رأيتم فرجا ولا عدلا أبدا مع ابن آكلة الأكباد وبني أمية وليسومنكم سوء العذاب حتى تتمنّوا أن يليكم عبد حبشي مجدع ، فأفّ لكم وبعدا وترحا يا عبيد الدنيا وموالي الحطام.

ثم نزل وهو يقول : واعتزلكم وما تدّعون من دون الله.

فاتبعه من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام عدد يسير إشفاقا عليه وحقنا لدمه. وغلب ابن آكلة الأكباد على الملك مدّة أيام أبي محمّد عليه السّلام وأظهر من اللباس والزي والفرش والاثاث مثل ما كانت ملوك الأعاجم تفعله وكان من أمره ما قص وروي وسارت الركبان بخبره.

ومن دلايل أبي محمّد عليه السّلام ما روي انّه خرج الى مكّة في بعض السنين ماشيا حتى


تورّمت رجله ، فقال بعض مواليه لو ركبت لسكن عنك ما تجد.

فقال له : اذا أتينا هذا المنزل فيستقبلك عبد أسود معه دهن فاشتر منه ولا تماكسه.

فساروا حتى انتهوا الى الموضع فاذا بالأسود فقال أبو محمّد عليه السّلام لمولاه : دونك الرجل.

فقصده فأخذ منه بما استلم به وأعطاه الثمن فقال له الأسود : لمن تأخذ هذا الدهن؟ فقال : للحسن بن علي عليه السّلام.

فانطلق معه إليه فقال له : بأبي أنت وأمي لم أعلم ان الدهن يراد لك ولست أحبّ أن أقبل له ثمنا ، فاني مولاك ، ولكن ادع الله أن يرزقني ولدا ذكرا سويّا يحبّكم أهل البيت ؛ لأنّي خلّفت أهلي في شهرها.

قال : فانطلق الى منزلك فقد فعل الله بك ذلك ووهب لك غلاما سويّا وهو لنا شيعة.

فانطلق الرجل فوجد امرأته قد ولدت غلاما ؛ يروى انّه أبو هاشم السيد ابن محمّد الحميري وكان أبوه انتقل من أرض حمير الى أرض تهامة ثم عاد الى بلده.

ويروى عن أبي جعفر الثاني محمّد بن علي الرضا عليه السّلام انّه قال عن آبائه (صلوات الله عليهم) .. قال : أقبل أمير المؤمنين ومعه أبو محمد عليهم السّلام وسلمان الفارسي فدخل المسجد وجلس فيه فاجتمع الناس حوله إذ أقبل رجل حسن الهيئة واللباس فسلّم على أمير المؤمنين عليه السّلام وجلس ثم قال : يا أمير المؤمنين اني قصدت أن اسألك عن ثلاث مسائل ان أخبرتني بهن علمت انّك وصي رسول الله حقّا ، وان لم تخبرني بهنّ علمت انّك وهم شرع سواء.

فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : سل عمّا بدا لك.

فقال : أخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه ، وعن الرجل كيف يذكر وينسى ، وعن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام والأخوال.

فالتفت أمير المؤمنين عليه السّلام الى أبي محمّد عليه السّلام فقال : يا أبا محمّد أجبه.

فقال أبو محمد : أما الانسان اذا نام فان روحه معلّقة بالريح ، والريح متعلّقة بالهواء الى وقت يتحرّك صاحبها الى اليقظة ، فاذا أذن الله بردّ الروح ، جذبت تلك الروح الريح ،


وجذبت الريح الهواء فرجعت الروح الى مسكنها في البدن. واذا لم يأذن الله بردّ الروح الى صاحبها ، جذبت الهواء الريح ، وجذبت الريح الروح فلم ترجع الى صاحبها الى أن يبعثه الله تبارك وتعالى. واما الذكر والنسيان فان قلب الرجل في مثل حق وعليه طبق فان سمّى الله وذكره وصلّى ـ عند نسيانه ـ على محمّد وآله انكشف ذلك الطبق وهو غشاوة عن ذلك الحق وأضاء القلب وذكر الرجل ما كان نسي. وان هو لم يصل على محمّد وآله بعد ذكر الله عز وجل انطبقت تلك الغشاوة على ذلك الحق فأظلم القلب فنسي الرجل ما ذكر. وأما المولود الذي يشبه الأعمام والأخوال فان الرجل إذا أتى أهله فواطأها بقلب ساكن وعروق هادئة وبدن غير مضطرب ، استكنت تلك النطفة في جوف الرحم وخرج الرجل يشبه أباه وأمّه. وإن هو أتاها بقلب غير ساكن وعروق غير هادئة وبدن مضطرب اضطربت النطفة فوقعت في اضطرابها على بعض العروق ، فان وقعت على عرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه ، وان وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الولد أخواله.

فقال الرجل : أشهد أن لا إله إلّا الله ولم أزل أشهد بها ، وأشهد أن محمّدا صلّى الله عليه وآله رسول الله ولم أزل أشهد بها ، وأشهد أنّك وصيّه وخليفته والقائم بحجته ـ وأشار الى أمير المؤمنين عليه السّلام ـ وأشهد انّك وصيّه والقائم بحجّته ـ وأشار الى الحسن ـ وأشهد أن أخاك الحسين وصيّ أبيك ووصيّك والقائم بحجّته بعدك ، وأشهد أن علي بن الحسين القائم بأمر الحسين وأشهد أن محمّد بن علي القائم بأمر علي بن الحسين ، وأشهد أن جعفر بن محمد بن علي القائم بأمر الله بعد أبيه وحجّته ، وأشهد أن موسى بن جعفر القائم بأمر الله بعد أبيه جعفر ، وأشهد أن علي بن موسى القائم بأمر الله بعد أبيه ، وأشهد أن محمد بن علي القائم بأمر الله بعد أبيه ، وأشهد أن علي بن محمّد القائم بأمر الله بعد أبيه محمّد بن علي ، وأشهد أن الحسن بن علي القائم بأمر أبيه علي بن محمد ، وأشهد أن رجلا من ولد الحسين بن علي لا يسمّى ولكن يكنّى حتى يظهر الله أمره يملأها عدلا كما ملئت جورا ، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

ومضى ، فقال أمير المؤمنين : اتبعه يا أبا محمد فانظر أين يقصد؟


قال : فخرج الحسن بن علي عليه السّلام في أثره ، فلما وضع الرجل رجله خارج المسجد لم يدر كيف أخذ من أرض الله.

فرجع إليه فأعلمه فقال : يا أبا محمد أتعرفه؟

قال : الله ورسوله وأمير المؤمنين أعلم به.

قال : ذاك الخضر عليه السّلام.

وروي أن الناس على عهد أمير المؤمنين عليه السّلام تحدّثوا بأن الحسن لم تظهر منه خطابة ولا علم. فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام وقد بلغه ذلك : يا بني أن الناس قد تحدّثوا فيك بما أنت على خلافه ، فاعل المنبر واخطب الناس وبيّن عن نفسك حتى يسمعوك.

فصعد عليه السّلام فحمد الله وأثنى عليه وذكّرهم بأيام الله ثم قال : يا معاشر الناس ان أمير المؤمنين باب حطّة ، من دخله كان آمنا ، وسفينة نوح من لحق به نجا ، ومن تخلّف عنه غرق وهلك ، فلا يبعد الله إلّا من ظلم ثم نزل.

فقام أمير المؤمنين عليه السّلام وقبّل بين عينيه ثم قال : ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم.

وكان أشبه الناس لغة وخلقا وخلقا برسول الله صلّى الله عليه وآله.

ثم كان خبره في السمّ الذي دسّه إليه ابن آكلة الأكباد ما رواه الناس فاعتل عليه السّلام فدخل إليه أخوه أبو عبد الله عليه السّلام فقال له : كيف تجد نفسك يا سيدي؟

قال : أجدني في آخر يوم من الدّنيا وأول يوم من الآخرة على كره مني لفراقك وفراق اخوتي والأحبة.

ثم قال : استغفر الله على محبّة مني للقاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وأمير المؤمنين وأمي فاطمة وحمزة وجعفر.

ثم أوصى إليه وسلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء والوصيّة التي كان أمير المؤمنين سلّمها إليه. وقبض (صلّى الله عليه) بعد خمسين سنة من الهجرة ؛ وسنه سبع وأربعون سنة ، فأقام مع رسول الله صلّى الله عليه وآله سبع سنين وستة أشهر ، ومع أمير المؤمنين ثلاثين سنة ، ومنفردا بالوصية والامانة عشر سنين ، ودفن بالبقيع مع سيّدة النساء أمه


فاطمة في قبر واحد.

وكان الحسين عليه السّلام قد عزم على دفنه مع رسول الله صلّى الله عليه وآله فمنعت عائشة من ذلك وركبت بغلة لها وخرجت تؤلّب الناس عليه وتحرّضهم.

فلما رأى الحسين عليه السّلام ذلك دفنه بالبقيع مع أمّه ، ولقتها بعض بني هاشم ـ وروي ان ابن عباس لقيها ـ منصرفة الى منزلها فقال لها : اما كفاك أن يقال يوم الجمل حتى يقال يوم البغل؟ يوما على جمل ويوما على بغل بارزة عن حجاب رسول الله صلّى الله عليه وآله تريدين إطفاء نور الله ؛ والله متمّ نوره ولو كره المشركون ، انّا لله وانّا إليه راجعون.

فقالت له : إليك عني أفّ لك.

وروي ان الحسين عليه السّلام عند ما فعلت عائشة وجّه إليها بطلاقها ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله جعل طلاق أزواجه بعده الى أمير المؤمنين عليه السّلام وجعله أمير المؤمنين بعده الى الحسن وجعله الحسن الى الحسين عليهما السّلام.

وقال النبيّ (صلوات الله عليه) : ان في نسائي من لا تراني يوم القيامة وتلك من يطلّقها الأوصياء بعدي.

الحسين الشهيد عليه السّلام

وقام الحسين مقام الحسن بأمر الله بعده.

وروي عن عالم أهل البيت عليهم السّلام انّه قال : ان جبرئيل عليه السّلام هبط على رسول الله صلّى الله عليه وآله فأخبره ان فاطمة ابنته تلد ابنا ، وأمره أن يسمّيه الحسين ، وعرفه ان أكثر أمته يجتمع على قتله. فعرّف رسول الله صلّى الله عليه وآله أمير المؤمنين وفاطمة عليهما السّلام ذلك ، فقالت فاطمة : لا حاجة لي فيه وسألت الله أن يعفيها من ذلك.

فأوحى الله جلّ وعلا الى نبيّه صلّى الله عليه وآله أن يعرّفهما انّه يعوّض للحسين عن القتل أن يجعل الإمامة وميراث النبوّة والوصيّة والعلم والحكمة في ولده الى يوم القيامة.

فعرّفهما النبيّ صلّى الله عليه وآله ذلك ، فقالا : قد رضينا بما يحكم الله لنا.

فروي ان فاطمة عليها السّلام ولدت الحسن عليه السّلام أوّل النهار وحملت بالحسين عليه السّلام في ذلك


اليوم ؛ لأنّها كانت طاهرة مطهّرة ولم يصبها ما يصيب النساء.

وكان الحمل به ستة أشهر ، وكانت ولادته مثل ولادة رسول الله وأمير المؤمنين والحسن (صلوات الله عليهم).

قال : فلما ولد الحسين ، هبط جبرئيل عليه السّلام في ألف ملك يهنّون النبيّ صلّى الله عليه وآله بولادته ، فمر بملك من الملائكة يقال له (فطرس) في جزيرة من جزائر البحر بعثه الله عز وجل في أمر من الامور فأبطأ فيه فكسر جناحه وأزيل عن مقامه وأهبط الى تلك الجزيرة ، فمكث فيها خمسمائة عام ؛ وكان صديقا لجبرئيل عليه السّلام فيما مضى. فقال له : أين تريد؟

قال : انّه قد ولد لمحمّد النبيّ صلّى الله عليه وآله مولود في هذه الليلة فبعثني الله في ألف ملك لأهنّئه.

فقال له : يا جبرئيل احملني إليه لعلّه يدعو لي.

فحمله ، فلما أدّى جبرئيل عليه السّلام الرسالة ، ونظر النبي الى فطرس قال : يا جبرئيل من هذا؟

فأخبره بقصّته.

فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال : هل امسح جناحك على هذا المولود؟

فمسح فطرس جناحه على الحسين عليه السّلام فردّه الله الى حالته الاولى.

فلما نهض قال له النبيّ صلّى الله عليه وآله : فان الله قد شفعني فيك ، فالزم أرض كربلاء ، فأخبرني بكلّ من يأتي الحسين زائرا الى يوم القيامة.

قال : فذلك الملك يسمّى عتيق الحسين عليه السّلام.

فأقام الحسين مع النبيّ صلّى الله عليه وآله سبع سنين ، وتولّى رسول الله تغذيته وتأديبه وتعليمه ، وأنزل الله تبارك وتعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وروي ان أمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم كانوا شركاء في الوصية والإمامة ، فتقدّم أمير المؤمنين عليه السّلام بما خصّه الله ـ عز وجل ـ به وتقدّم الحسن بالكبر.


وأقام الحسين مع أمير المؤمنين عليه السّلام ثلاثين سنة ، ومع أبي محمد عشر سنين ، فلما حضرت وفاة أبي محمّد عليه السّلام أحضره وسلّم إليه جميع مواريث الأنبياء ، فقام بأمر الله عز وجل ؛ والملك في ذلك الوقت لمعاوية.

ثم توفي معاوية في سنة ستين من الهجرة وعهد الى اللعين ابنه يزيد (لعنه الله) فملك بعد أبيه وطالب أبا عبد الله عليه السّلام بمبايعته ، فامتنع عليه من ذلك.

وروي انّه لمّا أصيب رسول الله صلّى الله عليه وآله بإبراهيم ابنه من مارية القبطية جزع عليه جزعا شديدا حتى قال صلّى الله عليه وآله : القلب يجزع والعين تدمع وانّا عليك لمحزونون وما نقول ما يسخط الربّ.

فهبط عليه جبرئيل عليه السّلام فقال له : الرّب جل جلاله يقرأ عليك سلامه ويقول : اما ان يختار حياة إبراهيم فيردّه الله حيّا ويورثه النبوّة بعدك فيقتله أمتك فيدخلها الله النّار ، أو يبقى الحسين سبطك ويجعله الله إماما بعدك فيقتله نصف أمتك بين قاتل له ومعين عليه وخاذل له وراض بذلك ومبغض فيدخلهم الله بذلك النار.

فقال : يا ربّ لا أحبّ أن تدخل أمتي كلّها النار. وبقاء الحسين أحبّ ، ولا تفجع فاطمة به.

قال : وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله إذا قبّل ثنايا الحسين ولثاته قال له : فديت من فديته بإبراهيم.

ولمّا عزم الحسين عليه السّلام على الخروج الى العراق بعد ان كاتبه أهل الكوفة ووجّه مسلم ابن عقيل إليهم على مقدّمته فكان من أمره ما كان وأراد الخروج بعثت إليه أم سلمة : انّي اذكّرك الله يا سيدي أن لا تخرج.

قال : ولم؟

قالت : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : يقتل الحسين ابني بالعراق. وأعطاني من التربة قارورة أمرني بحفظها ومراعاة ما فيها.

فبعث إليها : والله يا امّاه اني لمقتول لا محالة فأين المفر من قدر الله المقدور؟ ما من الموت بدّ واني لأعرف اليوم والساعة والمكان الذي اقتل فيه ، وأعرف مكان مصرعي


والبقعة التي أدفن فيها ، وأعرفها كما أعرفك ، فان أحببت أن أريك مضجعي ومضجع من يستشهد معي فعلت.

قالت : قد شئت وحضرته.

فتكلّم باسم الله عز وجل الأعظم فتخفّضت الأرض حتى أراها مضجعه ومضجعهم ، وأعطاها من التربة حتى خلطتها معها بما كان.

ثم قال لها : اني أقتل في يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من المحرّم بعد صلاة الزوال ، فعليك السلام .. رضي الله عنك يا أمّاه برضانا عنك.

وكانت أم سلمة تسأل عن خبره وتراعي قرب عاشوراء.

وخرج محمد ابن الحنفية يشيّعه فقال له عند الوداع : يا أبا عبد الله! الله الله في حرم رسول الله.

فقال له : أبى الله إلّا أن يكنّ سبايا.

وكان من مصيره الى النهرين ما رواه الناس.

وتوجّه عبيد الله بن زياد (لعنه الله) بالجيوش من قبل يزيد في ثمانية وعشرين ألفا.

فلما صافه للحرب عليه السّلام صلّى الحسين بأصحابه الغداة. وروي انّه كان ذلك من يوم العاشر من المحرم سنة إحدى وستين .. قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وقال لأصحابه :

«ان الله عز وجل قد اذن في قتلكم اليوم وقتلي وعليكم بالصبر والجهاد».

وروي ان عدتهم في ذلك اليوم كانت واحدا وستين رجلا وان الله ـ عز وجل ـ انتصر وينتصر لدينه منذ أوّل الدهر الى آخره بألف رجل.

فسئل عن تفصيلهم ؛ فقال : ثلاثمائة وثلاثة عشر أصحاب طالوت ، وثلاثمائة وثلاثة عشر أصحاب يوم بدر مع النبيّ صلّى الله عليه وآله ، وثلاثمائة وثلاثة عشر أصحاب القائم عليه السّلام. بقي واحد وستون رجلا هم الذين قتلوا مع الحسين عليه السّلام في يوم الطف.

فروي ان الحسين عليه السّلام قال في خطبة ذلك اليوم ـ فيما حفظ من كلامه ـ : ألا وان الدعيّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة. وهيهات منّا الذلّة. يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت. نؤثر مصارع الكرام على طاعة اللئام.


ألا واني زاحف بهذه العصابة على قلّة العدد وكثرة الخذلة والعدوّ ثم أنشد يقول :

فان نهزم فهزّامون قدما

وان نغلب فغير مغلبينا

وما ان طبنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

ثم أمر أصحابه بالقتال. فقال عمر بن سعد بن أبي وقاص (لعنه الله) : يا أبا عبد الله لم لا تنزل على حكم الأمير عبيد الله بن زياد؟

فقال له : يا شقي انّك لا تأكل من بر العراق بعدي إلّا قليلا. فشأنك وما اخترته لنفسك.

فقام رجل من القوم ، فناداه وقال : ابشر يا حسين بالنار.

فقال له : من أنت؟

قال : أنا ابن جويرة.

فقال : اللهم جرّه الى النار.

فنفرت دابته تحته فاذا هو على أم رأسه فقتلته ثم دارت عليه فلم تزل تدوسه حتى بضعته اربا اربا فلم يبق منه إلّا رجلاه.

ثم أحضر علي بن الحسين عليه السّلام وكان عليلا فأوصى إليه بالاسم الأعظم ومواريث الأنبياء عليهم السّلام وعرّفه ان قد دفع العلوم والصحف والمصاحف والسلاح الى أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ وأسرّها أن تدفع جميع ذلك إليه.

وروي انّه عليه السّلام دعا ذلك اليوم ابنته الكبرى فاطمة فدفع إليها كتابا ملفوفا وأمرها أن تسلّمه الى أخيها علي بن الحسين عليه السّلام.

فسئل العالم عليه السّلام : أي شيء كان في الكتاب؟

فقال : فيه ـ والله ـ جميع ما يحتاج إليه ولد آدم الى فناء الدّنيا وقيام الساعة.

وقتل عليه السّلام يوم الجمعة عاشر محرّم سنة إحدى وستين من الهجرة ؛ وسنه في ذلك سبع وخمسون سنة ؛ منها مع النبي سبع سنين. وبعد أن أفضى أمر الله إليه عشر سنين. ودفن بكربلاء عليه السّلام.

وروي ان السماء بكت عليه أربعة عشر يوما ، فسئل علامة بكاء السماء فقال : كانت


الشمس تطلع في حمرة وتغيب في حمرة.

وروي ان الدم لم يسكن حتى خرج المختار بن أبي عبيدة فقتل به سبعين ألفا ، وان المختار قال : قتلت بالحسين سبعين ألفا ـ والله ـ لو قتلت أهل الأرض جميعا لما وفوا بقلامة ظفره.

وروي ان الله ـ جل وعز ـ أهبط إليه أربعة آلاف ملك هم الذين هبطوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم بدر ، وخيّره النصر على أعدائه أو لقائه.

فأمر الملائكة بالمقام عند قبره ، فهم شعث غبر ينتظرون قيام القائم من ولده.

وروي انّه قتل بيده ذلك اليوم ألفا وثمانمائة مقاتل وانّه دعاهم الى البراز وأخذ يتقدّم الواحد ثم العشرة ثم صاروا مائة على واحد ثم اجتمع الجيش كلّه مع كثرتهم عليه فأحاطوا به من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله.

وروي انّه ما رفع حجر إلّا وجد تحته دم عبيط وان الله جلّ وعلا رفع لأصحابه منازلهم من الجنّة حتى رأوها فحاربوا شوقا إليها وطلبا لها وحرصا عليها.

وغلب اللعين يزيد على الملك ، وعادت الإمامة مكتومة مستورة.

واستخفى بها علي بن الحسين عليه السّلام مع من تبعه من المؤمنين.

علي السجاد عليه السّلام

وقام أبو محمد علي بن الحسين عليه السّلام بالأمر مستخفيا على تقيّة شديدة في زمان صعب.

وروي عن العالم عليه السّلام انّه لما أنزل الله جل ذكره (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) كانت هذه الآية في الإمامة وكان أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السّلام شركاء ـ على ما بيّناه في باب الحسين ـ ثم أنزل الله جلّ جلاله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) فكانت هذه الآية خاصة في إمامة علي بن الحسين عليه السّلام.

وروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري انّه قال : رأيت في يد فاطمة لوحا أخضر


ظننت انّه زمرّد فيه كتاب أبيض يشبه نور الشمس فقلت : بأبي أنت وأمي ما هذا اللوح؟

فقالت : لوح أهداه الله الى نبيّه صلّى الله عليه وآله فيه اسمه واسم ابن عمّه أمير المؤمنين واسماء ابنيّ الحسن والحسين وأسماء الأوصياء من ولد الحسين عليهم السّلام فأعطانيه يبشّرنا به ويأمرني بحفظه وخزنه.

ثم دفعته إليّ وقرأته واستنسخته فكانت نسخته :

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من الله العزيز العليم لمحمّد نبيّه ونوره وسفيره وحجابه ودليله نزل به الروح الأمين من عند ربّ العالمين. عظّم يا محمد أسمائي واشكر نعمائي فاني أنا الله لا إله إلّا أنا قاصم الجبابرة ومديل المظلومين وديّان الدين. فمن رجا غير فضلي أو خاف غير عدلي عذّبته عذابا أليما لا أعذّبه أحدا من العالمين فإياي فاعبد وعليّ فتوكل اني لم أبعث نبيّا فأكملت أيامه وانقضت مدّته إلّا جعلت له وصيّا واني فضلتك على الأنبياء وفضّلت وصيّك عليّا على الأوصياء وأكرمتك بسبطيك حسن وحسين وجعلت حسنا معدن علمي وجعلت حسينا خازن وحيي وأكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة وهو أفضل من استشهد وأرفعهم درجة وجعلت كلمتي التامة معه وحجتي البالغة عنده بعترته أثيب وأعاقب ؛ أوّلهم : علي سيّد العابدين وزين أوليائي الماضين. وابنه شبيه جدّه المحمود محمد الباقر لعلمي والمعدن لحكمتي. وسيهلك المرتابون في جعفر الرادّ عليه كالرادّ على حق القول مني ، لأكرمن مثوى جعفر ولأسرنّه في أنصاره وأشياعه وأوليائه تنتج بعده فتنة عمياء حندس لأن فرضي لا ينقطع وحجتي لا تخفى وأوليائي لا يشقون. ألا ومن جحد واحدا منهم فقد جحد نعمتي ومن غيّر آية من كتابي فقد افترى عليّ. فويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدّة عبدي موسى حبيبي وخيرتي. ان المكذّب لعليّ وليّي وناصري مكذّب لكلّ أوليائي. يقتله عفريت مستكبر. يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح الى جنب شرّ خلقي. حق القول مني لأقرّن عينه بمحمّد ابنه وخليفته من بعده ووارث علمه فهو معدن علمي وموضع سرّي وحجتي على خلقي ، جعلت الجنّة مأواه وشفعته في سبعين من أهل بيته كلّهم قد استوجبوا النار. وأختم بالسعادة لابنه علي وليّي وناصري والشاهد في خلقي


منه الدّاعي الى سبيلي والخازن لعلمي الحسن. ثم أكمل ذلك بابنه رحمة للعالمين .. عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب .. يستذلّ أوليائي في زمانه وتهدى رءوسهم كما تتهادى رءوس الترك والديلم فيقتلون ويحرقون ويكونون خائفين مرعوبين وجلين .. تصبغ الأرض بدمائهم ويفشو الويل والرنة في نسائهم .. أولئك أوليائي .. حقا ، بهم أدفع كلّ فتنة عمياء حندس ، وبهم أكشف الزلازل وأرفع الآصار والأغلال ، أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون.

وروي ان أبا محمّد ولد سنة ثمان وثلاثين من الهجرة وكانت أمه جهان شاه بنت (يزدجرد ملك) آخر ملوك الفرس وهو يزدجرد بن شهريار. وكان من حديثها أنّها واختها سبيتا في أيام عمر بن الخطاب فأقدمتا ، وأمر عمر أن ينادى عليهما مع السبي المحمول ، فمنع أمير المؤمنين عليه السّلام من ذلك وقال : ان بنات الملوك لا يبعن في الأسواق.

ثم أمر امرأة من الأنصار حتى أخذت بأيديهما فدارت بهما على مجالس المهاجرين والأنصار تعرضهما على من يتزوّج بهما. فأول من طلع الحسن والحسين فوقفا فخطباهما لأنفسهما. فقالتا : لا نريد غيركما.

فتزوّج الحسن ب (شهربانو) وتزوّج الحسين ب (جهانشاه). فقال أمير المؤمنين للحسين عليه السّلام : احتفظ بها وأحسن إليها فستلد لك خير أهل الأرض بعدك.

فولدت علي بن الحسين. فكان مولده ومنشؤه مثل مواليد آبائه عليهم السّلام ومنشئهم. وتوفيت بالمدينة في نفاسها فابتيعت له داية تولّت رضاعه وتربيته ؛ وكان يسمّيها أمي. فلما كبرت زوّجها بسلام مولاه فكان بنو أميّة يقولون : ان علي بن الحسين زوّج أمه بغلامه. ويعيّرونه بذلك.

وكان يسمّى عليه السّلام سيّد العابدين ؛ لأنّه روي انّه كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة.

وحضر يوم الطف مع أبيه وكان عليلا به بطن قد سقط عنه الجهاد. فلما قرب استشهاد أبي عبد الله عليه السّلام دعاه وأوصى إليه وأمره أن يتسلّم ما خلّفه عند أم سلمة ـ رحمها الله ـ مع مواريث الأنبياء والسلاح والكتاب.

فلما استشهد حمل علي بن الحسين مع الحرم وأدخل على اللعين يزيد وكان لابنه


أبي جعفر عليه السّلام سنتان وشهور ، فأدخل معه. فلما رآه يزيد قال له : كيف رأيت يا علي بن الحسين [صنع الله؟] قال : رأيت ما قضاه الله ـ عز وجل ـ قبل أن يخلق السماوات والأرض.

فشاور يزيد جلساءه في أمره. فأشاروا بقتله وقالوا له : لا تتخذ من كلب سوء جروا.

فابتدر أبو محمّد الكلام ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ليزيد (لعنه الله) : لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار جلساء فرعون عليه ، حيث شاورهم في موسى وهارون ، فانّهم قالوا له : أرجه وأخاه ، وقد أشار هؤلاء عليك بقتلنا ، ولهذا سبب.

فقال يزيد : وما السبب؟

فقال : ان أولئك كانوا لرشدة وهؤلاء لغير رشدة. ولا يقتل الأنبياء وأولادهم إلّا أولاد الأدعياء.

فأمسك يزيد مطرقا ثم أمر بإخراجهم ـ على ما قص وروي ـ.

فاستخفى علي بن الحسين عليه السّلام بالإمامة مع من اتّبعه من المؤمنين.

وفي السنة الثالثة من إمامته مات يزيد اللعين ، وبويع لابنه معاوية بن يزيد ، فأقام في الملك ثلاثة أشهر ومات ثم كانت فتنة ابن الزبير بالحجاز في سنة أربع وستين وكانت مدّتها تسع سنين.

وفي سنة اثني عشر من إمامة علي بن الحسين ، بويع اللعين طريد رسول الله وابن طريده ولعينه وابن لعينه الأزيرق مروان بن الحكم بن أبي العاص ، فاستخفى في أيامه المؤمنون وصعب الزمان واشتد على أهله ، وكانت الشيعة تطلب في أقطار الأرض .. تهدر دماؤهم وأموالهم.

وأظهروا لعن أمير المؤمنين عليه السّلام على منابرهم. وأقام (لعنه الله) في ملكه عشرة أشهر وأياما ثم توفي ، وبويع ابنه عبد الملك بن مروان ، فقلّد عبد الملك الحجاج بن يوسف خلافته على العراقين ثم كتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فانظر في دماء بني عبد المطلب فاحقنها واحذر سفكها وتجنبها فاني رأيت آل أبي سفيان لمّا ولغوا فيها لم يلبثوا إلّا قليلا حتى اخترموا.


وأنفذ الكتاب سرّا من كلّ قريب وبعيد وخاص به وعام ، الى الحجاج وأمره أن يكتمه.

قال العالم : فكتب إليه علي بن الحسين عليهما السّلام في ذلك اليوم من ذلك الشهر : بسم الله الرحمن الرحيم. من علي بن الحسين الى عبد الملك بن مروان. أما بعد ؛ فانّك كتبت في ساعة كذا من يوم كذا في شهر كذا الى الحجاج بن يوسف بكذا وكذا وكذا وان الله عز وجل قد عرف ذلك لك وأمهلك في ملكك وزاد فيه برهة من دهرك.

وطوى الكتاب وأنفذه إليه. فلما قرأه عبد الملك اشتدّ سروره ، فأوقر راحلة الرسول عينا وورقا.

وكانت مدّة عبد الملك نيفا وعشرين سنة ثم مات وبويع لابنه الوليد في سنة ست وثمانين من الهجرة وذلك في سنة ست وعشرين من إمامة أبي محمّد علي بن الحسين عليه السّلام ، ونازعه عمّه محمد بن الحنفية في الإمامة وادّعى ان الأمر له بعد أخيه الحسين عليه السّلام فناظره واحتجّ عليه بآي من القرآن وقول الله عز وجل (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) وان هذه الآية جرت فيه ونزلت له ولولده من بعده.

فلم يثنه ذلك عن منزلته ، فقال له عليه السّلام : فنتحاكم الى الحجر الأسود.

فقال له محمد : كيف تحاكمني الى حجر لا يسمع ولا يجيب؟ وكيف يخلو المكان من الناس وأهل الموسم؟

فأعلمه ان الله ـ جل جلاله ـ يحسّه وينطقه بالحكم فينا.

فمضى محمد معه متعجبا حتى انتهيا الى الحجر الأسود. فقال علي عليه السّلام : يا عم فكلّمه.

فتقدّم محمّد فوقف حياله وكلّمه. فأمسك عنه ولم يجبه.

وتقدّم علي عليه السّلام فوضع يده المباركة الطاهرة عليه ثم قال : اللهم انّي أسألك باسمك المكتوب في سرادق العظمة. ـ ودعا بما أحب ـ لما انطقت هذا الحجر.

ثم قال : أيها الحجر أسألك بالذي جعل فيك مواثيق العباد والشهادة لمن وافاك واستلمك ، لما أخبرت لمن الوصيّة والإمامة بعد الحسين بن علي عليه السّلام؟


قال : فتزعزع الحجر حتى كاد أن يزول ثم أنطقه الله جل وعز فقال : يا محمّد سلّم الإمامة لعلي بن الحسين.

فقال علي عليه السّلام : اللهم اسمح واغفر.

فرجع محمد بن علي عليه السّلام عن منازعته وسلّم إليه واستغفر.

وروي عن العالم عليه السّلام : ان علي بن الحسين أخذ بيد أبي حمزة ديران بن أبي صفية الثمالي فقال : يا أبا حمزة علّمنا منطق الطير وأوتينا من كلّ شيء ان هذا لهو الفضل المبين.

وروي انّه كان معه في بعض أسفاره الى مكّة فبينا هم جلوس إذ جاءت ظبية فوقفت بازائه فحمحمت وعيناها تدمعان فقال لأصحابه : تدرون ما تقول هذه الظبية؟

فقالوا : الله ورسوله وأولياؤه أعلم.

فقال : انّها تذكر انّها عند فلان القرشي ولها خشف قد حبس عنها ولم يطعم شيئا منذ يوم وليلة.

ثم وجّه الى القرشي فأحضره واستوهب منه الظبية والخشف وحضر طعامه فجعل يطعمها ثم أمر أن تخرج الى البر فتخلّى لها السبيل. فمضت وهي تحمحم ومعها خشفها ، فقال : ما تدرون ما تقول؟

قلنا : لا.

فقال : انها تدعو لنا وتجزي خيرا.

وروي ان رجلا صار إليه وعنده أصحابه فقال له : من أنت؟

قال : أنا رجل منجم قايف عرّاف.

فنظر إليه ثم قال له : هل أدلّك على رجل قد مر منذ دخلت علينا في أربعة عشر ألف عام؟

قال : من هو؟

فقال له : ان شئت نبأتك بما أكلت وما ادّخرت في بيتك؟

فقال له : نبئني.


فقال له : أكلت في هذا اليوم حيسا ولك في بيتك عشرون دينارا ؛ منها ثلاثة دنانير دارية.

فقال له الرجل : اشهد انّك الحجّة العظمى والمثل الأعلى وكلمة التقوى.

فقال له : وأنت صديق قد امتحن الله قلبه للإيمان فآمنت.

وروي عن أبي حمزة الثمالي قال : كنت عنده فسمع صوت العصافير فقال : يا أبا حمزة هل تدري ما تقول هذه العصافير؟

قلت : لا.

قال : تقدّس ربّها وتطلب منه قوت يومها.

... الى غير ذلك من دلائله عليه السّلام ، فانها كثيرة وقد بيّنا في آخر بابه بعضها.

فلما قربت أيامه صلّى الله عليه أحضر أبا جعفر ابنه وأوصى إليه ، فحضر جماعة من خواصّه الوصية الظاهرة وسلّم إليه بعد ذلك الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء.

وكان فيما قاله من أمر ناقته ان يحسن إليها ويقدم لها العلف ولا تحمل بعده على الكد والسفر وتكون في الحظيرة. وقد كان حجّ عليها عشرين حجّة ما قرعها بخشبة.

ومضى (صلّى الله عليه) في سنة خمس وتسعين من الهجرة ؛ وسنه سبع وخمسون.

ودفن بالبقيع في قبر أبي محمد الحسن بن علي عليه السّلام.

فأقام مع أمير المؤمنين عليه السّلام سنتين وشهورا. وروي عنه أحاديث كثيرة ، وأقام مع أبيه وعمّه عليهما السّلام عشرين سنة ، ومنفردا بالإمامة خمسا وثلاثين سنة وشهورا.

فروي ان الناقة خرجت الى قبره بالبقيع فضربت بجرانها عليه ولم تزل دموعها تجري وتهمل من عينها ، فبعث ابو جعفر عليه السّلام بمن يردّها الى موضعها فعادت. فعلت ذلك ثلاث مرّات ثم أقيمت فلم تقم حتى ماتت. فأمر أبو جعفر عليه السّلام فحفر لها ودفنت.

وروي عن سعيد بن المسيب قال : قحط الناس يمينا وشمالا فمددت عيني فرأيت شخصا أسود على تل قد انفرد ، فقصدت نحوه فرأيته يحرّك شفتيه. فلم يتمّ دعاءه حتى أقبلت غمامة. فلما نظر إليها حمد الله وانصرف. وأدركنا المطر حتى ظنناه الغرق. فاتبعته حتى دخل دار علي بن الحسين عليه السّلام فدخلت إليه فقلت له : يا سيدي في دارك غلام أسود


تفضّل علي بيعه.

فقال : يا سعيد ولم لا يوهب لك؟

ثم أمر القيم على غلمانه يعرض كلّ من في الدار عليه فجمعوا فلم أر صاحبي بينهم. فقلت : فلم أره. فقال : انّه لم يبق إلّا فلان السائس. فأمر به فأحضر فاذا هو صاحبي.

فقلت له : هذا هو.

فقال له : يا غلام ان سعيدا قد ملكك فامض معه.

فقال لي الأسود : ما حملك على ان فرّقت بيني وبين مولاي؟

فقلت له : اني رأيت ما كان منك على التل.

فرفع يده الى السماء مبتهلا ثم قال : ان كانت سريرة ما بينك وبيني قد أذعتها عليّ فاقبضني إليك.

فبكى علي بن الحسين وبكى من حضره وخرجت باكيا. فلما صرت الى منزلي وافاني رسوله فقال لي : ان أردت أن تحضر جنازة صاحبك فافعل.

فرجعت معه ووجدت العبد قد مات بحضرته.

وروي عن أبي خالد الكابلي انّه قال : كنت أقول بمحمد بن الحنفية زمانا ، فلقيني يحيى بن أم الطويل ابن داية علي بن الحسين عليه السّلام فدعاني الى صاحبه ، فامتنعت عليه.

فقال لي : ما يضرّك ان تقضي حقّي وان تلقاه مرّة واحدة؟

فصرت معه إليه فوجدته جالسا في بيت مفروش بالمعصفر ملبس الحيطان .. عليه ثياب مصبغة. فلم أطل عنده.

فلما نهضت قال لي : صر إليّ في غد إن شاء الله.

فخرجت من عنده وقلت ليحيى : ادخلتني الى رجل يلبس المصبغات

وعزمت أن لا أرجع إليه ، ثم فكّرت في ان رجوعي غير ضائر ، فصرت إليه في الوقت ، فوجدت الباب مفتوحا ولم أر أحدا ، فهممت بالرجوع ، فناداني من داخل الدار ثلاثة أصوات ، فظننت انّه يريد غيري .. حتى صاح بي (يا كنكر) ادخل ـ وهذا اسم سمّتني أمي به ولم يسمعه ولا علم به أحد غيري ـ فدخلت إليه فوجدته جالسا في بيت


مطين على حصير بردي وعليه قميص كرابيسي.

فقال لي : يا أبا خالد اني قريب عهد بعروس ، وان الذي رأيت بالأمس من آلة المرأة ، ولم أحبّ مخالفتها.

فما برحت ذلك اليوم من عنده حتى رأيت العجائب ، فقلت بإمامته وهداني الله به وعلى يديه.

وروي عن أمير المؤمنين عليه السّلام انّه قال : لا تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين ولا تخرج من الأعقاب الى يوم القيامة.

وروي عن علي بن الحسين عليه السّلام انّه قال : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المدخل فينا من ليس منّا ، والمخرج منّا من هو منّا ، والقائل ان لهما في الاسلام نصيبا ـ يعني هذين الصنمين ـ.

محمد الباقر عليه السّلام

وقام بالأمر بعده أبو جعفر محمّد بن علي عليهما السّلام.

روي عن العالم عليه السّلام انّه تزوج أبو محمد علي بن الحسين عليه السّلام بأم عبد الله بن الحسن بن علي عمّه وهي أم جعفر عليه السّلام وكان يسمّيها الصديقة ويقول : لم يدرك في آل الحسن مثلها امرأة.

روي عن أبي جعفر عليه السّلام انّه قال : كانت أمي أم عبد الله بنت الحسن جالسة عند جدار فتصدّع الجدار فقالت بيدها : لا وحق المصطفى ما اذن الله ـ جل وعز ـ لك في السقوط حتى أقوم.

فبقي معلقا حتى قامت وبعدت ثم سقط ، فتصدّق عنها علي بن الحسين بمائة دينار.

وكان مولد أبي جعفر عليه السّلام في سنة ثمان وخمسين من الهجرة قبل أن يصاب الحسين عليه السّلام وكان مولده ومنشؤه مثل مواليد آبائه عليهم السّلام.

فلما شبّ ودخل المسجد مع أبيه أتاه جابر بن عبد الله الأنصاري فقبّل رأسه ثم قال له : ان رسول الله صلّى الله عليه وآله جدّك يقرأ عليك السّلام وكان قال لي : تعيش حتى ترى محمد بن


علي بن الحسين ابني ، فاذا رأيته فاقرأ عليه سلامي.

ثم أتاه في وقت آخر فقبّل رأسه ثم قال له : يا باقر.

فلما فعل جابر ذلك ، أمر علي بن الحسين أبا جعفر عليه السّلام ألا يخرج من الدار. فكان جابر يأتيه طرفي النهار فيسلّم عليه. فلما مضى علي بن الحسين عليه السّلام كان أبو جعفر يمضي الى جابر لسنّه وصحبته جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السّلام في الوقت بعد الوقت.

وروي عن عدّة من أصحابه انّهم قالوا : كنّا معه فمر به زيد بن علي عليه السّلام فقال لنا : لترون أخي هذا والله ليخرجن بالكوفة وليقتلن وليصلبن ويطاف برأسه.

وروي ان أصحابه كانوا مجتمعين عنده إذ سقط بين يديه ورشان ومعه انثاه فرقّا لهما ، فوقفا ساعة ثم طارا. فقال عليه السّلام : علّمنا منطق الطير وأوتينا من علم كلّ شيء. كلّ شيء أسمع لنا وأطوع وأعرف بحقّنا من هذه الأمة. إنّ هذا الورشان ظن بزوجته ظن سوء وصار إليّ فشكاها وأتى بها معه فحاكمها فحلفت له بالولاية انّها ما خانته فأخبرته بأنّها صادقة ونهيته عن ظلمها ؛ لأنّه ليس من بهيمة ولا طائر يحلف بولايتنا كاذبا إلّا ابن آدم. فاصطلحا وطارا.

وروي عن محمد بن سالم قال : كنت مع أبي جعفر عليه السّلام في طريق مكّة إذ بصرت بشاة منفردة من الغنم تصيح الى سخلة لها قد انقطعت عنها وتسرع السير فقال أبو جعفر عليه السّلام : أتدري ما تقول هذه الشاة لولدها؟

قلت : لا يا سيدي.

قال : تقول لها : اسرعي في القطيع فان أخاك عام أوّل تخلّف عني وعن القطيع في هذا المكان فاختلسه الذئب.

قال محمد بن مسلم : فدنوت من الراعي فقلت له : أرى هذه الشاة تصيح سخلتها فلعلّ الذئب أكل قبل هذا الوقت سخلا لها في هذا الموضع؟

قال : قد كان ذاك عام أوّل ، فما يدريك؟

وروي ان الأسود بن سعيد كان عند أبي جعفر عليه السّلام فابتدأ أبو جعفر فقال له : نحن


حجج الله ونحن لسان الله ونحن وجه الله ونحن ولاة أمر الله.

ثم قال : يا أسود ان بيننا وبين الأرض ترا مثل تر البناء فاذا أمرنا بأمر في الأرض جذبنا بذلك التر فأقبلت إلينا تلك الأرض.

وروي عن الحكيم بن أبي نعيم قال : أتيت أبي جعفر عليه السّلام بالمدينة فقلت له : علي نذر بين الركن والمقام ان انا لقيتك الا أخرج من المدينة حتى أعلم انّك قائم آل محمّد.

فلم يجبني بشيء.

فأقمت ثلاثين يوما ثم استقبلني في طريق فقال : يا حكيم وانك لهاهنا.

قلت : قد أخبرتك بما جعلت لله على نفسي فلم تأمرني ولم تنهني.

وقال : بكر عليّ الى المنزل.

فغدوت إليه فقال : سل عن حاجتك.

فقلت : قد جعلت عليّ نذرا صياما وصدقة إن أنا لقيتك لم أخرج من المدينة حتى أعلم انّك قائم آل محمّد أو لا. فان كنت أنت رابطتك وان لم تكن انتشرت في الأرض وطلبت المعاش.

فقال : يا حكيم كلّنا قائم بأمر الله.

قلت : فأنت المهدي؟

قال : كلّنا نهدي الى الله.

قلت : فأنت صاحب السيف.

قال : كلّنا صاحب السيف ووارث السيف.

قلت : وأنت تقتل أعداء الله وتعزّ أولياء الله ويظهر بك دين الله.

قال : يا حكيم كيف أكون أنا هو وقد بلغت هذا السن. ان صاحب هذا الأمر أقرب عهد باللبن مني.

ثم قال ـ بعد كلام طويل ـ : سر في حفظ الله والتمس معاشك.

وروي عن عنبسة بن مصعب عن جابر بن يزيد الجعفي قال : سئل أبو جعفر عليه السّلام عن القائم ، فضرب بيده على أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السّلام فأخبرته بذلك. قال : صدق


جابر ، وقال : لعلّكم ترون ان الامام ليس هو القائم بعد الإمام الذي كان قبله. هذا اسم لجميعهم.

وروي عن محمد بن عمير عن عبد الصمد بن بشير عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال ان رسول الله صلّى الله عليه وآله دعا عليّا في المرض الذي مضى فيه فقال له : يا علي ادن مني حتى أسرّ إليك بما أسرّه الله إليّ وائتمنك على ما ائتمني الله عليه.

فدنا منه فأسرّ إليه.

وفعل علي بالحسن.

وفعل الحسن بالحسين.

وفعل الحسين بأبي.

وفعل أبي بي.

وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله انّه قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأخي علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فاذا استشهد فابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم. ثم ابني الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فاذا استشهد فابنه علي بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا علي. ثم ابني محمد بن علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا حسين.

وقد روى هذا الحديث عبد الله بن عباس واسامة بن زيد وعبد الله بن جعفر الطيار ـ رحمهم الله ـ.

وروي عن أبي بصير قال : قلت : لأبي جعفر أنتم ورثة رسول الله؟

فقال لي : نعم. رسول الله وارث الأنبياء ونحن ورثته وورثتهم.

قلت : تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرءوا الاكمه والأبرص؟

فقال لي : باذن الله.

ثم قال : ادن مني يا أبا محمد.

فمسح يده على وجهي فأبصرت الشمس والسماء والأرض وكلّ شيء في الدار.

فقال : أتحب أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم أو تعود على حالك


ولك الجنّة خالصا؟

قلت : أعود والجنة.

فمسح يده على عيني فرجعت كما كنت.

وروي عن أبي حمزة الثمالي عن جابر بن يزيد الجعفي قال : كنت يوما عند أبي جعفر عليه السّلام ، فالتفت الي فقال لي : يا جابر ما لك حمار فتركبه؟

قلت : لا يا سيدي.

فقال لي : اني أعرف رجلا بالمدينة له حمار يركبه فيأتي المشرق والمغرب في ليلة.

وروي عنه عليه السّلام انّه قال : نحن جنب الله ـ عز وجل ـ ونحن خيرة الله ونحن مستودع مواريث الأنبياء ونحن أمناء الله ونحن حجج الله ونحن حبل الله ونحن رحمة الله على خلقه. بنا يفتح الله وبنا يختم الله. من تمسّك بنا لحق ، ومن تخلّف عنّا غرق. ونحن القادة الغرّاء المحجلون.

ثم قال ـ بعد كلام طويل ـ : فمن عرفنا وعرف حقّنا وأخذ بأمرنا فهو منّا وإلينا.

وروي عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول : ان الامام منّا يسمع الكلام في بطن أمه فاذا وقع الى الأرض رفع له عمود من نور يرى به أعمال العباد.

وروي عن أبي حمزة قال سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول : لا والله لا يكون عالم بشيء جاهل بشيء. ان الله أجلّ وأكرم وأعز وأعدل من أن يفرض طاعة عبد ويجعله حجّة ثم يحجب عنه علم أرضه وسمائه.

ثم قال : لا يحجب ذلك عنه.

وروي ان حبابة الوالبية دخلت على أبي جعفر عليه السّلام فقال لها : يا حبابة ما الذي أبكاك؟

قالت : كثرة همومي وظهر في رأسي البياض.

قال : يا حبابة ادني.

فدنت منه فوضع يده في مفرق رأسها ودعا لها بكلام لم يفهم. ثم دعا لها بالمرآة فنظرت فاذا شمط رأسها قد أسود وعاد حالكا. فسرّت بذلك وسر أبو جعفر بسرورها.


فقالت : بالذي أخذ ميثاقكم على النبيين أي شيء كنتم في الأظلة؟

فقال : يا حبابة ، نورا بين يدي العرش قبل أن يخلق الله آدم ، فأوحى إلينا فسبّحنا فسبّحت الملائكة بتسبيحنا ولم يكن تسبيح قبل ذلك الوقت. فلما خلق الله آدم سلك ذلك النور فيه.

وكان أبو جعفر عليه السّلام عمره سبع وخمسون سنة ، وكانت ولادته في سنة ثمان وخمسين للهجرة ، فأقام مع أبي عبد الله الحسين سنتين وشهورا ومع علي بن الحسين خمسا وثلاثين سنة ، ومنفردا بالإمامة تسع عشرة سنة وشهورا.

وكانت وفاته سنة مائة وخمس عشرة. وفي أربع سنين من إمامته توفي الوليد بن عبد الملك ، وكان ملكه تسع سنين وشهورا ، وبويع لسليمان ؛ وأمر الإمامة مكتوم والشيعة في شدّة شديدة.

وفي ست سنين وشهور من إمامة أبي جعفر عليه السّلام توفي سليمان وبويع لعمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم ، فرفع اللعن عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

وروي عنه عليه السّلام انّه قال وهو بالمدينة : قد توفي هذه الليلة رجل تلعنه ملائكة السماء وتبكي عليه أهل الأرض.

وبويع ليزيد بن عبد الملك ، وكان شديد العداوة والعناد لأبي جعفر عليه السّلام ولأهل بيته فروي انّه بعث إليه فأحضره ليوقع به. فلما ادخل إليه حرّك بشفتيه بدعاء لم يسمع ، فقام إليه فأجلسه معه على سريره ثم قال له : تعرض عليّ حوائجك؟

قال : تردني الى بلدي.

فقال له : ارجع. وكتب الى عمّاله يمنعه الميرة في طريقه فمنع عنها بمدينة مدين وأغلق الباب دونه. فصعد الى الجبل فقرأ بأعلى صوته (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) ـ الى قوله تعالى ـ (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وكان في المدينة شيخ من بقايا العلماء فخرج الى أهل المدينة فنادى بأعلى صوته : هذا والله شعيب يناديكم. فقالوا له : ليس هذا شعيبا. هذا محمد بن علي بن الحسين أمرنا أن نمنعه الميرة.

فقال لهم : افتحوا له الباب وإلّا فتوقّعوا العذاب.


فأطاعوه وفتحوا الباب وأمرهم بحمل الميرة إليه ففعلوا.

فرجع الى المدينة وأقام بها. فلما قربت وفاته عليه السّلام دعا بأبي عبد الله جعفر ابنه عليهما السّلام فقال : ان هذه الليلة التي وعدت فيها ثم سلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء والسلاح وقال له : يا أبا عبد الله! الله الله في الشيعة. فقال أبو عبد الله : والله لا تركتهم يحتاجون الى أحد.

فقال له : ان زيدا سيدعو بعدي الى نفسه فدعه ولا تنازعه فان عمره قصير.

فروى ان خروج زيد كان في يوم الأربعاء وقتله في يوم الأربعاء ـ جدّد الله على قاتله العذاب.

وقام أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السّلام مقام أبيه ـ صلوات الله عليه ـ.

روي عن العالم عليه السّلام انّه قال : ولد أبو عبد الله عليه السّلام في سنة ثلاث وثمانين من الهجرة في حياة جدّه علي بن الحسين ـ صلوات الله عليهم ـ وكانت امّه أم فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر وكان أبوها القاسم من ثقات أصحاب علي بن الحسين. وكانت من أتقى نساء زمانها ، وروت عن علي بن الحسين أحاديث ؛ منها : قوله لها : يا أم فروة اني لأدعو لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة مائة مرّة ـ يعني الاستغفار ـ لأنّا نصبر على ما نعلم وهم يصبرون على ما لا يعلمون.

وكان مولده ومنشأه ـ وما روي من أمر العمود وغيره ـ على منهاج آبائه صلّى الله عليهم.

ومضى علي بن الحسين وله اثنتا عشرة سنة وقام بأمر الله جلّ وعلا في سنة خمس عشرة ومائة وسنة اثنتين وثلاثين سنة. ولم يزل أبو جعفر عليه السّلام يشير إليه في حياته مدّة أيامه ثم نصّ عليه ؛ فمنها : ما رواه زرارة وأبو الجارود أن أبا جعفر عليه السّلام أحضر أبا عبد الله عليه السّلام وهو صحيح لا علّة به فقال له : اني أريد أن آمرك بأمر.

فقال له : مرني بما شئت.

فقال : ايتني بصحيفة ودواة.

فاتاه بها فكتب له وصيته الظاهرة ثم أمر أن يدعو له جماعة من قريش فدعاهم


وأشهدهم على وصيته إليه.

وروي عن جابر قال : قال يا جابر اني كنت سمّيته أحمد ثم أشفقت عليه فسميته جعفر عليه السّلام.

وروي عن سدير الصيرفي مثله.

وروي عن جابر الجعفي وعنبسة بن مصعب جميعا انّهما سألا أبا جعفر عليه السّلام عن القائم عليه السّلام وضرب بيده على أبي عبد الله عليه السّلام فقال : هذا والله قائم آل محمّد بعدي.

وروي عن فضيل بن يسار قال : كنت عند أبي جعفر عليه السّلام فأقبل أبو عبد الله عليه السّلام فقال : هذا خير البرية بعدي.

جعفر الصادق عليه السّلام

قال عنبسة : فلما قبض أبو جعفر عليه السّلام دخلت على أبي عبد الله عليه السّلام فأخبرته بذلك فقال : لعلّكم ترون ان ليس كلّ امام منا هو القائم بأمر الله بعد الامام الذي قبله. هذا اسم لجميعهم.

فلما أفضى أمر الله جلّ وعزّ إليه ، جمع الشيعة وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وذكّرهم بأيّام الله ثم قال : ان الله أوضح أئمة الهدى من أهل بيت نبيّه صلّى الله عليه وآله عن دينه وأبلج بهم عن سبيل منهاجه ، وفتح بهم عن باطن شاسع علمه ، فمن عرف واجب حقّ إمامه وجد طعم حلاوة ايمانه ، وعلم فضل طلاوة اسلامه ، لأنّ الله نصب الامام علما لخلقه ، وجعله حجّة على أهل عالمه ، وألبسه تاج الوقار ، يمدّ بسبب من السماء لا ينقطع عند موته ولا ينال ما عند الله إلّا بمعرفته ، فهو عالم بما يرد عليه من ملبسات الدعاء ، ومغيبات السماء ، ومشبهات الفتن ، ثم لم يزل الله يختارهم لخلقه من ولد الحسين بن علي من عقب كلّ إمام اماما ، يصطنعهم لذلك ويجتبيهم ويرضاهم لخلقه ، ويختارهم علما بيّنا ، وهاديا منيرا ، وحجة عالما ... أئمة من الله عز وجل ، يهدون بالحق وبه يعدلون .. حجج الله ، ودعاته على خلقه ، ومفاتيح الكلام ، ودعائم الاسلام .. يدين بهديهم العباد. ويستهل بنورهم البلاد. جعلهم الله حياة للأنام ، ومصابيح الظلام. جرت بذلك فيهم مقادير


الله على محتومها. والامام هو المنتجب المرتضى ، والقائم المرتجى ، اصطفاه الله بذلك واصطنعه على عينه في الذر حين ذرأه ، وفي البرية حين برأه ، قبل خلق نسمة عن يمين عرشه وهو في علم الغيب عنده مرعيا بعين الله جلّ وعز يحفظه ويكلأه بستره ، مذودا عنه حبايل ابليس وجنوده ، مصروفا عنه قوارف السوء ، مبرأ من العاهات ، محجوبا من الآفات ، معصوما من الفواحش كلّها ، مخصوصا بالحلم والبر ، منسوبا الى العفاف والعلم ، صامتا عن النطق إلّا فيما يرضاه الله ، أيّده الله بروحه ، واستودعه سرّه ، وندبه لعظيم أمره ، فقام لله بالعدل ، عند تحيّر أهل الجهل ، بالنور الساطع والحق الأبلج الذي مضى عليه الصادقون من آبائهم. فانظروا معاشر المسلمين نظر طالب الرشاد ، وتدبروا هذه الامور تدبّر تارك للعناد ، ولا تلحوا في الضلالة بعد المعرفة ولا تتبعوا الظن ولا هوى الأنفس فلقد جاءكم من ربّكم الهدى.

وروي انّه عليه السّلام كان يجلس للعامة والخاصة ويأتيه الناس من الأقطار يسألونه عن الحلال والحرام وعن تأويل القرآن وفصل الخطاب فلا يخرج أحد منهم إلّا راضيا بالجواب.

وروي عبد الأعلى بن أعين قال قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : ما الحجة على المدعي بهذا الأمر؟

قال : أن يكون أولى الناس بمن قبله ويكون عنده سلاح رسول الله صلّى الله عليه وآله ويكون صاحب الوصيّة الظاهرة ، الذي اذا قدمت المدينة سألت العامة والخاصّة والصبيان الى من أوصى فلان فيقولون الى فلان.

وروي عن عبد الأعلى قال : قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : بلغني ان محمّد بن عبد الله بن الحسن يدّعي الوصية في السرّ.

فقال : من ادّعى الوصية في السر فليأت ببرهان في العلانية.

قلت : وما البرهان؟

قال : يحلّل حلال الله ويحرّم حرامه.

وروي عنه انّه قال : اذا لم تدروا أين المسلك والمذهب فعليكم بالذي يجلس مجلس


صاحبكم الأول.

وفي خبر آخر انّه قال : اذا ادّعى مدع فاسألوه.

وروي عنه عليه السّلام في قول الله عز وجل (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ) يعني لو يغب عنكم طرفة عين وفيكم الحجّة منه قائمة.

وروي عن يونس بن ظبيان والمفضل بن عمر وأبو سلمة السراج والحسين بن نويرة قالوا : كنّا عند أبي عبد الله عليه السّلام فقال لنا : أعطينا خزائن الأرض ومفاتيحها ، ولو أشاء أن أقول باحدى رجليّ هذه اخرجي ما فيك من الذهب ؛ وفحص بإحدى رجليه خطا من الأرض ثم قال بيده. فاستخرج سبيكة من ذهب قدر شبر فناولناها ثم قال : انظروا فيها حسنا حتى لا تشكّوا.

ثم قال : انظروا في الأرض.

فنظرنا فاذا سبايك كثيرة بعضها على بعض تتلألأ.

فقال له بعض القوم : يا ابن رسول الله! أعطيتم هذا وشيعتكم محتاجون؟

فقال : ان الله سيجمع لشيعتنا الدّنيا والآخرة ويدخلهم جنّات النعيم ويدخل عدوّنا نار جهنّم.

وروي عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه السّلام في قول الله عز وجل (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) قال هم الأئمة عليهم السّلام. وروي المأمونون يعني الحجج.

وروي عن داود بن كثير الرقي قال : خرجت مع أبي عبد الله عليه السّلام الى الحجّ ، فلما كان أوّل وقت الظهر قال لي في أرض قفر : يا داود قد حانت الظهر فاعدل بنا عن الطريق.

فعدلنا فنزلنا في أرض قفر لا ماء فيها ، فوكزها برجله فنبعت لنا عين من ماء كأنّها قطع الثلج ، فتوضأ وتوضأت وصلينا.

فلما هممنا بالسير التفتّ فاذا أنا بجذع نخلة فقال : يا داود أتحبّ أن أطعمك رطبا؟

فقلت : نعم.

فضرب بيده الى الجذع وهزه فاهتزّ اهتزازا شديدا فاذا قد تدلّى منه كبايس بأعذاقها ،


فأطعمني أنواعا كثيرة من الرطب ثم مسح بيده على النخلة وقال : عودي جذعا نخرا باذن الله. فعادت كسيرتها الاولى.

وفي إحدى عشرة سنة من إمامته ، مات الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، وبويع لابنه يزيد بن الوليد فملك ستة أشهر ، وبويع لأخيه إبراهيم فمكث أربعة أشهر ثم بويع لمروان ابن محمد الجعدي المعروف بالحمار في سنة سبع وعشرين ومائة في اثنتي عشر سنة من إمامة أبي عبد الله عليه السّلام فقال أبو عبد الله : مروان خاتم بني أميّة وان خرج محمد بن عبد الله قتل.

وروى عنه عليه السّلام من قدمنا ذكره من رجاله.

قالوا : كنّا عنده إذ أقبل رجل فسلّم وقبّل رأسه وجلس فمسّ أبو عبد الله عليه السّلام ثيابه ثم قال : ما رأيت اليوم أشدّ بياضا ولا أحسن من هذه.

فقال الرجل : يا سيدي هذه ثياب بلادنا وقد جئتك منها بجرابين.

فقال : يا معتب اقبضها منه.

ثم خرج الرجل فقال عليه السّلام : ان صدق الوصف وقرب الوقت فهذا الرجل صاحب الرايات السود الذي يأتي بها من خراسان.

ثم قال : يا متعب الحقه فاسأله عن اسمه وهل هو عبد الرحمن؟ قال لنا ان كان اسمه فهو هو.

فرجع متعب فقال : اسمه عبد الرحمن ثم عاد الى أبي عبد الله عليه السّلام سرّا فعرفه انّه قد دعا إليه خلقا كثيرا فأجابوه فقال له أبو عبد الله : ان ما تومي إليه غير كائن لنا حتى يتلاعب به الصبيان من ولد العباس.

فمضى الى محمّد بن عبد الله بن الحسن فدعاه فجمع عبد الله أهل بيته وهم بالأمر ودعا ابا عبد الله عليه السّلام للمشاورة فحضر فجلس بين المنصور وبين السفاح ؛ عبد الله ابني محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ووقعت المشاورة. فضرب ابو عبد الله يده على منكب أبي العباس عبد الله السفاح فقال : لا والله اما ان يملكها هذا أولا.

ثم ضرب بيده الاخرى على منكب أبي جعفر عبد الله المنصور وقال : وتتلاعب بها


الصبيان من ولد هذا.

ووثب فخرج من المجلس.

وكان من أمر مروان بن محمد الجعدي ما رواه الناس وقتل بمصر في ذي الحجّة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

وفي سبعة عشر سنة من إمامة أبي عبد الله عليه السّلام انتقلت الدولة الى ولد العباس ، وبويع أبو العباس عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ليلة الجمعة لثلاثة عشر ليلة من ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة بالكوفة في بني (أود) في دار (الوليد بن سعيد) مولى بني هاشم ، وكانت دولته أربع سنين وتسعة أشهر. وتوفي بالأنبار سنة ست وثلاثين ومائة ، وبويع لأخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور في ذلك الوقت وكانت دولة المنصور في احدى وعشرين سنة من إمامة أبي عبد الله عليه السّلام فأقدمه من المدينة حتى اذا علا (النجف) نزل فتأهب للصلاة ثم صلّى ورفع يديه وقال : يا ناصر المظلوم المبغي عليه .. يا حافظ الغلامين لأبيهما احفظني اليوم لآبائي محمّد وعلي والحسن والحسين. اللهم اضرب بالذلّ بين عينيه.

ثم قال : بالله استفتح ، وبالله استنجح ، وبمحمّد وآله أتوجه. اللهم انّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب.

ثم أقبل حتى انتهى الى الباب فاستقبله الربيع الحاجب فقال له : ما أشدّ غيظ هذا الجبّار عليك ، يعني ما قد همّ به ان يأتي على آخركم.

ثم دخل إليه فاستأذن له فأذن فدخل فسلّم عليه.

فروي انّه عليه السّلام صافحه وقال له : روينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله انّه قال ان الرحم اذا تماست عطفت فأجلسه المنصور الى جنبه ثم قال : فانّي قد انعطفت وليس عليك بأس.

فقال له أبو عبد الله : أجل ما عليّ بأس.

ثم قال المنصور : يا جعفر يبلغنا عنك ما يبلغنا.

فقال له أبو عبد الله عليه السّلام : والله ما فعلت ولا أردت ، ولو كنت فعلت فان سليمان أعطي فشكر ، وان أيوب ابتلي فصبر ، وان يوسف ظلم فغفر ولا يأتي من ذلك النسل إلّا ما


يشبهه.

فقال له أبو جعفر : صدقت يا أبا عبد الله.

وأمر له بستة آلاف درهم وقال له : تعرض حوائجك؟

فقال : حاجتي الاذن لي في الرجوع الى أهلي.

قال : هو في يديك.

فودّعه وخرج فقال له الربيع : فأمر بقبض المال لا حاجة لي فيه اصرفها حيث شئت.

فقال : اذن تغضبه.

فأمر بقبض الدراهم ثم وجّه بها الى منزل الربيع فخرج.

وروي انّه لما خرج من عنده نزل الحيرة فبينما هو فيها إذ أتاه الربيع فقال له : أجب امير المؤمنين.

فركب إليه وقد كان وجد في الصحراء صورة عجيبة الخلق لم يعرفها أحد ذكر من وجدها انّه رآها وقد سقطت مع المطر. فلما دخل إليه قال له : يا أبا عبد الله أخبرني عن الهواء أي شيء فيه؟

فقال له : بحر مكفوف.

فقال له : فله سكّان؟

قال : نعم.

قال : وما سكّانه؟

قال : خلق الله أبدانهم أبدان الحيتان ورءوسهم رءوس الطير ولهم أجنحة كأجنحة الطير من ألوان شتى أشدّ بياضا من الفضة.

فدعا المنصور بالطشت فاذا ذلك الخلق فيه لا يزيد ولا ينقص.

فاذن له فانصرف ثم قال للربيع : هذا الشجا المعترض في حلقي من أعلم الناس في زمانه.

وروي عن عبد الأعلى بن علي بن أعين وعبيدة بن بشير قالا : قال أبو عبد الله عليه السّلام ابتداء منه : والله اني لأعلم ما في السماء وما في الأرض وما في الجنّة وما في النار وما


كان وما يكون الى أن تقوم الساعة.

ثم سكت ثم قال : اعلمه من كتاب الله عز وجل ؛ يقول : تبيانا لكلّ شيء.

وروي عن المفضل بن بشار قال : هذا طاير في دار أبي عبد الله عليه السّلام وقال لي : تدري ما يقول هذا الطائر؟

فقلت : لا.

فقال : يقول لطيرته : يا عرسي ، ما خلق الله خلقا أحبّ إليّ منك إلّا مولاي أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السّلام.

وروي انّه لمّا قرب أمره دعا أبا إبراهيم موسى ابنه وسلّم إليه الوصيّة ومواريث الأوصياء ونصّ عليه بحضرة خواص مواليه (ونحن نبيّن ذلك في باب أبي إبراهيم إن شاء الله).

وكان عمر أبي عبد الله عليه السّلام ستا وستين سنة. وقبض في سنة ثمان وأربعين ومائة من الهجرة وكان مولده في سنة ثلاث وثمانين من الهجرة فأقام مع جدّه علي بن الحسين ثلاث عشرة سنة ومع أبيه عشرين سنة ومنفردا بالإمامة ثلاثا وثلاثين سنة ودفن بالبقيع في قبر أبي محمد الحسن بن علي وعلي بن الحسين ومحمّد بن علي ؛ أبيه (صلوات الله عليهم).

موسى الكاظم عليه السّلام

وقام أبو إبراهيم موسى بن جعفر عليه السّلام مقام أبيه. وروي عن جابر انّه قال : قال لي أبو جعفر عليه السّلام : قد قدم رجل من المغرب مع رقيق ووصف لي جارية وأمرني بابتياعها بصرّة دفعها. فمضيت الى الرجل. فعرض علي ما كان عنده من الرقيق. فقلت له : بقي عندك غير ما عرضت عليّ.

قال لي : بقيت جارية عليلة.

فقلت : اعرضها عليّ.

فعرض عليّ حميدة.


فقلت : بكم تبيعها؟

فقال لي : بسبعين دينارا.

فأخرجت الصرّة إليه.

فقال لي النحاس : لا إله إلّا الله. رأيت ـ والله ـ البارحة في النوم رسول الله صلّى الله عليه وآله قد ابتاع مني هذه الجارية بهذه الصرّة.

فبعتها منه ، ثم تناول [الصرة] وتسلّمت الجارية. وكان في الصرّة سبعون دينارا. وصرت بها إليه. فسألها عن اسمها. فقالت : (حميدة).

فقال : حميدة في الدّنيا ، محمودة في الآخرة.

ثم سألها عن خبرها فعرّفته انّها بكر ما مسّها رجل.

فقال لها : أنّى يكون ذلك وأنت جارية كبيرة؟

فقالت : كان لي مولى اذا أراد أن يقربني أتاه رجل في صورة حسنة أراه دونه ولا يراه فيمنعه من أن يصل إليّ ويدفعه ويصدّه عني.

فقال أبو جعفر : الحمد لله.

ودفعها الى أبي عبد الله عليه السّلام وقال له : يا عبد الله ، حميدة سيّدة الاماء مهذّبة مصفاة من الأرجاس كسبيكة الذهب ، ما زالت الأملاك تحرسها لك حتى أديت إليك كرامة من الله جل جلاله وعلا.

وروي عن أبي بصير قال : حججنا مع أبي عبد الله عليه السّلام في السنة التي ولد فيها أبو إبراهيم عليه السّلام فلما نزلنا في المنزل المعروف ب (الابواء) وضع لنا الطعام ، فبينا نحن نأكل إذ أتاه رسول حميدة وقال : تقول لك مولاتي : قد أنكرت نفسي وقد أمرتني ان لا أسبقك بحادثة في هذا المولود.

فقام أبو عبد الله عليه السّلام فاحتسب هنيئة وعاد إلينا.

فقمنا إليه وقلنا : سرّك الله وجعلنا فداك ، ما صنعت حميدة؟

فقال لنا : سلّمها الله ووهب لي منها غلاما هو خير من برأه الله في زمانه ، ولقد أخبرتني حميدة بشيء ظنّت انّي لا أعرفه وكنت أعلم به منها.


قلنا له : وما أخبرتك به؟

قال : ذكرت انّه لما سقط رأته واضعا يديه على الأرض ورأسه الى السماء. فأخبرتها ان تلك امارة رسول الله وأمير المؤمنين عليهما السّلام وامارة الوصي اذا خرج الى الأرض أن يضع يديه الى الأرض ورأسه الى السماء ويقول من حيث لا يسمعه آدمي : أشهد الله انّه لا إله إلّا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلّا هو العزيز الحكيم. فاذا قال ذلك أعطاه الله عز وجل العلم الأول والعلم الآخر واستحق زيارة الروح في ليلة القدر وهو خلق أعظم من جبرئيل عليه السّلام.

وكانت ولادته عليه السّلام سنة ثمان وعشرين ومائة ، وروي في سنة تسع وعشرين ومائة من الهجرة. وكان مولده ومنشؤه مثل مواليد آبائه عليهم السّلام.

وروي عن يعقوب السرّاج قال : دخلت على أبي عبد الله عليه السّلام وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى عليه السّلام وهو في المهد فجعل يسارّه طويلا فلما فرغ قال لي : ادن فسلّم على مولاك.

فدنوت فسلّمت عليه. فرد عليّ السلام ثم قال لي : امض فغيّر اسم ابنتك التي ولدت أمس فانّه اسم يبغضه الله.

وقد كنت سمّيتها (الحميراء) فقال أبو عبد الله : انته الى أمره ترشد.

فمضيت فغيّرت اسمها.

وروى رفاعة بن موسى قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السّلام وهو جالس فأقبل أبو الحسن موسى عليه السّلام وهو صغير السن فأخذه ووضعه في حجره وقبّل رأسه ثم قال لي يا رفاعة اما انّه سيصير في يدي بني (مرداس) ويتخلّص منهم ثم يأخذونه ثانية فيعطب في أيديهم فطوبى له والويل لهم.

وروي ان أبا حنيفة صار الى باب أبي عبد الله عليه السّلام ليسأله عن مسألة فلم يأذن له فجلس لينتظر الاذن فخرج أبو الحسن موسى عليه السّلام وله خمس سنين فقال له : يا فتى اين يضع المسافر خلاه في بلدكم هذا؟

فاستند الى الحائط وقال له : يا شيخ تتوقى شطوط الأنهار ومساقط الثمار


ومنازل النزّال ومحجّة الطرق وأقبلة المساجد وأفنيتها ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ويتوارى حيث لا يرى ويضعه حيث يشاء.

فانصرف أبو حنيفة ولم يلق أبا عبد الله عليه السّلام.

وروي عن نصر بن قابوس قال : دخلت على أبي عبد الله عليه السّلام فسألته عن الامام من بعده فقال : أبو الحسن موسى بن جعفر ابني الامام بعدي.

وروي ان أبا عبد الله عليه السّلام كان محبّا لإسماعيل ابنه وكان يثني عليه خيرا فتشاجر قوم من مواليه وموالي أبي الحسن موسى عليه السّلام في ذلك وادّعوا لإسماعيل الأمر في حياة أبي عبد الله عليه السّلام فقال لهم أصحاب أبي الحسن : باهلونا فيه. فخرجوا معهم الى الصحراء ليباهلوهم فأظلّت الجمع غمامة فأمطرت على أصحاب أبي الحسن عليه السّلام دون أولئك.

فاستبشروا ورجعوا الى أبي عبد الله فأخبروه بذلك فسمّاهم الممطورة.

وروي عن أبي عبد الرحمن بن أبي نجران عن عيسى بن عبد الملك قال : قلت : لأبي عبد الله عليه السّلام جعلني الله فداك ان كان كون ولا أراني الله ذلك فيمن آتم؟

فقال : بموسى ابني الامام بعدي.

قلت : فان مضى موسى فمن آتم؟

فقال لي : بولده وان كان صغيرا ، ثم هكذا أبدا.

قلت : فإن لم أعرفه ولا أعرف موضعه فما أصنع؟

قال : تقول : اللهم اني أتولّى من حجّتك من ولد الامام الماضي.

وروي عنه عليه السّلام انّه قال : لا يكون الامامة في أخوين بعد الحسن والحسين ولا تخرج من الأعقاب.

وروي عن إبراهيم بن مهزيار عن أخيه عن فضالة بن أيوب عن أبي جعفر الضرير عن أبيه قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السّلام وعنده ابنه اسماعيل فسألته عن قبالة الأرض. فأجابني فيها. فقال له اسماعيل : يا أبه انّك لم تفهم ما قال لك.

فشقّ ذلك عليّ لأنّا كنّا يومئذ نتوهم انّه بعد أبيه.

فقال له أبو عبد الله عليه السّلام اني كثيرا ما أقول لك : الزمني وخذ مني ولا تفعل.


فأطرق اسماعيل ثم خرج.

فقلت لأبي عبد الله عليه السّلام : وما على إسماعيل الا يلزمك ولا يأخذ منك اذا أفضى هذا الأمر إليه علم مثل الذي علمته منك.

فقال لي : اسماعيل ليس فيه ما كان من أبي.

ثم نهض فقال لي : لا تبرح.

ودخل بيتا كان يخلو فيه ثم دعاني. فدخلت ، فبينا أنا عنده إذ دخل عليه أبو الحسن موسى عليه السّلام وهو غلام حدث فقال له : ادن مني.

فدنا فالتزمه وأقعده الى جنبه وقال : اني لأجد [في] ابني هذا ما كان يجده يعقوب بيوسف.

فقلت له : زدني جعلت فداك.

فقال : ما نشأ فينا أهل البيت ناش مثله.

فقلت له : زدني.

فقال : أجد به ما كان أبي عليه السّلام يجده بي.

قلت : زدني.

قال : كان اذا دعا فأحبّ أن يستجاب له أوقفني عن يمينه ثم دعا فأمنت فاني لأفعل ذلك بابني هذا.

فقلت : زدني يا سيدي.

فقال : اني لأئتمنه على ما كان ابي ائتمنني عليه.

فقلت : يا مولاي زدني.

فقال لي : كان أبي ائتمنني على الكتب التي بخطّ أمير المؤمنين (صلّى الله عليه) واني لأئتمنه عليها وهي عنده اليوم.

فقلت : يا مولاي زدني.

فقال : قم إليه وسلّم عليه فهو إمامك بعدي. لا يدّعيها فيما بيني وبينه أحد إلّا كان مفتونا ، إن أخذ الناس يمينا وشمالا فخذ معه.


قال : فقمت إليه فأخذت يده فقبّلتها وقلت : اشهد انّك مولاي وإمامي.

فقال لي : صدقت وأصبت.

فقلت : يا سيدي ، أخبر بهذا من يوثق به؟

فقال لي : نعم.

ثم نهضت ، بعد كلام طويل في هذا المعنى.

وروى حماد بن عيسى عن ربعي عن عمر بن يزيد قال : كان لأبي عبد الله عليه السّلام عندي وديعة فلما مضى (صلّى الله عليه) أتيت فلقيت عبد الله ابنه الأفطح فقلت له : من صاحب الأمر بعد أبيك؟

فقال : أنا.

قلت : فتقرر أخاك بهذا؟

قال : نعم.

فجمعت بينهما وأعدت القول. فسكت عبد الله ولم ينطق ، وسكت أبو الحسن موسى عليه السّلام.

فلما رأيتهما لا يتكلّمان قلت : سمعت أباكما يذكر ان النبيّ صلّى الله عليه وآله قال : من مات بغير امام مات ميتة جاهلية. فقال أبو الحسن عليه السّلام : امام حتى نعرفه.

قلت : اسمع أبوك يذكر هذا؟

قال : قد ـ والله ـ قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله.

قلت : فعليك امام؟

قال : لا. وكان عبد الله قاعدا فلم ينطق.

فقمت وتركتهما ، ثم لقيت أبا الحسن بعد ذلك فقال لي : يا عمر انّك جمجمت بالقول فجمجمت لك ، فلما صرّحت صرّحت لك.

وروي ان عبد الله الأفطح لمّا ادّعى الامامة دخل إليه جماعة من الشيعة ليسألوه عن مسائل فقال له بعضهم : في كم تجب الزكاة؟

فقال له : في المائتي درهم خمسة دراهم.


قالوا : فكم في المائة؟

قال : درهمان ونصف.

فخرجوا من عنده ولم يسألوه عن شيء.

وروي عن مرازم عن داود الرقي قال : قلت لابي عبد الله عليه السّلام : جعلني الله فداك ان كان كون ـ وأعاذني الله منه ـ فيك فإلى من؟

قال : الى ابني موسى.

قال داود : فلما حدثت الحادثة بأبي عبد الله ما شككت في موسى طرفة عين. ثم مكث نحو ثلاثين سنة ثم قصدته فقلت له : اني دخلت على أبي عبد الله عليه السّلام فقلت : ان كان كون فإلى من ، فنصّ عليك ، وأنا اسألك كما سألته ان كان كون فإلى من؟

قال لي : الى علي ابني.

قال فمضى أبو الحسن موسى عليه السّلام فو الله ما شككت في الرضا عليه السّلام طرفة عين.

وروى الساري عن محمد بن الفضيل عن داود الرقي قال : قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : حدّثني عن القوم.

فقال : الحديث أحب إليك أو المعاينة؟

قلت : المعاينة.

فقال لأبي الحسن موسى عليه السّلام : انطلق فائتني بالقضيب.

فمضى فأحضره وأمره فضرب به الأرض ضربة فانشقّت عن بحر أسود ، ثم ضرب البحر بالقضيب فانفلق عن صخرة سوداء ، فضرب الصخرة فانفتح فيها باب ، فاذا بالقوم جميعا لا يحصون كثرة .. وجوههم مسودة وأعينهم مزرقة ، وكلّ واحد منهم مصفود مشدود الى جانب من الصخرة. موكّل بكلّ واحد منهم ملك وهم ينادون : يا محمّد. والزبانية تضرب وجوههم وتقول لهم : كذبتم ليس محمّد لكم ولا أنتم له.

فقلت له : جعلت فداك من هؤلاء؟

فقال لي : ذاك الجبت والطاغوت ، وذاك : الرجس (قرمان) ، وذاك اللعين ابن اللعين ، ولم يزل يعدّهم بأسمائهم كلّهم من أوّلهم إلى آخرهم حتى أتى على أصحاب السقيفة


وبنى الأزرق والأوزاع من آل أبي سفيان وآل مروان ـ جدّد الله عليهم العذاب بكرة وأصيلا ـ.

ثم قال للصخرة : انطبقي عليهم الى الوقت المعلوم.

ونشأ أبو الحسن علي مثل ما نشأ عليه آباؤه عليهم السّلام فلما حضرت وفاة أبي عبد الله عليه السّلام دعاه فأوصى إليه وسلّم إليه المواريث وكان قد اتصل بأبي عبد الله عليه السّلام : ان المنصور قال : ان حدث على جعفر بن محمد حادثة وأنا حي نظرت الى من يوصي فأقتله ، فأوصى عليه السّلام وصيّته الظاهرة ـ خوفا على ابنه موسى وتقيّة ـ إلى أربعة ؛ أوّلهم المنصور والثاني عبد الله الأفطح ابنه والثالث ابنته فاطمة والرابع أبو الحسن موسى عليه السّلام.

وقام أبو الحسن موسى عليه السّلام بأمر الله سرّا واتّبعه المؤمنون ، وكان قيامه بالأمر في سنة ثمان وأربعين ومائة من الهجرة وله عشرون سنة في ذلك الوقت.

واتصل بالمنصور خبر وفاة أبي عبد الله عليه السّلام وسأل عن وصيّته ، فأخبر بوصيته إليه وإلى ثلاثة معه ، وحملت إليه ، فوجد فيها اسمه مقدّما ، فأمسك ولم يعرض لأبي الحسن ... الى أن مات المنصور في سنة ثمان وخمسين ومائة في عشر سنين من امامة أبي الحسن عليه السّلام وبويع لابنه المهدي محمد بن عبد الله. فلما ملك وجه بجماعة من أصحابه فحمل أبو الحسن موسى عليه السّلام الى العراق.

فروي عن أبي خالد الزبالي قال : ورد علينا موسى عليه السّلام وقد حمله المهدي ، فخرجت فتلقيته من «زبالة» على أميال ثم شيّعته فلما ودّعته بكيت فقال : ما يبكيك يا أبا خالد؟ فقلت : يا سيدي قد حملت ولا أدري ما يكون؟

فقال : أما في هذه المرّة فلا خوف عليّ منهم وأنا أعود إليك يوم كذا من شهر كذا في ساعة كذا فترقّب موافاتي وانتظرني عند أوّل ميل.

ومضى فلقي المهدي وصرف الله كيده عنه ولم يعرض له ، وسأله عرض حوايجه ، فعرض ما رأى عرضها ، فقضاها ، وسأله الاذن فأذن له ، فخرج (صلّى الله عليه) متوجّها الى المدينة.

قال أبو خالد : ولمّا كان ذلك اليوم خرجت نحو الطريق انتظره فأقمت حتى اصفرت


الشمس ، وخفت أن يكون قد تأخر وأردت الانصراف ، فرأيت سوادا قد أقبل ، وإذا بنداء من ورائي ، فالتفت فاذا مولاي موسى عليه السّلام امام القطر على بغلة له يقول : يا أبا خالد.

قلت : لبيك يا مولاي يا ابن رسول الله. الحمد لله الذي خلصك وردّك.

فقال : يا أبا خالد لي إليهم عودة لا أخلص منها.

ورجع الى المدينة. فروي عن علي بن أبي حمزة قال : كنت عند أبي الحسن عليه السّلام إذ أتاه رجل من أهل الري يقال له جندب فسلّم عليه وجلس فسأله أبو الحسن عليه السّلام ، فأخفى مسألته ثم قال له : ما فعل أخوك؟

قال : بخير جعلني الله فداك وهو يقرئك السلام.

فقال يا جندب أعظم الله أجرك في أخيك.

فقال : يا سيدي ورد عليّ كتابه قبل ثلاثة عشر يوما بالسلامة.

فقال : يا جندب انّه قد مات بعد كتابته بيومين وقد دفع الى امرأته مالا فقال ليكن هذا عندك فاذا قدم أخي فادفعيه إليه وقد أودعته الأرض في البيت الذي كان يكون فيه مبيته. فاذا أنت لقيتها فتلطّف لها واطمعها في نفسك فانّها ستدفعه إليك.

قال علي بن أبي حمزة : فلقيت جندبا بعد ذلك بسنين وقد عاد حاجّا فسألته عما كان قاله أبو الحسن عليه السّلام. فقال : صدق والله سيدي ما زاد ولا نقص.

وروى إسحاق بن عمار قال : سمعت أبا الحسن عليه السّلام قد نعى الى رجل نفسه ، فقلت في نفسي : وانّه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته.

فالتفت إليّ شبه المغضب وقال : يا إسحاق قد كان رشيد من المستضعفين ، فعلم علم المنايا والبلايا ، والامام أولى بذلك يا إسحاق ، اصنع ما أنت صانع ، فعمرك قد فني وأنت تموت الى سنتين ، واخوتك وأهل بيتك لا يلبثون بعدك حتى تفترق كلمتهم ويخون بعضهم بعضا ويشمت بهم عدوّهم.

فلم يلبث اسحاق بعد ذلك إلّا سنتين حتى مات ، وقام بنو عمار بأموال الناس وأفلسوا أقبح إفلاس.

وروي عن هشام بن سالم قال : دخلت على عبد الله بن جعفر فسألته عن مسائل فلم


يكن عنده جواب فذهبت الى باب أبي الحسن عليه السّلام فلم يأذن لي فجئت الى قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله فجلست أدعو وأبكي وجعلت أقول في نفسي : الى من أمضي ؛ الى المرجئة؟ الى القدرية؟ الى الزيدية؟ الى الحرورية. فانا في هذا إذ جاءني (مصاف) الخادم فأخذ بيدي فأدخلني إليه.

فلما نظر إليّ قال يا هشام : لا إلى المرجئة ولا الى القدرية ولا الى الزيدية ولا إلى الحرورية ولكن إلينا.

فقلت به وسلّمت لأمره.

وروي عن علي بن أبي حمزة الثمالي عن أبي بصير قال : سمعت العبد الصالح يعني موسى بن جعفر عليه السّلام يقول : لما وقع أبو عبد الله عليه السّلام في مرضه الذي مضى فيه قال لي : يا بني لا يلي غسلي غيرك فاني غسلت أبي ، والأئمة يغسل بعضهم بعضا.

وقال لي : يا بني ان عبد الله سيدّعي الامامة فدعه فانّه أول من يلحقني من أهلي.

فلما مضى أبو عبد الله عليه السّلام أرخى أبو الحسن ستره ودعا عبد الله الى نفسه فقال له أبو بصير : ما بالك ما ذبحت العام وقد نحر عبد الله جزورا؟

قال : يا أبا محمّد ان عبد الله لا يعيش أكثر من سنة فأين يذهب أصحابه؟

قلت : سنة قد مرّت به.

قال : يموت فيها ليس يعيش أكثر منها. فلم يعيش أكثر من تلك السنة.

وعنه عليه السّلام قال دخلت على أبي الحسن عليه السّلام فقلت : جعلت فداك بم يعرف الامام؟

فقال : بخصال ؛ أوّلها النص من أبيه عليه ، ونصبه للناس علما حتى يكون عليهم حجّة لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله نصّب أمير المؤمنين عليه السّلام علما وعرّفه الناس ، وكذلك الائمة نصّب الأول الثاني. وان تسأله فيجيب ، وتسكت عنه فيبتدئ ، ويخبر الناس بما يكون في غد ، ويكلّم الناس بكلّ لسان كلّ أهل لغة بلغتهم.

قلت له : جعلت فداك تكلّم الناس بكلّ لسان.

قال : نعم يا أبا محمّد وأعرف منطق الطير والساعة. أعطيك علامة ذلك قبل أن تقوم من مكانك.


فما برحت حتى دخل علينا رجل من أهل خراسان فكلّمه الرجل بالعربية فأجابه بالفارسية. قال الخراساني : ما معنى أن أكلّمك بكلامي الا ظننتك لا تحسنه؟

فقال له : سبحان الله إن كنت لا أحسن أن أجيبك فما فضلي عليك.

ثم قال لي : يا أبا محمّد ان الامام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طائر ولا بهيمة ولا شيء فيه روح. فمن لم يكن فيه هذه الخصال فليس هو بإمام.

وروي عن حماد بن عيسى الجهني قال : دخلت على أبي الحسن موسى عليه السّلام فقلت له : جعلت فداك ادع الله أن يرزقني دارا وزوجة وولدا وخادما وأن أحجّ في كلّ سنة.

فرفع يديه ثم قال : اللهم صلّ على محمّد وارزقه دارا وزوجة وولدا وخادما والحج خمسين سنة.

ثم قال حمّاد : فحججت ثمانية وأربعين حجّة ، وهذه زوجتي وراء الستر تسمع كلامي ، وهذا ابني وهذه داري وهذا خادمي.

وحجّ بعد هذا الكلام حجتين ثم خرج بعد الخمسين فزامل أبا العباس النوفلي فعرفنا انّه لما صار في موضع الاحرام دخل يغتسل فجاء مد الوادي فحمله فغرق ودفن بالسيالة.

وأقام موسى بالمدينة باقي أيام المهدي ، وتوفي المهدي سنة تسع وستين ومائة في إحدى وعشرين سنة من إمامة أبي الحسن عليه السّلام وبويع لابنه موسى ولقّب بالهادي فأقام سنة وشهرين ومات في سنة سبعين ومائة في اثنين وعشرين سنة من إمامة أبي الحسن عليه السّلام.

وبويع لهارون الرشيد في شهر ربيع الأول في تلك السنة فوجّه في حمل أبي الحسن عليه السّلام فلما وافاه الرسل دعا أبا الحسن الرضا عليه السّلام وهو أكبر ولده فأوصى إليه بحضرة جماعة من خواصّه وأمره بما احتاج إليه ، ونحله كنيته وتكنى بأبي إبراهيم ودفع الى أم أحمد كتبا وقال لها سرّا : من أتاك فطلب منك ما دفعته إليك وأعطاك صفته فادفعيه إليه. ودفع إليها رقعة مختومة وأمرهما بأن تسلّمها مع ما قبلها الى أبي الحسن الرضا عليه السّلام اذا طلبها وأمر أبا الحسن عليه السّلام أن يبيت في كلّ ليلة في دهليز داره أو على بابه


أبدا ما دام حيّا. يعني نفسه.

فروى محمّد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال حدّثني مسافر قال : أمر أبو إبراهيم عليه السّلام أبا الحسن عليه السّلام حين حمل الى العراق أن ينام على بابه في كلّ ليلة فكنّا في كلّ ليلة نفرش له في الدهليز ثم يأتي بعد عشاء الآخرة فينام فاذا أصبح انصرف الى منزله. وكنّا ربما حبانا الشيء مما يؤكل فيجيء حتى يستخرجه ويعلّمنا انّه قد علم به فمكث على هذه الحال أربع سنين وأبو إبراهيم مقيم معتقل في يد السلطان في حال رفاهية واكرام.

وكان الرشيد يرجع إليه في المسائل فيجيبه عنها حتى كان من البرامكة ما كان من السعي في قتله والاغراء به ، حتى حبسه الغويّ ـ يعني الرشيد هارون ـ في يد السندي ابن شاهك ، ولم يزالوا يوقعون الحيلة حتى بعث الغوي الى السندي يأمره أن يقتله بالسمّ وان يحضره قبل ذلك العدول والقضاة حتى يروه.

وكان الناس اذا دخلوا دار السندي رأوا أبا إبراهيم عليه السّلام فيها. فروي ان الناس كثيرا ما يرونه ساجدا فيظنّونه ثوبا ملقى في صفة الدار ؛ حتى ثاروا في وقت من الأوقات فسألوا عنه. فقيل لهم : هذا موسى بن جعفر ، اذا صلّى الغداة جلس يعقبها حتى تطلع الشمس يقرأ ويسبّح ويدعو ثم يسجد الى أن تزول الشمس.

فأدخل السندي القضاة قبل موته بثلاثة أيام ، فأخرجه إليهم وقال لهم : ان الناس يقولون : ان أبا الحسن في يدي في ضنك وضرر ، ها هو ذا صحيح لا علّة به ولا مرض ولا ضرر.

فالتفت عليه السّلام فقال لهم : اشهدوا عليّ اني مقتول بالسمّ بعد ثلاثة أيام. فانصرفوا.

وروي من جهات صحيحة : ان السّندي أطعمه السمّ في رطب وانّه أكل منها عشر رطبات فقال له السندي : تزداد؟ فقال له : حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه فيما أمرت به.

وكان السمّ ممّا يتلف بعد ثلاثة أيام. ثم أحضر القضاة والعدول وأراهم إيّاه فقال عليه السّلام : اشهدوا اني صحيح الظاهر لكنّي مسموم سأحمر في هذا اليوم حمرة شديدة منكرة وأصفر غدا صفرة شديدة منكرة وأبيض بعد غد وأمضي الى رحمة الله ورضوانه.


فمضى كما قال عليه السّلام في آخر اليوم الثالث في ثلاث وثمانين ومائة من الهجرة وكان سنه أربعا وخمسين سنة أقام منها مع أبي عبد الله عليه السّلام عشرين سنة ومنفردا بالإمامة أربعة وثلاثين سنة فأخرجه السندي الى مجلس الشرطة من الجسر ببغداد وكشف وجهه ونادى عليه : من أراد أن ينظر الى موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه لا هو مسموم ولا مقتول فليحضر من أراد.

ونظروا إليه ثم حمل واتّبعه الناس حتى دفن في موضع كان ابتاعه لنفسه في مقابر قريش بمدينة السلام.

قال مسافر مولاه : ولما كان في ليلة من الليالي وقد فرشنا لأبي الحسن الرضا عليه السّلام على عادته ، ابطأ عنّا فلم يأت كما كان يأتي ، فاستوحش العيال وذعروا وتداخلهم من ابطائه وحشة ، حتى أصبحنا ، فاذا هو قد جاء وحضر الدار ودخلها من غير اذن ، ودعا أم أحمد فقال لها : هات الذي أودعك ابي عليه السّلام وسمّاه لها.

فصرخت ولطمت وشقّت ثيابها وقالت : مات والله سيدي.

فكفها وقال لها : اكتمي الأمر ولا تظهريه حتى يرد الخبر به على والي المدينة ويعرفه الناس من غيرنا في وقته.

فأخرجت إليه سفطا فيه تلك الوديعة ومالا مبلغه ستة آلاف دينار وسلّمته إليه.

وكتموا الأمر حتى ورد الخبر على والي المدينة فنظرنا فوجدناه قد توفي في تلك الليلة التي لم يحضر فيها أبو الحسن الرضا عليه السّلام بعينها. صلّى الله عليه وعلى آبائه وأبنائه وذرّيتهم الطاهرين وسلّم كثيرا.

علي الرضا عليه السّلام

وقام أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السّلام بأمر الله عز وجل مع أبيه. وروي عن هشام بن حمران قال : قال لي أبو إبراهيم عليه السّلام : قد قدم رجل نخاس من مصر فامض بنا إليه فمضينا. فاستعرض عدّة جوار من رقيق عنده يعجبه منهم شيء. فقال لي : سله عمّا بقي عنده. فسألته فقال : لم يبق إلّا جارية عليلة وتركناه وانصرفنا.


فقال لي : عد إليه فابتع تلك الجارية منه بما يقول فانّه يقول لك ثمانين دينارا فلا تماكسه. فأتيت النخاس فكان كما قال. وباعني الجارية ثم قال لي النخاس : بالله اشتريتها لنفسك؟ قلت : لا. قال : فلمن؟ قلت : لرجل هاشمي.

قال لي : فاني أخبرك اني اشتريت هذه الجارية من أقصى المغرب فلقيتني امرأة من أهل الكتاب فقالت لي : من هذه الجارية معك؟ قلت جارية اشتريتها لنفسي؟ فقالت : ما ينبغي أن تكون هذه إلّا عند خير أهل الأرض.

ولم تلبث عنده إلّا قليلا حتى حملت بأبي الحسن عليه السّلام وكان اسمها تكتم.

فروي عن أبي إبراهيم انّه لما ابتاعها جمع قوما من أصحابه ثم قال : والله ما اشتريت هذه الأمة إلّا بأمر الله ووحيه.

فسئل عن ذلك؟

قال : بينا أنا نائم إذ أتاني جدّي وأبي عليهما السّلام ومعهما شقة حرير فنشراها فاذا قميص وفيه صورة هذه الجارية. فقالا : يا موسى ليكونن لك من هذه الجارية خير أهل الأرض بعدك. ثم أمراني اذا ولدته ان اسمّيه عليّا وقالا لي : ان الله جل وتعالى يظهر به العدل والرأفة. طوبى لمن صدّقه ، وويل لمن عاداه وجحده وعانده.

فولد (صلّى الله عليه) في سنة ثلاث وخمسين ومائة من الهجرة بعد مضي أبي عبد الله عليه السّلم بخمس سنين ، وكانت ولادته على صفة ولادة آبائه صلّى الله عليهم. ونشأ منشأهم.

وحدّثني العباس بن محمد بن الحسن قال : حدّثني محمد بن الحسين عن صفوان بن يحيى عن نعيم القابوسي عن عمّه عن علي عن نصر بن قابوس قال : كنت عند أبي إبراهيم وعلي ابنه صبي يدرج في الدار ، فقلت أرى عليا ذاهبا وجائيا دون ساير الناس؟

فقال : هو أكبر ولدي وأحبهم إليّ وهو ينظر معي في كتاب الجفر ولا ينظر فيه إلّا نبي أو وصي نبي.

وروي عن محمد بن الحسين بن نعيم الصحاف وهشام بن الحكم قالا : كنّا عند أبي إبراهيم عليه السّلام فجاء الى ابنه فأخذه فأجلسه ثم قال لنا : هذا علي ابني سيّد ولدي وقد


نحلته كنيتي.

فقام هشام بن الحكم فضرب على جبهته وقال : انا لله وانّا إليه راجعون نعى ـ والله ـ إلينا نفسه.

وروي عن أحمد بن محمد بن أبي نضر عن سعيد بن أبي الجهم عن نصر بن قابوس قال : قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : من الامام بعدك؟

فقال لي : موسى ابني.

فسألت موسى وقلت : من الامام بعدك ، فقد سألت أباك فأخبرني انّك أنت هو ، فذهب الناس بك يمينا وشمالا ، وقلت بك. فأخبرني من الامام بعدك؟

قال : علي ابني.

وروي أيضا عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن عبد الملك بن أبي الضحاك عن داود بن رزين قال : حملت الى ابي إبراهيم مالا فأخذ مني بعضه ورد عليّ الباقي فقلت له : جعلت فداك لم رددت علي هذا؟

فقال : امسكه حتى يطلبه منك صاحبه بعدي.

فلما مضى موسى عليه السّلام بعث الى الرضا عليه السّلام ان هات المال الذي قبلك.

فوجهت به إليه.

وروي عنه عن سعيد بن يزيد الزيات عن زياد القندي قال : كنت عند موسى عليه السّلام بمكّة وبين يديه علي ابنه ، فقال لي : هذا علي ابني ، قوله قولي وكتابه كتابي ، وخاتمه خاتمي ، فما قال لكم من شيء فهو كما قال لكم.

وروي عن محمد بن الحسن الميثمي عن محمد بن اسماعيل بن الفضل الهاشمي قال : اشتكى موسى عليه السّلام شكاة شديدة حتى خفنا عليه فقلت له : ان كان ما اسأل الله أن لا يرينا ايّاه ويعيذنا منه؟

قال من قال لي علي ابني فانّه وصيي وخليفتي من بعدي.

وروي عن محمد بن عمر بن يزيد عن أخيه الحسن بن عمر قال : بعث الى موسى عليه السّلام فاستقرض مني ستمائة دينار فلما مضى عليه السّلام بعث الي الرضا عليه السّلام : ان المال


الذي كان لك على أبي عليه السّلام فهو لك علي.

وروي عن العباس بن محمد عن أبيه عن علي بن الحكيم عن حيدرة بن أيوب عن محمد بن يزيد قال : دعانا أبو الحسن موسى عليه السّلام وأشهدنا ونحن ثلاثون رجلا من بني هاشم وغيرهم : ان عليّا ابنه وصيّه وخليفته من بعده.

وروي عن محمد بن سنان عن موسى بن بكر الواسطي قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه السّلام : الرجل يقول لابنه أو بنته بأبي أنت وأمي؟

فقال : ان كانا باقيين ، فان ذلك عقوق. وان كانا قد ماتا فلا بأس.

ثم قال لي : كان جعفر يقول لي : من سعادة المرء أن لا يموت حتى يرى خلفه من بعده يأمر وينهى.

ثم نظر الى علي ابنه فقال لي : وقد والله أراني الله خلفي من بعدي.

وروى العباس بن محمد عن أبيه عن صفوان بن يحيى وعلي بن جعفر قالا : كنّا مع عبد الرحمن بن الحجاج بالمدينة فدخلناها بعد ما حمل موسى فجاءنا إسحاق وعلي ابنا أبي عبد الله عليه السّلام فشهد عند عبد الرحمن : ان علي بن موسى عليه السّلام وصّي أبيه وخليفته من بعده.

وروى عبد الله بن غنّام بن القاسم قال : قال لي منصور بن يونس «بزرج» : قال لي أبو إبراهيم عليه السّلام وقد دخلت إليه يوما : يا منصور ما علمت ما أحدثت في يومي هذا؟

قلت : لا.

قال : قد صيّرت ابني عليّا وصيي والخلف من بعدي ، فادخل إليه وهنئه بذلك.

وعنه ، عن عبد الله بن محمد عن الحسن بن موسى الخشاب عن محمد بن إبراهيم عن محمد بن الفضل الهاشمي قال : لقد رأيت من علامات الرضا عليه السّلام ما لو أدركت أمير المؤمنين ما كنت ابالي أن لا أرى أكثر مما رأيت.

وروى العباس بن محمد عن أبيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي علي الخزامي عن داود الرقي قال : قلت لموسى عليه السّلام : قد كبر سني وضعف بدني ولعلّي لا ألقاك بعد يومي هذا فأخبرني من الامام بعدك؟


فقال : علي ابني.

وبهذا الاسناد عن داود قال : قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : ان حدثت حادثة فمن الامام بعدك؟

فقال لي : موسى ابني.

فما شككت والله في موسى طرفة عين. وقلت لموسى مثل قولي لأبي عبد الله عليه السّلام.

فقال لي : ابني علي.

فما شككت في علي طرفة عين.

وروي انّه لما وجّه هارون الغوي الى موسى عليه السّلام ليحمله الى العراق أحضر الرضا عليه السّلام وأوصى إليه ودفع إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء عليهم السّلام ودفع الى أم أحمد المال والودائع وأمرها أن تدفع ذلك الى من يعطيها علامته ، وأمر الرضا عليه السّلام أن يبيت في دهليز داره ما دام حيّا ـ كما شرحناه في الخبر المتقدّم ـ فلما مضى نعي موسى ببغداد قصد في ذلك الوقت من ذلك اليوم الرضا عليه السّلام ودخل الدار وأمر أم أحمد أن تدفع إليه ما عندها واعطاها العلامة ، فصرخت ولطمت وقالت : مات والله سيدي فكفّها عليه السّلام وقال لها : اكتمي ولا تظهري شيئا حتى يرد الخبر والي المدينة.

وقام الرضا بأمر الله عزّ وجلّ في سنة ست وثمانين ومائة من الهجرة ، وسنه في ذلك الوقت ثلاثون سنة ، وأظهر أمر الله لشيعته.

وروى الحميري عبد الله بن جعفر عن محمد بن الحسين قال : حدّثني سام بن نوح بن دراج قال : كنّا عند غسان القاضي فدخل إليه رجل من أهل خراسان عظيم القدر من أصحاب الحديث فأعظمه ورفعه وحادثه ، فقال الرجل : سمعت هارون الرشيد يقول : لأخرجن العام الى مكة ولآخذن علي بن موسى ولأردّنه حياض أبيه.

فقلت : ما شيء أفضل من أتقرب إلى الله عز وجل والى رسوله فأخرج الى هذا الرجل فأنذره.

فخرجت الى مكّة ودخلت على الرضا عليه السّلام فأخبرته بما قال هارون ، فجزّاني خيرا ثم قال : ليس عليّ منه بأس. انا وهارون كهاتين. وأومى بإصبعه.


وروى الحميري باسناده قال : اجتمع علي بن أبي حمزة البطائني وزياد القندي وابن أبي سعيد المكاري فصاروا الى الرضا عليه السّلام فدخلوا إليه فقالوا : أنت امام؟

فقال : نعم.

فقالوا له : ما تخاف ممّا قد توعدك به هارون ، وما شهر نفسه أحد من آبائك بما شهرتها أنت؟

فقال لهم : ان أبا جهل أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله فقال : أنت نبي؟ فقال له : نعم. فقال له : أما تخاف مني؟ فقال له : ان نالني منك سوء فلست نبيّا.

وأنا أقول : ان نالني من هارون سوء فلست بإمام.

فقال له ابن أبي سعيد : اسألك.

فقال له : لم تسألني ولست من غنمي. سل عما بدا لك.

فقال له : ما تقول في رجل قال كلّ مملوك قديم في ملكي فهو حر ، ما يعتق من مماليكه؟

فقال له : انّه يعتق من مماليكه من مضى له في ملكه ستة أشهر ؛ لقول الله عز وجل (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) وبين العرجون القديم والعرجون الحديث ستة أشهر.

الحميري عن محمد بن عيسى عن أحمد بن عمر الحلال قال : قلت للرضا عليه السّلام : اني أخاف عليك من هارون.

فقال : ليس عليّ بأس منه. ان الله عز وجل خلق بلادا تنبت بالذهب وقد حماها بأضعف خلقه بالنمل ، فلو أرادتها الفيلة ما وصلت إليها.

وقال «الوشاء» : سألته عن هذه البلاد فأخبرني انّها بين نهر «بلخ» و «التبت» وانها تنبت الذهب وفيها نمل كبار أشباه الكلاب ليس يمر بها الطير فضلا عن غيره .. تكمن بالليل في الأجحرة وتظهر بالنهار ، فربما أغاروا على هذه البلاد على الدواب التي تقطع في الليلة ثلاثين فرسخا لا يصبر شيء من الدواب صبرها فيوقرونها ثم يرجعون من وقتهم. فاذا أصبحت النمل خرجت في الطلب فلا تلحق منهم أحدا إلّا قطّعته وهي الريح


لسرعتها فاذا لحقتهم قذفوا لها قطع اللحم فاشتغلت بها. ولو لا ذلك للحقتهم وقطّعتهم ودوابهم.

الحميري عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى : لمّا مضى ابو إبراهيم عليه السّلام وتكلّم أبو الحسن الرضا عليه السّلام وكشف وجهه عمّا يستفتونه فيه ، خفنا عليه. فقيل له قد أظهرت أمرا عظيما ، وانّا نخاف عليك هذا الغويّ الطاغية.

فقال : ليجهد جهده فلا سبيل له عليّ.

وأخبرنا الثقة أن يحيى بن خالد قال لهارون : هذا علي بن موسى قد قعد وادّعى الأمر لنفسه.

فقال : ما يكفينا ما صنعنا بأبيه؟ أتريدون أن أقتلهم كلّهم.

وعنه عن محمد بن موسى عن محمد بن أبي يعقوب عن موسى بن مهران قال : رأيت الرضا عليه السّلام وقد نظر الى هرثمة بالمدينة وقال : كأني به وقد حمل الى مرو فضربت رقبته.

فكان كما قال.

قال : وكتب إليه موسى بن مهران يسأله ان يدعو لابنه العليل. فكتب إليه : وهب الله لك ولدا صالحا.

فمات ابنه العليل وولد له ابن آخر خرج صالحا.

وعنه عن سهل بن زياد عن منصور بن العباس عن اسماعيل بن سهل عن بعض أصحابه قال : كنت عند الرضا عليه السّلام فدخل إليه علي بن أبي حمزة وابن السراج وابن أبي سعيد المكاوي ، فقال له علي بن أبي حمزة : روينا عن آبائك ان الامام لا يلي أمره اذا مات إلّا امام مثله.

فقال له الرضا عليه السّلام : أخبرني عن الحسين بن علي اماما كان أو غير إمام؟

قال : كان إماما فمن ولى أمره؟

قال : علي بن الحسين.

قال : وأين كان علي بن الحسين؟


قال : في يد عبيد الله بن زياد محبوسا بالكوفة.

فقال : كيف ولّي أمر أبيه وهو محبوس؟

فقالوا له : روينا انّه خرج وهم لا يعلمون حتى ولّي أمر أبيه ثم انصرف الى موضعه.

فقال الرضا عليه السّلام : ان يكن هذا أمكن علي بن الحسين وهو معتقل ، فقد يمكن صاحب هذا الأمر وهو غير معتقل ان يأتي بغداد فيتولى أمر أبيه وينصرف وليس هو بمحبوس ولا بمأسور.

فقال له ابن أبي حمزة : فانّا روينا ان الامام لا يمضي حتى يرى عقبه. فقال له الرضا عليه السّلام : أما رويتم في هذا الحديث بعينه «إلّا القائم».

قالوا : لا.

قال الرضا : بلى ، قد رويتموه وأنتم لا تدرون لم قيل ولا ما معناه.

قال ابن أبي حمزة : ان هذا لفي الحديث.

فقال له الرضا عليه السّلام : ويحك كيف تجرأت أن تحتج عليّ بشيء تدمج بعضه؟

ثم قال عليه السّلام : ان الله تعالى سيريني عقبي إن شاء الله.

ثم قال لعليّ بن أبي حمزة : يا شيخ اتق الله عز وجل ولا تكن من الصدادين عن دين الله.

وعنه عن محمد بن الحسين عن ابن أبي نصر قال : سألت الرضا عليه السّلام بأي شيء يعرف الامام بعد الامام؟

فقال : بعلامات ؛ منها : أن يكون أكبر ولد أبيه ويكون فيه الفضل واذا قدم الركب المدينة سأل الى من أوصى فلان فيقولون الى فلان والسلاح فينا بمنزلة التابوت في بني إسرائيل يدور مع الامامة كيف دار.

وعنه عن محمد بن عيسى عن علي بن الحكم عن محمد بن الفضيل قال : لما كان في السنة التي بطش فيها هارون بجعفر بن يحيى وحبس يحيى بن خالد وابنه الفضل ونزل بالبرامكة النوازل كان الرضا عليه السّلام واقفا بعرفات يدعو ثم طأطأ برأسه حتى كادت جبهته تصيب قادمة الرجل ثم رفع رأسه.


فسئل عن ذلك فقال : اني كنت أدعو على هؤلاء القوم يعني البرامكة منذ أن فعلوا ما فعلوا. فاستجاب الله لي اليوم.

فلما انصرفنا لم نلبث إلّا أياما حتى ورد الخبر بالبطش بجعفر وقتله وحبس ابنه وأخيه وتغيّرت أحوالهم فلم يجبر الله لهم كسرا ولا عادت لهم حال ولا لعقبهم الى يوم القيامة.

وعنه عن محمد بن أبي يعقوب عن موسى بن مهران قال : رأيت علي بن موسى عليه السّلام في مسجد المدينة وهارون الغويّ يخطب فقال : تروني اني وإيّاه ندفن في بيت واحد ، وانّه لا يحجّ بعده أحد من هذا البيت.

وعنه عن محمد بن عيسى عن محمد بن حمزة عن الحسين بن إبراهيم بن موسى قال الححت على الرضا عليه السّلام في شيء أطلبه منه وكان يعدني فخرجنا ذات يوم لنستقبل بعض الطالبيين وحضر وقت الصلاة فجاز الى أقرب قصر في تلك النواحي فنزل بالقرب من شجرات ونزلت معه فقلت له : جعلت فداك هذا العيد قد أظلّنا ولا والله ما أملك درهما فما سواه. فحفر بسوطه الأرض ثم ضرب بيده فتناول سبيكة ذهب فقال : هاك استنفع بها واكتم ما رأيت.

ولما مات هارون في سنة ثلاث وتسعين ومائة وذلك في عشر سنين من امامة الرضا عليه السّلام بويع لمحمد بن هارون المعروف بابن زبيدة.

فروى الحميري عن محمد بن عيسى عن الحسين بن بشار قال : قال لي الرضا عليه السّلام في ذلك الوقت : عبد الله يقتل محمدا أخاه.

قلت له : عبد الله بن هارون يقتل محمد بن زبيدة؟

قال : نعم ، عبد الله بخراسان يقتل محمد بن هارون أخاه.

قلت : عبد الله الذي بخراسان صاحب طاهر وهرثمة يقتل محمد بن زبيدة الذي ببغداد؟

قال : نعم.

وكان من أمره ما كان وقتله.


وروي عن الحسين بن علي الوشاء قال : دخلت على الرضا عليه السّلام فقال لي : كان أبي البارحة عندي فرآني اتفزع ، فقال لي في النوم شيئا ثم قال : نومتنا ويقظتنا بمنزلة واحدة.

وقتل محمد بن زبيدة في المحرم سنة سبع وتسعين ومائة وذلك في أربعة عشر سنة من إمامة الرضا عليه السّلام.

وروى عبد الرحمن بن جعفر الحميري عن أحمد بن هلال عن أميّة بن علي قال : كنت مع الرضا عليه السّلام في السنة التي حجّ فيها ثم خرج الى خراسان وكان معه أبو جعفر ابنه وله في ذلك الوقت سنة والرضا عليه السّلام يودّع البيت فلما قضى طوافه عاد الى المقام فصلّى عنده وأبو جعفر على عاتق موفق الخادم يطوف به ، فلما صار به الى الحجر جلس أبو جعفر عنده فأطال فقال له موفق : قم يا مولاي جعلت فداك.

قال : ما أريد أن أبرح من مكاني هذا إلّا أن يشاء الله.

واستبان في وجهه الغمّ ، فصار موفق الى أبي الحسن عليه السّلام فأخبره بخبره فقام أبو الحسن فصار إليه وقال له قم : يا حبيبي.

فقال : ما أريد أن أبرح من مكاني هذا وكيف أبرح وقد رأيتك ودّعت البيت وداعا لا ترجع إليه أبدا.

فقال له : قم معي.

فقام معه.

وعنه عن محمد بن الحسن عن محمد بن سنان قال : كنّا مع الرضا عليه السّلام بمكّة فلما أردنا الخروج قلنا له : ان رأيت أن تكتب معنا الى ابي جعفر كتابا لنسلم عليه ونلقاه بكتابك اذا قدمنا المدينة؟

فكتب لنا إليه كتابا فلما وافينا أخرجه إلينا موفق على كتفه فدفعنا إليه الكتاب فعجز عن فضّه لصغر سنّه ففضّه له موفق ونشره بين يديه فأقبل ينظر فيه سطرا سطرا ويتبسّم ويطويه حتى قرأه الى آخره.

قال محمد بن سنان : فلما فرغ من قراءته حرّك رجليه على ظهر موفق وقال : تاخ


تاخ.

قال : فدنوت منه فتمسحت به وقلت : «فطرسية فطرسية».

فعاد بصري بعد ما كان ذهب.

وكان من أمر المأمون واظهاره التشيّع ومناظرته الناس ودعوته الى هذا الدين القيم ما رواه الناس وما عزم عليه من نقل الأمر الى الرضا عليه السّلام ثم كتب إليه بذلك وسأله القدوم إليه ليعقد له الأمر. فامتنع عليه ثم كاتبه في الخروج وأقسم عليه.

فروي عن محمد بن عيسى عن ابي محمد الوشاء وروى جماعة من أصحاب الرضا عليه السّلام قال : قال علي الرضا : لما أردت الخروج من المدينة جمعت عيالي وأمرتهم أن يبكوا عليّ حتى أسمع بكاءهم ثم فرقت فيهم اثني عشر ألف دينار لعلمي اني لا أرجع إليهم أبدا.

قال : ثم أخذ أبو جعفر عليه السّلام فأدخله المسجد ووضع يده على حائط القبر وألصقه به واستحفظه رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال له : يا أبه أنت والله تذهب الى الله. ثم أمر أبو الحسن عليه السّلام جميع وكلائه بالسمع والطاعة له وترك مخالفته ، ونص عليه عند ثقاته وعرّفهم انّه القيم مقامه وشخص عليه السّلام على طريق البصرة ـ كما سأله المأمون.

فروي عن أبي حبيب النباحي انّه قال رأيت في المنام رسول الله صلّى الله عليه وآله قد وافى النباح ونزل في المسجد الذي ينزله الحاجّ في كلّ سنة وكأني مضيت إليه وسلّمت عليه ووقفت بين يديه ووجدت بين يديه طبقا من خوص نخل المدينة فيه تمر صيحاني فكأنّه قبض قبضة من ذلك التمر فناولني فعددته ثماني عشرة تمرة. وفي رواية اخرى انّه قال إحدى وعشرين تمرة. فتأوّلت اني أعيش بعدد كلّ تمرة سنة. فلما كان بعد عشرين يوما كنت في أرض تعمر بين يدي الزراعة حتى جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن الرضا عليه السّلام من المدينة ونزوله في ذلك المسجد ورأيت الناس يسعون إليه ، فمضيت نحوه فاذا هو جالس في الموضع الذي كنت رأيت فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله وتحته حصير مثل ما كان تحته وبين يديه طبق من خوص فيه تمر صيحاني. فسلّمت عليه فرد عليّ السلام واستدناني ، فناولني قبضة من ذلك التمر فعددته فاذا عددها مثل ذلك العدد الذي ناولني رسول


الله صلّى الله عليه وآله سواء.

فقلت : له زدني يا ابن رسول الله.

فقال : لو زادك رسول الله لزدناك.

وأقام يومه ورحل يراد به خراسان على طريق البصرة والأهواز وفارس وكرمان.

فروي ان المأمون استقبله وأعظمه وأكرمه وأظهر فضله واجلاله وناظره فيما عزم عليه في أمره.

فقال له : ان هذا أمر ليس بكائن فينا إلّا بعد أن يملك أكثر من عشرين رجلا بعد خروج السفياني فألحّ عليه فامتنع.

ثم أقسم فأبرّ قسمه بأن يعقد له الأمر بعده. وجلس مع المأمون للبيعة ثم سأله المأمون أن يخرج فيصلّي بالناس في عيد الأضحى فاستعفاه وامتنع عليه. فلم يعفه ، فأمر القواد والجيش بالركوب معه فاجتمعوا وساير الناس على بابه ، فخرج عليه السّلام وعليه قميصان وطيلسان وعمامة قد أسدل لها ذؤابتين من قدامه وخلفه وقد اكتحل وتطيب وبيده غرة كما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يفعل في الأعياد.

فلما خرج وقف بباب داره وكبّر وقدّس وهلل وسبّح ، فضجّ الناس بالبكاء وهو يمشي ، فترجّل القواد والجيش يمشون بين يديه وخلفه ، وكلّما خطا أربعين خطوة وقف فكبّر وهلل ؛ والناس يكبّرون معه. وكاد البلدان يفتتن ، واتصل الخبر بالمأمون فبعث إليه : يا سيدي كنت أعلم بشأنك مني. فارجع.

ورجع ولم يصل بالناس. ثم زوّجه المأمون ابنته ـ وقالوا اخته أم أبيها ـ والرواية الصحيحة اخته أم حبيبة. وسأله أن يخطب لنفسه.

فروى أحمد بن أبي نصر السكوني قال : لمّا اجتمع الناس للاملاك وخطب الرضا عليه السّلام فقال : الحمد لله الذي بيده مدار الأقدار وبمشيته تتمّ الامور ، واشهد ان لا إله إلّا الله شهادة يواطئ عليها القلب اللسان ، والسرّ الاعلان ، وأشهد ان محمّدا عبده ورسوله انتجبه نبيا ، فنطق البرهان بتحقيق نبوّته ، بعد أمر لم يأذن الله فيه وقرب أمر مآب مشية الله إليه ، ونحن نتعرّض ببركة الدّعاء لخيرة القضاء والتي تذكر أم حبيبة اخت أمير المؤمنين


عبد الله المأمون صلة الرحم ، وأمشاج الشبيكة ، وقد بذلت لها من الصداق خمسمائة درهم ، تزوّجني يا أمير المؤمنين؟

فقال المأمون : نعم قد زوجتك.

فقال : قد قبلت ورضيت.

وروي عن الحسن بن علي بن الريان قال : حدّثني الريان بن الصلت قال : لما أردت الخروج الى العراق عزمت على توديع الرضا عليه السّلام فقلت في نفسي : اذا ودّعته سألته قميصا من مجاسده لأكفن فيه ودراهم من ماله أصوغها لبناتي خواتيم.

فلما ودّعته شغلني البكاء والأسى على فراقه عن مسألته ذلك.

فلما خرجت من بين يديه صاح : يا (ريان) ارجع.

فرجعت ، فقال لي : أما تحب أن أدفع إليك قميصا من مجاسدي تكفن فيه اذا فني أجلك؟ أو ما تحبّ أن أدفع إليك دراهم تصوغ بها لبناتك خواتيم؟

فقلت : يا سيدي قد كان في نفسي ان أسألك ذلك ، فمنعني منه الغمّ لفراقك.

فرفع الوسادة فأخرج قميصا ودفعه إليّ ، ورفع جانب المصلّى فأخذ دراهم فدفعها إليّ عددها ثلاثون درهما.

وروى الحسين بن علي الوشاء المعروف بابن بنت الياس قال : شخصت الى خراسان ومعي حلل وشيء للتجارة فوردت مدينة مرو ليلا وكنت أقول بالوقف على موسى عليه السّلام فوافاني في موضع نزولي غلام أسود كأنّه من أهل المدينة فقال لي : سيدي يقول لك وجه إليّ بالحبرة التي معك لأكفن بها مولى لنا قد توفي.

فقلت له : ومن سيّدك؟

فقال : علي بن موسى عليه السّلام.

فقلت : ما معي حبرة ولا حلّة إلّا وقد بعتها في الطريق.

فمضى ثم عاد إليّ فقال : بلى قد بقيت الحبرة قبلك.

فحلفت له : اني ما أعلمها معي.

فمضى وعاد الثالثة فقال : هي في عرض السفط الفلاني.


فقلت في نفسي : ان صح قوله فهي دلالة ؛ وكانت ابنتي دفعت إليّ حبرة وقالت : ابتع لي بثمنها شيئا من الفيروزج والشبه من خراسان ، فأنسيتها.

فقلت لغلامي : هات هذا السفط الذي ذكره.

فاخرجه إليّ وفتحه فوجدت الحبرة في عرض ثياب فيه فدفعتها إليه وقلت : لا آخذ لها ثمنا.

فعاد إليّ فقال : تهدي ما ليس لك؟ هذه دفعتها إليك ابنتك فلانة وسألتك بيعها وان تبتاع لها بثمنها فيروزجا وشبها ، فاشتر لها بهذا ما سألت.

ووجّه مع الغلام الثمن الذي يساوي الحبرة بخراسان. فعجبت مما ورد عليّ وقلت : والله لأكتبن له مسائل أنا شاكّ فيها ثم لأمتحنه في مسائل سئل أبوه عنها ، فأثبتّ تلك المسائل في درج وغدوت الى بابه والمسائل في كمي ، ومعي صديق لي مخالف لا يعلم شرح هذا الأمر.

فلما وافيت بابه رأيت العرب والقواد والجند والموالي يدخلون إليه فجلست ناحية وقلت في نفسي : متى أصل أنا الى هذا فأنا مفكّر وقد طال قعودي وهممت بالانصراف إذ خرج خادم يتصفّح الوجوه ويقول : ابن بنت الياس الصيرفي!

فقلت : ها أنا ذا.

فأخرج من كمه درجا ويقول : هذا جواب مسائلك وتفسيرها.

ففتحته فاذا هو تفسير ما معي في كمي. فقلت : اشهد ان لا إله إلّا الله وأشهد الله ورسوله انّك حجّة الله ، واستغفر الله وأتوب إليه.

وقمت فقال لي رفيقي : الى أين تسرع؟

فقلت : قد قضيت حاجتي في هذا اليوم وأنا أعود للقائه بعد هذا.

وكان من أمر الفضل بن سهل (ذي الرئاستين) وتغيّر المأمون عليه حتى دسّ إليه من قتله في الحمام ما رواه الناس.

روي عن أبي الصلت الهروي عن محمد بن علي بن حمزة عن منصور بن بشير عن أخيه عبد الله بن بشير قال : قال لي المأمون يوما : أطل أظفارك ولا تقلّمها.


فطوّلتها حتى استحييت من الناس طولها. فحضرته يوما وقد دعا بمزور مختوم فأمرني بفضّه وادخال يدي فيه وتقليب الدواء الذي فيه ففعلت وكان فيه شيء مطحون مثل الذريرة البيضاء امتلأت أظفاري منه وصار فيها منه ثم قال لي : قم بنا.

فلم أدر ما يريد فيدخل من باب كان بينه وبين دار الرضا عليه السّلام وكان قد أنزله في دار معه تلاصق داره وكان الرضا عليه السّلام قد حم فجلس عنده وسأله عن خبره ثم قال له : الصواب ان تمص رمانا أو تشرب ماءه.

فقال : ما بي إليه حاجة.

فأقسم عليه ليفعلن ، وكان في بستان الدار شجرة رمان حامل فأمر الخادم فقطف منها رمانة ثم قال لي : تقدّم فقشّرها وفتّها.

فقلت في نفسي : انّا لله وانّا إليه راجعون ، هذه والله المصيبة العظمى.

ففتت الرمانة في جام بلور أحضره الخادم ودعا بملعقة فناوله من يده ثلاث ملاعق.

فلما رفع إليه الرابعة قال له : حسبك قد أتيت على ما احتجت إليه وبلغت مرادك.

فنهض المأمون فلم يمس يومنا حتى ارتفع الصراخ.

وكان من حديث حفر القبر والسمك الصغار ما رواه الناس.

ودفن عليه السّلام بطوس أمام قبر هارون الغوي. ومضى صلّى الله عليه في سنة اثنين ومائتين من الهجرة في آخر ذي الحجة.

وروي انّه مضى في صفر ، والخبر الأول أصح. وكان مولده في سنة ثلاث وخمسين ومائة بعد مضي أبي عبد الله عليه السّلام بخمس سنين فأقام مع أبيه عليه السّلام ثلاثين سنة وبعده في الامامة تسع عشرة سنة ، ومضى وسنّه تسع وأربعون سنة وشهور.

وروي علي بن محمد الخصيبي قال : حدّثني محمد بن إبراهيم الهاشمي قال : حدّثني عبد الرحمن بن يحيى قال : كنت يوما بين يدي مولاي الرضا عليه السّلام في علته التي مضى فيها إذ نظر إليّ فقال لي : يا عبد الرحمن اذا كان في آخر يومي هذا وارتفعت الصيحة فانّه سيوافيك ابني محمد فيدعوك الى غسلي فاذا غسلتموني وصليتم عليّ فأعلم هذا الطاغية لئلا ينقص عليّ شيئا ولن يستطيع ذلك.


قال : فو الله اني بين يدي سيدي يكلّمني إذ وافى المغرب فنظرت فاذا سيدي قد فارق الدّنيا فأخذتني حسرة وغصة شديدة فدنوت إليه فاذا قائل من خلفي يقول : مه يا عبد الرحمن ، فالتفت فاذا الحائط قد انفرج فاذا أنا بمولاي أبي جعفر عليه السّلام وعليه دراعة بيضاء معمّم بعمامة سوداء فقال : يا عبد الرحمن قم الى غسل مولاك فضعه على المغتسل ، وغسله بثوبه كغسل رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فلما فرغ ، صلّى وصليت معه عليه ، ثم قال : لي يا عبد الرحمن أعلم هذا الطاغي ما رأيت لئلا ينقص عليه شيئا ولن يستطيع ذلك.

ولم أزل بين يدي سيدي الى أن انفجر عمود الصبح فاذا أنا بالمأمون قد أقبل في خلق كثير فمنعني هيبته ان أبدأ بالكلام فقال : يا عبد الرحمن بن يحيى ما أكذبكم ألستم تزعمون انّه ما من امام يمضي إلّا وولده القائم مكانه يلي أمره. هذا علي بن موسى بخراسان ومحمّد ابنه بالمدينة.

قال : فقلت : يا أمير المؤمنين أما اذا ابتدأتني فاسمع انّه لما كان أمس قال لي سيدي كذا وكذا فو الله ما حضرت صلاة المغرب حتى قضى ، فدنوت منه فاذا قائل من خلفي يقول : مه يا عبد الرحمن.

وحدّثته الحديث ، فقال : صفه لي ، فوصفته له بحليته ولباسه وأريته الحائط الذي خرج منه. فرمى بنفسه الى الأرض وأقبل يخور كما يخور الثور وهو يقول : ويلك يا مأمون؟ ما حالك وعلى ما أقدمت؟ لعن الله فلانا وفلانا فانّهما أشارا عليّ بما فعلت.

محمد الجواد عليه السّلام

وقام أبو جعفر محمد بن علي بن موسى عليهم السّلام مقام أبيه.

فروي انّه كان اسم أم أبي جعفر سبيكة فانّها كانت أفضل نساء زمانها.

وروي انّه ولد عليه السّلام ليلة الجمعة لإحدى عشر ليلة بقيت من شهر رمضان سنة خمس وتسعين ومائة فلما ولد قال أبو الحسن عليه السّلام لأصحابه في تلك الليلة : قد ولد لي شبيه موسى بن عمران عليه السّلام فالق البحار قدست أم ولدته فلقد خلقت طاهرة مطهّرة ثم قال :


بأبي وأمي شهيد يبكي عليه أهل السماء يقتل غيظا ويغضب الله ـ جل وعز ـ على قاتله فلا يلبث إلّا يسيرا حتى يعجل الله به الى عذابه الأليم وعقابه الشديد.

وروى عبد الرحمن بن محمد عن كلثم بن عمران قال : قلت للرضا عليه السّلام : أنت تحبّ الصبيان فادع الله أن يرزقك ولدا.

فقال : إنمّا ارزق ولد واحد وهو يرثني.

فلما ولد أبو جعفر عليه السّلام كان طول ليلته يناغيه في مهده فلما طال ذلك على عدّة ليال قلت له : جعلت فداك قد ولد للناس أولاد قبل هذا فكلّ هذا تعوذه؟

فقال : ويحك ليس هذا عوذة إنمّا اغره بالعلم غرّا.

وكان مولده ومنشؤه على صفة مواليد آبائه عليهم السّلام.

وروى الحميري عن أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري عن الحسن بن بشار الواسطي قال : سألني الحسن بن قياما الصيرفي ان استأذن له على الرضا عليه السّلام ففعلت ، فلما صار بين يديه قال له ابن قياما : أنت امام؟

قال : نعم.

قال : فاني أشهد انّك لست بإمام.

قال له : وما علمك؟

قال : لأني رويت عن أبي عبد الله عليه السّلام انّه قال : الامام لا يكون عقيما ، وقد بلغت هذا السن وليس لك ولد.

فرفع رأسه الى السماء ثم قال : اللهم انّي أشهدك انّه لا تمضي الأيام والليالي حتى ترزقني ولدا يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا.

فعددنا الوقت فكان بينه وبين ولادة أبي جعفر عليه السّلام شهور الحمل.

وروى الحميري عن عبد الله بن أحمد عن صفوان بن يحيى عن حكيمة ابنة ابي إبراهيم موسى عليه السّلام قالت : لما علقت أم أبي جعفر كتبت إليه ان جاريتك سبيكة قد علقت. فكتب إلي : انها علقت ساعة كذا من يوم كذا من شهر كذا فاذا هي ولدت فالزميها سبعة أيام.


قال : فلما ولدته وسقط الى الأرض قال : أشهد ان لا إله إلّا الله وان محمدا رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فلما كان اليوم الثالث عطس فقال : الحمد لله وصلّى الله على محمّد وعلى الأئمة الراشدين.

وحج الرضا عليه السّلام بعد ذلك بسنة ومعه أبو جعفر فكان من أمر البيت والحجر وجلوسه فيه عليه السّلام ما قد ذكرناه في باب الرضا عليه السّلام.

وروي عن محمد بن الحسين عن علي بن اسباط قال : خرج عليّ أبو جعفر عليه السّلام فجعلت أنظر إليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر فقال لي : يا علي بن اسباط ان الله عز وجل احتج في الامامة بمثل ما احتج به في النبوّة فقال : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) ، وقال : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) فقد يجوز أن يؤتى الحكم صبيا ويؤتاه ابن أربعين.

وروي انّه كان يتكلّم في المهد. وروي عن زكريا بن آدم قال : اني لعند الرضا عليه السّلام إذ جيء بأبي جعفر عليه السّلام وسنّه نحو أربع سنين فضرب الى الأرض ورفع رأسه الى السماء فأطال الفكر فقال له الرضا عليه السّلام : بنفسي أنت فيم تفكّر طويلا منذ قعدت. قال : فيما صنع بأمي فاطمة عليها السّلام اما والله لأخرجنّهما ثم لأحرقنّهما ثم لأذرينّهما ثم لأنفسنّهما في أليم نسفا.

فاستدناه وقبّل بين عينيه ثم قال : بأبي أنت وأمي أنت لها ـ يعني الامامة.

وروي عن موسى بن القاسم عن محمد بن علي بن جعفر قال : كنت مع الرضا فدعا بأبي جعفر ابنه وهو صبي صغير فأجلسه ثم قال لي : جرّده.

فنزعت قميصه فأراني في أحد كتفيه كالخاتم داخلا في اللحم ثم قال : ترى هذا؟ كان مثله في هذا الموضع من أبي إبراهيم.

وروي عن علي بن اسباط عن نجم الصنعاني قال : اني لعند الرضا عليه السّلام إذ جيء بأبي جعفر عليه السّلام فقلت له : جعلت فداك هذا المولود المبارك؟

فقال لي : نعم هذا الذي لم يولد أعظم بركة منه على شيعتنا.


وروى الحميري عن محمد بن عيسى الأشعري عن الأسدي عن أبي خداش عن جنان بن سدير قال : قلت للرضا عليه السّلام : يكون امام ليس له عقب؟ فقال لي : أما انّه لا يولد لي إلّا واحد ولكن الله ينشئ منه ذريّة كثيرة.

ولم يزل أبو جعفر عليه السّلام مع حداثته وصباه يدبر أمر الرضا عليه السّلام بالمدينة ويأمر الموالي وينهاهم لا يخالف عليه أحد منهم.

وروى صفوان بن يحيى قال : قلت للرضا عليه السّلام : قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول : يهب الله لي غلاما. فقد وهب الله وأقرّ عيوننا فلا أرانا الله يومك ، فان كان كون فإلى من؟

فأشار بيده الى أبي جعفر عليه السّلام وهو نائم بين يديه فقلت : جعلت فداك هو ابن ثلاث سنين.

قال : وما يضرّه ذلك؟ قد قام عيسى بالحجّة وهو ابن ثلاث سنين.

وروي عن الحسن بن الجهم قال : دخلت على الرضا ؛ وأبو جعفر صغير بين يديه فقال لي بعد كلام طويل جرى : لو قلت لك يا حسن ان هذا امام ، ما كنت تقول؟

قال : قلت ما تقوله لي جعلت فداك.

قال : أصبت ، ثم كشف عن كتف أبي جعفر فأراني مثل رمز اصبعين.

فقال لي : مثل هذا كان في مثل هذا الموضع من أبي موسى عليه السّلام.

الحميري عن أيوب بن نوح عن صفوان بن يحيى قال : قال لي أبو الحسن الرضا عليه السّلام : كان أبو جعفر محدّثا.

وروي عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : دخلت وصفوان بن يحيى على الرضا عليه السّلام ؛ وأبو جعفر عنده نائم له ثلاث سنين فقلنا له : جعلنا الله فداك انّا ـ ونعوذ بالله من حدث يحدث ـ لا ندري من القائم بعدك؟

قال : ابني هذا.

فقلت : وهو في هذا السن؟

فقال : ان الله تبارك وتعالى احتجّ بعيسى ابن مريم عليه السّلام وهو ابن السنتين وان الامامة


تجري مجرى النبوّة.

وعنه عن محمد المحمودي عن أبيه ان حاضنة أبي جعفر قالت له يوما : ما لي أراك مفكّرا كأنّك شيخ؟

فقال لها : ان عيسى بن مريم كان يمرض وهو صبي فيصف لأمه ما تعالجه به فاذا تناوله بكى.

قالت : يا بني إنمّا أعالجك بما علّمتني.

فيقول لها : الحكم حكم النبوّة ، والخلقة خلقة الصبيان.

وعن المحمودي قال : كنت واقفا على رأس الرضا عليه السّلام بطوس فقال لي بعض أصحابه : ان حدث حدث ، فإلى من؟

فالتفت عليه السّلام وقال له : الى ابني أبي جعفر.

فكأن الرجل استصغر سنّه ، فقال له أبو الحسن : ان الله بعث عيسى بن مريم قائما بشريعته وهو في دون السن التي يقوم فيها أبو جعفر على شريعتنا.

فلما مضى الرضا عليه السّلام في سنة اثنتين ومائتين كانت سن أبي جعفر نحو سبع سنين.

واختلفت الكلمة من الناس ببغداد وفي الأمصار واجتمع الريان بن الصلت وصفوان بن يحيى ومحمد بن حكيم وعبد الرحمن بن الحجاج ويونس بن عبد الرحمن وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجاج في بركة زلول يبكون ويتوجعون من المصيبة فقال لهم يونس بن عبد الرحمن : دعوا البكاء ، من لهذا الأمر؟ وإلى من يقصد بالمسائل الى أن يكبر هذا الصبي؟ ـ يعني أبا جعفر عليه السّلام.

فقام إليه الريّان بن الصلت فوضع يده في حلقه ولم يزل يلطمه ويقول له : يا ابن الفاعلة أنت تظهر الايمان لنا وتبطن الشك والشرك. ان كان أمره من الله ـ جل وعلا ـ فلو انّه ابن يوم واحد كان بمنزلة ابن مائة سنة ، وان لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو كواحد من الناس. هذا ما ينبغي أن يفكر فيه.

فأقبلت العصابة على يونس تعذله وتوبّخه. وقرب وقت الموسم واجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلا وقصدوا الحجّ والمدينة ليشاهدوا أبا جعفر عليه السّلام ،


فلما وافوا أتوا دار أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السّلام فدخلوها وأجلسوا على بساط كبير أحمر وخرج إليهم عبد الله بن موسى فجلس في صدر المجلس وقام مناد فنادى : هذا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فمن أراد السؤال فليسأله.

فقام إليه رجل من القوم فقال له : ما تقول في رجل قال لامرأته أنت طالق عدد نجوم السماء؟

قال : طلقت بثلاث بصدر الجوزاء والنسر الواقع.

فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم.

ثم قام إليه رجل آخر فقال : ما تقول في رجل أتى بهيمة؟

فقال : تقطع يده ويجلد مائة وينفى.

فضجّ القوم بالبكاء. وقد اجتمع فقهاء الأمصار من أقطار الأرض بالمشرق والمغرب والحجاز ومكة والعراقين واضطربوا للقيام والانصراف حتى فتح عليهم باب من صدر المجلس وخرج موفق الخادم بين يدي أبي جعفر عليه السّلام وهو خلفه وعليه قميصان وأزار عدني وعمامة بذؤابتين احداهما من قدام وأخرى من خلفه وفي رجليه نعل بقبالين فسلّم وجلس ، وأمسك الناس كلّهم ، فقام صاحب المسألة الاولى فقال له : يا ابن رسول الله ما تقول في رجل قال لامرأته أنت طالق عدد نجوم السماء؟

قال عليه السّلام : اقرأ كتاب الله عز وجل (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

قال له : فان عمّك قد أفتانا أنّها قد طلقت.

فقال له : يا عم اتق الله ولا تفت وفي الامامة من هو أعلم منك.

فقام إليه صاحب المسألة الثانية فقال : يا ابن رسول الله ما تقول في رجل أتى بهيمة؟

فقال له يعزّر ويحمى ظهر البهيمة وتخرج من البلد لئلا يبقى على الرجل عارها.

فقال له : ان عمّك أفتى بكيت وكيت.

فقال : لا إله إلّا الله! يا عمّ انّه لعظيم عند الله أن تقف غدا بين يديه ، فيقول لك : لم أفتيت عبادي بما لم تعلم وفي الامامة من هو أعلم منك.


فقال له عبد الله بن موسى : رأيت أخي الرضا وقد أجاب في مثل هذه المسألة بهذا الجواب.

فقال له أبو جعفر عليه السّلام : انما سئل الرضا عليه السّلام عن نباش نبش قبر امرأة وفجر بها وأخذ أكفانها فأمر بقطعه للسرقة ونفيه لتمثيله بالميت.

قال أبو خداش المهدي وكنت قد حضرت مجلس موسى عليه السّلام فأتاه رجل فقال له : جعلني الله فداك أم ولد لي أرضعت جارية لي بالغة بلبن ابني أيحلّ لي نكاحها أم تحرم عليّ؟

فقال أبو الحسن : لا رضاع بعد فطام.

وسأله عن الصلاة في الحرمين تتمّ أم تقصر؟

فقال : ان شئت أتمم وان شئت قصر.

قال له : الخصي يدخل على النساء.

فأعرض وجهه.

قال : فحججت بعد ذلك فدخلت على الرضا عليه السّلام فسألته عن هذه المسائل فأجابني بالجواب الذي أجاب به موسى عليه السّلام وكان جالسا مجلس أبي جعفر في هذا الوقت قال : فقلت لأبي جعفر عليه السّلام : جعلت فداك أم ولد لي أرضعت جارية بالغة بلبن ابني أيحرم عليّ نكاحها؟

فقال : لا رضاع بعد فطام.

قلت : الصلاة في الحرمين؟

قال : ان شئت اتمم وان شئت قصر وكان أبي عليه السّلام يتمّم.

قلت : الخصي يدخل على النساء.

فحوّل وجهه ثم استدناني وقال : وما نقص منه إلّا الخناثة الواقعة عليه.

قال : وكان اسحاق بن إسماعيل بن نوبخت في تلك السنة مع الجماعة. قال اسحاق : فأعددت له في رقعة عشر مسائل وكان لي حمل ، فقلت : ان أجابني عن مسائلي سألته أن يدعو الله أن يجعله ذكرا ، فلما سأله الناس قمت والرقعة معي لأسأله.


فلما نظر إليّ قال : يا أبا اسحاق سمّه أحمد.

فولد لي ذكر فسمّيته أحمد. فعاش مدّة ومات.

وكان فيمن خرج مع الجماعة علي بن حسان الواسطي المعروف بالأعمش قال :

فحملت معي شيئا من آلات الصبيان مصاغة من فضة وقلت أهديها الى مولاي وأتحفه بها. فلما تفرّق الناس عنه وأجاب جميعهم عن مسائلهم ومضى الى منزله اتبعته فلقيت موفقا فقلت : استأذن لي على مولاي ففعل. ودخلت فسلّمت عليه فرد عليّ فتبينت في وجهه الكراهة ولم يأمرني بالجلوس فدنوت منه وفرغت ما كان في كمي بين يديه فنظر إليّ نظر مغضب ثم رمى به يمينا وشمالا وقال : ما لهذا خلقنا الله. فاستقلته واستعفيته فعفا وقام فدخل وخرجت ومعي تلك الآلات.

وبقي أبو جعفر عليه السّلام مستخفيا بالإمامة الى ان صارت سنه عشر سنين.

وروى أمية بن علي قال : كنت بالمدينة اختلف الى أبي جعفر عليه السّلام وأبوه بخراسان فدعاه يوما بالجارية.

فقال لها : قولي لهم يتهيّئون للمأتم فلما تفرقنا من مجلسه وكنت انا وجماعة قلنا : إنّا ما سألناه مأتم من.

فلما كان الغد أعاد القول ، فقلنا له : مأتم من؟

فقال : مأتم خير من على ظهر الأرض.

فورد الخبر بمضي الرضا عليه السّلام بعد ذلك بأيام.

ثم وجّه المأمون فحمله وأنزله بالقرب من داره وأجمع على أن يزوّجه ابنته أم الفضل. فروي عن علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن الريان بن شبيب خال المأمون قال : لمّا أراد المأمون أن يزوّج أبا جعفر عليه السّلام ابنته اجتمع إليه خواصه الادنون من بني هاشم فقالوا له : يا أمير المؤمنين نشدناك الله أن لا تخرج من هذا البيت أمرا قد ملكناه الله وتنزع عزا قد ألبسناه وقد عرفت ما بيننا وبين آل أبي طالب ، وهذا الغلام صبي غر.

قال : فانتهرهم المأمون وقال لهم : هو والله أعلم بالله وبرسوله وبسنّته وأحكامه من جماعتكم.


فخرجوا من عنده وصاروا الى يحيى بن أكثم فسألوه الاحتيال على أبي جعفر بمسألة مشكلة يلقيها عليه. فلما اجتمعوا وحضر أبو جعفر عليه السّلام قالوا : يا أمير المؤمنين هذا يحيى بن أكثم إن أذنت له أن يسأل أبا جعفر عن مسألة في الفقه فننظر كيف فهمه ومعرفته من فهم أبيه ومعرفته؟

فأذن المأمون ليحيى في ذلك فقال يحيى لأبي جعفر عليه السّلام : ما تقول في محرم قتل صيدا؟

فقال أبو جعفر عليه السّلام : في حل أم حرم؟ عالما كان المحرم أم جاهلا؟ قتله عمدا أو خطأ؟ صغيرا كان القاتل أم كبيرا؟ عبدا أم حرّا؟ مبتدئا بالقتل أم معيدا؟ من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها؟ من صغار الصيد كان أو من كبارها؟ مصرا على ما فعل أو نادما؟ بالليل كان قتله للصيد أم بالنهار؟ محرما كان بالعمرة أو بالحج؟

قال : فانقطع يحيى عن جوابه.

وقال المأمون : تخطب يا أبا جعفر لنفسك.

فقام عليه السّلام فقال : الحمد لله منعم النعم برحمته والهادي الي فضله بمنته وصلّى الله على محمّد خير خلقه .. الذي جمع فيه من الفضل ما فرّقه في الرسل قبله ، وجعل تراثه الى من خصه بخلافته ، وسلّم تسليما ، وهذا أمير المؤمنين زوّجني ابنته على ما جعل الله للمسلمات على المسلمين «امساك (بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وقد بذلت لها من الصداق ما بذله رسول الله صلّى الله عليه وآله لأزواجه وهو خمسمائة درهم ، ونحلتها من مالي مائة ألف درهم. تزوّجني يا أمير المؤمنين؟؟

فروي ان المأمون قال : الحمد لله إقرارا بنعمته ولا إله إلّا الله إخلاصا لعظمته ، وصلّى الله على محمّد عبده وخيرته ، وكان من قضاء الله على الانام ان أغناهم بالحلال عن الحرام ، فقال (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) ثم ان محمد بن علي خطب أم الفضل بنت عبد الله وبذل لها من الصداق خمسمائة درهم وقد زوجته. فهل قبلت يا أبا جعفر؟

فقال أبو جعفر عليه السّلام : قد قبلت هذا التزويج بهذا الصداق.


ثم أولم عليه المأمون فجاء الناس على مراتبهم. فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كلاما كان من كلام الملّاحين فاذا نحن بالخدم يجرون سفينة من فضة مملوة غالية فخضبوا بها لحا الخاصة ثم مدوها الى دار العامة فطيبوهم. فلما تفرّق الناس قال المأمون : يا أبا جعفر ان رأيت ان تبيّن لنا ما الذي يجب على كلّ صنف من هذه الأصناف الذي ذكرت من جزاء الصيد؟

فقال عليه السّلام : ان المحرم اذا قتل صيدا في الحل والصيد من ذوات الطير من كبارها فعليه شاة ، واذا أصاب في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا واذا قتل فرخا من الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن وليس عليه قيمته ، واذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ ، واذا كان من الوحش فعليه في حمار وحش بقرة وفي النعامة بدنة ، فان لم يقدر فإطعام ستين مسكينا فان لم يقدر فليصم ثمانية عشر يوما ، وان كان بقرة فعليه بقرة فان لم يقدر فإطعام ثلاثين مسكينا فإن لم يقدر فليصم تسعة أيام ، وان كان ظبيا فعليه شاة فان لم يقدر فإطعام عشرة مساكين فإن لم يقدر فصيام ثلاثة أيام ، وان كان قتله في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة حقا واجبا عليه أن ينحره ان كان في حج بمنى حيث ينحر الناس ، وان كان في عمرة ينحر بمكّة ويتصدّق بمثل ثمنه حتى يكون مضاعفا ، وان كان أصاب أرنبا فعليه شاة ويتصدّق إذا قتل الحمامة بعد الشاة بدرهم أو يشتري به طعام الحمام في الحرم وفي الفرخ نصف درهم وفي البيضة ربع درهم ، وكلّ ما أتى به المحرم بجهالة فليس فيه شيء إلّا الصيد فان فيه عليه الفداء ـ بجهالة كان أم بعلم ، بخطإ كان أم بعمد ـ وكلّ ما أتى به العبد فكفارته على صاحبه مثل ما يلزم صاحبه ، وكلّ ما أتى به الصغير الذي ليس ببالغ فلا شيء عليه فيه ، فان عاد فينتقم الله منه ، وليس عليه كفارة والنقمة في الآخرة. وان دلّ على الصيد وهو محرم فقتل ، فعليه الفداء والمصر عليه يلزمه بعد الفداء العقوبة في الآخرة ، والنادم عليه لا شيء بعد الفداء.

وإذا أصاب الصيد ليلا في وكره خطأ فلا شيء عليه إلّا أن يتعمّد ، فاذا تصيد بليل أو نهار فعليه الفداء والمحرم للحج ينحر الفداء بمنى حيث ينحر الناس ، والمحرم للعمرة ينحر بمكّة.


فأمر المأمون أن يكتب ذلك عنه ثم دعا من أنكر عليه من العباسيين تزويجه فقرأ عليهم وقال لهم : هل فيكم من يجيب بمثل هذا الجواب؟

فقالوا : أمير المؤمنين كان أعلم به منّا.

ثم أمر المأمون فنثر على أبي جعفر رقاعا فيها ضياع وطعم وعمالات ولم يزل مكرما له.

وروى يوسف بن السخت عن صالح بن عطية الأصم قال : حججت قبل خروج أبي جعفر عليه السّلام الى العراق فشكوت إليه الوحدة فقال لي : أما انّك لا تخرج من الحرم حتى تشتري جارية ترزق منها ابنا.

فقال له : جعلت فداك ان رأيت أن تشير عليّ؟

فقال : نعم ، اذهب فاعترض فاذا رضيت فاعلمني.

ففعلت ذلك.

قال : فاذهب فكن بالقرب من صاحبها حتى أوافيك.

فصرت الى دكان النّخاس فمر بنا عليه السّلام ، فنظر إليها فمضى فصرت إليه فقال : قد رأيتها وهي قصيرة العمر.

فلما كان من الغد صرت الى صاحبها. فقال : الجارية محمومة ولا يمكن عرضها.

فعدت إليه من الغد فسألته عنها. فقال : دفنتها اليوم.

فأتيته عليه السّلام فأخبرته الخبر وابتعت غيرها فرزقت منها ابني محمد.

وعن حمران بن محمد الأشعري قال : دخلت على أبي جعفر عليه السّلام لما قضيت حوايجي فقلت له : ان أم الحسن تقرئك السلام وتسألك ثوبا من ثيابك تجعله كفنا لها.

فقال لي : قد استغنيتم عن ذلك.

فخرجت ولا أدري ما معنى قوله حتى ورد عليّ الخبر بوفاتها.

وعن محمد بن عيسى بن عبد الله الأشعري قال : قال لي أبو جعفر عليه السّلام : ارتفع الشك. ما لأبي ولد غيري.

وروي ان عمر بن الفرج الرخجي قال لأبي جعفر عليه السّلام : ان شيعتك تدّعي انّك تعلم كل


ما في دجلة ؛ وكانا جالسين على دجلة. فقال له أبو جعفر عليه السّلام : يقدر الله عز وجل أن يفوّض علم ذلك الى بعوضة من خلقه؟

قال : نعم ، يقدر. فقال : أنا أكرم على الله من بعوضته.

ثم خرج عليه السّلام ـ في السنة التي خرج فيها المأمون الى «البليدون» من بلاد الروم ـ بام الفضل حاجا الى مكّة وأخرج أبا الحسن عليا ابنه معه عليهما السّلام وهو صغير فخلفه بالمدينة وانصرف الى العراق ومعه أم الفضل بعد أن أشار الى أبي الحسن ونصّ عليه وأوصى إليه.

وتوفي المأمون ب «بليدون» في يوم الخميس لثلاثة عشرة ليلة مضت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين في ست عشرة سنة من إمامة أبي جعفر عليه السّلام وبويع للمعتصم ابي اسحاق محمد بن هارون في شعبان سنة ثماني عشرة ومائتين.

فلما انصرف أبو جعفر عليه السّلام الى العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبرون ويعملون في الحيلة في قتله فقال جعفر لاخته أم الفضل وكانت لامه وأبيه في ذلك ؛ لأنّه وقف على انحرافها عنه وغيرتها عليه لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها مع شدّة محبتها له ولأنّها لم ترزق منه ولدا. فأجابت أخاها جعفرا وجعلوا سمّا في شيء من عنب رازقي وكان يعجبه العنب الرازقي. فلما أكل منه ندمت وجعلت تبكي.

فقال لها : ما بكاؤك؟ والله ليضربنك الله بفقر لا ينجي وبلاء لا ينستر.

فبليت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها صارت «ناسورا» ينتقض عليها في كلّ وقت. فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلّة حتى احتاجت الى رفد الناس.

ويروى ان الناسور كان في فرجها. وتردّى جعفر بن المأمون في بئر فاخرج ميتا وكان سكران.

ولما حضرته الوفاة عليه السّلام نص على أبي الحسن وأوصى إليه وكان سلّم المواريث والسلاح إليه بالمدينة ، ومضى صلّى الله عليه في سنة عشرين ومائتين من الهجرة في يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة فكانت سنّه أربعة وعشرين سنة وشهورا لأن مولده كان في سنة خمسة وتسعين ومائة فأقام مع أبيه عليهما السّلام ست سنين وشهورا وأقام بعده ثماني عشرة سنة ودفن ببغداد في تربة جدّه أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السّلام.


علي الهادي عليه السّلام

وقام أبو الحسن علي بن محمد صاحب العسكر بسر من رأى مقام أبيه عليهما السّلام.

وروي عن محمد بن الفرج وغيره قال : دعاني أبو جعفر عليه السّلام فأعلمني ان قافلة قد قدمت وفيها نخاس معه رقيق ودفع إليّ صرّة فيها ستون دينارا ووصف لي جارية معه بحليتها وصورتها ولباسها وأمرني بابتياعها فمضيت واشتريتها بما استلم وكان سومها بها ما دفعه الي. فكانت تلك الجارية أم أبي الحسن واسمها جمانة وكانت مولدة عند امرأة ربّتها.

واشتراها النخاس ولم يقض له أن يقربها حتى باعها. هكذا ذكرت.

وروى محمد بن الفرج وعلي بن مهزيار عن أبي الحسن عليه السّلام انّه قال : أمي عارفة بحقي وهي من أهل الجنّة ما يقربها شيطان مريد ولا ينالها كيد جبّار عنيد وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام ، ولا تتخلف عن امهات الصديقين والصالحين.

وكانت ولادته (صلّى الله عليه) ـ مثل ولادة آبائه عليهم السّلام ـ في رجب سنة أربعة عشرة ومائتين من الهجرة ، وحمل الى المدينة وهو صغير في السنة التي حجّ فيها أبو جعفر عليه السّلام بابنة المأمون وزوجته.

وروى الحميري عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه ان أبا جعفر عليه السّلام لما أراد الشخوص من المدينة الى العراق أجلس أبا الحسن عليه السّلام في حجره وقال له : ما الذي تحبّ أن يهدى إليك من طرائف العراق؟

فقال : سيفا كأنّه شعلة.

ثم التفت الى موسى ابنه فقال له : ما تحبّ أنت؟

فقال له : فرش بيت.

فقال أبو جعفر : اشبهني أبو الحسن ، وأشبه هذا أمه.

وحدث الحميري عن الحسن بن علي بن هلال عن محمد بن اسماعيل بن بزيغ قال : قال لي أبو جعفر : يفضى هذا الأمر الى أبي الحسن وهو ابن سبع سنين ، ثم قال : نعم وأقل


من سبع سنين كما كان عيسى عليه السّلام.

وروى الحميري عن محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن عثمان الكوفي عن أبي جعفر عليه السّلام انّه قال له : ان حدث بك ـ وأعوذ بالله ـ حادث فإلى من؟

فقال : الى ابني هذا ـ يعني أبا الحسن.

ثم قال : اما انّها ستكون فترة.

قلت : فإلى أين؟

فقال : الى المدينة.

قلت : أي مدينة؟

قال : هذه المدينة مدينة الرسول صلّى الله عليه وآله وهل مدينة غيرها.

وروى الحميري عن محمد بن عيسى عن الحسين بن قارون عن رجل ذكر انّه كان رضيع أبي جعفر عليه السّلام قال : بينا أبو الحسن جالسا في الكتّاب وكان مؤدبه رجل كرخي من أهل بغداد يكنى أبا زكريا وكان أبو جعفر في ذلك الوقت ببغداد وأبو الحسن بالمدينة يقرأ في اللوح على المؤدب إذ بكى بكاء شديدا ، فسأله المؤدب عن شأنه وبكائه ، فلم يجبه وقام فدخل الدار باكيا وارتفع الصياح والبكاء ثم خرج بعد ذلك فسألناه عن بكائه.

فقال : ان أبي توفي.

فقلنا له : بما ذا علمت ذاك؟

قال : دخلني من اجلال الله ـ جل وعز جلاله ـ شيء علمت معه ان أبي قد مضى (صلّى الله عليه).

فأرّخنا الوقت. فلما ورد الخبر نظرنا فاذا هو قد مضى في تلك الساعة.

وعنه عن معاوية بن حكيم عن أبي النضل الشيباني عن هارون بن الفضل قال : رأيت أبا الحسن عليه السّلام في اليوم الذي مضى فيه أبو جعفر يقول : انّا لله وإنّا إليه راجعون .. مضى أبو جعفر صلّى الله عليه.

فقيل له : فكيف عرفت ذلك؟


قال : تداخلني ذلّ واستكانة لم أكن أعهدها.

وعن الحسن بن محمد بن معلى عن الحسن بن علي الوشاء قال : حدّثتني أم محمد مولاة أبي الحسن الرضا عليه السّلام قالت : جاء أبو الحسن عليه السّلام وقد ذعر حتى جلس في حجر أم أبيها بنت موسى عمّة أبيه فقالت له : ما لك؟

فقال لها : مات أبي والله الساعة.

فقالت : لا تقل هذا.

قال : هو والله كما أقول لك.

فكتبنا الوقت واليوم فجاءت وفاته عليه السّلام وكان كما قال عليه السّلام.

وقام أبو الحسن بأمر الله جل وعلا في سنة عشرين ومائتين وله ست سنين وشهور في مثل سن أبيه عليهما السّلام بعد أن ملك المعتصم بسنتين.

فروى الحميري عن محمّد بن سعيد مولى لولد جعفر بن محمد قال : قدم عمر بن الفرج المرخجي المدينة حاجّا بعد مضي أبي جعفر عليه السّلام فأحضر جماعة من أهل المدينة والمخالفين والمعاندين لأهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال لهم : ابغوا لي رجلا من أهل الأدب والقرآن والعلم لا يوالي أهل هذا البيت لأضمّه الى هذا الغلام وأوكله بتعليمه وأتقدّم إليه بأن يمنع منه الرافضة الذين يقصدونه ويمسونه.

فسمّوا له رجلا من أهل الأدب يكنى أبا عبد الله ويعرف بالجنيدي متقدما عند أهل المدينة في الأدب والفهم ظاهر الغضب والعداوة فأحضره عمر بن الفرج وأسنى له الجاري من مال السلطان وتقدّم إليه بما أراد وعرّفه ان السلطان أمره باختيار مثله وتوكيله بهذا الغلام.

قال : فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن في القصر بصريا فاذا كان الليل أغلق الباب وأقفله وأخذ المفاتيح إليه.

فمكث على هذا مدّة وانقطعت الشيعة عنه وعن الاستماع منه والقراءة عليه. ثم اني لقيته في يوم جمعة فسلّمت عليه وقلت له : ما قال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه؟

فقال ـ منكرا عليّ ـ : تقول الغلام ، ولا نقول الشيخ الهاشمي؟! انشدك الله هل تعلم


بالمدينة أعلم مني؟

قلت : لا.

قال : فاني والله أذكر له الحزب من الأدب أظنّ اني قد بالغت فيه فيملي عليّ بابا فيه استفيده منه. ويظنّ الناس اني أعلّمه ، وأنا والله أتعلم منه.

قال : فتجاوزت عن كلامه هذا كأني ما سمعته منه ، ثم لقيته بعد ذلك فسلّمت عليه وسألته عن خبره وحاله ثم قلت : ما حال الفتى الهاشمي؟

فقال لي : دع هذا القول عنك. هذا والله خير أهل الأرض وأفضل من خلق الله. انّه لربّما همّ بالدخول فأقول له : تنظر حتى تقرأ عشرك. فيقول لي : أي السور تحبّ أن أقرأها؟ انا أذكر له من السور الطوال ما لم تبلغ إليه فيهذها بقراءة لم أسمع أصحّ منها من أحد قط وجزم أطيب من مزامير داود النبي عليه السّلام الذي إليها من قراءته يضرب المثل.

قال : ثم قال : هذا مات أبوه بالعراق وهو صغير بالمدينة ونشأ بين هذه الجواري السود ، فمن أين علم هذا؟

قال : ثم ما مرت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته وعرف الحق وقال به.

وفي سبع سنين من إمامته مات المعتصم في سنة سبع وعشرين ومائتين ، ولأبي الحسن عليه السّلام أربع عشرة سنة وبويع لهارون الواثق ابن المعتصم ومضى الواثق في اثنتين وثلاثين ومائتين في اثنتي عشرة سنة من إمامة أبي الحسن عليه السّلام وبويع للمتوكل جعفر بن المعتصم.

وروى الحميري عن الحسن بن مصعب المدائني يسأله عن السجود على الزجاج قال : فلما نفذ كتابي حدّثتني نفسي انّه مما أنبتت الأرض وانّهم قالوا : لا بأس بالسجود على ما أنبتت.

فورد الجواب : لا تسجد عليه فان حدثتك نفسك انّه ممّا أنبته الأرض فحال فانّه من الرمل والملح ؛ والملح سبخ ؛ والسبخ ارض ممسوخة.

وعنه عن علي بن محمد النوفلي قال : قال لي محمد بن الفرج : ان أبا الحسن عليه السّلام


كتب إليه : يا محمد اجمع أمرك وخذ حذرك فانا في جمع أمري.

ولست أدري معنى ما كتب به إليّ حتى ورد عليّ رسول حملني من مصر مقيّدا وضرب على كلّ ما كنت أملك فمكثت في السجن ثماني سنين فورد عليّ منه كتاب : يا محمّد لا تنزل في ناحيه الجانب الغربي. فقرأت الكتاب فقلت : يكتب إليّ بهذا وأنا في السجن ، ان هذا لعجب.

فلم ألبث في السجن إلّا أياما قليلة حتى خلي عني.

وعنه قال : حدثني خيران الخادم مولى فراطيس أم الواثق قال : حججت في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين فدخلت على أبي الحسن عليه السّلام فقال : ما حال صاحبك ـ يعني الواثق.

فقلت : وجع ولعلّه قد مات.

قال : لم يمت ولكنّ ألما به.

ثم قال : فمن يقال بعده؟

قلت : ابنه.

فقال : الناس يزعمون انّه جعفر.

قلت : لا.

قال : بلى هو كما أقول لك.

قلت صدق الله ورسوله وابن رسوله. فكان كما قال.

وعنه عن محمد بن عيسى قال حدّثني أبو علي بن راشد قال قال ابو الحسن عليه السّلام في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين : ما فعل الرجل ـ يعني الواثق ـ؟

قلت : عليل أو قد مات.

قال : لم يمت ولكنه لا يلبث حتى يموت.

وعنه عن محمد بن عيسى عن علي بن جعفر ان أبا الحسن عليه السّلام أتى المسجد ليلة الجمعة فصلّى عند الاسطوانة التي حذاء بيت فاطمة عليها السّلام. فلما جلس أتاه رجل من أهل بيته يقال له معروف قد عرفه علي بن جعفر وغيره فقعد الى جانبه يعاتبه وقال له : اني


أتيتكم فلم تأذن لي.

فقال : لعلّك أتيت في وقت لم يكن أن يؤذن لك عليّ وما علمت بمكانك وأخبرت عنك انّك ذكرتني وشكوتني بما لا ينبغي.

فقال الرجل : لا والله ما فعلت والا فهو بريء من صاحب القبر ان كان فعل.

فقال ابو الحسن : علمت انّه حلف كاذبا فقلت : اللهم انّه قد حلف كاذبا فانتقم منه.

فمات الرجل من غد وصار حديثا بالمدينة.

قال : وكتب بريحة العباسي صاحب الصلاة بالحرمين الى المتوكل : ان كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما فانّه قد دعا الى نفسه واتبعه خلق كثير.

وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى ، فوجّه المتوكل بيحيى بن هرثمة وكتب معه الى أبي الحسن عليه السّلام كتابا جميلا يعرفه انّه قد اشتقاقه ويسأله القدوم عليه وأمر يحيى بالمسير معه كما يجب وكتب الى بريحة يعرفه ذلك.

فقدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب الى بريحة وركبا جميعا الى أبي الحسن عليه السّلام فأوصلا إليه كتاب المتوكل فاستأجلهما ثلاثا.

فلما كان بعد ثلاث عاد الى داره فوجد الدواب مسرجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها.

وخرج صلّى الله عليه متوجها نحو العراق واتبعه بريحة مشيعا ، فلما صار في بعض الطريق قال له بريحة قد علمت وقوفك على اني كنت السبب في حملك ، وعلي حلف بأيمان مغلظة لئن شكوتني الى أمير المؤمنين او الى أحد من خاصته وابنائه لأجمرن نخلك ولأقتلن مواليك ولأعورن عيون ضيعتك ولأفعلن ولأصنعن.

فالتفت إليه أبو الحسن فقال له : ان أقرب عرضي اياك على البارحة وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكونك الى غيره من خلقه.

قال : فانكب عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه.

فقال له : قد عفوت عنك.

وروي عن يحيى بن هرثمة قال : رأيت من دلائل أبي الحسن عليه السّلام الأعاجيب في


طريقنا ؛ منها : انا نزلنا منزلا لا ماء فيه فاشفينا ودوابنا وجمالنا من العطش على التلف ، وكان معنا جماعة وقوم قد تبعونا من أهل المدينة ، فقال أبو الحسن عليه السّلام : كأنّي أعرف على أميال موضع ماء.

فقلنا له : ان نشطت وتفضلت عدلت بنا إليه وكنّا معك.

فعدل بنا عن الطريق فسرنا نحو ستة أميال فأشرفنا على واد كأنّه زهو الرياض فيه عيون وأشجار وزروع وليس فيها زارع ولا فلّاح ولا أحد من الناس فنزلنا وشربنا وسقينا دوابنا وأقمنا الى بعد العصر ثم تزوّدنا وارتوينا وما معنا من القرب ورحنا راحلين. فلم نبعد ان عطشت وكان لي مع بعض غلماني كوز فضة يشدّه في منطقته وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام ونظرت فاذا هو قد أنسي الكوز في المنزل الذي كنّا فيه فرجعت أضرب بالسوط على فرس لي جواد سريع وأغذ السير حتى أشرفت على الوادي فرأيته جدبا يابسا قاعا محلا لا ماء فيه ولا زرع ولا خضرة ورأيت موضع رحالنا وروث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام ، فأخذته وانصرفت ، ولم أعرفه شيئا من الخبر.

فلما قربت من القطر والعسكر وجدته عليه السّلام واقفا ينتظر فتبسّم (صلّى الله عليه) ولم يقل لي شيئا ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز فأعلمته اني وجدته.

قال يحيى : وخرج في يوم صائف آخر ونحن في ضحو وشمس حامية تحرق فركب من مضربه وعليه ممطر ، وذنب دابته معقود وتحته لبد طويل فجعل كلّ من في العسكر وأهل القافلة يضحكون تعجبا ويقولون : هذا الحجازي ليس يعرف الري ، فما سرنا أميالا حتى ارتفعت سحابة من ناحية القبلة وأظلمت وأظلتنا بسرعة واتى من المطر الهاطل كأفواه القرب ، فكدنا أن نتلف وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا الى أبداننا وامتلأت خفافنا ، وكان أسرع وأعجل من أن يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد فصرنا شهرة وما زال عليه السّلام يتبسّم تبسما ظاهرا تعجبا من أمرنا.

قال يحيى : وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابن لها أرمد العين ولم تزل تستذلّ وتقول : معكم رجل علوي دلّوني عليه حتى يرقي عين ابني هذا.


فدللناها عليه ففتح عين الصبي حتى رأيتها ولم أشك انها ذاهبة ، فوضع يده عليها لحظة يحرك شفتيه ثم نحاها فاذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة.

وروى الحميري قال : حدّثني أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال : ضمني وأبا الحسن عليه السّلام الطريق لما قدم به المدينة فسمعته في بعض الطريق يقول : من اتقى الله يتقى ، ومن أطاع الله يطاع.

فلم أزل أدلف حتى قربت منه ودنوت فسلّمت عليه وردّ عليّ السلام فأوّل ما ابتدأني ان قال لي : يا فتح من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوقين ، ومن أسخط الخالق فليوقن ان يحلّ به سخط المخلوقين. يا فتح ان الله جل جلاله لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه ، فانى يوصف الذي يعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام ان تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار أن تحيط به ، جلّ عمّا يصفه الواصفون ، وتعالى عمّا ينعته الناعتون ، نأى في قربه وقرب في نأيه ، فهو في نأيه قريب ، وفي قربه بعيد ، كيّف الكيف فلا يقال كيف ، وأيّن الأين فلا يقال أين ، إذ هو منقطع الكيفية والأينية ، الواحد الأحد جل جلاله بل كيف يوصف بكنهه محمّد صلّى الله عليه وآله وقد قرن الخليل اسمه باسمه وأشركه في طاعته وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته ، فقال (وَما نَقَمُوا) منه (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) وقال تبارك اسمه ـ يحكى قول من ترك طاعته : (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) أم كيف يوصف من قرن الجليل طاعته بطاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله حيث يقول : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). يا فتح كما لا يوصف الجليل جلّ جلاله ولا يوصف الحجّة فكذلك لا يوصف المؤمن المسلّم لأمرنا فنبينا صلّى الله عليه وآله أفضل الأنبياء ووصينا صلّى الله عليه أفضل الأوصياء.

ثم قال لي ـ بعد كلام ـ : فأورد الأمر إليهم وسلّم لهم.

ثم قال لي : إن شئت.

فانصرفت منه.

فلما كان في الغد تلطفت في الوصول إليه فسلّمت فردّ السلام فقلت : يا ابن رسول الله تأذن لي في كلمة اختلجت في صدري ليلتي الماضية؟


فقال لي : سل واصخ الى جوابها سمعك ، فان العالم والمتعلم شريكان في الرشد ، مأموران بالنصيحة ، فاما الذي اختلج في صدرك فان يشأ العالم انبأك الله ان الله لم يظهر على غيبه أحدا إلّا من ارتضى من رسول ، وكلّ ما عند الرسول فهو عند العالم ، وكلّ ما اطلع الرسول عليه فقد اطّلع أوصياؤه عليه. يا فتح عسى الشيطان أراد اللبس عليك فأوهمك في بعض ما أوردت عليك وأشكك في بعض ما أنبأتك ؛ حتى أراد ازالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم ، فقلت متى أيقنت انّهم هكذا : فهم أرباب.

معاذ الله ، انّهم مخلوقون مربوبون مطيعون داخرون راغمون. فاذا جاءك الشيطان بمثل ما جاءك به فاقمعه بمثل ما نبأتك به.

قال فتح : فقلت له : جعلني الله فداك فرّجت عني وكشفت ما لبس الملعون عليّ فقد كان أوقع في خلدي انّكم أرباب.

قال : فسجد عليه السّلام فسمعته يقول في سجوده : راغما لك يا خالقي داخرا خاضعا.

ثم قال : يا فتح كدت أن تهلك وما ضر عيسى ان هلك من هلك. إذا شئت رحمك الله.

قال : فخرجت وأنا مسرور بما كشف الله عني من اللبس.

فلما كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متكئ وبين يديه حنطة مقلوة يعبث بها وقد كان أوقع الشيطان (لعنه الله) في خلدي انّه لا ينبغي أن يأكلوا ولا يشربوا.

فقال : اجلس يا فتح فان لنا بالرسل اسوة. كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق ، وكلّ جسم متغذ إلّا خالق الأجسام الواحد الأحد منشئ الأشياء ومجسّم الأجسام وهو السميع العليم .. تبارك الله عمّا يقول الظالمون وعلا علوا كبيرا.

ثم قال : اذا شئت رحمك الله.

وقدم به عليه السّلام بغداد وخرج اسحاق بن إبراهيم وجملة القواد فتلقوه فحدث أبو عبد الله محمد بن أحمد الحلبي القاضي قال : حدّثني الخضر بن محمد البزاز وكان شيخا مستورا ثقة يقبله القضاة والناس قال : رأيت في المنام كأنّي على شاطئ دجلة بمدينة السلام في رحبة الجسر والناس مجتمعون .. خلق كثير يزحم بعضهم بعضا وهم يقولون : قد أقبل بيت الله الحرام.


فبينا نحن كذلك إذ رأيت البيت بما عليه من الستائر والديباج والقباطي قد أقبل مارّا على الأرض يسير حتى عبر الجسر من الجانب الغربي الى الجانب الشرقي والناس يطوفون به وبين يديه حتى دخل دار خزيمة وهي التي آخر من ملكها بعد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر القمي وأبو بكر الفتى ابن اخت اسماعيل ابن بلبل بدر الكبير الطولوي المعروف بالحمامي فانّه أقطعها.

فلما كان بعد أيام خرجت في حاجة حتى انتهيت الى الجسر فرأيت الناس مجتمعين وهم يقولون : قد قدم ابن الرضا عليه السّلام من المدينة فرأيته قد عبر من الجسر على شهري تحته كبير يسير عليه المسير رفيقا ؛ والناس بين يديه وخلفه ، وجاء حتى دخل دار خزيمة بن حازم فعلمت انّه تأويل الرؤيا التي رأيتها.

ثم خرج الى سر من رأى فتلقاه جملة من أصحاب المتوكل حتى دخل إليهم فأعظمه وأكرمه ومهّد له ثم انصرف عنه الى دار أعدت له. وأقام بسر من رأى.

وحدّث الحميري قال : حدّثني أيوب بن نوح قال : كتبت الى أبي الحسن عليه السّلام : ان لي حملا وأسأله ان يدعو الله أن يجعله لي ذكرا فوقع لي : سمه محمدا.

فولد لي ابن سمّيته محمدا.

وكان من خبره عليه السّلام في بركة السباع وخبر المشعبذ وخبر علي بن الجهم وخبر عمرو ابن الفرج الرخجي وغير ذلك ممّا رواه الناس.

وروى احمد بن محمد بن قابنداذ الكاتب الاسكافي قال : تقلدت ديار ربيعة وديار مضر فخرجت وأقمت بنصيبين وقلدت عمالي وأنفذتهم الى نواحي أعمالي وتقدمت أن يحمل الي كل واحد منهم كلّ من يجده في عمله ممّن له مذهب ، فكان يرد عليّ في اليوم الواحد والاثنان والجماعة منهم فاسمع منهم واعامل كلّ واحد بما يستحقه. فانا ذات يوم جالس اذ ورد كتاب عامل بكفرتوثي يذكر انّه قد وجّه إليّ برجل يقال له إدريس بن زياد ، فدعوت به فرأيته وسيما قسيما قبلته نفسي ثم ناجيته فرأيته ممطورا ورأيته من المعرفة بالفقه والأحاديث على ما أعجبني فدعوته الى القول بإمامة الاثني عشر فأبى وأنكر عليّ ذلك وخاصمني فيه وسألته بعد مقامه عندي أياما أن يهب لي


زورة الى سر من رأى لينظر الى أبي الحسن عليه السّلام وينصرف ، فقال لي : انا أقضي حقّك بذلك.

وشخص بعد أن حملته فأبطأ عني وتأخر كتابه ثم انّه قدم فدخل إليّ فأول ما رآني أسبل عينيه بالبكاء ، فلما رأيته باكيا لم أتمالك حتى بكيت ، فدنا مني وقبّل يدي ورجلي ثم قال : يا أعظم الناس منّة نجيتني من النار وأدخلتني الجنّة ، وحدّثني فقال لي : خرجت من عندك وعزمي اذا لقيت سيدي أبا الحسن عليه السّلام ان أسأله من مسائل وكان فيما أعددته أن أسأله عن عرق الجنب هل يجوز الصلاة في القميص الذي أعرق فيه وأنا جنب أم لا؟

فصرت الى سر من رأى فلم أصل إليه وأبطأ من الركوب لعلّة كانت به ثم سمعت الناس يتحدّثون بأنّه يركب فبادرت ففاتني ودخل دار السلطان فجلست في الشارع وعزمت أن لا أبرح أو ينصرف. واشتدّ الحرّ عليّ فعدلت الى باب دار فيه فجلست أرقبه ونعست فحملتني عيني فلم أنتبه إلّا بمقرعة قد وضعت على كتفي ، ففتحت عيني فاذا هو مولاي أبو الحسن عليه السّلام واقف على دابته ، فوثبت فقال لي : يا إدريس أما آن لك؟

فقلت : بلى يا سيدي.

فقال : ان كان العرق من حلال فحلال وان كان من حرام فحرام.

من غير أن أسأله. فقلت به وسلّمت لأمره.

وروي عن أبي هاشم داود بن القسم الجعفري قال : دخلت الى أبي الحسن عليه السّلام فقلت له : قد كبر سنّي وضعف بدني وهرم برذوني وهو ذي تلحقني مشقّة في زيارتك من بغداد ، فادع الله لي.

فقال : يا أبا هاشم قوى الله برذونك وقرّب طريقك.

فكنت أركب فأصير الى سر من رأى واتحدّث عنده نهاري كلّه وأرجع الى بغداد في آخر الليل.

وروي عن الحسين بن اسماعيل شيخ من أهل النهرين قال : خرجت وأهل قريتي الى أبي الحسن عليه السّلام بشيء كان معنا وكان بعض أهل القرية قد حملنا رسالة ودفع إلينا ما


أوصلناه وقال تقرءونه مني السلام وتسألونه عن بيض الطائر الفلاني من طيور الآجام هل يجوز أكله أم لا؟

فسلمناه ما كان معنا الى خازنه وأتاه رسول السلطان فنهض ليركب وخرجنا من عنده ولم نسأله عن شيء.

فلما صرنا في الشارع لحقنا عليه السّلام فقال لرفيقي بالنبطية : واقرأ فلانا السلام وقل له : بيض الطائر الفلاني لا تأكله فانّه من الممسوخ.

وروى جماعة من أصحابنا قال : ولد لأبي الحسن عليه السّلام جعفر فهنأناه فلم نجد به سرورا فقيل له في ذلك.

فقال : هوّن عليك امره فانّه سيضلّ خلقا كثيرا.

وروي انّه دخل دار المتوكل فقام يصلّي فأتاه بعض المخالفين فوقف حياله فقال له : الى كم هذا الرياء.

فأسرع الصلاة وسلّم ثم التفت إليه فقال : ان كنت كاذبا نسخك الله.

فوقع الرجل ميتا فصار حديثا في الدار.

وحدّث الحميري عن النوفلي قال : قال أبو الحسن عليه السّلام : يا علي ان هذا الطاغية يبتدي ببناء مدينة لا يتمّ له بناؤها ويكون حتفه فيها على يدي بعض فراعنة الأتراك.

قال النوفلي : وسمعته يقول : اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا وانما كان عند آصف بن برخيا منه حرف واحد فتكلّم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ فتناول عرش بلقيس حتى صيّره الى حضرة سليمان ثم بسطت الأرض له في أقل من طرفة عين ، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفا ويتعجّب مما وهبه الله لنا بقدرته واذنه.

وكتب إليه رجل من أهل المدائن يسأله عمّا بقي من ملك المتوكل فكتب :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).

فقتل في أول السنة الخامسة عشرة.


قال : وكان من أمر بناء المتوكل القصر المسمّى (بالجعفري) وما أمر به بني هاشم من الأبنية ما يحدث به.

ووجّه الى أبي الحسن عليه السّلام بثلاثين ألف درهم وأمره أن يستعين بها في بناء دار فخطت ورفع أساسها رفعا يسيرا ، فركب المتوكل يوما يطوف في الأبنية فنظر الى داره لم ترتفع فأنكر ذلك وقال لعبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره : عليّ وعليّ .. يمينا أكدها .. لئن ركبت ولم ترتفع دار علي بن محمد لأضربن عنقه.

فقال له عبد الله بن يحيى : يا أمير المؤمنين لعلّه في ضيقة.

فأمر له بعشرين ألف درهم فوجّه بها عبيد الله مع ابنه أحمد وقال حدّثه بما جرى فصار إليه فأخبره بالخبر فقال : ان ركب الى البناء فرجع أحمد بن عبيد الله الى أبيه فعرّفه ذلك فقال عبيد الله : ليس والله يركب.

ولما كان في يوم الفطر من السنة التي قتل فيها المتوكل أمر بني هاشم بالترجل والمشي بين يديه ، وانما أراد بذلك أن يترجّل له أبو الحسن عليه السّلام فترجل بنو هاشم وترجّل عليه السّلام فاتكأ على رجل من مواليه فأقبل عليه الهاشميون فقالوا له : يا سيدنا ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه فيكفينا الله؟

فقال لهم أبو الحسن عليه السّلام : في هذا العالم من قلامة ظفره أكرم على الله من ناقة ثمود لما عقرت وضجّ الفصيل الى الله فقال الله (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ).

فقتل المتوكل في اليوم الثالث.

وروي انّه قال ـ وقد اجهده المشي ـ : اما انّه قد قطع رحمي قطع الله أجله.

وحدّث الحميري عن يوسف بن السخت قال : حدّثني العباس بن محمد عن علي بن جعفر قال : عرضت مؤامرتي على المتوكل فأقبل على عبيد الله بن يحيى فقال : لا تتعبن نفسك فان عمر بن أبي الفرج أخبرني انّه رافضي فانّه وكيل علي بن محمد. فأرسل عبيد الله الي فعرفني انّه قد حلف الا يخرجني من الحبس الّا بعد موتي بثلاثة أيام. قال : فكتبت الى أبي الحسن عليه السّلام ان نفسي قد ضاقت وقد خفت الزيغ فوقع إليّ : اما


اذا بلغ الأمر منك ما قلت فينا فأقصد الله تبارك وتعالى فيك.

فما انقضت ايام الجمعة حتى خرجت من الحبس.

وحدّثني بعض الثقات قال : كان بين المتوكل وبين بعض عمّاله من الشيعة معاملة فعملت له مؤامرة ألزم فيها ثمانون ألف درهم فقال المتوكل : ان باعني غلامه الفلاني بهذا المال فليؤخذ منه ويخلى له السبيل؟

قال الرجل : فأحضرني عبيد الله بن يحيى وكان يعنى بأمري ويحبّ خلاصي فعرّفني الخبر ووصف سروره بما جرى وأمرني بالاشهاد على نفسي ببيع الغلام ، فأنعمت له ، ووجه لإحضار العدول وكتب العهدة.

فقلت في نفسي : والله ما بعته غلاما وقد ربيته وقد عرف بهذا الأمر واستبصر فيه فيملكه طاغوت فان هذا حرام عليّ.

فلما حضر الشهود وأحضر الغلام فأقرّ لي بالعبودية ، قلت للعدول : اشهدوا انّه حرّ لوجه الله.

فكتب عبيد الله بن يحيى بالخبر ، فخرج التوقيع ان يقيّد بخمسين رطلا ويغلّ بخمسين ويوضع في أضيق الحبوس.

قال : فوجّهت بأولادي وجميع أسبابي الى أصدقائي واخواني يعرفونهم الخبر ويسألونهم السعي في خلاصي وكتبت بعد ذلك بخبري الى أبي الحسن عليه السّلام فوقع إليّ : لا والله لا يكون الفرج حتى تعلم ان الأمر لله وحده.

قال : فأرسلت الى جميع من كنت راسلته وسألته السعي في أمري أسأله أن لا يتكلّم ولا يسعى في أمري ، وأمرت أسبابي ألا يعرفوا خبري ولا يسيروا الى زاير منهم.

فلما كان بعد تسعة أيام فتحت الأبواب عني ليلا فحملت فأخرجت بقيودي فادخلت الى عبيد الله بن يحيى فقال لي وهو مستبشر : ورد علي الساعة توقيع أمير المؤمنين يأمرني بتخلية سبيلك.

فقلت له : اني لا أحب أن يحل قيودي حتى تكتب إليه تسأله عن السبب في إطلاقي.


فاغتاظ عليّ واستشاط غضبا وأمرني فنحيت من يديه.

فلما أصبح ركب إليه ثم عاد فأحضرني وأعلمني انّه رأى في المنام كأنّ آتيا أتاه وبيده سكين ، فقال له : لئن لم تخل سبيل فلان بن فلان لأذبحنك. وانّه انتبه فزعا فقرأ وتعوّذ ونام. فأتاه الآتي فقال له : أليس أمرتك بتخلية سبيل فلان ، لئن لم تخل سبيله الليلة لأذبحنك. فانتبه مذعورا وداخله شأن في تخليتك ونام. فعاد إليه الثالثة فقال له : والله لئن لم تخل سبيله في هذه الساعة لأذبحنّك بهذا السكين. قال : فانتبهت ووقعت إليك بما وقعت. قال : ثم نمت فلم أر شيئا.

فقلت له : اما الآن فتأمر بحل قيودي.

فحلوها فخرجت الى منزلي وأهلي ولم أرد من المال درهما.

ثم قتل المتوكل في اليوم الرابع من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين وسنة سبع وعشرين من إمامة أبي الحسن عليه السّلام وبويع لابنه محمد بن جعفر المنتصر فكان من حديثه مع أبي الحسن عليه السّلام ومع جعفر بن محمود ما رواه الناس. وملك ستة أشهر توفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين.

وبويع لأحمد بن محمد المستعين بن المعتصم بالله فكانت مدته أربع سنين وشهر مع منازعته المعتزلة ومحاربته إياه وكانت الفتنة والحرب بينهما أكثر أيامه الى أن خلع ، وبويع للمعتز ابن المتوكل ، ويروى ان اسمه الزبير ، في سنة اثنين وخمسين ومائتين ، وذلك في اثنين وثلاثين سنة من امامة أبي الحسن عليه السّلام.

الحسن العسكري عليه السّلام

واعتل أبو الحسن علّته التي مضى فيها صلّى الله عليه في سنة أربع وخمسين ومائتين فاحضر أبا محمد ابنه عليه السّلام فسلّم إليه النور والحكمة ومواريث الأنبياء والسلاح وأوصى إليه ومضى صلّى الله عليه وسنّه أربعون سنة وكان مولده في رجب سنة أربع عشرة ومائتين من الهجرة فأقام مع أبيه عليهما السّلام نحو سبع سنين وأقام منفردا بالإمامة ثلاث وثلاثين سنة وشهورا.


وحدّثنا جماعة كلّ واحد منهم يحكي انّه دخل الدار وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيين والعباسيين واجتمع خلق من الشيعة ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمّد عليه السّلام ولا عرف خبره إلّا الثقات الذين نصّ أبو الحسن عندهم عليه فحكوا انّهم كانوا في مصيبة وحيرة. فهم في ذلك إذ خرج من الدار الداخلة خادم فصاح بخادم آخر : يا رياش خذ هذه الرقعة وامض بها الى دار أمير المؤمنين واعطها الى فلان وقل له : هذه رقعة الحسن بن علي.

فاستشرف الناس لذلك ثم فتح من صدر الرواق باب وخرج خادم أسود ثم خرج بعده أبو محمد عليه السّلام حاسرا مكشوف الرأس مشقوق الثياب وعليه مبطنة بيضاء وكان وجهه وجه أبيه عليه السّلام لا يخطئ منه شيئا وكان في الدار أولاد المتوكل وبعضهم ولاة العهود فلم يبق أحد إلّا قام على رجله. ووثب إليه أبو محمد الموفق فقصده أبو محمد عليه السّلام فعانقه ثم قال له : مرحبا بابن العم.

وجلس بين بابي الرواق والناس كلّهم بين يديه وكانت الدار كالسوق بالأحاديث. فلما خرج وجلس أمسك الناس ، فما كنّا نسمع شيئا إلّا العطسة والسعلة وخرجت جارية تندب أبا الحسن عليه السّلام فقال أبو محمد ما هاهنا من يكفي مئونة من هذه الجاهلة.

فبادر الشيعة إليها فدخلت الدار ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمد عليه السّلام فنهض (صلّى الله عليه) وأخرجت الجنازة وخرج يمشي حتى اخرج بها الى الشارع الذي بازاء دار موسى بن بقا.

وقد كان أبو محمّد (صلّى الله عليه) قبل أن يخرج الى الناس وصلّى عليه لمّا اخرج المعتمد ثم دفن في دار من دوره. واشتد الحر على أبي محمّد عليه السّلام وضغطه الناس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه ، فصار في طريقه الى دكان بقال رآه مرشوشا فسلّم واستأذنه في الجلوس فاذن له وجلس ، ووقف الناس حوله. فبينا نحن كذلك إذ أتاه شاب حسن الوجه نظيف الكسوة على بغلة شهباء على سرج ببرذون أبيض قد نزل عنه فسأله ان يركبه ، فركب حتى أتى الدار ونزل وخرج في تلك العشية الى الناس ما كان يحزم عن أبي الحسن عليه السّلام حتى لم يفقدوا منه إلّا الشخص.


وتكلّمت الشيعة في شق ثيابه وقال بعضهم : هل رأيتم أحدا من الأئمة شق ثوبه في مثل هذه الحال؟

فوقع الى من قال ذلك : يا أحمق ما يدريك ما هذا؟ قد شقّ موسى على هرون عليهما السّلام.

وقام أبو محمد الحسن بن علي مقام أبيه عليهما السّلام وروي عن العالم عليه السّلام انّه قال : لما ادخلت سليل أم أبي محمّد عليه السّلام على أبي الحسن عليه السّلام قال : سليل مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس.

ثم قال لها : سيهب الله حجّته على خلقه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.

وحملت أمه به بالمدينة وولدته بها فكانت ولادته ومنشؤه مثل ولادة آبائه صلّى الله عليهم ومنشئهم. وولد في سنة إحدى وثلاثين ومأتين من الهجرة ؛ وسنّ أبي الحسن عليه السّلام في ذلك الوقت ستة عشرة سنة وشهورا وشخص بشخوصه الى العراق في سنة ست وثلاثين ومأتين وله أربع سنين وشهور.

وروى سعد بن عبد الله بن أبي خلف عن داود بن القاسم الجعفري قال : كنت عند أبي الحسن لما مضى ابنه محمد ففكّرت في نفسي فقلت : كانت قصّة أبي محمد مثل قصّة اسماعيل وأبي الحسن موسى عليه السّلام.

فالتفت إليّ فقال : نعم يا أبا هاشم هو كما حدّثتك نفسك وان كره المبطلون. أبو محمد ابني الخلف من بعدي عنده علم ما يحتاج إليه ومعه آلة الامامة والحمد لله ربّ العالمين.

وحدّثنا الحميري عن محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن عيسى باسناده عن أبي الحسن عليه السّلام قال أبو محمد : ابني الخلف من بعدي.

وحدثني الحميري بهذا الاسناد عن علي بن مهزيار قال : قلت لأبي الحسن عليه السّلام : اني كنت سألت أباك عن الامامة بعده فنصّ عليك ، ففيمن الامامة بعدك؟

فقال : الى أكبر ولدي.

ونص على أبي محمد عليه السّلام ثم قال : ان الامامة لا تكون في الأخوين بعد الحسن والحسين عليهما السّلام.

وعنه عن أحمد بن الحسن عن أحمد بن محمد الحصيبي قال : كنت بحضرة أبي


الحسن عليه السّلام ؛ وأبو محمد عليه السّلام بين يديه فالتفتّ إليه فقال : يا بني أحدث لله شكرا فقد أحدث الله فيك أمرا.

وروى سعد بن عبد الله عن الحسن بن الحسين من ولد الأفطس قال : حضرنا دار أبي الحسن عليه السّلام نعزيه عن ابنه محمد وكنّا نحو مائة وخمسين رجلا وما زاد من أهله ومواليه وساير الناس إذ نظر الى أبي محمّد عليه السّلام قد جاء حتى قام عن يمينه فقال له : يا بني أحدث لله شكرا فقد جدّد الله فيك أمرا.

فقال أبو محمد : الحمد لله ربّ العالمين وإيّاه اسأل تمام نعمه لنا فيك وانّا لله وإنّا إليه راجعون.

فسأل من لم يعرف ، فقال : من هذا الصبي؟

فقال : هذا الحسن ابنه.

وعنه عن أبي جعفر محمد بن أحمد العلوي عن أبي هاشم الجعفري قال : سمعت أبا الحسن عليه السّلام يقول : الخلف بعدي ابني الحسن فكيف بالخلف بعد الخلف؟

فقلت : ولم جعلني الله فداك؟

قال : انّكم لا ترون شخصه ولا يحلّ لكم ذكره باسمه.

قلت : فكيف نذكره؟

فقال : قولوا : الحجّة من آل محمّد صلّى الله عليه.

وروى إسحاق بن محمد عن محمد بن يحيى بن رئاب قال : حدّثني أبو بكر الفهفكي قال : كتبت الى أبي الحسن عليه السّلام أسأله عن مسائل فلما نفذ الكتاب قلت في نفسي : اني كتبت فيما كتبت أسأله عن الخلف من بعده وذلك بعد مضي محمد ابنه. فأجابني عن مسائلي وكنت أردت أن تسألني عن الخلف. وأبو محمد ابني أصح آل محمّد صلّى الله عليه غريزة وأوثقهم عقيدة بعدي وهو الأكبر من ولدي ، إليه تنتهي عرى الامامة وأحكامها. فما كنت سائلا عنه فسله ، فعنده علم ما يحتاج إليه والحمد لله.

وحدّثنا الحميري عن جعفر بن محمد الكوفي عن سنان بن محمد البصري عن علي بن عمر النوفلي قال : كنت مع أبي الحسن عليه السّلام في صحن داره فمر بنا أبو جعفر ابنه


محمد ، فقلت : جعلني الله فداك هذا صاحبنا؟

فقال : لا وصاحبكم الحسن.

وعنه عن علان الكلابي عن اسحاق بن اسماعيل النيسابوري قال : حدّثني شاهويه ابن عبد الله الجلاب قال : كنت رويت دلائل كثيرة عن أبي الحسن عليه السّلام في ابنه محمد فلما مضى بقيت متحيّرا وخفت أن اكتب في ذلك فلا أدري ما يكون. فكتبت اسأل الدعاء.

فخرج الجواب بالدعاء لي ، وفي آخر الكتاب : أردت أن تسأل عن الخلف وقلعت ، لذلك فلا تغتمّ فان الله عز وجل لا يضلّ قوما بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتّقون ، وصاحبك بعدي أبو محمد ابني عنده علم ما تحتاجون إليه يقدم الله ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، قد كتبت بما فيه تبيان لذي لب يقظان.

وعن سعد بن عبد الله عن هارون بن مسلم قال : كتبت الى أبي محمد عليه السّلام بعد مضي أبي الحسن عليه السّلام انا وجماعة نسأله عن وصي أبيه.

فكتب : قد فهمت ما ذكرتم ، وان كنتم الى هذا الوقت في شك فانّها المصيبة العظمى ، أنا وصيّه وصاحبكم بعده عليه السّلام بمشافهة من الماضي أشهد الله تعالى وملائكته وأولياءه على ذلك ، فان شككتم بعد ما رأيتم خطي وسمعتم مخاطبتي فقد أخطأتم حظ أنفسكم وغلطتم الطريق.

وعنه عن أحمد بن محمد بن رجا صاحب الترك قال : قال أبو الحسن عليه السّلام : ابني القائم من ولدي.

ونشأ أبو محمد عليه السّلام وقد نص عليه بهذه الأخبار وغيرها عند الخاصة فقام بأمر الله عز وجل وسنّه ثلاث وعشرون سنة فظهر من دلائله في اليوم الذي مضى فيه أبو الحسن عليه السّلام ما هو مثبت في باب أبي الحسن صلّى الله عليه.

وبعد سنة وشهور من إمامته بويع لمحمد بن الواثق المهتدي وكانت من قصته مع أبي محمد عليه السّلام ما نحن مثبتوه من الدلائل في مواضعه من هذا الباب.

وفي سنتين وشهور من إمامته قتل المهتدي وبويع لأحمد بن جعفر المعتمد سنة ست وخمسين ومائتين.


وروى علان الكلابي عن اسحاق بن اسماعيل النيسابوري قال : حدّثني الربيع بن سويد الشيباني قال : حدّثني ناصح البادودي قال : كتبت الى أبي محمد عليه السّلام أعزيه في أبي الحسن وقلت في نفسي وأنا أكتب : لو قد حير ببرهان يكون حجّة لي؟

فأجابني عن تعزيتي وكتب بعد ذلك : من سأل آية أو برهانا فأعطي ثم رجع عمّن طالب منه الآية عذب ضعف العذاب ، ومن صبر أعطي التأييد من الله ، والناس مجبولون على جبلة ايثار الكتب المنشرة ، فاسأل السداد فانما هو التسليم أو العطب ، ولله عاقبة الامور.

وحدّثني علان عن الحسن بن محمد عن محمد بن عبيد الله قال : لما مضى أبو الحسن عليه السّلام انتهبت الخزانة فأخبر أبو محمد عليه السّلام ، فأمر باغلاق الباب الكبير ثم دعا بالحريم والعيال والغلمان فجعل يقول لواحد واحد : رد كذا وكذا ؛ ويخبره بما أخذ ، فيردّه حتى ما فقد من الخزانة شيء إلّا رد بعلامته وعينه والحمد لله ربّ العالمين.

وعنه قال : كنت يوما كتبت إليه أخبره باختلاف الموالي وأسأله اظهار دليل ، فكتب : انما خاطب الله عز وجل ذوي الألباب وليس أحد يأتي بآية أو يظهر دليلا أكثر مما جاء به خاتم النبيين وسيّد المرسلين ، فقالوا كاهن وساحر كذّاب ، فهدى الله من اهتدى ، غير ان الأدلة يسكن إليها كثير من الناس ، وذلك ان الله جل جلاله يأذن لنا فنتكلّم ويمنع فنصمت ، ولو أحبّ الله ألا يظهر حقّا لما بعث النبيين مبشّرين ومنذرين يصدعون بالحق في حال الضعف والقوّة في أوقات ، وينطقون في أوقات ؛ ليقضي الله أمره وينفذ في الناس حكمه ؛ في طبقات شتى. فالمستبصر على سبيل نجاة مستمسك بالحق متعلّق بفرع أصيل غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ. وطبقة لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه. وطبقة استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الردّ على أهل الحق ودفعهم بالباطل والهوى كفّارا ؛ حسدا من عند أنفسهم. فدع من ذهب يمينا وشمالا فان الراعي اذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون سعي. ذكرت اختلاف موالينا فاذا كانت الوصيّة والكتب فلا ريب من جلس مجلس الحكم فهو أولى بالحكم ، أحسن رعاية من استرعيت وإيّاك والإذاعة وطلب الرئاسة ، فانّهما يدعوان الى


الهلكة.

ثم قال : ذكرت شخوصك الى فارس فاشخص خار الله لك وتدخل مصر إن شاء الله آمنا واقرأ من تثق به من موالينا السلام ومرهم بتقوى الله العظيم واداء الامانة واعلمهم ان المذيع علينا حرب لنا.

قال : فلما قرأت خار الله لك في دخولك مصر إن شاء الله آمنا لم أعرف المعنى فيه فقدمت بغداد عازما على الخروج الى فارس فلم يقيّض لي وخرجت الى مصر.

قال : ولمّا همّ المستعين في أمر أبي محمّد عليه السّلام بما همّ وأمر سعيد الحاجب بحمله الى الكوفة وان يحدث في الطريق حادثة ، انتشر الخبر بذلك في الشيعة فأقلقهم ، وكان بعد مضي أبي الحسن عليه السّلام بأقل من خمس سنين فكتب إليه محمد بن عبد الله والهيثم بن سبابة : قد بلغنا ـ جعلنا الله فداك ـ خبر أقلقنا وغمّنا وبلغ منّا.

فوقّع : بعد ثلاثة يأتيكم الفرج.

قال : فخلع المستعين في اليوم الثالث وقعد المعتز وكان كما قال صلّى الله عليه.

وحدث محمد بن عمر الكاتب عن علي بن محمد بن زياد الصيمري صهر جعفر بن محمود الوزير على ابنة أم أحمد وكان رجلا من وجوه الشيعة وثقاتهم ومقدما في الكتابة والأدب والعلم والمعرفة قال : دخلت على أبي أحمد عبد الله بن عبد الله بن طاهر وبين يديه رقعة من أبي محمّد عليه السّلام فيها : اني نازلت الله عز وجل في هذا الطاغي يعني المستعين وهو آخذه بعد ثلاث ، فلما كان في اليوم الثالث خلع وكان من أمره ما رواه الناس في احداره الى واسط وقتله.

وحدّثنا الحميري عن أبي جعفر العامري عن علان بن حمويه الكلابي عن محمد بن الحسن النخعي عن أبي هاشم الجعفري قال : كنت عند أبي محمّد عليه السّلام إذ دخل عليه شاب حسن الوجه فقلت في نفسي : ترى من هذا فقال أبو محمد : هذا ابن أم غانم صاحب الحصاة التي طبع فيها آبائي عليهم السّلام وقد جاءني بها لأطبع له فيها. هات حصاتك.

قال : فاخرج فاذا فيها موضع أملس فطبع بخاتم في اصبعه فانطبع.

قال : واسم هذا الشاب اليماني مهجع بن سمعان بن غانم بن أم غانم اليمانية.


وعنه عن أبي هاشم قال : شكوت الى أبي محمد عليه السّلام ضيق الحبس وكلب القيد فكتب الي : أنت تصلّي اليوم في منزلك الظهر.

فصلّيت في منزلي كما قال عليه السّلام ؛ لأني اطلقت من وقتي.

وعنه عن جعفر بن محمد القلانسي قال : كتب محمد أخي الى أبي محمّد عليه السّلام وامرأته حامل تسأله الدعاء بخلاصها وان يرزقها الله ذكرا أو تسأله أن تسميه فكتب إليه : رزقك الله ذكرا سويّا ، ونعم الاسم محمّد وعبد الرحمن.

فولدت ابنين توأما فسمّى أحدهما محمّدا والآخر عبد الرحمن.

وعنه عن أبي هاشم الجعفري قال : سأل محمّد بن صالح الأرمني أبا محمّد عليه السّلام عن قول الله عز وجل (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) فقال : هل يمحو إلّا ما كان ، وهل يثبت الّا ما لم يكن؟

فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقول هشام الفوطي. انّه لا يعلم الشيء حتى يكون.

فنظر إليّ شزرا وقال : تعالى الله الجبّار العالم بالشيء قبل كونه الخالق إذ لا مخلوق والربّ إذ لا مربوب والقادر قبل المقدور عليه.

فقلت : اشهد انّك وليّ الله وحجّته والقائم بقسطه وانّك على منهاج أمير المؤمنين عليه السّلام.

وعنه قال : قال لي أبو هاشم : كنت عند أبي محمد عليه السّلام فسأله محمد بن صالح الأرمني عن قول الله عز وجل (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) فقال أبو محمد : ثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه ولا من رازقه.

قال أبو هاشم : فجعلت أتعجب في نفسي من عظيم ما أعطى الله الى أوليائه عليهم السّلام فأقبل أبو محمّد عليه السّلام فقال : الا ما أعجب أعجبت منه يا أبا هاشم؟ ما ظنّك بقوم من عرفهم عرف الله ، ومن أنكرهم أنكر الله ، ولا مؤمن إلّا وهو لهم مصدّق وبمعرفتهم موقن.

وعن الحميري أيضا قال : قال لي أبو هاشم : سمعته عليه السّلام يقول : من الذنوب التي لا تغفر قول الإنسان : ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا.

فقلت في نفسي : ان هذا لهو العلم الدقيق وقد ينبغي للرجل أن يتفقد من نفسه كل


شيء.

فأقبل عليّ فقال : صدقت يا أبا هاشم ، فالزم ما حدّثتك به نفسك ، فان الاشراك في الناس أخفى من دبيب النمل على الصفاء في الليلة الظلماء ومن دبيبه على المسح الأسود.

وعنه عن أبي هاشم قال سمعت أبا محمّد عليه السّلام يقول : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ *) اقرب الى اسم الله الأعظم من سواد العين الى بياضها.

وعنه عن محمد بن الحسن بن شموذ عمّن حدّثه قال : كتبت الى أبي محمد عليه السّلام حين أخذ المهتدي : يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنّا فقد بلغني انّه يتهدّد شيعتك ويقول والله لأجلينهم عن جديد الأرض فوقّع بخطّه عليه السّلام : ذاك أقصر لعمره عد من يومك هذا خمسة أيام فانّه يقتل من يوم السادس بعد هوان واستخفاف وذلّ يلحقه.

فكان كما قال عليه السّلام.

وعن محمد بن الحسن بن شموذ قال : كتب إليه ابن عمّنا محمد بن زيد يشاوره في شراء جارية نفيسة بمائتي دينار لابنه فكتب : لا تشترها فان بها جنونا وهي قصيرة العمر مع جنونها.

قال فأضرت عن أمر هاشم مررت بعد أيام ومعي ابني علي مولاها فقلت اشتهي أن استعيد عرضها وأراها فأخرجها إلينا ، فبينما هي واقفة بين أيدينا حتى صار وجهها في قفاها ، فلبثت على تلك الحال ثلاثة أيام وماتت.

وعنه عن أبي غانم قال : سمعت أبا محمد عليه السّلام يقول : سنة ستين تفترق شيعتنا.

وروى سعد بن عبد الله عن أبي هاشم قال : كنت عن أبي محمد عليه السّلام وكنت في إضافة فأردت أن أطلب منه دنانير فاستحييت فلما صرت الى منزلي وجّه إليّ بمائة دينار وكتب إليّ : اذا كانت لك حاجة فلا تستحي ولا تحتشم واطلبها يأتك ما تحب إن شاء الله.

وعنه عن أبي هاشم عن الحجاج بن سفيان العبدي قال : خلفت ابني بالبصرة عليلا وكتبت الى أبي محمّد عليه السّلام اسأله الدعاء فوقع : رحم الله ابنك انّه كان مؤمنا.

قال الحجاج : فورد عليّ الكتاب : انّه توفي في ذلك اليوم وكان شاكّا في الإمامة


للاختلاف الذي وقع في السنة.

وعن سعد بن عبد الله عن علان بن محمد الكلابي عن إسحاق بن محمد النخعي قال : حدّثني محمد بن رئاب الرقاشي قال : كتبت الى أبي محمّد عليه السّلام اسأله عن مشكاة وان يدعو لامرأتي وكانت حاملا ان يرزقها ذكرا وان يسميه فرجع الجواب :

المشكاة قلب محمّد صلّى الله عليه وآله.

وكتب في آخر الكتاب : أعظم الله أجرك وأخلف عليك.

فولدت ولدا ميتا وحملت بعده فولدت غلاما.

وعنه عن إسحاق قال حدّثني علي بن حميد الذارع قال : كتبت الى أبي محمّد عليه السّلام أسأله الدعاء بالفرج ممّا نحن فيه من الضيق ، فرجع الجواب : الفرج سريع. يقدم عليك مال من ناحية فارس.

فمات ابن عم لي بفارس ورثته وجاءني مال بعد أيام يسيرة.

وعنه عن اسحاق عن محمد بن عبد العزيز البلخي قال : أصبحت يوما وجلست في شارع سوق الغنم فاذا أنا بأبي محمّد عليه السّلام قد أقبل يريد باب العامة بسر من رأى فقلت في نفسي : تراني ان صحت يا أيها الناس هذا حجّة الله عليكم فاعرفوه يقتلوني.

فلما دنا مني ونظرت إليه أومأ إليّ بإصبعه السبابة ووضعها على فيه ان اسكت ، فأسرعت إليه حتى قبّلت رجله ، فقال لي : اما انّك لو أذعت لهلكت.

ورأيته تلك الليلة يقول : انما هو الكتمان أو القتل فابقوا على أنفسكم.

وعنه عن أحمد بن محمد الأقرع قال حدّثني أبو حمزة قصر الخادم قال : سمعت مولاي أبا محمد غير مرّة يكلّم غلمانه الروم بالرومية والصقالبة بالصقلبية والاتراك بالتركية فعجبت من ذلك وقلت في نفسي : هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتى مضى أبوه عليه السّلام ، فأقبل عليّ فقال : ان الله تبارك وتعالى يبيّن الحجّة من ساير الناس ويعطيه اللغات ومعرفة الأنساب والآجال والحوادث ولو لا ذلك لم يكن بين الحجّة والمحجوج فرق.

وعنه قال : كتبت الى أبي محمد عليه السّلام أسأله هل يحلم الامام؟ فقلت في نفسي بعد


نفوذ الكتاب : الاحتلام شيطاني وقد أعاذ الله أولياءه من ذلك. فوقع إليّ : حال الائمة في النوم مثل حالهم في اليقظة لا يغيّر النوم منهم شيئا وقد أعاذ الله أولياءه لمة الشيطان كما حدثتك نفسك.

وروى الكلابي عن أبي الحسين بن علي بن بلال وأبو يحيى النعماني قالا : ورد كتاب من أبي محمد ونحن حضور عند أبي طاهر من بلال فنظرنا فيه فقال النعماني : فيه لحن أو يكون النحو باطلا ـ وكان هذا بسر من رأى ـ فنحن في ذلك إذ جاءنا توقيعه : ما بال قوم يلحنوننا وان الكلمة نتكلّم بها تنصرف على سبعين وجها ؛ فيها كلّها المخرج منها والمحجّة.

وعنه عن إسماعيل بن محمد العباسي قال : قعدت لأبي محمّد عليه السّلام على ظهر الطريق فلما مر بي قمت إليه وشكوت الحاجة وحلفت له انّه ليس عندي درهم فما فوقه فقال لي : تحلف بالله كاذبا قد دفنت مائتي دينار وليس قولي هذا دفعا عن العطية. اعطه يا غلام إذا صرت الى الدار مائة دينار.

ثم قال : اما انّك تحرمها أحوج ما تكون إليها ـ يعني المائتين.

فاضطررت بعد ذلك الى ما أنفقه فمضيت لأنبشها فاذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب.

علان الكلابي عن إسحاق عن علي بن زيد بن علي قال : كان لي فرس وكنت به متعجبا فدخلت على أبي محمّد عليه السّلام فقال لي : ما فعل فرسك؟

قلت : كان تحتي وهو على الباب.

فقال : استبدل به قبل المساء ان قدرت.

فقمت من عنده مفكّرا في بيعه ثم نفست فيه وكان الراغب فيه الطالب له كثير بأوفر الثمن فلما كان في الليل أتاني السائس باكيا صارخا فقال : نفق الفرس فاغتممت.

قال : ودخلت عليه بعد أيام وقد فكّرت في أن يخلف عليك يا غلام ادفع إليه برذوني الكميت الذي أركبه ، هذا أفره من فرسك وأطول عمرا وأشد وأقوى.

سعد عن أبي هاشم قال : كنت محبوسا عند أبي محمد عليه السّلام في حبس المهتدي فقال


لي : يا أبا هاشم ان هذا الطاغية أراد أن يعبث بأمر الله عز وجل في هذه الليلة وقد بتر الله عمره وجعله للمتولي بعده وليس لي ولد وسيرزقني الله ولدا بمنّه ولطفه.

فلما أصبحنا شغبت الاتراك على المهتدي وأعانهم العامة لمّا عرفوا من قوله بالاعتزال والقدر فقتلوه ونصبوا مكانه المعتمد وبايعوا له ، وكان المهتدي قد صحح العزم على قتل أبي محمّد عليه السّلام فشغله الله بنفسه حتى قتل ومضى الى أليم عذاب الله.

وعنه عن أبي هاشم قال كنت عند أبي محمّد عليه السّلام قال : اذا قام القائم أمر بهدم المنابر التي في المساجد.

فقلت في نفسي : لأي معنى هذا؟

فقال لي : معنى هذا انّها محدثة مبتدعة لم يبنها نبي ولا حجّة.

الحميري عن الحسن بن علي عن إبراهيم بن مهزيار عن محمد بن أبي الزعفران عن أم أبي محمّد عليهما السّلام قال : قال لي يوما من الأيام : يصيبني في سنة ستين ومائتين حرارة أخاف ان أنكب منها نكبة.

قالت : فأظهرت الجزع وأخذني البكاء.

قال : لا بد من وقوع أمر الله لا تجزعي.

فلما كان في صفر سنة ستين ومائتين أخذها المقيم والمقعد وجعلت تخرج في الاحايين الى خارج المدينة تجسس الأخبار حتى ورد عليها الخبر حين حبسه المعتمد في يدي علي بن جرين وحبس أخاه جعفرا معه وكان المعتمد يسأل عليّا عن أخباره في كلّ مكان ووقت فيخبره انّه يصوم النهار ويصلّي بالليل فسأله يوما من الأيام عن خبره فأخبره بمثل ذلك فقال له أمض الساعة إليه واقرأه مني السلام وقل له انصرف الى منزلك مصاحبا.

قال علي بن جرير فجئت الى باب السجن فوجدت حمارا مسرّجا فدخلت إليه فوجدته جالسا وقد لبس خفّه وطيلسانه وشاشيته فلما رآني نهض فأديت إليه الرسالة وركب فلما استوى على الحمار وقف فقلت له : فما وقوفك يا سيدي؟ فقال لي : حتى يخرج جعفر ، فقلت : انما أمرني بإطلاقك دونه.


فقال : ترجع إليه فتقول له : خرجنا من دار واحدة جميعا فاذا رجعت وليس هو معي كان في ذلك ما لا خفاء به عليك.

فمضى وعاد فقال له : يقول لك : قد أطلقت جعفرا لك لأني قد حبسته بجنايته على نفسه وعليك وما يتكلّم به.

وخلّى سبيله فصار معه الى دار الحسن بن سهل عن علي بن محمد بن الحسن.

قال : خرج السلطان بريد صاحب البصرة ، خرج أبو محمد بشيعته فنظرنا إليه ماضيا معه وكنّا جماعة من شيعته فجلسنا ما بين الحائطين ننتظر رجوعه فلما رجع فحاذانا وقف علينا ثم مد يده الى قلنسوته فأخذها من رأسه وأمسكها بيده ثم أمرّ يده الاخرى على رأسه وضحك في وجه رجل منّا فقال الرجل مبادرا : اشهد انّك حجّة الله وخيرته.

فسألناه : ما شأنك؟

فقال : كنت شاكّا فيه فقلت في نفسي ان رجع وأخذ قلنسوته من رأسه قلت بإمامته.

وقد روى هذا الحديث جماعة من الصميريين من ولد اسماعيل بن صالح : ان الحسن بن اسماعيل بن صالح كان في أوّل خروجه الى سر من رأى للقاء أبي محمد عليه السّلام ومعه رجلان من الشيعة وافق قدومهم ركوب أبي محمد عليه السّلام.

قال الحسن بن اسماعيل : فتفرّقنا في ثلاث طرق وقلنا : ان رجع في أحدها رآه رجل منّا. فانتظرناه ، فعاد عليه السّلام في الطريق الذي قعد فيه الحسن بن اسماعيل. فلما طلع وحاذاه قال : قلت في نفسي : اللهم إن كان حجّتك حقّا وامامنا فليمس قلنسوته.

فلم أستتم ذلك حتى مسّها وحرّكها على رأسه ، فقلت : يا ربّ ان كان حجّتك فليمسها ثانيا.

فضرب بيده فأخذها عن رأسه ثم ردّها.

وكثر عليه الناس بالسلام عليه والوقوف على بعضهم فتقدمه الى درب آخر فلقيت صاحبي وعرفتهما ما سألت الله في نفسي وما فعل ، فقالا : فتسأل ونسأل الثالثة فطلع عليه السّلام وقربنا منه فنظر إلينا ووقف علينا ثم مدّ يده الى قلنسوته فرفعها عن رأسه وأمسكها بيده وأمرّ يده الاخرى على رأسه وتبسّم في وجوهنا وقال : كم هذا الشكّ؟


قال الحسن : فقلت اشهد ان لا إله إلّا الله وانّك حجّة الله وخيرته.

قال : ثم لقيناه بعد ذلك في داره وأوصلنا إليه ما معنا من الكتب وغيرها.

وروي عن علي بن محمد بن زياد الصيمري قال : كنت جعلت على نفسي أن أحمل في كلّ سنة النصف من خالص ارتفاع ضيعتين لي بالبصرة لم يكن في ضياعي أجلّ منهما ولا أكثر دخلا الى أبي محمّد عليه السّلام فكانت تزكو غلاتها وتريع أضعاف الريع قبل ذلك. فأعددت ألفي دينار لأحملها ، فوجّه الى ابن عمي محمد بن اسماعيل بن صالح الصيمري بأموال حملتها إليه عليه السّلام مع أموالي في كتابي ولا فصلت ماله من مالي ، فورد عليّ الجواب : وقد وصل ما حملته وفي جملته ما حمله إلينا على يدك الاسماعيلي قرابتك فعرّفه ذلك.

وعنه عن جعفر بن محمد بن موسى قال : كنت جالسا في الشارع بسر من رأى فمرّ بي أبو محمّد عليه السّلام وهو راكب وكنت أشتهي الولد شهوة شديدة فقلت في نفسي : ترى اني أرزق ولدا؟

فأومأ إليّ برأسه : نعم.

فقلت : ذكرا؟

فقال برأسه : لا.

فحمل لي حمل وولدت لي بنت.

وعنه عن المحمودي قال : رأيت خط أبي محمّد عليه السّلام لما اخرج من حبس المعتمد : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

الحميري عن أحمد بن اسحاق قال : دخلت على أبي محمّد عليه السّلام فقال لي : يا أحمد ما كان حالكم فيما كان الناس فيه من الشكّ والارتياب؟

قلت : يا سيدي لما ورد الكتاب بخبر سيّدنا ومولده لم يبق منّا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلّا قال بالحقّ.

فقال : أما علمتم ان الأرض لا تخلو من حجّة الله.

ثم أمر أبو محمّد عليه السّلام والدته بالحجّ في سنة تسع وخمسين ومائتين وعرّفها ما يناله


في سنة الستين وأحضر الصاحب عليه السّلام فأوصى إليه وسلّم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح إليه.

وخرجت أم أبي محمد مع الصاحب عليهم السّلام جميعا الى مكّة ، وكان أحمد بن محمد ابن مطهر أبو علي المتولي لما يحتاج إليه الوكيل فلما بلغوا بعض المنازل من طريق مكّة تلقى الاعراب القوافل فأخبروهم بشدّة الخوف وقلّة الماء فرجع أكثر الناس إلّا من كان في «الناحية» فانّهم نفذوا وسلموا.

وروي انّه ورد عليهم عليه السّلام بالنفوذ ومضى أبو محمّد عليه السّلام في شهر ربيع الآخر سنة ستين ومائتين ودفن بسر من رأى الى جانب أبيه أبي الحسن (صلّى الله عليهما) فكان من ولادته الى وقت مضيه تسع وعشرون سنة منها مع أبي الحسن ثلاث وعشرون سنة وبعده منفردا بالإمامة ست سنين.


قيام صاحب الزمان وهو الخلف الزكيّ

بقيّة الله في أرضه وحجّته على خلقه

المنتظر لفرج أوليائه من عباده عليه السّلام ورحمته وتحياته.

روي عن العالم عليه السّلام : انّ الله عز وجل اذا أراد أن يخلق الامام أنزل قطرة من المزن فسقطت على ثمار الأرض فيأكلها الحجّة صلّى الله عليه فاذا وقعت في الموضع الذي تستقر فيه ومضى له أربعون يوما سمع الصوت ، فاذا أتت له أربعة أشهر كتب على عضده الأيمن : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، فاذا قام بالامر رفع له عمود من نور في كلّ بلد ينظر به الى أعمال العباد.

قال المؤلف لهذا الكتاب : روى لنا الثقات من مشايخنا ان بعض أخوات أبي الحسن عليه السّلام علي بن محمد عليه السّلام كانت لها جارية ولدت في بيتها وربّتها تسمّى نرجس فلما كبرت وعبلت دخل أبو محمّد عليه السّلام فنظر إليها فأعجبته.

فقالت عمّته : أراك تنظر إليها؟

فقال صلّى الله عليه : اني ما نظرت إليها إلّا متعجبا!

أما ان المولود الكريم على الله ـ جل وعلا ـ يكون منها.

ثم أمرها ان تستأذن أبا الحسن في دفعها إليه ، ففعلت ، فأمرها بذلك.

وروى جماعة من الشيوخ العلماء ؛ منهم علان الكلابي وموسى بن محمد الغازي وأحمد بن جعفر بن محمد بأسانيدهم ان حكيمة بنت أبي جعفر عليه السّلام عمّة أبي محمّد عليه السّلام كانت تدخل الى أبي محمّد فتدعو له أن يرزقه الله ولدا وانها قالت : دخلت عليه يوما فدعوت له كما كنت أدعو. فقال لي : يا عمّة اما انّه يولد في هذه الليلة ـ وكانت ليلة


النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين ـ المولود الذي كنّا نتوقعه ، فاجعلي افطارك عندنا ـ وكانت ليلة الجمعة ـ.

فقلت له : ممّن يكون هذا المولود يا سيدي؟

فقال : من جاريتك نرجس.

قالت : ولم يكن في الجواري أحبّ إليّ منها ولا أخف على قلبي وكنت اذا دخلت الدار تتلقاني وتقبّل يدي وتنزع خفي بيدها.

فلما دخلت إليها ففعلت بي كما كانت تفعل ، فانكببت على يدها فقبلتها ومنعتها ممّا تفعله ، فخاطبتني بالسيادة ، فخاطبتها بمثله ، فأنكرت ذلك ، فقلت لها : لا تنكري ما فعلته ، فان الله سيهب لك في ليلتنا هذه غلاما سيّدا في الدّنيا والآخرة.

قالت : فاستحيت.

قالت حكيمة : فتعجبت ، وقلت لأبي محمّد : اني لست أرى بها أثر حمل!

فتبسّم (صلّى الله عليه) وقال لي : انّا معاشر الأوصياء لا نحمل في البطون ولكنّا نحمل في الجنوب. وفي هذه الليلة مع الفجر يولد المولود المكرّم على الله إن شاء الله.

قالت : فنمت بالقرب من الجارية ، وبات أبو محمد عليه السّلام في صفة في تلك الدار فلما كان وقت صلاة الليل قمت ؛ والجارية نائمة .. ما بها أثر الولادة ، وأخذت في صلاتي ثم أوترت.

فبينا أنا في الوتر حتى وقع في نفسي : ان الفجر قد طلع ودخل في قلبي شيء ، فصاح أبو محمّد عليه السّلام من الصفة : لم يطلع الفجر يا عمّة بعد ، فأسرعت الصلاة وتحرّكت الجارية فدنوت منها وضممتها إليّ وسمّيت عليها ثم قلت لها : هل تحسين شيئا؟

قالت : نعم.

فوقع عليّ سبات ، لم أتمالك معه ان نمت ، ووقع على الجارية مثل ذلك ، فنامت وهي قاعدة. فلم تنتبه إلّا وهي تحس مولاي وسيدي تحتها وبصوت أبي محمد عليه السّلام وهو يقول : يا عمتي هات ابني إليّ.

فكشفت عن سيّدي صلّى الله عليه فاذا أنا به ساجدا منقلبا الى الأرض بمساجده


وعلى ذراعه الأيمن مكتوب جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا.

فضممته إليّ فوجدته مفروغا منه ـ يعني مطهّر الختانة ـ

ولففته في ثوب وحملته الى أبي محمد عليه السّلام فأخذه وأقعده على راحته اليسرى وجعل يده اليمنى على ظهره ثم أدخل لسانه في فيه وأمرّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله ثم قال : تكلّم يا بني.

فقال : «أشهد أن لا إله إلّا الله وان محمّدا رسول الله وان عليّا أمير المؤمنين».

ثم لم يزل يعدّ السادة الأوصياء صلّى الله عليهم الى أن بلغ الى نفسه فدعا لأوليائه على يديه بالفرج ، ثم صمت عليه السّلام عن الكلام.

قال أبو محمد عليه السّلام : اذهبي به الى أمه ليسلّم عليها ورديه إليّ.

فمضيت به فسلّم عليها فرددته ، فوقع بيني وبينه كالحجاب ، فلم أر سيدي فقلت له : يا سيدي اين مولاي؟

فقال : أخذه من هو أحق منك ومنّا.

فاذا كان في اليوم السابع جئت فسلّمت وجلست فقال عليه السّلام : هلم ائتني به فجئت بسيدي وهو في ثياب صفر ، ففعل كفعاله الأول ، وجعل لسانه في فيه ثم قال له تكلّم يا بني.

فقال له : «أشهد أن لا إله إلّا الله» وثنى بالصلاة على محمّد وأمير المؤمنين والأئمة عليهم السّلام حتى وقف على أبيه ثم قرأ هذه الآية :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ).

بعد أربعين يوما دخلت دار أبي محمّد عليه السّلام فاذا بمولاي يمشي في الدار فلم أر وجها أحسن من وجهه (صلّى الله عليه) ولا لغة أفصح من لغته. فقال أبو محمّد عليه السّلام : هذا المولود الكريم على الله جلّ وعلا.

قلت : يا سيدي ترى من أمره ما أرى وله أربعون يوما.


فتبسّم عليه السّلام وقال : يا عمتي أو ما علمت انّا معاشر الأوصياء ننشأ في اليوم مثل ما ينشأ غيرنا في الجمعة وننشأ في الجمعة مثل ما ينشأ غيرها في الشهر وننشأ في الشهر مثل ما ينشأ غيرنا في السنة.

فقمت فقبّلت رأسه وانصرفت.

ثم عدت وتفقدته فلم أره فقلت لسيدي أبي محمّد عليه السّلام : ما فعل مولانا؟.

فقال : يا عمّة استودعناه الذي استودعت أم موسى.

وحدّثني موسى بن محمد انّه قرأ المولد عليه عليه السّلام فصححه وزاد فيه ونقص وتقرّر بالروايات على ما ذكرناه.

وروي عن أبي محمد عليه السّلام انّه قال : لما ولد الصاحب عليه السّلام بعث الله عز وجل ملكين فحملاه الى سرادق العرش حتى وقف بين يدي الله فقال له : مرحبا بك ، وبك أعطي وبك أعفو وبك أعذّب.

وروى علان الكلابي عن محمد بن يحيى عن الحسين بن علي النيسابوري الدقّاق عن إبراهيم بن محمد بن عبد الله موسى بن جعفر عن أحمد بن محمد السياري قال :

حدّثني نسيم ومارية قالتا : لما خرج صاحب الزمان من بطن أمه سقط جاثيا على ركبتيه رافعا سبابته نحو السماء ثم عطس فقال : الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله من عبد داخر لله غير مستنكف ولا مستكبر ، ثم قال : زعمت الظلمة أن حجّة الله داحضة ولو اذن لنا في الكلام زال الشك.

وروى علان باسناده ان السيد عليه السّلام ولد سنة خمس وخمسين ومأتين بعد مضي أبي الحسن عليه السّلام بنحو سنتين.

وحدّثني حمزة بن نصر غلام أبي الحسن عليه السّلام قال : ولد السيد عليه السّلام فتباشر أهل الدار بمولده فلما أنشأ خرج الى الأمر ان ابتاع في كلّ يوم من اللحم قصب مخ وقيل ان هذا لمولانا الصغير.

وحدّثني الثقة من اخواننا عن إبراهيم بن إدريس قال : وجّه إليّ مولاي أبو محمّد عليه السّلام بكبشين وقال : عقهما عن ابني فلان وكل واطعم اخوانك.


ففعلت ثم لقيته بعد ذلك فقال : ان المولود الذي ولد مات.

ثم وجّه إليّ بكبشين بعد ذلك وكتب إليّ : بسم الله الرحمن الرحيم. عق هذين الكبشين عن مولاك وكل هنأك الله واطعم اخوانك.

ففعلت ولقيته بعد ذلك فما ذكر لي شيئا.

وحدّثني علان قال : حدّثني نسيم خادم أبي محمّد عليه السّلام قال : قال لي صاحب الزمان وقد دخلت إليه بعد مولده بليلة فعطست عنده فقال لي : يرحمك الله.

قال نسيم : ففرحت.

فقال لي عليه السّلام : ألا أبشّرك في العطاس؟.

قلت : بلى.

قال : هو أمان من الموت ثلاثة أيام.

وحدّثنا علان قال : حدّثني أبو نصر ضرير الخادم قال : دخلت على صاحب الزمان فقال لي : عليّ بالصندل الأحمر.

فأتيته به فقال : أتعرفني؟.

قلت : نعم.

قال : من أنا؟.

فقلت : أنت سيدي وابن سيدي.

فقال : ليس عن هذا سألتك.

قال ضرير : فقلت : جعلت فداك فسّر لي.

فقال : أنا خاتم الأوصياء وبي رفع الله البلاء عن أهلي وشيعتي.

وعن جعفر بن محمد بن مالك قال : حدّثني محمد بن جعفر بن عبد الله عن أبي نعيم محمد بن أحمد الأنصاري قال : وجّه قوم من المفوّضة والمقصرة كامل بن إبراهيم المدائني الى أبي محمّد عليه السّلام ليناظره في أمرهم ، قال كامل : فقلت : في نفسي أسئلة وأنا اعتقد انّه لا يدخل الجنّة إلّا من عرف معرفتي وقال بمقالتي.

قال : فلما دخلت عليه نظرت الى ثياب بياض ناعمة عليه فقلت في نفسي : وليّ الله


وحجّته يلبس الناعم من الثياب ويأمرنا بمواساة الاخوان وينهانا عن لبس مثله.

فقال متبسما : يا كامل. وحسر عن ذراعيه فاذا مسح اسود خشن رقيق على جلده فقال : هذا لله عز وجل ، وهذا لكم.

فخجلت وجلست الى باب عليه ستر مسبل فجاءت الريح فرفعت طرفه فاذا أنا بفتى كأنّه فلقة قمر من أبناء أربع سنين أو مثلها.

فقال لي : يا كامل بن إبراهيم.

فاقشعررت من ذلك. فألهمني الله ان قلت : لبيك يا سيدي.

فقال : جئت الى ولي الله وحجته وبابه تسأله هل يدخل الجنّة إلا من عرف معرفتك وقال بمقالتك؟.

قلت : اي والله.

قال : اذن والله يقل داخلها. والله انّه ليدخلها قوم يقال لهم الحقيّة.

قلت : يا سيدي من هم؟.

قال : قوم من حبّهم لعليّ صلّى الله عليه يحلفون بحقّه ولا يدرون ما حقّه وفضله.

ثم سكت صلّى الله عليه عني ساعة ثم قال : وجئت تسأله عن مقالة المفوّضة ، كذبوا بل قلوبنا أوعية الله فاذا شاء الله شئنا وهو قوله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ *).

ثم رجع الستر الى حالته فلم استطع كشفه فنظر الي أبو محمد عليه السّلام متبسما فقال : يا كامل بن إبراهيم ما جلوسك وقد أنبأك الحجّة بعدي بحاجتك؟.

فقمت وخرجت ولم أعاينه بعد ذلك.

قال أبو نعيم : فلقيت كاملا فسألته عن هذا الحديث فحدّثني به.

وعن سعد بن عبد الله باسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال : القائم من تخفى ولادته على الناس.

الحميري عن محمد بن الحسين عن محمد بن سنان عن أبي الجارود عن عثمان ابن نشيط عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال : صاحب هذا الأمر ليس لأحد في عنقه عهد ولا عقد ولا ذمّة.


عبد الله بن جعفر الحميري عن الزيتوني عن الحسن بن علي يرفعه قال : قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : أنت صاحبنا ـ أعني صاحب الأمر؟.

فقال : ألبست درع رسول الله صلّى الله عليه وآله فابخرت عليّ وانّه ليأخذ لي بالركاب وان صاحبكم يلبس الدرع فتستوي عليه ولا يؤخذ له بالركاب.

ثم قال لي : انى يكون ذلك ولم يولد الغلام الذي تربيه جدّته.

وعنه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن أبي نصر قال : دخلت على الرضا عليه السّلام انا وصفوان بن يحيى وأبو جعفر عنده وله ثلاث سنين فقلت له : جعلنا الله فداك ان حدث بك حادث فمن يكون؟.

قال : ابني هذا ـ وأومأ بيده إليه.

قلنا : وهو في هذه السنّ.

فقال : ان الله عز وجل احتجّ بعيسى بن مريم وله سنتان.

وكتب الرضا عليه السّلام على ما جاءت به الرواية مع محمد بن سنان وجماعة من أصحابنا الى أبي جعفر عليه السّلام وله أقلّ من سنة فصاروا إليه فأخرجه موفق الخادم إليهم على عاتقه فلما لمح العنوان أومأ الى موفق بفضّ الكتاب ونشره عليه وجعل ينظر فيه ويقرأ ، فلما فرغ قال : تاخ تاخ.

فقال محمد بن سنان : فطرسيته.

ودنا منه فتمسّح به فعاد بصره.

قال ابن أبي نصر فلما كبر أبو جعفر عليه السّلام : ذكرته قول محمد بن سنان فطرسيته فضحك.

وعنه عن علي بن مهزيار قال : قلت لأبي الحسن عليه السّلام : وقد نص على أبي محمد يا سيدي أيجوز أن يكون الإمام ابن سبع سنين؟.

قال : نعم وابن خمس سنين.

وعنه عن إبراهيم بن مهزيار عن أخيه علي عن فضالة بن أيوب عن عمر بن أبان عن حمران قال : سألت أبا جعفر الباقر عليه السّلام عن قول الله عز وجل (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها


مِصْباحٌ) ... الآية.

فقال لي : الامام يتكلّم بالوحي في صغر سنّه.

وعنه وعن زرارة قال : قلت لأبي جعفر الباقر عليه السّلام قول الله عز وجل (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)

قال : يعني بلوغ الامام.

قلت : وما بلوغه؟.

قال : أربع سنين.

وعنه باسناده عن الباقر عليه السّلام قال : ان الله بعث عيسى بن مريم بإقامة شريعة وله سنتان.

وفي خبر آخر : وما يضرّكم من صغر سنه ، قد قام عيسى بالحجّة وهو ابن ثلاث سنين.

سعد بن عبد الله عن محمد بن أحمد عن داود بن القاسم ابي هاشم قال : سمعت أبا الحسن ـ يعني صاحب العسكر ـ يقول : الخلف من بعدي ابني الحسن فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟.

قلت : ولم جعلني الله فداك؟.

قال : لأنّكم لا ترون شخصه ولا يحلّ لكم ذكره باسمه.

قلت : فكيف نذكره؟.

قال : قولوا : الحجّة من آل محمّد صلّى الله عليه وآله.

سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول : إيّاكم والتنويه باسمه ، والله ليغيبن إمامكم دهرا من دهركم ، وليمحصن حتى يقال : هلك ، بأي واد سلك ، ولتدمعن عليه عيون المؤمنين ولتكفأن كما تتكفأ السفن في أمواج البحر فلا ينجو إلّا من أخذ عليه ميثاقه وكتب في قلبه الايمان وأيّده بروح منه ، ولترفعن اثنتا عشرة راية مشبهة بعضها بعضا لا يدري أي من أي.


قال المفضل : فبكيت وقلت : وكيف نصنع؟.

فنظر إلى شمس داخل الصفة فقال : ترى هذه الشمس؟.

قلت : نعم.

قال : والله لأمرنا أبين منها.

وعنه عن الحسن بن عيسى عن محمد بن علي عن علي بن جعفر عليه السّلام عن موسى عليه السّلام قال : اذا فقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم لا يزيلنّكم أحد عنها. لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة حتى يرجع عنه من كان يقول به. إنمّا هو محنة من الله يمتحن بها خلقه.

قلت : يا سيدي من الخامس من ولد السابع؟.

قال : عقولكم تصغر عن هذا ، ولكن أن تعيشوا فسوف تدركونه.

وعنه عن محمد بن علي الصيرفي أبي سمية عن إبراهيم بن هاشم عن فرات بن أحنف قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام وقد ذكر القائم من ولده فقال : اما انّه ليغيبن حتى يقول الجاهل : مالي في آل محمّد حاجة.

وعنه عن محمد بن الحسين عن عمر بن يزيد عن الحسن بن أبي الربيع الهمداني عن محمد بن اسحاق عن أسيد بن ثعلبة عن أم هاني قالت : لقيت أبا جعفر عليه السّلام فسألته عن هذه الآية (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ).

قال : امام يفقد في سنة ستّين ومائتين ثم يبدو كالشهاب الوقّاد ، فان أدركت زمانه قرّت عيناك.

وعنه عن هارون بن مسلم بن سعدان عن سعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السّلام قال في خطبة له : اللهم لا بد لأرضك من حجّة على خلقك يهديهم الى دينك ويعلّمهم علمك لئلا تبطل حجّتك ولا يضلّ اتباع أوليائك بعد إذ هديتهم ظاهر أو ليس بالمطاع أو مكتما مترقّبا ان غاب عن الناس شخصه في حال هدنة لم يغب عنهم مثبوت علمه فاذا به في قلوب المؤمنين مثبتة فهم بها عاملون.

وعنه يرفعه الى الأصبغ بن نباتة قال : دخلت على أمير المؤمنين فوجدته مفكّرا ينكت


في الأرض ، قلت : ما لي أراك مفكّرا يا أمير المؤمنين؟.

قال أفكّر في مولود يكون من ظهر الحادي عشر من ولدي يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يكون له غيبة تضلّ فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون.

ثم قال بعد كلام طويل : أولئك خيار هذه الامّة مع أبرار هذه العترة.

قلت : ثم ما ذا يا أمير المؤمنين؟.

قال : ثم يفعل الله ما يشاء.

وعن هارون بن مسلم بن مسعدة باسناده عن العالم عليه السّلام انّه قال.

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ان الله عز وجل اختار من الايام يوم الجمعة ومن الليالي ليلة القدر ومن الشهور شهر رمضان واختارني من الرسل واختار مني عليا واختار من علي الحسن والحسين واختار منهما تسعة تاسعهم قائمهم وهو ظاهرهم وهو باطنهم.

وعنه عن أبي الحسن صاحب العسكر عليه السّلام قال : لا تعادوا الأيام فتعاديكم.

فسألته عن معنى ذلك.

فقال : له معنيان ، ظاهر وباطن ، فالظاهر : السبت لنا ، والأحد لشيعتنا ، والاثنين لأعدائنا ، وتمّم الحديث ، والباطن السبت رسول الله صلّى الله عليه وآله والأحد : أمير المؤمنين ، والاثنين : الحسن والحسين ، والثلاثاء : علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ، والأربعاء : موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا ، والخميس : الحسن ابني ، والجمعة : ابنه. وعليه يجتمع هذه الامة.

ثم قرأ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ثم قال : نحن بقيّة الله.

وعن عباد بن يعقوب الأسدي عن الحسن ابن حماد عن عبد الله بن لهيعة عن حذيفة بن اليمان قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : صاحب بني العباس يقتله رجل من ولدي لا يسميه باسمه إلّا كافر.

وعنه عن علي بن الحسن بن فضال عن الريان بن الصلت قال : سمعت الرضا عليه السّلام يقول : القائم لا يرى جسمه ولا يسمّى باسمه.


وعنه قال : اذا وقع علمكم من بين أظهركم فتوقعوا الفرج من تحت أقدامكم.

وعنه عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال : سألته عن قول الله عز وجل (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ).

قال : اذا قدمتم امامكم فلم تروه فما أنتم صانعون؟.

وفي حديث آخر : فمن يأتيكم به إلّا الله عز وجل تعالى.

الحميري عن محمد بن عيسى عن سليمان بن داود عن أبي نصر قال : سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول : في صاحب هذا الأمر أربع سنن من أربعة أنبياء ، سنّة من موسى في غيبته ، وسنّة من عيسى في خوفه ومراقبته اليهود وقولهم مات ولم يمت وقتل ولم يقتل ، وسنّة من يوسف في جماله وسخائه ، وسنّة من محمّد صلّى الله عليه وآله في السيف يظهر به.

وعنه قال : لا يكون ما ترجون حتى يخطب السفياني على أعوادها فاذا كان ذلك انحدر عليكم قائم آل محمّد من قبل الحجاز.

وعنه عن أبي جعفر عليه السّلام قال : لصاحب هذا الأمر بيت يقال له (بيت الحمد) فيه سراج يزهر منذ يوم ولد الى أن يقوم بالسيف.

وعنه عن الحسن بن علي بن مهزيار عن محمّد ابن أبي الزعفراني عن أم أبي محمّد عليه السّلام قالت : قال لي يوما : تصيبني في سنة الستين حرارة وأخاف منها.

فجزعت وبكيت ، فقال لي : لا تجزعي لا بد من وقوع أمر الله.

فلما كان من أيام صفر من تلك أخذها المقيم والمقعد فجعلت تخرج الى الجبل وتتجسس أخبار العراق حتى ورد عليها الخبر.

وعنه عن محمد بن عيسى عن صالح بن محمّد قال : قال أبو عبد الله عليه السّلام : لصاحب هذا الأمر غيبة المتمسك فيها بدينه كالخارط للقتاد.

ثم قال : ومن يطيق خرط القتاد.

وعنه عن محمد بن عيسى عن الحرث بن مغيرة عن أبي عبد الله عليه السّلام قال : القائم امام ابن الامام يأخذون منه حلالهم وحرامهم قبل قيامه.

قلت : أصلحك الله اذا فقد الناس الامام عمّن يأخذون؟.


قال : اذا كان ذلك فأحب من كنت تحب وانتظر الفرج ، فما أسرع ما يأتيك.

وعنه عن أحمد بن هلال عن الحسن بن محبوب عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال : لا بد من فتنة صماء صيلم تظهر فيها كلّ بطانة ووليجة وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض.

ثم قال من بعد كلام طويل : كأني بهم شرّ ما كانوا وقد نودوا ثلاثة أصوات ، الصوت الأول : أزفت الآزفة يا معشر المؤمنين ، والصوت الثاني : ألا لعنة الله على الظالمين ، والثالث : بدن يظهر فيرى في قرن الشمس يقول : ان الله بعث فلانا فاسمعوا وأطيعوا.

وبهذا الاسناد عن ابن أبي عمير عن سعيد بن غزوان عن أبي بصير عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال : يكون منّا بعد الحسين تسعة تاسعهم قائمهم وهو أفضلهم.

وعنه عن أميّة بن علي القيسي عن الهيثم التميمي قال : قال أبو عبد الله عليه السّلام : اذا توالت ثلاثة أسماء محمد وعلي والحسن كان رابعهم قائمهم.

وعنه عن أبي السفاتج عن جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : دخلت على فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله ذات يوم وبين يديها لوح يكاد يغشى ضوؤه الأبصار ، فيه ثلاثة أسماء في ظاهره ، وثلاثة أسماء في باطنه ، وثلاثة أسماء في أحد طرفيه ، وثلاثة أسماء في الطرف الآخر ، يرى من ظاهره ما في باطنه ويرى من باطنه ما في ظاهره ، فعددت الأسماء فاذا هي اثنا عشر ، فقلت : من هؤلاء؟.

قالت : هذه أسماء الأوصياء من ولدي ، آخرهم القائم.

قال جابر : فرأيت فيها محمّدا في ثلاثة مواضع.

وعنه عن أحمد بن هلال عن محمد بن أبي عمير عن سعد بن غزوان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السّلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ان الله عز وجل اختار من الأيام الجمعة ومن الشهور شهر رمضان ومن الليالي ليلة القدر ومن الناس الأنبياء ومن الأنبياء الرسل واختارني من الرسل واختار منّي عليّا واختار من علي الحسن والحسين واختار من الحسين الأوصياء ينفون عن التنزيل تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، تاسعهم قائمهم وهو ظاهرهم وهو باطنهم.


محمد بن الحسين عن موسى بن سعدان عن عبد الله بن القاسم عن المفضل بن عمر قال سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن تفسير جابر فقال : لا تحدّث به السفلة فيذيعوه أما تقرأ في كتاب الله عز وجل (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) ان منّا من يكون اماما مستترا فاذا أراد الله اظهار أمره نكت في قلبه فيظهر حتى يقوم بأمر الله جلّ ثناؤه.

وعن علي بن محمد بن زياد الصيمري عن علي بن مهزيار قال : كتبت الى أبي الحسن صاحب العسكري أسأله عن الفرج ، فوقع : اذا غاب صاحبكم عن دار الظالمين فتوقعوا الفرج.

وعن محمد بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي هاشم عن إبراهيم بن أبي يحيى المزني عن أبي عبد الله عليه السّلام قال : جاء يهودي الى عمر يسأله عن مسائل فأرشده الى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : سل عمّا بدا لك.

قال : أخبرني بعد نبيّكم ، من الامام العدل ، وفي أي جنّة ، وهو ومن يسكن معه في جنّته.

فقال عليه السّلام : يا هاروني! لمحمد صلّى الله عليه وآله اثنا عشر اماما عدلا لا يضرّهم خذلان من خذلهم ولا يستوحشون خلاف من خالفهم ، أرسب في دين الله من الجبال الرواسي ، ومنزله ـ صلّى الله عليه ـ في جنّات عدن ، والذين يسكنون معه هؤلاء الاثنا عشر.

فأسلم الرجل وقال : أنت أولى بهذا المجلس من هذا. أنت الذي ينبغي أن تفوق الآفاق وتعلوه ولا تعلى.

محمد بن عيسى عن محمد بن فضيل عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال : ان الله جل وعلا أرسل محمّدا صلّى الله عليه وآله الى الجنّ والإنس عامة وكان من بعده اثنا عشر وصيّا ، منهم من سبقنا ، ومنهم من بقي ، وكلّ وصي أجرت سنّة الأوصياء الذين بعد محمّد صلّى الله عليه وآله على سنّة أوصياء عيسى عليه السّلام الى ظهور محمّد صلّى الله عليه وآله وكانوا اثني عشر ، أولهم شمعون ، وكان أمير المؤمنين عليه السّلام على سنّة المسيح عليه السّلام.

حدّثني الحميري عن محمّد بن عيسى عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن علي بن أبي حمزة قال : كنت مع أبي بصير ومعنا مولى لأبي جعفر فحدّثنا انّه سمع أبا


جعفر عليه السّلام انّه قال : منّا اثنا عشر محدّثا القائم السابع بعدي.

فقام إليه أبو بصير فقال : اشهد لسمعت أبا جعفر عليه السّلام يذكر هذا منذ أربعين سنة.

وعنه عن عبد الله بن خالد الكوفي عن منذر بن محمد بن قابوس عن نصر بن السندي عن داود بن ثعلبة أبي مالك الجهني عن الحرث بن المغيرة عن الأصبغ بن نباتة قال : أتيت أمير المؤمنين عليه السّلام فوجدته ينكت في الأرض فقلت : يا أمير المؤمنين ما لي أراك مفكّرا تنكت في الأرض ، أرغبة منك فيها؟.

قال : لا والله ما رغبت فيها قط ، ولكنني فكّرت في مولود يكون من ظهري ، الحادي عشر من ولدي ، هو المهدي يملأها عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا ، يكون له غيبة وفي أمره حيرة يضلّ فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون.

قلت : يا مولاي فكم يكون الحيرة والغيبة؟.

فقال : ستة أيام أو ستة شهور أو ستة سنين. وذلك اذا فقد الباب بينه وبين شيعتنا تكون الحيرة.

فقلت : وان هذا الأمر لكائن؟.

فقال : نعم كما انّه مخلوق. وانّى لك يا أصبغ بهذا الأمر أولئك خيار هذه الامة مع أبرار هذه العترة.

قال : قلت : ثم ما يكون بعد ذلك؟.

قال : ثم يفعل الله ما يشاء فان له بدآت وارادات وغايات ونهايات.

أبو محمد الحسن بن عيسى العلوي قال : حدّثني أبي عيسى بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال لي : يا بني اذا فقد الخامس من ولد السابع من الأئمة عليهم السّلام فالله الله في أديانكم فانّه لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة يغيبها حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به ، يا بني إنمّا هي محنة من الله امتحن الله بها خلقه لو علم آباؤكم وأجدادكم دينا أصحّ من هذا الدين لا تبعوه.

قال أبو محمد الحسن بن عيسى : فقلت : يا سيدي من الخامس من ولد السابع؟.

قال : يا بني عقولكم تصغر عن هذا وأحلامكم تضيق عن حمله ولكن ان تعيشوا


تدركوا.

أبو الحسن صالح بن أبي حماد والحسن بن طريف جميعا عن بكر بن صالح عن عبد الرحمن بن سالم عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السّلام قال : قال أبي عليه السّلام لجابر بن عبد الله الأنصاري : ان لي إليك حاجة فمتى يخف عليك ان أخلو بك وأسألك عنها؟.

قال له : يا جابر في أي وقت أحببت.

فخلا به أبي في بعض الأيام فقال له : يا جابر اخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وما أخبرتك به فما هو في ذلك اللوح مكتوب؟.

فقال جابر : اشهد بالله اني دخلت على امّك فاطمة عليها السّلام في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله فهنأتها بولادة الحسين فرأيت في يدها لوحا أخضر لظننت انّه من زمردة ورأيت فيه كتابا أبيض يشبه نور الشمس فقلت لها : بأبي وأمي يا بنت رسول الله ما هذا اللوح فقالت : هذا أهداه الله جل جلاله الى رسول الله صلّى الله عليه وآله وفيه اسمه واسم ابني الحسن والحسين والأوصياء من ولد الحسين عليهم السّلام فأعطانيه رسول الله صلّى الله عليه وآله فقرأته وانتسخته.

قال له أبو جعفر عليه السّلام : فهل لك يا جابر أن تعارضني به.

قال : نعم.

فمشى معه حتى انتهى الى منزله فأخرج إليّ صحيفة من ورق فيها نسخة ما في اللوح. فقال : يا جابر انظر في كتابك لأقرأ أنا عليك.

فنظر في نسخته وقرأ أبي ، فما خالف حرفا حرف.

فقال جابر : واشهد بالله اني هكذا رأيته في اللوح مكتوبا.

وقد أثبتناه في باب علي بن الحسين من هذا الكتاب واستغني عن اعادته في هذا الباب ، فانما ذكرناه في طريق ثان لروايته.

أبو الحسن محمد بن جعفر الأسدي قال : حدّثني أحمد بن إبراهيم قال : دخلت على خديجة بنت محمد بن علي الرضا عليه السّلام اخت أبي الحسن صاحب العسكر عليه السّلام في سنة اثنين وستين ومائتين بالمدينة فكلّمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها ، فسمّت لي من تأتم بهم.


ثم قالت : والخلف الزكي ابن الحسن ابن علي اخي فقلت لها : جعلني الله فداك معاينة أو خبرا؟.

فقالت : خبرا عن ابن أخي أبي محمّد عليه السّلام كتب به الى أمه.

فقلت لها : فأين الولد؟.

فقالت مستور.

قلت : فإلى من تفزع الشيعة؟.

قالت : الى الجدّة أم أبي محمد.

فقلت لها : اقتداء بمن وصيته الى امرأة.

فقالت لي : اقتداء بالحسين بن علي عليه السّلام لأنّه أوصى الى اخته زينب بنت علي في الظاهر فكان ما يخرج من علي بن الحسين في زمانه من علم ينسب الى زينب بنت علي عمّته سرا على علي بن الحسين وتقيّة وابقاء عليه.

ثم قالت : انّكم قوم أصحاب أخبار ورجال وثقات اما رويتم ان التاسع من ولد الحسين يقسم ميراثه وهو حي باق ....

ونشأ الصاحب صلّى الله عليه على منشأ آبائه عليهم السّلام وقام بأمر الله جل وعلا في يوم الجمعة لاحدى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة ستين ومأتين سرّا إلا عن ثقاته وثقات أبيه وله أربع سنين وسبعة أشهر.

وقد روي من الأخبار في الغيبة في هذا الكتاب ما فيه كفاية.

وروي ان أبا الحسن صاحب العسكر احتجب عن كثير من الشيعة إلا عن عدد يسير من خواصّه فلما أفضي الأمر الى أبي محمّد عليه السّلام كان يكلّم شيعته الخواص وغيرهم من وراء الستر إلّا في الأوقات التي يركب فيها الى دار السلطان وان ذلك انما كان منه ومن أبيه قبله مقدّمة لغيبة صاحب الزمان لتألف الشيعة ذلك ولا تنكر الغيبة وتجري العادة بالاحتجاب والاستتار.

وفي تسع عشرة سنة من الوقت توفي المعتمد وبويع لأحمد بن الموفق وهو المعتضد وذلك في رجب سنة تسع وتسعين ومائتين.


وفي تسع وعشرين سنة من الوقت توفي المعتضد وبويع لابنه علي المكتفي في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين.

وفي خمس وثلاثين سنة من الوقت توفي المكتفي وبويع لأخيه جعفر المقتدر في سلخ شوال سنة خمس وتسعين ومائتين.

وفي سنة ستين من الوقت قتل جعفر المقتدر لليلة بقيت من شوال سنة عشرين وثلاثمائة وبويع لأخيه محمّد القاهر بالله.

وفي سنة اثنين وستين من الوقت خلع القاهر ثم سمل ووقعت البيعة للراضي محمد ابن المقتدر في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وبويع لأخيه إبراهيم المتقي لعشر خلون من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.

وللصاحب عليه السّلام منذ ولد الى هذا الوقت وهو شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ، ست وسبعون سنة وأحد عشر شهرا ونصف شهر. قام مع أبيه أبي محمّد عليهما السّلام أربع سنين وثمانية أشهر ومنها منفردا بالإمامة اثنتان وسبعون سنة وشهورا.

وقد تركنا بياضا لمن يأتي بعدنا والسّلام.



الفهرست

كلمة الناشر.................................................................. ٥

ترجمة المؤلف.................................................................. ٧

القسم الاول

اتصال الحجج والأنبياء من آدم الى محمد (ص)................................ ١٣

مقدمة في بدء الخليقة......................................................... ١٥

جند العقل.................................................................. ١٦

جند الجهل.................................................................. ١٦

بدء الخليقة.................................................................. ١٧

هبوط آدم (ع).............................................................. ٢٠

هبة الله (شيث) بن آدم...................................................... ٢٤

ريسان (أنوش) بن هبة الله.................................................... ٢٥

قينان (أمحوق) بن ريسان...................................................... ٢٥

الحيلث بن قينان............................................................. ٢٥

غنميشا بن الحيلث........................................................... ٢٦

أخنوخ أو (هرمس) وهو إدريس بن غنميشا...................................... ٢٦

برد بن أخنوخ............................................................... ٢٩

أخنوخ بن برد بن أخنوخ...................................................... ٢٩

متوشلخ بن اخنوخ........................................................... ٢٩

لمك (وهو ارفخشد) بن متوشلخ............................................... ٢٩

نوح بن ارفخشد............................................................. ٢٩


سام بن نوح................................................................. ٣٣

ارفخشد بن سام............................................................. ٣٤

شالح بن ارفخشد............................................................ ٣٦

هود بن شالح................................................................ ٣٧

فالغ بن هود................................................................ ٣٨

يروغ بن فالغ................................................................ ٣٨

نوش بن امين................................................................ ٣٨

صاروغ بن يروغ.............................................................. ٣٩

تاجور بن صاروغ............................................................ ٣٩

تارخ بن تاجور............................................................... ٣٩

إبراهيم بن تارخ.............................................................. ٣٩

إسماعيل بن إبراهيم........................................................... ٤٥

اسحاق بن إبراهيم........................................................... ٤٦

يعقوب بن اسحاق........................................................... ٤٦

يوسف بن يعقوب........................................................... ٤٨

ببرز بن لاوي بن يعقوب...................................................... ٥٠

أحرب بن ببرز بن لاوي...................................................... ٥٠

ميتاح بن أحرب............................................................. ٥٠

عاق بن ميتاح............................................................... ٥٠

خيام بن عاق............................................................... ٥٠

مادوم بن خيام.............................................................. ٥١

شعيب بن نابت بن إبراهيم................................................... ٥١

يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف............................................. ٦٤

فينحاس بن يوشع............................................................ ٦٦


بشير بن فينحاس............................................................ ٦٦

جبرئيل بن بشير............................................................. ٦٦

ابلث بن جبرئيل............................................................. ٦٦

أحمر بن ابلث............................................................... ٦٧

محتان بن أحمر............................................................... ٦٧

عوق بن محتان............................................................... ٦٧

طالوت من ولد بنيامين بن يعقوب............................................. ٦٧

داود....................................................................... ٦٩

سليمان بن داود............................................................. ٧٢

آصف بن برخيا............................................................. ٧٦

صفورا بن آصف............................................................. ٧٦

مبنه بن صفورا............................................................... ٧٦

هندوا بن مبنه............................................................... ٧٧

أسفرا بن هندوا.............................................................. ٧٧

رامين بن أسفرا.............................................................. ٧٧

اسحاق بن رامين............................................................ ٧٧

ايم بن اسحاق............................................................... ٧٧

زكريا بن ايم.................................................................. ٧٨

اليسابغ..................................................................... ٧٨

روبيل بن اليسابغ............................................................ ٧٨

المسيح عيسى بن مريم........................................................ ٧٩

شمعون...................................................................... ٨٤

يحيى بن زكريا................................................................ ٨٥

دانيال...................................................................... ٨٧


مكيخا بن دانيال............................................................ ٨٨

انشوا بن مكيخا............................................................. ٨٨

رشيخا بن انشوا............................................................. ٨٨

نسطورس بن رشيخا.......................................................... ٨٩

مرعيد بن نسطورس.......................................................... ٨٩

بحيرا........................................................................ ٨٩

منذر بن شمعون.............................................................. ٨٦

سلمة بن منذر.............................................................. ٨٩

برزة بن سلمة................................................................ ٩٠

أبي بن برزة.................................................................. ٩٠

دوس بن أبي................................................................ ٩٠

أسيد بن دوس............................................................... ٩٠

هوف...................................................................... ٩٠

يحيى بن هوف............................................................... ٩٠

اتصال الحجج والاوصياء...................................................... ٩١

القسم الثاني

من سيدنا محمد (ص) حتى ولادة المهدي (ع)................................. ٩١

مولد سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم...................................... ٩٣

الوحي.................................................................... ١١٥

حديث الدار.............................................................. ١١٧

المعراج.................................................................... ١١٩

تآمر قريش ، ومعجزاته (ص)................................................ ١١٩

الهجرة والمبيت.............................................................. ١٢٢


الدعوة.................................................................... ١٢٣

حجة الوداع............................................................... ١٢٣

الوصية.................................................................... ١٢٤

وفاة الرسول (ص).......................................................... ١٢٥

خطبة أمير المؤمنين (ع)..................................................... ١٢٧

ايمان علي (ع)............................................................ ١٣٤

كفالة ابي طالب للنبي (ع).................................................. ١٣٤

مولد علي (ع)............................................................ ١٣٨

في الحوادث التي اعقبت وفاة النبي (ص)....................................... ١٤٥

معجزات علي (ع)......................................................... ١٥١

رد الشمس للامام على (ع)................................................. ١٥٣

كراماته الاخرى (ع)....................................................... ١٥٤

شهادة الامام علي (ع)..................................................... ١٥٥

الحسن السبط (ع)......................................................... ١٥٧

الحسين الشهيد (ع)........................................................ ١٦٣

علي السجاد (ع).......................................................... ١٦٨

محمد الباقر (ع)........................................................... ١٧٦

جعفر الصادق (ع)........................................................ ١٨٣

موسى الكاظم (ع)........................................................ ١٨٩

علي الرضا (ع)............................................................ ٢٠١

محمد الجواد (ع)........................................................... ٢١٦

علي الهادي (ع)........................................................... ٢٢٨

الحسن العسكري (ع)...................................................... ٢٤٢

قيام صاحب الزمان وهو الخلف الزكيّ......................................... ٢٥٧

اثبات الوصية للامام علي بن ابى طالب

المؤلف:
الصفحات: 279