


تنويه وشكر
ها هو ذا الجزء
السابع والأخير من كتاب «إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء» يصل إلى يدي القارىء
كما نرجو له من الضبط والتصحيح والإخراج ، ولا شك في أن لدار القلم العربي بحلب
الفضل في نشر هذا الكتاب النفيس ودعمه بكل ما يتطلبه من إمكانات مادية وإعداد علمي
، ولا عجب في ذلك ، فقد أخذت هذه الدار على عاتقها مهمة نشر الذخائر التراثية
والكنوز التاريخية التي من شأنها تمكين بنيان العلم وصرح الثقافة.
ولابد من إزجاء
خالص الشكر وجميل العرفان إلى الباحث الفاضل الأستاذ محمد كامل فارس الذي بسط يد
المعونة في تدقيق نصوص الكتاب ومعارضتها بأصولها ، وأمدنا ببعض الإرشادات القيمة
والملاحظات المغنية التي كان يستخلصها من مكتبته التاريخية العامرة وينتزعها من
خبرته الأثرية الأصلية ، حتى كان المرجع في كل مشكل والمستشار في كل معضل ، ابتغاء
الوصول إلى ما يفيد العلم ويخدم المعرفة ويرضي المؤلف رحمهالله.
كما سيكون له
الفضل في وضع معظم الفهارس العامة المفصلة التي تسهل على الباحثين والدارسين
الرجوع إلى ما في الكتاب من المعارف الواسعة والمعلومات التاريخية والأثرية الهامة
، وهذا ما سيختص به الجزء الثامن إن شاء الله.
فعسى أن نوفق
إلى ذلك ، والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل.
محمد كمال
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تتمة أعيان القرن
الثاني عشر
١٠٨٣ ـ محمد بن علي الجمالي المتوفى سنة ١١٧٣
محمد بن علي بن
مصطفى المعروف بالجمالي ، الحنفي الحلبي العالم الأديب ، ناظم اللآلي.
ولد في حلب سنة
ثمان ومائة وألف ، ونشأ بها وأخذ العلم عن علمائها كالشيخ سليمان النحوي والشيخ
حسب الله ، وأخذ الفقه أيضا عن الشيخ السيد محمد الطرابلسي نزيل حلب ، ومن مشايخه
السيد يوسف الحسيني الدمشقي مفتي حلب ، وخدمه في كتابة الفتوى حين تقلدها ، وأتقن
وأجاد ومنه استفاد.
وكان له قدم
راسخ في النظم والإنشاء ، وحصل له الملكة التامة في الفقه. وكان دمث الأخلاق يلاطف
الناس ، له الإنشاء البليغ والنظم البديع.
ومن شعره قوله
في عقد حليته عليه الصلاة والسلام :
حبذا طيب
طيبة الفيحاء
|
|
مهبط الوحي
مستقر الرضاء
|
بلدة أينعت
خمائل نور
|
|
ثم أضحت
مخضلة الأرجاء
|
شرفت بالنبي
طه التهامي
|
|
أكرم الخلق
أشرف الأنبياء
|
كمّل الله
خلقه وحباه
|
|
حلية توجت
بكل بهاء
|
كان فخما
مفخما يتلالا
|
|
وجهه بالضيا
كبدر السماء
|
__________________
ضخم الرأس والكراديس ذا مسربة وهي آية النجباء
أزهر اللون أدعج العين أقنى الأنف رحب الجبين ذي اللألاء
أشنب الثغر أفرق السن وضاح المحيا ذا لحية كثاء
أهدب الجفن بارع الحسن عذب النطق يمّ التقى كثير الحياء
ظاهر البشر كان يفترّ عن أمثال حب الغمام باهي السناء
عنقه جيد
دمية في صفاء
|
|
ونقاء كالفضة
البيضاء
|
ربعة بين
منكبيه بعيد
|
|
واسع الصدر
كامل الأعضاء
|
بادنا أشعر
الذراع طويل الباع ششن الكفين بحر السخاء قوله الفصل لا فضول ولا تقصير طلق اللسان
عذب الأداء محرزا من جوامع الكلم الغرّ فنون البلاغة الغراء
وإذا ما مشى
تكفا كأن عن
|
|
صبب إنحطاطه
أو علاء
|
جملة إلتفاته
والهوينا
|
|
مشيه إن مشى
ذريع الخطاء
|
خافض الطرف
دائم الفكر جمّ الشكر والذكر صادق الأنباء أجود الناس أصدق الناس أسمى الناس قدرا
من خص بالعلياء
بين كتفيه
مثل بيض حمام
|
|
خاتم وهو
خاتم الأنبياء
|
ومن نظمه قوله
ممتدحا بها صاحب الرسالة صلىاللهعليهوسلم :
بعلياك يا
شمس النبيين والرسل
|
|
غدت سائر
الأملاك والرسل تستعلي
|
ملكت زمام
المجد ختما ومبدأ
|
|
وحزت مقام
الحمد في موقف الفصل
|
وتوجت تاج
العلم والزهد والتقى
|
|
وصدق الوفا
والنصح والبر والعدل
|
وبالغت في
الإبلاغ حتى لقد غدا
|
|
بصدقك صدع
الدين ملتئم الشمل
|
وكم لك حقا
معجزات خوارق
|
|
أضاءت لنا
كالشمس في أفقها المجلي
|
ولدت كريما
من كرام منقلا
|
|
بأطهر أصلاب
مصانا عن الدخل
|
وضعت مجيدا
رافع الرأس حامدا
|
|
لربك مختونا
وسربلت بالفضل
|
فأنعم بميلاد
النبي الذي به
|
|
لنا شرف سامي
الذرى وارف الظل
|
إلى أبيات أخر
ذكرها المرادي. وأورد له قصيدة أخرى نبوية.
وله مخمسا
أبيات الحاجري بقوله :
غريمي غرامي
فيك يا من إذا بدا
|
|
جمال محياه
أبان لنا الهدى
|
ترفق فقد
أشمت في حبك العدا
|
|
أيا حرم
الحسن البديع الذي غدا
|
ومن
حوله عشاقه تتخطف
|
إلى كم أقاسي
في الهوى لوعة النوى
|
|
وقد جد بي
وجدي وصبري قد ثوى
|
فيا من بلام
الخد للحسن قد حوى
|
|
عسى عطفة من
واو صدغك في الهوى
|
أعيش
بها والواو ما زال يعطف
|
لئن غبت عن
عيني وشطت معاهد
|
|
فإني على
الأشجان فيك مكابد
|
وحوشيت عما
قال عني حاسد
|
|
فإن غرامي
بعد بعدك زائد
|
وحقك
عما كنت تدري وتعرف
|
وله مقتبسا :
معشر العذال
إني
|
|
لي بسر الحب
علم
|
لا تظنوا بي
سلوّا
|
|
إن بعض الظن
إثم
|
وله عاقدا :
الراحمون لقد
أتى يرحمهم
|
|
رب العلا
الرحمن نصا محكما
|
يا أيها
الناس ارحموا من قد غدا
|
|
في الأرض
يرحمكم غدا من في السما
|
وله عاقدا حديث
حسان الوجوه :
قد توسمت فيك يا قرة العين نجاحا ودفع كل كريه
جازما حيث
قال خير البرايا
|
|
اطلبوا الخير
من حسان الوجوه
|
وله تخميس
بيتين من بين المصراعين :
مالي إذا وضع
الكتاب وسيلة
|
|
تجدي إليّ
ولا لديّ فضيله
|
وعيون آمال
النجاة كليلة
|
|
مني فلا أمل
ولا لي حيله
|
أنجو
بها من هول يوم الموعد
|
إلا اعتراني
بالذنوب وأنني
|
|
ما زلت دهري
للمعاصي أجتني
|
وركبت متن
غوايتي فأضلني
|
|
وأضعت أوقاتي
سدى لكنني
|
متمسك بلواء آل محمد
وله مضمنا :
يا رب قد
وافيت بابك ضارعا
|
|
أرجو رضاك
وأنت أمن اللائذ
|
متوسلا بمحمد
وبآله
|
|
هذا مقام
المستجير العائذ
|
وله أيضا :
أمعذبي من
دعج نجلاويه قد
|
|
قرطست أحشائي
بهم نافذ
|
وقلبتني حتى
خفيت عن الخفا
|
|
وسددت بالهجر
المبيد منافذي
|
فأتيت كعبة
حسنك الزاهي بها
|
|
متشبثا لما
غدوت منابذي
|
أرجو حنانا
منك يزلف نائيا
|
|
هذا مقام
المستجير العائذ
|
وله في التلميح
إلى المثل كقابض الماء باليد :
وخصر يحاكي
يا ابن ودي نحو له
|
|
لجسم معنى
بالصبابة مكمد
|
إذا رمته ضما
يقول لطافة
|
|
ألم ترني
كالقابض الماء باليد
|
ومن غرامياته
هذه القصيدة البديعة التي مطلعها :
أما والهوى
إني بحسن التجلد
|
|
أروح بهجري
كل وقت وأغتدي
|
أكابد تبريحا
عن الصد والقلى
|
|
ومالي براح
عن غرام مسهد
|
وهي طويلة جدا
، وله غير ذلك.
وكانت وفاته
سلخ رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف رحمهالله تعالى ا ه.
أقول : قد كنت
اطلعت على ديوانه في بعض المكاتب في حلب ، غير أنه لم يتيسر لي نقل شيء منه.
١٠٨٤ ـ حسين بن مصطفى الزيباري المتوفى سنة ١١٧٣
حسين بن مصطفى
بن حسن الزيباري الحلبي ، الشيخ الفاضل الأديب.
ولد سنة أربع
وتسعين وألف ، وأقام بمدرسة الشعبانية بحلب مدة خمسين سنة ، وأكب على الطلب حتى
برع في الأدب ، وكان له اسم بين شعراء حلب ، فمن شعره قصيدة مدح بها أحد حكامها
مطلعها :
من الله أرجو
نصرة الحق والشرع
|
|
بأمن ويمن
دائم الخصب والنفع
|
بمقدم أهل
الجود والمجد والهدى
|
|
وميض المحيا
في العلا طيب الطبع
|
سليمان سيف
الله ذي الفخر في النهى
|
|
فضيل كسعد
الدين والسيد السبع
|
ومنها :
ودمت قرير
العين ما جن غاسق
|
|
وما بزغت شمس
على الوتر والشفع
|
ومنها :
لذلك وافانا
البشير مؤرخا
|
|
سليمان سيف
الله بالحق والشرع
|
توفي بحلب سنة
ثلاث وسبعين ومائة وألف رحمهالله تعالى.
١٠٨٥ ـ عبد المعطي بن معتوق المتوفى سنة ١١٧٤
عبد المعطي بن
معتوق الحلبي البيري ، نسبة إلى بيرة الفرات ، الحنفي الصالح الورع.
كان صاحب ثروة
، ثم قعد به حاله فاشتغل بالنسخ وتجويد الخط ، فكان له الخط الحسن ، أخذ ذلك بدمشق
عن الرجل الصالح الشيخ محمد العمري الدمشقي المشهور ، وعاد لحلب فانتفع في الخط به
الكثير.
وكان شكلا حسنا
وله المنادمة العجيبة والمطارحة الغريبة ، مع الصلاح والتقوى والتخلي للعبادة.
وكان له في يديه ورجليه أصابع زائدة قطع بعضها ، وهذه الزيادة في الأصابع استمرت
في عقبه أيضا ، وكان يكتب عن نفسه بألتي برمق ، ومعناها بالعربية ست أصابع. وكانت
له الحظوة عند الولاة فمن دونهم.
توفي رحمهالله تعالى ونفعنا به بداره الكائنة بمحلة الجلّوم ثامن عشر
ربيع الثاني يوم الأربعاء سنة أربع وسبعين ومائة وألف ، ودفن خارج باب قنسرين في
التربة التي فيها مزار
الشيخ عبد الرزاق أبي نمير ، وكانت له جنازة حافلة رحمهالله تعالى.
١٠٨٦ ـ علي بن مصطفى الدبّاغ الميقاتي المتوفى سنة ١١٧٤
علي بن مصطفى
الملقب بأبي الفتوح الدبّاغ المعروف بالميقاتي الشافعي الحلبي ، صاحب العلوم
الغزيرة والتصانيف الشهيرة ، العالم الإمام المحقق المحدث الأديب الماهر النحرير
الشيخ البارع المدقق القدوة.
كان أحد من
أنجبتهم الشهباء في زماننا واشتهروا بالفضل والأدب ، وكان له في كل فن القدح
المعلّى ، عليّ الهمة ، كاشفا في المعلومات كل مدلهمة.
ولد في سنة
أربع ومائة وألف ، وقرأ القرآن ، واشتغل بطلب العلم على جماعة كالعالم الشيخ أحمد
الشراباتي ، والفاضل الشيخ سليمان النحوي. وارتحل إلى دمشق وأخذ بها عن الأستاذ
الشيخ عبد الغني النابلسي والشيخ محمد الغزي مفتي الشافعية والشيخ عبد الكريم
الخليفتي المدني والشيخ عبد الله بن سالم البصري المكي والشيخ أبي الطاهر الكوراني
المدني والشيخ محمد عقيلة المكي والشيخ أبي الحسن السندي نزيل المدينة والشيخ محمد
المعروف بالمشرقي المغربي والشيخ منصور المنوفي والشيخ عبد الرؤوف البشبيشي والشيخ
أبي المواهب الحنبلي الدمشقي والشيخ محمد بن علي الكاملي الدمشقي. وله مشايخ
كثيرون من أهل الحرمين ومصر والقدس وغير ذلك.
وكان له
المعرفة التامة بالأنساب والرجال والتاريخ. وكان موقتا بجامع بني أمية بحلب.
وله من التآليف
شرح على البخاري وصل فيه إلى الغزوات ، وحاشية على شرح الدلائل للفاسي.
وكان شعره
رائقا نضيرا ، وله مقاطيع وموشحات وغير ذلك ، فمما وصلني من ذلك قوله :
لطلعة وجه
المصطفى النور كله
|
|
على حسب
استعداد رائيه نورها
|
هي الشمس
تعطي الشيء ظلا بمثله
|
|
وإن قلت الجدوى فمنا قصورها
|
__________________
وله تضمين
الحديث الشريف المسلسل بالأولية :
أول ما
أسمعنا أهل الأثر
|
|
مسلسل الرحمة
عن خير البشر
|
للراحمين
يرحم الرحمن إر
|
|
حموا لمن في
الأرض تحظوا بالبشر
|
إن الجزا
يرحمكم من في السما
|
|
وحسبنا رحمته
من الظفر
|
وله في النعل
الشريف :
لنعل طه من
التشريف مرتبة
|
|
تهدي إلى
حاملي تمثاله نعما
|
فاجعل على
الرأس تمثالا لصورته
|
|
وقبّل النعل
إن لم تلثم القدما
|
وانظر إلى
السر منه للمثال سرى
|
|
وكل مثل حذوه
صار ملتثما
|
وله :
من شرف الحب
وتخصيصه
|
|
أن يلحق
الأدنى بعالي الرتب
|
لذا جعلت
الحب للمصطفى
|
|
وشاهدي ألمرء
مع من أحب
|
وله :
في رؤية
المختار من خلفه
|
|
كما يرى
قدامه في الشهود
|
اختلفت آراء
من قبلنا
|
|
والحق بالعين
بهذي الحدود
|
ولا عجيب أن
يرى بعضه
|
|
من هو عند
الكل عين الوجود
|
وله مضمنا :
وفى لي حبيب
بالوعود وعندما
|
|
طمعت بوصل لا
يقاومه شكر
|
تبدى رقيبي
واعترتني هزة
|
|
كما انتفض
العصفور بلله القطر
|
والأصل فيه قول
بعضهم :
وإني لتعروني
لذكراك هزة
|
|
كما انتفض ...
الخ البيت .
|
وقد ضمنه أحد
الأدباء في المجون فقال :
__________________
رعى الله
نعماك التي من أقلها
|
|
قطائف من قطر
النبات به قطر
|
أمد لها كفي
فأهتز فرحة
|
|
كما انتفض
العصفور بلله القطر
|
ومن نثر
المترجم ونظمه ما كتبه مقرظا به على رسالة الأديب البارع الشيخ سعيد ابن السمان
التي ألفها في المحاكمة بين الأمرد والمعذّر ، وهي طويلة ساقها المرادي بتمامها
وقد دلت على رسوخ قدمه في الأدب ، وختمها بقوله :
ونعود لأصل
المسألة فنقول : وليس من الكمال حب الرجال ، ولله در من قال : ليس الحب إلا لذوات
الجمال. وقال بعض السادة الرؤساء : استراح من اقتصر على النساء. شعر :
أحب النساء
وحب النساء
|
|
فرض على كل
نفس كريمه
|
وإن شعيبا
لأجل ابنتيه
|
|
أخدمه الله
موسى كليمه
|
ومن البين عند
أهل النظر ، أن رجلين تحت لحاف خطر ، فربما يتثلم العامل وينوب مفعول به عن فاعل.
من قال
بالمرد فإني امرؤ
|
|
إلى النسا
ميلي ذوات الجمال
|
ما في سويدا
القلب إلا النسا
|
|
يا حسرتي ما
في السويدا رجال
|
وأحسن ما يقع
به الاقتداء والاتساء : (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء).
وارحمتا
للعاشقين تحملوا
|
|
خطر السرى
وعلى الشدائد عولوا
|
بل وارحمتا
لعشاق الصور المشتغلين عن المؤثر بالأثر ، لو عاودوا النظر لوقعوا على جلية الخبر.
رأى بعض من صحبنا صورة استحسنها ، فعاود النظر ليتزود نظرة أخرى منها ، فكشف عن
بصره فرآها ميتة يتناثر الدود عنها ، فتاب واستغفر من ذلك الشهود ،
__________________
ورجع لما هو
المطلوب والمقصود.
لو فكر
العاشق في منتهى
|
|
حسن الذي
أسباه لم يسبه
|
ويحه كلف بما
لا يدوم ، وافتتن بالموجود المعدوم ، وغفل عن الحي الباقي القيوم. من نظر في مصارع
إخوانه علم أنه أخيذ ، ومن فكر في كرب الخمار تنغصت عنده لذة النبيذ. من أحس بلفظ
الحريق فوق جداره ، لم يصغ بسمعه لنغمة العود ورنة أوتاره ، رأى الأمر يفضي إلى
آخر فصير آخره أولا. ولله در ساداتنا النقشبندية ، فإنهم بنوا أمرهم على هذه
القضية ، فالحازم الذي يجعل الحب حيث يرقيه ويرفعه ويعليه ، ويخلصه ويزكيه ، ويطهر
بصيرته عن نظر الأغيار ، ويوقفه تحت مجاري أقدار الواحد القهار ، ويسمعه النداء
الدائم ، ابن آدم أنا يدك اللازم ، وينزهه عن مدارك القوى الحسية والمشاعر الجسمية
، ويعبر به عن بحار المعارج الروحية ولذات المعارف السبوحية.
على نفسه
فليبك من ضاع عمره
|
|
وليس له منها
نصيب ولا سهم
|
اللهم اقسم لي
ولأخي من ذلك أوفى قسم وأوفر نصيب ، وفرّغ قلوبنا من حب غيرك فإنه لا يجتمع مع حبك
حب الغير يا سميع يا مجيب.
يا واحدا متعدد
الأسماء
|
|
أدعوك في
ختمي وفي مبدائي
|
وإليك أرفع
راحتي متوسلا
|
|
بشفيعنا
السامي على الشفعاء
|
أن تحفظ
المولى الذي أفكاره
|
|
صاغت بديع
النظم والإنشاء
|
ذاك السعيد
محمد السامي إلى
|
|
أوج العلا
لحيازة العلياء
|
المعتلي
ببيان كل عويصة
|
|
والمعتني
بغرائب الأنباء
|
هو أفقه
الشعراء غير مدافع
|
|
في الشام بل
هو أشعر الفقهاء
|
فاق الرفاق
بفطنة وبلاغة
|
|
وبراعة
وفصاحة وذكاء
|
لو كنت من
فئة تقول بأغيد
|
|
ما ملت في
التشبيه للغيداء
|
لله درك يا
أديب زماننا
|
|
كيف اهتديت
لغامض الأشياء
|
فالقول دونك
مذهب ابن نباتة
|
|
أو رب زد في
حيرتي وعنائي
|
__________________
كم ذا تستر
خيرة في حيرة
|
|
هذا المقام
نهاية الصلحاء
|
فاسكن إذا
سكن الفؤاد وعش به
|
|
متنعما
بالرتبة القعساء
|
وإليكها
رعبوبة جاءت على
|
|
قدر مجللة
بفرط حياء
|
قدمت عذري
والكريم مسامح
|
|
وهديتي
التسليم غب دعائي
|
وله غير ذلك.
وكانت وفاته
ليلة الجمعة رابع ربيع الأول سنة أربع وسبعين ومائة وألف رحمهالله تعالى. ا ه.
وله موشحة عارض
بها الأديب حسين أفندي الصالحي يمدح بها حلب الشهباء وأفاضلها الأدباء ومطلعها :
حلب الشهبا
وهاد النظر
|
|
ومهاد قد
تعالت عن نظير
|
وهي مذكورة
بتمامها في تاريخ ابن ميرو ، ولها شرح يظهر أنه لنفس المؤلف على طريقة الأدباء بين
ما فيها من النكت الأدبية والمحسنات البديعية ، وقد أشرنا إليها في المقدمة.
وله مضمنا كما
نقلناه عن تاريخ عبد الله ميرو قوله :
أقول وقد طال
التصابي إلى الحمى
|
|
وأجفان عيني
بالمدامع تهمع
|
لئن كان هذا
الدمع يجري صبابة
|
|
على غير سعدى
إنه لمضيع
|
وله مذيلا :
ألا إن
الجمال يهاب طبعا
|
|
وتخضع عند
رؤيته الأسود
|
وذاك لأن
مولانا جميل
|
|
بنور جماله
امتلأ الوجود
|
وله وقد أجاد :
زمان اللبيب
على ضد ما
|
|
يريد فيلقى
عناء طويلا
|
إذا ما ترجاه
في ممكن
|
|
رأى واجبا
جعله مستحيلا
|
ا ه.
١٠٨٧ ـ الشيخ سعد اليماني المتوفى سنة ١١٧٤
سعد بن سعيد
الأهدلي المرادعي اليماني ، المقيم بحلب مدة تنوف على أربعين سنة.
صحب أول دخوله
حلب الشيخ الصالح محمد هلال شيخ القادرية ، وجلس معه لتربية الأطفال بالمكتب
الكائن بمسجد البهرمية بحلب مدة طويلة ، ثم أذن له في افتتاح الذكر وقراءة الأوراد
وجعله خليفة له بحياته ، واجتمع عليه جماعة أخذوا عنه طريق القادرية. وسكن ... ثم بجامع المشاطية وبه دفن في قبلية الجامع المذكور
باجتماع كلمة جهلة من أهل تلك المحلة ومن إخوانه ، وقبله كذلك كان دفن شيخه
المذكور في صحن زاويته المعروفة به بمحلة الجلّوم.
وكان الشيخ سعد
المذكور معتقدا صالحا أقعد قبل وفاته ، وكان يحمل في محمل صغير على ظهر دابة لأي
مكان كان. وكان شديد السواد كأنه نوبي ، إلا أنه كان يحدث أنه لم يمسه الرق وأنه
من اليمن وخرج من تلك الناحية وهو صغير ، وهو ثقة فيما حدث.
توفي سابع
عشرين ذي الحجة سنة أربع وسبعين وماية وألف ودفن من الغداة وقد ناهز الثمانين ،
ولم يعقب. ا ه.
الكلام على جامع المشاطية :
هذا الجامع
واقع في محلة المشاطية خارج بانقوسا ، ولا يعلم تاريخ بنائه ، غير أن في الصحن
محرابا مزخرفا قليلا يدل شكل بنائه أنه مما بني في القرن التاسع أو العاشر ،
ومنارته تدل على ذلك أيضا.
وقبليته
مستطيلة طولها ١٣٧ قدما وعرضها ٣٧ قدما وذلك مع الجدران وفيها قبر المترجم كما
تقدم. وهناك خزانتان ممتلئتان مصاحف مخطوطة وهي مهملة وفي حاجة إلى الترميم ،
وبعضها جميل الخط يقتضي أن يحفظ في الخزائن ، وليس في القبلية من الآثار ما يستحق
الذكر.
وله صحن واسع
طوله ٩٠ قدما وعرضه ٤٢ ، وهناك قبر يعرف بقبر الشيخ إبراهيم
__________________
المشاطي لم أقف له على ترجمة ، وشمالي الصحن مصطبة واسعة فيها محراب كانت
قديما مسجدا على حدة ، وقد كتب على ظاهر المحراب أن صاحب الخيرات الحاج محرم بن
فتح الله سنة ١١٣٢.
وفي الجهة
الغربية من الجامع زاوية لبني الناشد يظهر أنها بنيت في زمن الشيخ عبد القادر
الناشد الكبير خليفة الشيخ سعد اليماني ، وقد كانت وفاته سنة ١٢٠٤ ولم أقف له على
ترجمة ، ووقفت على تاريخ وفاته في مجموعة الشيخ عبد الرحمن المشاطي.
١٠٨٨ ـ حسين بن محمد الديري المتوفى سنة ١١٧٤
حسين بن محمد
الديري ، نسبة إلى الدير بقرب رحبة مالك ، الحلبي الشافعي الشريف.
قرأ على والده
المذكور ، وكان والده مشهورا بالصلاح يقرىء بعض المقدمات للمبتدئين ، ويقرىء بعض
الأجزاء الحديثية في الأشهر الثلاث بأموي حلب ، واقتفى أثره ولده المترجم في
القراءة واتخذ لفاقته التربة الخشابية الكائنة بمحلة باب قنسرين سكنا له ولعياله.
وتوفي سنة أربع
وسبعين ومائة وألف سادس عشر جمادى الآخرة وأعقب ودفن (بياض بالأصل). ا ه (ابن ميرو).
أقول : لعله
دفن في تربة الصالحين ، فإن أخاه الشيخ عبد القادر دفن فيها كما سيأتي في ترجمته.
١٠٨٩ ـ عبد الوهاب آغا شريف المتوفى سنة ١١٧٥
الحاج عبد
الوهاب آغا ابن محمد ابن الحاج عثمان آغا ابن الشيخ عبيد الله ، وقيل إن محمد بن
عمر بن عثمان بن عبيد الله أصله من حدة : قرية صغيرة في الحجاز بين جدة ومكة ، من
عشيرة تيم التي ينسب إليها أبو بكر الصديق رضياللهعنه.
كان رحمهالله يتعاطى التجارة وصار ذا ثروة طائلة ، وله شهادة في كتاب
وقف عثمان
باشا باني المدرسة العثمانية ، ووقف في آخر حياته وقفين الواحد دكانان تجاه
جامع المهمندار وقفه على ثلاثة رجال من الحفظة على أن يبدأ بتعميرهما أولا ثم يدفع
في كل شهر ثلاثون بدل حكرهما للجامع المذكور ، ووقف وقفا آخر على ذريته ونسله.
وكانت وفاته
سنة ألف وماية وخمس وسبعين. ا ه. (بعض المجاميع).
١٠٩٠ ـ ناصر جلبي الشهير بباقي زاده المتوفى حول سنة ١١٧٥
من الأسر
الشهيرة في حلب أسرة باقي زاده ، وعميدها في هذا العصر ثريا بك ابن حسني بك ، وهو
أديب فاضل يعد في طليعة الكتاب بالقلم التركي ، وذلك لأن تحصيله كان في المكاتب
التركية ، وهو مقيم الآن في الإسكندرونة هو وأولاد أخيه ، وقد اتخذها والده الموما
إليه وطنا له كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى ، وهو يتردد إلى حلب كثيرا
للإشراف على وقف جده الأعلى وهو المترجم ، ووقف جده أحمد أفندي لأنه المتولي
عليهما الآن.
سألت ثريا بك
أن يكتب لي تراجم النابغين من عائلته والذين أشغلوا مناصب علمية وإدارية في الدولة
العثمانية ، فكتب لي رسالة طويلة أقتطف منها الأصل الذي ينتسبون إليه وترجمة
المترجم ، قال :
إن (باقي زاده)
هو لقب عائلتنا منذ القدم ، وأصلنا من الأكراد الأيوبيين يتصل نسبنا ببطل الإسلام
ومؤسس الدولة الأيوبية (صلاح الدين يوسف ابن أيوب) ، غير أني مع كل أسف لا يمكنني
أن أعداد الجدود مسلسلا لذاك العهد ، لأن جميع الأوراق والمستندات والحجج الشرعية
والفرمانات السلطانية والبراءات الملوكية التي كانت محفوظة في المكتبة التي أسسها
المرحوم والدي حسني بك بقصبة الإسكندرون التي اتخذها موطنا ثانيا له قد احترقت مع
الدار جميعها وصارت طعمة للهيب النيران بعد أن نهبت محتوياتها وما كان فيها من
الآثار النفيسة والمقتنيات والكتب القيمة ، وذلك من قبل العساكر الإفرنسية
الأرمنية على إثر الإشغال العسكري لدول الائتلاف وانسحاب الدولة العثمانية من
سورية ووقوع حادثة ١٧ شباط سنة ١٩١٨ بالإسكندرونة التي على إثرها حصلت حادثة حلب
__________________
وذلك في ٢٨ شباط من هذه السنة ، وغاية ما يمكنني إثباته هنا هو نتيجة ما
عثرت عليه بعد التحري من قيود المحاكم الشرعية وأوراق منسوخة من أصلها بقيت بأيدي
البعض من أفراد العائلة نظرا لاحتياجهم إليها ، وكذا خلاصة ما علق بالذاكرة مما
نقله لنا السلف وجرى ذكره في حياة والدي. ويمكنني أن أذكر لكم أول جد وقفت على
اسمه من هذه القيود وتلك الأوراق التي وقعت بين يدي. أما من كان قبله من الأجداد
فليس في الوسع أن أتعرض لذكرهم لأن يد الدهر قد طمست أخبارهم وذهبت بآثارهم
وأحوالهم.
والذي كنت
أسمعه من والدي المرحوم نقلا عن والده عن أجدادنا أن أول أجدادنا الذي قطن حلب كان
ذا سطوة ونفوذ في نواحي هذه البلاد تجاوز بهما اللازم ، فاهتمت الدولة العثمانية
بأمره وتداركت الأمر باسترضاء بعض أقاربه وإقطاعهم مقاطعاته وإسناد الزعامة إليه ،
وبهذه الوسيلة توقفت لإلقاء القبض عليه بسهولة ونفته إلى حلب وصادرت أملاكه
وأمواله وضبطت مقاطعاته وعوضته عن كل ذلك بتخصيص ثلاثة آلاف دينار في السنة على
شرط أن يتناولها من بعده أولاده وأحفاده ، وهكذا كان ، فإن أجدادنا لعهد قريب
كانوا يتقاضونها ، ثم صارت الدولة تنتقص منها شيئا بعد شيء إلى أن ألغتها بتاتا.
أما ذاك الجد
واسمه وتاريخ نفيه وتعيين موطنه السابق واسم نواحيه التي كان زعيمها ورئيسها فهو
مما غاب عنا الآن ، ولا يهدينا لحقيقته إلا قيود الدولة وسجلاتها ، وذلك وإن يكن
غير مستحيل وبدائرة الإمكان إلا أنه صعب الحصول ويحتاج للنقد والوقت.
وأول من نعرفه
من أجدادنا هو عبد الباقي آغا ، فقد جاء في سجل وقف حفيده (المترجم) المسجل بتاريخ
سنة ١١٦٨ للهجرة ما نصه : حضر بمجلس الشرع الأنور السيد الحاج ناصر جلبي ابن
المرحوم السيد عبد القادر آغا ابن المرحوم السيد عبد الباقي زاده وقرر إلخ ما ذكره
في كتاب وقفه ، فيكون الموما إليه عبد الباقي آغا أول جد أثبته لنا التاريخ.
أما ناصر جلبي
فقد كان من ذوي الثروة والوجاهة في حلب ، ويقف بنا العلم عند هذا الحد ولا نقدر أن
نعين مولده ووفاته ، وغاية ما نقول أنه صاحب الوقف الأول المسجل سنة ١١٦٨ كما مر
ذكره ، وعلى طريق الظن أن وفاته كانت حول سنة ١١٧٥. ووقفه غريب في بابه حيث شرط
مساواة أولاد الإناث من الأجانب بأولاد الذكور العصبة لا
يحرم أحدا منهم ، ولذا أصبح المرتزقة في هذا الوقف يعدون بالمئات ، ولعل
غاية الواقف من ذلك والحكمة فيه أنه قصد جمع شمل نسله وعقبه ليكون ذلك سببا
لتعارفهم وتقاربهم وتعاونهم وتعاضدهم وتقويتهم على العمل يدا واحدة عملا بما قيل :
(المرء كثير بأخيه) ، وهي غاية شريفة لو انتظمت حالة متولي الأوقاف وحسنت أخلاق
المرتزقة.
١٠٩١ ـ غياث الدين البلخي الشافعي المتوفى سنة ١١٧٥
غياث الدين
البلخي الشافعي ، الشريف العالم العامل العارف الورع الزاهد ، ابن الشيخ الكامل
جمال الدين ابن الشيخ العارف غياث الدين التوراني ، وتوران علم على مملكة الأزبك.
مولده كما أفاد
رحمهالله تعالى سنة سبع وثلاثين ومائة وألف ببلخ ، وهو وآباؤه
ببلخ مشهورون مشايخ نقشبنديون وللناس فيهم مزيد اعتقاد ، ولم يزل بينهم بركة ذلك
الناد ، إلى أن توجه عليهم طهماس فأباد نظام هاتيك البلاد ، وشتت شمل من بها من
العباد ، فارتحل صاحب الترجمة بعد وفاة أبويه إلى بخارى واشتغل على علمائها إلى أن
فاق الأقران ، ثم خرج منها ودخل السند والهند واليمن والحجاز ومصر والشام ، ووصل
إلى حلب سنة خمس وسبعين ومائة وألف ، فأقام بها مدة في حجرة بجامعها الأموي.
ثم عزم على
التوجه إلى بغداد فخرج منها إلى عينتاب فمرض هناك وعاد إلى حلب ، واشتد مرضه إلى
أن توفي يوم الأربعاء قبيل الظهر ثالث عشر رمضان سنة خمس وسبعين ومائة وألف ، ودفن
خارج باب أنطاكية بتربة الولي المشهور الشيخ ثعلب شرقي تربته رحمهالله تعالى.
١٠٩٢ ـ حسين بن أحمد الداديخي المتوفى سنة ١١٧٥
حسين بن أحمد
بن أبي بكر المعروف بالداديخي الحلبي.
كان فاضلا
بارعا أديبا ، ذا نكتة ومعرفة ، له باع طويل في الشعر العربي والإنشاء أيضا ،
وكذلك الإنشاء التركي.
ولد بحلب سنة
خمس وتسعين وألف ، ونشأ بها وقرأ على أفاضلها.
وله تأليف سماه
«قرة العين في إيمان الوالدين» ، وكتاب في السياسة ، وله تأليف حافل نظير تعريفات
السيد سماه «الفيض المنبوع في المسموع» ، وله حاشية على الدرر نحو ثلاثين كراسة.
وكان له القدم
الراسخ في ميدان الأدب والشعر الرائق المرغوب عند بني حلب. وكان مدرسا بمدرسة
البولادية خارج باب المقام المشهور بباب الشام في حلب بتربة السليمانية المتعارفة
بين الموالي.
وكان يتولى
النيابات حتى استوعب نيابات المحاكم الأربع بحلب من طرف قضاتها في أزمان متفرقة.
وقبل وفاته بمدة عشر سنين لزم داره ، وبالعزلة وجد راحته وقراره ، بعد أن وقع بينه
وبين الشيخ طه منافسة وعداوة أدت إلى غدره ، وكانت علة قهره.
وله بديعية
غراء مطلعها :
لي في ابتداء
انتدائي مزنة الكرم
|
|
براعة تستهل
الفضل بالقلم
|
تركيب سائلها
يسدي لسائلها
|
|
في حل ما حل
إطلاقا من العدم
|
فازمم زمام
النوى إن النوال غدا
|
|
لحاقه يوقع
الأحرار في ضرم
|
ما للأيادي
النوادي من مكارمها
|
|
مثل الأيادي
النوادي في عكاظهم
|
يا صاحبي صاح
بي حظي الملفق من
|
|
بعدي ومن
روعة الأكدار والألم
|
ومنها :
فالقلب
كالراء وسط الهم مضطرب
|
|
مهلا أيا عصر
ما يكفيك عصر دمي
|
فالشكل
كالهاء والقلب الضئيل غدا
|
|
كالراء
والميم مثل الحال في الرقم
|
كإبن شعبة قد
صارت ليالينا
|
|
تعدو علينا
بمعنى غير منهضم
|
ومنها :
دع التفات
العذارى في الغرام وصل
|
|
إلى اكتساب
العلا واسعى لها وهم
|
إن العواذل
بالإيهام في عذلي
|
|
قد أكدوا سوء
ظن الناس بالقسم
|
يا لائمين
على الإحسان غيرهم
|
|
نزهتم النفس
عن إسداه بالذمم
|
يزيد في بغيه
خصمي مشاكلة
|
|
خصم الحسين
يزيد البغي في القدم
|
فأصبحوا لا
ترى إلا مساكنهم
|
|
من اقتباس
دعا المظلوم في الظلم
|
ومنها :
يا نفس صبرا
على كيد الزمان وهل
|
|
يجدي العتاب
وأذن الدهر في صمم
|
برئت من طلب
العلياء إن رجعت
|
|
عنها العزائم
مني أو دنا قسمي
|
يا قلب لذ
بشفيع المذنبين إذا اشتد الزمان بإيغال من الإزم
واجزم لنيل
المعالي بالتخلص في
|
|
مدح الجناب
الكريم العالي الهمم
|
هو الحبيب
الذي ترجى إغاثته
|
|
لكل هول من
الأهوال مقتحم
|
لنيل صعب
العلا حسن التخلص لي
|
|
بمدح إبن
رسول الله ذي الهمم
|
ومنها :
تم البديع على
الوجه البديع إلى النادي البديع الذي منماه من إضم
مولاي يا
واحد العليا ومانحها
|
|
ومنقذي من
أليم الغدر والتهم
|
خذها بديعة
حسن البيان لها
|
|
يعنو لها
فصحاء العرب والعجم
|
من فكرة
تشتكي الآلام من زمن
|
|
قد استوى فيه
حر الطير والرخم
|
ومنها :
تبا لدنيا
ترينا من تقلبها
|
|
خيال ظل على
التحقيق لم يدم
|
أين الذين
مضوا أين الذي ملكوا
|
|
أين الذين
بنوا الأهرام مع إرم
|
أين الذين
مضوا في عصرنا وغدا
|
|
خيالهم نصب
عين الفائق الفهم
|
أين الصدور
الذي كنا نعاضدهم
|
|
على الوفاء
بحفظ العهد والذمم
|
ومنها :
ودم مصان
العلا عن منع ذي أمل
|
|
لاج لعلياك
في بدء ومختتم
|
__________________
وكانت وفاته في
أوائل صفر سنة خمس وسبعين ومائة وألف رحمهالله تعالى.
١٠٩٣ ـ محمد بن شيخه صغيره المتوفى سنة ١١٧٥
محمد ابن السيد
عبد القادر الشريف ، الحافظ لكتاب الله تعالى ، الشهير بشيخه صغيره ، الإمام
الحنفي بجامع الأموي بحلب الصبح والمغرب سنين تنوف عن الثلاثين.
حفظ القرآن على
الرجل الصالح السيد عبد الله المسوتي. وكان صيّتا حسن القراءة ، ضبط في آخر عمره
لحفص ، وكان يقرأ ما تيسر من جزء وقف لقراءته في شهر رمضان الشيخ طه بن مصطفى
المعروف باليوسفي وبالأحمري لسكناه داخل باب الأحمر المتوفى سنة ١١٥٤ أربعين
عثمانيا.
وكان المترجم
في حلقة القادرية منشدا سطا عليه مرة بعض من يحضر الحلقة بعد الفراغ وهو ذاهب إلى
محله فضربه على عينه فسالت ، فأمسك الضارب وحبس ، ثم هو رحمهالله عفا عنه محتسبا.
أخذ طريق
القادرية من عدة شيوخ كالسيد عبد اللطيف والسيد محمد بن الأصفر والشيخ صالح
المواهبي وولده شيخنا الشيخ محمد المواهبي.
توفي رحمهالله تعالى مطعونا في غرة ذي الحجة سنة ١١٧٥ ودفن خارج باب
الفرج وقد ناهز السبعين وأعقب ا ه. (ابن ميرو).
١٠٩٤ ـ محمد بن علي المشهور بحاجي أفندي المفتي المتوفى سنة ١١٧٦
محمد بن علي
المشهور بحاجي أفندي الكلزي ، الفاضل الفقيه العفيف العلامة المفتي بحلب.
مولده في
ابتداء هذا القرن بمدينة كلّز ، وقرأ بها ورحل لدمشق وقرأ بها ، وحج ولقي الأفاضل
وأخذ عنهم. وكان أصوليا فقيها متحريا ، تعاطى خدمة الفتوى بحلب مرتين بمدرسة
الخسروية من غير خادم ولا من يكتب له السؤال ، إلا في المرة الأولى كان عنده من
يكتب السؤال ، ثم ترك وباشر ذلك على أتم الوجوه والتحرير والصلح بين المتخاصمين
من غير تناول شيء منهم من الحطام حتى ولا على الفتوى في غالب الأيام ،
وربما هو أعطى بعض الفقراء السائلين. ومعيشته من معلوم المدرسة إذ هو قائم بالشرط
ومن أرض له معدة للزراعة في بلدته وكروم. ولا يقيم للدنيا وزنا ، ولا يجتمع
بالولاة ولا بالقضاة إلا عند وصول القاضي للبلدة لضيافة مشروطة على من يكون مفتيا
، مقبل على شأنه.
حصلت له علة
آخر عمره في رجليه واستمرت إلى أن توفي مطعونا ليلة الأحد ثامن عشر المحرم سنة ست
وسبعين وماية وألف ، ودفن من الغد بالمدرسة الخسروية بمقبرتها ، وأعقب رحمهالله تعالى ا ه. (ابن ميرو).
أقول : لا زال
قبره موجودا في جنينة المدرسة جنوبي القبلية.
١٠٩٥ ـ أبو بكر الوزير والي حلب المتوفى سنة ١١٧٦
ذكرت في الجزء
الثالث (ص ٢٧٤) ولايته لحلب سنة ١١٧٤ نقلا عن السالنامة ولم أزد على ذلك ، ثم وقفت
على ترجمته في تاريخ ابن ميرو وأنه توفي في هذه السنة ، فلذا ذكرته هنا. قال :
أبو بكر الوزير
الشهير الفاضل الدراك المتقن ، تخرج على الكامل المشهور مصطفى أفندي الشهير بطاوقجي
باشي وعليه تدرب ، وصاهره. وولي المناصب العديدة في الدولة العلية إلى أن أنعمت
عليه الدولة بعد وفاة والي حلب عبد الله باشا الصدر السابق بمنصب حلب برتبة
الوزارة ، فدخلها يوم الأحد ثاني عشري شوال سنة أربع وسبعين وماية وألف ، وعامل
أهلها بحسن المعاشرة والاطراح. وكان به قلق من الصدر الوزير راغب محمد باشا بحيث
إنه لا يقر له.
وفي أوائل رجب
سنة خمس وسبعين وماية وألف وردت الأخبار بعزل المشير المشار إليه من حلب وتوجيه
منصب مصر القاهرة له ، فاستقام بحلب إلى منتصف شعبان ، فرحل إلى مصر على طريق دمشق
وزار بيت المقدس ودخل مصر برا في ثاني عشر شوال سنة خمس وسبعين وماية وألف. وفي
حادي عشر محرم سنة ست وسبعين وماية وألف توفي بمصر فجأة وكثرت الروايات بموته
والله أعلم بحقيقة الحال.
وفي زمنه كان
الطاعون بحلب. وبالجملة فهو سامحه الله نادرة من نوادر الدهر. ا ه.
١٠٩٦ ـ عمر العزازي الإدلبي الشاعر المتوفى سنة ١١٧٦
ذكره الفاضل
برهان أفندي العيّاشي فيما أرسله إلينا من تراجم فضلاء وطنه إدلب فقال :
ومن شعراء
البلدة النابغين في فن الشعر الشيخ عمر العزازي ، وله البديعية المشهورة التزم
فيها ذكر النوع ، سماها «بالحرز المنيع في مدح الشفيع صلىاللهعليهوسلم» مطلعها :
براعتي وبديع
المدح من كلمي
|
|
مستفتحا
بمديح الزاكي الشيم
|
وآله خير آل
حيث ما نسبوا
|
|
إليه في كل
شأن من شؤونهم
|
يا صاح صح بي
فصحبي بان ركبهم
|
|
وأطلقوني
طليق المدمع السجم
|
لما تلفق ثوب
الصبر حان دمي
|
|
من بعد بعدهم
ناديت ها ندمي
|
هم ذيلوني
بخير لاحق بندى
|
|
يروي الصدى
وهو واف وافر السقم
|
طريق تطريف
ثوب العلم لاح لهم
|
|
فلاح كالعلم
المنصوب في العلم
|
ما شح بل سح
وابلهم وصحفهم (هكذا)
|
|
ما حرفوا من
أريج السلم والسلم
|
وضل من ظل
لفظ العدل يؤلمه
|
|
فالقلب من
لذع عذل فاظ بالألم
|
يا معنوي
كلامي من يعيد فلا
|
|
تلقى جوارحه
إلا أخا لخم
|
نزهت قولي
منه عن مسالمة
|
|
رأيته
بالردايا غير متهم
|
ومنها :
في معرض
المدح ذم لا يليق فهم
|
|
الصابرون على
اللأواء كالنعم
|
إني اقتبست
من الفرقان وصفهم
|
|
بل هم أضل من
الأنعام والبهم
|
ولو لا فوات
المقصود عما نحوته من الاختصار لأتيت على آخرها وهي زهاء مئة وستين بيتا. وكانت
وفاته سنة ١١٧٦. ا ه.
١٠٩٧ ـ الحاج موسى آغا الأميري المتوفى سنة ١١٧٧
الحاج موسى آغا
ابن الحاج حسن جلبي ابن الحاج أحمد أمير بن محمد بن علي بن ظفر البصري الشهير نسبه
بأمير زاده ، صاحب الخيرات الكثيرة والوقف المشهور باسمه.
أصله من البصرة ، ولا يعرف على التحقيق أول من قطن من أجداده في حلب. وسبب
تسمية أسرته بأمير زاده أو بأميري زاده أن جده الأعلى كان أميرا كبيرا من أعظم
أمراء البصرة ، فكني هو وآباؤه بذلك.
ولد المترجم في
حلب في أوائل القرن الثاني عشر ، وهو أصغر إخوته الحاج قاسم آغا والحاج إسماعيل
آغا. ونشأ في كنف والده المثري الكبير على الصلاح والتقوى ، ولما ترعرع سلك مسلك
أبيه في تعاطي التجارة وأخذ في الأسفار إلى البلاد النائية كالعراق والهند ، ورزق
الحظ في تجارته التي كانت متصلة مع هذه البلاد ، فنمت ثروته وكثرت أمواله وأقبلت
عليه الدنيا أيما إقبال. ثم ورث من أبيه ومن مماليك أبيه أموالا طائلة أيضا فكثرت
بذلك أمواله بحيث صار في طليعة المثرين في حلب ، ثم وقف من أملاكه الواسعة على
نفسه وعلى ذريته وقفا عظيما عرف باسمه ، وبنى جامعه المسمى جامع الخير والمشهور
الآن باسمه الكائن في محلة السويقة ، وذلك سنة ١١٧٦ ، وبنى الخانين العظيمين
المعروفين به في هذه المحلة وهما من جملة وقفه على مصالح الجامع المذكور وعلى
ذريته ، وبنى السبيل الملاصق للخان ووقف عليه دارا مخصوصة.
وكان مع ثروته
الواسعة حسن الأخلاق مطرح الكلفة متواضعا مع الكبير والصغير والغني والفقير ، لا
يعتني بشؤون نفسه بل يلبس اللباس البسيط تواضعا منه.
حدثني من أثق
به أن رجلا من تجار العراق أتى إلى حلب وكان يسمع بالمترجم ، فأحب أن يجتمع به ،
فسئل عن مكانه فأخبر أنه في خانه في الحجرة الفلانية ، فجاء إليها فرأى رجلا بسيط
الملبس عليه ثوب من الكتان العسلي جالسا على الدكة أمام مكتبه ، فلم يظن أنه
منشوده الطائر الصيت لبساطة ملبسه ، فعاد راجعا يتساءل من أتباعه عن سيدهم ، فأجيب
بأنه هو الرجل الذي رأيته جالسا.
ومما يحكى عن
محبته للفقراء ومكارم أخلاقه أن سائلا وقف له فأعطاه ، ثم وقف له ثانية وقد بدل
زيه فأعطاه ، وهكذا مرات متعددة وهو يعطيه ، وفي آخر الأمر انتهره عبد المترجم وقد
كان ماشيا معه ، فالتفت إلى العبد ولامه على ذلك وأجزل العطية للسائل مع معرفته
بما فعله.
وكان له أربع
زوجات وأربعون حظية من الكرج والجركس ، كان يؤتى له بهن من
الآستانة وجم غفير من الخدم والعبيد والجواري السود والبيض ، وكان ينفق
عليهم نفقة واسعة بسخاء زائد. وينقل عنه أنه كانت توفيت إحدى زوجاته ، وبعد وفاتها
أراد أن يتزوج بسيدة من بنات الأعيان ، فخطبها فاشترطت لقبولها أن لا يضرها بواحدة
، فوعد بذلك ، وبعد زمن قليل جاء بأربع حظيات في آن واحد ، فذكرته بوعده عاتبة ،
فتبسم وقال لها : إنني لم أخلف ، وعدت بأن لا آتيك بواحدة أما هؤلاء فأربع.
وكان يأذن
لعبيده في التجارة سفرا وحضرا فيستفيدون من ذلك أموالا جمة ، فكان يعتقهم ويزوجهم
ممن عنده من الجواري ويهبهم من أملاكه وعقاراته ، فصار لعتقائه وعتقاء عتقائه
أملاك وقفوا منها جملة وافرة لم تزل عامرة إلى الآن.
وبلغ من عطفه
عليهم أنه شرط في كتاب وقفه الكبير أن يكون جميع ما يستحقه أولاده وأعقابه بعد
انقراضهم لعتقائه وأعقابهم. وكان الكثير منهم قد حج إلى بيت الله الحرام ، ويحسنون
القراءة والكتابة ولهم خطوط جلية جميلة ، وقطعوا في عهد مولاهم شوطا بعيدا في
الوجاهة بحيث صاروا يعنونون بعنوان آغا مثله ، وأولادهم يلقبون بلقب جلبي كأولاده.
والمعروف من
عتقائه الذكور إبراهيم آغا وابنه محمد جلبي والحاج سليمان آغا والحاج صالح آغا.
ومن جملة من مات قبله من عبيده وخلف أموالا وأملاكا عادت لمولاه بالولاء مملوكه
الشهير الحاج علي آغا الملقب بالكوله ، وكان لمملوكه هذا عبيد وعتقاء أيضا منهم
عبد الله آغا وأولاده الحاج عثمان آغا أحد الواقفين ، وإبراهيم آغا ، ومنهم سليمان
جلبي.
ولم يزل
المترجم على وجاهته وحرمته وحشمته ورخاء عيشه وسخاء يده ومبراته إلى أن توفاه الله
تعالى في السابع والعشرين من شهر شوال سنة ألف وماية وسبعة وسبعين ، ودفن في تربة
العبّارة ، وجاء تاريخ وفاته (في جنان الخلد موسى قد منح) ١١٧٧ رحمهالله تعالى وأجزل ثوابه.
والمشهور من
أولاده الذكور ستة ، وهم الحاج عيسى آغا ، والحاج عبد الله آغا ، والحاج خليل آغا
، والحاج زكريا آغا ، والحاج مصطفى آغا ، والسيد إبراهيم جلبي ، وله ولد سابع اسمه
أحمد آغا توفي شابا قبل وفاة والده بسنة ، وذريته الموجودة الآن هي من نسل الأول
والثاني والثالث لا غير.
والوارد في
الوثائق الشرعية من زوجاته من الأمهات من محاظيه هن خمس : الحاجة صالحة وآمنة
وصفية ورحمة وعائشة ، والأخيرة منهن هي بنت الحاج إخلاص جلبي صاحب الوقف المعروف
بحلب.
والحاجة صالحة
هي بنت نعمة الله جلبي ابن الحاج مصطفى اللبق الآتية ترجمته. وقد جددت المسجد
المعروف بمسجد المعلق في محلة السويقة وذلك في سنة ١١٨٧ ووقفت عليه وعلى مصالح
القسطلين الواقع أحدهما أمام المسجد المذكور والثاني تجاه جامع زوجها عدة عقارات
كبيرة عامرة هي في محلة السويقة.
قال أبو ذر في كنوز
الذهب في الكلام على السهلية (هي سويقة حاتم وراء الجامع الكبير) : ومن قطيعة
السهلية درب آخذ إلى الرواحية ، ثم يأخذ إلى درب شمس الدين ابن العجمي وبه مسجد
معلق يقال أنشأه شهاب الدين بن عشائر ، وكان به ربعة يقرأ فيها ويدعى عقب القراءة
للواقف. ورأيت في حدود الخانقاه الشمسية أن المسجد كان موجودا عند بنائها ،
فالظاهر أن شهاب الدين المذكور جدده لا ابتكره. وله وقف بالقرى على قراءة سبع به
أنشأه العفيف وقاعة بالقرب من آدر شيخنا المذيل وصارت الآن ملكا. ا ه.
وفي محرم سنة
١١٧٧ وقف وقفه الكبير وشرط النصف من الموقوف على نفسه مدة حياته ، ثم من بعده فعلى
أولاده الذكور والإناث ، ثم من بعدهم فعلى أولادهم وأعقابهم أن يكون الاستحقاق
بينهم بترتيب الطبقات تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى. إلى أن قال : فإذا
انقرضوا عاد وقفا على عتقائه وأولادهم كما سبق. وبهذين الشرطين وهما تشميله لأولاد
الإناث وجعله مرتبا طبقات الطبقة العليا تحجب السفلى صار أولاد الإناث الذين هم
بعيدون عن الأسرة الأميرية وليس لهم رابطة بها سوى أن جدة جدة جدتهم كانت من بنات
أحد أولاد الواقف يستحقون في ريعه وينحصر بهم أو بأحدهم سنين طوالا ، وأولاده
الصلبيون محرومون من تناول شيء من ريعه لأنهم أنزل طبقة. وشرط الواقف على هذه
الصورة من الغرابة بمكان ، وقد استدعى انتباه جل الواقفين بحلب الذين أتوا بعده
إلى الحيف الذي
__________________
يصيب أولادهم الذكور من هذا الشرط ، فتعمدوا عدم تشميل ما وقفوه لأولاد
البنات الأباعد لأنه كما قال الشاعر :
بنونا بنو
أبنائنا وبناتنا
|
|
بنوهن أبناء
الرجال الأباعد
|
ولاشتراط
الواقف هذا الشرط حكاية غريبة ، وهي أنه كان في سنة ١١٦٤ وقف وقفا قبل إنشاء جامعه
المتقدم مشتركا بين الخيرات والذرية ، وخصص قسمه الذري لأولاده الذكور والإناث
وقال : إذا تزوجت الأنثى يعود نصيبها لأخوتها ، فساء ذلك إحدى بناته المتزوجات ،
والمظنون أنها السيدة الحاجة زينب ، فعمدت بعد المذاكرة مع والدتها إلى إعمال
الحيلة لتبديل فكر والدها وإرجاعه عن حصر الوقف في أولاده الذكور وحرمان البنات
المتزوجات ، وهي أنه كان يوما من الأيام فأخذت زوجته تنظر إلى الأثواب واحدا بعد
واحد ، إلى أن وقع نظرها على ثوب نفيس من الحرير ، فتظاهرت بالدهشة والاستغراب من
وجود هذا اللباس معها وشرعت تستنطق الدلّالة عن كيفية وصوله إليها ، فقالت لها : إني
مررت بالأمس على العائلة الفلانية فأعطتنيه خفية إحدى السيدات لأبيعه ، وأسرت إليّ
بأنها في أشد اللزوم لثمنه ، فعندما سمعت جواب الدلّالة تظاهرت بالكدر وتنهدت
وهمست بأذن زوجها قائلة : إن هذا اللباس لابنته ، وبناء على ضيق يدها اضطرت لعرضه
للبيع ، فتأثر المترجم من ذلك كثيرا وأعطى الدلّالة ثمنه مضاعفا وصرفها ، وبعد
ذهابها قالت له زوجته : إذا اضطرت ابنتك لبيع ثيابها وأنت حي فكيف يكون حالها وحال
ذريتها بعدك! فازداد تأثرا ونجحت حيلة البنت وأمها حيث إنه ما لبث حتى غيّر ذلك
الوقف بوقف آخر أعظم منه شامل لأولاد البنات.
وفي هذه السنة
وهي سنة ١٣٤٥ منحصر ريع هذا الوقف العظيم بسعيد أفندي الأميري المعروف بالصوراني
وهو متولي الوقف الآن وشقيقته الحاجة مريم وابنة عمه السيدة أمة الله بنت أحمد
أفندي ، وهم من ورثة الواقف الذكور ، والحاج صالح العداس وهو من ذرية الواقف
الإناث من نسل ليلى بنت الواقف.
ولأولاد الواقف
وبناته وزوجاته وعتيقاته وزوجات أولاده أوقاف كثيرة في وجوه الخير والبر ، وهي
عامرة إلى الآن ، ولو ذكرنا ذلك بطريق الاستقصاء لطال الكلام فاكتفينا بالإشارة
إلى ذلك.
الكلام على جامعه المعروف باسمه :
موقعه في
المحلة المعروفة بسويقة علي بجوار مدرسة النارنجية التي كانت قديما محكمة للشافعية
، تم إنشاؤه سنة ١١٧٦ ونقش فوق بابه ثلاثة أبيات مصراعها الأخير هكذا :
أرخ جامعا أوتيت سؤلك يا موسى ١١٧٦
وكتب فوق منبره
ثلاثة أبيات أيضا الأخيرة منها :
وبالكلام القديم
أرخ
|
|
قد جاء أن
الصلاة تنهى ١١٧٦
|
وهنالك لوح من
الخشب معلق في جدار القبلية كتب فيه ثلاثة أبيات الأخير منها :
لذلك موسى
بالتقى شاد أرخوا
|
|
أساس بناء
وهو للخير جامع
|
وقبليته حسنة
البناء طولها ٢٥ وعرضها ١٧ ذراعا مع الجدران ، وأمامها رواق كان ضيقا وسع سنة ١٣١٢
، وله صحن واسع طوله ٣٧ وعرضه ٢٦ ذراعا مع الجدران ، وكان في وسط هذا الصحن حوض
كبير وراءه مصطبة تحت رواق ، ووراء المصطبة ثلاث حجر يقطنها بعض الخدمة أحيانا ،
ففي سنة ١٣٤٢ أزيل هذا الحوض واتخذت تلك الحجر قصطلا كبيرا ورفعت المصطبة واتخذ
موضعها مصلى وصار الناس يتوضؤون من الحنفيات ويصلون ثمة ، وبذلك حفظ هذا الماء من
الأوساخ ومن النتن الذي يلحقه من الوضوء خصوصا أيام الصيف ، ولا ريب أنه عمل حسن
يشكر عليه متولي الوقف الشيخ سعيد أفندي وناظره بهابك الأميري. وفوق الرواق
الشمالي والحجرة التي بجانبه حجرة هي مكتب يؤدب فيه الأطفال بعض المشايخ يتناول
راتبه من هذا الوقف ، وقد بني من قبل الواقف لهذه الغاية ، وشرقي الصحن خمس حجر
للمدرس والطلاب والخدم. وله منارة مرتفعة مستديرة الشكل.
قال الواقف في
شرط وقفه : والربع الرابع من العقارات الموقوفة يصرفها المتولي في مصالح الجامع ،
فيصرف من غلة الربع الرابع في كل يوم ١٦ عثمانيا فضيا لمن يكون إماما في الأوقات
الثلاثة الجهرية بمقابلة إمامته المذكورة وبمقابلة قراءته عشرا ، ويدفع في كل يوم
٨ عثمانيات فضيات لرجل يصلي إماما في وقت الظهر والعصر ، ويدفع في كل يوم ١٤
عثمانيا فضيا لرجل يؤدب الأطفال ، ويدفع في كل يوم ٤٥ عثمانيا لخمسة عشر نفرا
من حفظة القرآن ليقرؤوا في كل يوم بعد صلاة العصر خمسة عشر جزءا ، ويدفع في
كل يوم ٤ عثمانيات لرجل حافظ يقرأ سورة الكهف في كل يوم جمعة ، ويدفع كل يوم أربع
عثمانيات لرجل يقرأ كل يوم سورة يسن ، ويدفع كل يوم أربعة وعشرين عثمانيا لرجل من
العلماء الكرام يقرأ كل يوم الفقه الشريف والنحو للطالبين ، ويوم الاثنين والخميس
يقرأ الحديث ، وفي الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان يلازم كل يوم بعد الظهر قراءة
الحديث الشريف ، ويدفع أربع عثمانيات لمعيد الدرس العام بين يدي المدرس.
والمدرس فيه في
عصرنا هذا العالم الفاضل الشيخ أحمد الزرقا ، وقد كان قبله والده الفقيه الكبير
شيخنا الشيخ محمد الزرقا رحمهالله تعالى.
الكلام على الأثر النبوي الذي في هذا الجامع :
في سنة ١٣٢٨
كان الناظر على هذا الوقف بها بك الأميري في دار السلطنة العثمانية إستانبول
بمناسبة انتخابه عضوا في مجلس المبعوثين ، ولما انتهت مدة المجلس وعزم بها بك على
العود إلى وطنه صدرت الإرادة السنية أن يعين له وقت للمثول بين يدي حضرة السلطان
محمد رشاد ، ففي الوقت المعين توجه إلى سراي بشكيك طاش وهناك استقبل من قبل رجال البلاط
الملوكي استقبالا حسنا ، ثم أدخل على حضرة السلطان فلقي منه كمال الحفاوة وأحسن
الاستقبال ، وبعد أن أعرب عن حبه الجم للأمة العربية والبلاد العربية دار بينهما
بعض الشؤون المتعلقة بعمران حلب ومن جملتها سكة حديد بغداد ومرورها بجانب حلب ، ثم
قال له : عندي من الآثار النبوية شعرتان من شعر النبي صلىاللهعليهوسلم موضوعتان في حقين من ذهب ، واحدة استبقيتها لنفسي
والأخرى أهديتها لك ، فشكره على إنعامه الجزيل ، فأمر له بها في الحال. ثم طلب منه
السلطان أن يعيد الزيارة في اليوم الثاني ، فلما زاره قدم له السلطان رسمه في لوحة
كبيرة موقعا عليه بخطه وهو محفوظ عنده.
ولما اتصل خبر
هذا الإنعام بالأهلين هنا بادر وفد لاستقبال بها بك الموما إليه إلى بيروت ووفد
إلى حمص ووفد إلى حماة ، ويوم وصوله إلى حلب خرج الألوف من الأهلين لاستقباله وكان يوما مشهودا.
__________________
ووضعت الشعرة
النبوية في خزانة نجرت تنجيرا حسنا في قبلية الجامع عن يمين المنبر قبل حضورها
داخل صندوق من الحديد ، وهي الآن فيه تخرج للتقبيل أيام المواسم ، وأخذ رسم هذه
الخزانة بالمصور الشمسي. وحين عودة بها بك إلى الآستانة زار حضرة السلطان وقدم له
الرسم فأظهر له ارتياحه وامتنانه ، وحين عودته أرسل معه السلطان هدية ثمينة وهي
قطعة من الشال الهندي البديع لتوضع على ضريح سيدنا يحيى في الجامع الأعظم مع ستائر
من الديباج مؤلفة من ثلاث قطع مطرزة تطريزا بديعا ، وقد كتبت عليها الآيات
القرآنية لتوضع على الخزانة أيضا ، وكان لوضع هذه الهدية أيضا يوم مشهود وذلك في
سنة ١٣٢٩.
١٠٩٨ ـ أبو بكر بن منصور المعروف بابن فنصة المتوفى سنة ١١٧٧
أبو بكر بن منصور
المعروف بابن فنصه ، الشريف لأمه ، الحنفي الحلبي الفاضل الكامل ، من المنوه بهم
في حلب بين رؤسائهم.
ولد بها في سنة
أربع وثمانين وألف ، وقرأ على الفضلاء بها وبرع ، وصار مدرسا صاحب رتبة. وكان له
لدى الحكام في أموره إقدام ، نفي وأجلي بسببه مرارا ، منها في سنة أربع وستين
ومائة وألف ، أجلاه الوزير السيد أحمد باشا مع من ساق من أعيان حلب ، فاستقام في
بلدة بيلان ، إلى أن عزل الوزير المذكور من حلب ووليها صاري عبد الرحمن باشا ،
فعاد إليها واستمر الحال إلى أن مات.
وكانت وفاته في
يوم السبت خامس جمادى الثانية سنة سبع وسبعين ومائة وألف عن ثلاث وتسعين سنة ،
وأعقب ، ودفن في التربة الأمينية خارج باب قنسرين. وفنصة اسم جدته أم والده كانت
من قرية من قرى حلب ، رحمهمالله. ا ه.
١٠٩٩ ـ حسين الدركزنلي المتوفى سنة ١١٧٧
حسين الدركزنلي
الشافعي ، الصالح المبارك الواعظ الحسن الخلق والخلق.
قدم حلب بعياله
ونزل بالمدرسة الجعفرية بمحلة سويقة حاتم. كان يعظ الناس بالجامع الأموي في الجانب
الغربي ويتكلم باللغة التركية ، وإذا قرر كأنه منذر جيش حرصا على
النصيحة. وكان من الورع على جانب عظيم لا يماري كبيرا ولا يمتهن صغيرا ولا
يقيم للدنيا وزنا. وكان له ولد يدعى إسماعيل لم يبلغ العشرين نجيب فاضل ورع كامل
أصيب به في طاعون سنة ١١٧٥ فاحتسبه وصبر ، وفي السنة التي بعدها توجه إلى الحج
فتوفي آيبا من الحج قرب دمشق رحمهالله.
١١٠٠ ـ طه بن مهنا الجبريني المتوفى سنة ١١٧٨
طه بن مهنا
الشافعي الجبريني المحتد الحلبي المولد ، العالم الفاضل المتقن العلامة المحقق ،
واحد الدهر في الفضائل ، المفسر المحدث ، صاحب الإحاطة بالعلوم العقلية والنقلية.
كان ألمعيا وحيدا ، له الذكاء المفرط ، كاملا بحاثا محققا مدققا ورعا زاهدا ناسكا.
ولد في سنة
أربع وثمانين وألف ، وطلب بنفسه وأخذ عن علماء ذلك العصر ، وحبب إليه
الطلب إذ بلغ فسعى وجد واجتهد.
ورحل إلى
الحجاز في سنة إحدى وثلاثين بعد المائة ، وسمع صحيح البخاري على شارحه المتقن
الضابط أبي محمد عبد الله بن سالم البصري وأجاز له به وبباقي ما يجوز له. وقرأ
العربية على الشيخ عيد المصري. ومن مشايخه الشيخ تاج الدين القلعي مفتي مكة والشيخ
عبد القادر المفتي بها أيضا ، وأخذ عنهما وعن الشيخ يونس المصري والشيخ أبي الحسن
السندي ثم المدني وغيرهم.
وعاد إلى وطنه
واشتغل بالإفادة وألحق الأحفاد بالأجداد. ثم عاد إلى الحجاز في سنة إحدى وستين بعد
المائة أيضا وجاور بمكة المكرمة نحوا من سنتين ، وعاد إلى وطنه.
وكتب على صحيح
البخاري قطعة صالحة وصل بها إلى المغازي ، وله تراجم أهل بدر الكرام رضياللهعنهم وغير ذلك من التحريرات ، وانتفع به خلق لا يحصون كثرة. وله
مداعبة لأحبابه.
__________________
وكان يعاني
حرفة الألاجة تنسج له وتباع ، ولم يكن له وجه معيشة ولا وظيفة غير
ذلك.
وله شعر ، فمن
شعره الذي خدم به سيد المرسلين عاقدا للحلية الشريفة قوله :
يا أهيل
النقا لقد همت وجدا
|
|
في هواكم وقد
جفا الجفن سهدا
|
ما تناسيت
للربوع بسلع
|
|
سل من الركب
من تناسيت عهدا
|
كيف أنسى
وفيكم من تسامى
|
|
في سماء
السماء فخرا ومجدا
|
خاتم الرسل
سيد الكون طه
|
|
من غدا في
شمائل الحسن فردا
|
ذو جبين سما
الهلال ووجه
|
|
أخجل البدر
بالبها إذ تبدى
|
في أساريره
سنا الشمس تجري
|
|
من سناه
اهتدى الذي ضل رشدا
|
أهدب الجفن
فوق خد أسيل
|
|
أكحل العين
بالنقوس مفدّى
|
أفرق السن إن
تبسم تلقى
|
|
مثل حب
الغمام والدر نضدا
|
أزهر اللون
أنفه كان أقنى
|
|
بالقنا للعدا
أباد وأردى
|
شثن الكف
للكراديس ضخم
|
|
راحتاه جودا
من البحر أندى
|
ربعة كان إن
مشى يتكفى
|
|
رجل الشعر
ليس سبطا وجعدا
|
كان فخما
مفخما يتلالا
|
|
خافض الطرف
أكثر الخلق حمدا
|
بين كتفيه
مثل بيض حمام
|
|
خاتم
الأنبياء للخلق مبدا
|
ومغيث لمن
أتى مستجيرا
|
|
من ذنوب فاضت
على البحر مدا
|
وصريخ
لمستريع خطوب
|
|
قد توالت
عليه عكسا وطردا
|
ورؤوف بنا
وأيضا رحيم
|
|
كم حباني
فضلا وللخير أسدى
|
يا رسول
الورى سميّك طه
|
|
قد سعى في
الهوى مكبا مجدا
|
كلما كان
يستعد لرشد
|
|
أخرته القيود
عما استعدا
|
وهو قد حل في
حماك وحاشا
|
|
أن ينال
المنيخ بالباب ردا
|
وصلاة الإله
في كل آن
|
|
مع سلام إلى
ضريحك يهدى
|
وإلى الآل
والصحاب جميعا
|
|
ما سنا كوكب
بأفق تبدى
|
وله غير ذلك.
__________________
وكانت وفاته
ضحوة نهار الخميس الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثمان وسبعين ومائة وألف ،
ودفن خارج باب المقام قبيل المغرب ، وقبره شمالي قبة العواميد ، وأسف الناس عليه
بعد أن انقطع في بيته في أواخر صفر ومرض نحوا من عشرة أيام واختلط في مدة إقامته
في بيته كثيرا. وأعقب ولدا ذكرا وبنتا.
وقد رأيت بعض
من ترجمه ذكر أنه في فجر يوم وفاته وعنده جماعة منهم أولاد شقيقته وبعض أقاربه من
النساء الخيرات إذ دخل عليه طائر أخضر وحام حوله مرارا والحاضرون ينظرون ذلك
ويعجبون ، ثم جلس على صدره هنيهة وطار.
وقد أرخ وفاة
هذا الأستاذ السيد عبد الله اليوسفي الحلبي بقوله :
بشرى لطه حيث
حا
|
|
ز فضائلا
عقلا ونقلا
|
لقد ارتضاه
وقد حبا
|
|
ه الله مغفرة
وفضلا
|
لما غدا
الفردوس في
|
|
دار البقاء
له محلا
|
أرخته بعلا
الجنا
|
|
ن محدث
الشهباء حلا
|
ا ه ومن نظمه
كما وجدته في ترجمته في تاريخ ابن ميرو :
قم إلى روضة
الحبيب وباكر
|
|
واغتنم فرصة
الزمان وبادر
|
إن مرعى
الشباب يعثو سريعا
|
|
وربيع السرور
كالطيف زائر
|
والثم الثغر
وارتشف ريق حب
|
|
إن لثم
الثغور يجلو الخواطر
|
في زمان
الربيع والنهر جار
|
|
في حياض
الرياض والزهر زاهر
|
باختلاف
الألوان يزهو ويزكو
|
|
باصفرار منه
تسر النواظر
|
واحمرار
كحمرة من عقيق
|
|
مع بياض
كالدر للعقل باهر
|
وطيور على
الغصون تغنى
|
|
كل إلف منها
لإلف يناظر
|
قال : وهي
قصيدة طويلة. ا ه.
١١٠١ ـ عبد الكريم بن أحمد الشراباتي المتوفى سنة ١١٧٨
عبد الكريم بن
أحمد بن علوان بن عبد الله المعروف بالشراباتي الشافعي الحلبي ، الشيخ
الإمام الفاضل المحدث الشهير ، علامة حلب الشهباء وشيخ الحديث بها العلامة
المفيد ذو الهيبة والوقار.
كان عالما
محافظا على السنة الغراء ، محبا لأهل الطريق والدراويش والعلماء ، لا سيما لمن
يقدم لتلك الديار ، أخلاقه حسنة وأوصافه مستحسنة.
ولد بحلب في
سنة ست ومائة وألف ، وقرأ على والده وانتفع به وحضر دروسه الحديثية والتفسيرية
والفقه والعقائد والأصول والآلات ، ثم قرأ على جمع كثير منهم الشيخ مصطفى الحلبي ، والشيخ أسد بن حسين ، وإبراهيم بن محمد البخشي ،
وإبراهيم بن حيدر الكردي ، وسليمان بن خالد النحوي ، ومحمد بن محمد الدمياطي
البدري ، وابن الميت الشعيفي الحلبي ، والعالم الشيخ زين الدين أمين الإفتاء ،
والمحقق المولى أبو السعود الكواكبي ، والعلامة الشيخ يس ابن السيد مصطفى طه زاده
وغيرهم.
وقدم دمشق أولا
في سنة إحدى وعشرين ومائة وألف ، وأخذ عن جماعة منهم الشيخ أبو المواهب الحنبلي ،
والأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي ، والشيخ عبد القادر التغلبي ، والمنلا إلياس
الكردي نزيلها ، والشيخ أحمد الغزي ، والشيخ عبد الرحمن المجلد ، والشيخ محمد بن
علي الكاملي الدمشقي وأجازه بفتح المتعال في النعال للشيخ أبي العباس المقري
المغربي نزيل القاهرة عن المولى الفاضل أحمد الشاهيني الدمشقي وهو عن المقري
المؤلف.
وتوجه إلى الحج
في سنة ثلاث وعشرين وأخذ بالحرمين عن أجلائها منهم المحدث الكبير الشيخ أحمد
النخلي ، والمتقن الرحلة الشيخ عبد الله البصري ، والشيخ أبو طاهر بن العلامة
الرباني الشيخ إبراهيم الكوراني ، والولي المشهور السيد جعفر وغيرهم.
ثم رجع إلى حلب
وهو مكب على القراءة والإقراء مع قيامه بخدمة والده إلى أن توفي والده وذلك في سنة
ست وثلاثين ، وبعد أحد عشر يوما كف بصره فحمد الله وأثنى عليه واسترجع عند
المصيبتين ، ولم يمنعه فقد بصره من الاشتغال بالعلم والحديث ، بل ازداد حرصا
واشتغالا. ثم في سنة ثلاث وأربعين حج ثانيا وأخذ عن المحدث الشيخ محمد حياة السندي
والعلامة الشيخ محمد الدقاق وغيرهما. ثم رجع إلى بلده ودأب في الأخذ
__________________
عن العلماء والأفاضل الواردين إلى حلب. ولما ورد الشيخ محمد عقيلة المكي
والسيد الأستاذ الشيخ مصطفى الصديقي الدمشقي أخذ عنهما وبايعهما. وقبل الحجة
الثانية دخل بلاد الروم واجتمع بعلمائها وحصل عنه وصار له إقبال.
وله تعليقة على
الشفاء الشريف ، وتعليقة على «كنوز الحقائق في أحاديث خير الخلائق» ، و «العطايا
الكريمية في الصلاة على خير البرية» ، ورسالة في ذكر بعض شيء من آثار الولي الكبير
العارف الجد السيد الشيخ مراد الأزبكي نزيل دمشق ، وله رسالة في «تعزية المصاب» ،
وله رسالة «في الفرق بين القرآن العظيم والأحاديث القدسية الواردة على لسان النبي صلىاللهعليهوسلم» ، وله رسالة متعلقة بحزب البحر ، ورسالة في قراءة آية
الكرسي عقيب الصلوات المكتوبة ، ورسالة سماها «المنح الكريمية الدافعة إن شاء الله
تعالى كل محنة وبلية» ورسالة متعلقة بحرز الإمام الشافعي رضياللهعنه قال صلىاللهعليهوسلم يوم الأحزاب فكفاه الله شرهم ، وله رسالة أخرى متعلقة
باسميه تعالى الحي القيوم ، ورسالة في أدعية السفر. وله ثبت جامع سماه «بإنالة
الطالبين لعوالي المحدثين» .
وكان رحمهالله تعالى انتهى إليه في زمنه علو الإسناد ، وألحق بالأباء
والأجداد الأبناء والأحفاد ، مكبا على الإفادة ، حتى صار له الاجتهاد طبيعة وعادة.
وله همة في مطالعة كتب القوم ، ومع ما فيه من الفضل الباهر له كرم وله رحلات إلى
الروم ودمشق عديدة.
وعلى كل حال
فقد كان مفيد الطالبين بحلب حاضرها وباديها ، وعلامة الشهباء وناشر العلم بناديها.
توفي في ضحوة
يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين ومائة وألف رحمهالله تعالى ا ه.
أقول : هو
مدفون في تربة باب المقام. وفي تاريخ ابن ميرو أنه أعقب ولدين هما الشيخ محمد
والشيخ مصطفى ، وقد ذكرهما المترجم في آخر ثبته وأنهما كانا مجازين من الشيخ محمد
المغربي الشهير بالطيب.
__________________
١١٠٢ ـ الشيخ محمد البصيري المتوفى سنة ١١٨٠
له ترجمة موجزة
في تاريخ المرادي ، وترجمه تلميذه الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته «منار الإسعاد»
ترجمة طويلة فقال :
ومنهم (أي من
مشايخه) شيخنا وبركتنا شيخ الإقراء وخاتمة القراء ، القدوة الصالح والمعلم الناصح
، إمام القراءات السبع والعشر ونخبة الأوان والعصر ، مقلد أعناق الطالبين درر
القلائد ، وناشر أعلام الإفادة على الراغبين بنثر الفوائد ، من اجتباه الله لحفظ
القرآن ، واصطفاه لتعليمه بالتحبير والضبط والإتقان ، الفاضل المحقق المقرىء الشيخ
محمد الشهير بالبصيري ابن مصطفى بن حسين بن مصطفى بن حجيج بن موسى الخطيب ، التل
حاصدي مولدا ، الحلبي وطنا ، الشافعي مذهبا رحمهالله تعالى.
ولد سنة إحدى
بعد المائة وألف ، وشهرته بالبصيري لكف بصره ، فقد كف وعمره خمس سنين ، غير أنه
كان يعرف الضوء والأبيض والأحمر كما حققته من لفظه. وأصله من تل حاصد : قرية من
قرى حلب. ورحل إلى دمشق عام أربعين ومائة وألف فأخذ القراءات السبع بمضمن الشاطبية
والتيسير عن الشيخ علي كزبر بقراءته على الشيخ أحمد الأزهري الشهير بأبي قنب ، وهو
عن العلامة الشيخ محمد البقري بسنده. وأخذ أيضا عن شيخنا وصديقنا الشيخ إبراهيم الشهير
بالحافظ ابن الشيخ عباس بقراءته على السيد أسعد ابن المنير الدمشقي وهو عن شيخ
الإسلام أبي المواهب الحنبلي بسنده. وقرأ هو والشيخ إبراهيم طريق العشرة بمضمن
الدرة على العلامة الشيخ مصطفى الأزهري المصري الشهير بالعم ، ثم قرأ عليه أيضا
طريق الطيبة عام أربعة وأربعين في رحلته الثانية بقراءته على أبي المواهب والشيخ
محمد البقري. وأخذ أيضا عن الشيخ الفيومي المصري بقراءته على أبي المواهب والشيخ
علي المنصوري عن الشيخ سلطان المزاحي رحمهمالله تعالى.
وقد برع ومهر
وتقدم على أقرانه وعاد إلى مدينة حلب بنية إحياء هذا الفن بها ، وقد حقق الله
رجاءه فجد في الاجتهاد وأقرأ وأفاد ، وانتفع به خلق لا يحصون كثرة ، وأحيا
القراءات بعد إماتتها ، ونشرها وأظهرها بعد إضاعتها ، فجزاه الله تعالى عن الإسلام
خير الجزا ، وأناله الفردوس في دار الجزا.
وقد حفظت عليه
نصف الشاطبية أوائل قدومي إلى حلب ، وقرأت سورة البقرة إفرادا
وجمعا لأهل سما ولم يتيسر لي الإكمال ، ولكن قد من الله تعالى على ولدي عبد
الله بقراءة هذا الفن عليه ، فشرع في غرة سنة خمس وسبعين ومائة وألف فقرأ عليه
أولا ختمة كاملة برواية حفص عن عاصم بقصد التجويد والضبط مع حفظ الشاطبية ، ثم شرع
في الإفراد والجمع فجمع عليه القرآن العظيم من أوله إلى آخره للأئمة السبعة قراءة
تحقيق وإتقان ، وأجازه بالقراءة والإقراء وأمر له بكتابة إجازة ، ثم قرأ عليه بعد
ذلك ختمة برواية قالون عن نافع ، ثم شرع في ختمة أخرى برواية ورش عنه حتى وصل إلى
آخر سورة النساء ، فأشار عليه الشيخ بالجمع مرة أخرى فقرأ عليه ختما كاملا جمعا
للأئمة السبعة أيضا ، ثم أمره بختم ثالث جمعا أيضا فوصل فيه إلى سورة يوسف ، فمرض
نيفا وخمسين يوما ، وتوفي إلى رحمة الله تعالى بعد ظهر يوم الأحد الثاني عشر من
شهر ذي الحجة الحرام سنة ثمانين ومائة وألف عن ثمانين سنة.
وكان رحمهالله تعالى كثير الصيام وملازمة الطاعة والقيام ، مع الورع
والزهد والتقوى والسخاء والجود والإكرام. وكان حليما لطيفا رفيقا ناصحا.
١١٠٣ ـ نعمة اللبقي المتوفى سنة ١١٨٠
نعمة بن عمر بن
عبد القادر الشريف لأمه الحنفي البغدادي الحلبي المعمر الشهير بابن الباشا.
كان جده
المذكور من أمراء الدولة العثمانية أرسلته إلى الحبشة واليا فتوفي هناك ، وهذا سبب
شهرتهم بالباشا.
مولده سنة ستين
بعد الألف. كان يتعاطى التجارة بخان الكتّان بحلب ، له وجاهة في الناس نير الوجه
واللحية حسن الثياب طويل القامة ذا شكل ظريف. قدم جده من بغداد ، يكنون ببني اللقماني وباللبقي.
توفي صاحب
الترجمة نهار الأربعاء حادي عشر ذي القعدة سنة ثمانين وماية وألف ، ودفن خارج باب
المقام في مقابر الصالحين. ا ه.
__________________
أقول : إن بنت
المترجم هي الحاجة صالحة كانت زوجة للمحسن الشهير الحاج موسى الأميري المتقدم
قريبا ، وقد تقدم ذكرها في ترجمته وأنها كانت من المحسنات أيضا.
١١٠٤ ـ أحمد بن محمد الحافظ المتوفى سنة ١١٨٠
أحمد بن محمد
الحافظ الحلبي الحنفي أمين الكتب الموقوفة بمدرسة الوزير عثمان باشا بحلب. عالم
فاضل عامل كامل.
مولده سنة إحدى
ومائة وألف. وكان في صباه يعاني صنعة المخمل في بيته بمحلة جقورجق ببانقوسا. وكان
إماما بمسجد الشيخ عثمان بالمحلة المذكورة وله درس تحضره الأفاضل. أخذ عن جهابذة
أعلام منهم العلامة عبد الله أفندي البخشي وأخوه العلامة إبراهيم أفندي البخشي
والشيخ خضر المصري نزيل بانقوسا ، وانتفع به كثيرون.
ثم لما بنى
المدرسة المذكورة الوزير المشار إليه ارتحل من المحلة المذكورة وسكن بالقرب منها
ولازم مدرسها العلامة محمود أفندي الأنطاكي وانتفع به كثيرا وقرأ عليه دهرا طويلا.
وحج وقد ناهز الثمانين. ا ه.
أقول : يظهر
أنه توفي حول سنة ١١٨٠ بقليل. ويستفاد من هذه الترجمة أن من جملة الصناعات التي
كانت في حلب صناعة المخمل ، ويؤيد ذلك أنه لازال في الشهباء عائلتان إحداهما مسلمة
والأخرى مسيحية ويلقب كل منهما ببيت المخملجي. سألت التاجر ميخائيل المخملجي وهو
عميد العائلة المسيحية عن نسبتهم هذه أهي لصنعة هذا الصنف أو لبيعه ، فأفادني أن
جدته كانت تحدثه أن أباها كان يتعاطى هذه الصنعة في حلب ، فعلى هذا تكون هذه
الصنعة قد تعطلت هنا منذ نحو مائة وخمسين عاما من حين أن صار هذا الصنف يأتي من
البلاد الغربية.
١١٠٥ ـ يوسف بن أحمد الجابري المتوفى سنة ١١٨٠
يوسف بن أحمد
الحلبي الحنفي الشهير بالجابري ، مدرس بالإسكندرية خارج باب الجنان باعتبار موصلة
الصحن المتعارفة بين الموالي ، الشهم الفاضل المحتشم ، نادرة الفضلاء ونابغة
الفقهاء.
ولد بحلب ونشأ
بها ، وقرأ النحو واللغة الفارسية على الفاضل الشيخ محمد بن هالي الحلبي ، وقرأ
على العالم الشيخ محمود البالستاني والسيد علي العطار والسيد عبد السلام الحريري
والشيخ عبد الرحمن البكفالوني ، وقرأ الهداية على العالم المحقق السيد محمد
الطرابلسي مفتي الحنفية بحلب ، والفرائض والحساب على الشيخ مصطفى اللقيمي والشيخ
يس الفرضي ، وأخذ الحديث عن الشيخ عبد الكريم الشراباتي. وصار علما في الفضائل
يشار إليه ، ومرجعا في المعارف يعول عليه ، جمع من مسائل الفقه ما تفرق وشرد ،
فأوضح ما أغلق منها وقرب ما ابتعد ، طالما استوعب الصباح مجدّا في السهر ، حتى أحاط
من إيضاح معلقات المعاني بما شتت شمل الفكر ، وأحرز حسن الخط وقت الإنشا ، ودرس
مدة في مدرسة الإسكندرية التي جدد بناءها وأنشا.
وكان ذا ذهن
وقاد ونظر نفاد ، تولى مهام الأمور في بلدته فأحسن تعاطيها ، ومالت إليه قلوب
أعاليها وأدانيها ، ثم سلقته الحساد بألسنة حداد ، فسافر في شوال عام إحدى وسبعين
ومائة وألف إلى القسطنطينية وأقام بها ، وحباه صدورها العظام بما استوجبوه له من
الاحترام ، وأحاطوا بفضله ومعارفه علما ، وحققوا فيه حسن الظن والأخلاق حقيقة
ورسما ، فسمت سيرته وزكت شهرته ، فأمر بالذهاب لمصر في معية فاضل وقته عباس أفندي
أحد قضاة القسطنطينية لحصول ما تعذر من الأموال الأميرية ، فأبرز من المساعي ما
حمد ويسر الله تعالى إتمام المقصد ، فقرت منه العين ، ثم أرجع للقسطنطينية عام
أربع وسبعين موثوق القول مشكور السعي والفعل ، فاستخدم في نيابة الكشف ، ثم تكرر
في كتابة الوقائع بدار الخلافة العثمانية ، وحمد طوره ، وذاع بالخير ذكره ، فنزل
المنازل البهية ، وتراءت له بها أسنى المراتب العلية ، فاخترمته المنية في العشر
الأول من ذي الحجة عام ثمانين ودفن بأسكدار رحمهالله تعالى. ا ه.
أقول : كتب لي
الصديق الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي الجابري أن المترجم محرر على قبره هناك أنه
قتل ظلما ولم تعرف قصة قتله.
١١٠٦ ـ الشيخ أبو بكر بن أحمد الهلالي المتوفى سنة ١١٨٣
أبو بكر بن
أحمد بن علي الشافعي القادري الحلبي ، الشيخ الصالح الورع الزاهد المسلّك المرشد.
مولده بقرية
دارة عزة غربي حلب في سنة تسع وستين وألف. وصحب شيخه الشيخ محمد هلال وبه انتفع
وعنه أخذ طريق القادرية ، وخلّفه شيخه المذكور في حياته. وهذه الفرقة من هذه
الطريقة المباركة يخلّفون إذا صدر لهم الإذن بعد تكرار الرؤيا مرارا من يختاره
الله تعالى أن يكون الخليفة في حياتهم. وبعد وفاة شيخه جلس في زاويته لقراءة
الأوراد وإقامة الأذكار ، وانتفع به الناس ، وأعقب له ولدا يقال له محمد هلال ،
خلّفه والده في حياته وألبسه الأخوان تاج والده بعده.
أخبر الشيخ عبد
الله الشهير بابن شهاب أنه كان صاحب الترجمة يوما بصحن الجامع الأموي بحلب عند
العمود وعنده جماعة من أحبابه ثلاثة أو أربعة ، قال : فأتيت إليه وقبلت يده ، فأخذ
يباسطني بالسؤال ، وإذا برجل من الأشراف جاء ليقبل يد صاحب الترجمة ، فزجره وصاح
به : اخرج وابعد ، ولم يرد قربه منه ، فعطف الشريف إلى نحو باب الجامع الغربي ،
فاتبعته إلى أن خرج الشريف من الباب وسألته عن ذلك فقال : إني محدث حدثا أكبر
وسهوت.
وله كرامات
ظاهرة ، وبالجملة فقد كان شيخا صالحا معتقدا.
وكانت وفاته في
نهار الخميس الثاني والعشرين من ربيع الثاني سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف قبل
العصر ، ودفن بالزاوية المعروفة به التي دفن بها شيخه بتعصب من أهله وبعض جهال.
وكان مرضه نحو خمسة أيام بالحمى.
وأرخ وفاته
السيد عبد الله اليوسفي الحلبي بقوله :
لصاحب هذا
الرمس سر غدا يسري
|
|
ونور جليّ
واضح حالة الذكر
|
لذا خصه
مولاه أسنى مكانة
|
|
وأسمى مقام
ساطع بسنا البشر
|
وكان مع
الأبرار في جنة البقا
|
|
يلوح بهاتيك المنازل
كالبدر
|
فقولوا
لأبناء الطريق وأرخوا
|
|
تهنّى بفردوس
الجنان أبو بكر
|
١١٨٣
هذا ما ذكره
المرادي في تاريخه ، لكن المكتوب على ضريحه غير هذه الأبيات ما عدا البيت الأخير
فإنه كما هنا.
وجرى له في
حياة شيخه واقعة حال يطول شرحها أدت به أن يقول :
أحبابي يا
أحبابي
|
|
فلازموا في
الباب
|
ولا تقولوا
من لها
|
|
فأنتم كفء
لها
|
وكتب بذلك إلى
الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي فنظم موشحا وجعل هذين البيتين لازمة لهذا الموشح
، وقد ذكر ذلك في أوائل ديوانه المسمى «ديوان الحقائق ومجموع الرقائق» المطبوع في
مصر سنة ١٣٠٦.
وعبارته ثمة :
وقال رضياللهعنه وقد طلب منه بعض الأحباب من أهل حلب الشهباء (هو
المترجم) تذييلا على طريقة الموشح لبيتين وردا في الواقعة على قلب بعض الصوفية في
مدينة حلب وهما (أحبابي يا أحبابي) إلخ ، فقال قدس الله سره في ذلك :
يا جملة
الأقطاب
|
|
والسادة
الأنجاب
|
ويا أولي
الألباب
|
|
أشكو إليكم
ما بي
|
أحبابي يا
أحبابي ... إلخ دور
بدا جمال
العالي
|
|
ولاح نور
الوالي
|
وأشرقت
أحوالي
|
|
وثار ليث
الغاب
|
أحبابي يا
أحبابي ... إلخ دور
بشائر
التوفيق
|
|
تشير للتحقيق
|
ورتبة الصديق
|
|
تلقيك في
الأعتاب
|
أحبابي يا
أحبابي ... إلخ
|
|
|
دور
وتتمته في
الديوان ، وكان ينشد هذا الموشح في حلقة المترجم.
وأرخت تبعا
للمرادي وفاة شيخه الشيخ محمد هلال الرامحمداني سنة ١١٤٨ ،
والصواب كما هو منقوش على قبره أنها كانت سنة ١١٤٧. وقد كتب على ضريحه هذه
الأبيات :
إن الذي ضم
هذا الرمس جوهرة
|
|
لا زال
إشراقها في الكون متصلا
|
قطب الزمان
فريد العصر بدر دجا
|
|
حاز الكمال
بنور الله حين علا
|
فكم أضاء
لسار في بدايته
|
|
فحاز سبل
التناهي وارتقى نزلا
|
فقلت مذ غاب
عنا في مؤرخه
|
|
هلال أفق
العلا في رحمة أفلا
|
١١٤٧
١١٠٧ ـ الشيخ عمر بن شاهين الرفاعي المتوفى سنة ١١٨٣
ترجمه ابن ابنه
الشيخ محمد أبو الرفا الرفاعي وقال في أولها إنه نقلها من تاريخ المرحوم عبد الله
آغا الميري وأضاف إليها إضافات ذكرها المؤرخ استطرادا في تراجم أشياخه وقد نقلتها
عن خطه.
قال المؤرخ (عبد
الله ميرو) : عمر بن شاهين الشريف الحنفي الفاضل المتقن الضابط المقري. كان والده
جنديا.
ولد بحلب سنة
سبع ومائة وألف بعد وفاة والده بخمسة شهور ، وقام بتربيته أخوه السيد عبد القادر
واتخذه ولدا ، وأقرأ القرآن العظيم ، ولما بلغ من السنين عشر سنين أخذه إلى المقري
الشهير عامر المصري نزيل مدرسة الحلوية ، فقرأ عليه من أول القرآن إلى آخر سورة
إبراهيم عليهالسلام. ثم توفي الشيخ المذكور إلى رحمة الله فقرأ على الشيخ
عمر المصري شيخ القراء ختما كاملا بالتحيق والتجويد ، ثم شرع في حفظ القرآن العظيم
على الشيخ المذكور في تلك السنة فحفظه في مدة قليلة ، والتزمه الشيخ المذكور لما
توسم فيه من النجابة والذكاء ، فصار يصحبه ويتدارس معه ويعلمه كيفية القراءة
بالألحان مع مراعاة التجويد كما أخبر صاحب الترجمة للمؤرخ رحمهماالله تعالى على ما أثبته في التاريخ وصورة ما ذكره في ترجمة
الشيخ عمر المصري المذكور قال : أخبرني شيخنا الفاضل المتقن السيد عمر أفندي
الرضائي حفظه الله تعالى قال : حفظت عليه أي على الشيخ المصري القرآن العظيم وسني
اثنتا عشرة سنة ، والتزمت خدمته وكنت أقيم أكثر أوقاتي عنده في المسجد الذي تحت
الساباط في أول زقاق بني الزهرا ويعرف قديما بدرب الديلم ، قال : وكان
يصحبني معه إلى القراءات وكنت أقوده إلى المكان الذي يريده ، وكان يتفرس فيّ
النجابة ، وكان يعلمني الألحان من رسالة كانت عنده ويعلمني كيفية الانتقال من نغم
إلى نغم ويقول : إن ذلك يلزم من كان إماما ، وأنت ربما تصير إماما ، قال : وكان
يعلمني كيفية قراءة التحقيق والترتيل والتدوير والحدر والوقف والابتدا ، ويباحثني
في طول النفس لأنه رحمهالله كان يدرج ثلاث وأربع آيات من الآيات المتوسطات في نفس
واحد ، وكان يقرأ آية المداينة في ثلاثة أنفاس من غير إخلال بالحروف ولا جرمذة.
رجعا إلى ترجمة
المترجم رحمهالله. قال المؤرخ :
ثم قرأ
الأجرومية وحصة من شرح القطر على العلامة عبد الرحمن العاري ، ثم قرأ على عبد
اللطيف الزوائدي ، وقرأ الفقه على الفاضل المعمر قاسم النجار ، وحضر دروس العلامة
محمود أفندي الرضائي في التفسير من أول سورة الأنفال إلى آخر سورة الفرقان لم يفته
شيء ، وسمع على المولى المذكور غالب الجامع الصحيح بالرضائية ، وكتب بخطه شرح
السفيري على بعض أحاديث الجامع الصحيح ، وقرأ على العلامة السيد حسن الطباخ. يقول
محرر هذه الترجمة ولد والده السيد محمد وفا : وأنا رأيت هذا الكتاب المذكور في
مكتبة المرحوم السيد بكري ابن الطبلة بعد وفاة ولده السيد علي جلبي طبله زاده عند
أخويه السيد عبد الرحمن والسيد سعيد وأردت شراءه منهما ، وكنت أخذت منهما بعض كتب
مثل صحيح البخاري وغيره فتوقفا في بعيه ضنة به ، ثم بعد مدة رأيته عند المرحوم
قدسي أفندي ، ثم عند ولده تقي الدين أفندي. قال المؤرخ :
وقرأ السيرة
الحلبية رواية مرتين مع الفاضل أحمد المصري ، وكتب بخطه طريق الهدى للعلامة أبي
الوفا العرضي ، وطالعه مع الشيخ العارف محمد صلاح ، وقرأ الكثير.
وفي سنة ست
وأربعين وماية وألف كتب حرز الأماني وعرضهما بعد حفظهما على المتقن الماهر المقري
الشيخ محمد البصيري ، وقرأ عليه القرآن العظيم من طريقها جمعا وإفرادا لكل راو
ختما في مدة ستة أشهر ، وأجازه الشيخ المذكور بالإجازة بالقراءة والإقراء وشهد له
بالأهلية.
ثم في سنة ثمان
وأربعين ومائة وألف وجهت له إمامة الصلوات الجهرية بجامع الرضائية ،
فباشرها مع بعد داره عن الجامع المذكور.
يقول محرر هذه
الترجمة : ثم بعد مدة نقلوه إلى دار عظيمة قريبة من الجامع المذكور رغبة فيه
مشهورة بدار الجربوعي ، وبها تزوج المرحوم الوالد ولم يقم بها مدة طويلة لعدم طيب
هواها.
قال المؤرخ :
وطلب منه العلامة محمود أفندي الأنطاكي المدرس أن يقرأ القرآن العظيم في صلاة
الصبح على التأليف الشريف يسمع العوام الذين لا يقرؤون القرآن جميع القرآن العظيم
في صلاة الصبح وأن تكون كل ختمة لراو من رواة الأئمة السبعة ، وقال : كذا سمعت
الأئمة في الحرمين الشريفين يقرؤون في الصلوات وفيه نفع وفائدة ، وفيه أثر مروي عن
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضياللهعنه أنه أتي برجل سرق نصابا ، فسأله فأقر بالسرقة ، فأمر
بقطع يده ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين ، لم تقطع يدي؟ فقال : كذلك أمر الله
تعالى بقوله (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) فقال : يا أمير المؤمنين ، ما سمعت هذه الآية قط ، ولو
سمعتها لم أسرق ، فقال له : هذا العذر لا يسقط عنك حدا من حدود الله تعالى ، فقطعه
، لكن حصل له على الرجل أسف وحزن شديد ، فكتب إلى أمراء الآفاق أن يقرؤوا القرآن
العظيم في الصلوات الجهرية على التأليف الشريف ليسمع المقتدون جميع أحكام الله
وحدوده. فشرع صاحب الترجمة يقرأ في صلاة الصبح كما طلب المدرس المذكور ، فكان يقرأ
في كل سنة ختمتين ونصف ختمة أو أقل من ذلك ، فصار يهرع إليه الناس في صلاة الصبح
من محلات بعيدة من الجامع لحسن صوته وجودة قراءته وطيب ألحانه مع مراعاة الأحكام
ومخارج الحروف ، وأتقن كثير من المصلين قراءتهم من السماع وصار لذلك نفع عظيم ،
واقتدى بذلك جماعة من أئمة الجوامع فصاروا يقرؤون القرآن العظيم في صلاة الصبح على
التأليف الشريف أحسن الله له الثواب في المآب.
ثم إنه بعد
صلاة الصبح يجلس في حجرته في الجامع المذكور ويقرىء القرآن لمن يريد القراءة ولا
يرد أحدا ، سواء كان من أهل البلدة أم من الغرباء ، ويحصل له من المشقة العظيمة في
تعليم الأتراك وتعديل ألسنتهم في مخارج الحروف والنطق بها ، ويزدحمون على الأخذ
عنه لأنه يقرر لهم باللغة التركية فيفهمونه ، فلذلك كثر الآخذ عنه من الأتراك
وغيرهم
__________________
فلا تخلو بلدة من بلاد الروم من تلميذ له وتلميذين وثلاثة.
وفي سنة إحدى
وستين ومائة وألف وجه له الوزير إسماعيل باشا خطابة الجامع الذي أنشأه بساحة بزي
بعشرين عثمانيا ، ثم انحطت الوظيفة بعد موت المشار إليه إلى ثمانية عثامنة. واستمر
صاحب الترجمة يباشر إمامة جامع الرضائية على الوجه المشروح إلى سنة خمس وسبعين
ومائة وألف ، فاعتراه الضعف الطبيعي والعجز عن المجيء إلى الجامع. يقول محرر هذه
الترجمة : وذلك لموت ولده السيد محمود النجيب الأديب في سنة ١١٧٣ ، وكانت والدته
بنت الحاج محمد الحريري الشهير بالفلاح عرضها والدها عليه رغبة فيه وزوجه إياها
وأمهرها من ماله وأتحفه بها ، فأولدها السيد محمود وخديجة أم الخير ، وكان محمود
من الجمال وحسن الصوت والخط والفهم والذكاء وقوة الحافظة والكمال على جانب عظيم ،
وكان يتوسم فيه أن يفوق عليه ، فطعن سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف ومات مطعونا ،
فأسف هو والناس عليه أسفا عظيما وانقصم ظهره لموته وانحطت قوته جزاه الله عن
مصيبته به أحسن الجزاء.
وكنت أسمع ممن
شاهد ذلك أن محمودا المذكور كان إذا أذن في بعض الأوقات في المسجد الذي بقرب داره
ينقطع الطريق من الازدحام على سماع صوته ، ولا يمكن أن يمر أحد من الناس مسلما كان
أو ذميا إلا ويقف ويسمع صوته لحسنه وجودته. قال المؤرخ : فوكل وكيلا وانقطع في
بيته يتلو كتاب الله ويقرىء الناس القرآن العظيم لا يغلق دون مستفيد بابا ولا يخرج
إلا إلى الصلاة في المسجد المجاور لبيته في محلة قصطل الأكراد. وبالجملة فهو من
أفراد زمانه ونادرة أوانه ، اجتمع فيه من الفضائل والكمالات ما لم يجتمع لغيره.
يقول محرر هذه
الترجمة : ولقد كتب رحمهالله كثيرا بخطه من الكتب النفيسة (ذكرها ثم قال :) وكان ذا
عفة وغناء نفس وعدم نظر إلى الدنيا وطموح نفس إلى أهلها ، وكان رحمهالله لا يبقي على شيء ، وإن زاد عليه شيء تصدق به ، وكان
ديدنه كل يوم الخروج إلى صلاة العصر في المسجد المجاور لداره في محلة الأكراد
ويعرف الآن بمسجد خير الله ، وعرف ذلك منه فصار يقصده جماعة من الفقراء المستورين
من ذوي البيوت فيعطيهم سرا لا تدري شماله ما أنفقت يمينه. ولقد كان في بعض السنين
غلت الأسعار واشتد الأمر على الناس ، فصار يرسل حوائجه إلى سوق البادستان وملبوسه
ليبيعه ويتصدق خفية. وتوفي رحمهالله ولم يبق شيئا من الدنيا سوى دار السكنى وبعض ملبوسات
جزئية. وسمعت
من المرحوم ولده والدي أنه كان في جيبه اثنتا عشرة مصرية فضية لما مات إلى
رحمة الله. ولما انقطع إلى الله في بيته صارت الوزراء كأسعد باشا العظمي والموالي
ووجوه البلدة كمحمد أفندي الطرابلسي وأحمد أفندي الكواكبي يأتون لزيارته والتبرك
به وبتلاوته وسماع صوته الحسن ، وأهل العلم والصلاح كالشيخ عبد الكريم الشراباتي
وكالشيخ أبي بكر الهلالي كلهم لهم فيه اعتقاد وحسن ظن.
وكان إسماعيل
باشا الوزير لما رتبه في الخطابة بجامعه كتب للدولة العلية وعمل له رتبة الخارج
بتدريس الحسامية التي الآن تدريسها على محرر هذه الترجمة برتبة السليمانية ، فلم
ينظر إليها ولم يلتفت وذلك لأجل أن يكون خطيب جامعه يصعد المنبر بكوجك رتبه لي. ولما
مات قريبه السيد أحمد أفندي يحيى بيك زاده وذلك قبل وفاة المترجم بأربعين يوما خرج
للجنازة وكانوا هيئوا قبر صاحبها ، وصادف قربه من قبر والدة صاحب الترجمة ، فلما
وصل إلى قبر والده ضرب بعكازه الأرض وقال : يا قبير جاءك دبير ، ونزل من الجنازة
وكتب وصيته بخطه ووضعها بجيبه واعتراه حمى الربع ، فليلة كانت وفاته واحتضر شرع في
قراءة سورة يس وأتمها وشرع في كلمة التوحيد ثم في لفظ الجلالة ، وصار يحرك رأسه
للذكر بها حتى دارت عمامته من وراء إلى قدام وانتقل إلى رحمة الله وذلك في جمادى
سنة ١١٨٣ وله من العمر ست وسبعون سنة. ثم ذكر هنا نص وصيته وسنده في الطريق ويطول
الكلام بذكر ذلك.
وللأديب الشهاب
أحمد الوراق قصيدة مقصورة يمدح بها المترجم مثبتة في تاريخ عبد الله آغا الميري
وهي :
بعيشك حادي
أقف بالحمى
|
|
مطيك علّي
أداوي الحشا
|
وقف بي قليلا
بتلك الربوع
|
|
فإني معنّى
بعرب النقا
|
وإني بهم
لأخو حسرة
|
|
وإني عليهم
شديد البكا
|
سقى الله
عهدا تقضى بهم
|
|
وجاد عليه
سحاب اللقا
|
عهود تقضت
بسفح اللوى
|
|
بلذة عيش
ونيل المنى
|
برشف الثغور
وضم الخصور
|
|
وطرد الكدور
وجني الجنى
|
ولثم الخدود
وهصر القدود
|
|
وحصر الهنود بغير احتشا
|
__________________
بروض نضير
تراه إذا
|
|
تمشى النسيم
أفاح الكبا
|
تدير علينا
السلاف القيان
|
|
وتشدو الطيور
فصيح الغنا
|
ونحن نجر
ذيول الصبا
|
|
ونسرح مسرح
تلك الظبا
|
حبتنا
الليالي بما نرتجي
|
|
وأنجز فيها
الحبيب اللقا
|
فمن لي برد
زماني الذي
|
|
تقضى سريعا
بسفح اللوى
|
فليتي أراه
ولو في المنام
|
|
لتهدى جفوني
بطيب الكرى
|
عسى ما أرجّي
يعود إذا
|
|
شكوت ضنائي
وفرط البلا
|
لزاكي الجدود
أخي المكرمات
|
|
سليل الرفاعي
عظيم السنا
|
شريف الأصول
زكّي الفروع
|
|
نمير الأيادي
غزير الندى
|
حميد السجايا
رقيق الطباع
|
|
سمّي المزايا
وخدن الحيا
|
جميل المحيا
كثير التقى
|
|
زميل التغاضي
مليك الحجا
|
طويل النجاد
وفير الرماد
|
|
مبيد الأعادي
بيوم الوغى
|
وحيد الزمان
فريد الأوان
|
|
بليغ النظام
إذا ما شدا
|
ملاذي غياثي
إليك التجأت
|
|
وأنت ثمالي
بطول الدنا
|
ألست معيني
بعهد الصبا
|
|
لنيل مرامي
بحوز العلا
|
فيا من حباني
جليل العطا
|
|
ويا من كساني
سني الحلى
|
يحق لمثلي
يرى مادحا
|
|
ببابك مولاي
طول المدى
|
فخذها إليك
أبا الفضل لا
|
|
تيتم فضل
إليك انتمى
|
خرود جلاها
عقود ثناك
|
|
وكل ثناء
لديك ثوى
|
إذا ما تمشت
بسوق عكاظ
|
|
لألقى
الدريدي إليها العصا
|
ودم ملاذا
بطول الزمان
|
|
ليشفى فؤادي
بنقع الصدى
|
وله في تاريخ
المرادي ترجمة هي أخصر مما هنا ، وقد ختمها بقوله : وقد امتدحه تلميذه الأديب أحمد
الوراق الحلبي بقوله :
دع عنك ذكر
مهلب والطائي
|
|
وانزل بساحة
مصقع الخطباء
|
__________________
ذي الفضل
والجود اللذين عليهما
|
|
دارت رحى
المعروف والإسداء
|
من لم يزل
بندى سحاب نواله
|
|
يروي الظماة
فماروا الوطفاء
|
والجهبذ
الفرد الذي بعلومه
|
|
ساد الرواة
بسائر الأرجاء
|
وإمام من
يتلو القران مرتلا
|
|
بفصيح نطق عز
من تلّاء
|
فكأن جل الله
باري خلقه
|
|
سواه من لطف
الهوا والماء
|
وحباه كل
مزية يختارها
|
|
وأقامه علما
على الإهداء
|
حتى غدا
وكأنه علم به
|
|
نار أضاءت في
دجى الظلماء
|
لابل هو
الشمس التي بضيائها
|
|
ملأت فيافي
حلقة الغبراء
|
أفديك يا من
فيه أحجمت القرا
|
|
ئح أن تخيل
بعض وصف ثناء
|
ومكملا
يستعبد الأحرار بال
|
|
إنعام
والإعطاء والإسداء
|
قلدت جيدي من
نوالك أنعما
|
|
تزري بحسن
الدرة البيضاء
|
فأنا هو
الغصن الذي أنشأته
|
|
بندى يديك
وأنت أصل نمائي
|
فأنا هو
العبد الذي ما رق يو
|
|
ما للعتاق
ولا انتمى لسواء
|
فاسلم ودم لي
ما نحي ما أرتجي
|
|
وابق المرجى
في بني الشهباء
|
١١٠٨ ـ أحمد بن عبد الرحمن
العصائبي الإدلبي المتوفى سنة ١١٨٣
قال في «النفائح
واللوائح» : هو الحسيب النسيب ، والأديب الأريب ، أحمد بن عبد الرحمن العصائبي.
عالم مجيد ، وله من عقود الأدب لؤلؤ وجيد.
ولد في قصبة
إدلب ونشأ بها وحصّل ، حتى عظم وتنبل ، ثم قدم إلى حلب المحروسة ، فقطف من جنى
دوحها المغروسة ، وتولى نيابة القضاء في الأحكام ، وفصل بين حوادث الحلال والحرام
، إلى أن توفي سنة ١١٨٣.
وكان رحمهالله دمث الأخلاق ، فريدا في حلبة السباق ، له نثر فائق ،
وشعر رائق ، فمنه قوله مادحا السيد أحمد أفندي الكواكبي حينما أعيد لمنصب الإفتاء
سنة ١١٦٩ :
عادت وما
أخلفت في صدق موعدها
|
|
وأقسمت لم
تخامر في توددها
|
وإنما جربت
طعم الفراق فمذ
|
|
ذاقت مرارته
عضّت على يدها
|
وقيّدت بقيود
البين مكرهة
|
|
واستحكمت للعنا
أيدي مقيّدها
|
ولم تزل في
وثاق البعد والهة
|
|
فقيدة لم تجل
في فكر منشدها
|
حتى استنار
ضياء البشر وانفرجت
|
|
كرباتها وبدت
أنوار مرشدها
|
ماست ولا بؤس
يعروها سوى أثر
|
|
من صمت
خلخالها أو ضيق معضدها
|
ومذ تلألأت
الشهبا بطلعتها
|
|
وشاهدت كل
عين نور مشهدها
|
نادى منادي
العلا كفوا مطامعكم
|
|
عن درك من قد
غدت تجلى لسيّدها
|
فرع الرسالة
إكليل السيادة نب
|
|
راس السعادة
أسمى الناس أحمدها
|
بدر كواكبه
بيت السعود لهم
|
|
زهو على
الزهر بالزهرا ومحتدها
|
ذو فطنة حيث
أروت عن دجى شبه
|
|
تري الغبيّ
خوافي سر أبعدها
|
وهمة قد علت
في كل مكرمة
|
|
فاقت منازل
كيوان وفرقدها
|
وعزمة شتتت
جيش الخطوب وكم
|
|
قد فرّقت جمع
أخطار بمفردها
|
ونفس حر ترى
استنهاض همته
|
|
عيبا إذا لم
تسابق قصد منشدها
|
من سادة
شرّفت أقدامهم حلب ال
|
|
شهبا فماست
على الدنيا بسوددها
|
في بيتهم
مركز الفتوى ولا عجب
|
|
إذا زهت حيث
حلت أصل معهدها
|
قرت بتقريرها
عين العباد وقد
|
|
ندت أكف
الدعا تدعو بمعبدها
|
يا من تجلى
على الشهبا بأوحدها
|
|
فضلا وأرفعها
قدرا وأسعدها
|
عمرت دار
علاء أرخوه أدم
|
|
بيت الكواكبي
والفتوى لأحمدها
|
وأورد له ثمة
غير ذلك من النظم والنثر مما يطول ذكره.
وترجمه الفاضل
عبد الله ميرو في تاريخه فقال : السيد أحمد العصائبي. نشأ بإدلب وقرأ على كثير من
الأفاضل ، وتوطن الشهباء وأخذ عن علمائها. وله أدبية لطيفة ومحاضرات ظريفة ، فمن
شعره الذي مدح به محمد أمين أفندي حين ولي قضاء حلب :
بزغت بدور
مبرة وهناء
|
|
وبدت شموس
مسرة ووفاء
|
وتلألات أفق القلوب بمطلع الإفضال والإجلال والآلاء
وتهللت غر
السعود بطلعة
|
|
لألاؤها يزري
سنا بذكاء
|
مصباح مشكاة الهداية مجمع البحرين صدر شريعة الحنفاء
لله يوم قد
توالى بشره
|
|
والكون فيه
مشرق الأرجاء
|
وترادفت في
دارة الشهبا
|
|
نوامي البر
والبركات والنعماء
|
وهي قصيدة
طويلة. وله يمدح المولى عباس القاضي إذ ذاك بحلب بقوله :
صبح المسرة
من جبين السيد
|
|
يوحي لراجيه
بنيل المقصد
|
ولوامع
الإفضال من نفثاته
|
|
سحر البيان
ومنهج المسترشد
|
ومنها :
وغيوم جو
المشكلات تقشعت
|
|
وتفرقت
بذكائه المتوقد
|
ومنها :
أحيا شريعة
أحمد لا غرو فالعباس قد أحيا شريعة أحمد ومنها :
حاز الفضائل
عالما عن عالم
|
|
وروى السيادة
سيدا عن سيد
|
فبعدله اكتست
العواصم رفعة
|
|
لا تعتريها
وصمة من معتد
|
ورأيت في
مجموعة بخط بعض أبناء الطرابلسي أن وفاة أحمد العصائبي كانت سادس عشر جمادى
الثانية سنة ألف ومائة وثلاث وثمانين. رحمهالله تعالى.
١١٠٩ ـ أبو المواهب عبد الله بن حسن آغا المعروف بميرو المتوفى سنة ١١٨٤
بنو ميرو عائلة
تتعاطى التجارة ، وكان لهم في هذا القرن والذي بعده شهرة كبيرة وصيت بعيد لوفرة
أموالهم وسماحة يدهم وعنايتهم بأهل العلم والفضل ، وخصوصا من كان يمر بالشهباء من
هؤلاء ، فكانوا ينزلونهم في بيوتهم ويكرمون مثواهم ويحسنون إليهم ويزودونهم إذا
سافروا ، فكان لسان حالهم يقول :
ونكرم جارنا
ما دام فينا
|
|
ونتبعه
الكرامة حيث مالا
|
وتقدم منهم في
الجزء السادس ترجمة عثمان بن ميرو المتوفى سنة ١١٤٥ ، والمترجم واسطة عقدهم
والسابق في حلبة ميدانهم ، حيث اتسم مع ثروته بسمة العلم وتحلى بحلي الأدب والنبل.
وقدمنا في المقدمة أنه ممن تصدى لوضع تاريخ للشهباء ، وأن معظم ما في المرادي من
تراجم الحلبيين مأخوذ عنه ، وكان عليه أن يترجمه ويوفيه حقه من الترجمة ولا أدري
السبب الذي دعاه إلى إهمال ذلك.
وحيث إني لم
أقف له على ترجمة خاصة اضطررت أن التقط ترجمته من أماكن متفرقة ومما وقع لدي من
الأوراق فأقول :
ذكر المترجم في
ترجمة الشيخ رمضان المتقدمة أنه قرأ عليه في الفقه الغاية وشرحها والخطيب الشربيني
وشرح التحرير وشرح الأجرومية للشيخ خالد وشرح الأزهرية له. وقال في ترجمة الشهاب
أحمد الوراق : واستجزت الشيخ صالح الجنيني الدمشقي عام ارتحالي صحبة الوالد إلى
الشام ، وذلك عام ثلاث وستين ومائة وألف. وذكر في ترجمة محمود ابن عباد العبدلاني
الدمشقي أنه ممن أخذ عنه.
وذكر في ترجمة
عبد الله بن عبد الشكور الهندي المتوفى بدمشق أنه سمع منه الحديث المسلسل بالأولية
وأجازه سنة ١١٧٥. وممن تلقى عنهم العلم الشيخ علي الميقاتي المتقدم ذكره وأثنى
عليه ثناء عظيما كما رأيته في آخر نسخة خطية من الشفاء في ورقة بخطه فيها إجازته
للمترجم ، ومما جاء فيها بعد الخطبة :
أما بعد ، فقد
قرأ عليّ جميع هذا الكتاب الموسوم بالشفا في حقوق المصطفى صلىاللهعليهوسلم المولى المحدث الفاضل ، المحرز قصب السبق بين أهل
الفضائل ، البالغ من العلوم مبلغ الشيوخ في باكورة الشباب والأوائل ، ذو الذهن
الثاقب ، والفكر الصائب ، والفهم الذي فاق به الأقران ، في حسن التصرف في فنون
البيان ، جناب أبي التقى عبد الله جمال الدين جمل الله ببقائه أهل الفضايل ، ابن
المولى الكامل الحسن الاسم والمعارف والشمايل ، حسن آغا عرف بميرو زاده ، بلغه
الله من أمانيه مراده ، ورحم آباءه وأجداده ، وأوصل أصناف الخير إليه وأسباب
السعادة آمين قراءة أنبأت عن علم جم واتقان كثير ، وأخبرت عن فضل كبير ، ولا ينبئك
مثل خبير ، أفاد بها واستفاد ، وجمع إلى دقة الفهم علو الإسناد ، ولو لا أن الصدق
شرط في المحدث لقلت فاق بها شيخه أو كاد ، وإذا ثبت أن المحدث يروي العالي والنازل
، ويتحمل عن المفضول والفاضل ، وربما اجتمعت في الراوي شروط التحمل
وفقد من شيخه بعض تلك المقاصد والوسائل سلمنا من هذا الأمر والاعتذار عنه ،
فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب مجيز أولى له أن يكون مجاز ، وأن لا يكون
له في سلوك حقيقة هذا الأمر مجاز إلخ.
وقال الشيخ علي
المذكور في أواخر الموشح الذي أشرنا إليه في المقدمة (ص ٣٩) وقلنا إنه ذكر فيه
متنزهات الشهباء وبعض أعيان عصره :
ليس من
بالمال أو بالعلم دان
|
|
كالذي ضم إلى
دنياه دين
|
ورقى من ذروة
الفخر مكان
|
|
هو والفضل به
خير مكين
|
|
ذاك عبد الله
معمور الجنان
|
|
وغذيّ المجد
مذ كان جنين
|
من بني
الميري له المولى نضر
|
|
سادة جادوا
بجاه ونضير
|
نظم التوشيح
كالروض النضر
|
|
فأتى بالأدب
الغض النضير
|
وحسب المترجم ما
قاله هذا الشيخ الجليل في حقه وكفاه بذلك فخرا. ولم أقف على أكثر من ذلك من
أحواله.
وكانت وفاته
سنة ١١٨٤ كما هو منقوش على لوح قبره في تربة الصالحين في أواخرها بجانب قبة الشيخ
عبد الرحمن الحنبلي الآتي ذكره.
ومن مشاهير هذه
العائلة في هذا القرن الحاج إسماعيل آغا ابن الحاج حسين آغا ابن الحاج عبد الوهاب.
ومن آثاره وقف دارين متلاصقتين في محلة باب قنسرين في الزقاق المعروف ببوابة خان
القاضي ، وقفهما على المسجد الكائن في هذا الزقاق المعروف بإنشاء بني شنقس وعلى
المسجد المعروف بمسجد أبي الرضا الإسكافي الملاصق للمارستان الأرغوني ، وتاريخ
الوقفية في غرة جمادى الأولى سنة ١١٧٦.
وفي عصرنا هذا
انقرضت هذه العائلة ، وآخر من مات منها امرأة تسمى الست شرف وهي بنت إسماعيل آغا
ابن الحاج حسين آغا ، أدركت هذه المرأة وهي مسنة كانت تزور والدتي وهي تزورها ،
وربما استصحبتني معها وأنا في سن الطفولة ، فكانت الحشمة تعلوها والوقار يكللها ،
وكانت تسكن في دار عظيمة ورثتها عن آبائها في محلة باب قنسرين أمام القاسارية
المعروفة بقاسارية ميرو التي كانت من أملاك هذه العائلة ، وكانت وفاتها بعد سنة
١٣٢٠ بقليل ، وبعد وفاتها اشترى هذه الدار من ورثتها من ذوي الأرحام الحاج عبد
الله صلاحية التاجر المشهور ، واشترى دارا وراءها كانت تابعة لهذه الدار
ودارا أخرى شرقي الدار العظيمة ، وعمر الجميع خانا عظيما سنة ١٣٢٧ عرف الآن بخان
صلاحية. وقد كانت هي المتولية على الدارين والمسجدين المتقدمي الذكر ، وبوفاتها
وانقراض هذه العائلة آلت التولية إلى الحاج محمد نور الملقي من سكان هذه المحلة
بحكم شرط الواقف أنه عند انقراض عائلته تعود التولية إلى أغنى وأتقى رجل في المحلة
، وقد قام بأمر هاتين الدارين أحسن قيام ، وبوفاته في سنة ١٣٣٤ دخل هذا الوقف إلى
دائرة الأوقاف.
ومن دور هذه العائلة
دار أخرى عظيمة شمالي هذه الدار داخل البوابة آلت إلى أحمد أفندي بطيخة المتوفى
أوائل هذا القرن ووقفها على ذريته.
١١١٠ ـ عمر بن يس الكيلاني المتوفى سنة ١١٨٥
عمر بن يس بن
عبد الرزاق بن شرف الدين بن أحمد بن علي القادري ، المعروف كأسلافه بالكيلاني ،
الحموي الشافعي السيد الشريف.
كان موقرا
معتبرا مبجلا صاحب حال وقال ، ممدوح الخصال تعلوه هيبة الصلاح ووقار التقوى ، سخي
الطبع محمود الحركات والسكنات ، صدرا من الصدور وهيكلا متهللا بالبهجة والنور.
ولد بحماة سنة
سبع وعشرين ومائة وألف ونشأ بها في كنف والده.
ثم في سنة ثلاث
وأربعين قدم مع والده وابن عمه الشيخ عبد القادر وأولادهم وعيالهم لدمشق مهاجرين
إليها. ثم سافر صاحب الترجمة بعد وفاة والده بدمشق وساح فدخل بغداد والرقة وحلب
مرارا وجلس على سجادة مشيختهم ، واستقام على أحسن سيرة ، وعمر دارا بدمشق في محلة
القباقبية العتيقة كانت أولا لبني عبادة ، وصرف في عمارتها أموالا جمة ، وسافر من
دمشق قبل إتمامها إلى جهة الروم بخصوص فقراء أهل بلده حماة لدفع مظلمة كانت عليهم
، فنال مطلوبه فوق مرامه ، وذلك في زمن السلطان الغازي مصطفى خان ، وحصل له من
الدولة إكرام واحترام. ثم في آخر أمره توطن مدينة حلب وترك بلدته حماة لتغلب
حكامها وتخالف الأحوال عليه.
وتوفي بحلب في
ثاني عشر صفر سنة خمس وثمانين ومائة وألف ، ودفن خارجها في
تربة الصالحين بالقرب من الشيخ الدباس رحمهالله تعالى. ا ه.
أقول : لا زال
قبره موجودا وهو وراء مقام الصالحين.
١١١١ ـ محمد بن يوسف النهالي المتوفى سنة ١١٨٥
محمد بن يوسف
المعروف بالنهالي ، الحنفي الرهاوي الأصل ، الحلبي المولد ، نزيل قسطنطينية ،
الأديب الألمعي الفاضل الكامل.
قرأ على أفاضل
بلدته ، وكان مكبا على تحصيل الفضائل والكمالات ، وأقام مدة بالمدرسة الحلاوية ،
وصار له غاية الإكرام من الوزير محمد باشا الراغب.
وكان المترجم
أديبا شاعرا ، فمن شعره قوله :
يا راكب
اللهو قصر
|
|
عنان خيل
التصابي
|
يداك
لم تقو حبس اللجام بعد الشباب
|
وله :
كنت في غفلة
من العشق لما
|
|
أيقظتني
نواعس الأجفان
|
كشفت عن مجاز
عيني غطاها
|
|
فأرتها حقائق
الأكوان
|
وحين سافر إلى
إسلامبول تلميذه الفاضل السميدع السيد مصطفى الحلبي الكوراني اجتمع بالمترجم شيخه
، ثم ابتدر كل منهما لتضمين البيت المشهور وهو :
إن الملوك
إذا أبوابها غلقت
|
|
لا تيأسنّ
فباب الله مفتوح
|
فقال المترجم :
قلب بسهم
أليم الهجر مقروح
|
|
ومقلة دمعها
بالبين مسفوح
|
فقال الكوراني
:
وخاطر في يد
الأهوا على خطر
|
|
من الأماني
له باليأس تلقيح
|
فقال المترجم :
ولاعج مضرم
لو لا التوكف من
|
|
دموعه ولعت
فيه التباريح
|
فقال الكوراني
:
موزع البال
مطوي الضلوع على
|
|
فرط الأسى
جسد ليست به روح
|
فقال المترجم :
حليف كرب
رهين الإغتراب شج
|
|
به عقود هموم
الدهر توشيح
|
فقال الكوراني
:
به أحاديث
أشجان يرددها
|
|
لها من الغم
تعديل وتجريح
|
فقال المترجم :
له عتاب على
الحظ المسوّد إذ
|
|
خابت مقاصده
والقلب مجروح
|
فقال الكوراني
:
وكلما نابه
خطب الزمان غدا
|
|
بساحة اليأس
صبر وهو مطروح
|
فقال المترجم :
مستوثق العزم
من بيت أقيم به
|
|
للعذر متن
بنصح القول مشروح
|
البيت القديم :
إن الملوك
إذا أبوابها غلقت
|
|
لا تيأسن
فباب الله مفتوح
|
وكانت وفاة
المترجم في سنة خمس وثمانين ومائة وألف رحمهالله تعالى.
وترجمه ابن
ميرو في تاريخه فقال : مولده بحلب سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف. طلب بنفسه وقرأ
على أفاضل بلدته كالعلامة طه الجبريني والعلامة قاسم البكرجي والفاضل حسين
الزيباري ، ومهر في اللغة الفارسية والتركية كما شهد له بذلك أفاضل الفرس. وكان
مكبا على تحصيل الفضائل. أقام مدة بالمدرسة الحلاوية وبرهة بقيسارية الحكاكين
منفردا في مكان وحده ، وذلك بعد وفاة والدته ، ولما كان بالمدرسة الحلاوية كان يرد
عليه بعض أرباب المعارف من أتباع الوزير راغب محمد باشا والي حلب إذ ذاك ، فبلغ
خبره الوزير
المشار إليه ، فأحضره يوما وذاكره ورأى فضله فأكرمه ، ثم لما طلب الوزير
المشار إليه إلى دار الخلافة سنة سبعين وماية وألف للصدارة ، توجه المترجم إليها
فبلغ الوزير قدومه وذلك بعد ثلاثة أيام ، فأحضره وجعله خليفة رابعا من كتاب
كتخدايه وأجزل له العطية ، وعين له من كمرك دار الخلافة وظيفة سنة ، فأثرى حاله
وأقام هناك.
وله نظم حسن
كثير في الألسن الثلاث موجود بأيدي الناس. وله مجموعة لطيفة أودعها غرر الفوائد من
كل فن وسماها «الجواري المنشآت» ، وله شرح على الصلوات الكبرى للشيخ الأكبر قدسسره ، وله غير ذلك. ا ه.
١١١٢ ـ عبد الكافي ابن حمّودة المتوفى سنة ١١٨٦
عبد الكافي بن
حسين بن عبد الكريم الشهير بابن حمّودة الحلبي الشافعي ، الشريف الفاضل الورع الكامل ، إمام السادة الشافعية بأموي حلب.
ولد بها سنة
ثمان ومائة وألف ، وقرأ القرآن العظيم على الشيخ أحمد الدمياطي وحفظه عليه ، وقرأ
العلوم على الشيخ حسن السرميني والشيخ محمود الزمار والشيخ طه الجبريني والسيد
محمد الكبيسي ، وأخذ الطريقة القادرية على الشيخ صالح المواهبي.
وارتحل إلى مصر
سنة تسع وثلاثين ومائة وألف وأخذ بها عن الشهاب أحمد الملوي والسيد علي الحنفي
والبدر حسن المدابغي. وحج في هذه الرحلة وعاد لبلده ، وأخذ بطرابلس عن الشمس محمد
التدمري ، وفي دمشق عن العارف الشيخ عبد الغني النابلسي والشهاب أحمد بن عبد
الكريم الغزي مفتي دمشق والعماد إسماعيل بن محمد العجلوني وغيرهم.
وكان له قدم
راسخ في العبادات والمجاهدات والرياضات ، وبالجملة فهو من الأفراد. وتزوج وله ولد
يدعى بمحمد أمين.
وكانت وفاته
يوم السبت عند طلوع الشمس ثالث عشر شهر رمضان سنة ست وثمانين
__________________
ومائة وألف ، وصلي عليه بالمصلى الكائن خارج باب المقام بحلب ودفن هناك رحمهالله تعالى.
١١١٣ ـ مصطفى بن عمر أفندي طه زاده المتوفى سنة ١١٨٦
مصطفى الشريف
ابن النقيب السيد عمر أفندي ابن السيد طه زاده.
ولد عام إحدى
وثلاثين وماية وألف ، وكتب وقرأ على فضلاء الشهباء ، وكان بعد والده ذا حشمة وخدم
، بقي مدة على هذه الحالة ، ثم اعتراه الجذب فخلع ثيابه الفاخرة والعمامة وصار
يدور في الأسواق ويصيح بكلمات لا فائدة لها عند السامع. وقيل إن يوم ولادته أخبر
بمولده العارف الشيخ عبد الغني النابلسي بما محصله أن في هذا اليوم ولد لنقيب حلب
السيد عمر أفندي مولود وأثنى على هذا المولود بخير.
توفي صاحب
الترجمة ليلة الأحد سلخ ذي القعدة سنة ١١٨٦ وكان له مشهد عظيم ، ودفن عند والده في
المدفن الذي كان أنشأه والده بالقرب من دارهم بمحلة الجلّوم الكبرى. ا ه.
١١١٤ ـ عبد الله بن شهاب التدمري المتوفى سنة ١١٨٦
عبد الله بن
محمد بن علي بن عبد الله بن أحمد بن محمد المجذوب ، الشهير بابن شهاب ، الشافعي ،
التدمري الأصل الحلبي المولد.
ولد بحلب سنة
ست عشرة ومائة وألف ، وربي في حجر أبيه ، ونشأ في طاعة الله تعالى ودأب على تحصيل
الكمالات ففاز منها بالقدح المعلى ، وقرأ على أجلاء عصره من أفاضل الشهباء
كالعلامة محمد بن الزمار أحد أفراد الزمان ، والعلامة حسن السرميني ، والعلامة
محمد المكتبي ، والعلامة طه الجبريني ، والعلامة علي الميقاتي بأموي حلب ، وعلى
عمدة المحدثين محمد المواهبي.
وارتحل مع
والده لدمشق سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف ، ودخلها بعد ذلك مرات واستجاز علماءها
الأعلام مثل الإمام الأستاذ الشيخ عبد الغني الشهير بالنابلسي ، فقد
أجازه إجازة عامة بالكتب العقلية والنقلية والتواريخ والدواوين والأدب وكتب
من تقدم من السادة الصوفية قدس الله أسرارهم ، وكالعلامة عبد القادر بن عمر
التغلبي الشيباني الحنبلي ، والعلامة محمد بن إبراهيم الشهير بالدكدكجي ، والولي
الكامل الشيخ إلياس الكردي نزيل دمشق ، والعالم الشيخ محمد الكاملي الدمشقي ،
والفاضل عبد الله الشافعي وغيرهم.
وكان صاحب
الترجمة شغفا بمطالعة كتب الصوفية خصوصا الفتوحات المكية وغيرها من كتب تأليف قطب
الزمان سيدي محيي الدين ابن العربي قدس الله تعالى أسراره ، وله اليد الطولى
بمعرفة الروحانيات والأوفاق والتعاويذ ، وانتفع به خلق كثير بسبب ذلك واشتهر شهرة
حسنة. وكان دينا عفيفا صالحا تقيا ، وبالجملة فمن رآه أحبه ورأى بارقة الصلاح
عليه. وقد كان ممن جد واعتنى ، وحصل نفائس العلوم واقتنى.
وله من الشعر
ما يشنف الآذان ويرتاح له الولهان ، فمنه قوله :
بلبل الأوطان
غنى
|
|
فشجا قلب
المعنى
|
وغدا يبدي
شجونا
|
|
عن سماع
العود أغنى
|
يذكر الأوطان
شوقا
|
|
إذ غدا مثلي
معنى
|
قلت مهللا يا
مشوقا
|
|
زادني
التذكار حزنا
|
قد نأى عني
حبيبي
|
|
والنوى جسمي
أضنى
|
نح قليلا يا
شبيهي
|
|
إنني أصغيت
أذنا
|
إن لي جسما
ضعيفا
|
|
كلما رددت
يفنى
|
وكذا دمعي
نموم
|
|
فيضه يوليه
مزنا
|
يا بريق الحي
مهلا
|
|
قد خطفت
القلب منا
|
إن طرفي غير
لاه
|
|
عن حبيب زاد
حسنا
|
وله متوسلا :
يا رب إني
مسرف
|
|
والعفو قسم
المسرف
|
فاغفر لعبد
خائف
|
|
من هول يوم
الموقف
|
وله أيضا :

بمناسبة ذكر
الفتوحات المكية نضع صورة صحيفة خطية من هذا الكتاب في آخره إجازة بخط الشيخ قدسسره لزوجته مريم ، وهذا الجزء في خزانة الوجيه أسعد أفندي
العينتابي في حلب ، ونص الإجازة :
(١) سمعت هذه
المجلدة عليّ أهلي مريم بنت محمد بن عبدون.
(٢) البجائية
وفقها الله وأذنت لها أن تحدث بها عني وبجميع تواليفي ورواياتي.
(٣) وكتبه محمد
بن علي بن محمد ابن العربي مؤلف هذا الكتاب بخطه عند فراغ.
(٤) سماعها من
هذه المجلدة وذلك يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ربيع الآخر سنة ست وعشرين وستماية
والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
يا من أراد
انصرافي
|
|
عن مذهب الحب
جهلا
|
قصر ملامك
إني
|
|
قد بعت روحي
طفلا
|
وكانت وفاته
حادي عشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين ومائة وألف ، ودفن بالقرب من والده خارج باب
الملك بالقرب من مرقد الولي الكبير الشيخ محمد الزمار رحمهالله تعالى. ا ه.
١١١٥ ـ عبد القادر بن أمير المتوفى سنة ١١٨٧
عبد القادر بن
حسين ابن الحاج أمير جلبي الشهير بابن أمير ، الحلبي المولد الشافعي ، التاجر
المشهور ، وهو ابن عم الحاج موسى بن الحاج حسن أمير المتقدم الذكر.
مولده سنة تسع
بعد المائة والألف. دخل الهند مرتين وسافر إلى الروم مرات ، وسافر إلى بغداد
والبصرة ، وحج مرات ، وله خيرات مشهورة ومساعي مشكورة ، ابتنى عدة دور في سويقة
الحجارين ، وأنشأ بها السبيل ومكتبا للأطفال سنة ستين وماية وألف ، وعمل لذلك
تاريخا شيخنا أبو الفتوح علي الميقاتي هو :
لجلال وجه
الله أنشأ مخلصا
|
|
هذا السبيل
ومكتبا لأصاغر
|
نجل الحسين
بن الأمير سلالة
|
|
حازوا
المكارم كابرا من كابر
|
ذاك الذي نشر
المحاسن في الورى
|
|
وأجار من جور
الزمان الجائر
|
كم ساق مكرمة
إلى محتاجها
|
|
بالجاه
والمال العظيم الوافر
|
نظر الذي في
الخير ينفقه غدا
|
|
متقبلا مع
ضعفه المتكاثر
|
فاختار
للباقي على الفاني الذي
|
|
حجب النفوس
عن اكتساب مآثر
|
فأشاد عذبا
سلسبيلا باردا
|
|
يروي الظما
عند اشتداد هواجر
|
قد ساقه من
أصله لمحله
|
|
طلبا لدعوة
وارد أو صادر
|
وبمكتب
الأطفال زاد ثوابه
|
|
أحبب بتعليم
الكتاب الباهر
|
فليهن بالأجر
العظيم وما أتى
|
|
في مدح أفعال
الغني الشاكر
|
وخلوصه هنى
بتاريخ بدا
|
|
بقبولها
صدقات عبد القادر
|
وجدد زاوية
القادرية بالقرب من هذا السبيل بعد أن دثرت بالكلية سنة (لم يذكر).
وفي تلك السنة اختلى بها شيخ القادرية الشيخ صالح فسميت بالصالحية. وأنشأ
حمامه التي تجاه السبيل وهي في غاية الإتقان والزخرفة سنة خمس وسبعين وماية وألف ،
وله خيرات كثيرة وجهات حسنة شهيرة ، وقيام مع أحبابه والتفقد لحوائجهم والصبر على
أذى جيرانه وبغض الناس له ، من ذلك أن جارا له من طائفة الجند يسمى مصطفى الهردار
استأجر له صاحب الترجمة أوقاف إبراهيم خان المشهورة بحلب خمس سنوات بالمواصلة ، كل
هذا وفي المدة لم يسأله عن شيء ، فظهر للمترجم من مصطفى الغدر ، فطلبه للمحاسبة ،
فقطع علائقه وملك ما في حوزة يده من المال لولده ولبس ثيابا خلقة وأتي مجلس الحساب
، فلما شاهد المترجم هذا الحال أرخى له العنان في الحساب إلى أن ظهر عنده للمترجم
بإقراره سبعة وعشرون ألفا من القروش ، فادعى أنه لا يمكنه أداء المبلغ إلا
بالتنجيم ، فكتب له بذلك صكا وأحضر والده وضمن كل منهما الآخر لحين أداء المبلغ
بمحضر من الشهود ، ثم لما تفرقا من المجلس ندما على إقرارهما والضمان ، فقر الولد
وادعى الوالد أنه كان في قراره كاذبا ، فحبس الولد بحكم الثبوت عند محصل الأموال
السلطانية في قلعة حلب ثم في حبس الوزير عبد الله باشا الصدر السابق ثم في حبس
الشرع بباب قنسرين أربع سنين ، وأثبت المترجم أيساره وأنه متعنت ، فضيق عليه بحبس
الشرع إلى أن بني عليه بمكان يسعه فقط. وأما الولد فإنه قبض عليه بمدينة طرابلس
وجيء به لحلب وحبس عند نقيب الأشراف لأنه شريف من أمه مدة تزيد على ثلاث سنين ،
ولم يزدهما إلا إنكارا وصبرا على الحبس والتهديد ، وطال الحال فصدر أمر الدولة أن
يخرج المحبوسين وينجم عليهما المال ، فأخرجا ففر الولد قبل التنجيم ، واتصل الأب
بخدمة الوزير عثمان باشا معتق الوزير أسعد باشا كان بحلب مسافرا ، فصار أمير
الأمراء بمنصب طرابلس وصحبه صحبته ، وكان مخدومه جرداويا فسافر صحبته وتوفي في
الطريق في العلا.
توفي صاحب
الترجمة ليلة الخميس سابع وعشرين رجب الفرد سنة سبع وثمانين وماية وألف ودفن
بمقبرة العباره. ا ه. (ابن ميرو).
١١١٦ ـ محمد بن صالح المواهبي المتوفى سنة ١١٨٧
محمد بن صالح
بن رجب المعروف بالمواهبي ، الحنفي الحلبي القادري الخلوتي ، الشيخ الإمام العالم
الفاضل الصوفي المفضال المسلّك الكامل.
كان متبحرا في
فنون العلم من منطوق ومفهوم ، مشتغلا بنشرها وتعليمها وخدمة الحديث والقيام بمصالح
الطريق وحل رموزها.
ولد بحلب في
ليلة الأربعاء بعد المغرب الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة ست ومائة وألف. وكان
والده الشيخ العارف معتكفا مع شيخه العالم الرباني الشيخ قاسم الخاني في الخلوة
الأربعينية بالمدرسة الحلاوية ، فأخبر شيخه بمجيء ولده المترجم ، فسماه الشيخ محمد
هداية الله ، فحصلت الهداية له ، فنشأ المترجم مكبا على طلب العلم ، وتفقه على
والده وأخذ عنه الطريق وسلك على يديه ، وأخذ العلم قراءة ومشافهة وإجازة على
كثيرين منهم الشيخ سليمان النحوي أخذ عنه وعن الشيخ عبد الرحمن العارف النحوي ،
وقرأ المعاني والبيان ومنظومة الأصول على المولى أبي السعود الكواكبي ، وقرأ
المنطق والعروض والحساب والفرائض على الشيخ السيد علي الباني ، وقرأ كثيرا من
العلوم على الشيخ حسن السرميني ، وأخذ الحديث عن كثير من العلماء كالشيخ محمد
عقيلة المكي والشيخ إلياس الكردي والشيخ محمد حياة السندي نزيل المدينة المنورة ،
ثم لما جاء ابن الطيب إلى حلب وكان اجتمع به في المدينة لما كان حاجا المترجم سمع
منه الحديث المسلسل بالأوليه ، ثم قرأ عليه البخاري في حلب بطرفيه وأجازه.
وجلس على سجادة
المشيخة بعد وفاة والده في سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف ، وأخذ عنه الطريق خلق
كثيرون. وكان عالما فاضلا مواظبا على الإفادة والإقراء.
وكانت وفاته
يوم الأربعاء منتصف شوال سنة سبع وثمانين ومائة وألف رحمهالله تعالى.
وترجمه العلامة
الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته «منار الإسعاد» فقال : ومنهم شيخنا الإمام
الهمام ، وحيد عصره وزمانه ، وفريد دهره ، معدن السلوك والإرشاد الشيخ محمد ابن
المرحوم الشيخ صالح المواهبي الحنفي الحلبي خليفة والده في الطريقة القادرية ،
ووارثه في علوم الشريعة النبوية. حضرته رحمهالله تعالى في دروس البخاري وغيره واستفدت منه ودعا لي
وأجازني بلفظه إجازة عامة بجميع ما تجوز له وعنه روايته ، وأخذت عليه العهد بعد
والده فبايعني ولقنني الذكر ، ولازمته كثيرا في دروسه وفي مجلس الذكر عنده مع ما
بيننا من المحبة والمودة الثابتة مدة تنوف على اثنتين وأربعين سنة.
وكان رحمهالله تعالى متبحرا في فنون العلوم من منطوق ومفهوم ، مشتغلا
بنشرها
وتعليمها ، والقيام بمصالح الطريق الشريف أمرها ونهيها ، والرفق بإخوانه
وتعليمهم وإرشادهم وتفهيمهم بكمال الأدب واللطف ، وحسن المذاكرة والمسامرة من غير
عنف. وقد اتصل سنده بأئمة كرام ومشايخ عظام ، منهم العالم العامل المتقن المحدث
البركة والده الشيخ صالح المواهبي رحمهالله ، ومنهم العلامة المحقق والفهامة المدقق أبو السعود
أفندي الكواكبي الزهراوي ، وقد قرأ عليه منظومته في أصول الفقه ومنظومته في الفروع
والمختصر ، وحصة وافرة من آداب البحث والاستعارات ، وهو يروي عن خاتمة
المحدثين الشيخ حسن بن علي العجيمي ، وله ثبت مشهور.
١١١٧ ـ القاضي أحمد أفندي بن طه زاده واقف المدرسة الأحمدية المشهور
بالجلبي المتوفى سنة ١١٧٧
لم أقف على
ترجمة خاصة لهذا العالم الجليل والسيد الكريم والمحسن الكبير ، وهو جدير بأن يكون
له ترجمة حافلة تزين بها الطروس وتعطر بها المجالس لما كان عليه من جلالة الفضل
وكرم النفس ، ولم أعلم سببا لإهمال العلامة المرادي ترجمته في تاريخه ، إلا ما
بلغني من البعض من أن العلامة المذكور كان منحازا لبني الكواكبي ، وكان بين هؤلاء
وبين بني الجلبي وهم أعيان ذلك العصر وذوو الكلمة النافذة فيه وإليهم ينتهي الحل
والعقد مالا يخلو عنه المتعاصرون من التنافس وتنازع البقاء ، فكان ذلك داعيا له
لإهمال ترجمة من فضل وتصدر من هذه العائلة وقتئذ ، ولم يذكر منها سوى الشيخ يس بن
مصطفى بن طه زاده في أربعة سطور ، وذكر منهم محمد أفندي بن المترجم الآن عرضا ،
وهذا مما يؤاخذ به العلامة المرادي ، وكان من الواجب عليه أن يبتعد عن هذا
الانحياز في التاريخ. وأما ابن ميرو المتقدم ذكره فلعله لم يترجمه لتأخر وفاة
المترجم عنه ، ولهذا اضطررت أن أبحث عن ترجمته وأجمع ما هو متبعثر في بطون الأوراق
والدفاتر من آثاره وأحواله فأقول :
قدمنا في ترجمة
والده أن الشيخ عبد الغني النابلسي أرسل له أبياتا يهنئه بزفاف ولده أحمد أفندي
وذلك سنة ١١٣٠ ، وحيث إن العادة قد جرت أن يكون الزواج في حدود العشرين من العمر
فتكون ولادة المترجم في نواحي سنة ١١١٠. وأخذ في التلقي على
__________________
علماء عصره إلى أن فضل ونبل ، وكانت نفسه منصرفة إلى اكتساب المعالي والجاه
والثروة.
وتولى نقابة
الأشراف سنة ١١٤٧ ، وهنأه الأديب الفاضل محمد بن علي الجمالي عند ذلك بالقصيدة
الآتية ، وتولاها ثانيا سنة ١١٤٩.
وتولى قضاء
القدس ، ويغلب على الظن أن ذلك كان في نواحي سنة ١١٥٩. وعاد منها سنة ١١٦١ وتولى قضاء
بغداد سنة ١١٦٣ وهنأه الشاعر المتقدم بالقصيدة الآتية. وفي أثناء وجوده في القدس
وبغداد كان يشتري نفائس الكتب ويستنسخ الكثير كما رأيته في دفتر بخطه كان محفوظا
في مكتبته الآتي ذكرها ، ويظهر أنه بقي في قضاء بغداد إلى أواخر سنة ١١٦٤. وفي سنة
١١٦٥ عاد منها إلى وطنه حلب فشرع في بناء مدرسته في محلة الجلّوم وسماها الأحمدية
، ووقف فيها ما اقتناه من الكتب النفيسة والآلات الفلكية النادرة ، وتبلغ كتبه
ثلاثة آلاف مجلد منها عدة مجلدات بخطه الحسن ، وقد صحح الكثير مما استنسخ له ،
وذلك ولا ريب يدلك على علو همته وشدة حرصه على العلم والإفادة. وقد قال في أول
فهرست المكتبة المحفوظة في المكتبة بعد الخطبة :
أما بعد ، فهذه
أسماء الكتب الجليلة الشريفة التي أوقفها المولى الجليل عمدة الموالي العظام صدر
الأعالي الفخام حضرة السيد أحمد أفندي الشهير نسبه الكريم بطه زاده القاضي بمدينة
بغداد سابقا ، ووضعها في حجرة مخصوصة لها في مدرسته التي أنشأها بمدينة حلب
الشهباء وسماها بالمدرسة الأحمدية الكائنة بمحلة الجلّوم الكبرى تجاه جامع
البهرامية المشار إلى هذه الكتب في كتاب وقفه والمحررة فيه أسماء الكتب جميعا
والمصرح في كتاب وقفه بأن الكتب الموقوفة لا تخرج من حجرة الكتب ولا من المدرسة
لأحد لا بإعارة للقراءة والاستنساخ ولا غير ذلك بوجه من الوجوه مطلقا ، وكل من
أراد المراجعة والاستنساخ من الكتب المذكورة فليأت في الأيام الأربعة المعينة لفتح
حجرة الكتب ، وهي يوم الأحد والاثنين والأربعاء والخميس ، ويراجع ويستنسخ ويطالع
ما شاء ويكتب ما أراد. ثم قال : وحرر في الخامس والعشرين من رمضان سنة ست وستين
وماية وألف. ا ه.
إجمال كتاب وقفه :
شرط الواقف في
كتاب وقفه المحرر سنة ١١٦٦ بعد أن ذكر العقارات التي وقفها بحدودها أن يبدأ من
غلاتها بما فيه بقاء عينها من التعمير والترميم ودفع الأحكار ، ويدفع
منها لأرباب الوظائف والشعائر وما سيرتب لهم ، وما فضل عن ذلك يختص به
الواقف لنفسه مدة حياته ، ثم من بعده على أولاده لصلبه الذكور دون الإناث ، ولا
تستحق الأنثى من أولاده ولا يستحق أولادها ذكورا كانوا أو إناثا ما دام أحد من أولاده
الذكور. على أنه إذا مات أحد أولاده الذكور عن غير ولد ولا ولد ولد عاد نصيبه إلى
من هو في درجته ، ومن مات عن ولد ذكر عاد نصيبه إلى ولده الذكر.
وشرط أن يكون
للمدرسة مدرس عالم متمم لجميع مواد العلوم العقلية والنقلية ويكون من صلحاء أكراد
ما وراء الموصل من صنجق كوي أو من صنجق بابا أو من صوران أو من غيرهم ، على أن
يقرأ يوم الاثنين والخميس التفسير ويقرأ في بقية الأيام إلا يوم الجمعة ما اختاره
من علوم المواد وغيرها ، وله في كل يوم ٤٠ عثمانيا فضيا حسابا عن كل ١٢٠ عثمانيا
بقرش واحد. وقد عين الواقف الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عمر الكردي من صنجق كوي ، وإذا انحل التدريس يوجه المتولي للتدريس لمن يوجد في
المدرسة من الأكراد المذكورين ، وإن لم يوجد في المدرسة المرقومة من الأكراد يوجه
التدريس لمن يوجد من الأكراد المذكورين في البلدة ، وإن لم يوجد ينيب المتولي أحدا
في خدمة التدريس المذكور بالوظيفة إلى أن يقدم إلى البلدة من علماء الأكراد من هو
بهذه الصفات.
وشرط محدثا
يقرأ الحديث يوم الثلاثاء والجمعة في كل يوم عشر عثمانيات. وشرط محدثا حنيفا يقرأ
يوم الأربعاء والأحد وله في كل يوم عشر عثمانيات. وقد وجه الشيخ محمد بن الشيخ
صالح المواهبي وشرط أن يكون لكل مدرس من المدرسين الثلاثة معيد وعين لكل معيد في
كل يوم ٤ عثمانيات ، وتعيين المعيدين راجع للمدرسين ، وشرط أن
__________________
يكون سكان حجر المدرسة العشرة من أكراد ما وراء الموصل وصنجق بابا وغيرهم
من أكراد تلك الأطراف لا يسكنها من أهل البلدة أحد على شرط أن يكون غير متزوج ،
ومن تزوج سقط حق سكناه في المدرسة ويسقط معلومه ، وشرط له في كل يوم ثماني
عثمانيات على أن يحضر الدروس المذكورة ويقرأ كل يوم جزءا من القرآن في المدفن ،
وشرط أن يدفع من غلة الوقف في كل يوم ستين عثمانيا لعشرين رجلا من القراء
المحمودين لكل رجل في كل يوم ٣ عثمانيات على أن يقرأ كل واحد جزءا شريفا في
المدفن.
وشرط أن يكون
للمكتبة التي أوقفها حافظ للكتب أمين ديّن فاضل صالح يفتح أبواب المكتبة في أربعة
أيام الأحد والاثنين والأربعاء والخميس لمراجعة طلاب العلم ، وله في كل يوم ٢٠
عثمانيا ، وتعطى الكتب للطلاب الساكنين في الحجر بمعرفة المدرس وكفالته.
هذا ملخص
وقفيته الأولى ، وله وقفية ثانية وقف فيها ١٦ قيراطا من خان العبسي الذي هو تجاه
جامع العادلية وبعض عقارات في أنطاكية ، ووقفية ثالثة وقف فيها عقارات أخر وشرط
فيها أن يزاد في كل يوم ٦٠ عثمانيا للمتولي و ٢٠ لمدرس التفسير والمواد و ٦ لمدرس
الحديث و ٦ لمدرس الفقه ، وزاد لكل مجاور في اليوم ١٨٠ درهما في الخبز وعثمانيين.
ومن جملة ما
شرط فيها أن يدفع في كل سنة اثنا عشر قرشا لخادم المصنع الذي أنشأه ولده محمد
أفندي بالقرب من قرية الأنصاري من طرف القبلة ، وأن يصرف على هذا المصنع من غلة
الوقف ما يحتاجه من التعمير والترميم ، وأن يدفع ستون قرشا سنويا للشيخ محمد
المواهبي شيخ الطريق القادري بحلب أحد خلفاء الشيخ قاسم الخاني ، يصرف هذا المبلغ
في طعام المختلين في زاوية الصالحية ، وأن يدفع ٢٤ قرشا لشيخ تكية النسيمي ابن
الصفا ، و ٢٥ قرشا لشيخ الإخلاصية في التكية الكائنة في محلة البياضة يصرفها على
طعام المختلين في الخلوة الأربعينية ، و ٤٨ قرشا لشيخ تكية القرقلار قرب دار
الواقف (هي دار الحكومة الآن) ، و ٣٠ لشيخ تكية الكلشنية في حلب ، و ٢٥ لشيخ زاوية
الهلالية بالجلّوم ، و ٢٤ لشيخ تكية العقيلية ، ومثلها لشيخ تكية يبرق بمحلة الشيخ
يبرق المدفون تجاهها الشيخ المذكور ، و ٧٢ قرشا لمدرس بالجامع الكبير يعلم الناس
أحكام الفطرة والأضحية على المذهب الشافعي والحنفي في يوم التروية وآخر يوم من
رمضان. وهناك شروط يطول ذكرها ، وتاريخ هذه الوقفية في ذي الحجة سنة ١١٧٨.
ورأيت إجازة
للمترجم بالطريقة القادرية من الشيخ علي ابن الشيخ عمر ابن الشيخ ياسين ابن الشيخ
عبد الرزاق الكيلاني الحموي قال فيها بعد الخطبة : قد سألني العبد الفقير إلى الله
تعالى الولد القلبي العالم الكامل فريدة العلماء الكاملين وقدوة الفضلاء المدرسين
افتخار السادات الأشراف خاص خلاصة بني عبد مناف فرع الشجرة الزكية وطراز العصابة
الهاشمية السيد الصالح السيد أحمد أفندي طه زاده وصحبته جماعة من الفقراء والأخوان
وسألوا المشار إليه ومن معه من أجل خلفاء البيت الشريف القادري أن يكون خليفة
وشيخا على الفقراء القادرية لما هو منطو عليه من الدين والعفة ، فاستخرت الله
كثيرا واتخذته هاديا ونصيرا فأجبتهم إلى سؤلهم فأقمته خليفة وشيخا على الفقراء
القادرية ... إلخ. وهي متوجة بختمه.
ولم يزل
المترجم على وجاهته وحشمته وتصدره في الشهباء إلى أن توفاه الله في النصف من رمضان
سنة ألف ومائة وسبع وثمانين ودفن في مدفن المدرسة عن يمين الباب الذي تدخل منه إلى
الحجرة التي دفن فيها والده.
وذكر الشيخ
بكري الكاتب في مجموعته أن المترجم بعد أن تمم عمارة القاسارية التي هي تجاه خان
القصابية دخل إليها ثم خرج وقعد في خان الكمرك وشرب القهوة فأخذ يشكو وجع قلبه ،
فأخذ إلى منزله في الحال ومات من ذلك رحمهالله وأجزل له الثواب.
وامتدحه شعراء
عصره منهم الأديب محمد بن علي الجمالي المتقدم الذكر فقال فيه مؤرخا ومهنئا له
بنقابة حلب سنة ١١٤٧ :
فز بالمنى يا
سيد الفضلاء
|
|
وارق العلا
بالرتبة القعساء
|
واهنأ بأبرك
منصب قلدته
|
|
لازلت فيه
ممتعا بهناء
|
دامت لك
العلياء تبلغ شأوها
|
|
وتحف
بالإجلال والعلياء
|
مولاي يا شرف
الزمان ومن حبي
|
|
شيما متوجة
بكل بهاء
|
حزت المفاخر
كابرا من كابر
|
|
إرثا من
الأجداد والآباء
|
وحويت كل فخامة
وشهامة
|
|
وصيانة
وأمانة وحياء
|
وجنيت أثمار
المكارم غضة
|
|
بمحامد
كالروضة الفيحاء
|
وسموت بالعرض
العريض مفاخرا
|
|
للنيّرين
ببهجة وثناء
|
وحبيت بالشرف
الرفيع عماده
|
|
وكسيت نورا
منه ذا لألاء
|
وملكت للمجد
الأثيل أزمة ال
|
|
فضل الجليل
ونلت كل ثناء
|
ولك النقابة
أذعنت منقادة
|
|
تختال في حلل
من الإبقاء
|
ووديعة عظماء
أنت محلها
|
|
وأمانة كبراء
ذات علاء
|
طرّست حلتها
بسؤددك الذي
|
|
أضحى مناط
الفخر في الشهباء
|
ألقت عصاها
في ذراك وعينها
|
|
قرت بمجدك
وازدهت بصفاء
|
فلها التهاني
حيث أحمد كفؤها
|
|
بل نجل طه
أعظم الأكفاء
|
شهم لنجدته
عنت شهب العلا
|
|
وزهت أسرّته
على الجوزاء
|
وربا بمحمدة
على أقرانه
|
|
وسما بمحتده
على النظراء
|
لا زال في
نعم الإله مغمّرا
|
|
في ظل عيش
وارف الأرجاء
|
ويدوم مرتقي
العلا ما غردت
|
|
ورقاء في فنن
بطيب غناء
|
قد قلت مذ
أنوار بشر أشرقت
|
|
بمسرة ومبرة
غراء
|
شمس السيادة
أسفرت أرخت عن
|
|
بدر النقابة
أحمد النقباء
|
وقال مؤرخا
ومهنيا بقدومه لحلب سنة ١١٦١ ، ويظهر أن ذلك بعد انفصاله عن قضاء القدس :
بدر السرور
زها بحسن توقد
|
|
وازدان من
أوج الحبور السرمد
|
ومعالم
الإجلال والإفضال قد
|
|
أضحى الفخار
لها جلي المشهد
|
وسمت ربوع
المكرمات وتوجت
|
|
شرفا بمقدم
ذي الوقار الأرغد
|
مولى الموالي
أحمد الأقوال وال
|
|
أفعال والمجد
الأعم الأوحد
|
قاضي قضاة
المسلمين ومن غدت
|
|
أحكامه تزهو
بحسن تسدد
|
كرمت خلايقه فكل
الصيد في
|
|
جوف الفرا
فاقصد حماه ترفد
|
السيد
المفضال بهجة دهرنا
|
|
والأمجد ابن
الأمجد ابن الأمجد
|
من طاب خيما
من ذؤابة هاشم
|
|
وحبي انتسابا
للجناب المصمد
|
وبه بنوطه
تسامى فخرهم
|
|
وافتر ثغر
علاهمو بالسودد
|
وأنارت
الشهباء عند قدومه
|
|
وسمت على هام
السها والفرقد
|
وغدت بنوها
في قرارة أعين
|
|
وسرورهم باد
به لم يجحد
|
عنها نأى
فازداد شأوا قدره
|
|
ورقت مراتبه
لسعد الأسعد
|
كالشمس تجتاب
البروج لتجتني
|
|
شرفا لديه
النيرات بمرصد
|
وبعودة
الأحباب عاد سرورهم
|
|
وتفطرت قهرا
قلوب الحسد
|
يا حبذا عود
كعيد للورى
|
|
أنعم بعود
للمحامد أحمد
|
وبه غدا
رمضان عيدا كله
|
|
والعيد يعقب
ذا القدوم الأسعد
|
عيدان في شهر
فحمدا للذي
|
|
قد منّ
باللقيا ولطف المشهد
|
مولاي يا ذا
الفضل والجود الذي
|
|
جدواه عمت كل
عاف مجتد
|
دم راقيا رتب
المعالي بالغا
|
|
أسنى المقاصد
والمنى والسودد
|
فبشائر
الإسعاد والإمداد قد
|
|
وافت تقول
لمتهم ولمنجد
|
سعدا وإقبالا
ويمنا أرخوا
|
|
شمس الهنا
أبدت لمقدم أحمد
|
وقال فيه أيضا
مؤرخا ومهنيا بقضاء بغداد سنة ١١٦٣ :
بشرى لبغداد
بنيل مرام
|
|
من بهجة
الإيمان والإسلام
|
ولها التهاني
والأماني أقبلت
|
|
تختال في حلل
الفخار النامي
|
وشموسها
بالسعد أشرق نورها
|
|
وبدورها قد
توجت بتمام
|
والشرع أصبح
نوره متوقدا
|
|
والعدل قام
بها أجل قيام
|
وبمحكم
الأحكام قد نال المنى
|
|
من خير قاض
عمدة الحكام
|
قاضي القضاة
الفرد في أحكامه
|
|
مولى الموالي
نخبة الأعلام
|
أعنى ابن طه
أحمد المحمود في
|
|
أفعاله
والفضل في الأحكام
|
السيد العدل
التقي المنتقى
|
|
من عنصر أبدى
كريم كرام
|
حاز السيادة
من ذؤابة هاشم
|
|
وحبي النجابة
في
أجل مقام
|
فضل له أهل
الفضائل أذعنت
|
|
ولمجده وقفت
على الأقدام
|
حسب ذكا في
الخافقين عبيره
|
|
نسب أنار به
دجى الأيام
|
|
هذا هو الفضل
المؤثل في الملا
|
|
هذا هو الشرف
الرفيع النامي
|
مولاي يابن
الأكرمين ومن له
|
|
زمت مطايا
سودد بزمام
|
هنئت أبرك
منصب تحيا به
|
|
باليمن والإسعاد
والإنعام
|
__________________
أنعم بأيمن
منصب يجدي إلى
|
|
رتب الكمال
بغارم وسنام
|
فاذهب إلى
دار الخلافة سالما
|
|
وارقى ذراها
آمنا بسلام
|
وبحسن إحسان
المآب فعد إلى
|
|
حلب بحكم
طايل الأحكام
|
ما مثل
مولانا نرى في دهرنا
|
|
بحرا بأنواع
المكارم طامي
|
هو زينة
العليا ورونق أهلها
|
|
هو بهجة
الدنيا وكل همام
|
فاهنوا بني
بغداد منه فعامكم
|
|
بوجوده قد ظل
أبرك عام
|
حقا ببغداد
أقول مؤرخا
|
|
شرع الرسول
بيمن أحمد سامي
|
وقال مؤرخا
بناء المدرسة الأحمدية سنة ١١٦٥ :
قد بنى أحمد
بن طه محلا
|
|
لدروس
المنطوق والمفهوم
|
وبنور
التوفيق قد تم أرخ
|
|
مسجد شاد
للتقى والعلوم
|
وهما منقوشان
فوق باب قبلية المدرسة.
الكلام على مكتبة هذه المدرسة :
هذه المكتبة
أعظم مكتبة في الشهباء وأنفسها ، وقد حفظتها لنا أيدي الزمان ولم يفقد منها سوى
بضع كتب ، منها كتاب بحر الأنساب وهو من نفائس الكتب كان أرسله المتولي السابق
الحاج عبد القادر أفندي الجلبي إلى الشيخ أبي الهدى أفندي الصيادي المشهور إلى
الآستانة ليستنسخه ويرده إلى المكتبة ، ولم يرده وذهب فيما ذهب من كتب الشيخ أبي
الهدى بعد وفاته.
والمكتبة مغلقة
دائما ، ومفاتيحها بيد خادم المدرسة سلمها إليه القيم عليها وهذا لا يفتحها إلا
عند الطلب خلافا لشرط الواقف الذي اشترط أن تفتح أربعة أيام في الأسبوع ، ولذا قلت
الاستفادة منها. ومن جهة أخرى فإنه ليس لها فهرست منظم يعلم منه نفائسها ، وطالما
راجعت القيم في لزوم وضع فهرست لها على الطرق الحديثة وزيادة خزائنها لتصف على
الاستقامة ليسهل تناول الكتاب المطلوب ، فكان يعد بذلك ولم يف بوعده إلى الآن. ومن
العبث أن ينتظم أمر هذه المكتبة ومكتبة المدرسة العثمانية التي تكلمت عليها في
الجزء
__________________
الثالث (ص ٢٦٠) ما لم تتوجه إليهما همة دائرة الأوقاف وتلزم المتولين
عليهما بذلك.
الكلام على الحالة العلمية في هذه المدرسة :
علمت مما تقدم
أن الواقف اشترط أن يكون المجاورون العشرة في هذه المدرسة من أكراد ما وراء الموصل
، ولا ريب أن قصده من ذلك أن يأتي هؤلاء من بلادهم فيتلقوا العلم في هذه المدرسة
إلى أن يتأهلوا ، ثم يخرجون منها فيسعون في نشر علمهم في هذه البلاد أو في غيرها ،
والذي شاهدناه منذ أربعين سنة إلى الآن أن أكراد تلك البلاد يأتون إلى هذه المدرسة
ويتخذونها دارا للبطالة ، وقل منهم من يشتغل بالعلم اشتغالا يجعله في صفوف العلماء
الذين يستفاد منهم ، ولما لم يكن في شرط الواقف مدة مخصوصة فكان أحدهم ربما جاور
في هذه المدرسة ثلاثين سنة أو أكثر وليس له من الغرض سوى تناول الوظيفة ويبقى على
ذلك إلى أن يموت وهو لم يحصل على طائل فلا استفاد ولا أفاد ، ويساعده على البطالة
وعدم الاهتمام بالتحصيل عدم انتظام أمر التدريس أيضا ، فكان ذلك داعية لأن لا يخرج
من هذا المعهد العلمي هذه المدة مع وفرة واردات عقارات أوقافه أحد تستفيد منه
الأمة ، ولم تتحقق غاية الواقف ، وكانت تذهب تلك الوظائف أدراج الرياح ، ولأن تسمى
هذه المدرسة دار عجزة أولى من أن تسمى دار علم ودراسة. ومن جهة أخرى فإن هذه
المدرسة تعطلت أثناء الحرب العامة وأصبحت خالية من الطلاب بتاتا فكانت كما قال
الشاعر :
مدارس آيات
خلت من تلاوة
|
|
ومهبط وحي
مقفر العرصات
|
كانت ذكراها
وذكرى غيرها من المدارس في حلب يؤلم قلبي ويذكرني قول القائل :
كفى حزنا أن
المدارس عطّلت
|
|
وأن بني
الآداب في الناس ضيعوا
|
وأن ملوك
الأرض لم يحظ عندهم
|
|
من الناس إلا
من يغنّي ويصفع
|
حياة بلا علم
حياة ذميمة
|
|
وعلم بلا جاه
كلام مضيّع
|
فلما عينت
نائبا في مجلس الأوقاف الأعلى الذي افتتح للمرة الأولى في دمشق في جمادى الأولى
سنة ١٣٤٠ الموافق لكانون الثاني سنة ١٩٢٢ بينت حالة هذه المدرسة وحالة المدرسة
__________________
الشعبانية التي اشترط واقفها أن يكون مجاوروها من الغرباء ، وقد أصبحت
حالتها مثل حالة هذه المدرسة ، فقرر المجلس وقتئذ في قراره (٢٩) ما يأتي :
فهم أن بعض
المدارس في حلب التي اشترطها واقفوها لطلاب العلم الشريف الغرباء من قطر معين ولهم
مرتبات معلومة هي معطلة من بضع سنين لعدم وجودهم ، ولما كان هذا الشرط متعذر العمل
به الآن ومفوتا لغرض الواقفين تقرر إلزام المتولين بإسكان هذه المدارس ممن وجد من
طلاب العلم الفقراء وإجراء الرواتب عليهم حسبما جاء في المادة ١٤ من قرار المجلس
الأعلى رقم ـ ١٦ ـ إلى أن يحضر الغرباء المشروط لهم فيقدمون عندئذ عملا بشرط
الواقف وذلك حرصا على إحياء الغاية الأساسية من نشر العلم الذي هو غرض الواقفين
الواجب مراعاته. ا ه.
وقد الزمت
دائرة الأوقاف بمقتضى هذا القرار المتولين على المدرستين أن يقبلوا فيهما الطلاب
سواء كانوا من أهل هذه البلاد أو من غيرها ، إلا أنه لم تتحقق الغاية المطلوبة
لعدم انتظام أمر التدريس فيهما وعدم العناية بأمر الطلاب وتطبيق النظام الموضوع
للمدرسة الخسروية ، ولذا لا يؤمل أن تخرج لنا هاتان المدرستان ما دامت هذه حالتهما
رجالا لا يخدمون دينهم وأمتهم ولله الأمر من قبل ومن بعد.
١١١٨ ـ عمر بن حسين اللبقي المتوفى سنة ١١٨٩
عمر بن حسين بن عمر الشهير باللبقي ، الحنفي الحلبي
الفاضل الأديب.
كان ذكيا له يد
ومعرفة بفنون الأدب ، حسن الأخلاق سهل المعاشرة لطيف الخلال.
ولد في سنة ست
عشرة ومائة وألف ، وقرأ على عبد الوهاب العداس وعبد السلام
__________________
(١١٣٦)
الحريري ومحمد بن إبراهيم الطرابلسي نزيل حلب ومفتيها. وسافر إلى إسلامبول
، ثم عاد إلى حلب وتولى نيابة القضاء في محاكمها الأربع. وارتحل إلى طرابلس الشام
وإلى الموصل مع حاكمها الوزير أحمد ، ثم قدم حلب ومكث بها ، ثم ارتحل للقدس ثانيا
في زمن مفتيها المولى أحمد بن الشيخ طه ، وأخذ الحديث عن الشيخ محمد التافلاني ،
وفي مروره مع القاضي المذكور على دمشق نزلا في دارنا واستقاما مدة عندنا ، وكان
بين والدي وبين القاضي المذكور مودة ومحبة.
وكان والد
المترجم من التجار المشاهير بحلب والرؤساء أرباب الشهرة والشان ، وولده صاحب الترجمة
اشتهر بالأدب والكمالات ، وكانت تجري بين أدباء عصره ومصره وبينه المحاورات
والمطارحات ، وفي آخر أمره ترك تعاطي أمور الأحكام ولازم ما لابد منه.
وله شعر مقبول
رأيت أكثره ، فمن ذلك قوله لما أصاب حلب من الزلزال ما أصاب :
سنا نور سر
الذات أشرق في الحشا
|
|
فزال بذاك
النور عن طرفي الغشا
|
وشاهدت أن لا
شيء دون وصالها
|
|
وأيقنت فضل
الله يؤتيه من يشا
|
ونزهت طرفي
في رياض جمالها
|
|
فعاد بريّا
نشرها القلب منعشا
|
فحيا شذاها
ميت قلبي وحبها
|
|
تملك أحشائي
وفي اللب عرّشا
|
ومذ علمت أني
أسير بحبها
|
|
فجادت بما أبغيه
منها وما أشا
|
وبت بنادي
القرب أرشف ثغرها
|
|
فأصبحت
نشوانا وسرّي قد فشا
|
وذاع لدى
العشاق أمري وأنني
|
|
خلعت عذاري
واسترحت من الوشا
|
وبادرت نحو
الحان من فرط شوقها
|
|
أنادي أيا
خمار كن لي منعشا
|
فجاء بها
عذراء بكرا قديمة
|
|
وقال لي افضض
ختمها كيفما تشا
|
تعاطيتها
صرفا ومزجا مشاهدا
|
|
بها كشف
أسرار لعقلي أدهشا
|
عرفت فلما أن
أفقت سمعت من
|
|
فؤادي مناد
عج من داخل الحشا
|
أيا مفزع
الجاني وأكرم شافع
|
|
وأعظم مبعوث
وأشرف من مشى
|
إليك أنبنا
والتجأنا فنجنا
|
|
من الخطب
والأهوال فالرعب قد غشا
|
فأمّن بحق
الحق قلبي لأنه
|
|
من الخسف
والزلزال قد خاف واختشى
|
عليه وأسبل
ذيل أمنك واكفه
|
|
بجاهك عند
الله في الصبح والعشا
|
وله وقد أخذ
المعنى من شعر فارسي وعربي :
في المرء إن
لم يكن شيء يميزه
|
|
عن جنسه
بذكاء الفهم والأدب
|
كما إذا لم تكن
في العود رائحة
|
|
لكان لا فرق
بين العود والحطب
|
وله مضمنا :
وما كل ذي
رأي مصيب برأيه
|
|
ولا كل راء
في الحقيقة باصر
|
لعمري ما
الأبصار تنفع أهلها
|
|
إذا لم يكن
للمبصرين بصائر
|
وله :
وشادن قلت له
|
|
دعني أقبل
شفتك
|
فقال لي كم
مرة
|
|
قبلتها ما
شفتك
|
وله مخمسا
أبيات الإمام الشافعي رضياللهعنه :
مذ مقلتي
كشفت لها أستاره
|
|
وتلألأت
بجوانحي أنواره
|
طرفي بكى
فحكى الحيا مدراره
|
|
قالوا أتبكي
من بقلبك داره
|
جهل
العواذل داره بجميعي
|
فأنا المقيم
بحانه وبديره
|
|
ثملا أجول
بفضله وبخيره
|
وأقول للاحي
المجد بسيره
|
|
لم أبكه لكن
لرؤية غيره
|
طهّرت
أجفاني بفيض دموعي
|
وله مشطرا :
والطل في سلك
الغصون كلؤلؤ
|
|
قد شنفوا فيه
الحسان وقرطوا
|
فتراه كلل كل
غصن يانع
|
|
رطب يصافحه
النسيم فيسقط
|
والورق تقرأ
والغدير صحائف
|
|
والروض يستملي
الحديث ويضبط
|
والظل قد مد
المداد يراعه
|
|
والريح يرقم
والغمام ينقّط
|
وله في كتاب «الشفاء
الشريف» :
دع الدواء
وداوي بالشفاء إذا
|
|
أعيا العليل
عضال الداء من ألم
|
فإنه برء كل
المعضلات بلا
|
|
شك وفيه زوال
البؤس والسقم
|
وله في النعل
الشريف :
لنعل خير
البرايا
|
|
على الرؤوس
ارتفاع
|
يحمله الرأس
يبرا
|
|
إن اعتراه
الصداع
|
وله مشطرا :
إذا كانت
الأعراب تخفر ذمة
|
|
وتحمي أناسا
مال عنها نصيرها
|
وتسمح عن ذنب
ولو أوجب القلى
|
|
وتصفح عمن
أمها يستجيرها
|
فكيف ومن في
كفه سبّح الحصى
|
|
شفيع ذوي
الآثام وهو بشيرها
|
فحاشى عريض
الجاه في موقف الجزا
|
|
يخيب بني
الآمال وهو غفيرها
|
وله مشطّرا
أيضا :
اشرب على
نغمة الدولاب كاس طلا
|
|
تمحو الذنوب
بهذا جاءنا الخبر
|
فرضا غدا
شربها يا صاح حين بدا
|
|
يسعى بها
شادن في طرفه حور
|
وامدح فديتك
ما بالراح من ملح
|
|
فبعض حكمتها
الأشخاص والصور
|
بادر إلى
حانها واشرب بلا جزع
|
|
وما عليك إذا
لم تفهم البقر
|
وله مشطّرا :
ولي عصا من
جريد النخل أحملها
|
|
براحتي وهي
عون لي على هرمي
|
وراحتي هي في
سيري ومعتمدي
|
|
بها أقدم في
نقل الخطا قدمي
|
ولي مآرب
أخرى أن أهش بها
|
|
على جيوش
هموم قصرت هممي
|
ومقصدي الهش
في القول الأصح بها
|
|
على ثمانين
عاما لا على غنمي
|
وله :
يا من علا
متن البراق
|
|
ورقى وأتحف
بالتلاق
|
__________________
قد صح سار
بجسمه
|
|
وسما إلى
السبع الطباق
|
سهل أمور
معاشنا
|
|
فالصبر مر في
المذاق
|
واجبر كسير
قلوبنا
|
|
فضلا فقد ضاق
الخناق
|
ثم الصلاة
على الذي
|
|
لما اتانا
الوقت راق
|
ومحا بنور
جماله
|
|
ظلم الضلالة
والشقاق
|
وله مشطّرا :
قدر الله أن
أكون غريبا
|
|
بين قوم أغدو
مضاعا لديها
|
ورمتني
الأقدار بعد دمشق
|
|
في بلاد أساق
كرها إليها
|
وبقلبي
مخدرات معان
|
|
حين تبدو
تختال عجبا وتيها
|
صرت إن رمت
كشفها فأراها
|
|
نزلت آية
الحجاب عليها
|
وله في حلب :
شهبا العواصم
لا تخفى محاسنها
|
|
فالله يكلؤها
من كل ذي عوج
|
يمم حمى حلب
تلق السرور على
|
|
جبين أبنائها
النير البهج
|
فعج ولج
وتأمل بلدة شملت
|
|
باب الجنان
وباب النصر والفرج
|
وللفاضل الرئيس
يوسف بن حسين الحسيني الدمشقي نقيب الأشراف بحلب ومفتيها ما يقرب من ذلك ، وهو
قوله :
قل لمن رام
النوى عن بلدة
|
|
ضاق فيها
ذرعه من حرج
|
علل القلب
بسكنى حلب
|
|
إن في
الشهباء باب الفرج
|
وله مخمّسا :
زاد في الصد
للشجي المعنى
|
|
وأذاب الفؤاد
ظلما وأضنى
|
قلت مذ ماس
معجبا يتثنى
|
|
أيها المعرض
الذي صدّ عنّا
|
بجفا
لا يرى له أسباب
|
أصبح القلب
من جفاك كليما
|
|
وصبورا متيما
مستقيما
|
عاتبا سوء
حظه وعليما
|
|
رح معافى من
العتاب سليما
|
فعلى الحظ لا عليك العتاب
وله غير ذلك.
وكانت وفاته
بحلب في ربيع الأول سنة تسع وثمانين ومائة وألف رحمهالله.
١١١٩ ـ أحمد بن صالح الورّاق الشاعر المتوفى سنة ١١٨٩
أحمد بن صالح
بن أحمد بن صدقة المعروف بالورّاق ، الخلوتي الإخلاصي الحلبي ، الأديب الناظم
البارع السميدع.
كان نادرة
الشهباء في الأدب ونظم الشعر ، فاضلا له اطلاع وفضيلة بالمعاني والبيان والعربية
وفنون الأدب والعلم ، ممن أشرقت شمس آدابه وأينعت رياض معارفه وراقت مواردها ، حسن
الأخلاق مجيدا ماهرا محبوبا عند الناس.
ولد في رجب سنة
ثلاث وعشرين ومائة وألف ، وكان في ابتداء شبابه يتعاطى صناعة القصب ، ثم في عام
ثمان وأربعين انتقل إلى باب أموي حلب الشرقي واشتغل ببيع الورق فنسب حينئذ إلى الورّاق.
صحب أفاضل
الشهباء وجد في الطلب ، أخذ العربية عن العالم الشيخ محمد الحموي ، وأخذ الفقه
والعقائد عن الشيخ قاسم النجار ، وأخذ البديع عن الشيخ قاسم البكرجي وعن الشيخ
محمد المعروف بابن الزمار ، وأجازه علامة بغداد الشيخ صالح البغدادي ، وسمع معظم
صحيح الإمام البخاري عن المحدث محمد بن الطيب المغربي نزيل المدينة عام قفوله من
الروم ، وأخذ المصطلح والأدب والمعاني والبيان عن الشيخ أبي الفتوح علي الميقاتي
بأموي حلب وانتفع به كثيرا ، واستجاز الشيخ صالح الجنيني الدمشقي عام ارتحاله
إليها وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة وألف ، فأجازه بثبته.
وله أدبية وشعر
واطلاع على فنون الأدب ومعرفة غثه من سمينه ، فمن ذلك قوله متوسلا بزاكي الآباء
والجدود ، صاحب المقام المحمود ، صلىاللهعليهوسلم :
زمن الربيع
به الأزاهر
|
|
تفتر عن ثغر
البشائر
|
فانهض إلى
روض المنى
|
|
وانف الهموم
عن الضمائر
|
واسمع غناء
بلابل
|
|
قد غار منها
كل طائر
|
وتمايلت قضب
الأراك
|
|
تريك ميلات
المفاخر
|
والنهر يحكي
ماؤه
|
|
درا أذيب على
الجواهر
|
والشمس من
حلل الغصو
|
|
ن كأنها غيرى
تناظر
|
وغدت نسيمات
الريا
|
|
ض تنم عن سر
الأزاهر
|
والورد كلل خده
|
|
در من السحب
المواطر
|
والأقحوان
كأنه
|
|
أجفان صب بات
ساهر
|
فاطرب بما
صنع الإله
|
|
وكن له يا
صاح شاكر
|
منها :
واجل الكروب
بمدح ط
|
|
ه المصطفى
نور البصائر
|
الفاتح البر
الرؤوف
|
|
محمد زاكي
العناصر
|
والعاقب
الماحي الذي
|
|
ضاءت بمبعثه الدياجر
|
ذي المعجزات
الباهرا
|
|
ت ومن غدا
للغي باتر
|
هو سيد سادت
به
|
|
آباؤه الغر
الأطاهر
|
وبه افتخار
أولي الكمال
|
|
من الأوائل
والأواخر
|
طابت أرومة
ذاته
|
|
والطيب لا
ينفك عاطر
|
وقوله متوسلا
بأشرف الوسائل وسيد الأواخر والأوائل صلىاللهعليهوسلم :
خطرت فغار
الغصن من خطراتها
|
|
ورنت فشمنا
السحر في حركاتها
|
غيداء رنّحها
الصبا بعقاره
|
|
فنضت سيوف
الهند من لحظاتها
|
نصبت لنا شرك
الغرام شعورها
|
|
فتكا بنا
والفتك من عاداتها
|
ورمت حواجبها
القسي سهام ما
|
|
قد راشت
الأجفان من نظراتها
|
طارحتها شكوى
الغرام فلم يفد
|
|
إلا تماديها
على نفراتها
|
ودعوتها أخت
الغزال ترفقي
|
|
في مهجة صبرت
على زفراتها
|
ومحاجري ترعى
النجوم وربما
|
|
أربت على
الطوفان في عبراتها
|
لم يرقها إلا
التكحل من ثرى
|
|
دار يفوح
المسك من عتباتها
|
دار الذي وسع
البرية فضله
|
|
وله اليد
البيضا على ساداتها
|
أعني به طه
الذي بجنابه
|
|
لاذت جميع
الخلق في شداتها
|
وتتمتها في
المرادي أيضا.
وله مضمنا
البيت الأخير :
يا صاحبيّ
قفا نسائل ساقيا
|
|
ملأ القلوب
بلاعج الأشواق
|
تالله لا
أدري عشية أن سقى
|
|
ماذا سقى
لمعاشر العشاق
|
قد خامرتني
والكؤوس لحاظه
|
|
فكأننا كنا
على ميثاق
|
فاستنشداه عل
يخبر صادقا
|
|
فلقد تشاكل
أمر هذا الساقي
|
أحداقه ملئت
من الأقداح أم
|
|
أقداحه ملئت
من الأحداق
|
وله أيضا :
أسأت إلى
نفسي وغيري جهالة
|
|
بسهو وعمد
والمهيمن ساتر
|
وظني بأن
الله جل جلاله
|
|
جميع ذنوبي
حين موتي غافر
|
وله غير ذلك.
مرض في أوائل
شعبان المعظم وانقطع في داره ، وتوفي ليلة الخميس ثاني عشر ذي القعدة الحرام سنة
تسع وثمانين ومائة وألف ، ودفن في مقبرة جامع البختي تجاه تكية بابا بيرم رحمهالله تعالى. ا ه.
وأورد له في
سلك الدرر في ترجمة الوزير محمد باشا العظم قصيدة طويلة يمدحه بها مطلعها :
أعرف البان
أم نفح الورود
|
|
أطيب المسك
أم أنفاس عود
|
وقد ذكرنا
بعضها في الجزء الثالث في صحيفة (٢٧٦).
١١٢٠ ـ حسن بن عبد الله البخشي المتوفى سنة ١١٩٠
حسن بن عبد
الله بن محمد البخشي الحلبي. كان عالما فاضلا ذكيا ذا هيبة ووقار ، لطيفا خلوقا.
ولد سنة إحدى
عشرة ومائة ألف ، وقرأ على والده العلامة المحدث الحجة الشيخ عبد الله البخشي ،
أخذ عنه الفقه والنحو والحديث والتصوف ، وألبسه الخرقة ولقنه الذكر ، وعلى عمه
العلامة الشيخ إبراهيم البخشي المدرس بمدرسة المقدمية بحلب ، وأخذ عنه الكتب الستة
والأدب والعلوم العربية ، وكذلك عن عميه العالمين الشيخ إسحق والشيخ عبد الرحمن ،
وقرأ على العلامة السيد محمد الكبيسي الحلبي حسب الله أمين الفتوى والشيخ عبد
الرحمن العاري والشيخ علي الميقاتي والشيخ حسن السرميني والشيخ حسن الطباخ والشيخ
قاسم النجار والشيخ سليمان النحوي والمولى علي الأسدي والشيخ علي الشامي والشيخ
أحمد الحافظ ، وأخذ الفرائض والحساب عن العلامة الشيخ جابر المصري ، وأخذ علم
الكلام عن شيخه السيد محمد الطرابلسي مفتي حلب ، والقراءات عن شيخه الشيخ عمر البصير
والسيد عبد الله المسوتي ، واستجاز له والده من السند المحدث الشيخ حسن العجمي
المكي والشيخ أحمد النخلي ، وأخذ عن الشيخ أبي طاهر الكوراني وإلياس الكردي نزيل
دمشق والأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي ، وقرأ على الشيخ طه الجبريني
الحلبي ، وعلى العلامة الشيخ محمد عقيلة المكي لما قدم حلب ، وعلى الشيخ عبد
الرحمن والشيخ عثمان ولدي الحجار الملازمين بالمدينة المنورة والمدرسين بالحرم
النبوي ، وعلى الشيخ السيد عيسى المرشدي إمام الحنفية بالكعبة المشرقة المكي ،
وعلى الولي الزاهد الشيخ عبد الله الزمزمي.
وله سياحة في
كثير من البلاد ، ذكر من اجتمع بهم من الأفاضل في رحلته ، وتردد على قسطنطينية
مرارا وقرأ على علمائها ، وألف وأجاد ونظم وفضل ، فمن تآليفه «بلهجة الأخيار في
شرح حلية المختار» ، ومنها «النور الجلي في النسب الشريف النبوي» ، وتأليف
عظيم في الرد على من اقتحم القدح في الأبوين المكرمين ، ورسالة في رجال الشمائل ،
وشرح على الشمائل ، وله شرح على أسماء البدريين ، وله تأليف في العقائد
سماه «تحرير المقال في خلق الأفعال» . وله ديوان حافل وشرح مفيد على قصيدته
__________________
المسماة «بعقود الآداب» سماه «تنقيح الألباب في حل عقود الآداب».
وكان يتعاطى
القضاء والنيابة بحلب وغيرها. وقبل وفاته بأكثر من عشرين سنة انفصل عن قضاء صيدا
بالفعل وترك طريق القضاء اختيارا للعزلة ولازم تكية الإخلاصية بحلب ، وكان لا يخرج
منها إلا وقت الدروس ، وآلت مشيختها وتولية أوقافها له بحسب الشرط فلم يرغب لها
رضاء بالقناعة والعزلة ، وسمح بها لابن أخيه السيد محمد صادق.
ومن فرائد شعره
قوله من قصيدة تبلغ مائة بيت امتداحا في الجناب الرفيع صلىاللهعليهوسلم :
رحم الجيب
تنفس الصعداء
|
|
فأجاب فيه
تضرعي ودعائي
|
قد لذلي فيه
التذلل والعنا
|
|
وغدا سقامي
فيه عين شفائي
|
حارت ذوو
الألباب فيه صبابة
|
|
وضلالهم في
ذا غدير هدائي
|
منها :
فاضممه عني
إن حظي عاقني
|
|
واخبره أني
قانع بفنائي
|
وبه انثني
نحو العقيق مقبلا
|
|
بالجفن خد
التربة الفيحاء
|
منها :
وبفيض جودك
سيدي وبنسبتي
|
|
قلبي الحزين
معلل بقراء
|
أأضام في يوم
الجزاء وملجئي
|
|
لحماك فيه
سيد الشفعاء
|
لا أختشي محل
الرجال وجودكم
|
|
يغني إذا عن
ديمة وطفاء
|
كل الورى
يرجون منك شفاعة
|
|
هي حصنهم في
الشدة الدهماء
|
وكذاك ذا
البخشي يرجو نظرة
|
|
يسمو بها
فرحا إلى العلياء
|
ويفوز
بالرضوان يوم مآبه
|
|
متشرفا من
نوركم بضياء
|
لا غرو أن
يعطى مناه في غد
|
|
حسن وأنت
وسيلة الرحماء
|
ومن شعره
متوسلا بأهل بدر :
يا سادتي أهل
بدر إن قاصدكم
|
|
يعطى الأماني
ولو حفت به الغير
|
ما نابني كدر
يوما ولذت بكم
|
|
إلا وساعد
فيما أرتجي القدر
|
ومن معمياته في
عثمان وعلي :
ودعتني وتشكت
بيننا
|
|
ودموعي فوق
خدي كالجمان
|
قلت في كم
ينقضي هذا الجفا
|
|
فأشارت لي
بلحظ وثمان
|
وقوله معميا في
محمد :
فوضت أمري
لربي وارتضيت بما
|
|
قضاه لي قبل
تخليقي من القسم
|
وإن جفا ذمتي
ظلما بغير وفا
|
|
صابرته شاكرا
والحمد ملء فمي
|
وله في حسن :
من مجيري في
هواه شادن
|
|
سهم لحظيه
بعمد صائبي
|
خلع الحسن
عليه تاجه
|
|
وحمى الطرة
فوق الحاجب
|
وكانت وفاته في
حادي عشر رمضان سنة تسعين وماية وألف رحمهالله. ا ه.
وأورد له
المرادي غير ذلك فارجع إليه إن شئت.
ومن نظمه تشطير
أبيات ظافر الحداد كما وجدته في بعض المجاميع :
لو كان
بالصبر الجميل ملاذه
|
|
ما ضاع قلب
بالنوى استجذاذه
|
أو كان ممن
في الهوى متكلفا
|
|
ما سحّ وابل
دمعه ورذاذه
|
لا زال جيش
الحب يغزو قلبه
|
|
بحسام لحظ
كحله شحاذه
|
ويريعه
بالبعد عن أحبابه
|
|
حتى وهى
وتقطعت أفلاذه
|
من كان يرغب
في السلامة فليكن
|
|
بحمى التعفف
عن هواه معاذه
|
أو ما ترى
قلبي المصدع بالنوى
|
|
أبدا من
الحدق المراض عياذه
|
لا يخدعنّك
بالفتور فإنه
|
|
شرك النفوس
وإن حلا استجباذه
|
وعلى الحقيقة
إن ترم تعريفه
|
|
نظر يضر
بقلبك استلذاذه
|
هاروت يعجز
عن مواقع سحره
|
|
ولقد غدا منه
به استعواذه
|
__________________
فاعجب له كيف
استجار بظله
|
|
وهو الإمام
فمن ترى أستاذه
|
رفقا بجسمك
لا يذوب فإنني
|
|
قد ساءني
والله منه بذاذه
|
ولئن صبرت
على مكابدة الجوى
|
|
أخشى بأن
يجفو عليه لاذه
|
لم يبق فيه
مع الغرام بقية
|
|
إلا أنين
القلب وهو ملاذه
|
والقلب فتت
بالصدود وما بقي
|
|
إلا رسيس
يحتويه جذاذه
|
يا أيها
الرشأ الذي من لحظه
|
|
شهدت بوادر
حتفها عوّاذه
|
كيف النجاة
وقد بدا منه لنا
|
|
سهم إلى حب
القلوب نفاذه
|
در يلوح بفيك
من نظّامه
|
|
في سمط ياقوت
غلت أفذاذه
|
ولقد سكرت
بوصف ذاك فنبّني
|
|
خمر يجول
عليه من نبّاذه
|
وقناة ذاك
القد كيف تقومت
|
|
ونحول ذاك
الخصر من جبّاذه
|
وسهام ذاك
الخد كيف شحذتها
|
|
وسنان ذاك
اللحظ ما فولاذه
|
تالله ما علقت
محاسنك امرأ
|
|
فنجا ورد
فؤاده أخّاذه
|
كلا وما صاد
الذوائب مغرما
|
|
إلا وعز على
الورى استنقاذه
|
أغريت حبك
للقلوب فأذعنت
|
|
للحسن لم
يوجد بها ملّاذه
|
فدّاه أجمعها
بنقد حياتهم
|
|
طوعا وقد
أودى بها استحواذه
|
مالي أتيت
الحظ من أبوابه
|
|
فجنى عليّ
بمنعه جذّاذه
|
وبذلت في
نظري إليه وقربه
|
|
جهدي فدام
نفوره ولواذه
|
إياك من طمع
المنى فعزيزه
|
|
شغف به يحلو
له آذاذه
|
لكنه في نقد
أرباب النهى
|
|
كذليله وغنيه
شحاذه
|
ومن نظمه كما
وجدته في بعض المجاميع الحلبية :
خط الجمال
على فؤادي أسطرا
|
|
فغدوت منها
هائما متفكرا
|
وبدا الحبيب
كأنه ريحانة
|
|
لعب الصبا
سحرا بها فتعطرا
|
__________________
وترنحت
أعطافه لدلاله
|
|
فعدمت فيه
تثبتا وتصبرا
|
أبدى ابتسام
الثغر عن در وقد
|
|
أهدى شذاه
للبرية عنبرا
|
ورضابه ماء
الحياة فليته
|
|
أحيا قتيل
الحب فيه فأعذرا
|
سهم أصاب
القلب من أجفانه
|
|
فغدا لنيران
الصبابة مسعرا
|
وشربت من خمر
المحبة والجوى
|
|
كأسا أفيض
على العقول فأسكرا
|
فغدوت نشوانا
بطيب رحيقه
|
|
طربا أميل
وفي الحشا ما لا يرى
|
لم أنسه لما
تبدى مقبلا
|
|
في حلة وردية
متبخترا
|
وتضرجت
وجناته فبدا لنا
|
|
نور على نور
أضاء فأبهرا
|
فكأنه قمر
تلألأ مشرقا
|
|
بغمامة حمراء
أمسى مسفرا
|
أهدت محاسنه
إلى أبصارنا
|
|
ما أدهش
الألباب حتى حيرا
|
يا صاحبي
بلوى العقيق وحاجر
|
|
حيث الغضنفر
للمهبا استأسرا
|
لو شاهدت
عيناك ما شاهدته
|
|
للقيت من عز
المحاسن عسكرا
|
فمن الذي يجد
احتمال نباله
|
|
ومن المحدث
نفسه أن يصبرا
|
وأردت كتم
الحب عن عذاله
|
|
فغدا السقام
ودمع عيني مخبرا
|
فبذلت روحي
في هواه متاجرا
|
|
ورأيت ذاك
لديه أربح متجرا
|
بالله
فاعذرني بذاك فإنني
|
|
صب أرى فيه
المنية مفخرا
|
ما غاب إلا
والخيال ممثل
|
|
لي شخصه فأظل
فيه مفكرا
|
ويزيدني شغفا
ووجدا متلفا
|
|
ويروق لي في
الذهن ثمة منظرا
|
من مسعدي
بوصاله فلقد كفى
|
|
ما قد همى من
مقلتّي وما جرى
|
أو قبلة من
خده أو ثغره
|
|
وإذا تعذر
حسبنا أن ننظرا
|
أو ضم أعطاف
تميس للينها
|
|
فتريك غصنا
بالملاحة مثمرا
|
أو رشف مبسمه
الشهي المحتوي
|
|
شهدا تباع به
القلوب وتشترى
|
أو لمحة منه
ترد فؤادي المفقود
|
|
من ألم النوى
المتحسرا
|
أو زورة من
طيف طيف خياله
|
|
فلقد فنيت
تشوقا وتصبرا
|
أو نظرة لفتى
رآه لعله
|
|
يهدي إليّ
حديثه متكررا
|
__________________
أو مس ترب
مقامه وربوعه
|
|
بالجفن كي
يحظى بتقبيل الثرى
|
فلقد أذاب
الشوق مهجة ماجد
|
|
لو لا الغرام
لما أباح وسطرا
|
لو زرته
لعلمت ما فعل النوى
|
|
ونظرت أعجب
ما نظرت من الورى
|
جسما يحاكيه
الهلال نحافة
|
|
والنور لطفا
والهواء تسيّرا
|
وقد ظفرت
بمنظومته المسماة «بعقود الآداب» التي ذكرها المرادي في تعداد آثاره وبغير ذلك من
نظمه الحسن ، وفي إيراد الجميع طول فاكتفيت بهذا المقدار.
وقد وقف كتبه
على التكية الإخلاصية في محلة البياضة ، وهي هناك غير أنها لم تبق على حالها وفيها
نفائس كثيرة لو تكلمت عليها لطال ذيل الكلام.
١١٢١ ـ عطاء الله الصحّاف المتوفى سنة ١١٩٠
عطاء الله بن
عبد الله الصحّاف ، العالم الفاضل المتحلي بمحاسن الأخلاق والأوصاف ، نحوي العصر
وخلاصة أبناء الدهر ، بل جهبذ تتمايل به الفضائل وجدا ، وتكسى من معالمه الأفاضل
بردا ، ونظّار تسطع الشهب من نور بصيرته ، ومحقق تقف الألسن عند ذكر سيرته ، وإمام
تقتدي النهى بآرائه ، وهمام تسامت همته عن نظرائه ، إن ذكر اللسان فعضب لا ينبو ،
أو جلي البيان فنار لا تخبو ، أو مسايرة الإخوان فجواد لا يكبو ، أو العلوم
العربية والمعاني الأدبية ، فهو ابن بجدتها المقتعد متون النجب الأبية.
ولد رحمهالله بحلب في حدود الأربعين بعد المائة والألف ، واشتغل
بالفقه النفيس ، على المذهبين النعماني وابن إدريس ، وشمر ساق الجد إلى تحصيل
الفضائل مع تشعب فنونها ، وقطع الفيافي من سهو لها وحزونها. ثم تصدر للإقراء
والإفادة ، خافضا جناحه لأولي الطلب والاستفادة ، يمضي ليله في تلاوة كلام الخالق
، ونهاره في نشر العلم وقطع العوائق ، حتى توفاه الله بدرا طالعا ، واختاره إلى
جواره عابدا طائعا ، في ثالث صفر سنة تسعين ومائة وألف.
وله من الغزل
الرائق المطبوع ، والمديح النبوي المسموع ، ما هو عند الخبير مستجاد ، ويلهي عن
أحاديث ميّة وسعاد. وله في جناب الوالد المرحوم المبرور قصائد كأنهن القلائد ،
منها قوله مهنئا له في الفتوى سنة ١١٨٧ :
بزغت كواكب
فضله للمهتدي
|
|
وبدت فقالت
للظلام تبدد
|
|
وتبلجت تلك
المطالع وازدهت
|
|
شرفا ببدر
كمالها المتأيد
|
مولى تسامى
بالكمال وقاره
|
|
وسما بسودده
محل الفرقد
|
وأصوله كرمت
وطاب مكانة
|
|
فزكا بأصل
ماجد وبمحتد
|
مولاي إني قد
أتيت مهنيا
|
|
فشذا ثنائك
فاح عنبره الندي
|
يهنيك بل
يهني بك الإفتاء إذ
|
|
بك قد تجمل
بالبها والسودد
|
لمزيد فضلك
قد أتيت مبجلا
|
|
من غير ما
طلب ولا بتعهد
|
فيه المسرة
للإمام تكاملت
|
|
وبدا الهناء
بطيب عيش أرغد
|
وبه لسان الحال
قال مؤرخا
|
|
دام السرور
لعود إفتا أحمد
|
ا ه من «اللوائح
والنفائح» للكواكبي ، وأورد له غير ذلك من النظم وفيما ذكرناه كفاية.
١١٢٢ ـ إبراهيم المداري المتوفى سنة ١١٩٠
إبراهيم بن
مصطفى بن إبراهيم الحنفي الحلبي المداري ، نزيل قسطنطينية ، العلامة الكبير والفهامة
الشهير ، آية الله الكبرى في العلوم العقلية والنقلية ، ذو التصانيف الباهرة الذي
هو بكل علم خبير. كان من أكابر العلماء الفحول وشهرته تغني عن تعريفه ووصفه.
ولد بحلب ،
وكان مداريا في الأصل (المداري الذي يصنع آلة التذرية) ففتح الله عليه ، واشتغل في
بدايته على أهل بلدته حلب الشهباء ، وكان رأى رؤيا فقصها على شيخه ومربيه الشيخ
صالح المواهبي شيخ القادرية بحلب ، فأمره بالقراءة في العلوم ، فتوجه إلى مصر
القاهرة واستقام بها سبع سنين مشتغلا وأتقن فيها المعقولات ، ثم توجه إلى بلده
فسئل عن المنقول فأظهر أنه لم يحققه كما ينبغي ، فقالوا له : احتياجنا إلى المنقول
أكثر من احتياجنا إلى المعقول ، فسافر إلى الحج على طريق الشام ، وقدم دمشق وأخذ
بها عن جماعة ، فأخذ التصوف عن الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي ، وأخذ عن الشيخ
أبي المواهب بن عبد الباقي مفتي الحنابلة بها والشيخ إلياس الكردي نزيلها ، وقرأ
مفصل الزمخشري على الشيخ محمد الحبال ، وأخذ عن الشهاب أحمد الغزي العامري. وتوجه
إلى الحج فأخذ عن الجمال عبد الله بن سالم البصري المكي والشيخ أبي طاهر بن
إبراهيم الكوراني المدني والشيخ محمد
حياة السندي والشيخ محمد بن عبد الله المغربي. ثم رجع إلى القاهرة فأخذ
المعقولات والمنقولات عن السيد علي الضرير الحنفي ، وكان معيد درسه وانتفع به
كثيرا ، وعن الشيخ موسى الحنفي والشيخ سليمان المنصوري مفتي الحنفية وعن الشيخ
سالم النفزاوي المالكي والشيخ الدفري والشيخ أحمد الملوي والشهاب الشيخ أحمد بن
عبد المنعم الدمنهوري والشيخ علي العمادي والشيخ محمد بن سيف والشيخ منصور
المنوفي.
وأذن له
المشايخ بالتدريس فأقرأ «الدر المختار» وهو أول من أقرأه في تلك الديار وأول محشّ
له ، فأقرأه في أربع سنوات مع الملازمة التامة ، وأقرأ «الهداية» وغيرها ، وانتفع
به الجل.
واشتهر بالذكاء
والفضيلة ، وتزاحمت الطلبة على دروسه ، وصار إماما ليوسف كيخيه ، وانتفع من
المذكور بدنيا عريضة وجهات كثيرة ، إلى أن توفي فآذاه الأمير عثمان الكبير أحد
أمراء مصر المعبر عنهم بالصناجق واستخلص جميع ما بيده من الجهات وألزمه بأموال
كثيرة ، فما بقي عنده شيء. ففي تلك السنة عزل من طرف المصريين الوزير سليمان باشا
العظم من ولاية مصر ، فأرسلوا للشكاية عليه المترجم مع جماعة ، فتوجه إلى الدولة
العثمانية فما اعتبره واليها ، وكان رئيس كتابها إذ ذاك الوزير محمد باشا المعروف
بالراغب ، فلما اجتمع به واطلع على غزير فضله وعلمه أخذه إليه وتلمذ له فأقرأه في
كثير من العلوم وقابل له النسخ المتعددة منها «الفتوحات المكية» أتى بأصلها نسخة
مؤلفها من قونية وغالب النسخ المقابلة خط المترجم ، واشتهر إلى أن أعطي الراغب
الأطواغ ومنصب مصر ، فأراد التوجه وأنزل حوائجه في السفينة فمنعته القدرة الإلهية
وبقي في القسطنطينية ، واجتمع بشيخ الإسلام علامة الروم المولى عبد الله الشهير
بالإيراني ، وكان إذ ذاك قاضي العساكر ، فصار عنده مفتشا ومميزا ، وقرأ عليه علماء
الروم منهم ولد المذكور شيخ الإسلام المولى محمد أسعد ، ومنهم كتخدا الدولة محمد أمين
كاشف المشهور بالمعارف ، وأحد رؤساء الكتاب ملاجق زاده المولى إسحق قاضي العساكر ،
ولازم من ملاجق زاده المذكور على قاعدة المدرسين الموالي. ثم لما صار شيخ الإسلام
المولى السيد مرتضى ولد شيخ الإسلام المولى السيد فيض الله الشهيد عرضت عليه
مؤلفاته ، فأعطاه تدريس الدولة وسلك طريق الموالي إلى أن وصل إلى موصلة السليمانية
فأدركته المنية قبل الأمنية.
وله حاشية على
الدر المختار ، وشرح جواهر الكلام ، ونظم السيرة في ثلاثة وستين بيتا
، وشرح لغز البهاء العاملي ، وله رسالة في العروض ، ورسالة في الوفق ، ورسالة في
المعمى وغير ذلك. ودرس في جامع السلطان سليم وفي جامع أيا صوفية بمشيخة الحديث.
وكان مكبا على
المطالعة والإقراء ليلا ونهارا مع عدم مساعدة سنه وانحطاط مزاجه لاستعمال المكيفات
، ودائما دروسه تحضر فيها العلماء وغالب محققي الأزهر تلامذته ، وأما في بلاد
الروم فلا يحصون كثرة.
توفي رحمهالله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة تسعين ومائة وألف ، ودفن
بقسطنطينية جوار سيدي خالد بن زيد أبي أيوب الأنصاري رضياللهعنه. ا ه.
١١٢٣ ـ محمد أبو الصفا الخوجكي المتوفى سنة ١١٩٢
محمد أبو الصفا
بن الشيخ المعمر مصطفى أبو الوفا الخلوتي الشافعي الشريف لأمه.
مولده كما
أخبرني سنة ثمان وماية وألف. أخذ الطريق عن والده المذكور ولازمه وكان منشد حلقته.
وله معرفة تامة بالموسيقا ومعرفة بالطريق. وليلة وفاة والده ليلة سابع عشرين رجب
سنة ١١٥٣ خلفه ولده.
وكان عنده محبة
للناس وتواضع وسخاء وطيب نفس. وكانت وفاته في سنة ١١٩٢. ا ه.
١١٢٤ ـ الشيخ عبد الجواد الكيالي المتوفى سنة ١١٩٢
عبد الجواد ابن
السيد أحمد بن عبد الكريم بن أحمد المتصل نسبه إلى الولي الشهير الشيخ الكيالي رضياللهعنه ، الشافعي الرفاعي النقشبندي السرميني المولد الحلبي
المنشأ والوفاة
__________________
العارف الكامل والمحقق الواصل الأستاذ الفاضل الصوفي المعتقد.
ولد في محرم
سنة تسع ومائة وألف بسرمين ، وبها نشأ في تربة والده إلى سنة عشرين ، فتوفي والده
وخلف خال المترجم الشيخ إسماعيل ، وهو من أهل العلم والصلاح ، وأوصاه بأن يحسن
تربية المترجم ، فأتى به خاله إلى محل إقامته في إدلب فقرأ بها القرآن في أيام
قلائل ، ثم صار يتقنه على مذهب الإمام الشافعي على العارف المشهور الشيخ عمر
الفتوحي.
ثم صار يتردد
إلى حلب لأجل طلب العلم ، فقرأ على الشيخ عبد القادر المخملجي المقيم بالمدرسة
الشعبانية ، وعلى الشيخ إبراهيم المقيم بالأشرفية الفقه والعربية وغيرهما ، وكتب
له إجازة.
ففي سنة اثنتين
وثلاثين توفيت زوجته ومن حصل له منها من الأولاد وهو في حلب ، فقطن بها للإشغال
والاشتغال ، وقرأ على شيخ الشافعية بزمنه الشيخ جابر الفقه والحديث ، وعلى الشيخ
سليمان النحوي المعاني والمنطق والبيان وغير ذلك ، وحضر العلامة أبا السعود
الكواكبي تفسير البيضاوي مع جملة فضلاء ذلك العصر إلى أن برع في العلوم المذكورة
وغيرها من العلوم الشرعية والعقلية.
وفرغ له شيخه
الشيخ عبد القادر المذكور عن وظيفة الحديث في الجامع الأموي بحلب وجامع بشير باشا
، فقام بهما والشيخ يتناول معلوم الوظيفتين إلى أن توفي الشيخ واستمر على الإقراء
مدة مديدة. ثم إنه ترك جميع ذلك وانقطع عن الناس في البيت وأقبل على شأنه.
وكان له معرفة
تامة ويد طولى في الفنون الغريبة والاشتغال بها ، وتآليفه جليلة فيها ، لكنه لم
يتظاهر بمعرفة شيء وأحرق جميعها ولم يبق شيئا لا له ولا لغيره ، وأعرض عن ذلك كله
، وكان كلما حدث بشيء من ذلك يبكي ويستغفر. وأقبل على الاشتغال بعلم السادة
الصوفية ومطالعة كتبهم ولم يكن قبل ذلك مشتغلا بالعلوم المذكورة ، بل كان مكبا على
العلوم الرسمية.
ثم إن خاله
المذكور قبيل وفاته أرسل له بالخلافة والإجازة ، ومن جملة ما كتب له :
هذا وقد حبب
إليّ أن أجيز مولانا بما أجيز لنا به تطفلا مني على سبيل الهجوم ، وإن كان غنيا عن
ذلك بما حواه من دقائق العلوم ، فكمالاته العلية لا تحتاج إلى نقصان ، لكن
هكذا جرت عادة هذه الطائفة ، فهي من بركات السلف عائدة على الخلف.
كالبحر يمطره
السحاب وماله
|
|
منّ عليه
لأنه من مائه
|
ا ه فاستمر
المترجم على الانقطاع في بيته ، وكان قد تعاطى الأسباب المعاشية نحو ثلاث مرات
فتعسرت عليه المعيشة ، فترك ذلك وجلس على الفتوح فكان يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب
، فتارة يكون في سعة وتارة يكون في ضيق. وكان يقبل ما يأتيه من النذر ولا يقبل ما
يأتيه من الهدايا ولو كانت سنية ، وكانت الناس تقصده في حوائجهم فتقضى بتوجهاته
ودعائه كما اشتهر ذلك عنه ، ورزق القبول التام عند الخاص والعام مع المهابة
والتوقي والاحترام. وكان حاله الستر والخفا والتمكن ، وله أصحاب مخصوصون يجتمعون
به في أول النهار والليل ، وكان الغالب عليه التكلم في وحدة الأفعال ظاهرا ،
وقليلا ما كان يتكلم في وحدة الصفات والذات ظاهرا.
وكان معلنا
بمحبة السادة الصوفية ، وكان يثني كثيرا على الأستاذ العارف الشيخ عبد الغني
النابلسي الدمشقي ، وكذلك على كتب العارف الشعراني رضياللهعنهم.
وأخذ عنه أناس
كثير من حلب وغيرها واعتقدوه وتلمذوا له.
ولم يدع من
تآليفه غير رسالتين الأولى في المشط المصنوع من الباغة سماها «الإساغة للتسريح
بالمشط المعروف بالباغة» ، والثانية في الحديثين اللذين أخرجهما في مسند الفردوس
ما روي عنه صلىاللهعليهوسلم من قوله : (من قال أنا مؤمن فهو كافر) ، وقوله عليهالسلام : (من قال أنا مؤمن حقا فهو كافر أو منافق).
وكانت وفاته
بحلب في صبيحة يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف
، ودفن في بيته بإشارة منه قبل وفاته بنحو سنة ، والآن يزار مرقده رحمهالله تعالى. ا ه.
١١٢٥ ـ عبد الرحمن بن عبد الله الحنبلي المتوفى سنة ١١٩٢
ترجمه المرادي
في تاريخه ، وترجم هو نفسه في ثبته الذي سماه «منار الإسعاد في طرق الإسناد» رأيته
بخطه وهو محرر سنة ١١٩٠ فلخصتها منه وذيلتها ببعض ما في المرادي.
قال رحمهالله تعالى : وأحببت أن أختم هذا الثبت المبارك بذكر ترجمتي
اقتداء بمن قبلي من الأئمة والمحدثين ، فقل ما ألف أحد منهم تاريخا أو غيره إلا
وترجم نفسه فأقول : أنا العبد الفقير إلى رحمة ربه العلي عبد الرحمن الحنبلي
الشامي مولدا ومنشا الحلبي أصلا ووطنا ابن الشيخ العالم العامل والجهبذ الحبر
الكامل الشيخ عبد الله ابن الشيخ الإمام القدوة العالم العامل الولي الصالح بركة
الديار الشامية الشيخ أحمد الحنبلي البعلي الشهير بالخطيب ابن الشيخ محمد بن أحمد
بن محمد بن مصطفى ، هكذا أملاني الوالد المرحوم نسبه ، وقال لي : لا أعرف ما اسم
من فوق مصطفى. وأخبرني أخي الكبير الشيخ محمد الحنبلي رحمهالله تعالى أن من أجدادنا العالين الشيخ سليمان السبسبي
المشهور المدفون خارج مدينة حماة ، وأن منهم الشيخ جندل المدفون بمنين من أعمال
دمشق ، ولنا قرابة من ذريته بمدينة حمص مشهورون إلى الآن. وكان جدي الشيخ أحمد
المذكور يترجم نفسه بقوله : الحلبي أصلا البعلي مولدا الدمشقي وطنا ، فعلى هذا
يمكن أن الأصل كانوا من حلب أولا ثم ارتحلوا منها إلى حماة ثم إلى بعلبك وفيها كان
مولد الجد وأولاده ، ثم ارتحلوا منها إلى دمشق بأهله وأولاده ، وفيها كانت ولادتي
وولادة إخوتي. وشهرته بالخطيب لأنه كان يخطب بيونين من أعمال بعلبك ، واستمرت هذه
الشهرة علينا إلى زماننا فكنا نعرف ببيت الخطيب ، ثم اشتهرنا بعد ذلك بالحنابلة ،
ثم صارت شهرتي الآن في مدينة حلب بالشامي والحنبلي. (ثم قال) : وأما مولدي فقد
رأيت بخط الوالد المرحوم أنه كان في الثاني عشر من شهر جمادى الأولى سنة عشرة بعد
المائة والألف ، ثم بعد أن بلغت سن التمييز شرعت في قراءة القرآن العظيم حتى ختمته
على والدي في مدة يسيرة ، ثم شرعت في الاشتغال بطلب العلم سنة عشرين ، وكان سني إذ
ذاك عشر سنين ، فقرأت على شيخنا الشيخ عواد الحنبلي النابلسي النحو والفقه الحنبلي
، وتدرجت عليه في القراءة زمانا طويلا ينوف على عشرين سنة ، وهو أول من أخذت عنه
العلم. ثم في سنة ١١٢٢ بعد أن توفي والدي إلى رحمة الله تعالى لازمت مع أخويّ دروس
حضرة شيخنا شيخ الإسلام أبي المواهب في الحديث والفقه نحو خمس سنين ، ودروس شيخنا
الشيخ عبد القادر التغلبي في الحديث والفقه والنحو والفرائض والأصول وغير ذلك مدة
١٥ سنة وأجازني إجازة عامة ، ثم قرأت على شيخنا الشيخ محمد المواهبي ولازمته نحو
تسع سنين وأجازني بجميع ما تجوز له وعنه روايته ، وقرأت على شيخنا العارف بربه
الشيخ عبد الغني النابلسي رحمهالله تعالى كتاب «فصوص الحكم» ، وحضرت دروسه في «تفسير
البيضاوي» وفي «الفتوحات المكية» ولازمته
ثماني سنين وأجازني إجازة عامة رحمهالله تعالى.
ثم بعد أن
ارتحلت إلى مدينة حلب وتوطنت بها أخذت هذا الطريق على شيخنا وأستاذنا فريد عصره
وزمانه الشيخ صالح المواهبي فبايعني ولقنني الذكر والورد ، ثم بعد وفاته جددت على
ولده سيدي الشيخ محمد رحمهالله تعالى ثم بعده على ولده الفاضل البارع الشيخ إسماعيل
أطال الله بقاءه وثبته على مرضاته. وسمعت في حلب أيضا الحديث المسلسل بالأولية
وأكثر صحيح الإمام البخاري من شيخنا محمد عقيلة ، وقرأت في المنطق والأصول على
شيخنا الشيخ صالح البصري ، وقرأت في الأصول والتوحيد والنحو والمعاني والبيان على
شيخنا الشيخ محمد الشهير بابن الزمار وحضرته كثيرا في صحيح البخاري ، وقرأت في
المعاني والبيان أيضا على شيخنا السيد محمد الكبيسي ، وأخذت علم العروض
والاستعارات عن شيخنا الشيخ قاسم البكرجي ، وأخذت عن مشايخ كثيرين يطول ذكرهم وفزت
منهم بإجازات سنية ودعوات بهية.
ولي بفضل الله
تعالى عدة مصنفات ، منها الجامع الصغير للحافظ السيوطي المسمى «نور الأخبار وروض
الأبرار في حديث النبي المصطفى المختار» اقتصرت فيه على ما رواه الإمام أحمد
والبخاري ومسلم ، ومنها شرحه المسمى «فتح الستار وكشف الأستار» ، ومنها «بداية
العابد وكفاية الزاهد» في الفقه الحنبلي اقتصرت فيها على العبادات ، ومنها شرحها
المسمى «بلوغ القاصد جل المقاصد» ، ومنها شرح أخصر المختصرات في الفقه أيضا لشيخ
مشايخنا الشيخ شمس الدين محمد بن بدر الدين بن بلبان الصالحي الحنبلي المسمى «كشف
المخدرات» ، ومنها مختصر هذا الشرح المسمى «مجنى الثمرات» ، ومنها
الرسالة المسماة «بالنور الوامض في علم الفرائض» وشرحها المسمى «رفع العارض» ،
ومنها المنظومة المسماة «بالدرة المضية في اختصار الرحبية» ، ومنها شرحها المسمى «بالفوائد
المرضية» ، ومنها «نظم الأجرومية في علم العربية» ، ومنها «الرسالة الحلبية في
اختصار الأجرومية» وشرحها المسمى «بالقطع الذهبية» ، ومنها ديوان خطب السنة المسمى
«بالجامع لخطب الجوامع» ، ومنها مختصره المسمى «بالنور اللامع في خطب الجوامع» ،
ومنها ديوان أدب ، ومنها رحلة ذكرت فيها ما شاهدته في سياحتي من عجائب
__________________
البر والبحر ، ومنها هذا الثبت المبارك. (ثم قال) : وقد أجزت به لولديّ عبد
الله موفق الدين وأخيه محمد مجد الدين وأجزتهما أيضا بمالي من نظم ونثر وبجميع ما
أجازني به أشياخي رحمهمالله تعالى من مروياتهم ومصنفاتهم وإجازاتهم وكتب مشيخاتهم
بشرطه المعتبر عند أهل الحديث والأثر. ا ه.
قال المرادي :
وأعلى أسانيده في صحيح الإمام البخاري روايته له عن الشيخ محمد الكتاني عن الشيخ
إبراهيم الكوراني نزيل المدينة المتوفى بها سنة ١١٠١ بسنده ، وعن شيخه الشيخ عقيلة
عن المحدث الكبير الشيخ حسن بن علي العجيمي المكي بسنده ، وفي كل من السندين بين
صاحب الترجمة وبين الإمام البخاري عشرة والإمام البخاري حادي عشرهم ، وبالنسبة إلى
ثلاثياته يكون بينه وبين صاحب الرسالة صلىاللهعليهوسلم أربعة عشر ، وهذا السند عال جدا ولا يوجد أعلى منه.
وكان بحلب
مستقيما ساكنا فاضلا ، وله أناس يبرونه قائمون بمعاشه وما يحتاج إليه ، واستقام
بها إلى أن مات.
وكان ينظم
الشعر وله ديوان فائق محتو على رقائق ، فمنه ما قال مقتبسا :
اعبد الله
وجاهد
|
|
فإذا فرغت
فانصب
|
والزم التقوى
خلوصا
|
|
وإلى ربك
فارغب
|
وله :
أطل صمتا ولا
تعجل
|
|
بإفتاء تفز
فادري
|
فكل العقل في
صمت
|
|
ونصف العلم
لا أدري
|
وله غير ذلك.
وكانت وفاته
بحلب سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف رحمهالله تعالى. ا ه.
١١٢٦ ـ محمد بن كوجك علي المتوفى سنة ١١٩٢
محمد بن كوجك
علي الحلبي ، صدر أعيان حلب ورؤسائها.
كان أحد
القبوجي باشيه بالباب السلطاني ، بارعا ناظما ناثرا جبلته ذلك بالألسن الثلاثة العربي والفارسي والتركي.
ولد في رمضان
سنة ثلاث عشرة ومائة وألف ، وأخذ عن عثمان أفندي الشابياض وغيره. وكان له صلاح
واشتغال بالعبادة. ومن شعره العربي قوله :
شادن يسلب
العقول بطرف
|
|
وبخد كروضة
الأزهار
|
كم كسا السمع
من أغان وعود
|
|
نغمات
الإقرار في الإنكار
|
وكان له معرفة
تامة بالموسيقا وله ألحان بها.
وكانت وفاته
سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف. ا ه.
أقول : لم يذكر
المرادي محل وفاته.
١١٢٧ ـ الشيخ عثمان العقيلي المتوفى سنة ١١٩٣
عثمان بن عبد
الرحمن بن عثمان بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرزاق ابن شهاب الدين أحمد بن يوسف بن
عقيل بن تقي الدين أبي بكر بن عبد الرحمن بن برهان الدين بن إبراهيم بن أبي عبد
الله محمد بن أبي حفص أحمد بن زين الدين سويدان ابن شهاب الدين أحمد بن القطب
الشيخ عقيل المنبجي قدسسره ابن الشيخ شهاب الدين البطائحي ابن الشيخ زين الدين عمر
ابن الشيخ عبد الله البطائحي ابن الشيخ زين الدين عمر ابن الشيخ سالم ابن الشيخ
زين الدين عمر ابن سيدنا ومولانا عبد الله رضياللهعنه ابن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضياللهعنه ، الإمام العالم الفاضل.
كان صالحا
عالما عاملا زاهدا ، وله سلوك حسن الأخلاق والسير.
ولد في سنة خمس
وثلاثين ومائة وألف ، وحفظ القرآن وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، ثم حفظ الشاطبية
والدرة ، واشتغل بالطيبة في القراءات العشر ، وجمع القرآن من طريق
__________________
السبعة والعشرة ، وكان شيخه العالم العابد الشيخ محمد الحموي الأصل البصري
، وكذلك العلامة الشيخ محمد العقاد وفي غيرها. وأخذ من العلوم ما بين تفسير وحديث
وأصول وفقه ومعان وبيان ونحو وصرف وغير ذلك عن شيخه الأستاذ العلامة الشيخ طه
الجبريني.
ومن مشايخه
الفاضل الكبير الشيخ محمد بن الطيب (محشّي القاموس) المغربي نزيل الحرمين ، ومنهم
العالم المحدث الشيخ عبد الكريم الشراباتي ، والفقيه المتقن الشيخ عبد القادر
الديري ، ومنهم الإمام العالم المحدث الشيخ محمد الزمّار ، حضر عليه في كثير من
العلوم ، وكذلك النحرير الشيخ السيد علي العطار ، قرأ عليه في الفقه والنحو والفرائض
وغير ذلك.
وارتحل إلى
الحج في سنة ست وسبعين ومائة وألف ، واجتمع بغالب من كان حينئذ بالحرمين وأخذ عنهم
، فمنهم العارف الشيخ محمد بن عبد الكريم السمان المدني ، أخذ عنه الحديث وأجازه
وأخذ عنه الطريقة القادرية ، ومنهم العلامة الشيخ محمد بن سليمان الشافعي المدني
والشيخ محمد بن عبد الله المغربي والعلامة الشيخ أبو الحسن السندي شارح شرح النخبة
في مصطلح الحديث للعلامة ابن حجر ، ومنهم الفاضل الشيخ يحيى الحباب المكي والشيخ
عطاء الله الأزهري نزيل مكة. وأخذ بدمشق عن العلامة المحقق الشيخ علي الداغستاني ،
وله مشايخ نحو الخمسين.
وكان بحلب
مقيما على الاشتغال بالعلم يقرىء كتب الحديث والفقه والآلات في أموي حلب وغير ذلك
، ولزمه جماعة. وكان ملازما ومواظبا على الاعتكاف في كل سنة أربعين يوما وهي
المسماة عند أهل الطريق بالخلوة ، فإنه يعتكف مع جماعة من إخوانه هذه المدة
ويشتغلون فيها بالصيام والقيام والذكر. وبالجملة فهو أحد من ازدانت بهم الشهباء من
الأفاضل في زماننا.
وكانت وفاته
يوم الأحد ثاني عشر محرم سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف رحمهالله تعالى.
١١٢٨ ـ محمد بن يوسف الأسبيري المتوفى سنة ١١٩٤
محمد بن يوسف
بن يعقوب بن علي بن محسن بن شيخ إسكندر الغزالي الحلبي الشهير بالأسبيري ، مفتي
حلب ، الشيخ الفاضل الفقيه الأوحد البارع الصالح العالم الكامل.
ولد بعينتاب
سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف ، وقرأ القرآن العظيم والصرف والنحو
والمنطق على ابن خال والده مصطفى أفندي وعلى الشيخ إلياس المرعشي ، ثم سافر
إلى كلّز فقرأ المنطق على علي أفندي نجى زاده تلميذ تاتار أفندي المشهور وعلى
شريكه صالح ، وأخذ أيضا «شرح مختصر المنتهى» لابن الحاجب عن شيخي زاده. وقدم حلب
ولازم بها محمود أفندي الأنطاكي ، وقرأ على ابن عمه محمد أفندي أيضا ، وأخذ
بعينتاب أيضا عن عبد الرحمن أفندي الخاكي وأجازه إجازة عامة سنة تسع وخمسين.
ثم دار البلاد
وقرأ على مشايخ يطول ذكر أسمائهم. ثم دخل إسلامبول وصار بينه وبين نفير حبر الروم
مباحثات. ثم رجع إلى حلب وتوطنها ودرس بمدرسة الرضائية وأخذ عنه جماعة كثيرون.
وله من التآليف
شرح على إيساغوجي سماه «الفوائد الأسبيرية على الرسالة الأثيرية».
وله من التآليف
أيضا شرح على «مغني الأصول» المسمى «بالمستغني» لكنه لم يكمل ، وشرح على أوائل
المنار سماه «بدائع الأفكار» ، وكتاب مناسك بالتركي سماه «تحفة الناسك فيما هو الأهم
من المناسك» ، وله رسائل عديدة منها رسالة في مسألة الجزء الاختياري ، ورسالة في
عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ورسالة في بيان معنى كلمة التوحيد ، ورسالة
في نجاة الوالدين المكرمين لسيد البشر صلىاللهعليهوسلم ، وله تعليقات على بعض المواضع المغلقة في تفسير الكشاف
والبيضاوي ، ولخص الفتاوي الخيرية ، وحاشية على «شرح المنظومة المحبية» للشيخ عبد
الغني النابلسي مسماة «بالخلاصتين» وأهدى منه نسخة لشيخ الإسلام مفتي الروم محمد
شريف أفندي فتلقاه بالقبول وأرسل له إفتاء حلب من غير طلب ، ثم وجه له المدرسة
الشعبانية ثم المدرسة الكلتاوية.
وأخذ عنه جماعة
من علماء حلب وغيرهم ، منهم السيد محمد المقيد والشيخ إبراهيم المكتبي والسيد عمر
، وكان معيدا في دروسه الأشباه والنظائر الفقهية ووكيله في المدرسة الخسروية ،
والشيخ يوسف النابلسي الشهير بابن الحلال وكيله في مدرسة الشعبانية ،
__________________
والسيد محمد صادق بن صالح البانقوسي وبيض له حاشية عمدة الحكام وامتدحه في
أخرة بأبيات (ساقها المرادي).
وكان صاحب
الترجمة يتولى في ابتداء أمره النيابات في محاكم حلب ، وكان ينتمي إلى نقيب حلب
محمد أفندي طه زاده. وأفرده بالترجمة تلميذه الشيخ محمد الموقت.
وكانت وفاته في
شوال سنة أربع وتسعين ومائة وألف. ا ه.
قال الطرابلسي
في مجموعته : كانت وفاته في اليوم الثاني من شوال ودفن في تربة الجبيل.
١١٢٩ ـ عبد الله اليوسفي الشاعر المتوفى سنة ١١٩٤
عبد الله بن
يوسف بن عبد الله المعروف باليوسفي الحلبي ، الأديب الشاعر البارع الماهر الناظم
الناثر المكثار.
كان أوحد
الشهباء في النظم والتاريخ والاختراعات العجيبة والأشعار الغريبة ولزوم ما لا يلزم
والابتكارات في فنون الأدب من تواريخ وقصائد وغيرها ، وله بديعية التزم فيها تسمية
الأنواع ، واخترع أربعة أنواع غريبة نظمها فيها وشرحها شرحا جيدا.
ولد بحلب ،
وقرأ على والده مدة حياته ، ثم على الشيخ حسن السرميني ، وبعده على المحدث الشيخ
طه الجبريني ، ثم على الفقيه محمود البادستاني والشيخ محمد المصري وعليه قرأ
الأندلسية في علم العروض ، وقرأه مع علم القافية على الشيخ علي الميقاتي وعلى
الشيخ قاسم البكرجي والشيخ محمد الحصري. واشتغل بالأدب وقريض الشعر مدة على هؤلاء
الفضلاء ، وافترع (افتض) أبكار الأفكار وصاغ قلائد المعاني نظيمة الأسلاك. وله
أشعار ومدائح وتواريخ وأحاج ومعميات وغيرها شيء كثير ، وامتدح الأعيان والعلماء
وغيرهم ، ووقعت له بين أبناء عصره المطارحات والمساجلات.
وكان بحلب
يتعانى بيع البن في حانوته الواقع بالقرب من جامعها الأموي ، فلذا اشتهر بالبني ،
وكان في غاية من الفقر وضنك العيش ، وقد عرض له قبل وفاته بثلاث سنوات صمم عظيم ،
وكان أولا عارضا له فزاد حتى منعه من السماع بالكلية بحيث صار الناس يخاطبونه
بالإشارة ، فحصل له من ذلك كدر عظيم ، فبادر للاستغاثة بالجناب الرفيع النبوي
بألف بيت راجيا الشفاء من ذلك ببركتها ، وشرع فلم يتيسر له الإتمام.
وخطب مدة في
جامع البهرمية نيابة عن بني الشيخ طه.
وسافر إلى
طرابلس الشام ولاذقية العرب ، وقدم دمشق ووفد إليها مرارا واجتمع بوالدي وحباه من
الإكرام والالتفات ما جاوز الحد والغايات ، وامتدحه بقصائد وأشعار كثيرة ، وجرى
بينه وبين أدباء دمشق من المحاورات والمطارحات ما يفعم بطون الصفحات. وبالجملة فهو
فريد عصره بالاختراعات الغريبة وفن التاريخ وسرعة النظم والارتجال في التاريخ.
ومن شعره مادحا
والدي ومهنئا له بالإفتاء :
أيا جلّقا
لازلت باسمة الثغر
|
|
بصيّب أفراح
تدوم مدى الدهر
|
ولا برحت
أنوار مجدك تنجلي
|
|
مطالعها حسنا
من اليمن واليسر
|
وما انفك
مغناك يلوح مسرة
|
|
ودوحة علياك
مضمخة العطر
|
تسامت بقاع
اليمن فيك بسادة
|
|
لهم شرف يسمو
على الأنجم الزهر
|
لهم في
انتماء المجد خير أرومة
|
|
وعلياهم تعلو
على هامة النسر
|
ولا سيما
منهم همام مكرم
|
|
مجيد عليّ الشان
مرتفع القدر
|
هو السيد
السامي الرفيع مكانة
|
|
من الفضل
يستجلي المحامد بالشكر
|
ومن هو
بالأصل الرفيع تشامخت
|
|
مراتبه
العليا إلى ذروة الفجر
|
لقد شرّف
الإفتاء نيّر فضله
|
|
ووفّق أحكام
المسائل في الذكر
|
وأودع أنواع
العلوم براعة
|
|
من الفضل لم
تبرح بحضرته تجري
|
أما هو في
عليا دمشق هلالها
|
|
وكوكبها
السامي على الكوكب الدري
|
كفى شرفا أن
المديح لمثله
|
|
يطرز أنواع
القريض من الشعر
|
ويزهو
افتخارا في نعوت كماله
|
|
ويرتع في روض
البلاغة في السر
|
خليلي بالعهد
الذي تليت به
|
|
صحائف آيات
المحبة بالجهر
|
فنب عن بعيد
الدار فضلا ومنة
|
|
بتقبيل أيد
دونها ضفة البحر
|
وأبلغه عني
أجزل المدح والثنا
|
|
وخير دعاء لم
يزل أمد الدهر
|
فلا زال
محروس الجناب ممتعا
|
|
بإقباله يجني
المكارم بالبشر
|
وقوله فيه :
سعد السعود
بدا أن زارني قمر
|
|
بحسنه كان
أهل الحسن قد قمرا
|
جوريّ وجنته
الحمراء مزدهر
|
|
وقد حوى وجهه
في مهده الزهرا
|
إن قابلته
شموس في الضحى قهرت
|
|
أو قابل
النجم في إشراقه قهرا
|
وخاله عمه
بالحسن فانبهرت
|
|
عقول أهل
الهوى إذ بالبها بهرا
|
إن رحت أحكي
لحسن فيه قد شهرا
|
|
قطعت دون
بلوغي الدهر والشهرا
|
لي مقلة في
هواه الليل قد سهرت
|
|
وقد شكوت
سقام الجفن والسهرا
|
وأصل عشقي له
بالعين من نظر
|
|
فليته لي
بعين العطف قد نظرا
|
ومنذ أغنى
لماه العذب عن سكر
|
|
والعقل مني
بزاهي حسنه سكرا
|
ما بت والقلب
في لقياه منجبر
|
|
ولا بجنح الدياجي
باللقا جبرا
|
وهي طويلة
أوردها المرادي بتمامها ، وأورد له غير ذلك ثم قال : ومن شعره قوله :
سكرت بعيني
من أحب فلم أزل
|
|
مدى الدهر
نشوانا وعقلي ذاهل
|
سلوا مدمنا
للخمر إن كان صادقا
|
|
تكون إلى
الصهباء تلك الفعائل
|
وقوله :
حجبتك يا قمر
السماء غمامة
|
|
لم تدر ميلي
للبدور كميلها
|
فكأنها لما
رأتني مغرما
|
|
غارت عليك
وأخبأتك بذيلها
|
وهو منتحل من
قول الفاضلة عائشة الباعونية الدمشقية :
وصيرت بدر
التم مذ غاب مؤنسي
|
|
أنيسي وبدر
التم منه قريب
|
فحجّبه عني
الغمام بذيله
|
|
فوا عجبا حتى
الغمام رقيب
|
وللمترجم غير
ذلك من الأشعار والمقاطيع والألغاز والمعميات وما يتعلق بذلك شيء لا يحصى ولا يعد.
وكانت وفاته
بحلب في صفر سنة أربع وتسعين ومائة وألف ، ودفن خارج باب الجنان أحد أبواب حلب رحمهالله. ا ه.
١١٣٠ ـ أحمد بن محمد الحلوي المتوفى سنة ١١٩٥
أحمد بن محمد
بن علي بن محمد بن زين الدين الشهير بالحلوي ، السيد الشريف القادري
الحموي الأصل الحلبي المولد والمنشأ الحنفي أبو الفتوح نجيب الدين ، الشيخ
العالم الأديب القدوة المتفوق الأريب البارع.
ولد بحلب يوم
عاشوراء سنة سبع وعشرين ومائة وألف ، ونشأ بها في حجر أبيه ، وقرأ العلوم والفنون
على الشيخ عبد اللطيف المكتبي الحلبي والشيخ عبد الغني والشيخ حسن بن ملك الحموي
والوجيه عبد الرحمن بن مصطفى البكفالوني والإمام الشيخ حسن السرميني والشمس محمد
بن أحمد المكتبي وأبي الثناء محمود الباذستاني والشيخ عبد الوهاب ابن مصطفى العداس والإمام محمد بن
الحسين الزمار وعبد الله البهرمي والحسن الكردي والشمس محمد الرشواني والشيخ عبد
السلام الحريري وشعيب بن إسماعيل الكيالي والشيخ محمود بن محمد الأنطاكي والشيخ
نعمة الله الفتال والشيخ عبد الهادي المصري والشيخ محمد بن كمال الدين الكبيسي
والشيخ حسن بن عبد الله البخشي وعثمان بن عبد الرحمن العقيلي وأبي محمد بن طه
العقاد وأبي الفتوح خليل المصري سبط الشعراني وقاسم النجار وقاسم البكرجي وأبي
الفتوح علي بن مصطفى الميقاتي وطه بن مهنا الجبريني وأبي المواهب محمد بن صالح
المواهبي وعبد الكريم بن أحمد الشراباتي وغيرهم من الواردين إلى حلب كالشمس محمد
بن أحمد بن عقيلة المكي ومحمد بن الطيب المغربي نزيل المدينة ونجم الدين عمر بن
نور الله الرملي الحنفي.
ورحل إلى
القسطنطينية ، ودخل دمشق أربع مرات آخرها سنة تسع وثمانين ومائة وألف ، وأخذ بها
عن محمد بن عبد الجليل المواهبي وصالح بن إبراهيم الجنيني والعماد إسماعيل
العجلوني ومصطفى بن الشهاب أحمد الغزي العامري. وأجاز له من القاهرة الشهاب أحمد
ابن عبد الفتاح الملوي والنجم محمد بن سالم الحنفي وغيرهم.
وألف المؤلفات
النافعة ، فمنها «مطالب السعادات في الصلاة والسلام على سيد السادات» مشتمل على
ثلاثة مطالب في كل مطلب ثلاثة فصول ، و «تعليقة على كنوز الحقائق» كتب منها إلى
حرف الحاء ، و «التوضيح والتبيان في أحكام سجدات التلاوة وتعظيم القرآن» ، و «سعادة
الدارين في بر الوالدين» ، و «الفوائد البهية في مولد خير البرية» ، و «المعاطر
الأنسية في الفضائل القدسية» ، و «العقد الفريد في تهاني خلافة
__________________
السعيد» ، و «الدر المنظم في أسلاك الذهب في التهاني بسليمانية الرتب» ، و
«الموارد الروية في حديث الرحمة المسلسل بالأولية» ، و «منظومة في شفاعة النبي صلىاللهعليهوسلم» ، و «منظومة في الخصال الموجبة للضلال» ، و «منظومة في
التوسل بأهل بدر» ، و «رسالة في الشفاعة العظمى» ، و «منظومة في رفع الأيدي» نظم
فيها ما ذكره الفقهاء ، وديوان خطب ، وديوان شعر ، و «منظومة في أشكال الرمل» ، و
«رسالة في الأنغام والأبراج والطبقات والأصول» ، و «رسالة في استعمال الأعضاء
للشكر واستغراق الحواس للذكر» ، و «رسالة فيمن يؤتى أجره مرتين» ، و «رسالة في
السماع المجرد بالآلات» ، وغير ذلك من مجاميع وفوائد والشعر والترسلات وغيرها.
ولازم الأذكار
في حلب وإقامة التوحيد ، وصار شيخ الطريقة القادرية بها واشتهر أمره بين أهلها.
واجتمعت به في
دمشق لما دخلها المرة الرابعة مع نقيب أشراف حلب أبي المعالي محمد ابن أحمد بن طه
الحلبي.
توفي في حلب
الشهباء في ليلة الخامس والعشرين من جمادى الثانية سنة خمس وتسعين ومائة وألف.
والحلوي بفتح
الحاء واللام نسبة إلى المدرسة الحلوية المعروفة بحلب ، وكل من أقام الذكر نسب
إليها ومنهم المترجم. ا ه.
١١٣١ ـ أحمد بن أبي السعود الكواكبي المتوفى سنة ١١٩٧
ترجمه ولده حسن
أفندي في كتابه «النفائح واللوائح من غرر المحاسن والمدائح» الذي جمع فيه نظم
والده وما مدح به من شعراء عصره وما مدح به أسلافه ، وعقد لكل واحد من هؤلاء
الشعراء ترجمة ، والكتاب محرر سنة ١٢٠٥ بخط عبد الله بن محمد بن عبد الله الميقاتي
المعروف بالغرابيلي من أدباء ذلك العصر ، ويظهر أنه حرره لجامعه المذكور ، وقد
نقلت ما في هذا الكتاب من التراجم التي لا وجود لها في المرادي ولا فيما نقلناه عن
أبي المواهب أفندي ميرو. قال ولده :
ذكر الوالد المرحوم :
هو عمدة
العلماء الأعلام ، وزبدة الفقهاء من مشايخ الإسلام ، الذي سار ذكره في الأقطار ،
سير الشمس في الفلك الدوار ، الآخذ زمام المجد بيده يمينا ، والآلي على اقتعاد سنامه
يمينا ، الهاصر من دوح المكارم ثمرها الرطيب ، والمتضمخ من عبير نورها بأنفح طيب ،
الكائن في مربعه الأحمى حمى لأبناء الأدب ، والسائر في حديثه الأحلى كل مهيع ومهب
، الذي إذا سئل عن دقائق الفقه أجاب بروية ، وينظر فإذا هي في النقول مروية ، وسع
حفظه الروايات والنوادر ، وأزاح عن مذاكرة حجب الأوهام والبوادر ، من لا ينسى إلّا
زلات إخوانه ، ولا يبخل إلا بهجير لسانه ، ينزه سمعه عن المكروه كما ينزه لسانه ،
ويواسي من ناداه كما يجامل إخوانه.
نسبه من جهة والده :
والمرحوم هو
الحسيب النسيب السيد أحمد أفندي الكواكبي بن أبي السعود بن أحمد ابن محمد بن حسن
بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد أبي يحيى المعروف بالكواكبي قدسسره ابن شيخ المشايخ والعارفين صدر الدين موسى الأردبيلي قدسسره ابن الشيخ الرباني المسلك الصمداني صفي الدين إسحاق
الأردبيلي ابن الشيخ الزاهد أمين الدين ابن الشيخ السالك جبريل ابن الشيخ المقتدي
صالح ابن الشيخ قطب الدين أبي بكر ابن الشيخ صلاح الدين رشيد ابن الشيخ المرشد
الزاهد محمد الحافظ ابن الشيخ الصالح الناسك عوض الخواص ابن سلطان المشايخ فيروز
شاه البخاري بن مهدي بن بدر الدين حسن بن أبي القاسم محمد بن ثابت بن حسين بن أحمد
ابن الأمير داود بن علي ابن الإمام موسى الثاني ابن الإمام إبراهيم المرتضي ابن
الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام علي زين العابدين ابن
الإمام الحسين السبط الشهيد ابن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم
أجمعين.
__________________
نسبه من جهة الأم المتصل ببني زهرة :
ووالدة المرحوم
الجد أبي السعود الشريفة عفيفة بنت بهاء الدين بن إبراهيم بن بهاء الدين ابن
إبراهيم بن محمد بن محمد بن محمد بن شمس الدين الحسن بن علي أبي الحسن بن الحسين
شمس الدين بن زهرة أبي المحاسن بن الحسن بن زهرة أبي المحاسن بن علي أبي المواهب
بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن الصادق بن محمد
الباقر ابن علي زين العابدين ابن الإمام السبط الشهيد الحسين. (ثم قال) :
وأما اشتغاله
بالعلوم الشرعية من الفقه والحديث فأمر شاع ذكره بين أهل القديم والحديث ، لو رآه
النعمان لحمد اسمه وذاته ، أو ابن الحسن لأنار بالمصابيح مشكاته ، أو قاضي خان
لشكر قضاياه الحسان. (إلى أن قال) :
وأما مشايخه
فمنهم الشيخ العارف بالله الشيخ محمد الزمار والفاضل العالم طه الجبريني والشيخ
الكامل سليمان النحوي وغيرهم.
وأخذ الطريق
النقشبندي عن العارف محمد بن مراد النقشبندي الأزبكي ثم الدمشقي. وأخذ إجازة
الحديث عن الشيخ عقيلة المكي بثبت موجود عندنا.
مولده سنة
ثلاثين وتوفي في الحادي والعشرين من شعبان سنة سبع وتسعين ومائة وألف. ا ه.
أقول : ويستفاد
من الكتاب المذكور أنه تولى إفتاء حلب سنة ١١٦٤ وعزل عنها ثم تولاها سنة ١١٦٩ وسنة
١١٨٧ ، وتولى نقابة الأشراف سنة ١١٩٠.
ولشعراء عصره
المدائح الكثيرة فيه حينما تولى الإفتاء أولا وثانيا وثالثا ، وحينما تولى النقابة
، ويظهر من خلال تلك المدائح أنه كان سمحا جوادا كثير البر بإخوانه وأن بيته كان
مجمع الفضلاء والأدباء.
ومن نظمه الذي
ينبىء عن كرم طبعه وسماحة كفه قوله :
وما كان جمعي
المال إلا لأربع
|
|
دعت في الورى
حتما بغير توان
|
صيانة عرض
واكتساب فضيلة
|
|
وإسعاف إخوان
وكيد زمان
|
وأورد له ولده
حسن أفندي في الكتاب المتقدم كثيرا من النظم ، من جملة ذلك منظومة رائية طويلة ذكر
فيها مزارات حلب وخاناتها وأسواقها ومدارسها وبساتينها نظمها سنة ١١٩٣ ، وهي عندي
استنسختها عن هذا الكتاب.
ومن آثاره
السبيل الذي أنشأه سنة ١١٨٧ بجانب داره المعروفة بدار ابن عبد السلام ، كما أن
السبيل يعرف بهذا الاسم ، وهذه الدار من الدور العظام بحلب ، وقد تكلمت عليها في
ترجمة بانيها جان بلاط في الجزء السادس. (الترجمة ذات الرقم ٩٢١).
وكان شراؤها
سنة ١١٧٩ كما ذكره ولده في كتابه النفائح. وقد أكثر الشعراء في مدح هذه الدار ومدح
السبيل الذي أنشأه فيها ومدح صاحبها ، وكانت تنظم له القصائد الطويلة كلما بنى
شيئا من هذه الدار أو في داره العظيمة التي في محلة الجلّوم بجانب مدرسته.
وقد حاول
الإنكليز حينما كانوا محتلين في حلب سنة ١٣٣٨ مع العساكر الشريفية الفيصلية أن
يأخذوا هذا السبيل البديع ، فلم يسلمه له بنو الحاج حسن بيك القاطنون الآن في هذه
الدار ، لكنهم لم يتخلصوا من ذلك إلا بواسطة كسره ، فتشوّه بذلك وذهبت بداعته
ورونقه ، وهو يعد من جملة الآثار القديمة في حلب وملقى الآن في جنينة الدار.
ووقف المترجم
على ذريته وقفا آل لبني الحاج حسن بيك ابن إبراهيم باشا زاده من جهة البنات ، لأن
أمه بنت حسن أفندي ابن أحمد أفندي المترجم ولم يكن لحسن أفندي عقب سواها. ومن جملة
ما وقفه طاحون السلطان ظاهر حلب من شماليها على نهر قويق ، وجميع المصبنة التي
أنشأها الواقف في محلة باب قنسرين ، وجميع البستان المعروف ببستان المفتي بالقرب
من قرية (بابلّا) ، وثمانية قراريط من خان العبسي الواقع أمام جامع العادلية
وتاريخ كتاب وقفه سنة ١١٦٠ ، وله كتاب وقف آخر محرر سنة ١١٦٧ شرط فيه مدرسا في علم
التفسير وواعظا وشيخ مكتب في جامع جده أبي يحيى المعروف به وغير ذلك.
ومن آثاره بناء
المدرسة التي بالجلّوم بجانب جامع جده ووقف فيها مكتبة قيمة لا تقل أهمية عن مكتبة
المدرسة الأحمدية ، لكنها الآن تفرقت أيدي سبا ، وقد تسلط عليها في أواخر القرن
الماضي من لا يعرف لها قيمة ومد يده لها دون ممانع ولا معارض ، فكان يهدي منها
للقضاة والكبراء الذين يأتون حلب ، وبقي منها بقية كانت موضوعة منذ عشرين سنة في
خزانة داخل القبة التي فيها ضريح أبي يحيى ، ولابد أنها تعطلت بتاتا من الرطوبة
والعفونة التي في هذه الخزانة ، ولا سائل عنها وإلى الله المشتكى.
وكان فيها من
مؤلفات الكواكبية كما جاء في كتاب وقفها تعليقات الكواكبية على سورة طسم ، وثلاث
مجاميع بخط المترجم وحاشية له ، وحاشيتان لمحمد بن الحسن الكواكبي على العصام
وسعدي في التفسير ، ومجموعتان له ، وشرحا منظومتيه في الفقه والأصول اللذان وفقني
المولى لطبعهما ، وذيل تراجم له وحواشيه على المواقف ، وحاشية لولده أحمد أفندي
على شرح والده لمنظومته الأصولية ، ورحلة له إلى الآستانة نظما ، ومجموعة رسائل
أدبية ، وفتاوي لأبي السعود أفندي وغير ذلك من آثار تلك العائلة ، والجميع قد
تبعثر ، غير أن فتاوي أبي السعود آلت الآن إلى مكتبة المدرسة الخسروية التي نقلت
حديثا إلى المدرسة الشرفية وراء الجامع. ويوجد عدة من هذه المؤلفات في مكتبة
المدرسة الأحمدية وفي مكاتب الآستانة لأن الكثير من هذه العائلة توطن هناك.
ولما توفي
المترجم في التاريخ المتقدم دفن في جامع جده أبي يحيى ، ورثاه الشاعر الأديب الشيخ
عبد الله بن عطاء الله الصحاف بقصيدة طويلة أثبتها ولد المترجم في كتاب «النفائح
واللوائح» قال في مطلعها :
لا زال صوب
الرضا والعفو ينسكب
|
|
على ثرى ماجد
تزكو به الكتب
|
من اجتلى
بهجة الدنيا وزهرتها
|
|
ونال عيشا
رخيا فوق ما يجب
|
قد كان في
حلب الشهباء كوكبها
|
|
بنوره يهتدي
السارون والنجب
|
فأوسع الآمل
الجدوى ونائله
|
|
كما استطار
العدى من أفقه الشهب
|
ولم يزل مع
روق العيش معتنيا
|
|
بالدين شهما
تقيا زانه الحسب
|
(ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا)
|
|
لا مانعا
يمنع المولى إذا يهب
|
ومنها :
وأمة الفضل
تحويهم منازله
|
|
لم يخل عنهم
ذراه الواسع الرحب
|
كأنهم فيه
إياه إذا حضروا
|
|
ونشوة الأنس
تدعوهم إذا احتجبوا
|
وللقريض عكاظ
في مجالسه
|
|
يكسى بتاج
قبول عنده الأدب
|
١١٣٢ ـ مصطفى بن أبي بكر الكوراني
المتوفى سنة ١١٩٨
مصطفى بن أبي
بكر بن تاج الدين الكوراني الأصل الحلبي المولد والمنشأ.
فقيه اشتق وصفه
من الشقائق النعمانية ، وتحلى جيده بفرائد الأقوال النعمانية ، واحد يشار إليه عند
خفاء الكناية ، وعلم تضاف إليه أرباب النهاية ، النجم الذي يلوذ به الساري ،
والشهاب الذي تنحط عنده الدراري ، من ينادي على السعد وسعد مشتمل ، ما هكذا تورد
يا سعد الإبل ، لو شافه عمر البصري لأذعن له ابن زياد ، ولو نصب بعد المفاجأة
لأفصح بها أهل البواد ، ولو ناظر الكسائي في دقائق الأدب ، لمثل هشام بين يديه
بالأدب ، ولو ساجل أبا الطيب في منسرحه ومضارعه ، لوقف ابن الحسين عن إجازة
الثواني من مطالعه ، ماء الفصاحة يقطر من لسانه ، ودرر البلاغة تتحلى بجمانه ،
وأبحاث التحقيق عنده هائجة ، وأسواق الفضائل في بيته رائجة ، يعير الصبا من دماثة
أخلاقه ، ويهدي إلى الربا نضارة أعراقه ، ويدع الجليس مشوفا بجنابه العامر ، وعندك
ذكر من بثينة وعامر.
ولد سنة ١١٤٧ ،
وتوفي في إحدى وعشرين من رمضان سنة ١١٩٨ ، ودفن في تربة أبي نمير خارج باب قنسرين.
ا ه. من «النفائح واللوائح» للكواكبي. وهنا أورد له قصيدتين مدح المترجم بهما
والده أحمد أفندي.
واطلعت عند بعض
أحفاده على شرح له على قصيدة الفاضل الأديب السيد أحمد بن مسعود بن حسن المكي التي
يقول في مطلعها :
حث قبل
الصباح نخب كؤوسي
|
|
فهي تسري
مسرى الغذا في النفوس
|
وانتجعها
بكرا فقد ثوّب الدا
|
|
عي إليها من
حانة القسيس
|
بنت كرم إن
تلق ملسوع را
|
|
ح وهو جليس
لا يرتضي بالجلوس
|
وشرحه هذا يدل
على تضلعه في علم الأدب وغزارة مادته في علم اللغة.
وله كما وجدته
في مجموع عند بعض أحفاده لما خطر الشام قاصدا الحجاز يستنجد السيد خليل أفندي
المرادي مفتي دمشق الشام صاحب «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر» :
وكم قائل لما
رآني ضاربا
|
|
فواصل أسبابي
بمجموع أوتادي
|
يسائل هل
تبغي العروض وما الذي
|
|
دعاك لإتهام
بعيس وإنجاد
|
__________________
فقلت له أبغي
العروض وإنما
|
|
يتم بإسعاف
الخليل مرادي
|
واطلعت عند
حفيده المذكور على شرح «سقط الزند» للخطيب التبريزي بخط المترجم وهو محرر سنة
١١٨٦.
وله :
وبي عاطر
الأنفاس كالمسك نفحه
|
|
إذا افتر عن
در يصان بعقيان
|
فتى تخذ
الكافور جيدا وصانه
|
|
مخافة أن
يفنى بفلفل خيلان
|
١١٣٣ ـ عبد القادر بن محمد الديري
المتوفى سنة ١١٩٨
عبد القادر بن
محمد الشافعي الديري نزيل حلب ، الشيخ العالم الفاضل النبيه الأصولي النحوي. كان
من الفقهاء المتفوقين.
ولد بدير رحبة
من أعمال بغداد في سنة عشرين ومائة وألف ، وقدم لحلب في سنة ست وثلاثين ومائة وقرأ
الفقه على الشيخ عبد القادر عمر العرضي الحلبي ، والفقه أيضا والفرائض على الشيخ
جابر الحوراني الحلبي ، والنحو على الشيخ عبد السلام الحريري ، والنحو والفقه أيضا
على الشيخ حسين السرميني ، والمعاني والبيان والنحو والفرائض والفقه أيضا على
الشيخ محمد الزمار والشيخ محمود البادستاني قرأ عليه في المنطق والنحو ، وأخذ
الحديث عن الشيخ جابر والشيخ حسين المذكورين. وتفوق وأقرأ فنون العلم في حلب وانتفع
به كثير من الطلاب وجمع غفير.
وكان مستقيما
على حالة مرضية حسنة ، وهو من السادة الأشراف ، إلا أنه لم يتتوج بالطراز الأخضر ،
وأغناه عنه نور النبوة الغناء الأوفر. وبالجملة فقد كان في الفقه إماما ، وأحرز في
كل فن رتبة ومقاما رحمهالله تعالى ا ه.
أقول : لم يذكر
تاريخ وفاته ، وقد كانت سنة ١١٩٨ كما قرأته على لوح قبره في تربة الصالحين وراء
المقام.
١١٣٤ ـ عبد القادر بن صالح البانقوسي المتوفى سنة ١١٩٩
عبد القادر بن
صالح بن عبد الرحمن ابن السيد الشريف الحنفي الحلبي الشهير
بالبانقوسي ، الشيخ الفاضل الفقيه الأديب الأوحد المفنن الذكي البارع.
ولد بحلب سنة
اثنتين وأربعين ومائة وألف ، ونشأ بها وقرأ القرآن وأخذ الخط المنسوب. وقدم دمشق
واجتمع بعلمائها وأدبائها وتكرر منه ذلك.
وكان له براعة
وتفوق في جمع الفنون ، وكتب الخط الحسن ، ودرس بحلب في جامعها الأموي الكبير.
وألف شرحا على «الدر
المختار» للحصكفي سماه «سلك النضار على الدر المختار» ، أخبرني أخوه الشيخ صادق أنه بيض من مسوداته مجلدين
وصل فيهما إلى كتاب الصوم ، وشرح كتاب «معدل الصلاة» للبركلي ، وله تعليقة نافعة
على أوائل صحيح البخاري أملاها حين تدريسه وكتبها حين قراءته ، وشرح «نظم المراقي
الشرنبلالية» وله غير ذلك من الآثار.
ونظمه ونثره في
تفوق من البلاغة ، وله في الأدب إحاطة بالعيوب والعلل والمحاسن.
ودخل العراق
والروم ودرس بأياصوفية لما ذهب للقسطنطينية في صحيح البخاري وانتفع بأفاضلها وأخذ
عنهم وأخذوا عنه ، ثم رجع منها إلى بلده حلب سنة إحدى وثمانين. وقدم دمشق سنة
اثنتين وثمانين ومائة وألف. وامتدح والدي المرحوم السيد علي أفندي ، وكف بصره في
آخر عمره.
وله شعر لطيف
بنبىء عن قدر في الفضل منيف ، فمنه قوله وكتب بها إليّ في واقعة حال :
بدت تخجل
الأقمار بالمنظر الأجلى
|
|
ولاحت تريك
الشمس في الشرف الأعلى
|
وزارت على
رغم الحواسد فانثنت
|
|
أمانيهم منها
منكّدة حسرى
|
__________________
محجبة تهتز
من مرح الصبا
|
|
فتأنف أن
تلقى عقودا لها الجوزا
|
وعهدي بها
تجلى لمن ليس كفأها
|
|
فها هي قد
جاءتك تلتمس الرجعى
|
فألبستها من
حلة المجد خلعة
|
|
تروق كما
راقت على الروضة الأندى
|
وجاءت بشارات
المسرات والهنا
|
|
تهنيك بل
تهني بك المنصب الأسنى
|
وأصبح ثغر
الدهر يفتر باسما
|
|
سرورا بما
وليت من نعم تترى
|
نهضت بعزم
يفلق الصخر طالبا
|
|
تراث أبيك
الأكرم الطيب المثوى
|
ويممت
قسطنطينة تطلب العلا
|
|
كما أم ذو
يزن لمطلبه كسرى
|
على متن
مندوب يصلي وراءه
|
|
غداة تساق
الخيل داحس والغبرا
|
من الجرد لو
كلفته وضع حافر
|
|
بأعلى عنان
الجو لاقتحم الشعرى
|
فأنزلت فيها
منزل العز والتقى
|
|
وشانيك بين
الناس ينعت بالأشقى
|
وأصبحت مشكور
المساعي حميدها
|
|
وضدك في
أرجائها خابط عشوا
|
تقول دمشق
حسرتا ثم حسرتا
|
|
أبعد عليّ
كيف أذكر في الأحيا
|
وهل كيف
يسلوه فؤادي وروحه
|
|
بآل مراد
إنني بهم أحيا
|
إذا اختلفت
أقوالهم في حياتهم
|
|
بغيرهم قالت
فديتك بالموتى
|
سألت المعالي
عنكم غير مرة
|
|
فقالت هي
الشقرا مسائلها شتى
|
وهي طويلة
أوردها المرادي في تاريخه بتمامها وأتبعها بشيء من نثره في واقعة حال له ، إلى أن
قال :
وكان صاحب
الترجمة من أفاضل عصره علما وأدبا ولطفا وديانة. وكف في آخر عمره. وقدم دمشق مرارا
وصار بينه وبين أفاضلها مباحث. وله آداب فائقة وأشعار رائقة دونت في مجاميعه.
وكانت وفاته
بحلب في اثنين وعشرين من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائة وألف ، ودفن في مقبرة
الحجاج خارج بانقوسا رحمهالله تعالى. ا ه.
١١٣٥ ـ أحمد بن إلياس الكردي المتوفى سنة ١١٩٩
أحمد الكردي بن
إلياس ، الملقب بالأرّجاني الصغير أو بالقاموس الماشي ، الشافعي الكردي الأصل
الدمشقي ، الشاعر المفلق اللغوي الماهر.
كان فاضلا
محققا فطنا بارعا متوقد الذهن والفكر ، وكان والده كرديا من نواحي شهرزور قدم إلى
دمشق وتولى خطابة خان قرية النبك وتزوج بامرأة من القرية المذكورة وأولدها عدة
بنين وبنات.
ولد في ابتداء
هذا القرن ، وقرأ على والده بعض مقدمات على مذهب الإمام الشافعي ، وحبب له الطلب
فرحل لدمشق ونزل بمدرسة السميساطية وقرأ على المجاورين بها وأكثر على أستاذه الشيخ
أحمد المنيني وبه تدرب وصار طباخا في المدرسة المرقومة ، غير أنه كان يناضل في
الانتقاد ويساهم في الاعتقاد. ولم يزل في ضنك من العيش ، ولم تخل حركاته من طيش.
وحصلت منه هفوة حمله الحمق بسببها ، على أنه أقرّبها لدى الشرع ، وخشي من إقامة
الحد عليه ، وكان ذلك بإغراء أحد أعيان دمشق ، فخرج منه خائفا وقصد مدينة إسلامبول
دار الملك واختص ببعض أركان الدولة ، وأمن من زمانه تلك الصولة ، فجعله في خلوته
نديم مرامه واختلس برهة التيه ، ونسي ما كان فيه ، ومشى مشية لم يكن ورثها عن أبيه
، فما استقام حتى نكص على عقبه لزلة قدمها ، ففارقها وفي النفوس منها ما فيها.
وقدم طرابلس
الشام وتزوج بها واستقام ، وحصل له بعض وظائف ، ولبث هناك برهة من الأيام ثم قصد
وكنه الأصلي ولم يجعله مقره ولا سكنه.
ثم توجه تلقاء
مصر فأحله واليها الوزير محمد باشا الشهير بالراغب في أسنى المراتب ، وامتدحه
بقصيدة وهي قوله :
هذي مناي
بلغتها لأوانها
|
|
فالحمد
للأفلاك في دورانها
|
الآن قرّت
بالتواصل أعين
|
|
طال اغتراب
النوم عن أجفانها
|
أقول : وهي
قصيدة غراء طويلة سردها المرادي بتمامها اقتصرت منها على هذين البيتين خوف
الإطالة. ثم أورد له كثيرا من النظم والنثر بما يطول الشرح لو نقلناه وكله غرر
فارجع إليه إن أحببت الوقوف عليه. ومنه ما قاله مضمنا شطرا للفتح النحاس الحلبي :
بنفسك بادر
رمّ بيتك واجتهد
|
|
وإن لم تجد
إحكامه واصطناعه
|
ولا تدخل
العمّار دارك إنهم
|
|
متى وجدوا
خرقا أحبوا اتساعه
|
ثم قال : وكان
قدم حلب صحبة واليها الوزير الراغب المقدم ذكره فتوفي بها.
وكانت وفاته
يوم الأحد الثاني عشر من رجب سنة تسع وتسعين ومائة وألف بتقديم تاء التسعين ، ودفن
خارج باب قنسرين بتربة الشيخ ابن أبي النمير رحمهالله تعالى. ا ه.
١١٣٦ ـ عبد الله بن محمود الأنطاكي المتوفى أواخر هذا القرن
عبد الله بن
محمود الأنطاكي ثم الحلبي الحنفي مدرس الرضائية ، الشيخ الفاضل النبيل البارع.
ولد بأنطاكية
بعد الثلاثين ومائة وألف ، وقرأ على والده ولازمه كثيرا. وله الذكاء المفرط والأدب
الغض والنظم العالي في اللغة الفارسية والتركية ، صرف ذكاءه في الأدب ومعاشرة
الأدباء ، وعجز والده عن رده فتركه ، فذهب بعد وفاة والده إلى إسلامبول ودفتر
دارها يومئذ منيف أفندي الأنطاكي أحد تلامذة والده ، فأكرمه وأدخله بين كتبة
الديوان ، ثم خرج صحبة الوزير الأعظم محمد راغب باشا من إسلامبول حين خرج المشار
إليه (بمنصب الرها وكان عند كاتب ديوانه ، فلما عزل الوزير المشار إليه) من الرها وصل معه لحلب ، ومنها فارقه وذهب إلى إسلامبول
ودخل إلى القلم ثانيا ، وتزوج بإسلامبول. وشعره كثير موجود بأيدي الناس.
وكانت وفاته في
أواخر هذا القرن رحمهالله تعالى. ا ه.
١١٣٧ ـ مصطفى بن إسماعيل الشهير بروحي الكلزي المتوفى حول سنة ١٢٠٠
مصطفى بن
إسماعيل بن عمر بن يوسف ، الشهير بروحي ، الكلزي الحنفي النقشبندي ، الشاعر المفلق
المنشي الأديب الفاضل ، يحسن الألسن الثلاث ، واشتهر بالفارسية والتركية. وقرأ على
الفاضل المحقق محمود أفندي الأنطاكي مدرس الرضائية بحلب ، وعلى العلامة محمد أفندي
الكلزي مفتي حلب ، وعلى الحاج عبد الرحمن مفتي زاده الكلزي ، وعلى العارف عبد الله
أفندي شيخ عبيد زاده وغيرهم.
__________________
ولد بكلّز سنة
١١٣٣ ، وشعره باللغة الفارسية لا يحصى كثرة. وله آثار حسنة منها شرحه على كتاب
الشيخ العطار في اللغة الفارسية مسمى «بروح الشروح» وغير ذلك. دخل حلب مرات. ا ه.
أعيان القرن الثالث عشر
١١٣٨ ـ الشيخ محمد بن عبد الله الميقاتي المتوفى سنة ١٢٠١
ترجمه السيد
حسن الكواكبي في «النفائح واللوائح» فقال :
هو الورع
الصالح والزناد القادح ، محمد الميقاتي بن عبد الله الخاشع المنيب الأوّاه ، شيخ
الوقت وعالمه ، ومن شيدت بتحقيقاته معالمه ، المالك من محاسن الأخلاق زاكيها ،
والصاعد من مراتب السعادة عاليها ، والمهتم بأمر الآخرة الآجلة ، والراغب عن
الدنية العاجلة.
ولد بحلب
الشهباء سنة ١١٣٦ ، ونشأ بها ، ودأب على التحصيل ، واشتغل بكل فن جليل ، واستفاد
وأفاد ، وبرع بالعلم المستجاد. وكان رحمهالله تعالى نير القلب والعزم ، حسن السمت والفهم ، جيد
المذاكرة ، لطيف المعاشرة ، انتهت إليه العلوم الفلكية ، والقواعد الحسابية ، ولم
يزل في جد واشتغال ، وإصلاح علم وحال ، حتى دعاه الداعي فلباه ، ونقله إلى دار
كرامته مولاه ، شهيدا بالطاعون سنة ١٢٠١.
وأورد له السيد
الكواكبي عدة قصائد في مدح والده أحمد أفندي ، وشعره وسط ، ومن محاسن قوله فيه :
كريم الخيم
من ساد المعالي
|
|
فأضحى دونه
أوج الكمال
|
غدا في غرة
الأيام صبحا
|
|
فلا عجب إذا
زهت الليالي
|
إذا ما كوكب
زهر الدياجي
|
|
فهذا زاهر في
كل حال
|
ومهما زهرة
الصبحين ضاءت
|
|
فيسموها بنور
كالهلال
|
أليس له إلى
الزهر انتساب
|
|
به تفنى
الأكابر والأعالي
|
قال : وله
مادحا ومؤرخا بناء المدرسة التي أنشأها الوالد (المتقدم قريبا) في محلة الجلّوم :
سطعت ضياء
زاهرات كواكب
|
|
وسمت علاء
نحو أوج مراتب
|
فسعودها تسمو
ذرى بمطالع
|
|
جلت فلا يوما
ترى بمغارب
|
فلذا يكون
الإهتداء بسنائها
|
|
فشموسها لا
تختفي عن طالب
|
يا حسنها إذ
أشرقت فجلت لنا
|
|
وهو الجدير
بها ظلام غياهب
|
وزهت فكان سموها
بالأحمد ال
|
|
أوصاف من ساد
الملا بمناقب
|
إذ كان محتده
جديرا بالتقى
|
|
والعلم
والفضل الحقيق الواجب
|
فبنى لوجه
الله مدرسة غدت
|
|
تزهو بحسن
نضارة وتناسب
|
ونوى بها وجه
الكريم تقربا
|
|
أرخ زهت
مدرسة الكواكب
|
١١٩٦
ورأيت في
مجموعة الشيخ عبد القادر المشاطي إمام الشافعية في الجامع الكبير حكاية غريبة ،
وهي أن الشيخ عبد الله الغرابيلي والد المترجم كان موقتا بحلب في الحجرة التي في
الباب الغربي من الجامع الكبير ، وكان رجلا عالما ، فصادف أن رمضان في الشتاء
والناس لم يروا الشمس عشرين يوما ، فكان يؤذّن بالأذان على مقتضى الساعة ، فصادف
أنه أذّن بالأذان للمغرب وأفطرت الناس ، وبعد دقائق برزت الشمس وغابت بعد نصف ساعة
، فخجل الشيخ عبد الله وخرج من حلب هاربا. وكان التوقيت قديما على بيت طه زاده (بيت
الجلبي) ، فوكلوا به بعد الشيخ عبد الله المتقدم الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد
الرحمن الميقاتي الحنبلي (الآتي ذكره) ، ووكلوا به بعده ولده العالم الفاضل الشيخ
عبد الرحمن شيخ القراء في حلب ، ثم وكلوا ابنيه الشيخ أحمد والشيخ عبد الله. ا ه.
١١٣٩ ـ الشيخ محمد بن عبد الكريم الشراباتي المتوفى سنة ١٢٠٣
الشيخ محمد بن
عبد الكريم بن أحمد بن محمد علوان بن عبد الله ، الحلبي الشافعي الشهير كأسلافه
بالشراباتي ، مفتي الشافعية بحلب ، العالم المحدث الفقيه البركة الورع الصالح ،
أحد الفقهاء المشهورين من المتأخرين.
مولده سنة إحدى
وثلاثين ومائة وألف ، واشتغل بالقراءة والتلقي والسماع والاستفادة ، فقرأ على
والده وعلى أبي السعادات طه بن مهنا بن يوسف الجبريني وغيرهم ،
وسمع صحيح البخاري على أبي عبد الله محمد بن صالح بن رجب المواهبي ، وأخذ
عن محمد بن محمد الطيب المغربي الفاسي المالكي عند قدومه إلى حلب ، وسمع منه ومن
أبي عبد الله محمد بن محمد التافلاني المغربي ، وأجاز له الأستاذ أبو الإرشاد
مصطفى بن كمال الدين البكري الصديقي الدمشقي وجمال الدين محمد بن أحمد عقيلة المكي
وأبو البركات عبد الله بن الحسين السويدي البغدادي عند دخولهم حلب ، وسمع منهم
حديث الرحمة وأجازوه مع أخيه مصطفى ، وسمع الكثير منهم وحصل الفضل الذي لا ينكر.
ودرس وأقرأ الفقه والحديث وغالب الفنون.
وكان يقيم
بجامع عبيس بساحة بزه . وأفتى مدة سنين ، وصار رئيس الشافعية بحلب وتردد إليه
الناس للاستفتاء.
وكان متواضعا
صالحا وعالما فاضلا لين الجانب حسن المناقب جميل المعاشرة حسن المحاضرة.
توفي رحمهالله يوم السبت خامس عشر شوال سنة ثلاث ومائتين وألف. ا ه (حلية
البشر) .
__________________
١١٤٠ ـ الشيخ صادق بن صالح البانقوسي المتوفى سنة ١٢٠٣
الشيخ صادق
البانقوسي ، ذكره الشيخ محمد كمال الدين الغزي مفتي الشافعية بدمشق في الجزء
السابع من «تذكرته الكمالية» فقال :
هو صادق بن
صالح بن عبد الرحمن الشريف الحنفي الحلبي البانقوسي ، الشيخ الأديب الكامل ، أحد
المشهورين بجودة القريحة والفكر الثاقب.
كان مولده بحلب
، ونشأ بها ، وقرأ القرآن العظيم وحفظ جملة من المقدمات في فنون شتى ، وبرع في
صناعة النظم والنثر.
وارتحل إلى دار
الخلافة قسطنطينية وإلى دمشق مرارا واجتمع بأعيانها ، وكان من أخص أصحاب شيخ
الإسلام الوالد ، فكان كثيرا ما يأتي إلى دارنا ، اجتمعت به مرارا وسمعت من فوائده
ونظمه ونثاره.
وكانت وفاته في
ثاني عشر ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين وألف ، ولما وصل خبر موته لدمشق أنشدني مفتي
دمشق سيدنا العلامة المسند أبو الفضل خليل بن علي بن محمد المرادي النقشبندي
الحسيني راثيا له من لفظه :
مصاب عظيم
ورزء جليل
|
|
وحزن كثير
وصبر قليل
|
تركت فؤادي
أسير الضنى
|
|
وأنى اصطباري
وجسمي عليل
|
وذات العواصم
فيك الفخار
|
|
لها يا ابن
من للنبي السليل
|
وبعدك ينبو
عذار الكمال
|
|
وموتك حتما
على ذا دليل
|
فدم في
الجنان حليف الأمان
|
|
نعيم مقيم
وظل ظليل
|
وتوفي بمعرة
مصرين وجيء به إلى حلب في تخت روان ودفن بها.
ومن شعر صاحب
الترجمة :
قد آن للشمس
أن تجتاز في الشرف
|
|
ما بين زهر
حليّ الزهو والهيف
|
برج من المجد
لا ما قيل في حمل
|
|
من الكواكب
بين النطح والكتف
|
أجل هي الشمس
في برج الحياء وإن
|
|
رأيت في عينها
عيّا من الطرف
|
وقد سمت في
سماء الفضل طالعة
|
|
صينت معاطفها
من أن يقال قفي
|
وروضة من
سجايا أزهرت ملحا
|
|
من تالدات
أفانين ومن طرف
|
تغدو إليها
نسيمات الكمال كما
|
|
تروح منها
كدارين إلى الأنف
|
(هكذا)
تميل لطفا
إليها كل راقصة
|
|
غناء من
عذبات ميل منعطف
|
يا صاحبي
وبوادي جلّق بزغت
|
|
ليلا أسارير
ود برق مختطف
|
فيا رعي
دارها بالجبهتين وهل
|
|
تدري الأحبة
قلبا بات في الرصف
|
وهل درى
القمر الشمسي حين بدا
|
|
إليّ منه
هلال الشوق والكلف
|
ويا سقاها من
الجود الملثّ كما
|
|
جرى البريص
له صفق على الجرف
|
بأنها أفق
شمس في مطالعها
|
|
كواكب المدح
قد علقن كالشنف
|
يزان مدحي به
حتى يقال له
|
|
(طير على الغصن أم همز على الألف)
|
يا درّة في
بحار الفضل غامرة
|
|
من المكارم
لا من معدن الصدف
|
وراقيا في
طريق الحق في رتب
|
|
يضيء من نورها
الوضاح كل خفي
|
قرت بك العين
مني بعد ما احترقت
|
|
مما جرى
للنوى بالمدمع الوكف
|
لازلت في صدر
محراب التصوف بل
|
|
في منصب
الهدي تروي سيرة السلف
|
ا ه (من روض
البشر) .
وترجمه السيد
حسن الكواكبي في كتابه «النفائح واللوائح» فقال في حقه :
هو الفاضل
الكامل ، والجهبذ العديم المماثل ، ولد بحلب سنة ... ونشأ بها ، له في كل فن قدم
راسخ ، وفي كل مجد طود شامخ. أما اللغة فهو عذقها المرجب ، وجديلها المحكك ، بل هو
قائد زمامها ، وسائم سوامها ، وفارس ميدانها الرحيب ، وحامي حماها الخصيب ،
والمقتنص وحشيها بعد تأنيسه ، والسائق بطيها بعد تعريسه. وأما أخبارياته فسلوة
الكئيب إذا فقد الحبيب ، والقند الرطيب إذا ضمخ بطيب ، وسلافة الحان إذا دقت
الألحان ، ونسيم الأسحار إذا صافح أيدي النوار ، فينشد لسان الحال إذا ما العيش
حال :
__________________
تمتع من شميم
عرار نجد
|
|
فما بعد
العشية من عرار
|
وأما فوائده
التي يلقيها على الجليس ، فكأنها لو لا حلها سكر الخندريس. وأما تصرفه في الأبحاث
فتصرف نقاد ، لا يقنع منها دون خرط القتاد. وأما شعره فهو الصعب الذلول ، الذي
تلعب معانيه بالعقول ، لا يقاس إلا بشاعر معرة النعمان ، المنتدب إلى نظم الدرر في
قلائد الجمان. وأما ابتكاره للمعاني المترمة ، وانتحاله للنكات المخضرمة ، فأمر
وقع عليه الإجماع ، ولم يبق في حكايته نزاع ، فلله دره ما أحدّ فهمه وأمض عزمه ،
ويكفي برهانا على هذه المقالة ما سنورد له في هذه الرسالة ، فمن ذلك قوله مادحا
جناب حضرة الوالد المحترم السيد أحمد أفندي الكواكبي ومهنئا له بالإفتاء وبعيد
الفطر :
هي ما حنت
فعدها المنحنى
|
|
وارعها
الصمّان من تلك الأشا
|
واسقها علا
رواء مخمسا
|
|
وأرحها من
تباريح العنا
|
فلقد أضنى
بها الكدح وما
|
|
لبست إلا
جلابيب العرى
|
خرقت خاوي
النواحي خافق ال
|
|
لمع لا تعلم
ما جذب البرى
|
ترتمي إذ
تألف البيد إلى
|
|
غير ما مرمى
رغت تشكو الونى
|
أقول : وهي
طويلة نكتفي منها بهذه الأبيات ، وقد عارض بها كما ترى المقصورة الدريدية ، وهي
ناطقة برسوخ قدم المؤلف في العلوم الأدبية واللغوية.
والشيخ صادق
هذا هو أخو الشيخ عبد القادر البانقوسي من أعيان القرن الثاني عشر وقد تقدمت
ترجمته.
وخلف المترجم
ولدا اسمه الشيخ محمد عاصم ، كان عالما فاضلا ، توفي سنة ١٢٢٩ ودفن في تربة أرض
عواد في قاضي عسكر. رأيت من تآليفه رسالة في حكم تكرار الجماعة أولها : الحمد لله
وحده ، ثم قال : فقد سئلت عن الصلاة الثانية التي تقام في جامع بني أمية بحلب في
الأوقات جماعة على الهيئة الأولى هل لأحد من الحنفية الاقتداء بإمامها ، وهل ذلك
مكروه تحريما أو تنزيها .. إلخ ، وهي وريقات. وإليه تنسب الآن عائلة بيت الشيخ
عاصم.
__________________
١١٤١ ـ الشيخ محمد بن عثمان الشمّاع المتوفى سنة ١٢٠٤
الشيخ محمد بن
عثمان بن محمد بن عثمان الحلبي الحنفي الشمّاع ، فرد زمانه ، وعالم عصره وأوانه ،
زبدة الأفاضل ، وخزانة الفضائل ، الفقيه الفرضي البياني ، والأصولي المنطقي
المعاني للمعاني ، والمحدث الخبير ، والناقد الشهير.
ولد بحلب سنة
أربع عشرة وماية وألف ، وقرأ غالب الفنون على البرهان إبراهيم بن مصطفى الحلبي
المداري وأبي عبد الله جابر بن عودة الحوراني الشافعي وأبي المحاسن يوسف ابن حسين
الدمشقي الحسيني المفتي وأبي عبد الله محمد بن الحسن بن همات الدمشقي الحنفي وأبي
عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلسي ثم الحلبي ، وتفقه عليه وتخرج في المسائل
الشرعية والعقلية ، وقرأ على غيرهم من الأجلاء ، وروى بالسند العالي عن المعمر
المسند الكبير زين الدين بن عبد اللطيف الشعيفي الجلّوصي كاتب الفتوى الحنفي
المتوفى سنة سبع وعشرين وماية وألف ، وكتب مسائل الفتوى وراجعه المستفتون واعتمدوه
واعتبره العلماء المفتون.
ولم يزل محترم
القدر مرفوع الرتبة مشهور الذكر ، عليّ المقام سنّي الاحترام ، حسن الإفادة وافر
العبادة ، صادق الزهادة ، لا يشغله هواه عن الإقبال على مولاه إلى أن توفي سنة ألف
ومائتين وأربع رحمهالله. ا ه. (حلية البشر).
وترجمه في (روض
البشر) فقال : قال المؤرخ السيد محمد كمال الدين الغزي العامري مفتي الشافعية
بدمشق في الجزء السابع من تذكرته الكمالية : هو محمد بن عثمان الشهير بالشماع ،
الشيخ المعمر الكاتب الفاضل البارع الكامل الأوحد أبو الوفا همام الدين.
ولد بحلب سنة
إحدى عشرة وماية وألف (هناك قال سنة ١١١٤ والله أعلم أيهما أصح) ونشأ بها ، وأخذ
في طلب العلم عن جماعة من علمائها كالبرهان إبراهيم المداري والشيخ محمد الزمار
والشيخ طه الجبريني والسيد محمد الطرابلسي وغيرهم ، وصار أمين الفتوى بحلب أكثر من
خمسين سنة. توفي في اليوم السابع من صفر سنة أربع ومائتين وألف. ا ه.
١١٤٢ ـ الشيخ محمد بن محمد الريحاوي المتوفى سنة ١٢٠٤
الشيخ محمد بن
محمد الأريحاوي الحلبي الشافعي ، العالم المحقق العامل الإمام المدقق الكامل.
مولده بأريحا
سنة تسع وثلاثين وماية وألف ، وقرأ بها بعض المقدمات.
وارتحل إلى مصر
وأقام بها ولازم الشيوخ وقرأ على الكثير معظم الفنون ، واشتغل بالأخذ والتلقي
والسماع والتحصيل ، وأخذ عن كثير منهم النجم الحفناوي والشهاب أحمد بن عبد الفتاح
الملوي وأبو علي الحسن بن أحمد المدابغي وأبو مهدي عيسى البراوي وغيرهم. ودأب
واجتهد حتى أتقن وفضل ومهر وأذن له شيوخه بالإفتاء والتدريس وأجازوا له.
ثم عاد إلى حلب
بفضل وافر ، وأقام بها ينشر الفضائل ويفيد الأفاضل ، وتصدر للإفادة والإقراء
ولازمه جماعة كثيرون وانتفعوا به ، ثم ضرب عن ذلك صفحا ، ورام ما هو أعظم ربحا ،
واعتزل الناس واشتغل بالعبادة والسكون ، وانزوى في داره مع الورع والزهد التام ،
واعتقده الناس وأقبلوا عليه. وكانت فضائله مشهورة وأحواله مذكورة.
ولم يزل على
حالته الحسنة حتى مات في صفر سنة أربع ومائتين وألف ودفن بتربة الشيخ نمير خارج
باب قنسسرين. ا ه. (حلية البشر).
١١٤٣ ـ الشيخ محمد هلال الهلالي المتوفى سنة ١٢٠٤
الشيخ محمد
هلال بن أبي بكر القادري ، شيخ التكية الهلالية الكائنة في محلة الجلّوم.
تلقى العلم
والطريقة القادرية على والده الشيخ أبي بكر بن أحمد الهلالي وسلك على يديه ، وبعد
وفاة الشيخ أبي بكر جلس هو على السجادة هناك ولازمه مريدو والده وانتفعوا بعلمه
وإرشاده.
وكان صالحا
ورعا تقيا زاهدا كثير العبادة اعتقده الخاص والعام.
وبقي على
السجادة إلى أن توفي سنة ١٢٠٤ ودفن في الزاوية المذكورة ، وبنى الوزير مصطفى باشا
ابن عزة باشا ضريحا على قبره ونقش على أحجاره هذه الأبيات :
إن هذا ضريح
قطب المعالي
|
|
من تسمى
محمدا وهلالي
|
ابن شيخ
الشيوخ من كان يدعى
|
|
بأبي بكر
صاحب الأحوال
|
قد بناه نجل
الوزير المسمى
|
|
عزتي راجيا
حصول الكمال
|
إذ توفى
الهلال ناديت أرخ
|
|
صاح هذا
المقام قطب هلال
|
وجلب مصطفى
باشا المذكور الماء إلى الزاوية ، وقد كانت هذه الزاوية صغيرة فوسعها إلى حالتها
الحاضرة يوسف آغا عربي كاتبي ابن مصطفى آغا ، وذلك في سنة ١٢٠٥ ، وهو رجل من أهل
الموصل كان قيم حج لأهل الموصل ، وكان كلما اجتاز بحلب قاصدا الحجاز يزور الشيخ
أبا بكر والد المترجم ، وكان عظيم الاعتقاد فيه ورأى منه عدة كرامات ، وكلما رأى
منه كرامة زاد اعتقاده فيه ، فدعاه ذلك إلى توسيع الزاوية ووقف لها وقفا ، وفي آخر
الأمر توطن يوسف آغا في حلب وتوفي فيها سنة ١٢١٣ ودفن بالزاوية المذكورة.
١١٤٤ ـ محمد بن إبراهيم العاري المتوفى بعد سنة ١٢٠٠
الشيخ محمد بن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد الأريحاوي الشافعي الشهير كوالده
بالعاري ، أبو عبد الرحمن شمس الدين ، العالم الفاضل المفتي الفقيه الشهير النسابة
، خاتمة أجلاء بلدته.
مولده بها سنة
ثمان ومائة وألف ، وقرأ على جده ووالده وانتفع بهما ، وأخذ عنهما الكثير وسمع
عليهما.
ورحل إلى إدلب
وسمع بها الحديث وغيره عن الشهاب أحمد الكاملي المفتي ، وأخذ الطريقة الرفاعية
القصيرية عن العماد إسماعيل بن محمد القصيري وحصلت له بركته ، وأفتى بأريحا بعد
والده ، وخطب وأم بجامعها قدر ستين سنة. ودخل عام حجه دمشق الشام.
وكان له نظر
دقيق وشعر رقيق ، فمن شعره مخمسا قصيدة الشيخ عبد الرحيم البرعي :
على الأحباب
قلبي أنّ أنّا
|
|
وصرت بهم
حليف ضنى معنى
|
ولما أن بدا
ليلي وجنا
|
|
سمعت سويجع
الأثلات غنى
|
على
مطلولة العذبات رنا
|
وأجرى دمعه
من فوق خدّ
|
|
على إلف له
يبكي لفقد
|
ولما بان منه
عظيم وجد
|
|
أجابته مغردة
بنجد
|
|
وثنّت
بالإجابة حين ثنّى
|
فزاد بي
الهوى وجفوت قومي
|
|
ولم أعرف متى
أمسي ويومي
|
وكيف
العاذلون يرون لومي
|
|
وبرق
الأبرقين أطار نومي
|
وأحرمني
طروق الطيف وهنا
|
وجهز فاتني
للحرب جيشا
|
|
وعقلي زاده
التعنيف طيشا
|
ذكرت مغانيا
جمعت قريشا
|
|
وذكرني الصبا
النجديّ عيشا
|
بذات
البان ما أحلى وأهنا
|
وأنعش ذلك
التذكار حسي
|
|
وطابت
بالتهاني منه نفسي
|
ومذ راق
الطلا وأدير كأسي
|
|
ذكرت أحبتي
وديار أنسي
|
وراجعت
الزمان بهم فضنا
|
وهي طويلة
أوردها في حلية البشر بتمامها نكتفي بهذا المقدار منها ، وختمها بقوله :
وأمتك التي
حقا تباهت
|
|
على من قد
تقدمها وتاهت
|
وفضلك فيه
أقوالي تناهت
|
|
عليك صلاة
ربي ما تناغت
|
حمام
الأيك أو غصن تثنى
|
توفي رحمهالله تعالى بعد الألف والمائتين ودفن خارج ريحا عند والده.
وكان عالما
بأنساب الناس وأصولهم ، حافظا للأخبار والوقايع ، قوي الحافظة ، حسن النادرة ،
جميل الأخلاق ، كريم الأعراق ، خاتمة علماء وفضلاء أهل أريحا ونبلائها ، ولم يترك
مثله في نواحيه ، رحمة الله عليه. ا ه. (حلية البشر).
١١٤٥ ـ الشيخ عبد الوهاب بن محمد الأزهري المصري المتوفى بعد سنة ١٢٠٠
الشيخ عبد
الوهاب ابن الشيخ محمد الأزهري ، العالم الزاهد العابد الفاضل الأديب.
قدم إلى حلب
سنة ... وقطن بالجامع الأموي يقرىء الكتب المطولات والمختصرات ،
وانتفع به جمع كثير ، وروى عنه جمع غفير ، وأحيا الطريقة الشاذلية ، وقام بتلاوة
أورادها على السنة المرضية. وكان دمث الأخلاق حسن المعاشرة معمر القلب مواظبا
__________________
على العبادة سالكا سبيل السنة ، مع الإقراء والإفادة والإتيان بالفوائد
المستجادة. توفي سنة ... وله شعر لطيف كآثار الكرام ، يتبرك به الخاص والعام. ا
ه. (من النفائح واللوائح).
وله شعر لطيف
رأيت منه هذا التخميس في بعض المجاميع :
أكرم بأبرار
بهم
|
|
نلت المنى من
قربهم
|
فازوا بتقوى
ربهم
|
|
لي سادة من
عزهم
|
أقدامهم
فوق الجباه
|
أرجو من الله
العلي
|
|
بالمصطفى نعم
الولي
|
كن لي بأعلى
منزل
|
|
إن لم أكن
منهم فلي
|
في
حبهم عز وجاه
|
١١٤٦ ـ محمد بن حجازي المتوفى بعد
سنة ١٢٠٥
الشيخ محمد بن
حجازي بن محمد الحلبي الشافعي (المعروف بابن برهان) ، العالم الفاضل المتقن الجهبذ
المتفنن النظار الأصولي الفقيه ، والنحوي الصرفي الجدلي النبيه.
ولد سنة إحدى
وأربعين ومائة وألف ، واشتغل بالأخذ والقراءة ، فقرأ على أبي الثناء محمود بن
شعبان الباذستاني الحنفي وأبي عبد الله محمد بن كمال الدين الكبيسي ، ولازم تاج
الدين محمد بن طه العقاد وبه تخرج في أكثر العلوم ، وسمع منه أكثر صحيح البخاري وشيئا
من صحيح مسلم وغيرها من كتب الحديث ، وأخذ عنه القراءات من طريق الشاطبية وانتفع
به ، وأخذها أيضا عن أبي عبد اللطيف محمد بن مصطفى البصري شيخ القراء بحلب وأبي
محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المصري ، وقرأ على أبي السعادات طه بن مهنا الجبريني
شيئا من أصول الحديث وشيئا من صحيح البخاري وحضره في دروسه الفقهية ، وقرأ المنطق
وأخذه عن الشهاب أحمد بن إبراهيم الكردي الشافعي مدرس الأحمدية بحلب ، وقرأ
المختصر في المعاني والبيان على أبي الحسن علي بن إبراهيم العطار وألفية الأصول
للسيوطي وشرح السراجية ، وقرأ على أبي محمد عبد القادر الديري المنهاج بطرفيه وشرح
المنهج للقاضي
__________________
زكريا ، وقرأ الكثير على الأجلاء وسمع منهم ، وأتقن وفضل ومهر ونبل ودرس وأفاد وأقرأ
جماعة كثيرين وأخذوا عنه ، وما منهم إلا من انتفع به واستفاد.
وكان من
العلماء المشهورين والفضلاء المذكورين. وكان يحترف ويأكل من شغله ولا يقبل من أحد
إلا ما دعت الضرورة إليه ، يغلب على حاله الزهد والعفاف والرضى برزق الكفاف. وكان
قليل الاختلاط بغيره ، لا يألف إلا ما يفوز منه بخيره ، كثير العبادة والتقوى ،
شديد الإقبال على عالم السر والنجوى ، دائم التفكر في الله ، لا يشغله عنه سواه. مات
بعد سنة خمس ومايتين وألف. ا ه. (حلية البشر).
أقول : وله من
المؤلفات منظومة في علم الفرائض سماها «العقود البرهانية» شرحها الشيخ عبد الله
الميقاتي المتوفى سنة ١٢٢٣ وشيخ مشايخنا العلامة أحمد الترمانيني المتوفى سنة ١٢٩٣
في أربع كراريس ، وشرحها شيخنا الفاضل الشيخ كامل الهبراوي شرحا حسنا أفاد فيه
وأجاد ، وقد قرظت هذا الشرح المفيد في جملة من قرظه.
١١٤٧ ـ محمد مكي بن موسى المتوفى بعد سنة ١٢٠٥
الشيخ محمد مكي
بن موسى بن عبد الكريم الحلبي الحنفي ، العالم الفقيه الأصولي المقري الضابط
الصالح أبو الإتقان أحد القراء والحفاظ المشهورين والفضلاء البارعين بحلب. مولده
بها سنة خمس وأربعين وماية وألف. وكان جده من دمشق ، وارتحل إلى حلب ومات بها.
قرأ القرآن
العظيم وهو ابن ثماني عشرة سنة وحفظه على الأجلاء من القراء كالشمس البصري ومحمد بن
عمر بن شاهين وعبد الغني المقري بمحلة الجديدة وعلي المصري ، وأتقن الحفظ وضبطه ،
وحفظ الشاطبية ، وقرأ السبعة من طريقها على الشمس البصري شيخ القراء المذكور.
وشرع بالأخذ
والاشتغال بالعلوم فقرأ الفقه والأصول والعقائد والمنطق والنحو
__________________
والصرف والمعاني والبيان وغالب الفنون على جماعة.
وسمع الحديث
على جمع ، منهم أبو عبد القادر محمد بن صالح بن رجب المواهبي ، قرأ عليه الدرر
وشرح النخبة في أصول الحديث والتوضيح لابن هشام وشرح الألفية للأشموني والشفاء
للقاضي عياض ، وعلى والده عماد الدين إسماعيل أكثر من نصف الهداية وشرح الجوهرة في
التوحيد ، وسمع عليهم صحيح البخاري. ومنهم قاسم بن محمد النجار ، قرأ عليه عدة كتب
فقهية ، وأبو الحسن علي بن إبراهيم العطار ، قرأ عليه الدر المختار للحصكفي
والقدوري وطالع عليه كتبا كثيرة كالبحر والذخيرة وشرح الكنز لابن سلطان والبدائع ،
وقرأ عليه النصف الأول من الهداية أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلسي ، وأخذ
الأصول عن محمد حاجي بن علي الكليسي مفتي الحنفية بحلب ، وقرأ على أبي محمد يوسف
بن أحمد الجابري وعلى أبي الثناء محمود بن شعبان الباذستاني وأبي محمد عبد الرحمن
ابن مصطفى البكفالوني والشيخ رضي الدين بن عثمان الشماع.
ودخل دمشق وسكن
المدرسة المرادية في جوار الجامع الأموي ، ولازم زين الدين مصطفى بن محمد بن رحمة
الله الأيوبي الدمشقي وحفظ عليه نصف الكنز ، ثم لما عاد إلى حلب أتم حفظه على شيخه
محمد المواهبي وأجاز له غالب شيوخه بالإجازة العامة وكتبوا له خطوطهم. وتفوق وضبط
القراءة بوجوهها وحفظها وتلا ورتل القرآن العظيم أحسن ترتيل ، وكان من القراء
الموصوفين بالتقوى والديانة والفضل.
واجتمع بالسيد
خليل أفندي المرادي سنة خمس ومايتين وألف وأخذ كل عن الآخر وأجاز كل للآخر
بالإجازة العامة.
ولم يزل على
حالة صالحة وعبادة راجحة إلى أن توفي سنة ألف ومائتين ونيف. ا ه. (حلية البشر).
١١٤٨ ـ الشيخ حسين الحسيني السعدي المتوفى بعد سنة ١٢٠٥
الشيخ حسين أبو
عبد الله بن أبي بكر بن خالد بن عثمان الحلبي الشافعي الحسيني ، الشريف الفقيه
الصالح ، والعفيف النبيه الفالح ، والتقي الزاهد ، والنقي العابد.
مولده سنة
ثلاثين وماية وألف. قرأ القرآن العظيم على خال والده الشيخ أبي الضياء
هلال بن أحمد القادري وحفظه على غيره ، وتفقه وحفظ بعض المتون العلمية على
جماعة ، وسمع الكثير من كتب الحديث وغيره على جمع ، منهم بدر الدين حسن بن شعبان
السرميني وأبو عبد الفتاح شمس الدين محمد بن الحسين الزمار وأبو محمد عبد الكريم
بن أحمد الشراباتي وأبو السعادات طه بن مهنا الجبريني وفخر الدين عثمان بن عبد
الرحمن العقيلي العمري ومحمد علاء الدين بن محمد الطيب الفاسي المغربي المالكي لما
قدم حلب وعقد بها مجلس التحديث والسماع ، وتاج الدين محمد بن طه العقاد وغيرهم.
وأخذ الطريقة
السعدية عن شهاب الدين أحمد السعدي الجباوي الدمشقي لما قدم دمشق ونزل عنده.
وأخذ الطريقة
القادرية وغيرها عن الشيخ تقي الدين أبي بكر بن أحمد الحلبي القادري. وأخذ عن
الشيخ أبي الخير سعد بن عبد الله اليماني نزيل حلب وانتفع بهم وأجاز له غالب
مشايخه ، وأقام الذكر والتوحيد على عادتهم واعتقده الناس.
وقد أخذ عنه
العالم العلامة خليل المرادي واستجازه بجميع ما تجوز له روايته فأجازه إجازة عامة
، وذلك حين رحلة خليل أفندي إلى حلب سنة خمس ومايتين وألف كما رأيت ذلك بخط خليل
أفندي. ومات المترجم بعد ذلك ولم أقف على تاريخ موته. ا ه. (حلية البشر).
١١٤٩ ـ الشيخ داود المعري الشاعر المتوفى بعد سنة ١٢٠٥
الشيخ داود بن
أحمد بن إسماعيل ، المعري ثم الحلبي الحنفي ، أبو سليمان سيف الدين الأكمه ،
العالم الذي تهلل به محيا العالم بهجة وسرورا ، وتجمل به جيد الدهر فكان له فرحة
وحبورا ، ذو النجدة والمروّة ، والمجد والفتوّة ، من سجعت بمحاسنه حمائم شمائله ،
ولمعت من سماء مكارمه بوارق فضائله ، فبهر الأنام بأخلاقه المرضية ، واشتمل بما
لبسه من الكمال على كل منقبة جلية. وله من محاسن الكلام ما تشربه أفواه المسامع ،
ومن بديع النثر والنظام ما يزري ببدائه البدائع.
ولد هذا الهمام
والجهبذ الإمام بمعرة النعمان ، سنة ثلاث وثلاثين وماية وألف من هجرة سيد ولد
عدنان. ثم بعد أن قرأ القرآن وأتمه ، وجوّده على القراء الأئمة ، دخل مدينة
حلب ، وأكب بها على التحصيل والطلب ، وأخذ عن جماعة أفاضل ، قد اشتهروا بالمناقب
والفضائل ، منهم العلامة عبد الرحمن بن مصطفى البكفالوني وأبو الثناء محمود بن
شعبان الباذستاني والنور علي بن أحمد الدابقي ومحمد الحلبي بن علي الأنطاكي المفتي
وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلسي المفتي والسيد حسن بن شعبان السرميني
وأبو عبد الله محمد أبو محمد الأنطاكي وأبو العدل قاسم بن محمد البكرجي وغيرهم من
العلماء الأعلام ، والسادات العظام ، وأجازوه بما تجوز لهم روايته ، وتصح لهم
درايته ، ودخل دمشق الشام ، وأخذ أيضا عن علمائها الأعلام ، وأجازوه أيضا إجازة
عامة لجميع العلوم ، التي أخذوها عن ساداتهم ذوي المقام المعلوم.
وكان ممن يشار
إليه ، ويعول بعويصات المسائل عليه.
وممن اجتمع به
في حلب فرد الشام ومفتي الأنام ، خليل أفندي المرادي ، وذلك في سنة ألف ومائتين
وخمس ، ولم تكن وفاته بعد ذلك بكثير رحمهالله.
وقيل إن هذه
الأبيات من كلامه وبديع نظامه :
ذو جمال همت
في عشقته
|
|
فتن العشاق
عربا وعجم
|
لاح بدر التم
من طلعته
|
|
وبدا البرق
إذا الثغر ابتسم
|
بات يجلو
الراح في راحته
|
|
ويدير الكاس
في جنح الظلم
|
غلب النوم
على مقلته
|
|
قلت والوجد
بقلبي قد حكم
|
أيها الراقد
في لذته
|
|
نم هنيئا إن
عيني لم تنم
|
يا هلالا قد
سبى شمس الضحى
|
|
كل ما فيك
وعينيك حسن
|
صل محبا ماله
من مسعف
|
|
قد جفاه من
تجافيك الوسن
|
يا مريض
الجفن يا من لحظه
|
|
سل سيفا
للمحبين وسنّ
|
جفنك النعسان
من كسرته
|
|
كم شجاع منه
ولى وانهزم
|
أيها الراقد
في لذته
|
|
نم هنيئا إن
عيني لم تنم
|
وله :
ورد الخدود
أرق من
|
|
ورد الرياض
وأنعم
|
هذا تنشقه
الأنو
|
|
ف وذاك يلثمه
الفم
|
فإذا عدلت
فأفضل ال
|
|
وردين ورد
يلثم
|
هذا يشم ولا
يضم
|
|
وذا يضم
ويشمم
|
وله أبيات
كثيرة ، وقصائد بديعة بالمدح جديرة. ا ه. (حلية البشر).
١١٥٠ ـ الشيخ صادق البخشي المتوفى بعد سنة ١٢٠٥
الشيخ صادق بن
عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد البخشي ، الحلبي الحنفي الخلوتي ،
صلاح الدين أبو النجا شيخ الإخلاصية بحلب ، العالم الخير البركة الصالح الدّين ،
العمدة الإمام المرشد.
مولده سنة ثلاث
وثلاثين وماية وألف ، ونشأ بكنف والده وأعمامه وأخذ عنهم وقرأ عليهم وانتفع بهم ،
وأكثر انتفاعه بعمه أبي الإخلاص حسن بن عبد الله البخشي. وقرأ على أبي عبد الفتاح
محمد بن الحسين وأبي السعادات طه بن مهنا بن يوسف الجبريني وأبي العدل قاسم بن
محمد النجار ، وقرأ الصحيح للبخاري على أبي محمد عبد الكريم بن أحمد ابن محمد
علوان الشراباتي. ولما قدم حلب سنة أربع وأربعين وماية وألف المسند الرّحلة أبو
عبد الله جمال الدين محمد بن أحمد عقيلة بن سعيد المكي وزارهم في تكية الإخلاصية
الكائنة بمحلة البياضة سمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية وحديث المصافحة
والمشابكة وأجاز له بمروياته وسمع عليه مسلسلاته بقراءة والده وعمه وأجاز لهم
جميعا بخطه على ظهر إثباته ، وأجاز له الشهاب أحمد بن محمد المخملي وهو يروي عن
عمه البرهان إبراهيم البخشي وغيره وأبو محمد عبد الوهاب بن أحمد الأزهري وآخرون ،
وكتبوا له خطوطهم وسمع عليهم الكثير. وأخذ الطريقة الخلوتية وغيرها عن عمه ووالده.
ولما مات سنة خمس وسبعين وماية وألف صار شيخا مكانه في تكيتهم الإخلاصية المعروفة
بهم ، ولم يعارضه عمه في المشيخة وارتضاه ، وكان يحنو عليه ويحبه ورباه وأحسن
تربيته وانتفع به وبآدابه ، وسمع عليه ديوان شعره من لفظه ، فأجازه بمروياته
ومسموعاته وكتب له بخطه بعد التلفظ مرارا. ولازم الاستقامة وتصدر للإرشاد والتسليك
، واختلى كعادتهم ولازمه جماعتهم وأخذوا عنه. وكان يقيم الأذكار والتوحيد.
وكان سخيا كريم
الأخلاق ، حسن السريرة والسيرة ، كثير الديانة والخير ، من المشايخ الأخيار.
رأيت بخط خليل
أفندي المرادي يقول : ولما دخلت حلب المرة الثانية سنة خمس ومائتين وألف اجتمعت به
غير مرة وزارني وزرته وتردد إليّ وسمعت من لفظه حديث الرحمة المسلسل بالأولية وهو
أول حديث سمعته من لفظه ، وصافحني وشابكني ، كما أسمعه الأولية وصافحه وشابكه ابن
عقيلة المكي ، وأجاز لي بما تجوز له روايته لفظا وكتابة على ظهر ثبت شيخه
الشراباتي. ولم أقف على تاريخ موته. ا ه. (حلية البشر).
١١٥١ ـ عبد الصمد الأرمنازي المتوفى بعد سنة ١٢٠٥
الشيخ عبد
الصمد بن محمد بن محمد الأرمنازي الشافعي الحلبي ، الفقيه الأديب والكامل اللبيب.
مولده بأرمناز
سنة ثلاثين وماية وألف ، ونشأ بها في كنف والده ، وقرأ القرآن وحفظه وتلاه مجوّدا
على الشيخ المقرىء يحيى بن الحسين الحلبي الزيات ، وتفقه بأبي الحسن علي ابن عبد
الكريم الأرمنازي ، وقرأ النحو وغيره من بقية الفنون. وخطب بعد والده في جامع
أرمناز كأسلافه ولهم زمان قديم في هذا المكان. ونظم الشعر وتعاناه ، وأقبل على
مطالعة الدواوين الشعرية. وكان كريما جوادا صالحا.
ومن شعره يمدح
النبي صلىاللهعليهوسلم :
لست أخشى ولي
إليك التجاء
|
|
يا نبيا سمت
به الأنبياء
|
كنت نورا
وكان آدم طينا
|
|
فأضاءت بنورك
الأرجاء
|
جئتنا من
إلهنا بكتاب
|
|
عربي عنت له
البلغاء
|
أيها
المادحون طيبوا نفوسا
|
|
إن مدح النبي
فيه الشفاء
|
ما رماني
الزمان منه بسهم
|
|
أودهتني
الخطوب والضراء
|
وتوسلت
بالمشفع إلا
|
|
دار كتني
الألطاف والسراء
|
قاب قوسين قد
دنا فتدلى
|
|
وتجلى لما
أتاه النداء
|
كان جبريل
بالبراق دليلا
|
|
حين أسرى به
فنعم العطاء
|
وبدت حين
وضعه معجزات
|
|
ضاق عنها
التعداد والإحصاء
|
وضعته والكون
كان ظلاما
|
|
وعن الحق في
القلوب عماء
|
فانتفى الغي
حينما حل في الأر
|
|
ض ونادت
أقطارها والسماء
|
يا رفيع
الجناب أنت المرجى
|
|
في المهمات
إذ يعم البلاء
|
كن مجيري يا
خير هاد لأني
|
|
ليس لي في
الأمور عنك غناء
|
وله أشعار
كثيرة وقصائد شهيرة. توفي بعد الألف ومائتين وخمس. ا ه. (حلية البشر).
١١٥٢ ـ عبد الغني بن صلاح المتوفى بعد سنة ١٢٠٥
الشيخ عبد
الغني أبو محمد عز الدين بن علي بن صلاح بن أحمد ، الحلبي الحنفي الحسيني ، العالم
الأستاذ والفاضل الملاذ ، والفقيه الصالح والنبية الفالح.
ولد سنة ألف
ومائة وثلاثين ، واجتهد في الطلب والتفت إليه وأقبل بجده واجتهاده عليه ، وسمع
وقرا ، وفهم ودرى ، وأخذ عن جماعة ذوي فضالة وبراعة ، منهم أبو عبد القادر صالح بن
عبد الرحمن البانقوسي ، فتفقه عليه وأخذ عنه الحديث ، وقرأ على ولده أبي محمد عبد
القادر ، وحضر كثيرا من دروس أبي محمد مصطفى بن عبد القادر الملقي ولازمه مدة
وانتفع به ، وسمع من أبي العدل قاسم بن محمد النجار الجامع الصغير في الحديث.
وأخذ الطريقة
القادرية عن أبي عبد القادر محمد بن صالح بن رجب المواهبي ، والطريقة الرفاعية عن
أبي الحسن علي الصعيدي المصري ، والطريقة الشاذلية عن أبي محمد عبد الوهاب ابن
المصري البشاري ، والطريقة السعدية عن العماد إسماعيل السعدي.
وكان حريصا على
الاستفادة والإفادة ، كثير التقوى والعبادة. وفي آخر أمره انقطع إلى الذكر
والإرشاد ، وأقبل عليه المريدون من كثير من البلاد ، فانتفع به كثير من الناس.
ولم يزل على
صلاحه وتقواه وعبادته ودعايته إلى الله إلى أن دعته المنية إلى المنازل العلية بعد
الألف ومايتين وخمس رحمهالله. ا ه. (حلية البشر).
١١٥٣ ـ الشيخ عبد الكريم بن محمد المتوفى بعد سنة ١٢٠٥
الشيخ عبد
الكريم بن محمد بن عبد الجبار بن محمد ، الحلبي الحنفي الماتريدي ، أبو
محمد كمال الدين ، العالم الواعظ والإمام الفاضل النبيه.
ولد سنة أربع
وعشرين وماية وألف ، وقرأ القرآن العظيم ، واشتغل بالأخذ والتلقي والسماع والقراءة
، فقرأ على والده وسمع عليه الكثير من الأحاديث وكتب المتون والأسانيد وانتفع به ،
وعلى أبي الفتوح علي بن مصطفى الميقاتي الدباغ والبدر حسن بن شعبان السرميني وقاسم
بن محمد النجار وأبي عبد الفتاح محمد بن حسين الشهاب وأبي محمد عبد الكريم بن أحمد
الشراباتي وأبي المحاسن يوسف بن حسين بن درويش الدمشقي الحسيني المفتي والنقيب
بحلب وأبي الثناء محمود بن شعبان الباذستاني وأبي محمد عبد السلام بن مصطفى
الحريري وآخرين وأجازوه.
وارتحل إلى
دمشق وسمع بها على أبي النجاح أحمد بن علي المنيني الخطيب في جامع بني أمية وشرف
الدين موسى بن أسعد المحاسني وأبي الفدا العماد إسماعيل بن محمد جراح العجلوني
وأبي الحسن علي بن أحمد كزبر وأبي الثناء محمود بن عباس الكردي العبدلاني نزيل
دمشق وآخرين ، وسمع منهم غالب المسلسلات كالأولية وغيره ، وأجازوا له وكتبوا له
بخطوطهم.
ودخل القدس
وأخذ بها عن أبي الإرشاد مصطفى بن كمال الدين بن علي البكري الصديقي الدمشقي
الخلوتي وأجاز له بخطه في أواسط سنة ستين وماية وألف وانتفع به وقرأ عليه البعض من
تآليفه وسمع عليه الكثير واستقام عنده أياما.
ثم ارتحل إلى
مصر بقصد الأخذ والتلقي وقرأ بها على النجم الحفناوي والبدر حسن ابن أحمد المدابغي
والشمس محمد بن محمد الدفري والشهاب أحمد بن عبد الفتاح الملوي والزين أبي حفص عمر
بن الطحلاوي وسمع عليهم غالب كتب الأحاديث الشريفة والمسلسلات وأولها حديث الرحمة
، فإنه سمعه من جميع شيوخه كما هو مصرح في إجازاتهم ، ولازمهم مدة أشهر وقرأ عليهم
، وكتبوا له بخطوطهم الإجازات المؤرخة سنة أربع وستين وماية وألف.
وحج تلك السنة
من مصر وسمع الأولية وبعض المسلسلات من أبي عبد الله محمد بن محمد الطيب المغربي
الفاسي المالكي نزيل المدينة المنورة ، وأجاز له بخطه.
ثم عاد إلى حلب
ودرس بها ووعظ بجامعها الأموي الكبير.
توفي بعد الخمس
والمائتين والألف. ا ه. (حلية البشر).
١١٥٤ ـ الشيخ عبد اللطيف بن عبد السلام المتوفى بعد سنة ١٢٠٥
الشيخ عبد
اللطيف بن عبد السلام بن عبد القادر بن محمد الحلبي الشافعي ، الإمام أبو محمد علم
الدين ، المسند المعمر البركة التقي الصالح العمدة الهمام.
مولده في حلب
سنة عشرين وماية وألف ، وسمع الكثير من الفنون والعلوم على الكثير من الأفاضل
السادات كمحمد أبي عبد الفتاح الزمار وأبي الفتوح علي بن مصطفى الدباغ والبدر حسن
بن شعبان السرميني وأبي عبد الكريم محمد بن عبد الجبار الواعظ وأبي السعادات طه بن
مهنا الجبريني وأبي محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وعبد الرحمن البكفالوني
وأخوته عبد الوهاب ويس أولاد مصطفى البكفالوني وأبي المحاسن يوسف بن الحسين الدمشقي
المفتي والنقيب بحلب. وروى عاليا عن الشمس محمد بن هاشم الديري وأبي داود سليمان
بن خالد النحوي وأبي الحياة خضر بن محمد بن عمر العرضي وأبي محمد عبد القادر بن
عمر الإمام الحلبي. وقد أخذ عنه واستجازه خليل أفندي المرادي حينما كان في حلب في
سنة ألف ومائتين وخمس ، وتوفي بعدها ، ولم أقف على تاريخ وفاته رحمهالله. ا ه. (حلية البشر).
١١٥٥ ـ الشيخ منصور السرميني المتوفى سنة ١٢٠٧
الشيخ منصور بن
مصطفى بن منصور بن صالح زين الدين ، السرميني الحلبي الحنفي ، العالم المتقن
الفاضل المحدث الأصولي الزاهد العابد ، التقي النقي.
مولده سنة ست
وثلاثين ومائة وألف بسرمين من أعمال حلب ، ونشأ بحلب ودخلها صغيرا ، وقرأ القرآن
العظيم وبعض المقدمات من الفقه والعربية وغيرها على أبي محمد عبد الوهاب بن أحمد
المصري نزيل حلب وأبي عبد الله محمد بن محمد التافلاني المغربي. وأخذ الطريقة
القادرية عن أبي بكر تقي الدين بن أحمد القادري الحلبي.
وارتحل إلى
حماة وقرأ بها على البدر حسن بن كديمة وأبي محمد عبد الله الحواط.
ثم ارتحل إلى
مصر واشتغل بالتحصيل والأخذ وقرأ على علمائها في غالب الفنون ،
منهم أبو المكارم محمد نجم الدين بن سالم بن أحمد الحفناوي وجل انتفاعه به
وعليه ، وأخوه الجمال يوسف وأبو العباس أحمد بن عبد الفتاح الملوي وأبو محمد الحسن
المدابغي والشهاب أحمد الجوهري وعفيف الدين عبد الله بن محمد الشبراوي ونور الدين
علي العمروسي وأبو عبد الله محمد بن محمد البليدي المالكي وأبو الصفا خليل المالكي
وأبو محمد عبد الكريم الزيات وأبو داود سليمان الزيات وأبو السخاء عطية الله
الأجهوري والسراج عمر الشنواني وأبو الحسن علي الصعيدي وأبو الروح عيسى البراوي
والشمس محمد الفارسكوري وأبو عبد الله محمد العشماوي وغيرهم.
وحج ولقي هناك
عام حجه أبا الإرشاد مصطفى بن كمال الدين بن علي البكري الصديقي الدمشقي وأخذ عنه
الطرائق وغيرها وانتفع بدعواته ونفحاته وارتفع بأنظاره ولمحاته. وأخذ بالمدينة
المنورة على أبي البقا محمد حياة بن إبراهيم السّندي.
واستقام بمصر
عدة سنين ، وتفوق وتنبل ودرس بها وأقرأ بها بعض العلوم ، واشتهر أمره وراج حاله حتى
شهد بفضله مشايخه. وبعدها دخل حلب ، ومنها قدم دمشق فرغب أهلها به وصار له حظ عظيم
منهم.
ودرس في الأموي
بدمشق ، واختلى على عادة مشايخ الطرق ولزم جماعة وأخذوا عنه ، وأقبل عليه الناس
واشتهر. واستقام بدمشق بعياله نحو عشرين سنة ، وفي أثناء المدة كان يأتي إلى حلب
لزيارة أحبابه وأقاربه.
رأيت بخط خليل
أفندي المرادي صاحب التاريخ قال : وكان والدي اشترى المكان المبني تجاه باب جيرون
بالجامع الأموي وجعله وقفا على المترجم ومن بعده على من يصير خليفة بعده من
المشايخ البكرية الخلوتية ، وكان القاضي بالحكم سليمان بن أحمد الخطيب المحاسني
الحنفي.
وألف وهو بدمشق
رسالة في البسملة سماها «كشف الستور المسدلة عن أوجه أسرار البسملة» وجعلها باسم
والدي وكتب له عليها. وشرح الأبيات الثلاثة التي مطلعها :
عليك بأرباب
الصدور فمن غدا
|
|
مضافا لأرباب
الصدور تصدرا
|
__________________
(وسماه «كشف
اللثام والستور عن مخدرات أرباب الصدور») .
وفي سنة إحدى
ومائتين وألف اشترى دار بني الطيبي بحلب الكائنة بمحلة الفرافرة وجعلها زاوية
للأذكار والتوحيد بعد أن وقفها ، وكان يقيم الذكر بها في الأسبوع مرة ، ويقري
ويفيد ويدرس ويختلي كل عام أربعين يوما.
ومن جملة من
أخذ عنه واستجازه خليل أفندي المرادي سنة ألف ومائتين وخمس وانتفع به وبعلومه.
وكان حسن
المحاضرة قوي الحافظة نبوي الأخلاق لطيف المذاكرة. ا ه. (حلية البشر).
وترجمه العلامة
ابن عابدين في ثبته المسمى «عقود اللآلي في الأسانيد العوالي» (مطبوع في الشام)
الذي جمع فيه إجازات شيخه السيد شاكر العقاد فقال :
ومنهم (أي من
مشايخ السيد شاكر) الشيخ الإمام العالم العلامة الدراكة الفهامة والفقيه النحوي
الفاضل المعمر السيد منصور بن مصطفى السرميني الحسيني الحلبي الخلوتي النقشبندي
القادري الحنفي. ولد سنة ١١٣٤ (في الحلية ١١٣٦ ولعل السهو من النساخ) ، وقرأ في
مصر وانتفع بها وأخذ عن أكابر منهم الشيخ أحمد الحلوي والعارف محمد الحنفي ، وأخذ
عن الشيخ محمد حياة السندي نزيل المدينة المنورة وعنه أخذ الطريقة النقشبندية ،
وأخذ طريق القادرية عن الشيخ أبي بكر بن أحمد الهلالي الحلبي ، وطريق السادة
الخلوتية عن سيدي مصطفى البكري وهو أحد خلفائه. هذا وقد قرأ عليه سيدي (أي الشيخ
شاكر) حصة من الأشموني والنصف الأول من الخزرجية وحصة من الشفاء ومن شرح الأربعين
لابن حجر ، وأخذ عنه الطريقة الخلوتية وأجازه إجازة عامة وكتبها له بخطه. (ثم قال
بعد ذكر صورتها) :
وكانت وفاته في
حلب سنة سبع ومائتين وألف ودفن في مدرسته التي بناها. ا ه.
أقول : قد
اطلعت على كتاب وقفه للدار التي تقدم ذكرها وهو محرر في الحادي والعشرين من ذي
القعدة سنة ١٢٠٣ ، ومما جاء فيه أن الشيخ منصور وقف جميع الدار
__________________
المعروفة الآن بدار الطيبي وفي الأصل بدار قنبر الكائنة بمحلة الفرافرة ،
وأن البيت الغربي الكبير والمربع الذي يعلوه قد أفرزهما ووقفهما مسجدا لله تعالى
وأذن للناس بالصلاة فيهما منذ سنة فصلوا فيهما بالجماعة. وأما القاعة في صدر
الإيوان ونفس الإيوان فجعلتهما مدرسة يقرأ فيهما المدرسان اللذان سأعينهما مع
الطلبة والتلامذة علم القرآن وسائر أنواع العلوم الشرعية ، على أن يكون مدرس علم
القرآن غير مدرس سائر أنواع العلوم ، وأن يقيم فيها من استخلفه من الطريقة
القادرية الذكر والتوحيد على سنن سادات هذه الطريقة العلية في كل يوم خميس بعد
العصر وأيام الخلوة الأربعينية المعروفة في هذه البلدة وغيرها. وجعلت القبة
الغربية التي في الإيوان محلا لحفظ الكتب التي سأوقفها على مدرس هذه المدرسة
وطلبته . وجعلت بقية المساكن المذكورة والمغارتين والمربع
والمطبخ والكيلاران والحوشين وقفا لمصالح المسجد والمدرسة المذكورين لينتفع بذلك
المصلون والمدرسان والطلبة وأخوان الطريقة المذكورة من غير أجر ، على أن يكون
تعيين المدرسين ونصبهما منوطا بي ، ومن بعدي فعلى ما سأعينه في كتاب وقف العقار
الذي سأجعله لمصالح المسجد والمدرسة ومعاليم الإمام والمؤذن والمدرس وغير ذلك. ثم
ذكر وقفه للدار الداخلية على زوجته ما دامت عزبا ، ومن بعدها فعلى من يكون خليفة
بعده في المدرسة على فقراء السادة القادرية ، وإذا انقطع ذلك فعلى من يكون مدرسا.
وإذا لم يكن مدرس للمدرسة المذكورة فعلى من يكون مجاورا بالمدرسة لأجل العلم
والطريق. وشرط التولية لابن أخته السيد محمد ثم على أولاده وذريته ، وإذا انقرضوا
فعلى أولاد أخيه السيد مصطفى والسيد أحمد ومن بعدهما الأصلح والأورع من أولادهما ،
فإذا انقرضوا فعلى من يكون مفتيا بهذه البلدة على مذهب السادة الحنفية ، وإذا لم
يكن لها مفت فعلى أتقى وأغنى رجل في المحلة. ا ه.
أقول : منذ
خمسين سنة اتخذت دائرة المعارف الطابق العلوي من هذه المدرسة مكتبا
__________________
ابتدائيا وأهمل أمر التدريس فيها ، وكان المتولون عليها يعطون أجرة التدريس
ولا تدريس فيها ، ولا أدري إن كانت هذه الوظيفة قطعت الآن أو لا.
١١٥٦ ـ الشيخ علي ابن الشيخ عبد الجواد الكيالي المتوفى سنة ١٢٠٧
قال أبو الوفا
الرفاعي في إحدى مجموعاته ومن خطه نقلت :
منهم (أي من
أولاد السيد عبد الجواد) السيد الشيخ علي الملقب بأمر الله. كان حسن التودد مقبلا
على الناس محترما مبجلا يميل إلى الفكاهة والظرافة والاجتماع بإخوان الصفا والندما
الظرفا وتنزيه النفس والمطارحة مع الأتراب والخلوة معهم في البساتين والخروج إلى
المشهد. وكان رحمهالله كسابا وهابا يحب صرف النعم في مستلذاته ، طارحا للتكلف.
سافر إلى دار
السلطنة العلية وحصل له قبول من أرباب الحل والعقد إلى أن أوصلوه إلى الأندرون ، وأقام الذكر هناك وأسقى الخمرة الرفاعية لبعضهم. وحصل
له عطية سنية سلطانية.
وعاد إلى حلب
وعمر الزاوية الكيالية التي هي مدفن والده المرحوم عبد الجواد وأقام الذكر هناك
على طريق الرفاعية وضرب المزاهر والطبول ، وأنفق مالا جزيلا. ثم سمت نفسه الكريمة
إلى الظهور بمعارضة الأشراف ومعارضة الينكجارية ومن ظاهرهم من الوجوه ، فلم يتم له
المرام على ما أراد وخرج إلى إدلب.
ثم إن الغوغاء
شرعوا في تعدي الحدود واستطالوا على الوجوه ، ففارقهم بعض الوجوه وطاروا في
الأطراف. ثم أظهر الغوغاء التوبة وأعادوا الوجوه وسادات البلدة بالتوقع والتنصل.
ثم بعد مدة عاد
السيد علي صاحب الترجمة إلى البلدة ، ولم تطل مدته إلى أن توفي مطعونا سنة سبع
ومائتين وألف رحمهالله تعالى.
وكان له أخ
أصغر منه سنا اسمه إسحق ، وكان لا يفارقه سفرا وحضرا ويعكف معه على التنزه وإمضاء
أوقات الصفا ، فحزن عليه حزنا عظيما وانتقل بعد موته إلى دار السيد محمد الكيالي
قريبهم. ا ه.
__________________
١١٥٧ ـ الشيخ محمد بن فتيان المتوفى سنة ١٢١٠
الشيخ محمد بن
عبد اللطيف بن فتيان بن محمد بن فتيان بن عثمان ، الحلبي الشافعي العقيلي الخلوتي
، العالم الفقيه الفاضل ، والألمعي اللوذعي الكامل ، والعالم الهمام ، والجهبذ
الإمام.
ولد سنة سبع
وأربعين وماية وألف ، وقرأ القرآن وحفظه على شيخ القراء الشمس محمد بن مصطفى
البصيري الحلبي وعلى والده عبد اللطيف المقري والشهاب أحمد البصراوي وغيرهم ،
وتفقه على أبي محمد عبد الهادي المصري وعلى الشيخ أبي عبد الوهاب ابن أحمد المصري
، وقرأ عليه التحرير والشربيني ، وقرأ المنهاج والمنهج وغيره من كتب المذهب على
أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري. ولما قدم حلب أبو عبد الله محمد ابن
محمد الطيب الفاسي المغربي وعقد مجلس الإقراء والتحديث سمع منه الصحيح للإمام
البخاري وأجاز له أيضا. وقرأ على أبي عبد الرحمن محمد بن أحمد المكتبي وأخذ عنه
بعض الطرائق ، وقرأ الفرائض على أبي الفضل عثمان بن عبد الرحمن العقيلي الحلبي
وأجاز له غالب شيوخه بالإجازة العامة.
وأخذ الطريقة
الخلوتية عن الشيخ محمد بن الشيخ مصطفى البكري ، والرفاعية عن قريبه الشهاب أحمد
بن محلول الزنار ، والطريقة العقيلية عن أقاربه عن أسلافهم.
وتفوق وفضل
وتفقه ونبل ، ودرس في جامع التوبة خارج باب النيرب ، وأقام الذكر والتوحيد في مقام
ولي الله تعالى الشيخ جاكير ، وكان بحلب من المشايخ المعروفين بالفضل والصلاح.
وكان من جملة
من أخذ عن المترجم وانتفع به وبعلومه مفتي دمشق الشام محمد خليل أفندي المرادي
وأجازه بما تجوز له روايته عن مشايخه ، وذلك سنة خمس ومايتين وألف حين كان في حلب.
ا ه. (حلية البشر).
أقول : وكانت
وفاته سابع رجب سنة ألف ومايتين وعشر كما هو مسطور على لوح قبره في تربة الشعلة ،
وفي التربة المذكورة قبر جده الأعلى الشيخ فتيان العلمي القادري المتوفى سنة ١٠٦١
وهو داخل قبة.
وبجانب قبر
الشيخ محمد المترجم قبر ولده الشيخ محمد ، وقد كانت وفاته سنة ١٢٦٣ ، جلس على
السجادة بعد وفاة والده إلى أن توفي بالتاريخ المذكور.
وكان فاضلا
صالحا متقللا من الدنيا ، ملازما العبادة وتلاوة الأوراد وإقامة الذكر ، معتقدا
خصوصا عند سكان تلك المحلات.
١١٥٨ ـ الشيخ صالح الداديخي المتوفى في حدود سنة ١٢١٠
الشيخ صالح بن
حسين بن أحمد بن أبي بكر الحلبي الحنفي الشهير بالداديخي كوالده ، الفقيه الأصولي
الكاتب البارع المتفوق الدّين التقي الزاهد.
مولده في إحدى
الجماديين سنة ١١٣٨. وقرأ على جماعة وأخذ عنهم وأكثر من الفقه أخذا وقراءة ، ومن
جملة من أخذ عنهم والده المومى إليه وأبو الثناء محمود بن شعبان الباذستاني وأبو
الحسين علي بن إبراهيم العطار وأبو محمد عبد القادر بن بشير بن عبد الحق البشيري
وياسين الفرضي وأبو جعفر منصور بن علي الصواف وعبد الوهاب بن أحمد المصري الأزهري
وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وأبو السعادات طه بن مهنا الجبريني وعبد
الوهاب بن قورد العرّاس وأبو محمد عبد الرحمن بن مصطفى البكفالوني وأبو عبد الله
محمد بن محمد الطاهر التافلاني المغربي وأبو عبد الفتاح محمد بن الحسين الزمار
وآخرون. وسمع عليهم الكثير من الأحاديث الشريفة والكتب في غالب الفنون ، واعتنى
بملازمتهم وحضور مجالسهم ، وأجازه الأكثر منهم بخطوطهم.
وناب بالقضاء
في حلب وفي أريحا وإدلب وغيرها ، وحفظ المسائل والفروع الفقهية واعتنى أشد اعتناء
بها. وكان شديد الحفظ لها قوي الاستحضار ، وكانت الناس تراجعه في المسائل.
وكان يلازم
قراءة الأوراد والأذكار ، كثير العبادة ، لطيف العشرة.
وكان والده من
مشاهير علماء حلب أصحاب الرفعة والشأن ، ولما صاهر المولى الرئيس صالح بن إبراهيم
بن عبد الله الداديخي أحد أعيان حلب وتزوج بابنته أم العز خاتون وانتمى إليه وسكن
عنده غلبت عليه نسبته وصار لا يعلم إلا بها بين الناس ، وتارة كان يكتب في
تحريراته الداديخي وتارة الصالحي نسبة إلى مخدومه المذكور ، وجاء من ابنته أبو
الحسين
صالح صاحب الترجمة ، فنسبته حينئذ صحيحة من جهة والدته دون والده وأقاربه
المشهورين بهذه النسبة.
واجتمع به في
آخر أمره العالم الدمشقي خليل أفندي المرادي في حلب حين زارها سنة ألف ومائتين
وخمس وأخذ عنه واستجازه وطلب دعاءه ، وكان يتردد عليه كثيرا ويتذاكر معه المسائل
النادرة الفقهية كما رأيت ذلك بخطه.
وتوفي سنة ألف
ومائتين ودون العشر غالبا رحمهالله تعالى. ا ه. (حلية البشر).
١١٥٩ ـ الشيخ عبد الوهاب السعدي المتوفى في حدود ١٢١٠
الشيخ عبد
الوهاب بن أحمد بن يوسف الحلبي الشافعي السعدي ، أحد المشايخ السعدية بحلب.
مولده بها بعد
الخمسين ومائة وألف. وقدم دمشق الشام سنة ثمان وسبعين وماية وألف وأخذ الطريقة
السعدية عن الشيخ الكامل ، والعمدة الفاضل ، أبي عبد الله محمد سعد الدين بن مصطفى
ابن البرهان إبراهيم السعدي الجباوي الدمشقي الميداني ، وكتب له الإجازة على
عادتهم ، وخلفه وأمره بالإرشاد والتسليك ، وكتب له العلماء خطوطهم على الإجازة.
وكان صالحا
عابدا زاهدا تقيا مرشدا نقيا مشتغلا بالخلوات والرياضات والتسليك للمريدين.
وفي سنة ألف
ومايتين وخمس اجتمع به في حلب حضرة العالم خليل أفندي المرادي وتبرك به وشهد كل
بكمال الآخر.
ومات بعد ذلك
في حلب ببضع سنين ولم أقف على تعيين تاريخ وفاته. ا ه. (حلية البشر).
١١٦٠ ـ الشيخ علي الدير كوشي المتوفى في حدود ١٢١٠
الشيخ علي بن
محمد بن أحمد بن علي الدير كوشي الشافعي ، العالم الإمام الفاضل ، والفقيه الفرضي
التقي الصالح الكامل.
ولد بدير كوش :
بلدة من أعمال حلب سنة ست وثلاثين وماية وألف ، وقرأ على والده وعلى الشهاب أحمد
بن محمد بن الحسن الدير كوشي المفتي ، وتفقه وأحسن الأخذ ، وأفتى بدير كوش وراجعه
أهاليها بأمورهم.
وكان صالحا
أديبا ديّنا ، قليل المعاش ، قانعا بما يحصل له من زراعته ، راضيا بالكفاف والراحة
، له تعشق بالعلم والعمل والمطالعة والإفادة والاستفادة.
وكان ممن أخذ
عنه العالم الفاضل محمد خليل أفندي المرادي سنة خمس ومايتين وألف كما نقلت ذلك من
خطه.
ولم يزل على
ترقيه إلى أن توفي سنة مائتين ونيف ودفن في محلته رحمهالله تعالى. ا ه. (حلية البشر).
١١٦١ ـ عبد اللطيف بن مصطفى بن حجازي المتوفى حول ١٢١٠
الشيخ عبد
اللطيف بن مصطفى بن حجازي بن محمد بن عمر ، الحلبي الحنفي ، أبو محمد زين الدين ،
الفقيه الصالح.
مولده سنة إحدى
وثلاثين وماية وألف ، وقرأ القرآن العظيم وتلاه مجوّدا ، واشتغل بالأخذ والقراءة
والسماع والحضور على الأجلاء والسادة الفضلاء ، منهم أبو عبد الفتاح محمد بن
الحسين الزمار والبدر حسن بن شعبان السرميني وأبو الثناء محمود بن شعبان
الباذستاني وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وأبو الصفا خليل بن مصطفى العنجراني
وغيرهم.
وارتحل إلى
قسطنطينية في أوائل سنة ستين ومائة وألف وقرأ بها نخبة الفكر في أصول الحديث على
المحدث الشهاب أحمد بن علي الغزي الشافعي نزيل القسطنطينية ، وسمع منه الكثير
ولازمه ، وحضر بقراءة الغير صحيح البخاري والبعض من صحيح مسلم في جامع أيا صوفيا
الكبير وأجاز له بخطه في السنة المذكورة بما تجوز له روايته. وقرأ الفقه وسمع
بقسطنطينية على الشهاب أحمد السليماني المصري وأجاز له بخطه في عاشر شعبان سنة
إحدى وستين ، وسمع الأولية من المذكورين ومن أبي عبد الله محمد بن أحمد الأريحاوي
شارح الكنز والشمس محمد بن حسن بن همات الدمشقي وآخرين.
وأخذ عنه خليل
أفندي المرادي سنة ألف ومايتين وخمس ، وسمع منه حديث الأولية بسماعه من أشياخه
وأجازه بالإجازة العامة كما رأيت ذلك بخطه.
وتوفي المترجم
سنة ألف ومائتين ونيف. ا ه. (حلية البشر).
١١٦٢ ـ الشيخ محمود بن علي فنصه المتوفى في حدود سنة ١٢١٠
الشيخ محمود بن
علي بن منصور بن محمد بن عبود ، الحلبي الشافعي الشهير بابن فنصه ، وهو اسم أم
جدهم الشيخ نور الدين. كان المترجم عالما فقيها مقرئا مجيدا من مشاهير القراء
والحفاظ في حلب.
ولد بها سنة
خمس وأربعين ومائتين وألف ، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على أبي محمد عبد الرحمن بن
إبراهيم المصري نزيل حلب والشيخ فتيان وعلى والده ، وتفقه بالأول.
وقرأ العربية
والفقه أيضا وبعض الفنون على أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري وأبي علي
حسين بن محمد الديري الحلبي ، وسمع على أبي اليمن محمد بن طه العقاد وأبي السعادات
طه بن مهنا الجبريني ، وسمع على الأول صحيح البخاري إلى كتاب الحج ، وأجازه شيخه
أبو محمد عبد الرحمن المصري وغيره. وأتقن وبرع وجود وأحسن التلاوة والحفظ ، وأثرى
ونال حظا من الدنيا.
ولم يزل في
ارتقاء وعلو وتقدم وسمو إلى أن اخترمته المنية في حدود عشر ومائتين وألف رحمهالله تعالى. ا ه. (حلية البشر).
١١٦٣ ـ الشيخ خليل بن خلاص المتوفى سنة ١٢١٢
الشيخ خليل بن
عبد الكريم بن خلاص ، الحلبي الشافعي الأشعري ، الإمام أبو الصفا غرس الدين ،
العالم الفقيه الورع المقري العلامة الفاضل.
مولده في حدود
الأربعين بعد الماية والألف ، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على المقري أبي الحسن علي
البانقوسي.
__________________
وقرأ العربية
على غرس الدين خليل الفتال. وقرأ على غيره بعض الفنون كأبي الحسن علي بن إبراهيم
العطار وأبي محمد عبد الوهاب بن أحمد المصري الأزهري ونور الدين علي ابن يحيى
الألتونجي والشهاب أحمد بن أحمد المصري نزيل حلب.
وتفقه بأبي
محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري الشافعي ولازمه مدة خمس وعشرين سنة.
وقرأ وبرع وفاق
وانتفع به الكثير (وثقل سمعه في حدود التسعين ومائة وألف بحيث لا يسمع إلا بمشقة
عظيمة) . وكان كثير التلاوة ، دائبا على التقوى والعبادة آناء
الليل وأطراف النهار. وشهد بفضله خليل أفندي المرادي حين اجتماعه به سنة خمس بعد
المائتين والألف وكل قد أخذ عن الآخر.
وتوفي المترجم
عام ألف ومائتين واثني عشر رحمهالله تعالى. ا ه. (حلية البشر).
١١٦٤ ـ الشيخ مصطفى بن حسين الوفائي المتوفى سنة ١٢١٣
الشيخ مصطفى بن
حسين بن علي بن محمد بن حسين بن محمد بن عثمان ، الحلبي الحنفي الوفائي ، أبو
الصفا صفي الدين ، العالم العارف الصوفي الفاضل الديّن الزاهد العابد التقي البركة
المسند الأديب جمال المشايخ زينة المرشدين.
مولده في حلب
سنة أربعين وماية وألف في سادس محرم. وقرأ على والده شيخ تكية الشيخ أبي بكر خارج
حلب ، وعلى الشيخ أبي التوفيق حسين شرف الدين وانتفع به وتأدب بآدابه وأخذ عنه
وسمع شعره وديوانه الذي جمعه من لفظه ، وأخذ عنه آداب الطريق وسمع عنه الكثير من
الفرائد والفنون ، وأجازه وخلفه مكانه.
وكان من
المشايخ الأجلاء والعلماء المشهورين الفضلاء. وقرأ على غير والده ، وأخذ على جماعة
منهم أبو المحاسن يوسف بن الحسين بن يوسف الدمشقي الحسيني النقيب والمفتي بحلب
وأسمعه المسلسل بالأولية حديث الرحمة في التكية المذكورة في تربة الأستاذ الشيخ
أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وهو أول حديث سمعه منه بشرطه ، وقرأ عليه أوائل ثبته
__________________
وأجاز له بالإجازة العامة وكتب له بخطه ، وسمع عليه كتابه الذي ألفه بمناقب
الشيخ وترجمته المسمى «مورد أهل الصفا في ترجمة الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا».
وسمع الأولية
من أبي محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وأبي محمد عبد الوهاب بن أحمد المصري
الأزهري البشاري نزيل حلب ، وأبي عبد الله علاء الدين محمد بن محمد الطيب المغربي
الفاسي المالكي لما قدم حلب ، وأبي الفتوح نور الدين علي بن مصطفى بن علي الدباغ
الميقاتي الحلبي ، وهو أول حديث سمعه منهم وأجازوه به وبجميع ما تجوز لهم روايته
غير مرة.
وأخذ الطريقة
الشاذلية عن الشيخ عبد الوهاب ، والطريقة الوفائية عن والده ، وبقية الطرائق عن
شيوخه بأسانيده ، وجل انتفاعه على والده وبه تخرج.
ولما مات والده
سنة ست وخمسين وماية وألف جلس مكانه في التكية شيخا وقام مقامه ولازمه المريدون
وأبناء الطريق وأقبل عليه الناس ، واستقام في التكية المذكورة شيخا مبجلا محترما.
وكان كثير
الديانة وافر الحرمة يلازم قراءة الأوراد السحرية والعشائية وينفق ما يدخل عليه ،
وكان يميل في ملبسه ومأكله إلى الترفه. وحج ودخل دمشق.
ولما دخل خليل
أفندي المرادي إلى حلب سنة خمس ومائتين وألف اجتمع به وأخذ عنه واستجازه وسمع من
لفظه حديث الرحمة والمسلسل بالأولية ، وهو أول حديث سمعه منه في المجلس الذي اجتمع
به كما رأيت ذلك بخطه. وتوفي رحمهالله بعد ذلك بمدة قليلة. ا ه. (حلية البشر).
أقول : كانت
وفاته سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة كما رأيته مثبتا في طرف كتاب مورد أهل الصفا ،
ودفن في التكية المذكورة ولم يعقب ذكورا بل إناثا ، حتى إنه اشتهر بالشيخ مصطفى
أبي البنات. وبقيت السجادة بعد وفاته شاغرة عشر سنين إلى أن تولاها الشيخ مصطفى
دده أخو الشيخ عبد الغني دده من مشايخ التكية المولوية وذلك سنة ١٢٢٣ ، وبقي على
السجادة إلى أن توفي سنة ١٢٨٤ فخلفه على السجادة الشيخ مصطفى دده وبقي إلى سنة
١٣١٠ ، وبوفاته تولى السجادة أخوه من أبيه الشيخ مصطفى مظفر دده وبقي إلى سنة
١٣٢٢.
١١٦٥ ـ الشيخ عمر داده بن بيرام المتوفى سنة ١٢١٥
الشيخ عمر داده
بن بيرام ، من مشايخ التكية المعروفة ببابا بيرم.
كان رحمهالله شيخا في التكية المذكورة ، وكان زاهدا سخي الطبع كلما
أتاه فقير من المريدين ينزع ثوبه عنه ويكسوه لذلك الفقير ، وكان أهله يكثرون له من
الخياطة لأجل ذلك.
وكانت وفاته
سنة ١٢١٥ ودفن في مزرعة التكية ، وخلفه على سجادة التكية ولده حسن دده ، وتوفي هذا
مطعونا سنة ١٢٤٢. وكان مذ عقل على نفسه لا يأكل من طعام التكية ويقول : هذا حق
الفقراء لا حقي. ومات عن ولدين أحدهما الشيخ عبد الحميد دده الذي صار شيخ التكية
البيرامية المتوفى سنة ١٣٠٤ ، وستأتي ترجمته في موضعها إن شاء الله تعالى.
١١٦٦ ـ الشيخ ناصر بن عيسى الإدلبي المتوفى في حدود ١٢١٥
الشيخ ناصر بن
عيسى بن ناصر الدين الإدلبي الشافعي ، العالم الفقيه ، والكامل الفاضل النبيه.
ولد في إدلب
الصغرى سنة اثنتين وأربعين وماية وألف ، وقرأ بها على أبي الثناء محمود ابن حماد
ومصطفى بن سمية وأبي عبد الرحمن بن علي الجوهري المفتي ، وحضر دورس أبي مدين شعيب
بن إسماعيل الكيالي وأخيه الزين عمر الكيالي.
ودخل حلب
واستوطنها وقرأ بها على أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري ومصطفى بن عبد
القادر الملقي وغيرهم.
ودرس بجامع
بانقوسا وجامع الحدادين وجامع المشاطية ولزمه جماعة وأتقنوا عليه ، ولازم القراءة
والتدريس مع التقوى إلى أن انفرد في مصره وفاق فضله لدى أهل عصره.
وفي سنة ألف
ومائتين وخمس اجتمع به في حلب خليل أفندي المرادي مفتي دمشق وشهد بفضله وإتقانه في
العلوم والفنون. ولم أقف على تاريخ وفاته. ا ه. (حلية البشر).
١١٦٧ ـ عبد الله بن مصطفى الجابري المتوفى بعد سنة ١٢١٦
الشيخ عبد الله
بن مصطفى بن أحمد بن موسى ، الحلبي الحنفي الشهير كوالده بالجابري ، نسبة إلى
القاضي جابر بن أحمد الحلبي والد أم جده أحمد ، الفاضل الأديب الفقيه الكاتب
البارع المنشىء.
مولده في ربيع
الأول سنة تسع وستين وماية وألف ، وقرأ القرآن العظيم واشتغل بالتحصيل والأخذ ،
فقرأ على أبي الهدى صالح بن سلطان ، وأبي محمد مصطفى بن أبي بكر الكوراني وأبي
المواهب إسماعيل بن محمد بن صالح المواهبي وسمع الكثير عليهم وعلى غيرهم ، وأجاز
له جماعة كأبي جعفر منصور بن مصطفى بن منصور السرميني وأبي البركات عبد القادر بن
عبد اللطيف البيساري الطرابلسي وغيرهم.
وكان يكتب
أنواع الخطوط مع الإتقان ، وكان الأفاضل تشهد بنبله ونجابته.
وفي سنة أربع
وثمانين وماية وألف دخل دمشق مع والده وعمه ونزل في دار بني المرادي ، وكانوا
يشهدون له بالنبل والفضل.
وفي سنة أربع
وتسعين دخل دمشق المرة الثانية قاصدا الحج ، ونزل أيضا في دار بني المرادي عند
خليل أفندي صاحب التاريخ ، وكان أيضا مع والده.
وكان يعرف
اللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية. وكان علماء الروم يحررون ما يكتبه من
الترسل التركي ويقيدونه عندهم ويشهدون بتفوقه ونبله. وكان مع والده يشتغل بتحرير
الوثايق الشرعية والصكوك لدى قاضي قضاة حلب ، وكان والده رئيس العدول والكتاب بالمحكمة
الكبرى.
ولما صار والده
نقيب الأشراف بحلب والمفتي العام بها صار ولده المترجم مكان رئيس الكتاب ، وشهد
الناس بأدبه وعقله واحترمته الصدور والأعيان.
وكان ينظم
القليل من الشعر ، ومن كلامه مشطرا بيتي الجواليقي :
ورد الورى
سلسال جودك فارتووا
|
|
بزلال فيض
فضائل ومراحم
|
فقصدت مقصدهم
وجئتك راجيا
|
|
ووقفت خلف
الورد وقفة حائم
|
حيران أطلب
غفلة من وارد
|
|
ولهان أرجو
نجدة من راحم
|
فأقمت منتظرا
ببابك واقفا
|
|
والورد لا
يزداد غير تزاحم
|
وشطرهما الأديب
أبو بكر بن مصطفى الكوراني الحلبي فقال :
ورد الورى سلسال
جودك فارتووا
|
|
وكأنهم ظفروا
بمنهل حاتم
|
فقصدته
متتبعا ورّاده
|
|
ووقفت خلف
الورد وقفة حائم
|
حيران أطلب
غفلة من وارد
|
|
كي أرتوي
وأنال عطفة راحم
|
فبقيت ظمآنا
أكابد لوعة
|
|
والورد لا
يزداد غير تزاحم
|
وقد خمس تشطير
الجابري الفاضل عبد الله بن عطاء الله الكتبي الحلبي :
يا ذا الذي
عنه الأكارم قد رووا
|
|
وعلى نداه
ورحب كفيه لووا
|
وبك الملاكعب
الأيادي قد طووا
|
|
ورد الورى
سلسال جودك فارتووا
|
من
فيضكم بمكارم ومراحم
|
أموا من
الأنواء صوبا هاميا
|
|
يحيي مرابع
للكرام خواليا
|
واخضل عود الدهر
طلعا باهيا
|
|
فقصدت مقصدهم
وجئتك راجيا
|
ووقفت
خلف الورد وقفة حائم
|
أتراك يا حظي
الخوؤن مساعدي
|
|
أرد الظلال
بمعصمي وبساعدي
|
حتى م أبقى
في عنا وتباعد
|
|
حيران أطلب
غفلة من وارد
|
ولهان
أرجو نجدة من راحم
|
لا بدع أن
جانبت ظلا وارفا
|
|
أو كنت من حر
الأوام مشارفا
|
وافيت إثر
الناس بيتك طائفا
|
|
وأقمت منتظرا
ببابك واقفا
|
والورد
لا يزداد غير تزاحم
|
مات المترجم
سنة ألف وماتين ونيف. ا ه. (حلية البشر).
أقول : وقد
تقلد منصب الإفتاء في حلب سنة ١٢٠١ وذلك على إثر وفاة محمد أفندي ابن أحمد أفندي
طه زاده المعروف بجلبي أفندي ، وقد قدمت ذلك في حوادث هذه السنة.
وترجمه الشيخ
عبد الله العطائي في رسالته «الهمة القدسية» الآتي ذكرها في ترجمته
وأورد له ثمة تضمينه مقتبسا لقوله تعالى : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ).
ومن نظمه كما
وجدته في مجموعة قوله :
قالوا صبرت
وقد أوذيت قلت لهم
|
|
ردّ الأمور
إلى الرحمن إصلاح
|
إني تبرأت من
حولي ومن حيلي
|
|
ففي التوكل
إمداد وإنجاح
|
وقد شطرهما
المولى المشار إليه بقوله :
قالوا صبرت
وقد أوذيت قلت لهم
|
|
الصبر خير
إليه العقل يرتاح
|
فاسمع مقالي
تظفر واتبع أثري
|
|
رد الأمور
إلى الرحمن إصلاح
|
إني تبرأت من
حولي ومن حيلي
|
|
مفوضا أبدا
والربّ فتّاح
|
كل الأمور
إليه إن ترم فرجا
|
|
ففي التوكل
إمداد وإنجاح
|
وقد شطرهما
الفاضل النحرير السيد عبد القادر أفندي الحسبي :
قالوا صبرت
وقد أوذيت قلت لهم
|
|
الصبر عندي
لباب الخير مفتاح
|
في حالي
المرء إن حزنا وإن فرحا
|
|
رد الأمور
إلى الرحمن إصلاح
|
إني تبرأت من
حولي ومن حيلي
|
|
إن التبري
إلى الإرشاد مصباح
|
كل الأمور
إليه إن ترم فرجا
|
|
ففي التوكل
إمداد وإنجاح
|
وقد شطرهما
أيضا الفاضل السيد عبد الله العطائي :
قالوا صبرت
وقد أوذيت قلت لهم
|
|
هي المقادير
أفراح وأتراح
|
إلى المهيمن
نلجا في مصالحنا
|
|
رد الأمور
إلى الرحمن إصلاح
|
إني تبرأت من
حولي ومن حيلي
|
|
إن احتيال
الفتى لا شك فضاح
|
وما لنا مخلص
إلا توكلنا
|
|
ففي التوكل
إمداد وإنجاح
|
ومما امتدح به
شعراء حلب المولى الهمام مفتي الأنام السيد الحاج عبد الله أفندي الجابري حين توطن
الدار العامرة الكائنة تجاه مرقد الشيخ النسيمي سنة ١٢١٦ :
قال السيد عبد
القادر الحسبي :
__________________
ما شاء مولى
البرايا
|
|
قد كان حقا
تبارك
|
لا
زلت أنت وكل الذي توطّن دارك
|
في ظل عيش
هنيّ
|
|
كذاك من كان
جارك
|
وإنما الفأل
أرّخ
|
|
فذا المكان
المبارك
|
١٢١٦
وقال الشيخ عمر
الخفاف :
طولي افتخارا
على كل الديار ففي
|
|
مغناك يا دار
شهم حل مفضال
|
مفتي الأنام
ومصباح الهداية في
|
|
ليل الشكوك
إذا ما لاح إشكال
|
دامت شموس
الفتاوي فيه مشرقة
|
|
ودام صدرا
لنا يغشاه إجلال
|
هذي الديار
ديار العلم لا برحت
|
|
معمورة
بالتقى والفضل تختال
|
فاسلم ودم
راقيا أعلى ذرى شرف
|
|
وظلت يا دار
مغناهم وإن طالوا
|
وقال الفاضل
الأديب والشاعر اللبيب السيد عبد الله أفندي العطائي :
يا حبذا هذا
الحمى والمعهد
|
|
أبدى محاسنه
الهمام الأوحد
|
يا دوحة
المجد الأثيل ترنحي
|
|
شرفا وأرف أيهذا المحتد
|
وانفح عبيرا
يا ربيع ربوعه
|
|
وابسم سرورا
يا سناه الفرقد
|
بحر المعارف
والعوارف والتقى
|
|
كنز الفضائل
كم له سحّت يد
|
بدر العلا كهف
الملا ذو الهمة الشهباء زبرج عقدهم والعسجد
من طوقت
ألفاظه أجيادهم
|
|
وهي الشنوف
على المسامع تعقد
|
وبوارق
اللمحات من لألائه
|
|
تشفي الفؤاد
وللنواظر إثمد
|
فارتع بروض
كماله في حضرة
|
|
علمية هي
سعدنا والسيد
|
يا آل بيت لم
يزالوا جابري
|
|
من أمهم لكم
البشائر تنشد
|
والحق يعمر
داركم بجنابكم
|
|
ويطيب منهلكم
ويصفو المورد
|
أحسن بها
مثوى السعادة والمنى
|
|
حيث النسيمي
والمقام الأوحد
|
وحدائق الحصن
النضير تفتحت
|
|
فكأنها
للناظرين زمرد
|
__________________
فابقوا بها
في نعمة ومسرة
|
|
ما افترّ
بسام وأينع أملد
|
أو أنشد
الداعي بذاك مؤرخا
|
|
دار لها نيل
السعادة يشهد
|
١٢١٦
ومدحه العلامة
الشيخ عمر أفندي اليافي فقال :
روى المسك عن
ريّا العذار المنمم
|
|
وكأس الحميا
عن لمى ريقة الفم
|
غزال غزا
الأسد الضواري بهدبه
|
|
وحاجبه
الموتور رشقا بأسهم
|
إذا مر في
خضر الملابس ينثني
|
|
من التيه
أزرى بالقضيب المنعم
|
ولو لم يكن
غصنا رطيبا لما شدت
|
|
عليه حشا
عشاقه بترنم
|
بدينار خد مذ
رأى البدر وجهه
|
|
تلاشى وأمسى
لا يباع بدرهم
|
علقت به طفلا
من القرب مترفا
|
|
وأمسيت من
فرط الصبابة أعجمي
|
فلي كبد
أدماه باللحظ مثلما
|
|
له جسد يدميه
محض توهم
|
وخصر نحيل رق
من غير علة
|
|
بمنطقة تحكي
السوار بمعصم
|
وبدر المحيا
حل عقرب صدغه
|
|
فسرت به رغما
لأنف المنجم
|
فلله ذاك
البدر لاح بليلة
|
|
يطوف بشمس
الراح فيها لأنجم
|
وكنا بنظم
الشرب في حان قربه
|
|
نجوم الثريا
مثل عقد منظم
|
ومذ غصنا
بالشرق كافور فجره
|
|
فأمسك منا ما
أسال من الدم
|
وقد أشرقت
شمس النهار كأنها
|
|
مشارق أنوار
الإمام المعظم
|
هو الفرد عبد
الله سيدنا الذي
|
|
رأينا لعلياه
الفضايل تنتمي
|
شهاب قفا رجم
الجهالة فانمحى
|
|
به كل ليل
بالغواية مظلم
|
هداية طلاب
وقاية طالب
|
|
دراية آداب
رواية مسلم
|
أمير اللوا
بالفتح حينما الفتاوي به حفت بجيش عرمرم
لذلك تلقى
الجهل يهتز عنده
|
|
كأن به حطت
رحال أم ملدم
|
إذا راع أهل
الفضل خطب فإنه
|
|
ملاذ به أهل
الفضايل تحتمي
|
__________________
وإن أمّه
العاني يرى برق ثغره
|
|
تتابع منه
الغيث عند التبسم
|
يقول له أهلا
وسهلا ومرحبا
|
|
قدمت على هذا
الحمى خير مقدم
|
وأدرك منه
همسة آصفية
|
|
تطوف بأكناف
السحاب المخيم
|
وكيف وماء
البشر يعلو جبينه
|
|
وراحته تندى
لكل مسلّم
|
يحب ويهوى
غيره أعين الظبا
|
|
وأخلاقه تهوى
وجوه التكرم
|
أقول لمن
ضاهاه في فخره اقتصر
|
|
ولو نلت
أسباب السماء بسلم
|
وكتب لي الصديق
الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي الجابري : إن أول من حفظت شهرته من الجابريين إلى
الآن هو مصطفى أفندي ، وقد كان وجيها مثريا ، وقف عقارات متعددة ريعها لذريته ،
وتاريخ كتاب وقفه في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة ١١٩٩ وكان ذلك في سن
شيخوخته.
واشتهر بعده
ولداه الكبيران هما عبد الله أفندي ، وقد وقف كلاهما عقارات ألحقاها بوقف ابنيهما في سنة
١٢٠١ ، وقد كانا في هذا التاريخ كهلين.
أما عبد الله
أفندي فقد كان ذا وجاهة وكلمة نافذة في هذه البلاد ، تولى إفتاء حلب ، وله شعر
رقيق ، فمنه قوله :
سأغمض أجفاني
على مضض القذى
|
|
وإن حسب
الجهال أني جاهل
|
إلى أن يتيح
الله للناس دولة
|
|
تكون سوى
الأرذال فيها الوسائل
|
ومنه قوله :
ولما صفا
وقتي مع الحب ساعة
|
|
حنانيك لو
شاهدتني وخضوعي
|
وأدركنا لا
كان صاح رقيبنا
|
|
رجعت بحال لا
رجعت رجوعي
|
ومنه قوله
مضمنا :
إذا كنت
مرتاحا إلى الراح دائما
|
|
ترى عيبه
حسنا وترضاه مشربا
|
فصبرا على
خير الخمار وضره
|
|
بما قلت أهلا
للكؤوس ومرحبا
|
__________________
وأما عبد
القادر أفندي فقد كان يلقب بحاجي أفندي ، وإنما دعي بذلك تعظيما له كما هي العادة
المرعية عند الأتراك إلى الآن إذا كان صاحب الاسم وجيها مشهورا ، وهو الذي يتصل به
نسب جميع الموجودين من الجابريين. وقد نبغ من أولاده أربعة هم محمد أسعد أفندي
وعبد الحميد أفندي ومراد أفندي وعارف أفندي.
١١٦٨ ـ الشيخ إسماعيل المواهبي المتوفى سنة ١٢١٨
الشيخ إسماعيل
أبو المواهب بن محمد بن صالح بن رجب بن يوسف ، الحلبي الحنفي الشهير بالمواهبي ،
العالم الفقيه الفاضل المحدث الواعظ الأديب الكامل ، حجة العلماء وكعبة الفضلاء ،
وبقية السلف ونخبة الخلف.
ولد ثالث عشر
ذي الحجة سنة ستين وماية وألف ، ونشأ بكنف والده وقرأ عليه العلوم وانتفع به
ولازمه وسمع منه الأحاديث الكثيرة وتأدب بآدابه وأجاز له غير مرة. وقرأ بقية
الفنون وأخذها ببحث وإتقان عن أبي محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي الحلبي
الشافعي وأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلسي الحنفي وغيرهم ، وانتفع بهم
ولازمهم وأخذ عنهم واستجازهم فأجازوه إجازة عامة. ولما قدم حلب المحدث الكبير
والعالم الشهير أبو عبد الله محمد بن محمد الطيب المغربي الفاسي المالكي نزيل
المدينة المنورة عقد مجلس حديث في الجامع الأموي بحلب ، وسمع منه المترجم ولازمه ،
وسمع منه أيضا حديث الرحمة المسلسل بالأولية مع والده وأجازه غير مرة ، وسمع
الحديث المذكور من أبي محمد عبد القادر بن خليل الكدك المدني لما قدم حلب وأجازه
برواياته بعد أن قرأ عليه أوائل الكتب وبعض المسانيد ، وسمع حديث الأولية أيضا من أبي
عبد الله الحسين بن علي بن عبد الله الشكور الطائفي المكي وأجازه بخطه ، وكذلك
الشهاب أحمد بن الحسن الخالدي الجوهري وأحمد بن عبد الفتاح اللدّي وغيرهم.
ومهر ونبل
وتفوق. وأخذ عن والده الطريقة القادرية ، وجلس بعد موته على سجادة المشيخة وأقام
الأذكار وأجاز في الإرشاد وانتفع به الحاضر والباد. وكان يختلي في الصالحية كل سنة
أربعين يوما ومعه جماعة كثيرون.
وكان كثير
الإفادة والوعظ والتدريس في الجامع الأموي بحلب مكان والده وجده على
الكرسي الموضوع تجاه مقام سيدنا زكريا ، وسمع منه الجم الغفير ، وحضره كثير
من الناس وأفاد ، واشتغل عليه الناس بالأخذ في داره ، وأخذ عنه الطريق كثير من
الناس من حلب وأطرافها وانتفعوا به. وعلا قدره عند الحكام والأعيان وأظهروا له
الانقياد والإذعان ، ونفذت كلمته وقبلت شفاعته ، وفاق فضله على أبيه وجده.
وكان لطيفا
مهابا لين العشرة حسن المذاكرة قوي الحافظة في الآثار والسنن وافر العبادة والتنفل
والذكر.
ومن جملة من
أخذ عنه محمد خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام ، وأجازه إجازة عامة في حلب سنة
ألف ومائتين وخمس.
وفي سنتها خرج
المترجم إلى الحجاز ورجع إلى بلده ، ولم يزل على ما كان عليه من الدأب على العلم
والعبادة والذكر والإرشاد إلى أن توفي خامس شهر رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين وألف
رحمهالله تعالى. ا ه. (حلية البشر).
١١٦٩ ـ الشيخ أحمد البابلّي المتوفى في حدود ١٢١٨
الشيخ أحمد بن
عبد الله بن منصور ، الحلبي البابلّي الشافعي الأشعري ، الفقيه الصوفي العالم العامل
، الورع الزاهد ، العابد الفاضل الكامل.
ولد سنة إحدى
وثلاثين وماية وألف ، ونشأ في طلب العلم ، وكان جيد القريحة سريع الفهم. أخذ
الفضائل عن جملة من الأفاضل ، منهم أبو محمد عبد القادر المخملجي ومحمد ابن حسين الزمار والبدر حسن السرميني والنور علي
الألطونجي وصالح بن رجب المواهبي وولده محمد وأبو الثناء محمود بن شعبان البزستاني
وقاسم بن محمد البكرجي وأبو اليمن محمد العقاد وعلي بن إبراهيم العطار وأبو
السعادات طه بن مهنا الجبريني وأبو الطيب المغربي المالكي وقاسم بن محمد النجار
وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي ومصطفى بن عبد القادر الملقي ولازمه إحدى
عشرة سنة وأنفع به ، وسمع على الجميع ، وحضر مجالس التحديث والاستماع ولازم دروسهم
ووعظهم وأذكارهم وأحسن معاملتهم وتباعد عن مخالفتهم إلى أن ألفته الطباع وانعقد
على فضله الإجماع.
__________________
وكان حسن
الأخلاق متحملا في أمور الناس من تلطيفهم وحسن معاشرتهم ما لا يطاق ، مرضي الأفعال
كثير التودد مع البشر والكمال. وقد انتقل إلى قريته بابلّى فيزورونه مع قيامه
بإكرامهم وتقديم ما يحتاجونه من واجب المعروف إليهم.
وما زال على
حاله مع ازدياده في كماله وجماله ، ينتفع الناس بعلومه ودعائه ويقصدونه لمشاورته
في الحوادث وأخذ آرائه إلى أن دعته المنية إلى الدار الأخروية ، فلبى وأجاب ،
متزودا لآخرته من كل ما لذ وطاب ، وذلك في سنة ألف ومائتين ودون العشرين. ا ه. (حلية
البشر).
١١٧٠ ـ محمد بن عمر بن شاهين الرفاعي المتوفى سنة ١٢١٩
محمد بن عمر بن
شاهين الحنفي الرفاعي العقيلي نسبا ، القادري الخلوتي الشاذلي الأحمدي الحافظ
المتقن القاري.
قرأ القرآن على
الشيخ يحيى وحفظه على والده المرحوم مع أخويه عبد القادر وعبد الله.
مولده سنة ست
وثلاثين وماية وألف ، ونشأ في حجر والده ، ولازم أخاه عبد القادر وتدرج عليه وأخذ
عنه الطريقة القادرية. وكان أخوه المذكور يقيم الذكر القادري في مسجد خير الله
المجاور لدور بني يحيى بك في حارة الأكراد ، فلما كان طاعون سنة خمس وخمسين وماية
وألف توفي أخوه المومى إليه عن تلامذة وإخوان ومريدين ، فأهرع إليه إخوان أخيه
وبايعوه وصار يقيم الذكر القادري في المسجد المذكور بإذن والده ، فانشرح صدره أن
يضرب النوبة الرفاعية طريقة جده سيدي أحمد الرفاعي لأن له نسبة لحضرة الاستاذ
المومى إليه من أم والده عمر أفندي على ما هو مذكور في ترجمته في تاريخ عبد الله آغا
الميري. وله نسبة أيضا للأستاذ سيدي عقيل المنبجي من والدته الست رقية بنت أحمد
آغا يحيى بك زاده العقيلي كما هو مذكور في أنسابهم ، فسمع بذلك قريبه السيد خير
الله الصيادي الرفاعي ، وكان إذ ذاك شيخ مشايخ الرفاعية بحلب ، فأرسل إلى الوالد
أن ائت البيوت من أبوابها وخذ الطريقة الرفاعية عني ونحن من شجرة واحدة ، فإذا
ضربت النوبة وأقمت التوحيد على أسلوب السادة القادرية فلا مانع ، فبسبب الصباوة
وعنفوانها ثقل ذلك على الوالد ولم يوافق ، وانفعل شيخ المشايخ منه ، وبقي الأمر
على حاله يدق النوبة الرفاعية من غير إذن.
ثم إن الشيخ
خير الله المذكور كان يوما في قرية (كفر حمرا) وكان له بها علاقة ، فأراد القيلولة
فقال ، فرأى في منامه حضرة الأستاذ ، قال الراوي : إما الرفاعي أو الصياد قدست
أسرارهم ، وقال له قم هذه الساعة وتوجه إلى حلب وأعط الخلافة في الطريقة الرفاعية
للسيد محمد ، فقام منزعجا وبادر إلى حلب ، وكان يوما حرورا ، فوصل من القرية إلى
حلب في حصة قليلة لأن المسافة قريبة بعيد الظهر ، وطرق الباب على الوالد وأخرجه
إلى الزاوية وأعطاه الخلافة وأهداه ثوبا من القماش القطني الشامي ، وتوجه في الحال
إلى القرية ولم يخبر الوالد بشيء مما صار ، فعجب الوالد من ذلك وتحقق أن هذا أمر
خفي. ثم بعد ذلك اجتمعا وأخبره بما جرى فأقام الوالد على خدمة الطريقتين القادرية
والرفاعية يقيم الذكر القادري يوم الأربعاء والذكر الرفاعي يوم الأحد مع الملازمة
على تلاوة القرآن مع الحفظة من الأخوان ، وكثر أخوانه ومريدوه. وزار الاستاذ أحمد
الصياد في جماعة كثيرة من المريدين وجرى له هناك في الحضرة من القبول وعلاماته
والإقبال وأماراته من السادة الأسلاف ما رفع بين المنكرين الخلاف.
ثم قدم هذه
البلدة العالم الجليل والأستاذ الكبير الشيخ عبد الوهاب المصري الأزهري الشافعي رحمهالله تعالى ، فأخذ عنه الطريقة الشاذلية خلافة بعد ملازمة
طويلة وانتفع به كثيرا ، وأخذ عنه طرقا عديدة ولازم دروسه تجاه الحضرة في أموي حلب
واختلى معه الخلوة الشاذلية ثلاثة أيام بإحياء لياليها كجاري العادة في الخلوة
الشاذلية ولازمه إلى آخر عمره. وبعد وفاته اتفق كبار إخوانه على أن يخلفه في قراءة
الأوراد الشاذلية في أموي حلب مع الإخوان وأن يكون شيخهم ، وبايعوه على ذلك ،
فانشرح صدره لذلك واستمر على تلاوة الأوراد المذكورة في المحل المومى إليه ،
وبايعه جماعة كثيرة في هذه الطريقة وزاد انتشارها وظهرت بركاتها عليه وعلى من
انتمى إليه.
ثم قدم حلب
شيخان من الغرب جليلان عريقان أحدهما من ذرية سيدي عبد السلام ابن مشيش ، والثاني
من ذرية سيدي أبي الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، ونزل في دار عبد
الله الميري رحمهالله تعالى ، فأنزلهما في داره في محل مخصوص اعتناء بشأنهما
وطلبا منه أن يولي خدمتهما لرجل مجرب الأطوار قليل الكلام مستور الحال ، فاتفق أن
عين لهما رجلا متصفا بهذه الأوصاف ، وكان من إخوان الوالد ، فسألا يوما عن الطرق
التي تقام شعائرها في البلدة ، فعدها لهم وذكر الطريقة الشاذلية من الجملة وأن شيخ
السجادة
الوالد ، فطلبا منه أن يجتمعا به ، فقدر الاجتماع وسألا الوالد عن أخذ هذه
الطريقة ، فأحضر سلاسله وأسناده ، فاطلعا على ذلك ودعوا له وقرظا على إجازته وشهدا
له بالأهلية ، وانسر بوجود هذه الطريقة ونشرها في هذه الأقطار.
تزوج رحمهالله تعالى ثلاث زوجات ، أولاهن الست صفية بنت المرحوم السيد
أحمد أفندي يحيى بيك زاده العقيلي الجنيدي وأولدها حامدا ورقية ، ثم تزوج بالوالدة
الست آسية بنت السيد محمد الزنابيلي الشريف ذي النسب المشهور وبقيت عنده إلى أن
توفيت بطاعون سنة ١٢٠١ ، ثم تزوج بنت السيد يسين الشراباتي وبقيت إلى سنة ١٢١٩ وماتت
في عصمته قبل وفاته بستة أشهر.
وكان رحمهالله ملازما على الأوراد الشاذلية نهار الثلاثاء في الأموي
بعد العصر وعلى إقامة الذكر مع الأخوان نهار الأحد في زاوية خير الله. ا ه. (من خط
ولده الشيخ أبي الوفا الرفاعي المتوفى سنة ١٢٦٤).
١١٧١ ـ الشيخ عمر الخفّاف المتوفى أوائل هذا القرن
قال السيد
الكواكبي في حقه : الفاضل الألمعي ، والكامل اللوذعي ، نخبة السادات والأشراف ،
أبو السعد عمر بن عبد الله الخفاف ، العالم النحوي الأديب ، والمتفنن العارف
الأريب ، ذو اللسان العذب القندي ، والعرف الزكي الوردي ، يجنى ثمر الفصاحة من
آدابه ، ويلتقط در الجمان من بديع خطابه.
ولد بحلب في
حدود الخمسين والمائة بعد الألف ، ونشأ بها واشتغل باجتهاد وجد ، وأخذ من غضارة
التحقيق ما أربى به على السيد والسعد ، ثم أخذ يغذي الطلبة من خالص المعارف ،
ويكسوهم من فضله حلل اللطائف والعوارف ، وهو الآن في الحياة ، أمده الله بعظيم
الفضل والجاه.
وأما شعره فهو
السحر الحلال ، أو العذب الزلال ، من بقية المخضرمين الأول ، غير أنه لا يذكر رسما
ولا طلل ، بل جميع ما تجوده رويته من سانحات الآن ، لم يقيدها بمجموع ولا ديوان.
وله شعر كثير جدا.
وساق السيد
الكواكبي عدة قصائد له في مدح والده أحمد أفندي ، منها وهي من غرر قصائده :
كفّ السهام التي أضنت لمضناك
|
|
وراع من بات طول
الليل يراعاك
|
لولاك لم أسل
أهلي والأولى غرسوا
|
|
حدائق الحمد
يوم العز لولاك
|
قد كنت أرجوك
يوم البين ناصرة
|
|
فكنت لكن
لغير المدنف الباكي
|
ما عطر الروض
إلا حين مر به
|
|
ذكراك إذ روح
هذا القلب ذكراك
|
قاسوك حسنا
ببدر التم واعجبا
|
|
أذلك الجهد
أم قد لوح الحاكي
|
إذا سرت
نسمات في الرياض دجى
|
|
تذكر الصب
ذاك المرتع الزاكي
|
فإن رنت
ففؤاد الصب في خطر
|
|
وإن رثت هيجت
قلب الشجي الباكي
|
يا ظبية في
فؤاد الصب راعية
|
|
إن كان يرضيك
هذا فهو مرعاك
|
قالت أتخلص
من أسري فقلت لها
|
|
كيف الخلاص
وقلبي بعض أسراك
|
إلا بمدحي
هذا الشهم من رفعت
|
|
راياته الغر
مجدا فوق أفلاك
|
الماجد
الأحمد الآثار كهف ندى
|
|
مولى الأنام
وأمن الخائف الشاكي
|
مولى له
السعد مولى وهو ذو شيم
|
|
فيا شمائله
ما كان أحلاك
|
أما رقى رتبا
مذ قد سما حسبا
|
|
وكم رمى شهبا
في قلب أفاك
|
شأن الكواكب
أن ترمى لذي شطط
|
|
كما بها
يهتدى في ليل أحلاك
|
فيا كواكبه
الغراء فقت سنا
|
|
على البدور
فما أبهى وأسناك
|
خدمت سدته
فاستبشري فرحا
|
|
بشراك قد سدت
أهل الفخر بشراك
|
عدت فعاد
الهنا والأنس مع بشر
|
|
فيا مواطن
أنس لا عدمناك
|
لا زلت عاطرة
الأنفاس عنه مدى
|
|
مر الدهور
بعلياه وعلياك
|
وله كما وجدته
في مجموعة للمنشد الشهير أحمد بن محمد عقيل يمدح بها الحضرة النبوية :
إليك وإلا لا
تشد الركائب
|
|
ومنك وإلا لا
تسح المواهب
|
|
وفيك وإلا
فالحديث مزخرف
|
|
وعنك وإلا
فالمحدث كاذب
|
عليك وإلا
فاعتمادي مضيع
|
|
لديك وإلا لا
ترجّى المطالب
|
__________________
ومن بك
يستفتح لكل مآرب
|
|
وإلا فقد شطت
عليه المآرب
|
ومن بك يا
غوث النبيين يلتجي
|
|
ينجى وإلا
فهو لا شك خائب
|
ولو لم يجد
سحب السما فيض جوده
|
|
وإلا لما سحت
علينا سحائب
|
نبي أضا في
الكون نور جماله
|
|
فمنه استعارت
ذا الضياء الكواكب
|
نبي دنا ثم
تدلى من الذي
|
|
يماثله في
القرب أو من يقارب
|
نبي أتى
بالمعجزات فبعضها
|
|
لقد أعجز
الصنفين ممل وكاتب
|
له الرتبة
العليا له المجد والعلا
|
|
بمنصبه
الأعلى تنال المناصب
|
إماما علا
الأملاك والرسل كلهم
|
|
خطيبهم يعجزن
فيه المراتب
|
وكيف وكل
الرسل تحت لوائه
|
|
بيوم تذوب من
لظاه الذوائب
|
وقوفا على
الأقدام في موقف الجزا
|
|
وهذا الذي في
ذلك اليوم راكب
|
عذولي لا
تصدع بعذلك مسمعي
|
|
فإني بمن
أهوى عن الحسّ غائب
|
فحبي له فرضي
وديني ومذهبي
|
|
(وللناس فيما يعشقون مذاهب)
|
أغث سيدي
عبدا أتى بك لائذا
|
|
فأنت غياثي
إن دهتني النوائب
|
فأشكو جوى أو
تمثل شخصه [هكذا]
|
|
على جبل لاحت
عليه عجائب
|
تقاعس حظي عن
مرادي وكلما
|
|
أناديه من
قرب نأى وهو لاعب
|
عليك صلاة
الله ما ذر شارق
|
|
وما غاسق داج
وما لاح غارب
|
وأزكى سلام
قد علا الكون بهجة
|
|
مشارقه تذكو
به والمغارب
|
كذاك على
الآل الكرام وصحبك ال
|
|
فخام هم الغر
النجاب الأطايب
|
مدى الدهر ما
مدح يروق بوصفهم
|
|
وما انجاب
عنا من سناهم غياهب
|
ومن نظم الشيخ
عمر المذكور كما وجدته في بعض المجاميع :
قيل البرادة
في الإنسان قد جعلت
|
|
كالزمهرير
وإن الحكم سيان
|
فقلت حاشا
فإن الفرق متضح
|
|
تبدو بداهته
في حسن تبيان
|
فالزمهرير له
طب يطببه
|
|
كجبة وجلابيب
وقمصان
|
لكن برادة
بعض الناس ليس لها
|
|
طب فمنها
استعذ من شر شيطان
|
وذكر الشيخ أبو
الوفا الرفاعي في مجموعته ومن خطه نقلت قال : سمعت من الحاج عبد الرحمن أفندي
المدرس المفتي السابق في مجلس حكمدار حلب إسماعيل بك ، وكان
جرى ذكر الحيات ، فحدثهم أن الشيخ عمر الخفاف رحمهالله صنع لأهله طعاما يسمى بالصجقات لأجل العشاء ، فطبخوه من
الظهر وأبقوا لطعام العشاء جانبا وذهبوا إلى الحمّام وقالوا للشيخ : إذا أردت
العشاء قبل مجيئنا من الحمّام فالصجقات في القفة وهي معلقة في المطبخ ، ووضعوا
مفتاح الباب عند الجيران ، فعاد إلى البيت جائعا وطلب المفتاح وفتح ودخل إلى
المطبخ ، فمد يده إلى القفة وكان أعشى فذهب إلى أن الموضوع في القفة حية ، ولمس
الصجقات لينة مثل لين الحية ، فحصل له الجزع والخوف ، وكان له فرن قريب من داره
وعنده صانع يدعي أنه مبايع في طريق سيدي أحمد الرفاعي قدسسره ، ففزع إلى الصانع وقال : يا فلان ، مددت يدي إلى القفة
فإذا فيها حية جزعت منها غاية الجزع ، فأدركني وخلصني منها ، فأسرع الصانع على أنه
رأى حية في القفة ، فلما رأى الصجقات أوهم الشيخ أنه حل فيه الحال ، وصار يقضم
الصجقات ويأكلهم ويوهم الشيخ أنه يأكل الحية ، والشيخ يقول : شيء لله المدد يا
أصحاب الطريق ، شيء لله المدد يا رجال ، ويبكي والصانع يقضم الصجقات ويوهم أنه
يأكل الحية ويصيح ، فلما انتهى الأكل خرج الصانع هائما على وجهه إلى بيته ، فصار
الشيخ يقول : ما كنا نعرف قدره ، وهو متفكر أين وضعوا له الصجقات ، فلما جاء
الحريم من الحمّام سألهم : أين وضعتم الصجقات؟ قالوا : في القفة ، فعلم أن الصانع احتال
ليأكل الصجقات ، وخرج إلى بيت الصانع وقال له : يا خبيث يا محتال ، أدخلت عليّ
الحيلة وأكلت طعامي وتركتني جائعا ، وصار يشتمه ويسبه والصانع يضحك لعلمه بلطافة
حال الشيخ ، وقال له : إذا كنت لم تفرق بين الحيات والصجقات ودخل عليك الوهم
وندبتني لهذا الأمر وأنا جائع كيف لا آكل ولو مت ، وصارت أحدوثة لطيفة يتحدث بها.
ا ه.
وهو مدفون في
تربة الشعلة خارج باب المقام ، ولم أظفر بقبره لآخذ عنه تاريخ وفاته في أية سنة
كانت ، ولعله ذهبت ألواح قبره ودرس ، غير أن وفاته في أوائل هذا القرن ، ولعلها
كانت قبل العشرين أو بعدها بقليل.
١١٧٢ ـ الشيخ مصطفى الطرابلسي المتوفى في حدود سنة ١٢٢٠
الشيخ مصطفى بن
محمد بن إبراهيم بن محمد الطرابلسي ، الحلبي المولد والمنشأ ، الحنفي ، العالم
الفاضل والمتقن الكامل ، المولى السيد الشريف البليغ الأديب ، نخبة البلغاء وكعبة
الفضلاء والرؤساء.
ولد بحلب سنة
ست وأربعين وماية وألف ، ونشأ بكنف والده الشمس محمد نقيب الأشراف ومفتي الحنفية
بحلب أحد العلماء والفقهاء المشهورين بعصره ، وقرأ عليه الكثير من الكتب وانتفع به
وسمع عليه الكثير ، وأخذ عنه ، واشتغل على غيره بالأخذ والتحصيل وقرأ عليهم ، كأبي
السعادات طه بن مهنا الجبريني وأبي الفتح محمد بن الحسين وقاسم ابن محمد البكرجي ، وأجازه أبو
البركات عبد الله بن الحسين بن مرعي السويدي البغدادي عام دخوله حلب حاجا سنة سبع
وخمسين وماية وألف ، وأبو عبد الله علاء الدين محمد ابن محمد الطيب الفاسي المالكي
نزيل المدينة المنورة وسمع منهما الحديث المسلسل بالأولية. وأجازه الشهاب أحمد
الملوي المصري وأبو عبد الله محمد بن علي الجمال الحلبي تلميذ والده ، فبرع وفاق ،
وانعقد على فضله الاتفاق ، وحصل له الفضل الذي لا ينكر ، والإتقان الذي لا يجحد بل
ينشر ويذكر.
وأقبل على
الأدب ومطالعة كتب اللغة والعربية واشتغل بها حتى ضبط الكثير منها وحفظ غالبها ،
وجمع كتابا في اللغة لم ينسج على منواله ولم يسبق إلى مثاله ، جعله أبوابا وفصولا
وتفرغ لجمعه وتحريره عدة سنين حتى جاء كتابا وافيا مفيدا سهل المأخذ كثير الفائدة.
وقدم دمشق
ودخلها غير مرة ، وسمع من أبي يحيى علاء الدين علي بن صادق الداغستاني ، وسمع
الكثير من العلماء واستفاد من فوائدهم ، ثم ارتحل إلى حلب وامتحن لما قامت الأشراف
وقوي جانبهم. وخرج من حلب واستقام مدة في مدينة صيدا وتلك النواحي. ثم دخل
القسطنطينية ، وكان قد مات والده في تلك الأيام واجتمع بعلمائها وأعيانها. وتقلبت به الأحوال بعد ذلك ، واستقر آخر أمره في
بلدته الشهباء إلى أن اخترمته المنية سنة نيف وعشر ومائتين وألف ، ودفن هناك رحمهالله تعالى. ا ه. (حلية البشر).
أقول : وقد دفن
في تربة العبّارة خارج باب الفرج ، إلا أن قبور هذه العائلة قد درست مع ما درس من
القبور التي أخذت من أطراف الجبانة الأربعة باعتبار أنها قبور مندرسة ، واتخذ
بعضها بيوتا حول الباقي الآن من التربة وبعضها شوارع بجانبها وذلك في حدود سنة
١٣٢٠.
__________________
ورأيت في مجموع
تركي لبعض القضاة قال فيه : وجه تدريس مدرسة الشعبانية براتب أربعة غروش شهريا على
السيد مصطفى أفندي طرابلسي زاده في ذي الحجة سنة ١٢٠٢.
ورأيت في حجة
تولية أن المتولي على أوقاف المدرسة الحلوية والمدرس بها محمد أفندي ابن إبراهيم
الطرابلسي نزل عنها إلى ولده مصطفى أفندي سنة ١١٧٩.
ورأيت في حجة
أخرى وفي بعض المجاميع أيضا ما نصه : أن عمدة المحققين السيد مصطفى الطرابلسي هو
ابن الشريفة كريمة بنت المرحوم السيد محمد أبي اليمن أفندي مفتي القدس ابن السيد
عبد القادر نقيب مصر ابن الشيخ أحمد البيلوني بن محمود بن أحمد. وأحمد أمه بنت
الشيخ موسى الريحاوي ابن الشيخ يحيى بن موسى بن أحمد.
ورأيت في حجة
تولية ما يفيد أنه بوفاة محمد أبي الفتح الطرابلسي (هو ابن مصطفى أفندي المترجم)
المدرس والمتولي بالمدرسة الحلوية وانحلال الوظيفة وجهت التولية والتدريس فيها إلى
عبد الوهاب الطرابلسي سنة ١٢٣٠.
ورأيت حجة
بأحكار من وقف الحلوية مؤرخة سنة ١٢٤٨ ما يفيد أن متولي المدرسة المذكور ومدرسها
هو عبد الوهاب ابن السيد محمد أبي الفتح ، ولم أقف على تاريخ وفاة عبد الوهاب أفندي
المذكور لا ندراس قبورهم كما قدمنا.
وبعد وفاته آلت
التولية والتدريس إلى ولديه السيد محمد أبي الفتح والسيد محمود وقد فرغا التولية
إلى العالم الفاضل الشيخ مصطفى ابن الشيخ محمد طلس وذلك سنة ١٢٩٢ كما قدمناه في
حوادث سنة ٥٦٩.
١١٧٣ ـ الشيخة مريم بنت محمد بن طه العقّاد
المتوفاة في حدود سنة ١٢٢٠
الشيخة مريم
بنت محمد بن طه العقّاد ، الحلبية الشافعية أم عمران ، المقرئة المسندة الصالحة
الكاملة ، العالمة العاملة.
مولدها بحلب
سنة ست وخمسين وماية وألف ، وقرأت القرآن العظيم وبعض المقدمات على والدها وانتفعت
بتربيته ، وأجاز لها جماعة من المحدثين منهم والدها والمسند الكبير العالم
العلامة أبو سليمان صالح بن إبراهيم الجنيني وأجازها بالإجازة العامة.
وقد اجتمع بها
العلامة خليل أفندي المرادي حينما كان في حلب عام ألف ومائتين وخمسة وأثنى عليها
وشهد بعلمها وفضلها.
ولم أقف على
تاريخ وفاتها رحمهالله عليها. ا ه. (حلية البشر).
١١٧٤ ـ محمد قدسي أفندي المتوفى سنة ١٢٢٢
ترجمه المرحوم
جودت باشا في تاريخ في الجزء الثامن منه ، قال ما معناه :
السيد محمد
قدسي أفندي ابن حسن أفندي ابن عبد الرحمن بن حليم أفندي صاحب الفتاوي الحليمية
المشهورة باسمه حليم زاده المفتي بحلب. كان والده من العلماء وعلى قدم عالية من
الصلاح.
ولد المترجم في
الرها (أورفه) ، وتلقى العلم عن علماء بلدته ، وكان مائلا إلى الترف والتنعم
والتأنق في المآكل والملابس ، فطنا قوي الحافظة فصيح اللسان حلو المحاضرة ، يغلب
عليه فنون الأدب والشعر والإنشاء ، وفي أي مجلس وجد يكون صدره والمتكلم فيه لطلاقة
لسانه وحسن بيانه ، وكان يعرف الألسن الثلاثة العربية والتركية والفارسية.
رحل عدة مرات
إلى دار السعادة ، وكان في أثناء ذلك يتردد على أكابرها وعلمائها وفضلائها ، وبهذه
الواسطة عين مفتيا إلى بلدته أورفه ، إلا أنه لم يحصل بينه وبين أبناء وطنه امتزاج
فعزل ، وصادف في هذا الأثناء أن نفي إلى (روم قلعه) أحد كبراء الدولة سليم أفندي
المشهور وذلك سنة ١٢١٢ ، فاستدعي صاحب الترجمة إلى (روم قلعه) واتخذه نديمه وكان
يزيل به آلام وحشته لحسن محاضرته ، ثم لما أطلق من منفاه أخذ معه المترجم إلى دار
السعادة ومكث ثمة مدة ، ثم عين مفتيا إلى حلب ، ثم بالتماس ولي بغداد سليمان باشا
نال المترجم رتبة أزمير ، ثم بواسطة معتمد الحرم السلطاني يوسف آغا أضيف إليه
نقابة الأشراف بحلب.
ثم إن بعض وجوه
الشهباء كانوا يعاكسونه في الأمور ويعارضونه ، ولكن المترجم لم يكن ليحتمل منهم
شيئا من استبدادهم ، بل كان يقاومهم بكل ما أمكنه ، وسعوا في عزله
إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك لمكانته من يوسف آغا المتقدم ، ولما أعياهم
الأمر التزموا جانب السكوت.
ثم لما أتى
الفرنسيس إلى الديار المصرية وجهزت الدولة العثمانية الجيوش إلى مصر لأجل
استخلاصها نهض المترجم فجمع مقدار خمسة أو ستة آلاف من أهالي حلب وتوجه إلى مصر مع
القائد ضيا باشا (كان خروجه من حلب يوم السبت لثلاث خلت من ربيع الثاني سنة ١٢١٥
وفي هذه السفرة صار الفتوح ، وفي سنة ١٢١٦ عاد قدسي أفندي من مصر ودخل حلب هو
والأشراف وزينت البلدة يوم دخولهم ، ذكر ذلك الشيخ بكري الكاتب في مجموعته) وشكر
على خدمته هذه ووعد بأن يعطى قضاء مصر بعد استردادها وأنهى له من ذلك الحين من طرف
القائد المذكور بتوجيه مولوية مصر عليه ، وقدم هو عريضة خاصة إلى يوسف آغا ، إلا
أنه لمعارضته لشيخ الإسلام عمر خلوصي أفندي لم ينل ما طلبه فتكدر صاحب الترجمة
لذلك.
ثم لما عادت
الجيوش العثمانية من مصر إلى الآستانة عاد معهم ، وصادف في ذلك الأثناء أن شيخ
الإسلام كان ابن صالح أفندي ، فوجهت عليه رتبة البلاد الأربعة.
وفي سنة ١٢١٩
عين قاضيا لمكة ، وبعد أن رجع من مكة إلى الآستانة صادف أن ضيا باشا قد انفصل من
منصب الصدارة ويوسف آغا عزل عن وظيفته لوفاة سيدته الحرم السلطاني ، وكان هذان محط
آماله ، فتحقق أن أيام إقباله قد أدبرت ونجم سعوده قد أفل ، فالتزم بيته ومرض بعد
ذلك مدة طويلة إلى أن توفي سنة ١٢٢٢ ألف ومائتين واثنتين وعشرين ، ودفن في حظيرة
السلطان بايزيد رحمهالله تعالى. ا ه.
أقول : وله ألف
الأديب الفاضل الشيخ عبد الله العطائي الصحاف رسالته الموسومة «بالهمة القدسية»
التي ذكر فيها الأدباء الذين ضمنوا قوله تعالى : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ) وقد أدرجناها برمتها في ترجمة العطائي.
وخلف المترجم
ولدين هما تقي الدين أفندي وزكي أفندي ، فتقي الدين أفندي خلف بهاء الدين أفندي
وسعد الدين أفندي وحسام الدين أفندي وعبد القادر أفندي وبدر الدين
__________________
أفندي ، وأما زكي أفندي فخلف معاوية أفندي ، والجميع قد أعقبوا إلا بدر
الدين فإنه توفي عقيما.
١١٧٥ ـ الشيخ صالح بن سلطان المتوفى سنة ١٢٢٢
الشيخ صالح بن
سلطان (بن محمد بن سلطان) بن حسين الحلبي الشافعي ، العالم الفاضل البارع الكامل
النحوي المتقن واللبيب المتفنن ، أحد العلماء الأجلاء وأوحد الذوات الفضلاء.
مولده بحلب سنة
سبع وخمسين وماية وألف ، ونشأ في حجر جده لكثرة أسفار أبيه ، وقرأ القرآن على
الشمس محمد المصري في مكتب السخانة ، وكان جده من تلامذة أبي عبد القادر محمد بن
صالح المواهبي الملازمين له ، فانتفع بآدابه ووعظه ، وكان يحفظ الكثير من لفظه.
ولما توفي جده المرقوم كان عمر المترجم أربع عشرة سنة ، فكانت أمه تحثه على طلب
العلم وتدعو له دائما بالفتوح ، ومهما دخل عليه شيء من المال يشتري به أوراقا
محزمة من فنون العلم من سوق الجمعة ويطالع بها.
وكان قد حفظ
القرآن العظيم على شيخه النجم محمد الفتياني ، وأخذ بعض العلوم عن الشيخ عبد
الهادي المصري والشيخ عبد القادر الديري والشيخ أبي اليمن تاج الدين محمد ابن طه
العقاد وعلى الشيخ عثمان بن عبد الرحمن العقيلي وعلى أبي زكريا يحيى بن محمد
المسالخي وعلى الشيخ قاسم بن علي المغربي التونسي وعلى أبي جعفر منصور بن مصطفى السرميني
الحلبي وعلى أبي محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الحنبلي وعلى الشيخ عبد الكريم
الشراباتي وعلى الشيخ محمد بن صالح المواهبي وعلى الشيخ خليل بن عبد القادر المدني
وعلى أبي عبد الله محمد بن أحمد المكتبي وأبي عبد الله محمد بن محمد الأريحاوي
وأبي محمد مصطفى بن أبي بكر الكوراني ومصطفى بن عبد القادر الملقي فاستفاد منهم
وأفاد ، وقام بوظيفة العلم فوق المراد ، وقرأ على المذكورين النحو والصرف والمعاني
والبيان والمنطق والتوحيد والفقه وأصوله والحديث وأصوله والتفسير وبقية الفنون
بكمال الإتقان ، وأجازوه جميعا بالإجازة العامة.
__________________
وممن أجازه أبو
الفيض محمد المرتضى بن محمد الزبيدي اليمني نزيل مصر والشهاب أحمد بن محمد الدردير المالكي وأبو الصلاح أحمد
بن موسى العروسي وأبو محمد عبد الرحمن النحراوي وعبد الرحمن بن مصطفى العيدروسي
اليمني ومحمد كمال الدين بن مصطفى البكري الصديقي وغيرهم ، واشتهر وفاق ، وملأت
شهرته الآفاق.
وكان ينظم
الشعر قليلا ، ومن نظمه :
الراحمون لمن
في الأرض يرحمهم
|
|
من في السماء
كما قد جاء في الخبر
|
إن ترحموا
ترحموا من ربكم ولكم
|
|
جزيل حظ من
المختار من مضر
|
ومن نظمه أيضا
:
بحمى رسول
الله كن متمسكا
|
|
واعكف بساحة
فضله ونواله
|
واطرح وساوسك
التي لك أشغلت
|
|
وادخل حماه
واستتر بظلاله
|
والوجه عفر
في التراب ولا تمل
|
|
عن بابه تسقى
بكاس زلاله
|
فهو الذي
لولاه ما خلق امرؤ
|
|
والدهر لم
يسمح لنا بمثاله
|
وهو الذي فيه
العصور تباشرت
|
|
وكذا القصور
تزينت لوصاله
|
وهو الذي
يهدي الأنام بهديه
|
|
وبفعله
وبحاله وبقاله
|
كشف الدجى
بضيائه وجماله
|
|
وإلى العلا
سرّا رقى بكماله
|
إن رمت تنجو
ناده يا من أتى
|
|
الذكر الحكيم
بمدحه ودلاله
|
__________________
يا أفضل
الرسل الكرام وغوثهم
|
|
فاشفع لعبد
تائه بضلاله
|
إن الخطايا
أثقلتني سيدي
|
|
يا خير من
يولي الغنى لعياله
|
وله من قصيدة :
رشأ غزا قلبي
بسهم جفونه
|
|
وسبى أصيحابي
بسحر عيونه
|
وسطا بقدّ
مزري سمر القنا
|
|
وحمى حماه
بفتكه وشؤونه
|
والليث يحمي
شبله بزئيره
|
|
أو ما ترى لا
يمتطى لعرينه
|
وله قصائد
قليله لأنه كان لا يعتني بالشعر كثيرا لعدم فراغه من الإقراء والتدريس ، والشعر
يحتاج إلى إقبال كثير عليه.
ولم يزل
المترجم على حالة صالحة وهمة راجحة إلى أن اختار الآخرة على الأولى ، وأقبل على
مولاه ناجيا لا مخذولا ، وذلك سنة ألف ومايتين وقبل العشرين. ا ه. (حلية البشر).
أقول : الصواب
أن وفاته كانت سنة اثنتين وعشرين ، ودفن في تربة الشيخ جاكير ، وهو أحد رجال
الرسالة الموسومة بالهمة القدسية التي سنذكرها في ترجمة عبد الله العطائي.
واطلعت على
ديوانه بخطه عند بعض أحفاده ومعظمه مديح في الحضرة النبوية وفي شيخه الشيخ عثمان
العقيلي.
ومن نظمه وهو
أول ما صدر به ديوانه :
يا برق شعب
الأبرقين
|
|
إن جزت وادي
الرقمتين
|
سلم على جد
الحسين
|
|
وآله
والصالحين
|
دور
أزكى الأنام
محتدا
|
|
ومن أتانا
بالهدى
|
ونوره لما
بدا
|
|
أخجل نور
النيرين
|
دور
أبلغ سلامي
للرفيق
|
|
ومن تسمى
بالعتيق
|
ذاك أبو بكر
الصديق
|
|
رقي لأعلى
الرتبتين
|
دور
كذاك عثمان
الأغر
|
|
وابلغ سلامي
لعمر
|
من بعده على
الأثر
|
|
علي وابنه
الحسين
|
دور
وابلغ لسعد
وسعيد
|
|
وطلحة البر
الرشيد
|
ولابن عوف
الحميد
|
|
وللزبير ذي
الشرفين
|
دور
ولابن جراح
السلام
|
|
والآل والصحب
الكرام
|
يرجو بهم حسن
الختام
|
|
صويلح من غير
مين
|
دور
صلي وسلم كل
حين
|
|
على رسول
العالمين
|
واغفر ذنوبي
يا معين
|
|
وافعل كذا
بالوالدين
|
وله قصيدة
طويلة يمدح بها الحضرة النبوية قال في مطلعها :
تضيّع أنفاسا
وعزمك مفلول
|
|
إلى كم بهذا
أنت مغرى ومشغول
|
تبيت كما
أصبحت والعمر ذاهب
|
|
وعن كل ما
قدمت والله مسؤول
|
تعمر دنياك
وتهدم غيرها
|
|
وتزعم أن
الوقت فسح وممطول
|
تدارك زمانا
ظالما قد أضعته
|
|
لديك بطالات
وزور وتضليل
|
وبادر فإن
الوقت ضاق ولاتني
|
|
ونادي شفيع
الخلق يا نعم مرسول
|
ومن نظمه كما
وجدته في مجموعة الشيخ مصطفى الكوراني :
لحظه التركي
أمسى قاتلي
|
|
من مجيري من
لحاظ لي تصيب
|
لا تلمني في
هواه عاذلي
|
|
إنني من قتله
نفسي تطيب
|
ما حوت
أوصافه شمس الضحى
|
|
إنها مع
حسنها ليلا تغيب
|
راحت الأرواح
لما أن غدا
|
|
ظاعنا يعلو
نجيبا ذا النجيب
|
ما سلاه قط
إلا أبكم
|
|
ماله في
الرشد حظ أو نصيب
|
وصلاتي
وسلامي كلما
|
|
ناح طير
الأيك في الغصن الرطيب
|
لنبي قد سمت
أوصافه
|
|
خصه بالقرب
مولاه القريب
|
وعلى آل وصحب
سرمدا
|
|
ما تغنى باسم
محبوب حبيب
|
ورأيت للمترجم
إجازة حافلة مشجره بعلوم القراءة لم أجد لها نظيرا ذكر فيها أنه تلقى علم القراءة
على الشيخ عثمان العقيلي الحلبي وهو عن الشيخ أبي اليمن محمد العقاد الحلبي وهو عن
الشيخ محمد البصيري وهو عن الشيخ علي الكزبري الدمشقي والشيخ إبراهيم ابن عباس
الدمشقي ، وعنهما أخذ في تفريع شجرة السند على طريقة تفريع الأنساب بشكل بديع إلى
أن أوصلها إلى القراء السبعة.
ورأيت بخط
المترجم كثيرا من الكتب مما يدل على أنه كان كثير النسخ لها.
١١٧٦ ـ أحمد بن محمد المواهبي المتوفى سنة ١٢٢٢
أحمد بن محمد
بن صالح المواهبي الحنفي.
قال أبو الوفا
: كان مشتغلا بنفسه حياة أخيه معيدا لدروسه ، له هوس في كل ما ظرف من الجمادات
كآلات الحرب والأزهار ، وكان له عناية بمطالعة كتب الكيميا ، وله رغبة في ركوب
الخيل ، وكان لطيفا كتوما محجوبا ، ثم صار بعد وفاة أخيه شيخ السجادة القادرية
بالزاوية الصالحية والحلوية ، وكنت ألبسته تاج أخيه حين دفن على عادة مشايخ الطريق
، وبعدها اعتنيت بصحبته وملاحظته مراعاة للحقوق التي بيننا وبين أخيه شيخنا المرحوم.
توفي سنة ٢٢. ا ه.
١١٧٧ ـ عبد الله بن عبد الرحمن الحنبلي الميقاتي المتوفى سنة ١٢٢٣
عبد الله موفق
الدين ابن الشيخ عبد الرحمن ، الحنبلي مذهبا الحلبي مولدا ووطنا.
كان رحمهالله عالما جليلا وفاضلا نبيلا ، موقتا في أموي حلب ومحدثا
فيه أمام حضرة سيدنا يحيى عليهالسلام.
ولد رحمهالله سنة ألف ومائة واثنتين وستين ، وقرأ على والده وأعيان
وقته ، حتى برع وفاق أهل عصره في العلوم النقلية والعقلية كالحديث والفقه
والقراءات والفرائض والحساب والهندسة والمنطق والهيئة وعلم الميقات ، وأقروا له
بالفضل وسعة الاطلاع والتضلع في العلوم والفنون.
وقد أجازه
علماء عصره وفضلاء مصره ، منهم والده الشيخ عبد الرحمن ونص أجازته التي أثبتها في
آخر ثبته المحرر بخطه سنة ١١٩٠ : وقد أجزت به (أي بما حواه الثبت من المؤلفات
والمرويات) لولديّ عبد الله موفق الدين وأخيه محمد مجد الدين وأجزتهما بما لي من
نظم ونثر وبجميع ما أجازني به أشياخي رحمهمالله تعالى من مروياتهم ومصنفاتهم وإجازاتهم ... إلخ.
وقد ظفرت
بكراسة بخط المترجم وختمه فيها إجازة منه للشيخ أحمد ابن الشيخ عبد الوهاب الحلبي
الشافعي البصير ذكر فيها من تلقى عنهم العلم ومن أجازه من علماء عصره في الشهباء
وغيرها ، قال : منهم وهو أولهم الذي تخرجت على يديه وجل استفادتي مما لديه شيخي
وأستاذي ووالدي الشيخ عبد الرحمن الحنبلي الدمشقي ، ومنهم الشيخ علي بن مصطفى
الشهير بالدباغ الموقت بجامع بني أمية ، حضرته مع والدي في صحيح الإمام البخاري في
المدرسة الأحمدية ولقنني الحديث المسلسل بالمصافحة وأجازني ، ومنهم سيدي الشيخ
محمد ابن العلامة العارف بالله تعالى الشيخ صالح المواهبي ، حضرت دروسه في صحيح
البخاري وحضرت عليه في المدرسة الأحمدية أواخر شرح الألفية للأشموني ودروسا كثيرة
في كتاب «الدرر والغرر» في الفقه الحنفي وأكثر «مختصر المعاني والبيان» للسعد
التفتازاني وغير ذلك ، ومنهم إمام القراءات سيدي الشيخ محمد بن مصطفى بن حجيج
الشهير بالبصبري ، حفظت عليه الشاطبية وقرأت عليه القرآن العظيم من أوله إلى آخره
جمعا للأئمة السبعة مرتين ، لازمته سبع سنين وكتب لي إجازة سنية ، ومنهم العلامة
الفاضل السيد مصطفى العلواني الأويسي الحموي ، قرأت عليه «جوهرة التوحيد» وحضرت
عليه قراءة الشيخ خالد على الأجرومية وشرح الألفية لابن المصنف ودروسه في رياض
الصالحين للإمام النووي وغير ذلك ، ومنهم عمي وصنو أبي الشيخ أحمد بن عبد الله
البعلي الحنفي مفتي السادة الحنابلة بدمشق ، فإنه أرسل إليّ بالإجازة بخطه مشتملة
على مروياته ومسموعاته ، ومنهم العلامة النحرير الشيخ محمد الشهير بابن الزمار
الشافعي الحلبي ، فقد
لقنني حديث الرحمة وأجازني بما تجوز له وعنه روايته ودعا لي وشملتني بركته
والحمد لله. ثم ساق سلسلة مشايخه في علم القراءات ثم في علوم الحديث وغير ذلك مما
يطول ذكره ، وهي محررة سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف.
وكان رحمهالله في غاية من الصلاح والزهد في الدنيا والورع ، يلبس في
الصيف الكرباس الأبيض وفي الشتاء الكرباس الأزرق لا غير ، صارفا عمره في العبادة
والإفادة والاستفادة.
وألف مؤلفات
كثيرة منها منظومته المسماة «باللوامع الضيائية» وهي نظم السراجية في علم الفرائض
وشرحها «تحفة المطالع» ، ومنها شرح على شرح أبي القاسم علي السمرقندي على
العضدية سماه «الشذرات العسجدية» ، وشرح على رسالة العارف بالله تعالى الشيخ قاسم
الخاني الحلبي في المنطق سماه «الكوكب المشرق بشرح رسالة المنطق» ، وشرح على اللمعة في زيح علامة المتأخرين ابن الشاطر
وصل فيه إلى باب الخسوف والكسوف ، و «النفحة المعطارة في بيان الحقيقة والمجاز
والاستعارة» بين فيها هؤلاء الثلاثة بأوضح بيان ، وشرح على رسالة الإمام بدر الدين محمد سبط المارديني
المسماة «بهداية السائل إلى العمل بالربع الكامل» سماه «خلاصة المسائل» ، وشرح على
المنظومة المسماة «بالقلائد البرهانية» في علم الميراث للشيخ محمد بن الحاج حجازي
ابن برهان الدين سماه «الفرائد الجمانية» وهو موجود في المكتبة المولوية بحلب ،
وأول المنظومة :
قال محمد هو
البرهاني
|
|
حمدا لربي
منزل الفرقان
|
وله غير ذلك من
التآليف النافعة والآثار المفيدة والمنظومات الرائقة الدالة على رسوخ قدمه وتضلعه
في صناعة الأدب أيضا.
ومن نظمه أبيات
خمّس فيها قوله تعالى : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ) ذكرها الأديب
__________________
الفاضل الشيخ عبد الله العطائي الصحاف في رسالته المسماة «بالهمة القدسية»
وقد أدرجنا الرسالة بتمامها في ترجمة الفاضل المذكور.
وكانت وفاة
الشيخ عبد الله ليلة الأحد في الحادي والعشرين من رجب الفرد سنة ١٢٢٣ ألف ومائتين
وثلاث وعشرين ، ودفن في تربة الصالحين الكائنة خارج باب المقام تحت رجلي والده
المدفون تحت القبة رحمهماالله تعالى.
وأخوه محمد
الذي تقدم ذكره في أول الترجمة لم أقف له على ترجمة خاصة ، ولكني وجدت بخط الشيخ
صالح سلطان أنه توفي سنة ١٢٠٥.
١١٧٨ ـ الشيخ أحمد بن محمد الهبراوي المتوفى سنة ١٢٢٤
ترجمه حفيده
الشيخ فاتح أفندي الهبراوي ترجمة حافلة طويلة ، فاقتضبنا منها ما يأتي. قال :
هو الصدر
الصدير والبدر المنير ، العالم الرباني والشافعي الثاني ، حامل لواء المذهب ومطوقه
بالعقد المذهب ، محقق المعقول والمنقول ومدقق الفروع والأصول ، شهاب الدنيا والدين
الشيخ أحمد ابن السيد محمد ابن السيد يسين ابن الشيخ عبد الغني الحسيني الشافعي
الهبراوي ، نسبة لجدهما الأعلى على ما ذكره النسابة ، أول قادم من طابة ، فإنه خرج
ونزل في محلة الكّلاسة واتخذها سكنا له. وبنى له المرحوم الشيخ عبد الرحيم المصري
الجامع المعروف باسمه وبالتكية الهبراوية.
ولما بلغ
المترجم الشيخ أحمد سن التمييز حفظ القرآن المجيد ، ثم أكب على تحصيل العلوم
وتحرير المنطوق والمفهوم ، وحصل على والده طرفا من العلوم ، واشتغل على جماعة من
فضلاء الشهباء منهم الشيخ محمد أبو اليمن تاج الدين الشهير بالعقاد مؤلف المناسك ،
والفقيه العلامة الشيخ محمد سعيد الديري صاحب حواشي المعفوات ، والشيخ عثمان أبو
الفضل العقيلي العمري الشافعي ، والشيخ السيد يحيى أفندي دفين الشام ، والسيد عطاء
الله الصحاف ، والشيخ صالح سلطان ، والشيخ قاسم المغربي المالكي نزيل حلب وغيرهم
من جبال العلم ورجال الحفظ والفهم. وبمدة وجيزة فاق الأقران وحاز قصبات الرهان ،
وذاك العصر بنجبائه مشحون ، فتقدم عليهم في العلوم كلها وهم أهلوها ، وطلع فيهم
طلوع
الشمس والبدر ، وفضلهم كما فضلت ليالي القدر.
وبرع في العلوم
العقلية والنقلية كلها لا سيما الفقه ، فإنه رفع لواءه وأظهر رواءه ، حتى اشتهر
عند الجم الغفير ، ولقب بالشافعي الصغير ، وعقد الدروس والمجالس ، ونثر فيها نفائس
الدرر ودرر النفائس.
ثم رحل مع
جماعة من كرام الأعيان إلى الشام واجتمع بأفاضلها المبرزين في الفضل ، وأخذ بها عن
العلامة الشيخ محمد بن عبد الرحمن الكزبري وأجازه بثبته كله ، عن العلامة المسند
الشيخ أحمد بن عبيد الله الشهير بالعطار (وذكر نصها) ، ثم عاد إلى حلب. ولما قدم
من مصر الشيخ إبراهيم الكردي الهلالي أخذ عنه طرفا من العلوم الشرعية وتلقى عنه
طريقتي القادرية والخلوتية بإسناده عن شيخه الشيخ سليمان الجمل عن شيخ وقته الشيخ
محمد الحفني.
وأما آثاره
الباهرة فمنها مواده الكبرى على شرح المنهج الملقبة «بالنور الأبهج» كتب منها
أربعة عشر كراسا ، و «المناسك المباركة» التي أتى فيها بعيون الإيضاح ، ومعراجه
الكبير ومواده على تسهيل الفوائد للشربباتي (لم يتم) ، ومواده على شرح بافضل (لم
يتم) ، وشرحه على منظومة الأجهوري الموسوم «بفتح الرحمن بشرح فضائل رمضان» ، وشرحه
الكبير على منظومة القدوة المسمى «بصفوة الصفوة» (لم يتم) ، وشرحه على نظم
الموجهات (فقد) ، وشرحة على منظومة البقاعي في المجاز ، و «تقرير لطيف على أوائل
البخاري الشريف» ، و «تعليقات بهية على الألفية الحديثية» للحافظ العراقي ، وشرحان
له على رسالة في النكاح ، ورسالة في العروض (ولم يكملا) ، وله مجموع رسائل سماه «النور
الضاوي بآثار الشهاب الهبراوي» فيه ١٨ رسالة في التوحيد والفقه مجموعها في ٢٢٩
صحيفة.
وكان رحمهالله ذا بشاشة وطلاقة وصلاح وزهد وقناعة وورع ، لا يقبل من
أحد شيئا ، ولا يأخذ من مال الدنيا غنيمة ولا فيئا. حكي أن بعض الوزراء لما قدم
الشهباء زار العلامة المترجم ، ولما أراد الخروج وضع تحت السجادة جملة من الدراهم
المعتادة ثم نهض ، فلم يجد للخروج مساغا وسد عليه طريق الباب ، وتاه في مهامه
ضلاله لم يهتد للهدى والصواب ، فناداه الأستاذ : خذ ما وضعت واغرب كما طلعت ، فعاد
وأخذ ما وضع ، فانفسح له الطريق الواسع ووجد الباب مفتوحا فخرج.
وكان رحمهالله مواظبا على تلاوة الأذكار في العشي والأبكار.
وقد تلقى
الطريقة الشاذلية عن بعض أركانها القوية ، واشتغل بطريق السلوك إلى ملك الملوك ،
حتى قطع عقباته وتحلى بسني هباته ، وسطعت خوارقه ولمعت بوارقه ، وظهرت كراماته
ظهور الشمس ، واشتهرت اشتهار الخمس. ومنها ما حكاه رواة الأخبار عن والد تلميذه
الشيخ أحمد الحجار أنه كان يأتي بولده المذكور فيقول : يا سيدي ، ادع لابني ، فإنه
يهمل العمل في أشغاله في الجبل ، فيقول له الأستاذ : دعه ، فإن ابنك سيكون من
أوعية العلم وحملة الشريعة وحفظة السنة.
وكان رحمهالله جوادا مقداما ، إذا انتهكت المحارم لا تأخذه في الله
لومة لائم.
وأخذ عنه خلائق
لا يحصون ، منهم الشيخ محمد والشيخ أحمد نجلا الشيخ عبد الكريم الترمانيني وولده
الشيخ محمد والشيخ أحمد الحجار والشيخ مصطفى الشربجي وغيرهم. وكان يقيم الذكر في
تكيته ليلة الأحد. وبالجملة فقد ملكه الله زمام الفضائل وجعله نسخة المحاسن وديوان
المآثر ومجموع المفاخر. وانتهت إليه رئاسة التدريس بالجامع الأموي بحلب ، ودرس
بجامع باب الأحمر ، وقضى عمره رحمهالله في علم ينشره وصالح يذكره وحق ينصره وباطل يميته فيقبره
، إلى أن أتاه داعي الحق في سنة أربع وعشرين ومائتين ، وحضر غسله شيخه الكوكب
المتلالي الشيخ إبراهيم الهلالي ودفن بمقبرة الكليباتي.
وأعقب المترجم
ولدين هما الشيخ محمد والشيخ مصطفى وستأتي ترجمة الأول.
١١٧٩ ـ الشيخ يحيى المسالخي المتوفى سنة ١٢٢٥
الشيخ يحيى بن
محمد ، الحلبي الشافعي الشهير بالمسالخي والمصالحي ، الشيخ الإمام العلامة المحقق
الفاضل الكامل.
ولد بحلب ونشأ
بها وأخذ عن علمائها. ورحل إلى الديار المصرية فأخذ عن الشيخ أحمد الملوي ومن في
طبقته. وقد وقفت على رسالته في النحو ومولد شريف وجملة إجازات تشهد بفضله ونبله.
وممن أخذ عن الشيخ عبد الله الكردي الحيدري وتلميذ هذا جدنا العلامة الشيخ حسن
الشطي.
وكانت وفاته
سنة ألف ومائتين وخمس وعشرين ودفن بمقبرة الباب الصغير (تربة مشهورة في الشام) قرب
الشمس الكزبري رحمهالله. ا ه. (روض البشر).
وترجمه أيضا
العلامة البيطار في «حلية البشر» وذكر أنه أخذ عن الشيخ محمد الكزبري وعن غيره من
المشايخ العظام.
أقول : حدثني
من أثق به أن سبب سفره من حلب إلى الشام وتوطنه بها الفتن التي قامت في أوائل هذا
القرن بين الأنجكارية والأهلين ، وكان يذكر أعمال الأنجكارية وفظائعهم فلحقه منهم
أذى وخشي حصول فتنة بسبب ذلك ، فوجد أن الأولى به أن يغادر حلب ، فذهب منها إلى
طرابلس فقعد بها مدة ، ثم توجه إلى الشام وتوطن بها إلى أن كانت وفاته بها رحمهالله تعالى.
وشرح رسالته في
النحو تلميذه الشيخ عمر الطرابيشي ، وهو موجود في مكتبة محمود أفندي الجزار التي
وضعت هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥ في المدرسة الشرفية. وشرح هذه الرسالة أيضا صديقنا
المرحوم الفاضل الأديب الشيخ أحمد الصابوني الحموي المتوفى في صفر سنة ١٣٣٤ ، ذكر
ذلك في ترجمته المنشورة في العدد الخامس من مجلة الوحي الحموية.
١١٨٠ ـ الشيخ حسن بن أحمد المقرىء المتوفى في حدود ١٢٢٥
الشيخ حسن بن
أحمد بن نعمة الله الحلبي الشافعي ، الفقيه الفاضل والعالم العامل المقرىء الناسك
الصالح ، أحد القراء المعروفين بجودة الحفظ والتلاوة والأداء الراجح.
ولد في حلب سنة
خمسين وماية وألف ، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على عبد القادر المشاطي ، وجمع
القراءات السبع على طريق الشاطبية بالتلقين من شيخ القراء الشمس محمد ابن مصطفى
البصيري التلحاصدي وأبي اليمن محمد بن طه العقاد ، وأتقن وبرع. وسمع حصة من صحيح
الإمام البخاري على أبي السعادات طه بن محمد الجبريني وسمع عليه غير ذلك من كتب
الحديث. وسمع على الشيخ علاء الدين محمد بن محمد الطيب المغربي المالكي الفاسي لما
قدم حلب وعقد مجلس السماع والتحديث بالجامع الأموي وأجازه بالإجازة العامة مع من
حضر.
وتفقه على أبي
محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري وأبي زكريا يحيى بن محمد المسالخي.
وقرأ العربية
على الشهاب أحمد بن محمد المخملي وأبي محمد عبد الوهاب بن أحمد الأزهري المصري
وغيرهم.
وكان يستقيم
غالب أوقاته في الجامع الأموي في حلب يتلو القرآن العظيم دراسة وتعليما مع الديانة
والصلاح.
توفي سنة ألف ومائتين
ونيف وعشرين. ا ه. (حلية البشر).
١١٨١ ـ الشيخ عبد القادر بن إسكندر المقرىء المتوفى في حدود ١٢٢٥
الشيخ عبد
القادر بن أحمد بن عطاء الله بن إسكندر ، الحلبي الحنفي المقرىء ، أحد الحفاظ
والقراء الموجودين بحلب الشهباء.
ولد بها سنة
ثلاث وخمسين وماية وألف ، وقرأ القرآن العظيم وحفظه ، وجوّده على الشيخ المقري
المتقن أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المصري نزيل حلب ، ولازم أبا عبد الله محمد
بن صالح بن رجب المواهبي القادري وقرأ عليه «الدرر الفقهية» و «الجامع الصغير» في
الحديث ، وسمع عليه الكثير من الأحاديث وغيرها وأخذ عنه الطريقة القادرية ، وبعده
لازم ولده أبا المواهب إسماعيل المواهبي وجدد عليه الأخذ في الطريقة وغيرها ، وسمع
عليه الكثير من الأحاديث الشريفة ، وانتفع بمجالسه ، وكان ينشد الموشحات والقصائد
في حلقة ذكره والخلوة الأربعينية ويلازمه غالب الأوقات.
وكان متوطنا في
قلعة حلب وخطيبا بجامعها المعروف بجامع النور ، وكان من القوم الأخيار ذوي الفضائل
والآثار.
واجتمع به سنة
ألف ومائتين وخمس خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام بحلب وشهد بفضله وعلمه
وكماله.
وتوفي المترجم
بعد ذلك ولم أقف على تعيين وفاته. ا ه. (حلية البشر).
١١٨٢ ـ الحاج إبراهيم آغا المتوفى سنة ١٢٢٨ ووالده وجده
الحاج إبراهيم
آغا بن عبد القادر آغا بن حسين آغا بن أحمد الشهير بأمير ، من أعيان الشهباء
وسراتها ومن ذوي الثروة الطائلة والجاه الواسع والكلمة المسموعة.
توجه إلى
الآستانة وصار له إقبال زائد وتوجه من سلطان ذلك العصر ، فصار رئيس البوابين
بالباب العالي برتبة أمير الآخور الأول السلطاني ، ثم صار متسلما في حلب ثم محصلا
فيها وذلك سنة ١٢٢٣ ، ومتسلما في عينتاب في سنة ١٢٢٤. وتوفي في سنة ١٢٢٨ في الخامس
من جمادى الأولى.
وأما والده عبد
القادر آغا فقد كان من كبار التجار في حلب ، ويده مبسوطة في البر والإحسان وفعل
الخير ، وهو الذي جدد الحمّام الكائنة في محلة سويقة الحجارين واسمه منقوش على
بابها. ومن آثاره الخيرية وقفه عدة عقارات على القسطل الكائن في المحلة المذكورة
المعروف بقسطل بني ربيعة وذلك في سنة ١١٦٦ ، وهذا القسطل كان قد خرب فجدد عمارته
الحاج إسماعيل ابن الحاج صالح بن عبد الله الصباغ وذلك في سنة ١١٣٢.
ومن آثار عبد
القادر آغا تجديده مكتبا للأطفال فوق دكانين المحلة المذكورة تجاه الحمّام ، وعبد
القادر هو شقيق السري الوجيه الحاج موسى آغا بن حسن آغا صاحب الوقف المشهور بوقف
الحاج موسى وقد تقدمت ترجمته.
وأما حسين آغا
المترجم فقد كان أيضا من كبار التجار ومن ذوي الغنى واليسار. ومن آثاره تجديده
المسجد المعروف بمسجد بني ربيعة الكائن في المحلة المتقدمة الملاصق للقسطل ووقف له
أوقافا وذلك في سنة ١١٣٢. وتولى نقابة الأشراف بحلب. وكانت وفاته في السابع
والعشرين من رجب سنة ألف ومائة وسبع وثمانين رحمهمالله تعالى.
١١٨٣ ـ الشيخ حسن أفندي ابن أحمد أفندي الكواكبي المتوفى سنة ١٢٢٩
ترجمه العلامة
الشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي في تاريخه «حلية البشر» فقال في حقه :
الفاضل الألمعي
والكامل اللوذعي ، كعبة الأدباء ونخبة العلماء ، من اشتهر بالفضائل وشهد له السادة
الأفاضل.
مولده في ذي
الحجة سنة ثلاث وستين وماية وألف ، ونشأ بكنف والده ، وقرأ ونبل
وأقبل على العلم حتى حصل. وكان له في الأدب والشعر اليد الطولى. وتولى منصب
الإفتاء العام من طرف السلطان في مدينة حلب.
وكان حسن
الأخلاق كريم الطباع. وكان العلامة المرادي مفتي دمشق لما كان في حلب يتردد عليه
كثيرا وامتدحه بعدة قصائد ، وامتدحه المترجم كذلك ، فمن نظمه فيه :
حبذا حبذا
اتفاق الزمان
|
|
بموافاة سيد
العرفان
|
يا رعى الله
يومنا حيث فيه
|
|
شرفوا حيّنا ونلنا
الأماني
|
قادة شيدوا
منار المعالي
|
|
وعلاهم يعلو
على كيوان
|
صفوة الشام
بل هم الأنجم
|
|
الزهر وأقمار
ذروة الدوران
|
عن ثقاة لقد
سمعنا علاهم
|
|
فعرفنا
مصداقها بالعيان
|
هم مرادي
وبغيتي ومرامي
|
|
ثم قصوى
بشائري وأماني
|
منهم سيد
همام بهيّ
|
|
كامل الذات
غرة الأعيان
|
روح أنس
ونزهة الدهر حقا
|
|
ذو صلاح
وعابد الرحمن
|
خصه الله
بالكمال مع اللطف
|
|
وأولاه
بالعلا والشان
|
وكذا الفاضل
الوقور علي
|
|
من علا
بالتقى وحذق البيان
|
جوهر خالص
ودر نضيد
|
|
فاق إجلاله
على الأقران
|
إن أجاد
النظام نذكر قسا
|
|
أو أفاد
العلوم كالنعمان
|
وكذا المصطفى
الشقيق المصفى
|
|
بارع الذهن
حائز الإفتنان
|
من له في
العلوم ذوق وتوق
|
|
وترق بها
وصدق اللسان
|
وكذا الكامل
الأديب سمي
|
|
حسن الذات من
بني الأسطواني
|
لا يزالون في
نعيم من العيش
|
|
مقيم على مدى
الأزمان
|
فأجابه الشيخ
خليل أفندي المرادي بقصيدة مطلعها :
حبذا حبذا
بلوغ الأماني
|
|
وبشير وافى
بعقد الجمان
|
وترجمه الشيخ
عبد الله العطائي في رسالته «الهمة القدسية» المدرجة بتمامها في ترجمته الآتي
ذكرها.
ومن آثاره كتاب
سماه «النفائح واللوائح من غرر المحاسن والمدائح» جمع فيه نظم
والده وما مدح به من شعراء عصره وما مدح به أسلافه ، وعقد لكل واحد من
هؤلاء الشعراء ترجمة ، وقد قدمنا ذلك في ترجمة أحمد أفندي أبي المترجم ، وقد أتينا
على ما فيه من تراجم أعيان الشهباء إلا قليلا.
وذكر صديقنا
الفاضل السيد مسعود أفندي الكواكبي في مجموعته التي جمع بها تراجم آل الكواكبي
نقلا عن مجموع جمعه عبد الله العطائي في مدائح الشيخ علي الجيلاني الحموي قال فيه
:
ولجامعه مادحا
جناب سيدنا الأستاذ لما خطر مدينة حلب المحروسة سنة تسع ومائتين وألف ودعاه السيد
حسن أفندي الكواكبي إلى داره المعروفة بدار عبد السلام وواصفا محاسن الدار ومثنيا
على صاحبها :
رعى الله
يوما قد قطفنا ثماره
|
|
بربع رحيب ما
أحيلى اخضراره
|
يفوح كما
الجنات عرفا ورونقا
|
|
فيمم بهاه في
المنى وبهاره
|
وإيوانه
السامي إلى فلك العلا
|
|
يحدث عن كسرى
ويبدي افتخاره
|
وحوض به ذوب
اللجين منضد
|
|
فلله ما أبهى
وأزهى نضاره
|
وغرفته
العليا المطل بناؤها
|
|
على الماء
مثل الفلك أجرى مداره
|
وهاتيكم
الأنوار في كل وجهة
|
|
كأن غزالا قد
أعار سواره
|
فسقيا لها
دار الفضائل أشرقت
|
|
بشمس المعالي
من شهدنا وقاره
|
أبي الحسن
الشهم الأجل الذي له
|
|
مقام من
العلياء فاق اشتهاره
|
فتى الباز
عبد القادر العلم الذي
|
|
له دانت
الأقطاب تبغي مزاره
|
أفاض من
العلم اللدنّي على ابنه
|
|
وأرحبه فضلا
وأزكى نجاره
|
لقد شرفت
شهباؤنا بقدومه
|
|
وأضحى مقر
الإبتهاج وجاره
|
نعمنا به
واليوم طابت ظلالنا
|
|
بمحتد مجد
شارف النسر داره
|
به كوكب
العلياء زاد ومشرق
|
|
يضيء من
الليل الدجيّ سراره
|
هو الشبل من
آساد مجد تسابقت
|
|
إلى المنصب
العالي فشاد نصاره
|
أبو العز
والإجلال والفضل والعلا
|
|
فلا زال
مغناه بخير وجاره
|
فيا حسن يوم
جاد فيه بأنسه
|
|
وزار ابن عبد
القادر الغوث داره
|
وصحبته ناس
كرام ذوو تقى
|
|
فلله ما أبهى
الحمى حين زاره
|
أطال إلهي
عمرهم وحباهمو
|
|
نوالا وأسدى
للجميع انتصاره
|
مدى الدهر ما
قال المحب بمدحهم
|
|
رعى الله
يوما قد قطفنا ثماره
|
أقول : وهو
واقف الدار العظيمة المعروفة قديما بسراي جانبولاد والآن بدار ابن عبد السلام في
محلة البندرة ، وتاريخ وقفه لها سنة ١٢٠٦ كما رأيته في كتاب وقفه لها في دائرة
الأوقاف ، وقد تقدم الكلام على هذه الدار في الجزء السادس (الترجمة ذات الرقم ٩٢١)
وفي هذا الجزء في (ص ١١٠).
وكانت وفاته
كما هو محرر على قبره في جامع جده أبي يحيى في رجب الفرد سنة ألف ومائتين وتسع
وعشرين رحمهالله تعالى.
١١٨٤ ـ الشيخ عبد الله بن محمد العقاد المتوفى سنة ١٢٢٩
الشيخ عبد الله
بن محمد بن طه بن أحمد العقاد الحلبي الشافعي ، أبو البركات جمال الدين ، العالم
الفاضل والمحدث الكامل ، شيخ القراء في حلب الشهباء ، زين الثقاة جمال الرواة.
مولده يوم عيد
الأضحى سنة خمس وستين وماية وألف. وقرأ القرآن وحفظه وتلاه مجودا ، وقرأ القراءات
السبع من طريق الشاطبية. واشتغل بالتحصيل والأخذ والانتفاع ، وقرأ وسمع وأخذ
الفنون المتنوعة عن كثير من السادة المشايخ في المدة الطويلة ، منهم والده وجل
انتفاعه عليه ، وأبو السعادات طه بن مهنا الجبريني ، وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد
الشراباتي ، ومصطفى بن عبد القادر الملقي ، وأبو عبد الله محمد بن محمد الأريحاوي
، وأبو عبد الله محمد بن صالح المواهبي ، وأبو محمد عبد القادر بن عبد الكريم
الديري ، والشمس محمد بن مصطفى البصيري شيخ القراء بحلب ، والمقري زين الدين عمر
بن شاهين ، والتاج عبد الوهاب بن أحمد المصري ، وأبو عبد الله محمد بن محمد
التافلاني ، ولطف الله بن أحمد الأرضرومي ، وعلاء الدين محمد بن محمد الطيب
المغربي ، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلسي مفتي الحنفية ، وأبو الحسن علي
الرابقي ، وأبو داود سليمان ابن أحمد الكليسي المفتي ، وأبو بكر بن أحمد الهلالي
القادري ، وأبو إسحق عبد الجواد ابن أحمد الكيالي ، وأبو الفرج عبد الرحمن بن عبد
الله الحنبلي ، والشهاب أحمد بن عبد
الله العطار الدمشقي ، والشمس محمد حاجي بن علي المفتي (دفين المدرسة
الخسروية) ، وعبد الرحمن الدمشقي بن إبراهيم المصري ، والشهاب أحمد بن إبراهيم
الأربلي الكردي نزيل حلب ، وأبو عبد الله محمد الصوراني الكوراني ، وأبو العدل
قاسم بن علي التونسي المغربي ، وأبو جعفر منصور بن مصطفى السرميني ، وأبو الفضل
فخر الدين عثمان بن عبد الرحمن العقيلي ، وأبو عبد الله طاهر الحنفي ، وأبو العباس
أحمد بن أحمد المصري نزيل حلب ، والشهاب أحمد الكعّاك ، وأبو عبد الله محمد بن
حجازي السختياني ، وأبو عبد الله محمد الفرضي ، والشيخ شرف الدين المقري ، وأبو
عبد الله عبد الكافي بن حسين الإمام ، ومحمد بن زكريا المقري ، ومهذب الدين سعيد
بن عبد الله السويدي البغدادي ، ومحمد بن يوسف المفتي ، وأبو الإخلاص حسن بن عبد
الله البخشي ، وأبو الحسن محمد ابن صادق السندي نزيل مصر وغيرهم.
وسمع الكثير من
كتب الأحاديث الصحيحة والمسلسلات كحديث الرحمة وغيره.
وفضله لا زال
في ازدياد إلى أن اخترمته المنية بعد الألف ومايتين وخمس سنوات رحمهالله رحمة واسعة. ا ه. (حلية البشر).
أقول : كانت
وفاته سنة ألف ومايتين وتسع وعشرين في الطاعون ودفن في تربة الشعلة.
١١٨٥ ـ الشيخ طه بن محمد العقاد المتوفى سنة ١٢٢٩
الشيخ طه بن
محمد بن طه بن أحمد العقاد الحلبي الشافعي ، مفتي الشافعية بحلب ، العالم الفاضل ،
والهمام الجهبذ الكامل ، والتقي الصالح ، والنقي الراجح.
مولده سنة تسع
وخمسين ومائة وألف ، واشتغل بالأخذ والتحصيل في كنف والده وانتفع به وقرأ عليه
الكثير من الكتب والفنون ، ولازم الشيوخ وسمع عليهم أكثر من التلقي ، وله عدة
مشايخ سادة أفاضل ، منهم أبو سليمان صالح بن إبراهيم الجنيني الدمشقي ، وأبو يحيى
علاء الدين بن علي بن صادق الداغستاني.
ولم يزل يترقى
في الأخذ في العلوم والمعارف إلى أن خطفته المنية بعد الألف والمائتين وخمسة . ا ه. (حلية البشر).
__________________
أقول : كانت
وفاته بالطاعون سنة ألف ومايتين وتسع وعشرين ودفن في تربة الشعلة بجانب أخيه
وأبيه.
١١٨٦ ـ أحمد بن طه الأشرفي المتوفى سنة ١٢٢٩
أحمد بن طه
الأشرفي ، الحافظ الخطيب وكالة والواعظ أصالة بالجامع الكبير الأموي.
قرأ على
إسماعيل المواهبي وعلى الشريف مصطفى الكوراني وعلى قاسم المغربي وغيرهم ، وحصل
طرفا من العلم.
وكان سليم
الصدر سخي الكف محبا للضيوف. كان له تردد على الجابريين ، وكان كتبيا وجمع من
الكتب نوابغها بسبب ذلك. وكان رحمهالله غير متصنع متحملا متجملا ، وكان بيننا وبينه مودة أكيدة
، وكان يحملني على شراء الكتب شئت أو أبيت ، وله عليّ في ذلك اليد البيضاء جزاه
الله خيرا.
وجرى على يديه مثوبة
عظيمة لما أراد الله به من الخير ، وذلك أنه كان بجوار خان قباد مسجد قديم استولى
عليه سكان الخان المذكور بطول الزمان من الإفرنج وجعلوه معدا لطرح قماماتهم من
شبابيك الخان العلوية ، فتلطف إلى أن أظهر هذا المسجد للناس وفتحه ورممه ، واستعان
بأهل الخير ونصره الله تعالى على من مانعه في ذلك ، ولما أعياهم أمره أرسلوا إليه
خفية رشوة على أن يترك لهم هذا المكان على حاله ، فعصمه الله من قبول رشوتهم ولم
يعبأ بذلك إلى أن تم فتحه على يده ، ولم يزل إلى الآن هذا المسجد تقام فيه الصلوات
ويرجى له كل خير بهذه المثوبة.
ثم إنه في
طاعون سنة ١٢٢٩ توفي مطعونا ودفن في مقبرة باب الفرج المسماة بالعبّارة رحمهالله تعالى. ا ه. (من مجموعة أبي الوفا).
١١٨٧ ـ الشيخ هاشم الكلّاسي المتوفى سنة ١٢٢٩
الشيخ هاشم
الكلّاسي ، العالم الفاضل الأديب. ترجمه عبد الله العطائي الصحاف في رسالته «الهمة
القدسية» التي أدرجناها بتمامها في ترجمته.
توفي في عينتاب
سنة ١٢٢٩.
١١٨٨ ـ الشيخ محمد الصوراني المتوفى سنة ١٢٣١
الشيخ محمد
الصوراني الكردي. لم أقف له على ترجمة ، غير أن الشيخ أبا الوفا الرفاعي ذكره في
جملة من أراد ترجمتهم من أعيان الشهباء ووصفه في منظومته في سكان حلب بالعارف
المحقق الرباني.
وقد كانت وفاته
في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة سنة ١٢٣١ كما هو منقوش على لوح قبره في تربة
السنابلة ظاهر باب أنطاكية على طرفها ، وكتب عليه أنه كان قادري الطريقة ، وإلى
جانبه قبر ولديه الشيخ محمد درويش المتوفى سنة ١٢٢٩ والشيخ عبد الله المتوفى سنة
١٢٣٠ ، فتكون وفاتهما قبل وفاة أبيهما ، وقد كتب على قبريهما أنهما ابنا عمدة
العلماء العاملين وتاج المحدثين الشيخ محمد الصوراني. ويغلب على ظني أنه كان مدرس
المدرسة الأحمدية في حلب.
١١٨٩ ـ محمد أفندي العيّاشي الإدلبي المتوفى سنة ١٢٣١
محمد أفندي بن
حسن بن أحمد الأدلبي الشهير بالعيّاشي ، المتصل نسبهم بالولي الشهير الشيخ جميل
العراقي قدس الله سره.
كان رحمهالله سخيا جوادا ، انتهت إليه الرياسة في بلدته واشتهر كرمه
في الآفاق ، واكب على مدحه الشعراء وقصد بره النبلاء. وكان ذا سعة من المال.
وممن مدحه
الشيخ مصطفى الكردي الحلبي بقصيدة طويلة مطلعها :
أذكرتني عهد
أنس أيها الواشي
|
|
بحب ظبي على
وصل الجفا ناشي
|
ودأبه كسر
قلبي مع طلاوته
|
|
بكسر جفنيه
لم يركن لحراش
|
أهابه إذا
أرى سلطان بهجته
|
|
كضيغم فارس
الفرسان رعاش
|
على الجبين
حياء إذ حوى خجلا
|
|
فما أحيلاه
إذ وافى بتدهاش
|
إلى أن قال في
التخلص :
وقم بذا
نلتقي يوما لذي كرم
|
|
ذاك الحميد
الثنا السامي ابن عياش
|
وانهض لنحو
سجايا عنده حسنت
|
|
وجز رحيب
حماه خاضعا خاشي
|
فإنه المنهل
المنهلّ في نشب
|
|
من طاب في
نسب منه الجدا فاشي
|
ومنها :
بشراك يا
إدلب الفيحا به سندا
|
|
كم كفّ عنك
بكفّ شر أوباش
|
كما الفساد
أقاموا مع أساتذهم
|
|
لأهل عرض
بتبكيت وتغواش
|
حتى العدا
وصلوا للاعتدا وصلوا
|
|
على الأعالي
بإعنات وإخداش
|
فأظهر الله
من أبدى به مددا
|
|
لما مضت مدد
فيهم بتر عاش
|
فكا لمجدد
وافى بالصلاح وبال
|
|
رحمن لهم
والتقى في حسن تنعاش
|
لذا غدت مثل
جنات تلوذ به
|
|
حصنا حصينا
بتدبير لتجياش
|
سديد حزم
بآراء بها ثقة
|
|
شديد عزم
بتجهيز لأجياش
|
سجية خصه
الله الكريم بها
|
|
جبلة الطير
مبناها لأعشاش
|
أعني أبا
الحسن العالي الجناب ومن
|
|
بالحلم شاع
ولم يعرف ببطاش
|
الطاهر الذيل
والزاكي الطباع ترى
|
|
أوفى عزيز
العطايا عنده لا شي
|
على الشهامة
والإكرام منجبل
|
|
ثبت الفؤاد
رسوخ لا بغواش
|
ما أم مثواه
ذو ضنك وذو خجل
|
|
إلا استقام
بأمن بعد إرعاش
|
ما جاءه
قاصدا من ضاق في خجل
|
|
إلا وخاطبه
دع مقول الواشي
|
وادخل حمى
عامرا فيه الجدود نمت
|
|
لهم أياد من
الأيدي بإدهاش
|
تراه مستحضرا
مهما الضيوف غدت
|
|
صبحا رواحا
وليلا أو بأغباش
|
لا يعتريه
انزعاج من تراكمهم
|
|
ولا يعكر منه
قدر منكاش
|
قدوره راسيات
قد وهت حد ما
|
|
في الشكل
أجسامهم في لون أحباش
|
تشكو الرماد
الأثافي حيث غمرهم
|
|
والله عمرهم
بالسيد الماشي
|
وهي طويلة جدا
اقتصرنا منها على هذا المقدار.
وكان توجه في
قضية له إلى الشام ، ولما وصل حماة وحل ضيفا عند السادة الكيلانية امتدحه الشيخ
عثمان الحموي المشهور بقصيدة قال في مطلعها :
أهلا وسهلا
بمن تحلو به الشيم
|
|
ومرحبا بالذي
ساحاته حرم
|
__________________
بحر النوال
مجير الخائفين ومن
|
|
تلاهجت بثناه
العرب والعجم
|
محمد خلفة
العيّاش من شهدت
|
|
له الكمالات
والعرفان والحكم
|
لا شك سرت
حماة الشام وامتلأت
|
|
عند القدوم
سرورا وانتفى الألم
|
تزهو المجالس
في إشراق طلعته
|
|
كأنه مفرد في
وصفه علم
|
ترتد عنه
العدا بالذل خاسرة
|
|
يثنيهم عن
علاه المجد والكرم
|
كأن إدلبهم
كالجسم وهو لها
|
|
روح وإن غاب
عنها عمها الظلم
|
إلى أن يقول :
فلم يزل في
سعادات مؤبدة
|
|
دهرا على
بابه الوراد تزدحم
|
وكانت ولادته
سنة ١١٧٠ ووفاته سنة ألف ومايتين وإحدى وثلاثين. ا ه.
١١٩٠ ـ الشيخ إسماعيل بن عبد الجواد الكيّالي المتوفى سنة ١٢٣٢
إسماعيل بن عبد
الجواد بن أحمد الكيّالي الرفاعي. قال الشيخ أبو الوفا في ترجمته :
هو الولي ابن
الولي والسري ابن السري ، سادات أشراف ذوو أحوال وكرامات. كان إسماعيل هذا قرة عين
والده ، أخذ العلم عن الشيخ محمد العقاد ومحمد الصوراني . ونبغ واستفاد وأفاد ، وأذعن له بالفضل والتقدم علماء
عصره واحترمه أشياخه.
ولم يزل على
ذلك إلى أن عرض له عارض الجذب والهيام ، واختطف بيد العناية إلى مقامات الاصطلام
وألبس إهاب الهيبة فلا يكاد يطاق رهبة ووقارا ترك الاعتناء بالملابس وقنع بزريها ،
وكان قبل ذلك يلبس ملابس الأكابر يواجه الوزراء والأمراء والأعيان والصدور بالسب
والزجر وكلام الازدراء ، ولا يقدر أحد منهم أن يرد عليه جوابا أو
__________________
يظهر التبرم والضجر من مقاله ، وإذا وجد في مجالسهم كأنّ على رؤوسهم الطير
هيبة منه. وكان صادق الكشف خارق الحال ، يميل إلى الأصوات الحسان وينبسط إلى
الغناء والألحان ، وتارة يشارك المغنين والندمان ، ويظهر التواجد والطرب ، ويميل
إلى القهوة والتتن الفاخر وكل شيء مقبول لدى أهل الأذواق ، وكان آية من آيات الله.
وجرى لي معه
ماجريات وكشوفات ، منها أنه حكم في بلدتنا الشهباء قاض شهرته بربر زاده ، يعني ابن
الحلاق ، وذلك بتاريخ سنة ١٢٢٦ ، فاقتضى وقع بيننا نفسانية أدت إلى أن فأجأته بما
لا ينبغي حتى خاف عليّ من سطوته بعض أحبابنا. ثم في ذلك الغضون توجهت لزيارة
الأستاذ المشار إليه ولنتبرك بأنفاسه ، فصادف ذلك اليوم أن كان تجليه جمالا ، وكان
نهار الأحد ، وطال المجلس إلى وقت العصر وميعاد التوحيد عندنا في الزاوية بعد
العصر ، فصرت أحاول الإذن لي في الذهاب فلم يأذن إلى أن كادت الشمس تغرب ، فإذا به
قام من المجلس وقال لي : تفضلوا سيدي ، وخرج من الزاوية ، فتبعته ولم أقدر أن
أسأله إلى أين ، فتوجه إلى المحكمة لعند القاضي المزبور ، فأردت أن أفارقه على باب
المحكمة ، فالتفت إليّ وقال : تفضلوا سيدي ، فدخلت معه امتثالا لأمره ، فدخل على
القاضي فاستقبله وقبل يده ، وقبل أن يجلس وأجلس خاطب القاضي بقوله : سيدي
نسب أقرب في
شرع الهوى
|
|
بيننا من نسب
من أبوي
|
وإلا ينعلوا
أبو دقنك ، ثم دخل وتعشى عند القاضي وعشاني معه ، ثم خرجنا فقال :
اذهب إلى سكانك
، وهذا البيت لسيدي عمر بن الفارض قدسسره من اليائية ، فإنه أشار إلى القاضي أن نسبتي ونسبة هذا
أقرب من النسبة الأبوية ، فتأدب وإلا تخسر. فما مضى مدة من الزمن إلا وقد صار
القاضي مدينا منكوبا ، وذهب إلى الشام ثم إلى مصر وعاد إلى الآستانة أعمى كأنه
أصابه الأستاذ بسهم وفعل كما قال من أنهم ينعلو أبو ذقنه إشارة إلى اضمحلال الحال.
ومنها أنه لما
كان إبراهيم باشا قطر آغاسي مرفوع الوزارة متقاعدا في تكية الشيخ أبي بكر الوفائي
قدست أسراره صار يتوجه الأستاذ إلى زيارته ويذكر في كلامه ما يشير إلى رجوع
الوزارة إليه ، ويلبسه الأكراك والخلع ، فما مضى مدة إلا وعادت إليه الوزارة وطلب
لملاقاة يوسف ضيا باشا الصدر الأعظم إلى أنطاكية ، فخرج من حلب ولقيه في أنطاكية
وخلع عليه خلع الوزارة وتوجه معه إلى سفر مصر واستنقاذها من الفرنساوية ،
فعين إبراهيم باشا إلى دمياط ويسر الله له فتحها ، وكانت أول بلدة استحوذ عليها
المسلمون من إقليم مصر وأخذوها من الإفرنج وتتابعت الفتوحات والحمد لله تعالى.
ومنها أنه كان
ملازما للشيخ إسماعيل المواهبي في خلوته الأربعينية غالبا ، وكان يجري معه أشياء
لا يقدر أحد على إجرائها من المعاصرين كأنه متحكم فيه وفي مجالسه ، فتغالى ليلة من
الليالي في ذلك وسطا على بعض إخوان المواهبي بهذيان اللسان ، والمواهبي متحمل لذلك
كله على مضض ، فهم بعض إخوان الشيخ المتعصبين بإهانة الأستاذ في صورة لا يعود
بعدها إلى حضور الخلوة ، فخرج ليلا من الزاوية الصالحية واختفى في مكان ، حتى إذا
مر به الأستاذ أوقع به إما ضربا أو تخويفا ، واستصحب معه عصاة إذا احتاجها ، فلما
مر به الأستاذ وهم بما في ضميره أخذته رعدة وخشية وتراخت أعضاؤه ، وبقي على ذلك
حتى مر الأستاذ وغاب فانطلق وعاد إليه حاله وتاب من ذلك.
وكان أشياخه
الدين قرأ عليهم وانتفع منهم كالشيخ العقاد والصوراني يعظمونه ويهابونه ويعترفون
له بالفضل والتفرد ، وأنه لو بقي على حاله الأول ولم يحصل له هذا الجذب كان فاق
العلماء الأول تحقيقا وتدقيقا. وكان في حال صحوه لم يقع في يده كتاب من كتب
العلماء إلا ويشاكل فيه المؤلف إن كان متنا أو شرحا ، على الخصوص كتب القوم ، وقد
شاهدنا ما كتبه على ذلك والحق معه في كل ما يستشكله ويناقش به رحمهالله تعالى.
(وقال الشيخ
أبو الوفا الرفاعي في مجموعة له أخرى) :
إن السيد عبد
الجواد الكيالي أعقب أولادا نجباء ، منهم السيد الشيخ علي (المتوفى سنة ١٢٠٧ وقد
قدمنا ترجمته) والسيد إسحق وأخ جليل محترم برع في العلوم وطرأ عليه الجذب الإلهي
اسمه إسماعيل. وكان الأستاذ عبد الجواد والدهم قدسسره يتحدث بنعمة الله ويقول (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ). ولما توفي الشيخ علي إلى رحمة الله وكان الجذب تزايد
على أخيه الشيخ إسماعيل وألف الوحدة فأخرج حرم أخيه المتوفى ومن يلوذ به على صورة
العنف والإهانة من الدار ، فبلغ الخبر أخاه الشيخ إسحق فغضب لذلك ودار بينهما أمر
المشاجرة ، فقال إسحق لإسماعيل : الموعد بيني وبينك ستون
__________________
يوما ، إما أن تقتلني يعني بالقلب أو أقتلك ، وخرج من الزاوية ، فما مضى
إلا ستون يوما حتى انتقل إسحق ، وبقي الشيخ في الزاوية وحده وظهر قدسسره بمظهر عجيب.
وكان مهابا
موقرا يشافه الوزراء والأمراء والحكام والقضاة بالمكروه فلا يقدر أحد منهم على
الجواب ويتحاشون من قلبه ويخافون. وكان تارة يتكلم بكلام لا يفهم وتارة يشير إلى
أمر مبهم يفهمه من يفهم ، له كشف صريح ، وسر يسري بمريض القلب والصحيح. وقع لي غير
مرة قدست أسراره منه ملاحظات ظاهرة وباطنة ، وكان يحبني ولا يتخلى عني.
وكان بعد
الثلاثين والمائتين خرج إلى إدلب ، ثم منها إلى الساحل ، ثم إلى الشام ومعه من
أقاربه وأتباعه جماعة ، ثم عاد إلى إدلب ، فاشتد شوق أهل حلب إليه خصوصا الوجوه
المشاهدين بركاته ، فتعاطوا أسباب تشريفه وأرسلوا له مرسالا خفية ليحسن له القدوم
إلى حلب أو إلى أقاربه ، وكان في سرمين فأبى إلا التوجه إلى إدلب ، وقام في الحال
وتوجه إليها ، فوصلها فما استقام إلا حصة يسيرة حتى تغيرت أحواله وانزوى في جهة
البيت وقال لمن حضر : أصابتني رجة سماوية ، وطلب النزول إلى حلب حالا ، فحاوله
الأقارب وحسنوا له الإقامة في إدلب لينظروا في حاله فلم يمكن ، وقال : اخترت أولا
مقابر إدلب فلم يحصل الإذن إلا في مقابر حلب ، فأركبوه في الحال وهم معه ، فلما
وصل إلى قرية بنّش بال الدم مرات وعجز عن الركوب ، وصار ينزل عن ظهر الدابة ويضطجع
في الأرض ، فعل ذلك مرات إلى أن وصل إلى خانطومان فحصل له إفاقة ووصل إلى حلب كأنه
نشط من عقال ، وأقام في الزاوية معه أقاربه مقدار يومين ، ثم في اليوم الثالث دخل الحمّام
فخرج منها وقد عادت عليه الحال كما كانت أولا ، وصار يبصق الدم ، وكل يوم في
ازدياد إلى أن أدركه الموت ووقع أجره على الله ليلا في أوائل شوال سنة ١٢٣٢ ألف
ومائتين واثنتين وثلاثين ولم يصل إلى عشر الستين في السن.
وكان لهذا
الأستاذ إسماعيل ولد اسمه علي ، وكان لا يألفه ولا يؤويه ، ولكن لا عن بغض لكون
هذه الطائفة المباركة عادتهم إيواء البعداء وطرد القرباء لحكمة إلهية. ثم إن الشيخ
إسماعيل طرد ابنه عليا هذا بالقلب بعد أن تزوج وولد له ، فأقام في سرمين عند
شقيقته وبني عمه إلى أن توفي وجاء خبر موته إلى حلب سنة ... وكنا ذلك اليوم
__________________
مدعوين في بيت عبد الرحمن الحريري ، وكان محمد باشا أبو مرق وقدسي أفندي
والجابريون وابن السياف والأوجاقلية جمعية حافلة ، وكان الأستاذ مدعوا أيضا ، ولم
يجسر أحد من الموجودين على إخبار الأستاذ بموت ولده ، فما كان إلا بعد حصة تغيرت
أطواره وانعزل عن الجماعة إلى قبة الإيوان وجلس منفردا ، فقمت ودخلت القبة فرأيت
أثر الحزن ظاهرا عليه ، لكنه لم يتكلم بشيء ، فدعاني وألبسني طاقيته وبش في وجهي ،
فاستأذنته في إحضار جبق ليشرب ، فأذن فأمرت من أتى به فشرب التوتن ، ثم وانسته
ووانسني وتقوض المجلس بعد الطعام وتفرقنا.
وكان رحمهالله يميل إلى الفقير جدا ، ومن جملة ميله لي أن ولده الشيخ
علي المومى إليه استأذنه في طلب مشيخة الزاوية الصالحية بواسطة بعض المتقربين إليه
بعد وفاة الشيخ أحمد المواهبي فلم يأذن ، فقال له المستأذن : يا سيدي ، إذا أذنتم
له يحصل الخير ويجمع الناس على الذكر والتوحيد ، فكان الجواب : إذا أراد الذكر
والتوحيد فليذهب إلى زوايا الشيخ أبي الوفا.
وخلف بعده
ولدين كانا في الصحو وطلب العلم ومعاشرة الناس ، ثم طرأ على الكبير منهم واسمه
محمد الجذب والخمول والذبول والحال أنه من سلاطين الناس ، فحبب إليه الانزواء ،
ولم يزل يتزايد حاله ويحسن الاعتقاد فيه. ثم تبعه أخوه عبد القادر وتقشف واخشوشن
تارة وتنعم أخرى إلى أن اختار خشونة العيش والقلوب مطبقة على ولايتهما وأهليتهما
وأنهما سلالة قوم أجلاء أولياء. وابتلي محمد بحملات الطريق وصار يضعف عن تحملها ،
إلى أن طال مرضه بالاستسقاء وأزمن وانتقل إلى رحمة الله تعالى في ذي الحجة سنة
١٢٥٥.
١١٩١ ـ الشيخ عبد الله العطائي الصحّاف المتوفى سنة ١٢٣٣
الشيخ عبد الله
بن الشيخ عطاء الله ابن الحاج عبد الله المشهور نسبه ببني الخوجة .
رأيت ترجمته في
ورقة بخطه قال فيها :
__________________
هذا وقد جرت
عادة العلماء قدس الله أرواحهم الطاهرة أن يذكروا عند ختم الدروس مشايخهم في
الدراية والرواية ، ومن انتمى إليه في سلوك سبل الهداية ، وإن هذا العبد الفقير
ليس من فرسان هذا الميدان ، ولا يذكر في حلبة سباق ولا رهان :
ولكن البلاد
إذا اضمحلت
|
|
وأقفر نبتها
رعي الهشيم
|
والقصد الأعلى
من ذلك التبرك بأنفاسهم الزكية ، والاستئناس بمراتبهم العلية ، وعند ذكر الصالحين
تنزل الرحمة ، وتستمطر غيوث النعمة ، والتشبه بالكرام فلاح ، ومحبة الصالحين صلاح
، فأقول وبالله التوفيق.
من مشايخي
الكرام بل أعزهم عندي وأجلهم إليّ بوأه الله دار السلام والدي الهمام البارع أبو
الفضل الشيخ عطاء الله بن الحاج عبد الله المشهور نسبه ببني الخوجة ، قرأت عليه
المقدمات في النحو والعروض ، وأخذت عنه الفقه وغذاني بجميل المعارف ، وأسبغ عليّ
ظلال العوارف ، وانتفعت به علما ودينا وأكثر اشتغالي عليه ، فرحم الله ثراه ،
وبلغه من وجه الكريم أقصى مناه.
ومنهم علامة
العصر وخاتمة فضلاء الدهر أبو اليمن محمد المعروف بالعقاد ، كان رحمهالله شيخ والدي ، وكان يحضرني عنده الدروس الحديثية والتفسير
، وسمعت من فوائده وانتفعت بعوائده ، فعليه رحمة الرحمن في كل عهد وآن.
ومنهم عمدة
العلماء وقدوة الأصفياء أبو البركات عثمان بن عبد الرحمن العقيلي ، حضرت دروسه في
الجامع الصغير ، وقرأت عليه حصة يسيرة في العربية ، وشملتني بركاته ونفحاته.
ومنهم قدوة
الأفاضل الشيخ قاسم المغربي التونسي المالكي ، قرأت عليه كثيرا وحضرت عنده في
المغني لابن هشام في شرح الألفية للبدر ابن مالك وفي الشافية لابن الحاجب وفي غير
ذلك ، وانتفعت بتحقيقاته وشمول بركاته.
ومنهم فقيه
العصر عبد القادر الديري الشافعي ، بل شافعي زمانه ورافعي أوانه ، حضرت عنده في
شرح المنهج لشيخ الإسلام وفي المنهاج للقطب النووي وفي غير ذلك من فقه الإمام
الشافعي ، وتيمنت بفضائله وانتقيت محاسن شمائله.
ومنهم الجهبذ
الأوحد أبو عبد الله محمد التاسوماتي ، قرأت عليه جملة وافرة من توضيح ابن هشام
والسلم المنورق للأخضري ، واقتبست من أشعة أنواره ومحاسن آثاره.
ومنهم جامع
المعارف والتحقيق أبو زكريا يحيى المسالخي ، حضرت عنده في المنهاج ، وقرأت عليه
جملة من شرح الغاية للخطيب الشربيني ، واغترفت من بحار علومه واقتديت بدراري
فهومه.
ومنهم أوحد
الفضائل السيد مصطفى أفندي الكوراني ، قرأت عليه التلخيص في المعاني والبيان وجل
المغني لابن هشام وحضرت عنده في ملتقى الأبحر وغيره ، وشملتني لطائفه ومواهبه.
ومنهم بحر
التحقيق السيد محمد أفندي الأسبيري المفتي ، حضرت عنده في الأشباه ، وقرأت عليه
الأثيرية وغيرها وانتفعت به.
ومنهم بارع
الفضائل أبو السعد عمر بن عبد الله الخفاف ، صحبته كثيرا ، وقرأت عليه جملة من
الأشموني وحصة من المختصر وتهذيب المنطق والملوي على السمرقندية وغير ذلك ، وأخذت
عنه علم الأدب والشعر ، فرحم الله ثراه.
ومنهم القدوة
الكامل أبو عبد الله محمد الغرابيلي ، قرأت عليه النزهة ورقايق الحقايق واللمعة ،
وانتفعت به في علم الميقات وغيره.
ومنهم مسند
العصر أبو المواهب إسماعيل بن محمد المواهبي ، قرأت عليه جملة من التنوير وشرحه
للعلائي ، وسمعت عليه صحيح الإمام البخاري بطرفيه إلا يسيرا ، وأجازني إجازة عامة
بما تجوز له روايته وخاصة بالبخاري وكتب لي الإجازة غير مرة ، وشملني ببركته ونظره
الشريف.
ومنهم نخبة
الأعلام أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الميقاتي الشامي المحتد الحنبلي ، قرأت
عليه في علم الميقات وانتفعت به. ا ه.
ومن نظمه كما
وجدته في بعض المجاميع الحلبية والبيت الأخير لمنلا جامي :
مليح ذيول
البها ساحب
|
|
كأن العرين
له صاحب
|
حوى في المحاسن
سلطانها
|
|
لذاك نفوس
الورى سالب
|
فما قده غير
غصن النقا
|
|
ظليل الفؤاد
له جانب
|
يكاد من
اللطف أن ينثني
|
|
وقلبي عليه
هو الواجب
|
فلا تعتبوني
على حبه
|
|
فإن الهوى
سهمه صائب
|
ومن كان مثلي
قتيل العيون
|
|
فليس على
مثله حاجب
|
تهتكت في
شادن ألثغ
|
|
أنا في
ذوائبه ذائب
|
وما خده غير
خضر الجنان
|
|
وماء محاسنها
ساكب
|
(ولو لم يكن ثغره جوهرا
|
|
لما دار من
حوله الشارب)
|
ومن نظمه كما
وجدته بهذا المجموع :
عارض الخد
عذار دائر
|
|
دوران الليل
في ضوء الشفق
|
وغدا يسري
بداجي شعره
|
|
فوق خال مسكه
ثم عبق
|
قائلا للخد
هذا خادمي
|
|
وأنا مالكه
راق ورق
|
حجتي في رقه
بينة
|
|
ودليلي أن من
لوني سرق
|
فانتضى الطرف
له سيف القضا
|
|
حين شام الخد
بالملك سبق
|
أيد العارض
فيما يدعي
|
|
ثم نادى
بالذي أبدى القلق
|
أيها النعمان
في مذهبكم
|
|
من ترى أولى
إذا الحكم افترق
|
قال إني حاكم
في شأنه
|
|
حجة الخارج
بالملك أحق
|
وترجمه الأستاذ
الشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي في تاريخه «حلية البشر» ووصفه بالشاعر الأديب
والبارع الأريب ، وبعد أن ذكر مشايخه الذين قدمنا ذكرهم قال :
وأقبل على نظم
الشعر فنظم ونثر ، وكان من الأدباء البارعين. ولما سافر العالم المؤرخ الفاضل محمد
خليل أفندي المرادي إلى حلب سنة خمس ومايتين وألف اجتمع المترجم به فأخذ عنه
واستجازه ، ونظم هذه القصيدة يمدحه ويهنيه بعيد الفطر :
أبدت لنا
الورقاء من ألحانها
|
|
سجعا ينوب عن
السلاف وحانها
|
تثني على
أيامك الغر التي
|
|
هي عندنا
الأعياد في أعيانها
|
فترنحت تلك
الغصون صبابة
|
|
وسرت حميا
الأنس في عيدانها
|
وتأرجت
أزهارها وتبلجت
|
|
أنوارها
وافتر ثغر أوانها
|
فالنشر ند
والمحاسن غادة
|
|
وطفا الحباب
على عقود جمانها
|
طارحتها شكوى
الغرام وحالتي
|
|
وهوى أقام
على حمى أوطانها
|
أخبار حب قد
روتها أدمعي
|
|
وتسلسلت في
الخد عن نعمانها
|
كادت بلطف
حديثنا وسماعه
|
|
أن ترسل
العبرات من أجفانها
|
حتى درت ما
ذا أكابد في الهوى
|
|
وتعرفت صدق
الهوى بعيانها
|
ذكرت لتجديد
العهود مواعدا
|
|
يجب الوفاء
بها على ندمانها
|
|
واستقبلت عود
الأماني باللقا
|
|
لقدوم عيد
الفطر من إبانها
|
فيه يهنى
واحد المجد الذي
|
|
ثنى ذكاء في
سمو مكانها
|
المشتري رتب
الكمال من العلا
|
|
والواهب
الجوزاء من كيوانها
|
المنتقى من
أكرمين أعاظم
|
|
نالوا الثوابت
من لدى دورانها
|
شم العرانين
الفخام إلى السها
|
|
من غيرها
يزهو على أخدانها
|
فهم الصدور
مهابة وجلالة
|
|
وهم البدور
طوالعا في آنها
|
والجود ألقى
في ذراهم رحله
|
|
إذ كذبوا
الأنواء في هتانها
|
والعلم
والتقوى شعار مقامهم
|
|
وسنا المحامد
مخبر عن شانها
|
ما ثم إلا
وارد أو صادر
|
|
شكر السحائب
في ندى إحسانها
|
فاذكر مرادك
عندهم تلق المنى
|
|
وتساعد
الأقدار في جريانها
|
وهي طويلة
وحسبنا منها هذا المقدار. وكتب يمدحه أيضا :
بحقكما هبا
فقد سطع الفجر
|
|
وأذّن داعيه
ألا وجب الأمر
|
وفي الطير
والأفنان شاد ومائس
|
|
غناء ولا هجر
ووصل ولا هجر
|
ومن نشرها
ريح الصبا عطر الربا
|
|
إذا ضمها من
نحو كاظمة النشر
|
ودارت حميانا
على البر والتقى
|
|
حميا عفاف ما
على ربها حجر
|
سلافة قوم لم
يذوقوا مدامة
|
|
ولا خامروا
خمرا ولا نالها وزر
|
نعم سمعوا
يوما أحاديث ماجد
|
|
هي الدر قد
وافى بتنظيمها الثغر
|
هو البحر
يرجى للعواطل دره
|
|
كما أنه يحوي
مناهله القطر
|
ثمال عفاة في
المآتم والأسى
|
|
وحين صروف
الدهر حان لها الغدر
|
بقية أسلاف
كرام تقدموا
|
|
ومن سنن
الآداب أن يختم الصدر
|
إمام المعالي
يقتدي أهلها به
|
|
وقطب العوالي
رقه الشمس والبدر
|
بجدّ وجدّ
ساد أمة جيله
|
|
وشاد ذرى ما
فوق ذروته قدر
|
ومنها :
فيا من به
يستطلع البدر سعده
|
|
وفاقا لعلياه
كما اتضح الأمر
|
لأنت مراد
الفضل وابن مراده
|
|
وعامر ركن
المجد طال لك العمر
|
بقيت مدى
الأيام إربا لأهلها
|
|
يسود بها
الراجي ويتضح الغمر
|
ويثني عليك
الحظ أبيض ناصعا
|
|
وتخرس أعداء
الأبالسة الحمر
|
وعيشك
والأيام والدهر والمنى
|
|
رضي وأعياد
وطوعك والأمر
|
وكتب إليه أيضا
يمدحه :
يا در در
الجمال ما صنعا
|
|
أسيره دون
نيله قنعا
|
أعز قوما بعز
منصبه
|
|
وكلنا هيبة
له خضعا
|
فمن مجيري من
أسر غانية
|
|
غيداء في
القلب طيفها رتعا
|
رخيمة رخصة
المعاطف وال
|
|
بنان تشكو من
حيلها الجزعا
|
أهدى إلي
السقام ناظرها
|
|
قاسيت سهدا
لكنه هجعا
|
عسالة القد
والمباسم وال
|
|
تحديث تشفي
الطعان والوجعا
|
فالغصن في
الروض فرع قامتها
|
|
والبدر في
أفق وجهها طلعا
|
كأنه ازدان
من محاسن من
|
|
حاز التقى
والكمال والورعا
|
بقية السادة
الأولى جمعوا
|
|
مناقب العلم
والصلاح معا
|
وهي طويلة
أيضا. وكتب له يمدحه أيضا :
ولهي بكم في
غدوتي ورواحي
|
|
وله العليل
إلى شذا الأرواح
|
وترنمي في
مدحكم بين الملا
|
|
روحي وندماني
وملء الراح
|
وصدى يراعي
إذ يراعي ذكركم
|
|
عودي الرخيم
ورنة الأقداح
|
وطروسي
اللاتي حوين سناءكم
|
|
صفحات غراء
الجبين رداح
|
ومدادها نقش
البنان من الدمى
|
|
والنقط خيلان
البياض الماحي
|
أبني الأيادي
الهاشمية والأك
|
|
ف الحاتمية
والندى المياح
|
الصاعدين إلى
الكمال بلا انتها
|
|
والمحرزين
المجد دون براح
|
من منكم قطب
الوجود مرادنا
|
|
روح المكارم
بلبل الأفراح
|
وحفيده علامة
العصر الذي
|
|
هو جوهر من
فالق الإصباح
|
السائر
الأخبار في آفاقه
|
|
ذكر يضوع
بنشره الفواح
|
من ليس يرغب
عن مدائحه شج
|
|
متهيم وأطاع
فيه اللاحي
|
ويك اتئد يا
عاذلي أنا مغرم
|
|
في وصفه أصبو
إلى التمداح
|
سكنت محبته
القلوب بأسرها
|
|
خلقا بدون
تعرض الأشباح
|
سر أبان إلى
النهى مرموزه
|
|
أن الوفاق
بعالم الأرواح
|
أخلصت تهنيتي
له بالصوم في
|
|
هذا الربيع
الوارق الأدواح
|
لرجاء نيل
القرب من ساحاته
|
|
ثم التملي
بالسنا الوضاح
|
ظل ظليل في
المهامه وارف
|
|
خل خليل بحر
كل سماح
|
لا زال يبقى
كل عام رافلا
|
|
متوشحا
بالمجد كل وشاح
|
ما أهديت
لجنابه تحف الثنا
|
|
من مخلص ثمل
المودة صاح
|
أو ما يقول
أبو الكمال مصدرا
|
|
ولهي بكم في
غدوتي ورواحي
|
وله مخمسا
أبيات الصفي الحلي :
سايرتنا إلى
الليوث الحوامي
|
|
مرهفات إلى
الدماء ظوامي
|
ما الأعادي
إذا عدوا ما الروامي
|
|
إن أسيافنا
القصار الدوامي
|
صيرت
ملكنا طويل الدوام
|
قد وعينا
التلويح من كل مور
|
|
وقد حنا من
الزناد الموري
|
لم يشب حزمنا
ارتشاف خمور
|
|
نحن قوم لنا
سداد أمور
|
واقتحام
الأخطار من وقت حام
|
من يفد حيّنا
يعد بسلام
|
|
ليس يخشى من
سطوة وملام
|
ولنا القرن
طائع كغلام
|
|
واصطلام
الأعداء من وسط لام
|
واقتسام
الأموال من وقت سام
|
ا ه.
وفي رحلتي إلى
دمشق سنة ١٣٤٠ أطلعني العالم الفاضل والكاتب البارع صديقي
الشيخ عبد القادر المغربي الطرابلسي (نزيل دمشق) على مجموعة عنده لعلي
أفندي الكيلاني الحموي من أعيان حماة في القرن الثالث عشر ، فتصفحتها فرأيت فيها
ما نصه :
هذه الأبيات
تشطيرا وتخميسا إلى السيد عبد الله الحلبي العطائي لما كنا بحلب سنة ١٢٠٩ :
تسامت إلى
أعلى المنازل رتبتي
|
|
بمنصب ساداتي
وصحة نسبتي
|
غدت نشآت
الحق نسكي وقربتي
|
|
ولما صفا
وقتي بقرب أحبتي
|
تبلج
صبحي واستنارت كواكبه
|
هلموا إلى
هذا المقام ولطفه
|
|
إذا عبقت في
الشرق أنفاس عرفه
|
فإني لمشتاق
إلى طيب وصفه
|
|
ومذ نظر
الجيلي نحوي بطرفه
|
علمت
بأني نلت ما أنا طالبه
|
فيا شرفي
شارفت في القوم حضرة
|
|
محاسنها أسنى
من الشرق غرة
|
بها الباز
أولاني ندى ومسرة
|
|
وقرت به عيني
ونلت مسرة
|
فأعظم
به مولى تعالت مناقبه
|
أنا اللائذ
الحمي في ظل بابه
|
|
أصوغ اللآلي
في معالي جنابه
|
وكم نلت من
إقباله واقترابه
|
|
ملالي كاسي
من لذيذ شرابه
|
وشاهدت
وردا قد صفت لي مشاربه
|
وترجمه السيد
الكواكبي في «النفائح واللوائح» فقال :
هو الفاضل
الكامل ، الجامع ما تفرق من شمل الفضائل ، عبد الله بن عطاء الله الصحاف ، المتحلي
بمحاسن الأوصاف. مولده بحماة سنة ١١٦٤ ، ونشأ بحلب الشهباء ، وتضلع من فن العربية
حتى ضاهى العرب العرباء ، من بيت طيب قديم ، وقوم انتشوا في الصلاح وليس لهم سوى
الفضل والأدب نديم ، صديق الصدق وخدن الصلاح ، شقيق الندى وترب السماح ، دمث
الأخلاق ، كريم الأعراق ، سام في فنون العلم وسرح ، وأوضح متون الأدب وشرح. قرأ
الكثير على الكثير من علماء حلب واستفاد ، حتى تصدر للتدريس وأفاد ، في المدرسة
التي أنشأها والدي المبرور ، لا زال على ضريحه سحائب النور ،
__________________
ملازما بها لإفادة الطالبين ، محمود السيرة في الإيراد والإصدار ولكل فضل
مبين ، سالكا سبل النجاح والهدى ، متزرا بالعفاف وبالفضل ارتدى ، وله الأدب الغض ،
والنظم الرائق الذي ما وضع من قدره ناقل ولا غض ، سهم أدبه لشوا كل الأغراض مصيب ،
أحرز من الفضل أوفى سهم ونصيب ، جرى في مضمار القريض ملء عنانه ، وقلد الطروس أبهى
عقد من جواهر لفظه وبديع جمانه ، وهو من خواص أحبابنا والملازمين لنا ، ووالده
كذلك ، وله كمال المحبة والصداقة للمرحوم الوالد وأنه من أعز أحبابه ، وأخص ندمائه
وأترابه. وله مدائح كثيرة كأنها القلائد ، أو درر في جيد الزمان فرائد. وهو الآن
من الأحياء ، حماه الله من الأسواء. ثم أورد هنا مدائحه في والده السيد أحمد
الكواكبي ، منها تهنئته بعد مرض ألم به :
يا كوكب
المجد أنت المفرد العلم
|
|
وأنت مصباحنا
إن عمت الظلم
|
كأن شهباءنا
جسم وأنت لها
|
|
روح فما دمت
فيها ما بها ألم
|
فالمجد
والفضل مع حلم وعز تقى
|
|
والجود
والشرف الوضاح والكرم
|
إن دمت دامت
ولا يوجدن إن عدمت
|
|
أوصافك الغر
لا زالوا ولا عدموا
|
يا أوحد
العصر يا عز الأكارم يا
|
|
تاج الأماجد
إجلالا وإن عظموا
|
فالمجد مبتهل
والحلم يضرع في
|
|
بقاء ذاتك
ركن بل وملتزم
|
فلا أرانا بك
المولى سوى فرح
|
|
مع المسرات
فيها الدهر يبتسم
|
ولا برحت على
الشهباء كوكبها
|
|
ثغورها من
سنا علياك تبتسم
|
فإن داعي
التهاني جاء ينشدنا
|
|
لابن الحسين
وحق فيك ينتظم
|
(المجد عوفي إذ عوفيت والكرم
|
|
وزال عنك إلى
أعدائك الألم)
|
(ولا أخصك في برء بتهنئة
|
|
إذا سلمت فكل
الناس قد سلموا)
|
ومن آثاره
البديعة الدالة على أنه ممن ارتوى من مناهل الأدب وتضلع من فنونه رسالته المسماة ب
«الهمة القدسية» التي ألفها باسم مفتي حلب وقتئذ محمد قدسي أفندي
المتوفى سنة ١٢٢٢ وأودع فيها من ضمّن من علماء الشهباء وأدبائها في عصره على طريق
__________________
الاقتباس قوله تعالى : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ) وذلك على أثر ورود رسالة من الشام تضمنت ذكر من ضمن تلك
الآية من أدباء الشام ، فحذا أدباء الشهباء حذوهم وأدلوا بين تلك الدلاء دلوهم.
ونحن نثبت هنا
تلك الرسالة برمتها لندرة وجودها وحسن انسجامها وبداعة إنشائها وإن كانت على طريقة
السجع التي كانت رائجة في ذلك الحين ، ولأنها تضمنت ترجمة (١٩) فاضلا وأديبا كانوا
غرة في جبين عصرهم وحلوا بفضلهم جيد زمنهم ، وقد ظفرت بترجمة (١٣) شخصا منهم وهي
مثبتة هنا في محالها وستة منهم وهم الأديب الحاج مصطفى آغا كوجك علي آغا ، ومحمد
أفندي الخسروي ، وحسين أفندي الغوري ، والشيخ مصطفى الكردي العمادي ، والشيخ محمد
طالب البكفالوني المعروف بالدهني ، والشاعر الأديب محمود المعري ، وهؤلاء لم أقف
لهم على ترجمة.
وكان إنشاء
المترجم لهذه الرسالة كما ذكره في آخرها سنة ١٢٠٤ وتوفي سنة ألف ومائتين وثلاث
وثلاثين كما وجدته منقوشا في لوح قبره في تربة الشعلة خارج محلة باب النيرب. قال رحمهالله تعالى :
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي
رفع لأهل الأدب في مقام حضرته ذكرا ، وفتح لهم باب الطلب فارتاحوا إلى سؤاله
وأعقبوا النعمة شكرا ، نطق كل مصقع بما يصل إليه بيانه فاستبان العجز أوفق وأحرى ،
وأخذ اليراع يترجم لسانه فأحصر المملي عن درك شأوه حصرا ، والصلوة والسلام على
ناظم شتات الكمال بالذهن الذهين والنقل الرصين في العالمين خلقا وأمرا ، المجتبى
لسيادة تتقاصر خطباء البلاغة عن وصف قلمها نظما ونثرا ، وسعادة تذر مواهب الوهاب
على ممر الأحقاب فائضة على الوجود فلا تتناهى عدا وحصرا ، المؤيد بأرفع قدر خشع له
الأشم الباذخ وتصدع من هيبته الطرد الشامخ على الملة العوجاء حتى قصم من كل جاهد
ظهرا ، القائل عند سماع الموعظة إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا ، وعلى آله
وأصحابه المصدري البيض حمرا بعد أن وردت هاما غبرا ، صلاة وسلاما دائمين على ما
تلى التالي ذكرا.
__________________
وبعد : فإن المتسمين
بسمة الحدس والذكاء ، المقتعدين بهمتهم متون كواكب الجوزاء ، قد طرحوا فنون الأدب
مطارح الصبا ، وفرقوا ما اجتمع عندهم أيادي سبا ، وأوسعوها قلى وهجرا ، وعدوها
فضولا من القول وهجرا ، لما أن جفوة الحظ داء شكته الأفاضل من قديم ، وعادة معوجة
لا تكاد مدة تستقيم ، فبينما هو ينظر إليهم بوجه عبوس ، ويشن الغارة عليهم بحرب
البسوس ، إذ لمحهم بمحيا طليق ، وحياهم تحية رفيق ، وأسارير السرور على غرته طالعة
، ولوائح النور على طلعته ساطعة ، فسبروا ما استوفاه لسان حاله ، وخبروا ما
استخفاه من زخارف محاله ، فإذا زيفه قد بدله جيدا ، وحيفه رمى به مكانا بعيدا ، ثم
أهداهم بهدية أبناء الأدب ، حسناء من نفائس مخبآت العرب ، وافت من قبل غوطة الشام
، المفتر ثغرها من عرف البشام.
أتذكر يوم
تصقل عارضيها
|
|
بفرع بشامة
سقي البشام
|
فتمتع بمحاسنها
أدباء العصر ، واجتلوا من لألائها بارق الجبين والثغر ، لما أن وضاءتها مقتبسة من
سنا بدر المعالي ، زينة الأيام والليالي ، شمس الزمان ونور حلكه ، وجوهر الأوان
وقطب فلكه ، رأس المعتنين بقواعد الإفتاء والتدريس ، وعماد المتصدرين لإشادة
الأحكام والتأسيس ، أعني به الخليل الجليل ، والجهبذ النبيل ، منتدى كل حاضر وبادي
، ومنهل كل وارد وصادي ، من أصبح به بيت المراديّ شامخا إلى السهى ، ومكين الأصل
والفرع لا بدأ لفضله ولا انتها ، قد نظم من ألفاظه الحسنة ، وبدائع معانيه المزينة
، أبياتا تضمنت اقتباسا لطيفا ، وموقعا بحسن الكناية ظريفا ، ونسج على منواله بعض أخدانه
، وجماعة من خلّص إخوانه. واتفق لبعض إخواننا حضور هذه المجالسة ، فأثبتها عنده في
ديوانه المراسلة.
ثم لما قدم إلى
شهبائنا الساطعة ، ونزل بساحتها الواسعة ، أتحف بتلك المساجلة الفائقة ، والمعارضة
اللائقة ، جناب الأوحد المحترم ، عالي المكارم والشيم ، وارث مقام العلم
بالاستحقاق التام ، وعامر ركن المجد عن آبائه الكرام :
إن السريّ
إذا سرى فبنفسه
|
|
وابن السريّ
إذا سرى أسراهما
|
أعني به السيد
محمد أفندي قدسي ، نور الله بصيرته بالفتح القدسي ، فعارض هاتيك
__________________
المساجلة بحسنها الأغر ، واقتفى أثره أعلامنا ويا نعم الأثر ، فاستحسن حفظه
الله ، وأدام علاه ، التنويه بذكر جماعتنا في رسالة لطيفة ، تعرب بعلو الثناء عن
مراتبهم الشريفة ، كيما يتحف بها مولانا السابق في الكلام ذكره ، البارق في جلق
الشام بدره ، فامتثلت أمره ، وأوجبت شكره ، وشرعت في ذلك غير آمن من زلل ، ولا
سالم من خلل ، مجانبا التغالي المذموم ، والتجازف الملوم ، ذاكرا عند ختم الترجمة
، أبيات صاحبها المنظمة.
فمنهم الهمام
ابن الهمام ، والليث ابن الضرغام ، الصدر البارع ، والبدر الطالع ، تقي الدين
السيد محمد أفندي قدسي المكنى بأبي حنيفة ، المتحلي بالشمائل الشريفة ، الرهاوي
منشا ومولدا ، والذكائي طالعا وسوددا ، والعواصمي مهاجرا ومقاما ، والنقشبندي
طريقا ومقاما ، من أصبحت به الشهباء مخضرة الأرجاء ، والخضراء منورة الظلال
والأفياء ، كأنه المعني بقول من غبر ، في سالف الخبر :
لقد علم الضيف
والمرملون
|
|
إذا أغبر أفق
وهبّت شمالا
|
بأنك ربيع
وغيث مريع
|
|
وأنك هناك
تكون الثمالا
|
لله من سيد لو
أبصره النعمان لا تخذه شقيقا ، أو يعقوب لنظر منه يوسف منظرا أنيقا. كيف لا وهو
محمد بن الحسن ، ومالك أزمّة الفصاحة واللسن ، منقح الفتيا بالنظر السديد ، ومصحح
الحكم بالفحص الشديد ، عطاردي الخبر والفهم ، وبحتري النثر والنظم ، صائب القوافي
الرصينة ، وحافظ اللآلي الثمينة ، إن نثر الفوائد العربية فجوهري ثاني ، أو نظم
القلائد الأدبية فصاحب الأغاني ، أريحيته أريحية حاتمية ، وأياديه أياد هاشمية.
راحاته وكفت
ندى وكفت ردى
|
|
تقضي بحق
عداته وعداته
|
كالغيث في
إروائه وروائه
|
|
والليث في
وثباته وثباته
|
خلقه نسيم
الصبا جاءت برياه. ووصفه نور الربا كلله نداه. ولطفه شيء لا يبلغ كنهه ، ولا ينال
شأوه ، من اقتطف نور البراعة في أفنائه تذكر ما بين العذيب وبارق ، ومن سرح طرف
اليراع في ميدانه جر العوالي وأجرى السوابق ، فكأن شاعر الباب له أراد. حيث قال
وأجاد :
وإذا ساجلته
بالأدب
|
|
يملا الدلو
لعقد الكرب
|
__________________
لا زال محطا
لرحال الآمال ، ومنهلا سائغا إن كذب سراب وآل. وهذه أبياته الغرر ، وألفاظه الدرر
، وحكمه النوابغ ، أظل الله نعمه السوابغ :
عاشرت مصري
أصل
|
|
أهدى من
الريق خمرا
|
من نار خديه
ألقى
|
|
إلى فؤادي
جمرا
|
يا يوسف
الحسن فارفق
|
|
تزداد بالرفق
نصرا
|
قلبي لحبك
مأوى
|
|
وصاحب الدار
أدرى
|
فارحم لعبدك
خلّي
|
|
فذاك للعبد
أحرى
|
يا مالكا مصر
قلبي
|
|
لا تدعي
الملك قهرا
|
فقال زهوا
وتيها
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم مفتي
الأنام ، وإمام الأجلاء الأعلام ، ذو الحسب المفخم ، والنسب المعظم ، فرع الشرف والعلم
والسيادة ، السيد حسن أفندي كواكبي زاده ، عريق نما من شجرة أصلها ثابت وفرعها في
السماء ، وأنيق تفتقت من نشر أوصافه خمائل الأنواء ، أطلع على المقتبسين أنوار
ذكاء من محاسن آرائه ، وأخفى عن الناظرين مثالب كيوان بقوة سعده ولألائه ،
فالزهراء أهدت إليه المجد والصيانة ، والزهرة نوهت له بالصدق والأمانة ، جده أبو
السعود وهو الأكبر ، ووالده أحمد الكواكب وهذا حسن أنور ، طالما تفننت الأدباء لدى
مدح خيمهم فنونا ، وتغنت الورقاء على دوح أصلهم لحونا ، فهم أدلة الاهتداء لمن
أراد حجة ، وكواكب الليلة الليلاء لمن طلب محجة. ثم إن مولانا حفظه الله ، وأدام
كلاءته ورعاه ، عطر ذكرهم بعبير آدابه ، وعمر ركنهم بعلو جنابه ، واقتفى أثرهم
علما وعملا ، وارتقى أثرهم مجدا مؤثلا ، فتحقق بمكارم أسلافه القادة ، وبفرائد
أوصافه المستجادة ، ثم اجتلى من عرائس الأدب غررا ، ومن نفائس العقود دررا ، فلا
يصوغ من البيان إلا ما غلا قيمة ، ولا يطوق إلا بالدرة اليتيمة. وهذه قوافيه شاهدة
بذلك ، معربة بلسان حاله عما هناك ، من فضل فخيم ، ودر نظيم :
أفديه من ظبي
أنس
|
|
أصلى بقلبي
جمرا
|
لقد رماني
بنبل
|
|
لما بدا همت
سكرا
|
من غنج لحظيه
أضحى
|
|
يعلّم الناس
سحرا
|
فاق البدور
سناء
|
|
بكوكب الحسن
أغرى
|
نور المحيا
سنيّ
|
|
يزهو على نور
زهرا
|
أزرى الغصون
بقد
|
|
وفرقه خلت
فجرا
|
يا نزهة
الروح يا من
|
|
ملكت لبي
أسرا
|
هل من سبيل
لوصل
|
|
لكسر قلبي
جبرا
|
قد عيل صبري
لماذا ال
|
|
صدود والبعد قهرا
|
أجاب إني
أمير
|
|
في الحسن قد
سدت قسرا
|
فكيف يرجى
وصالي
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم علم
الأعلام ، وروض الفضل البسام ، بيت شرف النيرين ، وغرة وجه القمرين ، السيد الحاج
عبد الله أفندي جابري زاده ، أقر الله به عيون أهل السعادة ، واحد جمع بين اثنين
العلم والعمل ، وماجد سطع على الشمس في دارة الحمل ، وهمام همته فوق العبور ،
وإمام تقتدي بآرائه الصدور ، وجهبذ ناظر العلم بقوة فهمه ، ومحقق أمعن النظر
بنورانية علمه ، يحرر أحكام الشرع الحنيفي أحكم تحرير ، ويقرر المذهب الحنفي أبين
تقرير ، ألفاظه السحر الحلال ، إلا أنها رصينة ، أو قلائد اللآل ، إلا أنها ثمينة.
وتحريراته للكسائي تاج ، ولطالب الهداية منهاج ، ليس ذهنه كالسيف فينبو ، ولا
النار فتخبو ، بل كالسيل الهتون ، يبرز كل در مكنون ، لم يزل صادق اللهجة في
أخباره ، واضح المحجة إلى نظّاره ، دمث الأخلاق والمصافاة ، سهل المحادثة
والموافاة ، يراعي جبر القلوب المهونة ، ويواسي ضنك النفوس المصونة ، يشتغل في
الكلام بما يرضي ربه ، وفي النظام بما يؤمن حوبه ، فمن ذلك ما أفرغه في قالب الغزل
، ناحيا سنن السادة الأول :
ملكت قلبي
قهرا
|
|
وحزت أسري
قسرا
|
أنت الشفا
وحياتي
|
|
لم أستطع عنك
صبرا
|
يا مالكي
وأميري
|
|
حاشاي أعصيك
أمرا
|
ارحم خضوعي
ترفق
|
|
الرفق والله
أحرى
|
بحال صب كئيب
|
|
دموع عينيه
تترى
|
فإنما العز
يمضي
|
|
أين الملوك
وكسرى
|
وأين من قال
زورا
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم السعيد
ابن السعيد ، والوحيد بن الوحيد ، الشهم المقتعد مجده على النسر
الطائر ، والخضم المستفيض رفده على النوء السائر ، السيد الحاج مصطفى آغا
كوجك علي آغا زاده ، بلغه الله مناه وزاده ، نديمي وسميري ، لا بل عزيزي وأميري ،
من تراضعت معه ثدي المودة الصادقة ، واجتنيت به ثمار الخلة الرائقة ، وطوقني من
مصافاته بعقود حالية ، فأفصح لسان الثناء عن آثاره الباقية :
ولا غرو أن
ألفى بدوحك صادحا
|
|
بأطيب ألحان
لأني المطوّق
|
طالما أبهج
العلم طلعته الباهية ، وأبلج الحلم محجته الزاهية ، ونور الفقه له قلبا ، وعمر
الورع له لبا ، وزان النحو لسانه ، وشمل اللطف بيانه ، وقوافيه مطبوعة على الذوق
العفيف ، ومحدثة عن مناقب الشاب الظريف ، لو نشق الوردي نشر أوصافه لا تخذ عبيرها
وردا ، ولو جنى النباتي ثمر آدابه لحبل جنيها قندا ، فمن زهيرياته التي تحرك الشوق
الساكن ، وتبرز الذوق الكامن ، ما جادت به بديهته المطاوعة ، وسمحته سجيته البارعة
، قوله :
لقد سباني
بدر
|
|
في حسنه فاق
بدرا
|
وصرت فيه
أسيرا
|
|
وحاز قلبي
أسرا
|
أفديه ريما
تجرّى
|
|
على محبيه
قهرا
|
كلّمته بخضوع
|
|
فتاه عجبا
وكبرا
|
فقلت كم ذا
التجني
|
|
أضرمت جسمي
جمرا
|
فقال هذا
مرامي
|
|
من يرجني يفن
صبرا
|
فزدت فيه
غراما
|
|
وزاد سكري
سكرا
|
يا ذا العزيز
تبصر
|
|
قد زال إيوان
كسرى
|
وباد من قال
مينا
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم السيد
أبو بكر أفندي كوراني زاده ، واحدنا وابن أوحدنا ، وماجدنا وابن أمجدنا ، كرم
الوالد فزكا الولد ، وهذا الشبل من ذاك الأسد.
نعم الآله
على العباد كثيرة
|
|
وأجلهن نجابة
الأولاد
|
نشأ في خدمة
والده ، متعطلا عن سواه ومتحليا بفرائده ، مقتبسا من أنواره ولألائه ، ومستضيئا
بمحاسنه وآرائه ، مغذى بلبان الفصاحة والأدب ، وطاعما من ثمار البراعة شهي الضرب.
ثم تفقه عليه في الدين الحنيف ، بمجلس الشرع الشريف ، وكان والده سقى
الله مرقده المنور ، وخلد ذكره الحسن المعطر ، إمام العلماء بالنظر الثابت
، على مذهب صدر الصدور النعمان بن ثابت ، فنجب فرعه الطيب وساد ، وتمرن بملازمة
الأفاضل النقاد. اشتغل بعلم سيبويه فأربى على أقرانه ، وتضلع بفقه الدين فكان غرة
أهل زمانه. أمانة الفتوى عنده مصونة ، وجواهر الفقه في صدره مكنونة ، فهو حقيق بكل
ثناء جميل ، وجدير أن يرقى إلى مجد أثيل ، ومقام شعره مقام منير ، ولا ينبئك مثل
خبير. وهذه لآليه المشرقة ، وصوادحه المطوقة :
شقيق روحي
تبدى
|
|
بوجنة خلّ
جمرا
|
وطرة من
دجاها
|
|
أبصرت لا شك
فجرا
|
يفتر عن برد
ثغر
|
|
رضابه كاد
خمرا
|
مليك حسن
رماني
|
|
وصاد قلبي
أسرا
|
ظبي يصيد
أسودا
|
|
بصارم اللحظ
قهرا
|
جماله الفرد
يحكي
|
|
يا مغرم
الحسن بدرا
|
قلت الوصال
حبيبي
|
|
تغنم بذلك
أجرا
|
فقال إني مليك
|
|
والبعد عني
أحرى
|
فقلت هل لك
ملك
|
|
نزعته أنت
جبرا
|
فقال يختال
عجبا
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم السيد
محمد أفندي خسروي ، نديم شب في حجر الكمال ، لو عصرت الظرف من عطفيه سال ، وسمير
يرغب به جذيمة أمد الدهر ، ولو أن مع سواه عمرا وألف عمرو.
إن تكلم يصاخ
إلى ألفاظه القندية ، وإن تبسم يرغب في نكهته الوردية ، وإذا جرى في ميدان السمر ،
تأهب خدنه لملاقاة السحر ، في أقل من لمح البصر ، افتنانا بحديثه المزخرف ، وشوقا
بما هو أبهج فيه وألطف ، ثم هذا كله مع اشتغال بفقه وعلم ، واتسام بلطف وحلم ، إذ
كتابة الفتوى به منوطة ، ورسوم ألفاظها بيراعه مضبوطة ، فهو كاتب ماهر ، وناظم
ناثر ، وهذه أبياته النفيسة ، ومحاسنه الرئيسة :
صاد الفؤاد
وأجرى
|
|
مدامع العين
نهرا
|
ظبي شرود
نفور
|
|
لقتلتي قد
تجرّا
|
يسطو بماضي
لحاظ
|
|
من صارم
الهند أفرى
|
سلطان حسن
سليل
|
|
كم عاشق فيه
أغرى
|
ذو مقلة هي
تروي
|
|
عن فعل هاروت
سحرا
|
ناديت يا من
علينا
|
|
بقده هز سمرا
|
الله فيّ
ترفق
|
|
تغنم بذلك
أجرا
|
وانظر لمقياس
دمعي
|
|
من عبرتي عاد
بحرا
|
عسى لعل
الليالي
|
|
تنيلني منك
بشرا
|
فقال إني
عزيز
|
|
وقد أبحتك برا
|
فاغنم لقرب
وصالي
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم فرع
الغادة الهاشمية ، وسبط السادة البكرية ، الحاج حسين آغا الغوري ، تقي نشأ في حجر
الوقار ، ونقي براء من شعث الأكدار ، يقر عين أخدانه بشمائله ، ويشرح صدور إخوانه
بفضائله ، أخذ من التقوى حظا وافيا ، ومن المروءة نصيبا كافيا ، أحرز فخامة المجد
وراثة عن آبائه ، واقتعد منكب الأعنة مسامتة عن نظرائه ، وشمر عن ساعد الجد لتحصيل
المآثر ، فشرع طائر السعد يثني على حظه الوافر ، ونظر في معاني الأدب بروية
مستقيمة ، فنظم من عقوده فرائد يتيمة ، تشهد بما قررناه من حسن فهمه ، وتؤيد ما
رمزنا من بديع نظمه ، وهي قوله :
حبي مليح
المعاني
|
|
لكن عليّ
تجرّا
|
يا حسنه من
مليح
|
|
حلا مذاقا
ومرا
|
بدر تجنى
دلالا
|
|
وزاد عجبا
وكبرا
|
ما ضر هذا
المعلى
|
|
لو أبدل
العجب شكرا
|
أفديه مياس
قدّ
|
|
أردى الغصون
وأزرى
|
وقال قولا
عجيبا
|
|
حزت الملاحة
طرا
|
كل الملوك
عبيدي
|
|
يرجون مني
نصرا
|
وإن عجبتم
بهذا
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم السيد
الشيخ عبد الله الميقاتي الحنبلي ، فاضل ماهر ، وعطاردي زاهر ، نحا في النحو مكانة
طالعة ، وصرف في الصرف همة بارعة ، فاستطلع بهما مواقع الأنوار الحديثية ، وأطلع
منهما مواقع الأسرار الفقهية. إن بحث في الأجرام والأبعاد ، أذعن لحكمه كل حاضر
وباد. وقال الغزالي طاب ثراه : من لا معرفة له بالهيئة فهو عنين في معرفة
الله ، مع التفاتة إلى الموسقيريّ والأصول ، وجمع شتاب الشعب والأصول. فلله دره ما
ألطف مذاقه ، وأهنأ للنفوس الأبية وفاقه. ومن الواجب على كل رئيس ، أن يصله بابن
الحسن في مقالة ابن إدريس. ومقامه في فن الأدب صعب المرتقى ، وبيانه من خالص
العربية منتقى ، يجمع إلى الحكمة حكمة شاردة ، ويثني إلى الفائدة فائدة زائدة ،
فينطق لسانه بالقول الأحق ، وأحسن بيت أن يقال لمنشده صدق ، ومن ثم عز نظامه ،
وزاده مجده واحترامه ، وينبىء عن جنى الشجرة الواحدة من ثمرها ، وعن نفاسة القلادة
الشذرة من دررها. وهذه أبياته الأبيات ، وعروباته العربيات :
بدا فأخجل
بدرا
|
|
بدري وبالغصن
أزرى
|
وعنبر الخال
يزكو
|
|
بورد خديه نشرا
|
وغنج لحظيه
أضحى
|
|
يعلم الناس
سحرا
|
ما رق قلبا
لصب
|
|
لكنه رق خصرا
|
فقلت مولاي
رفقا
|
|
بمغرم فيك
مغرى
|
ملكت مصر
فؤادي
|
|
وفيه شيدت
قصرا
|
فقال شأني
عزيز
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
وهذه أيضا :
بدر الكمال
له في
|
|
منازل السعد
مسرى
|
وقد سما في
ارتفاع
|
|
سما المحاسن
قدرا
|
فقلت والقد
منه
|
|
يهتز ميلا
وكسرا
|
يا مالكا مصر
قلبي
|
|
طولا وعرضا
وقطرا
|
قد صرت حاسب
وقتي
|
|
في الحب جبرا
وجذرا
|
أدعى لساعات
وصل
|
|
لديك صبحا
وعصرا
|
فقال سمتي
بعيد
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم صالح
العصر والأوان ، سلطان الفضل وابن سلطان ، فاضل حرفته ملازمة العلماء الكرام ،
وصنعته مجالسة الصلحاء العظام ، ودأبه نشر العلم والتقرير ، وهمته ضبط
الصواب والتحرير ، نبل في الفقه النفيس ، على سنن إمامنا الاعظم ابن إدريس
، واخذ من العربية حظا وافرا ، ومن علم الخليل كاملا ووافرا ، يقدم كتابه على كل
جليس ، ويأنس به حيث لا أنيس ، لا يبخل بالإفادة ، ولا يستنكف عن الاستفادة ، ولا
يرغب عن قليل من العلم ، بل يذهب في كثير من الحلم ، خلقه رضيّ باهي ، وخلقه وضيء
زاهي ، وورعه شديد بلامين ، ودينه سديد بلامين ، اشتغاله بالتلاوة حين الفراغ من
الطلب ، وبالتهجد إذا الغاسق قد وقب ، ينشد لسان حاله ، حين ذكر الشعر وأوحاله :
تركت الشعر
واستبدلت منه
|
|
إذا داعي
صلاة الصبح قاما
|
كتاب الله
ليس له شريك
|
|
وودعت
المدامة والندامى
|
وإذا ارتجل
منطيق وتقدم ، يقول : إذا كان مدح فالنسيب المقدم . ولما افتتن بغرر أهل الشام ، عارضهم بلسان الوجد
والغرام ، سالكا مسلك من قبله ، فلله ما أغزر طله وبله :
يا من تسامى
دلالا
|
|
ومن تحالى
ومرا
|
ومن بدا شمس
دجن
|
|
ضاء الحوالك
دهرا
|
ومن تثنى
قواما
|
|
للغصن حاكى
وأزرى
|
أنت الحبيب
المفدى
|
|
فاسمع نصوحا
مبرا
|
قم في الدجى
وتضرع
|
|
لله سرا
وجهرا
|
واندب ذنوبا
توالت
|
|
ونب وتب
واستمرا
|
واخضع لربك
ذلا
|
|
واطرح فخارا
وكبرا
|
وانظر لمن قد
تعامى
|
|
من قوم عاد
وكسرى
|
وقول فرعون
دعه
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم السيد
عبد القادر أفندي حسبي زاده ، فقيه نظار ، وأديب مكثار ، وماهر لوذعي ، ومحاضر
ألمعي ، ونحوي مستقيم اللسان ، وصرفي بطرق التمرين ملسان ، إذا زين به جيد سيبويه
، فما شب عمرو عن الطوق ، وإذا قيس به خالويه ، كان مقامه فوق الفوق ، فألفاظه
صوادح البلابل ، ومعانيه نفثات بابل ، وذاته كاملة الظرف ، إلا أنه أفعم
__________________
بالعلم ، وأخلاقه مشموله باللطف ، غير أنه توج بالحلم ، ومعاريضه تشحذ خاطر
النديم ، ومحاورته تشفي من الداء السقيم ، ومكانته في الشعر عالية المنار ، وسامية
المقدار. فمن أبياته النوافث ، التي أسكتت كل نافث ، ما عارض بها أقرانه ، وأبدع
فيها أفنانه ، قوله :
تمنّع الحب
لما
|
|
رأى العوالم
أسرى
|
وقال إني
مليك
|
|
أطاع نهيا
وأمرا
|
والدهر عبدي
وإني
|
|
حزت المحاسن
طرا
|
فقلت قد تهت
عجبا
|
|
فأبدل العجب
شكرا
|
فقال كم من
مليح
|
|
لديّ يسخط
قدرا
|
يقول عجبا
وتيها
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم السيد
هاشم أفندي ، عصامي المجد والعلو ، وذاتيّ الجد والسمو ، فطائر
صيته صادح فوق النسر الواقع ، وسائر سعده رائح إلى الفلك الرابع ، هذب قريحته
بمراجعة الأسفار ، وأشرب طويته في مطالعة الأخبار ، ومارس المشكلات بذهن وقاد ،
ودارس المعضلات مع قوم نقاد ، فهو إخباريّ المحادثة ، نظريّ المباحثة ، متعمق في
الألفاظ الواردة ، متأنق بالأدلة الشاهدة ، إذا شرع في الفقه أعجب به أهله ، وإذا
نزع إلى أصوله أطاعه فرعه وأصله ، وإن أورد علوم العربية بلسانه ، شاقت العرب
الأبية إلى براعة افتنانه ، وإن أجرى أبحر التفاعيل والصنج ، أجرى الشعراء على زنة
كل خفيف وهزج ، شعره بعيد من الزحاف ، ورصفه سديد بلا خلاف ، فقره فقر عتبية ،
وقوافيه قواف عربية.
من مبلغ
الأعراب أني بعدها
|
|
لاقيت رسطاليس
والإسكندرا
|
وأبياته في هذا
المورد لا تفي بمقامه ، مع أنها في ديوان الأدب من بديع نظامه ، إذ هي فطرة من غيث
هتون ، أو شذرة من در مكنون :
أجرى المدامع
نهرا
|
|
وصير القلب
مصرا
|
وهز عادل قدّ
|
|
يطول وصفا
وذكرا
|
وصال باللحظ
حربا
|
|
ما حرب سيف
وكسرى
|
أسكنته بيت
قلبي
|
|
وصاحب البيت
أدرى
|
__________________
وهو العزيز
بحسن
|
|
ذلت له الناس
طرا
|
فقال للغير
فيه
|
|
قد جئت إدّا
ونكرا
|
أتدخل الغير
ملكي
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم السيد
محمد وفا أفندي الرضائي ، غبوقي وصبوحي. لا بل خليلي وشقيق روحي ، من نظمني وإياه
سلك الرواية ، وأنعمني برؤياه كمال الصحبة والرعاية ، متع الله به والده الأغر ،
يحيي ذكر جده عمر ، فيفوقه بحسن التلاوة والأدا ، ويروقه بالزينة على طول المدى ،
ولا برح قرة عين ، لجده أحمد أبي العلمين ، مؤيدا بفتوحات محمدية ، وإمدادات
أحمدية ، ومواهب شاذلية ، ومشارب قادرية ، إذ هو شاب نشأ في خدمة العلم والطريق ،
وشرب من الكاسين أهنأ رحيق. فقهه منوه باعتقاد ، وعلمه منزه عن انتقاد ، وسلوكه لا
يشوبه
رياء ولا خطل ،
واشتغاله لا يعيبه ازدراء ولا ملل ، فهمه كالسيف حدة ، وكالنار شدة ، وكالماء في
الصفاء ، وكالسيل في توارد الأنواء ، مع بديهة أطوع له من ظله ، وأسرع إليه من
إدارة قوله. ومن نظر إلى أبياته بعين وامقة. سبر مقالتي إن صادقة وإن غير صادقة :
آيات حق تبدت
|
|
من المهيمن
كبرى
|
دلت عليه
وجودا
|
|
وأبرزت عنه
سرا
|
وأظهرت كل
شيء
|
|
في الكون كان
استسرا
|
ما ثم فرد
سواه
|
|
يحيط بالناس
خبرا
|
كن فانيا عن
سواه
|
|
به لترفع
ذكرا
|
أين الملوك
تفكر
|
|
وأين عاد
وكسرى
|
وأين ذاك
المنادي
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
وله أيضا :
لك المحاسن
طرا
|
|
وأنت عنه
المورّى
|
وأنت في كل
شيء
|
|
ظهرت سرا
وجهرا
|
قد لذّلي فيك
سلبي
|
|
ولو تهتّكت
سرا
|
وكل ما اخترت
عندي
|
|
عذب ولو كان
مرا
|
ما شئت فافعل
بصب
|
|
بحاله أنت
أدرى
|
الملك ملكك
حقا
|
|
ومدعيه تجرّا
|
حيث استخف
ونادى
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
وله أيضا :
هيا خليلي
نجني
|
|
من روضة الحب
زهرا
|
ونرتشف من
لماه
|
|
وريقه العذب
خمرا
|
لكن توق
لحاظا
|
|
تغزوك قتلا
وأسرا
|
فكل صاحب سيف
|
|
يعتاد للقلب
كسرا
|
إني تهجمت
يوما
|
|
عليه لاقيت
غدرا
|
وقال هذا جزا
من
|
|
على الملوك
تجرا
|
فقلت لم أدر
نادى
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم الشيخ
عبد الرحمن العمري العقيلي ، زاهد متبتل خاشع ، وعابد متنسك خاضع ، راغب عن الناس
بكليته ، مواظب على أذكاره وخلوته ، تخذ الصدق سفينة لنجاته ، ووسيلة إلى علو
درجاته ، لا يهجر الصمت إلا فيما يعنيه ، ولا يهجر القول على رقة معانيه ، مع كف
نفسه عن الشواغل ، وصرف حديثه إلى مشكلات المسائل ، ومبادرة إلى قراءة كتاب ،
ومسارعة نحو رد جواب ، وفهم جيد مستقيم ، وذهن غير محتاج إلى تتميم ، وخلق ألطف من
النسيم ، ومشرب أروى من شراب تسنيم. ثم إن شعره تحاشى الكذب والمين ، وتمادى عن
الغلو بعد المشرقين ، فجاء على أحسن نمط ، لا بعد فيه ولا شطط. وهذا كلامه المشار
إليه ، والمعوّل في الجميع عليه :
يا طالبا عز
أخرى
|
|
وآملا نيل
بشرى
|
تخل عن كل
وصف
|
|
يخل بالذل
عمرا
|
واخرج عن
الكون كلا
|
|
لمن له الأمر
طرا
|
بل عنك أيضا
وسلم
|
|
إليه والزمه
ذكرا
|
وفارق الفرق
واجمع
|
|
يلح لك الطي
نشرا
|
وافرغ من
الحول واقرع
|
|
بابا به
الفتح يقرا
|
واحذرك تبغي
علوا
|
|
تنحط عن ذاك
قدرا
|
أما ترى قول
غاو
|
|
أرداه إذ قال
كبرا
|
يا قوم ملكي
عزيز
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم السيد
عبد الله ابن المرحوم شيخنا ، أديب مهذب ، وأريب للنفوس محبب ، وضيء الوجه والفؤاد
، خليل الصدق والوداد ، يافع ليس له صبوة ، وثمل لم تعرف له نشوة ، كان لبه لب أهل
اليقين ، وقلبه قلب من جاوز الأربعين ، إذا بادره داعي الصبا ، يناديه لا أهلا ولا
مرحبا. دأبه كتاب ينظر فيه ، وعلم يطلع على خوافيه ، لا يبرح عن الهمة الأدبية ،
ولا يظعن في البلغة النسبية ، أدّبه الطريق ، وهذبه من الورع رفيق ، له في العلم
مشاركة حسنة ، وفي الفهم طريقة مستحسنة ، توارثها عن والده ، وتلقاها من فوائده.
وله شعر وإفصاح ، يصدح به على الأدواح ، فمنه ما أورده في هذا المقام ، من بديع
النظام ، قوله :
خير الأناس
مقالا
|
|
من يتقي الحق
سرا
|
فكن مجيبا
مطيعا
|
|
في الكل نهيا
وأمرا
|
وارهبه
واخشاه واخضع
|
|
لديه سرا
وجهرا
|
وافن عن
الكون فيه
|
|
تلف المكارم
تترى
|
ولا تكن مثل
من قد
|
|
طغى فتنحط
قدرا
|
فأين هامان
أضحى
|
|
وأين عاد
وكسرى
|
وأين من قال
زورا
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
وقوله :
ظبي من اللطف
يبدي
|
|
من لفظه
العذب سحرا
|
حوى طلاوة
ثغر
|
|
منها العوالم
سكرى
|
وماس بالقد
عطفا
|
|
وصال باللحظ
قهرا
|
ناديته يا
منائي
|
|
رفقا بمن فيك
مغرى
|
واكفف سهام
لحاظ
|
|
دعت محبيك
أسرى
|
واطرح عناءك
واترك
|
|
من قد طغى
وتجرّا
|
وقال عجبا
وتيها
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم الشيخ
مصطفى الكردي العمادي ، قمريّ يسجع بالمعاني الفائقة ، بل قمريّ يطلع في الليالي
البارقة ، مطبوع على عذوبة اللسان ، محبب إلى كل إنسان ، متوشح ببرد اللطافة ،
متسم بسمة الظرافة ، متضلع بالدين السديد ، ملازم تلاوة الكتاب المجيد ، إلى مروءة
كاملة وسمت وسيم ، وفتوة فاضلة ونعت كريم ، واطلاع على الأدب وفنونه ، واتساع في
أنواعه وشجونه ، وتمرين اللسان على العربية والتصريف ، وتنميق البيان بأحسن تنميق
وترصيف ، وأخلاق يستعيرها نسيم الصبا ، ونكات تملأ المسامع طربا. إن أسفرت فقيسها
الملوح ، أو بثينة فجميلها المبرح ، كأنه ينظر إلى قول الحريري :
فمشغوف بآيات
المثاني
|
|
ومفتون برنات
المثاني
|
وهذا كلامه
السحر الحلال ، وقوافيه الغوال ، تؤذن برقة ذوقه ، ودماثة خلقه :
عذب اللمى قد
سقاني
|
|
من ريقه
الشهد خمرا
|
أفديه من بدر
تمّ
|
|
قد رق معنى
وخصرا
|
وفي سما
القلب مني
|
|
له طلوع
ومسرى
|
مليك مصر
فؤادي
|
|
يفوق في
الحسن بدرا
|
فليس لي من
حبيب
|
|
سواه سرا
وجهرا
|
هو المنى
ومرامي
|
|
له الهناء
وبشرى
|
إذ قام في
الذكر يتلو
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
وله :
مدامع العين
أجرى
|
|
في الحب من
رام أجرا
|
رفقا حبيبي
بصب
|
|
قد هام وجدا
وسكرا
|
ملكت قلبي
المعنى
|
|
وزدت يا بدر
هجرا
|
يا من حوى كل
حسن
|
|
عشاقه فيه
أسرى
|
أعرضت عني
بعادا
|
|
ولم أجد عنك
صبرا
|
وقد نما فيك
شوقي
|
|
وأنت بالحال
أدرى
|
تجيبني حين
أشكو
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم الخل
الأمجد ، صديقنا الشيخ أحمد ، المعروف بالأشرفي الصحّاف ، أمده الله من فضله
بعوائد الألطاف ، خل موافق ، وصديق صادق ، وسمح بالمودة على من صافاه ، وطوع في
الزيارة والموافاه. مصاحب إلى طرق الخير والأمانة ، ومجانب عن سبل السوء والخيانة
، مطيب الأنفاس بلطافة قوله ، ومحبب إلى الناس بحسن صنيعه وفعله ، راغب في الطلب
والاشتغال ، ذاهب إلى تقوى الله على كل حال ، حافظ كلام ربه ، ملاحظ له بعين قلبه
، لسانه شهد جنّي ، وقلبه قلب هنّي ، كأنه انطبع على مكارم الأخلاق ، واجتمع أمره
على المواخاة والوفاق. لزم جماعة العلماء ، فأخذ من العلم نصيبا وافيا ، وقدم على
خدمة الصلحاء ، فاجتنى من أخلاقهم مشربا صافيا ، تمرن على الفقه واللسان ، وتفنن
بالعربية والبيان. وأما نظره في الشعر فليس من الغرض ، بل يتكلم فيه ثانيا
وبالعرض. وهذه أبياته المتوجة بالحلي ، وخمرته المبتهجة لكل مجتلي :
صادفت ريما
تثنى
|
|
وبالنفائس
يشرى
|
بكامل الحسن
يجلى
|
|
ويعذب الريق
سكرا
|
وأعين فاتكات
|
|
به رمتني
قسرا
|
ووجنة حار
فيها
|
|
كل امرىء ذاق
هجرا
|
في ليلة
الوصل أمسى
|
|
يتيه إذ مد
شعرا
|
ناديته صل
معنى
|
|
لا ينثني عنك
دهرا
|
ودع مقال
عنيد
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
ومنهم الفقير
المحفوف بعوائد الألطاف ، السيد عبد الله العطائي الصحاف ، وأحد خضمهم ، وناظر
أشمهم ، مادح مآثرهم الباقية ، وصادح منابرهم الراقية ، من هو حرف لحق لإفادة
الحصر ، أو واو زيد في الهجاء يوما بعمرو ، كلف همته شيئا صعبا ، وطمع أن يقاوم
فكره صارما عضبا ، واشرأبت نفسه أن يصل إلى مطلع ذكاء ، أو يصعد على متن الجوزاء.
وينشده المقام ، حين عز المقام :
أوردها سعد
وسعد مشتمل
|
|
ما هكذا يا
سعد تورد الإبل
|
وربما ينظّر
ببعض الكروان ، ترائي شمس الميزان ، والظليم يسمع ويروى. فقال القائل :
__________________
أطرق كرى أطرق كرى ، ولو غفلت عنه عيون النقاد ، ونامت عن عرينها الآساد ،
لشفى داء غرامه بخيال فهمه ، وصال في الهيجاء بحبالة وهمه.
أيا نخلتي
وادي بوانة حبذا
|
|
إذا نام حراس
النخيل جناكما
|
ولكن زلة لا
يقال لعاثرها لعا ، وخلة لم تدع لصاحبها موضعا ، وحرباء على عضة من تهامه ، أجل من
ثقل يقف عرض ملامه ، والبدا الطائل الباع ، يرمز أن مخرنبق لينباع ، والشعراء
كأفراس تتابعن في مراح ، فمنها المجلي ومنها المرتاح ، ولكن الحر يصفح ، وإذا ملك
أسمح ، ومن انتمى للضعف يراش جناحه ، ومن استبان الهزال ينعم سراحه ، ومن اعترف
بالتقصير لا يناقش فيه ، ومن اعتذر إلى الكريم قبله بملا فيه.
عذيري من
خليلي من مراد
|
|
أيعذرني خليل
بني المرادي
|
همام إربه
علم وبحث
|
|
وحل المشكلات
من انتقاد
|
فصيح مصقع
سمح القوافي
|
|
كأن بلفظها
طعم الشهاد
|
نشقنا نفحة
القيصوم منها
|
|
وخيمنا
بأفناء الخضاد
|
ذكرنا من
أووا طلحا وضالا
|
|
من الأعراب
عمار البوادي
|
أناسا لم
يشبهم ذكر نحو
|
|
ولا احترزوا
المعيب من السناد
|
يجيدون
الكلام بغوص حدس
|
|
فيبرز كل
معنى مستجاد
|
فحيا كل رسم
من ذراهم
|
|
وهاتيك
الفدافد والوهاد
|
ترى من
يبلغهم بأني
|
|
أضحت بيان
قسّهم الأيادي
|
وذلك من بني
الشام المفدى
|
|
معلى الطرف
طلاع النجاد
|
هزبر همة غيث
نوالا
|
|
ومرغوب
ومرهوب الأعادي
|
ملاذ للعفاة
وكل ندب
|
|
ومنهل وارد
منهم وصاد
|
كفاها جلّقا
تيها ودلا
|
|
وزهوا بالعلا
في كل ناد
|
بأن الزبرقان
جلى حماها
|
|
وأشرق جونها
الحلك السواد
|
فلا برحت
منازله فخاما
|
|
وبيت مقامه
عالي العماد
|
__________________
مما قلته في
الاقتباس المتقدم :
طارحت ظبي
كناس
|
|
يبدي من
اللفظ سحرا
|
فقلت أي مليك
|
|
يعتاد خمرا
وأمرا
|
فقال ذلك
طرفي
|
|
أحداقه النجل
سكرى
|
وفي الملاح
أمير
|
|
يصول باللحظ
قهرا
|
أليس منصب
حسني
|
|
يزري بمنصب
كسرى
|
أليس أهل
المعالي
|
|
من تحت حكمي
قسرا
|
ولا أقول
اغترارا
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
وقلت أيضا :
يا للنهى من
غزال
|
|
غزا بلحظيه
قسرا
|
مليك حسن
مطاع
|
|
في الحب نهيا
وأمرا
|
ومصره بيت
قلبي
|
|
وصاحب البيت
أدرى
|
فانظر إلينا
أيا ذا ال
|
|
غزال ما دمت
بدرا
|
واحذر صروف
الليالي
|
|
إذ يطلع
البدر فجرا
|
فقال إن
مقامي
|
|
يحاول الأسد
قهرا
|
لا بدع إن
تهت عجبا
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
وممن اقتبس هذا
السناء ، واستنار بالمحجة الغراء ، السيد محمد طالب جلبي البكفالوني حافظ الكلام
القديم ، وحائز الخلق الكريم ، من يطرب الأسماع بلفظه ، ويخلب الألباب بوعظه ، إذا
صعد على منبره خطيبا ، فيالله طيبا ضمخ طيبا ، ينظم فن الشعر برويته ، ويزن حسن
الكلام بسجيته ، أريحته أريحية الكرماء ، وألمعيته ألمعية الأذكياء. فمما نظم من
كلامه ، وأملى من غرامه ، قوله :
عزيز قلبي
ترفق
|
|
فأنت بالرفق
أحرى
|
دع عنك كل
خليل
|
|
يخل بالذات
قدرا
|
واحذر تردّى
بكبر
|
|
واخلص إلى
الله شكرا
|
كم من مليك
تغالى
|
|
فنال في ذاك
قهرا
|
واخفض جناحك
ذلا
|
|
تنال في ذاك
نصرا
|
وابق التوكل
دأبا
|
|
ليبدل العسر
يسرا
|
ولا تقل من
غرور
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
وممن نحا هذا
المنحى ، وسلك فيه ثناء ومدحا ، أحد الظرفاء ، وشقيق الأذكياء ، محمود جلبي ابن
المعري ، حيث قال ، وأحسن في المقال :
عزيز قلبي
مرادي
|
|
من نور وجهك
بدرا
|
ولثم راحات
جود
|
|
تفوح مسكا
وعطرا
|
أنت المسمى
خليلا
|
|
أنسيت بالعدل
كسرى
|
من أم بابك
يوما
|
|
يلق المكارم
تترى
|
أرسلت نظما
كدر
|
|
يزين في
الجيد عذرا
|
من سحر لفظك
أضحى
|
|
يميل عجبا
وسكرا
|
أمسى ينادي
هلموا
|
|
من كان يحسن
شعرا
|
مولاي أنت
مليك
|
|
حباك ربك
نصرا
|
والملك عذر
ولكن
|
|
يسمو بذاتك
قدرا
|
ولم تقل
بافتخار
|
|
أليس لي ملك
مصرا
|
مولاي سامح
محبا
|
|
على حماك
تجرا
|
يقول جامع هذه
الرسالة : لما فرغت من تحريرها ، مثلت بها جناب الطود الأعلى ، ذا القدح المعلى ،
السيد محمد أفندي قدسي ، أدام الله جنابه ، وأقرّ به أحبابه ، وذلك ليلة الأربعاء
الخامس والعشرين من جمادى الأولى لسنة أربع ومائتين وألف من الهجرة النبوية.
هذي ألوكة
شائق نحو الأولى
|
|
سكنوا دمشق
الغوطة المحميه
|
ضمنتها ذكر
الأماجد من غدت
|
|
آثارهم
محفوظة مروية
|
ومذ انتمى
لجنابه تاريخها
|
|
سميتها
بالهمة القدسية
|
١٢٠٤
تمت الرسالة.
١١٩٢ ـ الشيخ إبراهيم الهلالي الملقب بالشيخ الكبير المتوفى سنة ١٢٣٨
الشيخ إبراهيم
بن محمد بن دهمان ، الحلبي الشافعي القادري ، برهان الدين ، الفاضل الذي طوى على
الفضل أديمه ، والعالم الذي انتشر به الكمال حديثه وقديمه ، من أشرق في أوج الكمال
طالع سعده ، وارتقى على كاهل الكمال بنيان مجده ، واسطة عقد الأفاضل ، وكعبة طواف
ذوي الفضائل والفواضل ، الفقيه الورع الزاهد ، والمحدث الصوفي العابد.
ولد بدارة عزة
: قرية من أعمال حلب سنة خمس وخمسين وماية وألف ، ودخل أيام شبابه حلب واجتمع
بخاله الشيخ العارف أبي بكر بن أحمد الهلالي القادري وأخذ عنه الطريقة واعتنى
بشأنه.
ثم ارتحل إلى
مصر سنة ثمان وسبعين ولازم الشيوخ في الأزهر وقرأ عليهم وحضر دروسهم ، وأكثر من
الأخذ والاستفادة والسماع ، فقرأ على أبي داود سليمان بن الجمل وهو أجل من انتفع
به ، والشيخ أحمد الفالوجي ، وسيدي محمد بن علي الصباغ ، وسيدي أبي عبد الله محمد
الأمير ، والشهاب أحمد بن محمد الدردير ، وأبي الصلاح أحمد بن موسى العمروسي ، وأبي الحسن علي بن أحمد الصعيدي المالكي ، وحسن غالي
الجداوي ، ومحمد ابن حسن السمنبودي المنير ، وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن
الجوهري ، وصفي الدين محمد بن أحمد البخاري وغيرهم ، فأخذ عنهم ولازمهم وانتفع
بهم.
وأخذ الطريقة
الخلوتية عن سيدي الشيخ محمود بن يزيد الكوراني الكردي الشافعي خليفة الأستاذ
الحفناوي.
وسمع على
الكثير وانتفع ، واشتغل بالعلم والطريقة ، وتفوق ورأس على أقرانه وتقدم عليهم
بوافر فضله وحسن بيانه.
ثم قدم إلى حلب
سنة ثمان وتسعين وماية وألف ، فدرس بها ولزمه الناس. وبعد مجيئه مات ابن خاله
الشيخ أبو الضياء هلال بن أبي بكر الحلبي القادري في أواخر سنة ثلاث ومائتين وألف
، فاستقر مكانه شيخا في زاويتهم الكائنة في محلة الجلّوم ، وأقام مجلس التوحيد
__________________
والأذكار وأوقات المواعيد على العادة ، ولزمه أبناء الطريق ، واختلى الخلوات
المتعددة ، ومع ذلك كان لا ينفك عن الإقراء والتحديث والإفادة.
ونقل الشيخ
خليل أفندي المرادي في بعض تعليقاته أنه دخل حلب سنة خمس ومائتين وألف ، فاجتمع
بالمترجم المرقوم ، وسمع من فوائده ، وزاره في زاويته وسمع منه حديث الرحمة
المسلسل بالأولية. ا ه (حلية البشر).
وترجمه الشيخ
أبو الوفا الرفاعي فقال : إبراهيم بن محمد الشافعي الدار عزاني ، نسبة إلى دارة
عزة من أعمال حلب ، وهي وقف على الجامع الكبير بحلب ، العالم الجليل المرشد
المسلك.
قرأ على علماء
عصره ، وأخذ الطريق عن سيدي محمود الكردي الخلوتي خليفة الأستاذ الكبير الحفني رضياللهعنهم. حصل طرفا صالحا من العلم في مصر ، وبقي مخشوشنا ضيق
العيش مكتفيا بما يحصل له من معلوم الأزهر ، إلى أن حصل له الإذن بالتوجه إلى حلب
، فقدمها وجلس على سجادة القادرية في الزاوية الهلالية في محلة الجلّوم مكان خاله
وجده الشيخ هلال والشيخ أبي بكر الهلالي قدست أسرارهم ، وكثرت تلامذته ومريدوه ،
ورزق الحظ في الطريق ، واتسعت دنياه ولم يلق لها بالا ، وبقي على التقشف في
الملبس.
وكان سمته سمت
علماء مصر وأشياخها ، يلبس المقلة وهي الكسوة الخلوتية ، ويعتكف كل سنة مع الأخوان
أربعين يوما خلوة قادرية خلوتية. ورزق إناثا وذكورا ، فالذكور محمد وعبد السلام
وعبد اللطيف. وأطبق الناس على جلالة قدره وعظموه وهو حريّ بذلك.
وعمر إلى أن
ناهز الثمانين ، وتوفي أواسط ربيع الأول سنة ١٢٤٨ ودفن في الزاوية مع أسلافه. وكان
يحبني ويفضي إلي ببعض أسراره ، ولما حضرت جنازته أعطاني أولاده ورقة فيها نسخة
تلقين بعد الدفن وقالوا : إن والدنا أوصانا أن تلقنه أنت بما في هذه الورقة على
القبر ، ففعلت كما أوصى رحمهالله ورحم أسلافه آمين. ا ه.
حدثني الشيخ
مصطفى النحاس وهو رجل معمر منور أدركته وقد ناهز التسعين من العمر ، وقد توفي في
حدود سنة ١٣٢٠ ، بحكاية لطيفة عن الأستاذ المذكور لا بأس بإيرادها هنا ، وكذا
سمعتها من الشيخ مصطفى الهلالي من ذرية المترجم ، قالا ما معناه :
لما كان
الأستاذ الشيخ إبراهيم بمصر صادفه أنه بقي يومين لم يذق طعاما لضيق ما في يده ،
فخرج من الأزهر وشرع يطوف في شوارع مصر لعل الله يرسل له من يدعوه إلى طعام يسد به
رمقه ، فدخل بعض الدروب فرأى دارا لها باب كبير ، وهو ينادي على صاحبه بلسان حاله
: إن صاحب هذه الدار ذو نعمة شاملة وثروة طائلة ، فدخل الدار وهي ذات طابقين ، فلم
يجد في الطابق التحتاني أحدا ، فدخل المطبخ فرأى هناك خزانة فيها ألوان من الطعام
الفاخر ، فكان عامل الجوع يدفعه إلى التناول منه ونفسه الشريفة تأبى أن تتناول
طعاما ليس ملكا له ولم يدع إليه ، وبقي على ذلك نحو ساعة وهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى
، وفي آخر الأمر أغلق الخزانة وخرج ولم يذق من الطعام شيئا ، وخرج من الدار قاصدا
الأزهر.
أما صاحب الدار
فكان قاعدا في بيت في الطابق العلوي ، وكان ينظر إليه من النافذة من حين دخوله إلى
حين خروجه ، ولما أبصر منه ما أبصر فأخذه العجب وعلم أنه لم يدخل ولم يبق هذه
المدة في المطبخ إلا لأمر عظيم ، وأحب الاستطلاع على كنه هذا الأمر ، فاستدعى
خادمه وأمره بمناداة الشيخ إليه ، ولما حضر سأله عن أمره ، فلم يخف عليه شيئا منه
، فعظم الشيخ في عينه كثيرا خصوصا بعد ما علم أنه من طلاب الأزهر النابغين ،
فاستدعى للحال شيخ الأزهر ودعا بعض أصدقائه وعقد نكاح بنته على الشيخ إبراهيم ،
فبقيت معه مدة طويلة ، ولما حضر إلى حلب أحضرها معه وهي أم أولاده الذين ذكرهم
الشيخ أبو الوفا الرفاعي في مجموعته.
هذا ما بقي في
فكري من هذه الحكاية ، لأن بين سماعي لها من الشيخين المذكورين وبين تحريري لها
هنا نحو عشرين سنة.
وترجمه تلميذه
ومريده الشيخ عمر الطرابيشي في مجموعة له بخطه فقال :
هو الشيخ
الإمام العلامة البحر الفهامة ، المحقق المدقق ، شيخ الإسلام والمسلمين في عصره ،
وشيخ الفرقة الناجية في زمانه ، الجامع بين الشريعة والحقيقة ، والقامع لمن حاد عن
جادة الطريقة ، الحائز قصبات السبق في تحقيق العلوم الشرعية ، وتدقيق الفنون
العقلية والنقلية ، الفقيه المحدث المفسر الأثري النحوي الأصولي الصوفي النظار
القانت الخاشع الأواه ، ولي الله بلا نزاع ، العارف بالله الداعي إلى الله الدار
عزاني مولدا ، الأزهري قطنا ،
الحلبي قطنا ومدفنا ، الإبراهيمي المنير والكوكب المضيء للسائرين ، الشافعي
مذهبا ، القادري والخلوتي طريقة ، الرفاعي البدوي مشربا.
أخذ الطريق عن
خاله صاحب الأحوال العلية والأنفاس الزكية ، صاحب المجاهدات والتقشف والرياضات ،
سيدي الشيخ أبي بكر الهلالي ، فسلك على يديه ورباه أحسن تربية إلى أن ترعرع ، وقرأ
جملة من الفقه والنحو وعلوم العربية ، ثم أذن له في الرحيل إلى مصر للمجاورة ،
فجاور بالأزهر وتفقه على جملة من المشايخ العظام أهل تحقيق وتوفيق ، ولازم صحبة
سيدي سليمان الجمل ، كان فقيها أنور ، وعمدة الفقهاء الشافعية في الأزهر ، له
المؤلفات الحافلة ، منها حاشية على الجلالين ، وحاشية على المنهج ، وشرح الدلايل ،
وشرح بانت سعاد وغير ذلك.
ثم أخبر أن
خاله مات سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف ، فألهمه الغفور الودود بأن يأخذ العهد من
سيدي الشيخ محمود الملقب بالكردي ، فسلك على يديه المقامات ، ولقنه الذكر بحسب
قابليته ، وألبسه التاج وأذن له بالتسليك وإقامة الذكر والتكلم على الناس. وتسلم
مجلس شيخه في حال حياة شيخه بالإذن الإلهي. ثم حصل الإذن بأن يرجع إلى حلب ويرشد
الناس بها ، فرجع إلى حلب بعد إقامته في الأزهر إحدى وعشرين سنة في الجد والاجتهاد
في العلم والطريق ، فعكفت عليه الناس من الآفاق ، يأتون من كل فج على قدم وساق ،
لأخذ العلم والطريق ، وتحقيق المسائل والتدقيق.
ثم مرض ابن
خاله الشيخ أحمد بن الشيخ أبي بكر ، فبعث وراء صاحب الترجمة وقال له : قد أذن لك
بالجلوس على السجادة في طريقة القادرية في زاويتي ، فقال له الشيخ : إن شاء الله
أنت تقوم من مرضك وترشد إخوانك ، فقال له : لا بل أنت قم وتسلم كما حصل الإذن ،
فتسلم وسلك المريدين من أقرب طريق ، وأرشدهم إلى مقام التحقيق ، فتمت نفحاته ،
وكثرت فتوحاته ، وصار متكلما على الناس بإرشادات القوم ، وصارت له الخلفاء
المرشدون إلى دين الله القويم المتين.
وكان متبحرا في
علمي الحقيقة والشريعة ، وكان جبلا لا تزحزحه الأهوال ، ولا تهزه نعماء الرجال ،
ولا تظهر منه رائحة دعوى قط ، بل إذا أراد أن يستشهد لشيء يقول : كان خالي يفعل
كذا أو يقول كذا ، أو كان شيخي الشيخ محمود الكردي يقول كذا أو
يفعل كذا ، ولا ينسب له حالا ولا قالا.
وكان يحب العزلة
عن الولاة فلا يأتي قاضيا ولا حاكما ولا كبيرا إلا عن ضرورة ، بل هم يأتونه
متبركين بل طالبين لدعائه. وكان إذا طلبت منه مسألة علمية أو دعاء لأحد أو استشارة
يجيب على الفور ، بل يمهل مقدار درجة أو أكثر أو أقل ، ثم يجيب بجواب سديد في غاية
من التدقيق والتحقيق ، ولا يشير في أمر إلا ويكون فيه الصواب ، وإذا خالفه أحد في
شيء ندم غاية الندم ، بل لا يسع أحد مخالفته.
وكان له أساليب
عجيبة في علم السياسة والقيافة والفراسة ، فإذا تكلم مع الحكام قادهم إلى الحق
بشعرة ، أو مع الصوفية بألطف إشارة ، ومع العوام والعلماء بأوضح عبارة.
وكان مجلسه
وقارا وحياء ، وأتباعه إذا جلست حوله كأن الطير على رؤوسهم ، وهم معظمون وموقرون
في قلوب الناس متبعون للسنة المحمدية مشهورون بالأدب والكمال ، فإنه كان مربيا
لأخوانه لا يسامحهم في هفواتهم ولا يواجههم بها ، بل يعرض بمن وقع في هفوة كما كان
صلىاللهعليهوسلم يقول : (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) فصاحب الهفوة
يعلم أنه المراد من بين سائر الحاضرين.
ومرة رأيت
النبي صلىاللهعليهوسلم في فلاة ناصبا صيوانا وهو يصلي إماما بالناس ، فعجلت
المشي لإدراك الصلاة معه ، فسلم تسليمتين فجئت من على يمينه صلىاللهعليهوسلم لأقبل يده الشريفة ، فنظرت إلى يدي فرأيت فيها غمرا لا تصلح لأخذ يد الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فأحنيت ظهري وقبلت يده بفمي ولم أمس يدي بيده لما
فيها من الغمر ، فنظر إليّ صلىاللهعليهوسلم وقال : لابد أن الهلالية أهل أدب ، فشهد صلىاللهعليهوسلم لمن انتسب للهلالية بالأدب ، ولم أر أحدا منهم مثلي
متضمخا بالأوساخ ، وصار منه صلىاللهعليهوسلم ما صار فكيف هم. وكانت كراماته تظهر على يده وهو
يخفيها.
وقال له مرة
أحد الولاة : أريد أن أجعل لك قناقا وحرما ، فقال له : نعم الأمير
__________________
إذا أتى إلى الفقير ، وبئس الفقير إذا ذهب إلى الأمير. وكانت الولاة وإن
كبر مقامهم الدنيوي لا يرضون إلا بتقبيل قدمه أو ركبته ، وهذا شيء طويل الذيل فلا
نطيل بذكره.
والحاصل أنه
كان ممن جمع بين العلم والعمل والرياسة وحسن السمت وحسن الخلق والسخاء والحياء.
عاش نحو الثمانين سنة ما عهدت له صبوة ، ومآثره وكراماته غزيرة.
وكانت وفاته
سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف ، ودفن في زاويته المسماة باليوسفية بحلب. وقد
تشرفت بأخذ العهد منه وقد كنت حديث السن ومع ذلك أعي ما يقول وأصغي له وأعمل به. ا
ه.
أقول : أجمعت
كلمة من أدركناهم من الطاعنين في السن على جلالة قدر المترجم والثناء على علمه
وفضله وورعه وزهده وحسن إرشاده ، وعلى هذه الشاكلة كان علماء الطريق وبهذه الصفات
كانوا مرشدين حقا ، ولكن قد تبدلت الآن هذه الأوضاع وتغيرت تلك الأحوال واختلط
الحابل بالنابل وتصدى للإرشاد من هو في حاجة إليه ، وأصبح الحال كما قال الشاعر :
أما الخيام
فإنها كخيامهم
|
|
وأرى نساء
الحي غير نسائها
|
ولا ريب أن
المتصدين للإرشاد والتسليك إذا اتسموا بتلك السمات الكريمة واتصفوا بهذه المزايا
العالية يعودون بجلائل الفوائد على هذه الأمة ، ويؤدي ذلك إلى ترقية أخلاقها
وتحسين حالتها ، وإنما الأعمال بالنيات والله من وراء القصد.
١١٩٣ ـ أحمد بن محمد الرفاعي شقيق أبي الوفا المتوفى سنة ١٢٣٨
قال أبو الوفا
في مجموعته :
أحمد بن محمد
بن عمر الرفاعي ، الشريف الحافظ المتقن المجود الصالح العابد ، أخي وابن أبي وأمي
ومن أنا وإياه ربينا في حجر واحد.
كان رحمهالله نظيف السريرة حسن السيرة ، لا يعرف المماراة ولا
التلون. تزوج بابنة مصطفى الوفائي أولا ، ثم بابنة المولوي وأجلسته في التكية
الإخلاصية ثانيا ، من أول سنة ١٢٢٢ ، وقام بالخدمة قياما تماما ، ولازم هناك على
الصلوات الخمس والأوراد ،
يعتكف الأبعينية معي حيث كنت أعتكف هناك. وكان رحمهالله يعرف لي حقوقا كثيرة.
ولم يزل على
ذلك إلى أن مرض يومين وتوفي بعد وفاة الشيخ إبراهيم الدار عزاني بيومين سنة ١٢٣٨ ،
ودفن على عمه عبد الله غربي قبر والده وجده. ا ه.
١١٩٤ ـ الشيخ مصطفى الزويتيني المتوفى سنة ١٢٣٨
الشيخ مصطفى بن
عبد الله الزويتيني ، الحلبي موطنا ، الشافعي مذهبا ، القادري طريقة.
كان زاهدا في
الدنيا ، عالما جليلا متفننا ، مكبا على طلب العلم وإفادته للناس ، وكان شديد
الشفقة والرأفة على خلق الله تعالى. قرأ على الشيخ قاسم المغربي ، واستقام في
مدرسة النابلسي وراء الجامع الكبير الأموي يفيد الناس ، وقرأ عليه جماعة ، منهم
الشيخ محمد الترمانيني ، والشيخ محمد الخانطوماني ، والشيخ درويش الساعاتي ،
والشيخ محمد المشهور بابن الجذبة ، وابنه الشيخ عقيل الزويتيني ، وانتفع به خلق
كثير.
سافر إلى
القسطنطينية سنة ١٢٢٤ واستقام هناك مدة ، ثم عاد إلى حلب. وكان فقير الحال جدا.
توفي سنة ١٢٣٨
، ودفن في تربة السفيري ، وعلى قبره بناء بالأحجار رحمهالله. ا ه. (أبو الوفا).
١١٩٥ ـ أبو بكر الكوراني المتوفى سنة ١٢٤١
أبو بكر بن مصطفى
بن أبي بكر الكوراني الحنفي ، الشريف ابن الشريف. كان فاضلا أديبا سليم الباطن.
قرأ على والده وعلى عمر الشريف الخفاف وعلى إسماعيل المواهبي ، وحصل طرفا من
الفقه.
وكان كثير
الضحك في الجد والهزل ، ثم صار رئيس الكتاب بالمحكمة الكبرى ، وصار ما بين بعد قصر
البربر (هكذا) القاضي أيام راغب باشا والي حلب سنة ١٢٢٧ ، ثم صار سنة ١٢٣٨ نقيب
الأشراف ، إلى أن توفي سنة ١٢٤١ رحمهالله تعالى.
وكان بيننا
وبينه قرابة من جهة الإناث ، وكان كثير الصمت إلا من الضحك ، لا يذكر أحدا بسوء ،
حسن الأخلاق لين العريكة. ا ه. (من مجموعة أبي الوفا).
وعثرت على
أوراق بخطه مقتطعة من مجموع فيها شيء من شعره ، من ذلك ما كتبه نظما إلى محمد
أفندي اللبق مجاوبا له عن قصيدة وردت منه يعاتبه فيها على بعض الأمور ، قال :
لافض فوك لقد
أبدعت في الكلم
|
|
يا سيدا
فاضلا يا عالي الهمم
|
يا من غدا
بين أهل الفضل جوهرة
|
|
وفضله وذكاه
شاع في الأمم
|
أنت الذي فقت
حسان الذي شملت
|
|
أشعاره غررا
في سالف القدم
|
أنت الذي فقت
أسلافا فما أحد
|
|
من مشبه لهم
في العرب والعجم
|
أنت الذي حزت
في الشهباء منزلة
|
|
في الشعر قلّ
وفي نثر وفي كرم
|
قد نلت ما
رمت من رب العباد وقد
|
|
حباك ربك
بالأفضال والنعم
|
لا تعتبن
فمثلي لا اقتدار له
|
|
على امتداح
صديق خص بالحكم
|
فاقبل بحقك
عذرا لست موضحه
|
|
يا حبذا مدحه
بدئي ومختتمي
|
١١٩٦ ـ الشيخ علي بن جانم الإدلبي
المتوفى سنة ١٢٤٢
الشيخ علي بن
جانم الإدلبي. كان من الشعراء المجيدين ، موصوف بسرعة الجواب والاستحضار.
وله شعر رائق
وبداهة قوية ونكات شهية ، منها أنه سافر مرة إلى بلدة يافا ولم يكن يعرف بها أحدا
، فنزل في مسجدها الجامع في حجرة الخطيب ، إذ كان الغالب إذ ذاك أن الجامع مأوى
الغريب ، ثم توجه يطوف في أنحاء البلدة لقضاء حاجياته ، وعند المساء عاد للبيت
فوجد الخطيب قد دفع متاعه لرجل خارج الجامع من أصحاب الحوانيت وأوصاه يدفعه إلى
الشيخ الإدلبي متى حضر ، فلما أعلمه الرجل بما فعل الخطيب كتب على باب حجرة الخطيب
:
خطرت ليافا
أبتغي الجود والندى
|
|
وأصبحت في
ثوب العفافة أرفل
|
فقفّل أبواب
الرجا دون مطمعي
|
|
خطيب بيافا
تبّ ذاك المقفّل
|
ومن قصائده
مادحا السيد محمد أفندي العياشي السالف ذكره بقوله :
مطالع الحسن
والإحسان والحسنى
|
|
لاحت لنا من
مجالي وجهك الأسنى
|
لدى ربوع
الرضا ضاءت صباحته
|
|
إشراقها عن
مصابيح الغنى أغنى
|
وقد تغنى
هزار السعد مذ بزغت
|
|
شمس السيادة
منها أشرق المغنى
|
هلم يا منشد
الألحان غن لنا
|
|
راق الزمان
وفي أفراحنا دعنا
|
وهات قرقف
أفراحي تطوف بها
|
|
هيفاء تزري
غصون الروضة الغنا
|
لمياء إن
خالستنا سحر مقلتها
|
|
سحيرا اختلست
ألبابنا منا
|
خود سقتنا
الهوى من كأس وجنتها
|
|
عن السوى في
الهوى كاساتها صنا
|
غزالة
غازلتنا غزل مقلتها
|
|
فن التصابي
جعلناه لنا فنا
|
وافت تعاهدنا
حفظ الوفاء لها
|
|
كلّا عهود
الوفا والله ما خنا
|
يا ظبية فتنت
قلبا له ملكت
|
|
به الظبا
فتكت عن أعين وسنى
|
لنا قلوب
بأسما قط ما ولعت
|
|
ولا سليمى
ولا علوى ولا لبنى
|
لكن لها وله
بالأكرمين وهم
|
|
آباء أحمد
بشراهم بذا يمنا
|
بشر به حسنا
كالبدر طلعته
|
|
ألمى أزجّ
جميل أكمل أقنى
|
فالصبح يفترّ
عن لألاء غرته
|
|
والفجر لما
بدا عن فرقه أثنى
|
أنّى يضاهي
جمالا والعناية قد
|
|
مدته من جده
خير الورى أنّى
|
يا حسن ما
وافقت أيام مولده
|
|
لدى ربيعين
جاءت تزدهي حسنا
|
لا زال ينشأ
والأيام باسمة
|
|
من طيبها لا
يرى أبهى ولا أجنى
|
من آل مجد
عريض طاب محتدهم
|
|
سموا بعز
رفيع أشرف المعنى
|
جرثومة الفخر
تروي عن محامدهم
|
|
وسودد الفضل
في تمداحهم غنّى
|
لما سموا
ببني العيّاش عاش بهم
|
|
نزيل رحب
حماهم عيشه الأهنى
|
قرت بهم عين
مرقاة العلا فعلوا
|
|
أولي النهى
والسهى من قدرهم أدنى
|
آل البتول
بنو الزهراء زاكية
|
|
أعرافهم
نشرها قد عطر الدهنا
|
هم الكرام هم
للواردين وهم
|
|
للائذين
تراهم منهلا حصنا
|
هم الكماة
حماة الخافقين وهم
|
|
لكل بيت رفيع
قد غدوا ركنا
|
ألا أباهي به
بكر القريض ألا
|
|
رامت
بأوصافهم تجلى لهم حسنى
|
وهل أرى
كفؤها إلا أبا حسن
|
|
وهل لها غير
ناديه حمى أمنا
|
نجل ابنه حسن
أضحى يؤرخها
|
|
فردا هدى
أحمد الأوصاف والمثنى
|
وله غير ذلك من
الأشعار. توفي سنة ١٢٤٢.
١١٩٧ ـ إسماعيل أفندي شريف المتوفى سنة ١٢٤٢
إسماعيل أفندي
ابن عبد الرحمن بن عبد الوهاب أفندي شريف.
كان والده من
كبار التجار في حلب ، وعاش من العمر تسعين عاما. وأما المترجم فإنه نشأ في التجارة
كأبيه ، ثم صار متسلم حلب سنة ١٢٤٠ ، وعين على الحج بوظيفة أمين الصرة وجدد دار
الحكومة في جسر الشغر كما هو محرر على بابها ، وذلك يفيد أنه كان حاكما فيها. وفي
سنة ١٢٤٢ وهي السنة التي توفي فيها وقف أملاكه على ذريته وذرية أخيه نعمان أفندي ،
وشرط لطلبة العلم المجاورين في المدرسة
القرناصية التي
هي بالقرب من دار المترجم في كل شهر ألفا ومائتي غرش ، وهو الواقف الثاني على هذه
المدرسة .
وكانت وفاته
سنة ألف ومائتين واثنتين وأربعين في الشام.
وأخوه نعمان
أفندي صار نقيب الأشراف في حلب ، ومنح رتبة موالي أعدمته الحكومة في قرية تلشعير
وقبره معروف فيها.
وسبب ذلك أن
الوالي الذي كان وقتئذ في حلب طلب منه مائتي ليرة لقاء وظيفة المتسلمية التي كانت
في عهدة أخيه إسماعيل ، فامتنع من ذلك مؤملا أن ينالها بما كان له من النفوذ ،
وصار يتعاطى الأسباب في عزل الوالي ، ويكتب إلى الآستانة في سوء إدارته وسيىء
سيرته ، فبلغ الوالي ذلك وحدث بهذا الحديث لأحمد بيك ابن إبراهيم باشا ، فحينئذ
دفع هذه الدراهم أحمد بك وصار متسلما ، وعندئذ استحصل الوالي أمرا من الآستانة
يقضي بذهاب المترجم إلى عينتاب لتحقيق بعض الأمور عن اليكيجارية ، فحينما وصل إلى
قرية تل شعير من أعمال أعزاز بات بها ، فأصبح مقتولا من قبل الجند الذين في رفاقته
، ودفن في هذه القرية. ويقال إن ذلك كان بإغراء الوالي لقاء معاكسته له.
__________________
ومن آثاره بناء
سبيل أمام مخفر باب النصر في أول الجادة التي تصعد منها إلى محلة الفرافرة ، وقد
توهن في المدة الأخيرة فجعلته دائرة الأوقاف دكانا وآجرته وذلك سنة ١٣٤٣.
وخلف المترجم
من الأولاد سعيد أفندي والحاج يوسف باشا المشهور. أما سعيد أفندي فإنه حينما أتى
إبراهيم باشا المصري إلى هذه البلاد استصحبه معه إلى حمص وحماة ، حينما توجه للحرب
التي كانت بينه وبين الدولة العثمانية هناك وكلفه أن يصرف على عساكره وغرمه أموالا
طائلة ، فمات قهرا سنة ١٢٥١ وعمره ثلاث وثلاثون سنة. وستأتي ترجمة يوسف باشا إن
شاء الله تعالى.
١١٩٨ ـ أحمد بن إبراهيم الخلاصي الطبيب المتوفى سنة ١٢٤٤
أحمد بن
إبراهيم الخلاصي ، الطبيب الخطيب بجامع الصروي بالبياضة.
أخذ الطريق
الأحمدي من محمد الملثم الشريف ، وأقام التوحيد بزاوية أبي ذر في محلة الجبيل.
كان حذقا
بالطب. كان لي زميلا في الحج سنة ١٢٣٠ ، واختلى خلوة أربعينية في زاوية أبي ذر ،
وأخذ الطريق عن عبد المعطي زوين ، وصار يختلي خلوة شاذلية.
توفي سنة ١٢٤٤.
ا ه. (من مجموعة أبي الوفا).
وهو أول من عرف
من بني الخلاصي الأطباء.
١١٩٩ ـ أحمد بن عبد الله الجابري المتوفى سنة ١٢٤٤
الشيخ أحمد بن
عبد الله بن مصطفى بن أحمد الجابري الشريف ، أمه من بيت الحجازي الباني.
ولد سنة ١١٩٤ ،
ونشأ في حجر والده ، وطلب العلم وحصل منه طرفا صالحا ، وقرأ على قاسم المغربي وعلى
عمر الخفاف وصالح بن سلطان وغيرهم.
وكان ذكيا فطنا
ذا شهامة ووجاهة وجثة.
حج سنة ١٢١٠ في
حياة والده ، وكان لي حبيبا ولقلبي محبوبا ، وكان لا يفضي بأسراره لأحد غيري.
تولى فتوى حلب
سنة ١٢٢٣ وكان له سيرة حسنة عند جميع الناس ، وكان معتمد الوزراء لهم فيه ظن حسن ،
يكرمونه ويوقرونه ويعتبرونه. وكان محلول القلم باللسان التركي منشئا أديبا شاعرا
يقصده الناس لعمل التساويد الرفيعة ، وكان ورعا في أمر الفتوى مدققا ، بقي إلى سنة
١٢٤٤. ا ه. (من مجموعة أبي الوفا).
وللشيخ عبد
القادر الحسبي مهنئا أحمد أفندي المذكور بزواجه سنة ١٢١٢ :
وافت على سجع
الحمام
|
|
تشدو الحداة
من الهيام
|
والروض مخضلا
تراه
|
|
كأنه سقي
الغمام
|
وترى الغصون
تمايلت
|
|
طربا كأن بها
الغرام
|
وغدا بشير
الأنس يعلن
|
|
بابتهاج
وابتسام
|
لزفاف من قد
جاز من
|
|
أسلافه أعلى
مقام
|
هو أحمد
الأوصاف
|
|
والأفعال
سلمه السلام
|
لا غرو إذ هو
نجل من
|
|
فيه المحاسن
بالتمام
|
الفضل
والإفضال مع
|
|
حسن البلاغة
في الكلام
|
شهدت له كتب
العلوم
|
|
بأنه مفتي
الأنام
|
وقضت له أهل
الفضائل
|
|
أنه اليوم
إمام
|
فبذاته
للمستفيد على
|
|
الإفادة قد
أقام
|
لا زال
محفوفا بألطاف
|
|
العليّ على
الدوام
|
فلقد أتيت
مؤرخا
|
|
هذا زفاف ابن
الكرام
|
١٢١٢
وللشيخ عبد
القادر الضرير الحافظ مادحا أحمد أفندي المذكور :
شرّفت يا نجل
الكرام ونورت
|
|
فيك الديار
وغردت أطيارها
|
واستبشرت فيك
الأكارم وانجلت
|
|
أسرارها
وتبددت أكدارها
|
هذي الرياض
تمايلت أغصانها
|
|
طربا بكم
وتبسمت أزهارها
|
والورق صادحة
على أفنانها
|
|
ولها يلذ
بمدحكم تذكارها
|
إن الأكارم
حيث حلوا بقعة
|
|
طابت معالمها
وأكرم جارها
|
فلتهنؤوا يا
سادة سادوا الورى
|
|
وببلدة
الشهباء هم أقمارها
|
شيدتم للعلم
بيتا لم تزل
|
|
أركانه تهدي
الورى أنوارها
|
لا زلتم في
ظل عز دائم
|
|
مع رفعة يسمو
بكم إظهارها
|
يا من إذا
أمّ النزيل ديارهم
|
|
فاضت عليه من
الندى أنهارها
|
عذرا لمادحك
الذي بطشت به
|
|
أيدي الزمان
ومكنت أظفارها
|
فامنحه يا
مولاي منك قبول ما
|
|
أهدى إليك
وإن وهى مقدارها
|
أنتم كرام لا
يزال مريدكم
|
|
في غبطة تبقى
بكم آثارها
|
ا ه (من مجموعة
عند مصطفى أفندي اليكن).
١٢٠٠ ـ الشيخ محمد بن عثمان العقيلي المتوفى سنة ١٢٤٥
الشيخ محمد بن
عثمان بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن أحمد العمري العقيلي الحلبي الشافعي ،
العالم الفقيه الفاضل الديّن الصالح الورع الزاهد المتفنن العابد.
مولده سنة ثلاث
وستين وماية وألف ، ونشأ بكنف والده ، وقرأ القرآن العظيم وحفظه وتلاه وجوده ،
وحفظ الشاطبية ، وأخذ القراءات للرواة السبع بالإتقان من طريق الشاطبية ، واشتغل
بتحصيل العلوم ، وأخذ عن والده وانتفع به وتخرج عليه وأكثر من الاستفادة لديه ،
وسلّكه وأجازه بالإجازة العامة ، وأجاز له جماعة من المحدثين غب القراءة والسماع ،
منهم عطاء الله بن أحمد المصري نزيل مكة ، وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي
الحلبي ، والشهاب أحمد بن عبيد الله العطار الدمشقي ، وأبو جعفر منصور بن مصطفى
السرميني الحلبي وآخرون.
__________________
ولما مات والده
في المحرم سنة ثلاث وتسعين وماية وألف قام خليفة بعده ، كما خلفه ولزمه تلامذة
والده وأحبابه. وأقام الأذكار والتوحيد ، واشتغل بإلقاء الدروس.
واجتمع بالسيد
محمد خليل المرادي سنة خمس ومائتين وألف وأخذ كل منهما عن الآخر واستجاز كل الآخر.
وكان على طريق
مستقيم ومنهج قويم ، ولم يزل على قدم التقوى والعبادة والإفادة والاستفادة وإقامة
الأذكار وإرشاد الناس إلى أن اختار الآخرة ، والرحلة إلى الدار الفاخرة. بعد ألف
ومائتين وخمسة. ا ه. (حلية البشر).
أقول : كانت
وفاته رحمهالله سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين ، ودفن مع آبائه وأجداده
في تربة السيد علي. وقال في «حلية البشر» بعد قوله في عمود النسب العمري العقيلي :
(وتقدم بقية نسبه في ترجمة أخيه عبد الرحمن أبي البركات وأبيه عثمان أبي الفضل في
حرف العين). ولم أر ترجمة لأخيه في الكتاب المذكور ولا لأبيه ، على أن أباه من
رجال القرن الثاني عشر ، وقد ترجمه العلامة المرادي في «سلك الدرر» ولم يذكر تتمة
نسبه. وقد استخرجت ذلك من النسب المحفوظ عند العائلة المذكورة فقال : إن أحمد
المتقدم هو ابن عبد الرزاق بن شهاب الدين أحمد بن يوسف ابن الشيخ صالح عقيل بن أبي
بكر عبد الرحمن بن برهان الدين بن شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن الشيخ
أحمد سويدان ابن الشيخ عقيل المنبجي قدسسره ابن أحمد البطايحي بن زين الدين عمر ابن سالم بن عبد
الله الزاهد ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضياللهعنه.
وأما عبد
الرحمن أخو المترجم فقد كان عالما فاضلا أيضا ، وتولى إفتاء الشافعية بحلب ، وكانت
وفاته سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين ودفن في التربة المذكورة ، وخلفه على السجادة
ولده الشيخ أحمد ، ولم تطل مدته سوى سنة واحدة ، فإنه في سنة ست وأربعين توجه إلى
الحجاز وتوفي هناك في تلك السنة ، وخلفه ولده الشيخ عبد الرحمن وتوفي سنة ١٢٧٠ ،
وخلفه الشيخ أحمد ابن الشيخ عبد الرحمن وتوفي سنة ١٣٠٦.
١٢٠١ ـ الشيخ محمد بن عبد الكريم الترمانيني المتوفى سنة ١٢٥٠
الشيخ محمد نور
الدين بن عبد الكريم بن عيسى بن أحمد بن نعمة الله بن علي الحلبي
الترمانيني الأزهري الشافعي ، مفتي الشافعية في الديار الحلبية.
كان آية من
آيات الفضل ونابغة من نوابغ الدهر علما وعملا وذكاء ونبلا وخلقا.
ولد في قرية
ترمانين في ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وماية وألف ، وبعد أن حفظ القرآن العظيم وقرأ
مقدمات العلوم العزبية والدينية على والده وعلى بعض فضلاء حلب رحل إلى الجامع
الأزهر في مصر ، وذلك في سنة عشرين ومائتين ، فعكف فيه على تحصيل الفنون والعلوم
ولازم دروس أعيان علماء الآزهر كالشيخ محمد الشنواني والشيخ حسن القويسني والشيخ
حسن العطار والشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ الفضالي وغيرهم من أفاضل الجامع
الأزهر ، فما لبث بضع سنين حتى مهر وبهر. ثم عاد إلى حلب سنة ثلاث وثلاثين وكان
العلم فيها آخذا في الانحطاط لسبب الأوبئة التي حصلت في حلب ، وقصفت يد المنون غير
واحد من العلماء فيها ، وما كاد يستقر أمره حتى اشتهر فضله وعلا ذكره وهرع إليه
الأهلون ، فتصدر للإفتاء والتدريس وصار مدرسا في الجامع الأموي الكبير ومحدثا في
مدرسة العثمانية ومدرسا للمدرسة القرناصية.
وفي سنة ثمان
وثلاثين أسند إليه منصب الإفتاء على مذهب الإمام الشافعي وصار مدرسا في المدرسة
الرحيمية بالقرب من جامع المستدامية وسكن في الدار الملاصقة للمدرسة الموقوفة على من
كان مدرسا فيها عملا بالتعامل القديم ، ولم يأل جهدا في نشر العلم والإرشاد.
ثم شرع في
التأليف فألف حاشية على منهج الطلاب في مذهب الشافعي في مجلدين ، وهي موجودة بخطه
عند حفيده الفاضل صديقنا الشيخ إبراهيم ابتدأ في تأليفها حينما كان مجاورا في
الأزهر وأتمها في حلب. ومما قاله في آخرها : وقد وافق الفراغ من تتميمها ليلة
الجمعة في أول ليلة خلت من شهر رمضان لسنة تسع وأربعين ومائتين بعد الألف من
الهجرة ، وذلك بمدرسة الرحيمية في زمن قلت فيه الرغبات وانعدمت فيه المروءات
واستوى
__________________
فيه المؤمن والكافر والتقي والفاجر ، وذلك زمن استيلاء الدولة المصرية على
الأقطار الشامية التي كانت على العباد من أعظم الرزية ... إلخ.
وله شرح على
عقود الجمان في المعاني والبيان سلك فيه طريقة المتقدمين في ايجاز العبارة وحسن
البلاغة ، فرغ من تأليفه في جمادى الثانية سنة ١٢٥٠ في الرحيمية كما ذكر في آخره.
وله مجموعة فتاوي على مذهب الشافعي مشتملة على الحوادث التي سئل عنها وأجاب. وله
شرح لطيف على الآجرومية في النحو ألفه باسم ولده الشيخ عبد السلام. وله شرح على
متن التهذيب في المنطق.
وسرح في ميادين
الأدب فكان له في النظم والنثر يد طولى وقدم راسخة ، وله مجموعة مشتملة على غرر
القصائد والأشعار والمحاورات الأدبية التي جرت بينه وبين زملائه المجاورين أيام
التحصيل.
ومن بديع شعره
تخميسه لقصيدة الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي وهو :
ما هذه الدار
للأخيار من دار
|
|
إن كنت تدري
فما ذا الهم يا داري
|
واصبر إذا
دارت الأيام أو دار
|
|
من عادة
الدهر صفو بعد أكدار
|
فلا
تكن فيه في هم وأكدار
|
إن التغير
والتبديل شيمته
|
|
فارتح وكن
رجلا طابت سريرته
|
وإن أصابك من
دهر مضرّته
|
|
صبرا فأي
امرىء دامت مسرته
|
وأي
دهر تراه غير غدّار
|
إياك تغترّ
والأوقات تصرفها
|
|
إلى المعاصي
والأغيار تعرفها
|
واغرس ثمار
التقى والزهد تقطفها
|
|
واترك غرورك
بالدنيا فزخرفها
|
غر
الفراش فأرمى النفس في النار
|
وإن رأيت حقودا
في رداك سعى
|
|
وجدّ في
البغي والإيذاء واتسعا
|
فاسمع لقولي
وكن للنصح مستمعا
|
|
كن كالنخيل
عن الأحقاد مرتفعا
|
يؤذى
برجم فيعطي خير أثمار
|
من رام تصفو
له أيامه غلطا
|
|
لا بد لليسر
من عسر وإن سخطا
|
فكن إذا جادت
الأيام منبسطا
|
|
واصبر إذا
ضقت ذرعا والزمان سطا
|
لا يحصل اليسر إلا بعد إعسار
فلا تكن في
أمور الدهر في هوس
|
|
وفي تهانيه
كن منها كمقتبس
|
وقل لمن رام
صفوا غير منعكس
|
|
لم يخل من
نكد الأيام ذو نفس
|
حتى
الحجارة في بلوى بنقّار
|
للموت لا تنس
بل كن خائفا حذرا
|
|
واعمل لدار
البقا ما دمت منتظرا
|
وإن ترد منصب
السادات والأمرا
|
|
دع التفكر في
دنياك محتقرا
|
عظيم
لذاتها تحظى بأسرار
|
واترك أخا
الجهل يسعى في ضلالته
|
|
ولا تجالسه
تكسب من رذالته
|
عليك بالعلم
تحظى في جلالته
|
|
إياك والجهل
فارغب في إزالته
|
لابد
يغتر من في ظلمة ساري
|
إن كنت تقبل
مني ما أقول تجز
|
|
على صراط
قويم والكمال تحز
|
فزن كلامي
بميزان العقول ورز
|
|
لا تصحبنّ
سوى ذي الفضل منه تفز
|
وإن
صحبت جهولا فزت بالعار
|
اسمع كلاما
صحيحا غير مشتبه
|
|
مع من أحب
يكون المرء فانتبه
|
فاصحب كريما
ظريفا في تأدّبه
|
|
من يصحب
البوم يأتي للخراب به
|
والعطر
يكسبه أصحاب عطّار
|
لا تأس من
حاسد آذتك جفوته
|
|
وقد أهاجت بك
النيران سطوته
|
فالعود ألحقه
بالطيب حرقته
|
|
وفي امتحان
الفتى تبدو فضيلته
|
لا
تعرف الخيل إلا يوم مضمار
|
كن خائف الله
فيما أنت تعلمه
|
|
من راقب عل
الله يرحمه
|
تب توبة من
عظيم الجرم تعدمه
|
|
إياك تنسى
حقير الذنب تعظمه
|
من
القراريط يأتي كل قنطار
|
وماء وجهك عن
قبح المذلة صن
|
|
ولا تسل من
لئيم حاجة فتهن
|
وإن سئلت فجد
مما منحت ومن
|
|
وقم بوسعك في
كسب الحلال وكن
|
في
صرفه بين تبذير وإقتار
|
إياك من مال
أوقاف معطّلة
|
|
أو اكتساب
بأسباب محرمة
|
وقل لمن كسبه
من مال محكمة
|
|
فلس الحلال
ولا دينار مظلمة
|
شتان ما بين نيران وأنوار
يا ذا الذي
همه في القوت أشغله
|
|
عن المعاد
وعن زاد يحصله
|
دع عنك هذا
وخذ فيما خلقت له
|
|
على الإله
توكل دائما فله
|
مشيئة
في الورى تمضي بأقدار
|
الرزق يأتيك
لا بالجد والحيل
|
|
فارتح وخذ في
اكتساب العلم والعمل
|
واسمع كلامي
فإني لست بالجدل
|
|
جربت دهري
فما أبقى التجلد لي
|
شيئا
أروم كأني نلت أوطاري
|
لم يبق شيء
عليه لست مطّلعا
|
|
في هذه الدار
ما قد قيل أو سمعا
|
وبعد هذا
عصاني الدهر وامتنعا
|
|
وحاربتني
الليالي والأنام معا
|
بأسهم
البين حتى قل أنصاري
|
وخانني بعض
من عاشرته وشهد
|
|
بشقوتي قلت
صبرا يا زمان فزد
|
أأختشي من
جهول للإله عند
|
|
وقد دهتني
أمور لو على الفلك الدّ
|
وّار
تلقى لأضحى غير دوّار
|
كم لذة ما
حظي غيري بأوضعها
|
|
حظيت منها
بأعلاها وارفعها
|
ثم انقضت هل
ترى دهري بمرجعها
|
|
والحمد لله
في الأحوال أجمعها
|
والشكر
لله في جهر وإسرار
|
وله تخميس
أبيات للشيخ عبد الغني النابلسي في مدح النبي صلىاللهعليهوسلم قال في مطلعه :
يا خير من للسموات
العلا عرجا
|
|
وقد رقا فوق
كل الأنبياء درجا
|
على المسرات
جيش الضر قد خرجا
|
|
يا أشرف
الرسل ضاقت فاسأل الفرجا
|
فإنني
بك قد أضمرت ألف رجا
|
ومنه :
فأنت أنقذتنا
بالنور من ظلم
|
|
وسقتنا لطريق
الحق في حكم
|
فكيف نحصي
لما أوليت من نعم
|
|
وأنت فضلتنا
قدما على أمم
|
مضت
وعنا رفعت الإثم والحرجا
|
وكان المترجم
يوما في بستان قيصر ومعه الشيخ عبد القادر الحسبي نائب المحكمة الشرعية ونخبة من
الفضلاء والأدباء ، وقد غنى المغنون ، وكانت البلابل تغرد فوق الأغصان ، وقد طرب
الحاضرون ، فارتجل الشيخ عبد القادر أبياتا خاطب بها المترجم مختبرا لقريحته :
ما للبلابل
قد علت أصواتها
|
|
وغدت على
أفنانها متصادحه
|
وتقننت
بالصدح فوق رؤوسنا
|
|
من غير أن
نومي لهن بجارحه
|
أتظن أن
الصدح منها فوق ما
|
|
يبديه منا من
أجاد قرائحه
|
فأتت تفاخرنا
بحسن بيانها
|
|
ويريد كل أن
يبين ملائحه
|
فاكشف لنا
هذا الذي قد رابنا
|
|
لازلت وافر
كل خير رابحه
|
فأجابه المترجم
ارتجالا :
ما ظنها ذاك
التفاخر بل رأت
|
|
منا وجوها في
الهوى متناصحه
|
وغدا البنان
مزركشا أوصاف من
|
|
بهواه أفئدة
الورى متطافحه
|
فأتت تساعدنا
بنظم مديحه
|
|
وتبث أوصافا
لديه راحجه
|
إذ كل من ذاق
الغرام يسره
|
|
ذكر الحبيب
ولو طيورا صادحه
|
هذا الذي قد
لاح لي من صدحها
|
|
يا من له عين
المعالي طامحه
|
وكان المترجم
جميل الوجه أبيض اللون مشربا بحمرة طلق الوجه حلو المحاضرة قوي الحجة مهابا مقداما
ميالا لركوب الخيل واقتنائها ، يتعاطى مع التدريس ونشر العلم الزراعة والتجارة ،
محبا لفعل الخير واصطناع المعروف ، متباعدا عن مخالطة الأمراء والحكام محبوبا
لديهم ، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، مدافعا عن وطنه خصوصا في زمن الحكومة
المصرية ، فإنه كان يجسر على أميرها إبراهيم باشا وينهاه وجنوده عن ارتكاب المظالم
واقتراف الآثام.
وقبل دخول
إبراهيم باشا المصري إلى هذه الديار وقعت حادثة مهمة كان للمترجم فيها اليد
البيضاء على كثير من علماء وأعيان حلب ، وذلك أنهم كانوا اجتمعوا ذات ليلة بأمر من
السلطان محمود ووقّعوا على فتوى تقضي بأن إبراهيم باشا من أهل البغي ، وأنه خارج
عن إمام المسلمين محمود بغير حق ، وأنه يجب على كل من له قدرة على القتال أن
ينصر الإمام عليه وعلى أتباعه ، فبعد دخول إبراهيم باشا إلى حلب ذهب بعض من
لا خلاق له وأعلم الباشا بذلك ، فألقى القبض على الكثير وحبسهم ممن وقّعوا هذه
الفتوى منهم عبد الرحمن أفندي المدرس مفتي الحنفية في حلب ، والشيخ محمد أبو الوفا
الرفاعي وغيرهم ، ثم أرسل إلى المترجم يستفتيه عن حكم جماعة أخذوا يعيثون في الأرض
فسادا ويلقون بذور الشقاق بين الأهالي ويحرضونهم على قتال أميرهم القائم بنصرتهم
والمنقذ لهم من حكم الأتراك وربقة أسرهم ، فاعتذر المترجم وقتئذ وطلب مهلة في
إعطاء الجواب إلى حين مراجعة النقول الشرعية في مثل هذه القضية ، وفي خلالها هيأ
أسباب الرحلة واستناب كلا من أخيه الشيخ أحمد وتلميذه الشيخ محمد الخانطوماني
والشيخ أحمد الحجار في دروسه وكفالة عائلته ، وحرر الجواب وبيّن فيه أن الفتوى على
قدر النص ، وأنه لا يسأل عن ذلك لأنهم إنما أفتوا بما اتصل بهم ، وأنهم إذا لم
يثبتوا خروج إبراهيم باشا على السلطان فإنهم حينئذ يجازون ، وأطال في بيان الجواب
مستدلا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، ووضع الجواب في مدرسته في مكان
قعوده وسافر ليلا إلى مصر. وفي اليوم الثاني أرسل إبراهيم باشا إلى المدرسة فأعلم
بسفر الشيخ ليلا وأنه ترك هذه الورقة ، فأخذها ، ولما قرئت له اغتاظ جدا ، ونظرا
لقرب دخوله إلى حلب لم يجسر على الفتك بأحد من موقعي الفتوى لأنه لم يستحصل على فتوى
توجب قتلهم كما كان يروم ، فاضطر أن يترك أكثر هؤلاء الموقعين ، واكتفى بنفي عبد
الرحمن أفندي المدرس مفتي حلب والشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي إلى عكا ثم الشام
وتفرس إبراهيم باشا أن المترجم ذهب إلى مصر ، فكتب إلى والده محمد علي باشا بلزوم
القبض عليه وإرساله مخفورا إلى حلب ، وكان المترجم قد دخل الأزهر وحدّث بقضيته
للشيخ محمد النشواني ، وكان شيخ الأزهر وقتئذ وله الوجاهة التامة لدى محمد علي
باشا ، فتداخل بالأمر واستحصل أمرا بالعفو عنه وعن المنفيين إلى الشام ، فعادوا
إلى حلب.
وفي شهر ذي
القعدة سنة ١٢٥٠ توجه إلى مصر بقصد التجارة ووضع ولده الشيخ عبد السلام في الأزهر
ونزل ضيفا مكرما عند صديقه الشيخ محمد عياد الطنطاوي ، ولم يمض على وصوله شهر حتى
أصيب بالطاعون وذلك ثالث ذي الحجة من هذه السنة ، فحزن على فقده كل من عرفه وعرف
فضله ، ودفن بالقرافة الكبرى بالقرب من الإمام الشافعي رضياللهعنه.
ورثاه الشيخ
محمد عياد المذكور بقصيدة غراء وهي :
مالي لاه
باللاحيني
|
|
وغراب البين
يناديني
|
وصروف البين
تحاربني
|
|
بحسام أزرق
مسنون
|
تخذ الأرواح
فرندا مذ
|
|
دبت في
الشفرة بالهون
|
أنجوم الفضل
قد انكدرت
|
|
فخبا منها نور
الدين
|
أم روض الفضل
غدا زلقا
|
|
زاوي زهر
ورياحين
|
أنهار رباه
غائضة
|
|
والدوح بغير
أفانين
|
لا بل قلبي
جزع من فق
|
|
د محمد
الترمانيني
|
حبر بحر فطن
طبن
|
|
أودى شهبا
ببراهين
|
قلبي فيه ترح
لما
|
|
داعيه أتاه
على حين
|
حفت أملاك
الله به
|
|
إذ سار إلى
عليين
|
كم مهّد
قاعدة وأتى
|
|
لأولي العليا
بقوانين
|
لم يصرف همته
إلا
|
|
ليحوز مقام
التمكين
|
في منطقه
أبدى غررا
|
|
ببديع معاني
التبيين
|
ورقيق الشعر
له طبع
|
|
من تقريظ أو
تأبين
|
كلف بالشرع
له عمل
|
|
بفرائضه
والمسنون
|
كم من فيه
كلم لفظت
|
|
تزري بالدر
المكنون
|
هو شامة أهل
الشام وعم
|
|
دة أقيال
وأساطين
|
وبأنطاكية أو
حلب
|
|
أو جلّق أو
قنسرين
|
أو طرسوس أو
تنيس
|
|
وطرابلس
وفلسطين
|
فاسأل منها
عنه فلكم
|
|
حظيت منه
بالتزيين
|
فلئن آوى
جدثا فيه
|
|
أضحى روض
الحور العين
|
وأهاليه نوح
غرقوا
|
|
في فلك الدمع
المشحون
|
أو يوم نواه
مسود
|
|
فيه حسرات
المحزون
|
فصحائفه بيض
خضر
|
|
ملئت بالتقوى
والدين
|
__________________
لكنّ لنفس
تسلية
|
|
ببقاء النجل
الميمون
|
بارك فيه
اللهم كما
|
|
باركت لنا في
الزيتون
|
واجعله لنا
خلفا حسنا
|
|
في المجد أشم
العرنين
|
وصلاة الله
وتسليم
|
|
لنبي يمدح في
نون
|
والآل الغر
وأصحاب
|
|
جعلوا شركا
في توهين
|
ما حور الخلد
مؤرخة
|
|
تال طوبى
الترمانيني
|
١٢٥٠
وأشار الناظم
بقوله : واسأل منها عنه فلكم إلخ إلى ما جرى معه أثناء سياحته إلى الشام وفلسطين
وتلك البلاد سنة ثلاث وأربعين ومائتين من المناظرات العلمية والأدبية بينه وبين
علماء هذه البلاد اعترفوا له بالفضل والنبل وسعة المدارك وقوة الحافظة وفصاحة
المنطق وسرعة الانتقال ، وكان موضوع إعجابهم واستغرابهم رحمهالله.
١٢٠٢ ـ الشيخ حسن المدرس جد آل المدرس المتوفى سنة ١٢٥٠
الشيخ حسن بن
عبد الرحمن الكلزي الحنفي ، أبو محمد العالم الفاضل المتقن الأصولي المنطقي المفسر
، الزاهد الورع التقي النقي المستبصر.
مولده بكلّز
سنة ثمان وستين وماية وألف. وقرأ بها القرآن العظيم وبعض المقدمات على الشيخ أبي
بكر الآلبستاني ، ثم اشتغل بالتحصيل والأخذ فقرأ على أبي عبد الله محمد المرعشي
النحو والصرف ، وعلى الشيخ مصطفى أكسيوركي رسالة في المنطق وأخرى في الآداب ، وعلى
فخر الدين عثمان المفتي الشهيد شرح الشمسية ورسالة في الآداب. ثم ارتحل إلى عينتاب
وقرأ بها على المفتي أبي حفص عمر بن محمد العينتابي الأوشاري البعض من كتب
المنطق والمعاني والبيان ومصطلح الحديث والفقه ، وقرأ على أبي عبد الله محمد
الضعيفي العينتابي حصة من تفسير البيضاوي وحصة من صحيح الإمام البخاري وملتقى
الأبحر لإبراهيم الحلبي ، وعلى أبي الثنا محمود المقري المفتي حرز الأماني ، وختم
عليه القرآن العظيم للسبع على طريق الشاطبية.
__________________
ثم ارتحل إلى
توقات وقيصرية وبهنسه واشتغل على الفحول من علماء تلك البلاد كالبرهان إبراهيم
التوقاتي وأبي عفان عثمان المفتي والسراج علي الخربوطي وأبي عبد الله محمد بن الحسين الحجابي وغيرهم.
وقرأ الكتب المطولة في غالب العلوم والفنون.
وقدم حلب وقرأ
بها أكثر الصحيح للبخاري وحصة من صحيح مسلم ونخبة الفكر وحصة من تفسير القاضي
البيضاوي على أبي اليمن تاج الدين محمد بن طه بن محمد العقاد ، وسمع عليه وأجاز
له. ودرس بحلب وأقرأ واشتغل بالإفادة ، ثم ولي تدريس المدرسة العثمانية ودرس بها (ومن
هنا اشتهر بالمدرس) ولازمه جماعة.
وكان من
العلماء الأذكياء والفضلاء المشهورين.
وقد اجتمع فيه
بحلب سنة خمس ومائتين وألف خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام ، وكل منهما قد
أسمع الآخر من فوائده. ولم أقف على تاريخ موته ومحل دفنه. ا ه. (حلية البشر).
أقول : كان
قدومه إلى حلب في حدود سنة ألف ومايتين ، ثم عين مدرسا للمدرسة العثمانية بعد وفاة
مدرسها لمعرفته باللغة التركية وذلك على مقتضى شرط واقفها أن يكون أحد مدرسيها
عالما بهذه اللغة. وممن أخذ العلم عنه الشيخ عقيل الزويتيني والشيخ محمد أبو الوفا
الرفاعي والشيخ مراد أفندي الجابري والشيخ أحمد العبجي وخير الدين أفندي المرعشي
وإبراهيم أفندي المرعشي وابنه مفتي حلب عبد الرحمن أفندي المدرس ومحمد أسعد
الجابري وبهاء الدين أفندي القدسي وغيرهم.
ورأيت في
المكتبة الجابرية التي هي الآن في المدرسة الشرفية ثبتا في أوله إجازة من المترجم
للشيخ مراد أفندي ابن عبد القادر أفندي الجابري محررة سنة ١٢٤٥. وكانت وفاته سنة
ألف ومائتين وخمسين ، ودفن في تربة الجبيلة ، في أوائلها من الجهة الغربية وحوله
قبور ذريته. وهو جد الأسرة الشهيرة بحلب المعروفة ببيت المدرس.
١٢٠٣ ـ الشيخ سعيد البادنجكي المتوفى سنة ١٢٥٠
الشيخ سعيد بن
عبد الواحد ابن السيد مصطفى ابن السيد عبد الرحمن النبهاني المشهور
__________________
بالبادنجكي ، والحقيقة ميدانجكي نسبة لجامع محلة ميدانجك.
سلك في الطريق
على الشيخ إبراهيم الدارعزاني ، وعنه أخذ الطريقة الخلوتية القادرية وخلفه ، وصار
يقيم الذكر أولا في جامع محلة ميدانجك ، ولهذا تلقب بالبادنجكي المحرفة عن
ميدانجكي ، ثم بعد سنتين انتقل إلى المدرسة الطرنطائية الكائنة في محلة محمد بيك
وصار يقيم الذكر هناك ، إلى أن انتقل إلى رحمة الله سنة ١٢٥٠ ودفن في تربة باب
الملك.
وكان يتعاطى
صنعة الحياكة ، وكان ملازما للذكر في هذه الحالة ، ورئي له كرامات ظاهرة.
١٢٠٤ ـ عبد الله بن محمد الميقاتي الغرابيلي المتوفى أواسط هذا القرن
ترجمه حسن
أفندي الكواكبي في كتابه «النفائح» فقال :
الكاتب الماهر
، والأديب الشاعر ، عبد الله بن محمد ، علم الميقات ، المتجمل بمحاسن الصفات ، قطف
من فنون الأدب على حداثة سنه ، ونشأ في حجر الكمال وفاق أصله في فنه. مولده بحلب
سنة ١١٨١ إحدى وثمانين ومئة وألف ، ونشأ بها وتنبل ، وقرأ وحصل ، وله اشتغال
بالميقات والنجوم ، وفصاحة لسان في المنثور والمنظوم ، وأخلاقه كلها غرر ،
وأحاديثه عقود ودرر. وله شعر يذكر مرور النسيم ، ويماثل الدر النظيم ، وهو الآن في
الأحياء ، حماه الله من البأساء. وإنه من خواص أحبابنا المترددين علينا من القديم
وكل وقت وحين.
ومن شعره
ممتدحا الوالد المرحوم (أحمد أفندي) وراثيا له بقصيدة حسناء ، منيفة غراء ، أعرب
بها عن كمال محبته وصدق مودته ، مؤرخا بها وفاته وهي هذه :
سحائب الجود
والغفران والكرم
|
|
تهمي على جدث
المولى كما الديم
|
من ضم أوحد
هذا العصر نخبة أه
|
|
ليه الأفاضل
من عرب ومن عجم
|
قد خصه
الواهب الديان سيدنا
|
|
بالعلم
والحلم والألطاف والشيم
|
إلى أن ختمها
بقوله :
ومذ سرى
جاءنا التاريخ أحمد قد
|
|
أوى إلى جنة
الإكرام بالقسم
|
وله ممتدحا لنا
ومهنئا بالفتوى ومؤرخا سنة ١٢٠٤ :
قد سما كوكب
الأماجد ذكرا
|
|
وتحلّى برتبة
العلم درّا
|
حيث وافت
تأوي إليه سريعا
|
|
ذاك إذ كان
أهلها دام دهرا
|
ثم لا بدع أن
يقال حقيقا
|
|
إن أهل
الإفضال للفضل أحرى
|
وبشير السرور
قد جاء أرّخ
|
|
فدعا كوكب
الأماجد ذكرا
|
وله مادحا لنا
ومهنئا بعيد الفطر سنة ١٢٠٥ :
أيا مولاي يا
بدر المعالي
|
|
ويا عين
الأفاضل والموالي
|
ويا حسن
الشمائل من تسامت
|
|
بك العلياء
والرتب العوالي
|
فعيد الفطر
وافاكم وأضحى
|
|
سروره وافرا
بالإتصال
|
هنئت به ودمت
بكل خير
|
|
إلى أمثاله
سامي المقال
|
مدى الأزمان
ما ضاءت بروق
|
|
وما طلعت
كواكب في الليالي
|
وأورد له غير
ذلك من النظم في مديحه.
وكتاب النفائح
قد ظفرت به مخطوطا في خزانة الشيخ محمود بن الشيخ مصطفى الريحاوي وهو بخط المترجم
، وقد كتب في آخره : كمل هذا السفر بقلم الفقير إلى رحمة مولاه السيد عبد الله بن
الشيخ محمد الميقاتي الغرابيلي في رجب الفرد لسنة خمس ومائتين وألف. وصدر الكتاب
مقرظا له ومادحا لمؤلفه نظما ونثرا حيث قال :
وائح الزهرة
لا
|
|
يعدلها عرف
الزهر
|
لا بدع لما
أحرزت
|
|
مدائح القوم
الغرر
|
بني الكواكبي
من
|
|
سناهم ثنى القمر
|
لله ديوان فضل
رحيب ، وروض مخضل خصيب ، وحديقة غرسها المعاني ، وطريقة تذهل المثالث والمثاني ،
لم تزل أثمارها يانعة الجنى ، وأزهارها بارقة السنا ، تزري بغضارة البانة والإهان ، وبنضارة ميّة وبهان ، نضدها بنان سحبان اليراعة ،
وأصل إنسان
__________________
البراعة ، أنهج حباك وأبهج مسعى ، ولا شك بأنه جمع فأوعى ، لا تقاس بند
ومماثل ، وهل السّرحان مثل الأسد الباسل ، وقلت :
فما الجداول
عند البحر منزلة
|
|
وما الثوابت
عند البدر صورتها
|
لو تشوّفه
المحبي لتمنى نفحة من طيب ورده ، أو رمقة العتبي لكساه من خلع القبول أفخر بروده ،
كيف لا وهو عقد ثناء الأفاضل ، ومورد اجتناء المعارف والفضائل. وقلت :
أتلك روض
نضير يانع الثمر
|
|
أم سفر مدح
بني الزهراء كالزهر
|
أم بحر فضل
خضم رائق بهج
|
|
منضد دره لله
من درر
|
أم كاعب
زانها لألاء طرتها
|
|
فما لديها
سناء الشمس والقمر
|
أم شادن أغيد
حاكى الجآذر وال
|
|
مهاة لحظا
لماه الرافي السكر
|
أم القلائد
من نض الجمان أو ال
|
|
عقيان في نحر
ذات الدل والخفر
|
أم الفرائد
في زاهي العقود سنا
|
|
يبدو بديع معانيها
لذي النظر
|
أم راح أنس
تهادينا بنشوتها
|
|
حتى نخال
معانيها جنى الثمر
|
أم نفحة من
ثمام البيد عابقة
|
|
تضوعت بشذا
فواحها العطر
|
أم عرف
ريحانة الآداب منتشر
|
|
ساد العبير
بزاكي طيبه الغضر
|
أم مطمح
الواجد الولهان بان عن ال
|
|
سحر الحلال
فأمسى منتهى الوطر
|
أم نشر عرف
بشام الشام ضاع لها
|
|
أريجه سحرا
فاغنم شذا السحر
|
بل قطف زهرة
مدح من مديح بنى ال
|
|
زهراء
والأنجم الهادين للبشر
|
كواكب في سما
الإفضال مطلعها
|
|
لا نوء فيهم
لما أبقوا من الأثر
|
|
قد خلد الله
ذكراهم بكل ثنا
|
|
معطر كعرار المعهد
النضر
|
مزين صفحات
للطروس كما از
|
|
دانت
بتمداحهم وصفا أولو الفكر
|
فكيف لا وهم
الزهر الكواكب من
|
|
يفد حماهم
يوافي أعظم الوزر
|
فيا رعى الله
أوقاتا بهم حسنت
|
|
يحوي سناها
بديع الحسن والصور
|
وأن يديم لنا
مولى رفيع ذرى
|
|
يجل ذكرا عن
الترديد والصدر
|
__________________
صدر همام
حفيد للأولى (حسن) ال
|
|
صفات والذات
والآثار والسير
|
صافي السريرة
وافي الحلم أكمله
|
|
مقدس بزكا
أوصافه الغرر
|
بدر الكمال
وشمس المجد منزلة
|
|
لألاء نوره
يجلو حالك السرر
|
أخي مآثر
أسلاف جهابذة
|
|
أعاظم قد
سموا في المجد كل سري
|
مطول الباع
مطواع البديهة لم
|
|
تلف القرائح
منه مورد القصر
|
وعضب ذهن
شباه كم ينقح من
|
|
ألفاظ حسن
صفت معنى عن الكدر
|
تراجم أعربت
عن حال ما وصفت
|
|
مع البلاغة
والتحقيق في الخبر
|
ياما أحيلى
قوافيه ومنعتها
|
|
ما بين مدح
وندب غير مختصر
|
ألفاظه الدر
أسماط ملمعة
|
|
من الفوائد
قد صينت عن المذر
|
كأنها الرود
والخود الرداح أو ال
|
|
كواعب
الفائقات الوصف والحور
|
مخدرات
رزينات منزهة
|
|
عن المثالب
والأغيار والأشر
|
من خالص
العرب العربا أورمتها
|
|
ولم يشنها
حديث البدو والحضر
|
وإنها الأصل
من أرجائهم بزغت
|
|
تسري المهامه
في البيداء والقفر
|
لا زال لطف
إله الخلق يشمله
|
|
في كل آونة
من مبرم القدر
|
وكل آن حميد
الذكر مرتقيا
|
|
ممتعا ببلوغ
السؤل والظفر
|
ما نمق الدهر
منظوم ومنتثر
|
|
وما ترنم طير
في ذرى الشجر
|
أو ما تعبد
لله الكريم فتى
|
|
بصدق قلب خلا
عن وصمة الوهر
|
أقول : وهو من
رجال الرسالة الموسومة بالهمة القدسية التي تقدمت في ترجمة العطائي الصحاف. ولم
أقف على تاريخ وفاته ويغلب على الظن أنها كانت ما بين الأربعين والخمسين.
١٢٠٥ ـ عبد القادر أفندي الحسبي المتوفى سنة ١٢٥٧
ترجمه العطائي
في رسالته «الهمة القدسية» التي تقدمت وأورد له ثمة ما قال على طريق الاقتباس
مضمنا قوله تعالى (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ) ويظهر منها أنه كان فقيها أديبا.
رأيت له في
مجموعة كانت عند آل حميد باشا زاده رسالة في أحكام النقود عند تراجع أسعارها وهي
في ورقتين ألفها سنة ١٢١٦ ، يستفاد منها أنه كان أمينا للفتوى حينما كان
عبد الله أفندي الجابري مفتيا ، ورسالة سماها «حسن السبك في صوم يوم الشك»
في ورقتين أيضا ألفها سنة ١٢١٨ ، والمجموعة بخط أبي اليمن السيد محمد مهدي زاده
كاتب الفتوى بحلب.
وأورد له في
المجموعة المذكورة هذا الموشح الأندلسي وقد أحسن فيه وأجاد :
كيف يسلو من
غدا جار الحمى
|
|
ما له غير
الظبا من مؤنس
|
فهو يزداد
ولوعا كلما
|
|
مرحت تزهو
بأبهى ملبس
|
دور
رشأ يمزج
هجرا بوصال
|
|
حيث لا تدري
دنا أو نفرا
|
معرضا يبدو
ولكن عن دلال
|
|
ثم يأتي
راحما معتذرا
|
وإذا واصل
أبدى للملال
|
|
فتراه واصلا
قد هجرا
|
يبتغي للحب
سفكا للدما
|
|
وهو لا يرضى
بقتل الأنفس
|
حار أرباب
الهوى فيه كما
|
|
حارت العين
بضوء القبس
|
دور
عجبا للكاس
يدنو نحو فيه
|
|
أله يلثم أم
منه ارتشف
|
هل رأى قط
مداما حل فيه
|
|
أم لماه
العذب بالراح اتصف
|
قال صرف
الراح لي لا أرتضيه
|
|
ثم نادى كل
من ذاق عرف
|
إنما عندي
الطلا ذاك اللمى
|
|
وهو عذب ما
به من دنس
|
وله أشرب ما
دمت وما
|
|
أرتضي غير
الشراب الأنفس
|
دور
هذه الأغصان
ما بين الرياض
|
|
مذ رأت قدك
خرّت سجّدا
|
والأزاهير
اكتست ثوب البياض
|
|
من سنا وجهك
لما أن بدا
|
وللقياك سعى
الماء وفاض
|
|
وهزار الدوح
شوقا غرّدا
|
فانظر الطل
حروفا رقما
|
|
فوق أوراق
الغصون الميّس
|
أفهمت أن
الذي قد وسما
|
|
لك هذا الحسن
ذات القدس
|
دور
يا عذولي كف
عن هذا الملام
|
|
لست تدري في
البرايا ما الخبر
|
ليس هذا الحب
بل هذا الهيام
|
|
وله نار لها
أقوى شرر
|
خل عن لوم
محاريق الغرام
|
|
ما بقي منهم
لجسم من أثر
|
ليس ذو الجهل
كمن قد علما
|
|
وانتفت عنه
دواعي الهجس
|
إن من عانى
هوى تلك الدمى
|
|
فسلوه هل إلى
العهد نسي
|
دور
وصلاة الله
تترى أبدا
|
|
على طه
المصطفى سر الوجود
|
من إلى الحق
الورى حقا هدى
|
|
وأقام الدين
مع خير جنود
|
وعلى آل وصحب
سرمدا
|
|
من لهم في
الله ذوق وشهود
|
ما أضاء
النجم في أفق السما
|
|
ومحا البدر
ظلام الغلس
|
وبعفو يا
الهي أنعما
|
|
وارض يا
مولاي من عبد مسي
|
وهذا الشعر ضرب
من السحر الحلال ونوع من السهل الممتنع. وله أيضا :
إليك انتهى
حبي فلا تك هاجري
|
|
فأنت منى
قلبي وسمعي وناظري
|
وحقك إني فيك
لا غير واجد
|
|
وقد حسنت يا
بدر فيك سرائري
|
فلي في الهوى
صبر جميل وعنكم
|
|
فؤادي إذا
غبتم فليس بصابر
|
أهابك إن
وافيتني متعطفا
|
|
وأخشاك إن
تجفو وإن تك جابري
|
رعى الله من
وافى بعفته الهوى
|
|
وكان مع
المحبوب غير مخامر
|
ومن يك في
دعوى المحبة صادقا
|
|
فلا يعتريه
قط سوء الخواطر
|
فإن خطرت في
الحب منك خواطر
|
|
فآثر لمن
تهوى على كل خاطر
|
فذو الحب لا
يرضى لذات حبيبه
|
|
سوى حسن
أوصاف وطيب مآثر
|
بما منك من
لطف إلى غير عاشق
|
|
بما فيك من
ظرف فكن أنت عاذري
|
بذاك المحيا
منك بالثغر باللمى
|
|
بذاك اللمى
الحالي بتلك المحاجر
|
فمن لامني لم
يدر ما بي من الجوى
|
|
ولم يدر طعم
الحب غير المثابر
|
فيا عاذلي إن
رمت نصحي فلا تكن
|
|
بعذلك في حسن
الحبيب مناظري
|
إذا رمت أن
تلقى الجواهر كلها
|
|
ففي ثغر من
أهوى جميع الجواهر
|
وله مهنئا
الوزير المكرم محمد باشا في الوزارة ومنصب حلب سنة ١٢١٩ :
هذي شموس
سيادتك
|
|
قد أشرقت
برياستك
|
هذي الوزارة
أقبلت
|
|
تسعى بنشر
عنايتك
|
فالعز والأمر
المطاع
|
|
لدى ركاب
سعادتك
|
والنصر
والفتح المبين
|
|
هما قرين
شهامتك
|
فلنا البشارة
حيث إنا
|
|
تحت ظل
حمايتك
|
لا زلت تكسو
بلدة
|
|
الشهباء برد
عدالتك
|
وتبيحها
باللطف
|
|
والإكرام برد
عنايتك
|
فالشكر
للمولى الجليل
|
|
على جميل
إمارتك
|
حقا لقد سطعت
على
|
|
الشهبا نجوم
رعايتك
|
ومن السعود
قد ارتدت
|
|
برداء عز
صيانتك
|
فلذا دعوت
مؤرخا
|
|
دامت سعود
وزارتك
|
وله مهنئا في
رتبة للعالم المجيد هبة الله أفندي حال كونه قاضيا في بغداد :
حاز في
العلياء مجدا
|
|
وغدا في
الفضل فردا
|
هبة الله لنا
يا
|
|
ربنا شكرا
وحمدا
|
سيد دانت له
|
|
أهل المعالي
إذ تحدّى
|
ساد في
الأقطار شاما
|
|
وعراقا ثم
نجدا
|
كم له فيض
علوم
|
|
عمت الطلاب
رفدا
|
وتصانيف فنون
|
|
هي بالروح
تفدّى
|
رام إدراك
المعالي
|
|
وبها حقا
تردّى
|
فأتته
رتبة الشهباء تنقاد وتهدى
|
وهو يسموها
منارا
|
|
وفخارا ثم
حدا
|
فأنا أثني
عليه
|
|
دائما حبا
وودا
|
ولقد قيل
قديما
|
|
رب جيد زان
عقدا
|
فأجابه القاضي
هبة الله أفندي المذكور :
يا هماما حاز
مجدا
|
|
وغدا بالروح
يفدى
|
وسما حيث
المعالي
|
|
فكساها الفخر
بردا
|
وبدا شمس
علوم
|
|
في سما
العلياء تبدى
|
يا أخا
الأفضال إني
|
|
في دعاء لك
يهدى
|
واشتياق بي
أضنى
|
|
وبجسمي قد
تردى
|
أنت حسبي من
فريد
|
|
من كريم فاق
جدا
|
قد أتاني منك
در
|
|
كان لي في
الجيد عقدا
|
بت منه في
تهان
|
|
مع سرور لي
أهدى
|
مذ أتتني
رتبة
|
|
الشهباء تهني
بك حمدا
|
وهي في الفخر
بفضل
|
|
منك يا روحي
أجدى
|
أنت سحبان
وقسّ
|
|
من يضاهيك
تعدّى
|
دمت في الفضل
فريدا
|
|
ولك العلياء
تسدى
|
توفي المترجم
سنة ١٢٥١ ألف ومائتين وإحدى وخمسين ودفن بتربة الصالحين.
١٢٠٦ ـ الشيخ محمود المرعشي المتوفى سنة ١٢٥١
الشيخ محمود
أفندي ابن أحمد بن محمد ، المرعشي المولد الحلبي الموطن ، من بيت عريق في العلم
والفضل والمجد في مرعش.
ولد فيها في
القرن الثاني عشر ، وأخذ العلم عن علمائها ، وتنقل في البلاد لأخذ العلم ، وبعد أن
برع في العلوم العقلية والنقلية باشر التدريس والاشتغال مع الطلبة في مدرسة أجداده
وجامعهم المسمى (شكر لي جامعي) الذي لا يزال قائما في مرعش إلى الآن.
وكان رحمهالله مع ما هو عليه من العلم ميالا إلى الزهد والتقوى ،
فساقه ذلك إلى أخذ الطريق والاشتغال بذكر الله تعالى وتصفية النفس من كدوراتها ،
إلى أن أشرقت على قلبه أنوار الولاية وظهر منه كرامات كثيرة لا تعد رواها عنه من
شاهدها منه.
وبقي على هذه
الحال في بلدة آبائه مرعش إلى أوائل القرن الثالث عشر حيث هاجر منها إلى حلب. وسبب
هجرته أنه كان في مدينة مرعش فرقتان من السكان تتنازعان السيادة فيها شأن ذلك
الزمن ، وهما عائلة البيازيدية (نسبة لبيازيد بلدة من معاملات أرزن الروم) وعائلة (الدلغادرية)
وهي من نسل الدولة الدلغادرية التي كانت مستولية قبلا على مرعش إلى أن استولت عليها
الدولة العثمانية وأخذتها منهم ، وكان بين العائلتين تنافس وضغائن كثيرا ما كانت
تؤدي إلى القتال وإهراق الدماء ، وكان الشيخ ميالا للفرقة الأولى ، وحيث إنه كان
مفتي البلدة معظما ومحترما عند الدولة العثمانية ورجال حكومتها وله الكلمة
المسموعة لديهم وكلمته لا ترد عندهم ، فكانت فرقته متفوقة على الفرقة الثانية ،
فعزم بعض الجهال من هذه الفرقة على قتله ، واختفوا ليلا أمام داره ، وبينما كان
عائدا من صلاة العشاء مع بعض طلبته أطلق أحدهم رصاصة أصابت يد الشيخ ، فخر الشيخ
مغشيا عليه ، فظن الطالب الذي كان مرافقا له أنه قد قتل ، فعاد إلى الجامع وصعد
إلى منارتها ونادى بأعلى صوته إن الشيخ قد قتل ، واستنفر فرقته ، فخرجت الفرقتان
بأسلحتهما واقتتلتا حتى سقط من الطرفين سبعة عشر قتيلا ما عدا الجرحى ، فلما بلغ
المترجم الخبر قال : لا أسكن بلدة أكون سببا لوقوع القتلى فيها. وركب من ساعته
وخرج مع بعض أشياعه قاصدا حلب ، فوافاها سنة ١٢١٠ تقريبا. ولما وصلها نزل في
المدرسة العثمانية ، ثم حل ضيفا على مدرسها الشيخ حسن الكلزي ، وبعد أن تعارفا
وعلم كل واحد منهم قدر صاحبه وعلمه وفضله قر رأي المترجم على البقاء في حلب
واتخاذها وطنا ، وقد كان في بادىء الأمر عازما على الذهاب إلى الشام والإقامة فيها
كي لا يرى أحدا ولا يراه أحد ممن يعرفه ويشغله على عبادة ربه والعزلة عن الناس ،
فأصر عليه الشيخ حسن بالبقاء في حلب وزوجه ابنته ، وكان للمترجم ابنة في مرعش
فأحضرها وزوجها لابن المترجم عبد الرحمن أفندي ، وبقي بعد ذلك في حلب إلى أن توفي
فيها.
وكان رحمهالله مثابرا على خطته وسيرته الأولى وهي الانقطاع إلى الله
بالعبادة والزهد والتقوى ، لا تشغله الدنيا عن الآخرة ، ولا يرى عملا يؤديه إلى
رضاء الله إلا عمله ، فمن ذلك أن الدولة الإفرنسية لما احتلت مصر وذلك سنة ١٢١٢ وعزمت
الدولة العثمانية على إخراجها منها وصارت ترسل الجيوش من البلاد ، فكان المترجم في
مقدمة الذاهبين مع العساكر إليها وجاهد ثمة مع من جاهد ، إلى أن أذن الله بالفتح
ورجوعها إلى حوزة
الدولة العثمانية ، وبعد عودته خرج سائحا مع بعض إخوانه إلى بغداد لزيارة
ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني ، واجتمع بأكابر علمائها وفضلائها.
ولما ذاعت
شهرته وبعد صيته سمع به السلطان محمود الثاني فأرسل إليه يستقدمه ليتبرك به ، فذهب
إلى الآستانة وبقي فيها سنة كاملة وأقرأ أخت السلطان (أسما سلطان) وظهر هناك على
يده كرامات عديدة. ولما عزم على الرجوع إلى حلب عرض عليه السلطان أملاكا ومقاطعات
فلم يقبلها ولم يأخذ سوى بعض ألبسة صوفية [جوخ] وعدة مصاحف خطية.
وأما آثاره
العلمية فكانت لا تتعدى علم التصوف حيث كان الغالب عليه هذه الحال .
ولما أبادت
الدولة العثمانية العساكر الأنجكارية أنقذ المترجم رجالا كثيرين منهم من القتل
بشفاعته لما كان له عند الدولة من رفعة المنزلة وحسن القبول ، مع أن إنقاذ واحد من
هؤلاء من القتل كان أمرا صعبا جدا. ومع هذه المكانة كان قانعا من الدنيا باليسير
راضيا بالكفاف هو وأولاده الصغار لا يملك من حطام الدنيا شيئا. وكاتبه الملوك
والأمراء.
وكان قوي الجأش
ماضي العزيمة لا تأخذه في الله لومة لائم ، حتى إنه لما قدم إبراهيم باشا المصري
إلى حلب بادر إلى زيارة الشيخ وكان قد كف بصره وبلّغه سلام أبيه محمد علي باشا
وأعرب له عن ألمه لمصاب الشيخ في بصره ، فما كان منه إلا أن أخذ في نصحه وحضه على
العدل وعدم الظلم للرعية ، ومن جملة ما قاله له : [إني أحمد الله أنه كف بصري حتى
لا أرى ظالما مثلك]. ولما بلغ محمد علي باشا أن الشيخ فقد بصره أنفذ إليه طبيبا من
مصر لمداواته ، فلما حضر الطبيب قال له : يلزم عليك أن تلتزم السكون مدة خمسة عشر
يوما وأن تكون مستلقيا على ظهرك مع تعاطي الدواء لتشفى ، فلم يقبل بذلك مخافة
إضاعة الصلاة بأوقاتها ، ورجح بقاءه فاقد البصر ، إلى أن توفاه الله في حلب سنة
١٢٥١ ألف ومائتين وواحد وخمسين ، ودفن في تربة الجبيلة رحمهالله تعالى. ا ه. (من قلم حفيده الوجيه نافع أفندي المرعشي بتصرف
قليل).
__________________
أقول : وقد
اطلعت عند حفيد المترجم إبراهيم أفندي المرعشي على ثبت بخط المترجم موسوم «بعقد
الجوهر الثمين في أربعين حديثا من أحاديث سيد المرسلين» من أربعين كتابا جمعها
العلامة الشيخ إسماعيل الجراحي العجلوني محدث الشام ، وبعد أن أورد الأربعين حديثا
من أربعين كتابا ذكر إجازة الشيخ أحمد بن عبيد العطار بهذا الثبت للمترجم عن شيخه
العجلوني المذكور وقال فيها بعد الخطبة : وبعد فقد اجتمعت بالعلامة الكامل
والفهامة الفاضل الشيخ محمود أفندي ابن الشيخ أحمد مفتي مرعش حين قدومه مجاهدا
صحبة الوزير الصدر الأكرم سنة أربع عشرة ومايتين وألف من الهجرة ، ورأيته محرزا
قصب السبق في العلوم ، وفارس ميدان المنطوق والمفهوم ، وقد التمس مني الإجازة
العامة مع ذكر الأسناد. وبعد أن سمع مني أربعين حديثا من أربعين كتابا التي جمعها
شيخنا الشيخ إسماعيل العجلوني في هذه فأجبته لذلك .. إلخ. وفي هذا الثبت إجازة من
الشيخ محمد بن مصطفى ابن عثمان الخادمي للمترجم بالطريقة النقشبندية ، وإجازة
بالقراءات العشر من أبي بكر يعقوب بن كوسيح بن عمر الكمشخاني مولدا الأماسي وطنا ،
وفيه أنه أخذ الفقه الحنفي عن الشيخ أحمد الدمنهوري المصري بسنده ، وفيه إجازة
بكتب الحديث والتصوف من الشيخ محمد بدير المقدسي وقد سمع منه بالقدس معظم صحيح
البخاري وجميع كتاب الشفا للقاضي عياض ، وإجازة بجميع مروياته وأخذ عنه الطريقة
الشاذلية ، وفيه إجازة من الشيخ أحمد بن حسن الأركوني الأماسي. وأخذ الطريقة
الأحمدية البدوية عن الشيخ أحمد بن عبد الوهاب بن عبد المتعال. ومن غريب ما وجدته
في ثبته هذا سنده في الأذان حيث قال : إني تلقيت الأذان عن السيد علي بن السيد حسن
المعروف برئيس المؤذنين في الجامع الشريف النبوي ، وهكذا إلى أن وصل السند إلى
الصحابي الجليل بلال الحبشي رضياللهعنه مؤذن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولو لا طوله لذكرته بتمامه لأني لم أر له نظيرا فيما
اطلعت عليه من الأثبات. وممن أجاز المترجم الشيخ محمد الدرندوي المفتي بها والمدرس
بمدرسة حسين باشا وهي آخر الثبت.
١٢٠٧ ـ الشيخ يوسف القارلقلي المتوفى سنة ١٢٥١
الشيخ يوسف بن
خليل بن محمد المنير ، المشهور بالقارلقلي والسماني.
__________________
ولد سنة ١١٦٥
ونشأ في طلب العلم وجد فيه إلى أن فضل ، وأخذ الطريقة الخلوتية والقادرية عن جده
لأمه الشيخ عبد اللطيف بن أبي شكرة من محلة المعادي ، وهو أخذها عن الشيخ سعد
اليماني الأهدلي ، وهو أخذها عن الشيخ محمد هلال بن الشيخ أبي بكر الرامحمداني.
وكان ملازما
للعزلة والعبادة ويقرأ الدروس في جامع قارلق واشتهر بالنسبة إلى هذه المحلة ، وكان
يقيم الذكر يوم الأحد بعد العصر وللناس خصوصا سكان تلك المحلات اعتقاد عظيم فيه ،
وهو جدير بذلك لما كان عليه من الصلاح والتقوى والقناعة.
وله يوان شعر
محتو على قصائد وموشحات ومدائح نبوية ومواليات. ومن مؤلفاته منظومة في الفقه على
المذاهب الأربعة وهي في خمس كراريس مطلعها :
من بعد بسم
الله والحمدلة
|
|
أزكى صلاتي
لنبي الرحمة
|
لكنها ركيكة
النظم ظهر لنا منها أن المترجم لم يكن من المتضلعين في العلوم الأدبية ولم يعان
قرض الشعر لاشتغاله بما هو أهم وهو الإرشاد والذكر وتلاوة الأوراد. وقد أدرج أحمد
عقيل المنشد الشهير هذه المنظومة في مجموعة له وهي في ١١٦٥ بيتا ، ويوجد منها نسخة
في المكتبة الصديقية بحلب.
وله منظومة في
الطبائع الأربع في إحدى عشرة ورقة ، ومنظومة في علم الموسيقا والأنغام وفي الأصول
التي يعبرون عنها بالتم والتك ، ومنظومة في أسماء الله الحسنى وغير ذلك.
وكانت وفاته
سنة ألف ومائتين وإحدى وخمسين ودفن في تربة قارلق رحمهالله.
١٢٠٨ ـ الشيخ محمد هلال السرميني المتوفى سنة ١٢٥٥
الشيخ محمد
هلال بن أحمد السرميني ، جد بني السرميني العائلة القاطنة في محلة الجلّوم الكبرى.
ذكره الشيخ أبو
الوفا الرفاعي في منظومته سكان حلب فيمن دفن في تربة السنابلة ووصفه بالفاضل. وقد
رأيت قبره وقد كتب عليه أنه توفي في صفر سنة ١٢٥٥.
ومن آثاره كتاب
في علم النحو سماه «الحقايق» شرحه تلميذه الشيخ عمر الطرابيشي.
وبلغني أن له ديوان شعر لكني لم أقف عليه ولا على شيء من نظمه ، كما أني لم
أقف من ترجمته على أكثر من ذلك رحمهالله تعالى.
١٢٠٩ ـ الشيخ محمد الكيالي الإدلبي المتوفى سنة ١٢٥٥
ترجمه صديقنا
الفاضل العياشي مفتي إدلب فيمن ترجمه من فضلاء بلدته قال :
ومنهم العالم
الفاضل مربي المريدين الشيخ محمد أفندي الكيالي ، انتفع بعلمه الجم الغفير. وله
كتاب «رحلة إلى الديار الدمشقية».
انتقل بالوفاة
سنة ١٢٥٥ ودفن بإدلب رحمهالله تعالى. ا ه.
١٢١٠ ـ الشيخ عبد الرحمن أفندي المدرس المتوفى سنة ١٢٥٦
الشيخ عبد
الرحمن أفندي ابن حسن أفندي المدرس.
ولد في حلب ،
ولم أقف على تاريخ ولادته ، وبها نشأ. حصل على والده وغيره إلى أن برع وفضل ، وولي
إفتاء الحنفية في حياة والده لكبر سنه. وحينما أتى إبراهيم باشا لم يكن راضيا عن
أعماله ، وكان يخابر الدولة العثمانية في أحواله ، فأحسن بذلك إبراهيم باشا فقبض
عليه ، غير أنه لمكانته بين الأهلين خشي من البطش به فنفاه إلى عكا ، وقدمنا شرح
ذلك مطولا في ترجمة الشيخ محمد الترمانيني ، ثم سمح له أن يقيم في الشام وذلك
بشفاعة متصرف عكا لدى محمد علي باشا ، ولما غادر إبراهيم باشا البلاد السورية مع
جيوشه عاد إلى وطنه وبقي على تصدره في الشهباء إلى أن توفي سنة ١٢٥٦ ودفن في تربة
الجبيلة بجانب قبر والده.
وكان رحمهالله دمث الأخلاق رحب الصدر مبذول الجاه مخالطا للناس ،
بخلاف والده فإنه كان ممن يحب الانزواء ويؤثر العزلة.
وخلف من الذكور
تقي الدين باشا وحسين باشا وإحسان أفندي وعطاء الله أفندي وأمين أفندي وسعيد
أفندي.
١٢١١ ـ نصر الله الطرابلسي المتوفى في حدود ١٢٥٦
نصر الله بن
فتح الله بن بشارة الطرابلسي. ترجمه صاحب مجلة المشرق في الجزء الثالث منها ترجمة
طويلة نقتضب منها ما يأتي ، قال :
ولد نصر الله
في حلب سنة ١٧٧٠ ميلادية ، وقد كان أبوه أتى من طرابلس إلى حلب للتجارة فتوطنها
وتأهل فيها ، فولد له المترجم. ولما ترعرع أخذ يدرس مبادىء العلوم على أدباء
مدينته فأتقنها بوقت قريب ، ثم حمله حبه للمعارف إلى أن يتفرغ للدروس البيانية
والآداب ، فحفظ بعد قليل شيئا من أشعار العرب ونوادرهم وأخبارهم ، وكان مع ذلك عذب
اللسان خفيف الشمائل جميل الطلعة ، فرغب كبار الناس في مجالسته وأعجبوا برقة
محاضرته.
ودرس اللغة
التركية والفارسية وتضلع منهما وصار ينظم الشعر فيهما. وممن اجتمع بهم ومدحهم
بشعره يوسف لويس روسّو قنصل دولة فرانسة في حلب ، فكتب إليه من قصيدة يهنئه بعيد
الفصح سنة ١٨٠٨ :
هو الماجد
المفضال بالحزم والندى
|
|
ومن لم نجد
في المكرمات له ندّا
|
غمام همى بحر
طمى أسد حمى
|
|
همام سما نحو
السما فاضل أهدى
|
وما روضة
غناء لذ مقيلها
|
|
وهز الصبا
النجدي أغصنها الملدا
|
وسح عليها
القطر والبرق منتض
|
|
مهنده البتار
إذ بارز الرعدا
|
وأكرمها فصل
الربيع لحسنها
|
|
فألبسها من
خير ترقيمه بردا
|
ونرجسها أبدى
وقوفا وهيبة
|
|
وغض لحاظا
حينما نظر الوردا
|
بأحسن منه
منظرا عند نيله
|
|
وحين يلاقي
الضيف أو يكرم الوفدا
|
أمير إذا ما
زرته ولقيته
|
|
ترى السعد
والإقبال من حوله جندا
|
وله في القنصل
المذكور من قصيدة قدمها له لما فارق الشهباء :
لقد شط قلبي
يوم سارت حمولكم
|
|
بسفح قويق
حين أظعانكم تحدى
|
ودارت كؤوس
اللثم عند وداعنا
|
|
وقد وخدت
أيدي المطايا بكم وخدا
|
لحى الله
أيام النوى ما أمّرها
|
|
فما أقبلت
إلا وشيبت المردا
|
أحباي لا
والعهد ما خنتكم به
|
|
ولا كان حب
حال أو نكث العهدا
|
وكان بين صاحب
الترجمة وأدباء المسلمين في حلب مودة ومفاوضات في الشعر والنثر ، فمن ذلك قوله
يمدح أحد كرام أسرة شهيرة وهو النقيب محمد أفندي ابن الجابري :
نعم أنجز
الدهر الوعود وتمما
|
|
فشكرا لمن
بالمقصد الفرد أنعما
|
صحا الدهر من
سكر الغباوة واهتدى
|
|
وتاب وعن طرق
الغواية أحجما
|
وآض يروم
العذر عن كل ما جنى
|
|
ويطلب منا
العفو عما تقدما
|
فأصبح وجه
الحق في الحكم ضاحكا
|
|
وقد كان قبلا
أربد اللون مقتما
|
ومنها في
التخلص إلى المديح :
بلى عرجا نحو
الربوع التي زهت
|
|
إذا جئتما في
الحي من أيمن الحمى
|
فثم مغان قد
تبدى سماؤها
|
|
عليها رواق
المجد والسعد خيّما
|
وما ذاك إلا
أنها قد تشرفت
|
|
بتقبيل أقدام
الهمام الذي سما
|
محمد ابن الجابري
الذي به
|
|
لقد جبر الله
القلوب بعيد ما
|
نقيب السراة
الغر من آل هاشم
|
|
مصابيح فضل
إذ دجى الليل أظلما
|
وهي طويلة
أوردها صاحب المشرق بتمامها.
وكتب إلى الشيخ
هاشم أفندي الكّلاسي :
لما سمعت
مسلسلا عن سادة
|
|
أن الفصاحة
كلها في هاشم
|
يممت ناديه وألقيت العصا
|
|
ورجوت يقبلني
ولو كالخادم
|
إن جاد لي
بالإرتضا فبفضله
|
|
أو لم يجد
فلسوء حظ الناظم
|
فأجابه الشيخ :
إني شممت
عبير نشر قريحة
|
|
عطرية من نظم
هذا الناظم
|
فبمثله أهلا
وسهلا مرحبا
|
|
بمسامر
ومنادم لا خادم
|
__________________
ولما كانت سنة
١٨١٨ حاول جراسيموس مطران الروم غير الكاثوليك في حلب أن يكره الروم الكاثوليكيين
على طاعته ، فأبو إجابة طلبه ، فأخذ يدس لهم الدسائس حتى تمكن من قتل ١١ شخصا منهم
فضلوا الموت في سبيل الحق على أمره ، واضطر غيرهم إلى الفرار إلى لبنان ، فأقاموا
فيه إلى سنة ١٨٢٥ ، فقال نصر الله من قصيدة يصف أحوال ملته واعتداء جراسيموس على
طائفته وما قاساه الكاثوليك في تلك المحنة :
دع العين مني
تذرف الدمع عندما
|
|
فحق لهذا
الخطب أن تسكب الدما
|
وخل زفير
القلب يحرق أضلعا
|
|
أبت من لهيب
الحزن أن تتقوما
|
وذر كبدي
تفنى من البؤس والأسى
|
|
فحق عليها أن
تذوب وتعدما
|
وهي طويلة أورد
معظمها في مجلة المشرق.
ورحل إلى مصر
سنة ١٨٢٨ واختص هناك بخدمة حبيب البحري ، فصار من كتاب الديوان تحت نظره. ولما بنى
حبيب البحري قصرا في النيل سنة ١٨٣٠ م (١٢٤٦) قال الطرابلسي يهنئه بهذه القصيدة :
إن البناء
دليل قدر الباني
|
|
وجماله للمرء
ذكر ثان
|
ودليل حسن
العقل ما يختاره
|
|
وبذاك تعرف
قيمة الإنسان
|
ونتيجة
الأفعال في آثارها
|
|
وجلالة
الأخطار في البنيان
|
ومحاسن
الآثار توضح ما خفى
|
|
من فضل
موجدها مدى الأزمان
|
وهي طويلة
أوردها ثمة بتمامها ، ثم قال : ثم أصاب الطرابلسي عند ولي نعمته حظوة وترقى في
خدمته ، فأدخله البحري على محمد علي باشا أمير مصر في ذلك العهد ، فأكرم مثواه
وأجازه. ولصاحب الترجمة فيه قصائد لم نقف عليها. ومما قاله في ذلك الزمان وصفه
لخزانة مجموعات السكك القديمة في القاهرة :
أفيقوا بني
الدنيا فقد وعظ الدهر
|
|
فليس لكم من
بعد إنذاره عذر
|
ألم تسمعوا
من حاز شرقا ومغربا
|
|
وضاقت به
الآفاق قد ضمه القبر
|
فأين الملوك
الصيد من خضعت لهم
|
|
رقاب الورى
ثم أطاعهم القصر
|
وأين الأولى
سادوا وبالعلم قد غدوا
|
|
فلاسفة من
لفظهم خجل الدرّ
|
فماتوا وما
أضحى لنا من تراثهم
|
|
سوى سكة يبقى
لهم ضمنها ذكر
|
فواحيرتي كيف
المعادن لم تزل
|
|
ونفنى فذا
أمر يضيق به الصدر
|
ولكن مراد
الله جلت صفاته
|
|
فليس لنا إلا
الرضى وله الأمر
|
ألا رحم الله
امرءا سار صالحا
|
|
وقدم خيرا
قبل أن ينقضي الأمر
|
وعاش الطرابلسي
في مصر إلى أواسط القرن الحالي ، لكننا لم نقف على تاريخ وفاته.
وله قصائد
كثيرة اغتالت أغلبها أيدي الضياع ، وأكثر ما أوردناه من شعره قد جمع شتاته بعض
أدباء حلب. وله مخمّسا :
فؤاد لأغراض
الحبيب تصدعا
|
|
وقلب لترحال
الطبيب توجعا
|
فيا من حفظت
العهد فيه وضيّعا
|
|
متى نلتقي
حتى أقول وتسعما
|
لقد
كاد حبل الود أن يتقطعا
|
جعلت هوى
الأحباب دابي وديدني
|
|
وقلبي من فرط
المحبة قد فني
|
ذهبت غراما
من هواهم وليتني
|
|
فأذكر أيام
الحمى ثم أنثني
|
على
كبدي من خشية يتصدعا
|
لحا الله من
حب محب ووالع
|
|
صبور على
الأحباب ليس بطامع
|
فيا قلبي
المحزون مت موت طائع
|
|
فليست عشيات
الحمى برواجع
|
إليك
ولكن خل عينيك تدمعا
|
وأورد له ثمة
غير ذلك من الشعر وفيما ذكرناه كفاية.
وترجمه الشاعر
الأديب قسطاكي بك الحمصي في كتابه (أدباء حلب) فقال ما خلاصته : أنه سار عن حلب
عقيب نكبة أصابته كاد يهلك بسببها ، ثم اكتفى الحاكم بسجنه وتغريمه ضريبة فقد بها
كل ما ملك حتى عجز عن أداء باقيها ، فرفده جد هذا العاجز لأمه عبد الله الدلّال
أحد صدور حلب بمال وفى به ما عليه وستر خلته ، ولما تخلص من السجن فارق حلب سنة
١٨٢٨ وورد مصر واتصل بحبيب البحري ، وكان هذا رئيس ديوان الكتاب في حكومة محمد علي
باشا ، فحسنت حاله وأصبح من المقدمين عنده ، ثم اتهم في إخلاصه وحسن طويته فنكب
ثانية ولازم بيته إلى آخر حياته ، فمات مهملا كئيبا. وله شعر كثير غير مجموع ولا
مهذب ، وفيه الغث والسمين. قال في مطلع قصيدة يمدح
__________________
بها جوزيف لويس روسو وكان قنصلا لفرنسا في حلب
لك الله من
ظبي غدا يقنص الأسدا
|
|
أجهلا رميت
الصب باللحظ أم عمدا
|
(وهي التي قدمنا أبياتا منها). وله
من قصيدة :
أعيدي زورة
المضنى أعيدي
|
|
فليل الوصل
عندي يوم عيد
|
مؤلّفة
النفار فجعت فيه
|
|
أمالك عن
صدود من صدود
|
وأورد له أيضا
شيئا من شعره وقال : وفيما يظن أنه مات في حدود ١٨٤٠ م وهي توافق سنة ١٢٥٦ ه.
١٢١٢ ـ الشيخ سعيد الحلبي المولد الدمشقي الوفاة المتوفى سنة ١٢٥٩
الشيخ سعيد بن
حسن بن أحمد الحلبي المولد ثم الدمشقي الحنفي ، شيخ علماء دمشق وعمدة أحبارها
ورئيس فضلائها وقدوة أخيارها ، العالم العلامة والحبر الفهامة ، فقيه زمانه وناسك
أوانه ، مفيد الطالبين ومربي المريدين.
كانت ولادته في
حلب سنة ١١٨٨ ونشأ بها ، ثم ورد إلى دمشق سنة ١٢٠٧ واستوطنها ، وأخذ العلم عن محدث
الديار الشامية محمد الكزبري والعلامة الشيخ شاكر العقاد وغيرهما من علماء عصره ،
وتصدر للإقراء والتدريس مدة حياته فانتفع به وتخرج عليه من دمشق وغيرها عدد كثير
لا يحصون ، سيما في الفقه الحنفي فإنه انفرد به في عصره ، وأخذ عنه الكثير من أهل
طبقته ، وأجل من أخذ منه العلامة السيد محمد ابن عابدين وهو تلميذ من جهة وأخوه في
الطلب من جهة أخرى ، فقد اشتركا في قراءة «الدر المختار» على العلامة الشيخ شاكر
العقاد. وقد تولى المترجم تدريس البخاري الشريف تحت قبة النسر في الجامع الأموي
نيابة عن أحمد أفندي المنيني ، واستمر المترجم على ذلك إلى وفاته.
وكان له في
دمشق الحل والعقد والأمر والنهي ، وكان محترما موقرا ينقاد إليه الكبير والصغير ،
ويؤثر عنه آثار حسنة ، منها ثباته في أيام دخول إبراهيم باشا صاحب مصر إلى الشام
سنة ١٢٤٧ ومدافعته عن الأهلين بما أثبت له عند الله أجرا وعند الناس حمدا وشكرا.
وبالجملة فقد كان
إماما عالما جهبذا فاضلا خاشعا عابدا ناسكا زاهدا ، علمه على
مر الدهور منثور ، وفضله على كر العصور مذكور. وما زال على حالته الحسنى
ومقامه الأسنى إلى أن توفي يوم الاثنين ثالث رمضان سنة ١٢٥٩ ودفن بمقبرة باب
الفراديس بالذهبية قريبا من قبر شيخه العقاد ، وأعقب أولاده العالم الوجيه الشيخ
عبد الله أفندي والفاضل الشيخ محمد والشيخ عبد المحسن أفندي رحمهمالله تعالى. ا ه. (روض البشر في أعيان القرن الثالث عشر).
وترجمه الشيخ
جمال الدين القاسمي الدمشقي في تاريخه «تعطير المشام في مآثر دمشق الشام» وذكر أن
من جملة مشايخة الشيخ نجيب القلعي الدمشقي ، وقال في وصفه : إنه كان إماما جليلا
مهابا مربيا مؤدبا ، ونوادره في تأديبه تلامذته شهيرة غريبة ، منقطعا للإقراء
والإفادة في حجرته المجاورة لباب الكّلاسة (في الجامع الأموي) ، انفرد في وقته
بحسن مسراه وسمته. ا ه.
أقول : وفي
رحلتي إلى الشام سنة ١٣٣٨ اجتمعت بحفيده الشاب المهذب الشيخ حمدي الحلبي القيّم
على الجامع الأموي بدمشق وأطلعني على مكتبة جده وهي موضوعة داخل حجرته في المكان
المعروف بالكلّاسة ، وقد وقفها جده على الطلبة ، ورأيت فيها الدرر الكامنة في
أعيان المائة الثامنة للحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة ٨٥٢ وهو في مجلد ضخم
بخط الحافظ البقاعي تلميذ المؤلف قال في آخره : إنه ابتدأ في كتابته سنة ٨٥٥ وفرغ
منه سنة ٨٥٩ ، وقد نسخ هذه النسخة عن نسخة أخرى نقلها عن نسخة المؤلف. وقد نقلت
أثناء إقامتي في دمشق ما في التاريخ المذكور من تراجم أعيان الشهباء في القرن
الثامن.
١٢١٣ ـ الشيخ محمد البادنجكي المتوفى سنة ١٢٦٠
الشيخ محمد ابن
الشيخ سعيد ابن السيد عبد الواحد البادنجكي.
ولد سنة ١٢٢٠.
كان رحمهالله من أهل الجذب ، قعد على السجادة بعد والده في الزاوية
الطرنطائية ومكث إلى أن توفي سنة ١٢٦٠ ودفن بجانب والده بتربة باب الملك.
١٢١٤ ـ الشيخ عبد الرحمن الموقّت المتوفى سنة ١٢٦٢
الشيخ عبد
الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن الشهير بالموقت ، وقد تقدمت ترجمة والده وجده.
كان رحمهالله شيخ القراء والمحدثين بحلب ، تولى بعد وفاة والده
الميقات وجميع وظائف والده بالجامع الكبير الأموي. وكان حسن الصوت متفننا في علوم
القراءات.
توفي في اليوم
السابع عشر من شهر رجب سنة ١٢٦٢ ألف ومائتين واثنتين وستين ودفن في تربة الصالحين
جانب والده رحمهالله تعالى.
١٢١٥ ـ محمد أفندي الجندي المعري المتوفى سنة ١٢٦٤
الشيخ محمد
أفندي الجندي المعري مفتي المعرة. قال الشطي في «روض البشر» :
ترجمه لنا ولد
حفيده صاحبنا الأديب الفاضل سليم أفندي الجندي حفظه الله فقال :
ولد بمعرة
النعمان سنة ١٢١١ ، وولي الإفتاء بها مرتين وبحمص مرة ، ووجهت عليه حصة من فراشة
الحرم الشريف النبوي. وكان عالما جليلا مدققا نبيلا أديبا وقورا خبيرا باللغة
التركية. أخذ العلم عن أبيه وعن جماعة من أجلّهم الشيخ محمود أفندي المرعشي الحلبي
والسيد محمد الكيلاني الحموي ، وأخذ عنهما الطريق الخلوتي ، وأخذ الطريقة القادرية
عن السيد علي الكيلاني وأقامه خليفة وألبسه الخرقة. وكان معظم تحصيله وقراءته على
سيدنا الشيخ أعرابي الحموي الأزهري الشهير بابن السايح وعلى الشيخ محمد أفندي
الأزهري الشهير بابن المفتي. وما منهم إلا من مدحه وبشر به.
وله مؤلفات
تعلن بفضله ، فمن المنثور المولد الشريف النبوي ، والموعظة الحسنة ، وشرح (قينا
قينا) لعبة للأولاد ، وشرح (يا اشميسة اطلعي لي) أنشودة لهم على طريق السادة
الصوفية أتى فيهما بما يدهش الحجى ويذهل الأبصار. ومن المنظوم البديعية ،
والتخاميس الباهرة ، والتشاطير البديعة ، وأسئلة وأجوبة. وله غير ذلك تعاليق عديدة
في الفقه والعلوم العربية.
ولم يزل قائما
بخدمة الإفتاء والتدريس العام والخاص وبث العلوم للطالبين إلى أن لحق بربه وفاز
بحظوة قربه ، وذلك في سابع شوال سنة أربع وستين ومايتين وألف ودفن في تربتنا
المعروفة في المعرة بالجهة الغربية حذاء قبر أبيه ، صب الله عليه سجال رحمته
وأنزله خير منزل.
وبنو الجندي
منهم في دمشق وحمص والمعرة. وللمترجم ولد اسمه أمين أفندي سكن دمشق وتولى إفتاء
السادة الحنفية فيها ، وكان عالما وشاعرا أديبا ا ه.
ويجدر أن نذكر
هنا حكاية لطيفة ذكرها جميل أفندي الجابري الحلبي في مجموعته ، وهي أنه لما عين
محمد رشدي باشا الشرواني واليا على دمشق سنة ١٢٧٩ ، وكان مفتيها وقتئذ الشيخ أمين
أفندي الجندي ، وكان بينهما مودة سابقة وصحبة أكيدة ، فظن أمين أفندي أنه الآن قد
صفا له الزمان وذاق حلاوة المنصب لما كان بينهما من وحدة الحال ، وقد كانا منتسبين
إلى علي فؤاد باشا الصغير ، فلم تمض أيام قلائل إلا وكتب الشرواني إلى دار الخلافة
بلزوم عزل أمين أفندي من منصب الإفتاء وإسدائه إلى الشيخ محمود أفندي حمزة بدون
سبب ، وبعد أن تم الحال على ذلك وجد الباشا المشار إليه بمحفل عظيم حوى الكثير من
أفاضل دمشق ووجهائها وفيهم أمين أفندي الجندي ، فأخرج الباشا ورقة حاوية على بيت
من الشعر وهو :
إن الأفاعي
وإن لانت ملامسها
|
|
عند التقلب
في أنيابها العطب
|
وطلب من فضلاء
الحاضرين تخميسه ، وكان قصده ظاهرا أن يقف على بداهة الفضلاء منهم وباطنا التبكيت
على أمين أفندي ، فأخذ فضلاء الحاضرين يتبارون في ذلك ، وأظهر كل واحد منهم ما
عنده من المقدرة الشعرية ، وأما أمين أفندي فإنه امتنع عن تخميسه واعتذر بقلة
البضاعة واشتغال البال ، فلم يقبل اعتذاره وألح عليه الحاضرون بتخميسه ، ولما لم
يجد بدا من ذلك أخذ القلم وكتب ارتجالا :
لا تغترر
بليال نام حارسها
|
|
ولا بدولة
فسق أنت فارسها
|
واحذر أسود
الوغى يوما تدانسها
|
|
إن الأفاعي
وإن لانت ملامسها
|
عند
التقلب في أنيابها العطب
|
وناول الورقة
للباشا ، فلما قرأها خجل خجلا زائدا وندم على ما فرط منه.
١٢١٦ ـ الشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي المتوفى سنة ١٢٦٤
الشيخ محمد أبو
الوفا بن محمد بن عمر الرفاعي.
__________________
ولد سنة ١١٧٩ ،
ولما ترعرع شرع في تحصيل العلم فقرأ على الشيخ حسن المدرس والشيخ إسماعيل المواهبي
والشيخ قاسم المغربي ، وقرأ على والده وأخذ الطريقة الرفاعية والشاذلية عنه كما
قرأته بخط ولده الشيخ محمد بهاء الدين في إجازته لسيدي العم الشيخ عبد السلام
الطباخ ، وهي موجودة عندي.
كان رحمهالله عالما فاضلا وأديبا بارعا ، ذكر شيئا من ترجمة نفسه في
إحدى مجموعتيه اللتين ذكر فيهما عدة تراجم لعلماء عصره ، وقد نقلنا عنه جميع ما
ذكره كما رأيته معزوا إليه ، قال :
إن الذي كان
سبب ولعي بطلب العلم وواسطة الفتوح في مدة يسيرة هو الأستاذ الشيخ إسماعيل الكيالي
، وذلك أني كنت مع المرحوم سيدي الوالد في زيارته في المكان الذي هو قرب الجامع
الكبير قبل أن يعمر زاوية كما قدمته في ترجمة أخيه الشيخ علي ، وكنت مراهقا فسألني
: أي شيء تقرأه من العلوم؟ فقال له الوالد : الآن مشتغل بالكتابة ، قال : ما لنا
وللكتابة ، نحن مرادنا طلب العلم والتعلم ، هذا ألزم لنا من غيره.
ثم إن الوالد
تلاقى مع شيخنا مصطفى أفندي الكوراني يوما وهو راجع من قراءة الورد الشاذلي يوم
الثلاثاء بعد العصر وذكر له رغبته في حضوري عنده في الرضائية حيث إنه انسلخ من
كتابة المحكمة الشرعية وتعين مدرسا هناك ، فقال له : أهلا وسهلا ، أصير ممتنا ،
ففي اليوم الثاني وهو الأربعاء بكرت لحضور الدرس ولازمته مدة استقامته في الرضائية
واستفدت منه الفضل الكثير في زمن يسير ، ولم تطل المدة واصطفى الله مصطفى رحمهالله إلى الدار الآخرة ، حشرنا الله وإياه في زمرة الأبرار
مع المصطفين الأخيار ، والحاصل كان ذلك بنفس الأستاذ قدست أسراره. ا ه.
ترجمة الشيخ محمد تراب دفين الزاوية المشهورة به في محلة السفاحية
مع شيء من ترجمة الشيخ أبي الوفا الرفاعي
قال الشيخ أبو
الوفا : ولما قدم عبدي باشا الوزير حلب سنة ١١٩٤ وشرف حضرة شيخنا الشيخ محمد تراب
الأوقاتي في ذلك الأثناء ذهب للسلام عليه أكابر الناس والعلماء والمشايخ ، ومن
الجملة والدي ، وكنت صغيرا ، فصحبني معه ، فلما دخل مجلس الشيخ احترمه وأجلسه
مكانه وجلست لصغر سني في آخر المجلس ، فصار الشيخ يتكلم مع أبي
وينظر نحوي ، ثم قال : إني أشم رائحة طيبة وأظنها من هذا الغلام ، فطلبني
فتوقفت حياء ، فأشار إليّ الوالد فقمت إليه وقبلت يده ، فرحب بي وقال : هذه
الرائحة الطيبة من هذا الغلام ، وصار يتأملني ، ثم قال لوالدي : هذا سيصير شيخ هذه
التكية فيما بعد. ثم صار بينه وبين الوالد ألفة تامة ، وصار في كل جمعة يذهب إلى
التكية لحضور الذكر وأكون معه إلى سنة ١١٩٩ ، فطلبني من والدي لأجل أن يحرر لي
إجازة الخلافة ويخلفني كما كان أشار إليه سابقا ، فتوقف الوالد وتردد إلى أن أجاب
بعد أن أخبره أنه مأمور بذلك وإن لم يجبني إلى ذلك يخشى على ولده العطب ، فأجاب
وحرر الشيخ إجازة الخلافة بأمره ، وأطعم اللقمة للمشايخ أرباب التكايا ، إلى أن
جاءت سنة ١٢٠١ وصار الطاعون وطعنت من الجملة وشاع الخبر بوفاتي ، فذهبوا وأخبروه
فلم يصدق ، وقال : هذا لا يموت الآن بل يقيم على بسطي مدة طويلة معلومة عندي بسبب
أني مأمور بخلافته وأنه يقيم كذا سنة على البسط ، ففي هذه الأثناء أتى الخبر أن
خبر موته غلط عن موت والدته ، وكانت توفيت ذلك اليوم ، ثم إنه حضر لعيادتي مع بعض
المشايخ وطيب خاطري ورطبني وأقام إلى أوائل المحرم سنة ١٢٠٦ ، فاتفق أني كنت عنده
ذلك اليوم فقال : يا ولدي أنا بقيت عندك مسافرا وأعيش خمسة عشر يوما بعد هذا اليوم
، فقلت : يا سيدي جعلني الله فداك ، ما هذه البشارة! فقال : سترى. ثم أصبح في
اليوم الثاني موعوك المزاج إلى تمام الخمسة عشر ليلة الجمعة الخامس عشر من المحرم
فتوفي ليلتها ، وقبل وفاته أوصى أن يدفن في محل خلوته التي يخلو بها حال حياته
للذكر ودعا لي ، ففي اليوم الثاني باشرنا تجهيزه. ودفناه حيث أوصى قبل صلاة الجمعة
رحمهالله تعالى.
وكان بشرني أن
التكية سيكون لها وقت تعمر فيه ويحصل لها وقف يكون فيه إدارة لها ، فورد في سنة
١٢٤٢ حضرة رضا علي باشا مع يوسف باشا السيروزلي وكان كتخداه ، فتعرض لتعميرها وفوض
إلي ذلك ، فأصرفت في ذلك بالتدبير والتوفير نحو سبعة آلاف قرش جزاه الله خيرا. ثم
عزل يوسف باشا عن ولاية حلب وتوجه معه وغاب مدة ، ثم عاد هو واليا بالفرمان ،
فتعاطى الأحكام وجرى له مع الأهالي مجريات وانتصر عليهم ، وجاءته الوزارة ، ووقف
للتكية دارين يحصل منهما منفعة ودكانا في سوق خان الحرير ، ولما تصدى لتعمير
التكية بحسن النية عمر الله له دنياه ، وخرج من حلب لولاية بغداد لإخراج داود باشا
والقبض عليه وإرساله إلى الآستانة ، فنجحت أموره وانتصر على داود
باشا وضبط الأموال وأرسله إلى الدولة وحاز بذلك قبولا تاما عند السلطان ،
وإلى تاريخه وهو سنة ١٢٥٦ وهو والي بغداد منصور اللواء نافذ الأحكام. وكان طلبني
سنة ١٢٥٣ وأرسل لي خرج الطريق ، فتوجهت إلى بغداد ومعي ولدي محمد بهاء الدين وزرنا
حضرة قطب الدائرة حضرة سيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني وما في بغداد من المشايخ ،
وعمت بركاتهم علينا ، وحصل لنا من الوزير المشار إليه تمام الإكرام والاحترام
والإقبال التام ، وعدنا بسلام إلى الوطن والحمد لله ، ونرجو الله أن يعمر آخرته
كما عمر دنياه لأنه من أهل الاعتقاد التام في أهل الله والتأدب معهم. ا ه.
وترجمه الشيخ
محمد أبو الهدى أفندي الصيادي في كتابه «قلادة الجواهر» فقال : ومنهم (أي من
السادة الرفاعية) العالم الفاضل ، والنحرير الكامل ، صاحب المناقب المشهورة ،
والمآثر المذكورة ، الشاعر الأديب ، واللسن الأريب ، ناصر الفقراء ، وقدوة المشايخ
والعلماء ، الشيخ الحاج محمد وفا الرفاعي الحلبي. أخذ الطريقة الرفاعية عن أبيه ،
وأبوه أخذها عن شيخ وقته السيد خير الله ابن السيد أبي بكر الصيادي الرفاعي شيخ
المشايخ بحلب الشهباء. أقام الشيخ محمد وفا المذكور منار الطريقة الرفاعية بعد
أبيه وجدد مراسمها وأخذ عنه الجم الغفير. طاف البلاد وذهب إلى دار السعادة
قسطنطينية ، وسافر قبلها إلى بغداد ، ويقال إنه تشرف بزيارة الغوث الرفاعي رضياللهعنه. وكان صاحب جاه عظيم عند الحكام ، ومحفوظ الحرمة والشان
عند الخاص والعام ، ومع كل شهرته وما هو عليه حفظ ذمة العهد لأشياخه آل خير الله
وببركتهم أعزه الله وحماه ، وقد شيد الله قدره وتمم في بلاده أمره ، ولم يزل رفيع
المكانة مرموقا بأبصار التعظيم ، حتى مات ودفنوه بمقبرة الصالحين بحلب وقد ناهز
السبعين. ا ه.
أقول :
وللمترجم نظم رائق منسجم لا كلفة فيه ، ينبي عن فكرة وقادة وذهن ثاقب وتضلع في
العلوم الأدبية. فمن نظمه مشطرا كما وجدته في بعض المجاميع الحلبية :
ما زال يرشف
من خمر الطلا قمر
|
|
حتى غدا ثملا
ما فيه من رمق
|
وراح يشربها
جنح الدجى عللا
|
|
حتى بدت
شفتاه اللعس كالشفق
|
وقام يخطر
والأرداف تقعده
|
|
وخصره ناحل
قد زين بالنطق
|
يا للنهى من
عذيري في هوى رشأ
|
|
ظبي نفور
يحاكي البدر في الأفق
|
جذبته لعناقي
فانثنى خجلا
|
|
وغض طرفا فوا
وجدي ووا حرقي
|
فضرج الخد
بالنعمان من غضب
|
|
وكللت وجنتاه
الحمر بالعرق
|
وقال لي
برموز من لواحظه
|
|
يا شيخ أهل
الهوى يا شيخ كل تقي
|
ماذا تقول
وقد قال الرواة لنا
|
|
إن العناق
حرام قلت في عنقي
|
وله ديوان حافل
اطلعت عليه قد افتتحه باستغاثة بسور القرآن قال في أوائلها :
يا ربنا أنل
فؤادي وطره
|
|
بالسورة
المذكور فيها البقره
|
بآل عمران
وبالنساء
|
|
اقض مرادي
وأنل منائي
|
بالسورة
المذكور فيها المائده
|
|
اخذل عدوي
وأزل مكائده
|
وهي على هذا
النمط في ختامها :
افتح لنا يا
ربنا بالفاتحه
|
|
واجعل
تجاراتي دوما رابحه
|
وقال رحمهالله مخمّسا البردة الشريفة وسماها «تطريز البردة وتطريد
الشدة» ، وقد بدأ بتخميسها في إدلب سنة ١٢١٧ ومطلعها :
على م يا من
أفاض الدمع كالديم
|
|
تبكي وتعلن
بالأشجان والسقم
|
وممّ مزج
الدما بالدمع من ألم
|
|
أمن تذكر
جيران بذي سلم
|
مزجت
دمعا جرى من مقلة بدم
|
أشمت من أبرق
بالأنس باسمة
|
|
أم هل شجاك
غراما نوح حائمة
|
أم ذاك من
فرط أشواق ملازمة
|
|
أم هبت الريح
من تلقاء كاظمة
|
وأومض
البرق في الظلماء من إضم
|
وله مشطرا
والأصل للمولى عبد الرحمن الجامي شارح «الكافية» :
بالله يا ريح
الصبا
|
|
اللطف شأنك
والكرم
|
مني إليك
أمانة
|
|
إن جزت في
أرض الحرم
|
بلّغ سلامي
روضة
|
|
وجه الوجود
بها ابتسم
|
سمت السماء
لأنها
|
|
فيها النبي
المحترم
|
وله مخمسا
والأصل للمولى طه زاده علي أفندي :
هو الحب كم
يقضي بإتلاف مهجتي
|
|
ويأمرني أن
أدفع الوجد بالتي
|
وكيف وقلبي
ذاب من فرط حسرتي
|
|
بليت بظبي
نافر رام قتلتي
|
ولم يدر قتل النفس شيء محرّم
بثثت له شوقي
ووجدي فلم يفد
|
|
وملّكته روحي
وقلبي فلم يرد
|
ومن نال وصلا
منه يوما فقد سعد
|
|
كتمت الهوى
خوفا عليه ولم أجد
|
معينا
لشوقي وهو بالحال يعلم
|
أكابد منه
طول عمري محنة
|
|
ويزداد
هجرانا عليّ وقسوة
|
وما كنت أدري
أن أقاسي لوعة
|
|
وخلت الهوى
عذبا وللصب منحة
|
ودمعي
غدا مني إليه يترجم
|
لساني له
فيما أقاسيه ناطق
|
|
وقلبي للقياه
مدى الدهر خافق
|
وطرفي من خوف
على البعد رامق
|
|
ومالي ذنب
غير أني عاشق
|
أسير
غرام بالنوى أترنم
|
نعم منيتي
قلبي عليك قد احتوى
|
|
وما رام
تبديلا وما مال للسوى
|
فهل حسن أن تحرق
القلب بالجوى
|
|
أبيت حزينا
من جوى البعد والنوى
|
وفي
مهجتي نار من العشق تضرم
|
فإن قلت من
أضناه شوق أقل أنا
|
|
وأروي حديثا
في هواك معنعنا
|
ولو ذبت من
حر التباعد والعنا
|
|
فجدلي بعفو
منك يا غاية المنى
|
فيرحم
ربي كل من كان يرحم
|
لأنت بجيش الحسن
خير مؤيد
|
|
ملكت زمام
الظرف من كل أغيد
|
فلا تستمع
خلّي كلام مفنّد
|
|
ولا تمتنع
عني بحق محمد
|
وأنعم بقرب أيها المتكرم
|
بعشقك هذا
الصب ضل وقد غوى
|
|
أيا من
لأنواع المحاسن قد حوى
|
وبعدك أعياني
وللقلب قد كوى
|
|
فإن كان ذنبي
العشق للغير والسوى
|
فأنت
كهمز الوصل عندي مقدّم
|
فإن كنت لا
تهواه إلا تكلفا
|
|
وتتركه يقضى
أسى وتأسفا
|
فعفوا وصفحا
فالذي قد جرى كفى
|
|
وهذا الرجا
فاقبله مني تعطفا
|
وإلا يفد يا حب عشت
وتسلم
عساك بوصل من
نوالك تنعم
|
|
لصب بنيران
الجوى يتألم
|
بماضيّ لحظ
أحور منك أقسم
|
|
لئن لم تصلني
يا حبيبي أعدم
|
شفائي وسقمي منك والله أعلم
وله في هذا
الديوان عدة قدود وموشحات لحنها لعنايته بعلم الموسيقا والأنغام ، وكان يعد من
أركان هذا الفن في حلب ، وكانت تلك القدود تغنى بين يديه في حلقة الذكر ، ومن
جملتها موشح مشهور متداول قاله حينما كان متوجها لدار السعادة سنة ١٢٢٠ مطلعه :
يا مجيبا
دعاء ذي النون
|
|
في قرار
البحار
|
استجب دعوة
المحزون
|
|
قد دعا
باضطرار
|
دور :
يا إلهي
طالما أدعو
|
|
موقنا
بالنجاه
|
ولحالي وقصتي
رفع
|
|
لك يا سيّداه
|
أنت منك
العطاء والمنع
|
|
أنت أنت
الإله
|
لك أمر
بالكاف والنون
|
|
ولك الاقتدار
|
أنت من ظلمتي
تنجيني
|
|
فالبدار
البدار
|
ومنه دور :
ملجم البحر
منك بالقدره
|
|
أنت نعم
العتاد
|
ألجم الضد
واكفني شرّه
|
|
واقض لي
بالمراد
|
رب واجعل
هلاكه عبره
|
|
لجميع العباد
|
وأذقه العذاب
بالهون
|
|
وارمه
بالدمار
|
رب باغ في
الناس مفتون
|
|
في خراب
الديار
|
ومنه دور :
ربّ بدّل
عسري بتيسير
|
|
وأنلني
القبول
|
بجزيل من حسن
ميسور
|
|
ما إليه وصول
|
رب وافتح
أبواب تدبيري
|
|
واقض لي
بالدخول
|
وعلى ما أروم
كن عوني
|
|
واكسني بالوقار
|
بمنائي أقرّ
لي عيني
|
|
أنت بالعبد
بار
|
وهو في سبعة
عشر دورا اكتفينا منه بهذا المقدار.
وقدمنا في
الرسالة الموسومة «بالهمة القدسية» تضمينه لقوله تعالى (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) في جملة من ضمن هذه الآية.
ومن شعره قصيدة
نظمها حين قامت الفتن بين الأنجكارية والسادة وتعدى أولئك على هؤلاء وأتوا
بالفظايع من الأعمال في الحادثة المعروفة بحادثة جامع الأطروش ، وقد أشرت إلى هذه
القصيدة في الجزء الثالث (ص ٣٠٠) وهي :
لا يأمنن
صروف الدهر إنسان
|
|
ولا نوائبه
فالدهر خوان
|
فكم أباد من
الماضين من ملك
|
|
له بسطوته عز
وسلطان
|
أين الملوك
التي ذلت لعزتهم
|
|
كل الرقاب
ومن خوف لهم دانوا
|
أين الجبابرة
العادون أين أولو
|
|
الأخدود أم
أين كسرى أين ساسان
|
دعوا أجابوا
فصاروا عبرة وخلت
|
|
منهم ديار
وأحياء وأوطان
|
فأصبحوا لا
ترى إلا مساكنهم
|
|
فليعتبر من
له للحق إذعان
|
وهكذا الدهر
لم تؤمن عواقبه
|
|
له إلينا
إساءات وإحسان
|
تبارك الله
ما الأسواء دائمة
|
|
وكلما قد مضى
آن أتى آن
|
كل المصائب
قد تسلى نوائبها
|
|
إلا التي ليس
عنها الدهر سلوان
|
هي المصيبة
في آل الرسول فقد
|
|
سارت
بأخبارها في الناس ركبان
|
من آل بيت
رسول الله شرذمة
|
|
من النوابغ
أحداث وشبان
|
آووا لبعض
بيوت الله من فرق
|
|
من العدو
وللأعداء عدوان
|
فجاء قوم من
الفجّار تقصدهم
|
|
بكل سوء لهم
بغي وطغيان
|
لما أحاطوا
بهم إليهمو التجؤوا
|
|
فأمّنوهم
ولكن عهدهم خانوا
|
وحالفوهم على
فوز بأنفسهم
|
|
لكنهم ما لهم
عهد وأيمان
|
وكيف صح
قديما عهد طائفة
|
|
ضلت وليس لهم
في القلب إيمان
|
سلّوا عليهم
سيوف البغي واقتحموا
|
|
كما تهجّم
جبّار وشيطان
|
وباشروا
قتلهم بما بدا لهم
|
|
فبعضهم ذابح
والبعض طعّان
|
أو باقر
لبطون أو ممثل او
|
|
ضراب سيف
وفتاك وفتان
|
أو مقتف إثر
مهزوم ليقتله
|
|
وقلبه لدم
الأشراف ظمآن
|
أو كاسر عظم
مقتول وقاذفه
|
|
كما تكسّر
أصنام وأوثان
|
أو خائض
بدماء القوم مفتخر
|
|
بالسفك
مستولع بالهتك ولهان
|
وكل هذا وآل
البيت ما رفعت
|
|
لهم عليهم يد
والرب ديّان
|
إن يستجيروا
بجاه المصطفى شتموا
|
|
أو بالصحابة
سبوا ليت لا كانوا
|
أو يستغيثوا
يغاثوا من دمائهم
|
|
أو يستقيلوا
الردى فالقلب صوّان
|
فلو سمعت
عويل القوم من بعد
|
|
إذ يستغيثوا
لهدت منك أركان
|
يا رب مستنصر
من ليس ينصره
|
|
تحت السيوف
طريح النفس غلبان
|
يا رب والدة
كبت على ولد
|
|
فمزقوه وما
رقوا وما لانوا
|
يا رب أرملة
ريعت بصاحبها
|
|
وحولها منه
أيتام وصبيان
|
ألا ذوو نجدة
ألا ذوو همم
|
|
ألا ذوو غيرة
للحق أعوان
|
ألا عصابة حق
للتقى انتسبوا
|
|
لنصرة الدين
أكفاء وأقران
|
ألا أماجد
ذبوا عن نبيهم
|
|
ألا حماة
لعرض المصطفى صانوا
|
هذا جزاء
رسول الله من فئة
|
|
قلوبهم ملؤها
إثم ونيران
|
آذوه في آله
وأحرقوا دمهم
|
|
وما عدا كل
هذا شأنه شانوا
|
وهل يطاق
سباب المصطفى علنا
|
|
وهل تطيق
سماع الشتم آذان
|
لا خير في
عيشة والمصطفى هدف
|
|
لأسهم الطغي
ذا والله خسران
|
إن لم تقوموا
بكف الشتم عنه فمن
|
|
يقم به ولكم
بعزه شان
|
وأنتم يا
رعاة الناس بينكم
|
|
كتب الحديث
وآيات وقرآن
|
قوموا لنصرة
دين الله واعتصموا
|
|
على أناس لهم
للحق خذلان
|
إن تنصروا
الله ينصركم ويهدكم
|
|
ويستبين لكم
في الدين برهان
|
لا زلت أنشد
بيتا صيغ من درر
|
|
منظم فيه
ياقوت ومرجان
|
(ماذا التقاطع في الإسلام بينكم
|
|
وأنتم يا
عباد الله إخوان)
|
وله أيضا في
هذه الحادثة :
الله أكبر من
خطب له شان
|
|
قد شاب من
هول ذاك الخطب ولدان
|
رزية أصبح الإسلام
في كدر
|
|
صمّت بموقعه
لا شك آذان
|
مصيبة ألجمت
كل الورى ولها
|
|
لقد تداعى
لكسر القلب إيوان
|
مصيبة فطرت
أحشا الأنام لها
|
|
لم يرضها ركب
قسيس ورهبان
|
عمت كدورتها
كل الورى وغدت
|
|
لها الذي
الدهر عنوان فعنوان
|
عمت كدورتها
الآفاق وانصدعت
|
|
قلوب أهل
النهى والأنس والجان
|
إذا الرسول
ينادي عترتي ظلمت
|
|
سلطانك اليوم
لا يقهره سلطان
|
يزيد سيدكم
والشمر قائدكم
|
|
إلى الجحيم
فبئس الدار نيران
|
أفي المساجد
قتل النفس فخركم
|
|
وهتك حرمة من
بالحق أعوان
|
فما لكم من
جزا يوم الجزاء غدا
|
|
لكم من الله
طرد ثم نيران
|
في يوم لم
يغنكم مال ولا فئة
|
|
تحميكم
باللظى والبغي جيران
|
يوم الجزا
ورسول الله خصمكم
|
|
فما لكم حجة
في ذا وبرهان
|
يا ويحكم
فاستعدوا للجواب فلا
|
|
تغنيكم فيه
إخوان وخلان
|
يا ويحكم يوم
تأتون الحساب على
|
|
وجوهكم فيه
ترذيل وخسران
|
هذا ولم
تنتهوا والدهر ينشدكم
|
|
بيتا دعائمه
در وعقيان
|
(ماذا التقاطع في الإسلام بينكم
|
|
وأنتم يا
عباد الله إخوان)
|
وله عدة مؤلفات
وهي :
(١) رسالة في
خواص الأسماء السهروردية وسلسلة أسناده بالإذن بها.
(٢) مجموع
فوائد ومجربات له مأذون بها من أشياخه.
(٣) رسالة
فقهية في أركان الدين الخمسة.
(٤) القصيدة
الهجائية وشرحها لأحد الأفاضل.
(٥) الفصول
الوفية في السادة الصوفية مشتمل على مقدمة وعشرة أبواب.
(٦) منظومة في
٧٥٦ بيتا نظم فيها من دفن في كل تربة وزاوية من علماء الشهباء
وأوليائها.
__________________
(٧) الصوافح
الرافية في الفواتح الكافية مجهول.
(٨) رسالة في
بحث سجود القلب الذي ذكره سيدي محيي الدين ويليه مختصر ترجمة سيدي محيي الدين.
(٩) رسالة نظم
بها الأولياء والصحابة لأعلى الترتيب وترجم كل واحد منهم بالانفراد.
(١٠) رسالة في
بيان الجوامع والمساجد والمدارس والتكايا التي في حلب لم أطلع عليه.
(١١) مولد نثر
أوله : يا من أظهر كبرياء مجده.
(١٢) مولد نثر
أوله : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب.
(١٣) مولد نظم
أوله : بعد حمد الله رب العالمين (مطبوع).
(١٤) شرح
الجلجلوتية وبيان خواصها.
(١٥) مولد أوله
: الحمد لله الذي أفاض من قبضة فضله المحمود على صفحات الوجود.
(١٦) مولد أوله
: الحمد لله الذي أظهر شموس أنوار النبوة المحمدية.
(١٧) مولد أوله
: الحمد لله الذي أطلع في سماء الأزل شمس أنوار معارف النبوة.
(١٨) رسالة في
خواص دائرة سيدي أبي الحسن الشاذلي.
(١٩) رسالة
استغاثة.
(٢٠) رسالة في
خواص حرف القاف ، ويليه دعاء لطيف وورد ، ويليه قصيدة استغاثية له.
(٢١) رسالة ضبط
بها أسماء أهل بدر على القاعدة النحوية وترجم بعضهم ، ويليه استغاثة بأسمائهم
بالانفراد والترتيب.
وكانت وفاته رحمهالله تعالى سنة ١٢٦٤ ، دفن في تربة الصالحين تجاه جدار مقام
إبراهيم من الشرق.
ورثاه الشاعر
المجيد سعيد أفندي القدسي بقصيدة طويلة قال فيها :
بكائي لفقد
النازحين يزيد
|
|
وحزين عليهم
وافر ومديد
|
__________________
وأجفان عيني
بالدموع تقرحت
|
|
ومنهن فوق
الخد سال صديد
|
وفتت ناعيهم
فؤادي ومهجتي
|
|
وإني على حمل
الهموم جليد
|
جزعت فقالوا
ما عهدناك هكذا
|
|
فقلت إليكم
فالمصاب شديد
|
خلعت جلابيب
التصبر عندما
|
|
تذكرت حبي
والمزار بعيد
|
يحق لعيني
تهجر النوم والكرى
|
|
إلى أن يلينا
سائق وشهيد
|
ويحسن مني
أجعل العمر مأتما
|
|
وأندب ندبا
ما عليه مزيد
|
مضت زهرة
الدنيا وزال صفاؤها
|
|
ولم يبق من
نيل الغموم محيد
|
فليت الليالي
أطبقت عين صبحها
|
|
على أن أيام
المصيبة سود
|
ويا ليتني ما
كنت شيئا أو انني
|
|
لحقت بربي أن
يقال وليد
|
ولم أدرك
الدهر الذي قل خيره
|
|
وساء به ندب
وسر وليد
|
مضى القوم
أهل العزم والحزم والحجا
|
|
ومن رأيهم في
الحادثات سديد
|
مضى العلماء
العاملون فما لنا
|
|
يلذّ لنا بين
الأنام هجود
|
همو وارثو
علم النبيّ محمد
|
|
وهم لحمى دين
الإله عمود
|
بهم رفع
الباري العذاب عن الورى
|
|
كذا محكم
التنزيل جاء يفيد
|
وفضّل بين
العالمين وحيدهم
|
|
وهل فوق هذا
مادح وحميد
|
أقاموا كراما
ثم ساروا أعزة
|
|
وذكر علاهم
ثابت وجديد
|
بهم كانت
الدنيا تلألأ بهجة
|
|
وفيهم بناء
المسلمين مشيد
|
وفي عصرنا قد
كان منهم بقية
|
|
به كل يوم
للبرية عيد
|
هو السيد
الحبر الإمام أبو الوفا
|
|
ملاذ الورى
بحر العلوم فريد
|
مجدد هذا
القرن درة عقده
|
|
ومن نوره في
الخافقين يفيد
|
أتى عند ما
بالجهل مدت ظلامة
|
|
على الكون
حتى ضل فيه رشيد
|
وأعوز أهل
الأرض للدين مرشد
|
|
خبير بأحكام
الإله مفيد
|
فما هو إلا
أن قضى سيف عزمه
|
|
وضم إليه
طالب ومريد
|
وقام على ساق
الهدى طول عمره
|
|
يعلم شرع
المصطفى ويفيد
|
إلى أن ملا
الآفاق علما وحكمة
|
|
وحدّث عنه
سادة وعبيد
|
فكم في ذرى
الشهباء حبر محقق
|
|
وكم آخذ في
الدين عنه وحيد
|
فضائله في
الأرض ليست خفية
|
|
وقد سار منها
في البلاد مزيد
|
وفي كل إقليم
إذا ما ذكرته
|
|
يقولون هذا
في البرية سيد
|
وهي طويلة
نكتفي منها بهذا المقدار وهو معظمها.
وترجمه الأديب
قسطاكي بك الحمصي في كتابه «أدباء حلب» فقال في صفته :
إنه كان ربعة
ممتلىء الجسم أبيض اللون صبيح الوجه أسود العينين مليح الأنف والفم على غاية من
الجمال ، وورث حسن الصوت عن أبيه وجده ، وكان يلقب بالزينة كجده لما اجتمع له في
صوته من الحسن والجهارة ، وكان كلما رتل في الجامع أو في زاويته يجتمع الناس من كل
حدب وتصعد النساء إلى السطوح لشغفهم باستماع صوته. وكان يقيم الأذكار الشاذلية مع
أبيه في الزاوية المعروفة بمسجد خير الله في محلة الأكراد بحلب وهي المشهورة
بالزاوية الرفاعية ، وهي زاويتهم الأصلية ، وله غيرها أربع تكايا ، ولما أدرك
العجز والده انتقلت إليه مشيخة الطريقة.
ووقعت منازعة
بينه وبين بعض مشايخ حلب على إحدى التكايا التي كانت تحت توليته ، فقصد
القسطنطينية ولقي من حفاوة وزرائها وكبرائها به ما يقصر عنه الوصف ، ومدحوه ومدحهم
بالمنثور والمنظوم ، ثم عاد إلى حلب وقد زودوه ببراءة سلطانية تمنع كل حاكم فيها
استماع أي دعوى عليه في التكية المذكورة.
[ثم قال] :
ومما نحفظ من غزله قطعة من موشح رويناها في كتابنا «منهل الوراد» وهي :
يا مهاة
البان يا ذات الدلال
|
|
جل من أبدع
ذا الوجه الجميل
|
غلب الوجد
وليل الهجر طال
|
|
وأنا المغرم
بالفرع الطويل
|
قدك المياس
لو لا الأزر سال
|
|
فاكشفي عن
وجنة الخد الأسيل
|
لأرى نقشا
عليه رسما
|
|
ناعم الوشي
طري الملمس
|
وله :
رفع الحجب عن
بدور الكمال
|
|
مرحبا مرحبا
بأهل الجمال
|
سادتي سادتي
بحقي عليكم
|
|
إنني عندكم
عزيز وغال
|
لم يعد لي
حبيب قلب سواكم
|
|
زال رسمي
وحال حال خيالي
|
ومنها :
ملكوني
بلطفهم ورضوا بي
|
|
عبد رق فسدت
بين الرجال
|
ومنها :
وإذا ما
الصدود أفنى وجودي
|
|
رحموني
وأنعموا بالوصال
|
١٢١٧ ـ الشيخ محمد المشاطي المتوفى
سنة ١٢٦٥
الشيخ محمد بن
أبي بكر ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ إبراهيم المشاطي ، أحد الحفاظ المشاهير.
تلقى علم
القراءات السبع على الشيخ محمد العقاد ، وبعد وفاته قرأ على أخيه الشيخ طه ابن
الشيخ محمد العقاد ، وأتقن علم القراءات وصار له اليد الطولى.
توفي يوم
الخميس تاسع عشر ربيع الثاني سنة ١٢٦٥ كما وجدته مقيدا بخط ولده الشيخ عبد الرحمن
المشاطي في مجموعته وعمره نحو خمس وستين سنة ، ودفن في تربة الصالحين.
وخلف الشيخ عبد
الرحمن هذا والشيخ عبد القادر وعبد المجيد أفندي ، فالشيخ عبد الرحمن كان إمام
الشافعية في الجامع الأموي ، وتوفي سنة ١٣٢٥. والشيخ عبد القادر كان أحد الحفاظ
المشهورين وإماما للشافعية في صلاة الفجر في الجامع الأموي ، وكانت وفاته سنة
١٣٠٠. وعبد المجيد أفندي كان تولى نقابة أشراف حلب ، بقي فيها سنتين في نواحي سنة
١٢٩٥ ، ثم انتزعها منه الشيخ أبو الهدى الصيادي وسعى في نفيه إلى يافا ، وبقي هناك
ثلاثين سنة ، وبعد إعلان الدستور العثماني أعيد إلى حلب ومنها توجه إلى الآستانة
أملا باستعادة النقابة ، وتم له ذلك غير أنه على أثر ذلك توفي هناك سنة ١٣٢٧.
والشيخ إبراهيم
المذكور هو مدفون في صحن جامع المشاطية في المحلة المسماة بهذا الاسم فوق محلة
بانقوسا ، ولم أقف على تاريخ وفاته ولا على شيء من ترجمته.
وقد تقدم ذكره
في الكلام على جامع المشاطية في ترجمة الشيخ سعد اليماني.
١٢١٨ ـ مصطفى بن أبي بكر الكوراني المتوفى سنة ١٢٦٥
الشيخ مصطفى بن
أبي بكر الكوراني ، العالم الفاضل الشاعر الأديب.
لم أقف على شيء
من ترجمته ، غير أني وجدت عند بعض أحفاده مجموعة بخطه فيها
كثير من شعره ، وظهر لي من هذه المجموعة أنه كان يجيد اللغة التركية ويكتب
فيها كتابة حسنة مع قلة من يحسن ذلك في ذلك العصر ، وشعره وسط ، وقد انتقيت منه
هذه القصيدة النبوية :
خليليّ عوجا
بالعقيق ويمما
|
|
معاهد أشواق
بها الوجد قد نما
|
وإن شئتما
نورا أضاء بيثرب
|
|
ولاحت بروق
الأنس من ذلك الحمى
|
فجدّا بسير
تبلغاني به المنى
|
|
وحوزا بذاك
الجد جدا ومغنما
|
ألا بلغا عني
النبي محمدا
|
|
صلاة وتسليما
سليما معظما
|
نبيا كريما
قد حباه إلهه
|
|
بفضل فخيم
حيث كان مفخما
|
لقد كان حقا
والخلائق لم تكن
|
|
فأعظم بمن في
الخلق قدما تقدما
|
وما زال في
الأصلاب ينقل نوره
|
|
إلى الشهم
عبد الله جاء متمما
|
لآمنة الفضل
العميم بحمله
|
|
فطوبى لها
نالت كمالا محتما
|
بمولده
السامي تبدّى سرورنا
|
|
وغنى هزار
الحمد مدحا ورنما
|
فيا سيدا ساد
البرايا بفضله
|
|
وأوصلهم كل
النوال تكرما
|
أغثي أغثي
عند كربي وشدتي
|
|
أجرني أجرني
إن كربي تحكما
|
وكن لي شفيعا
من ذنوبي فإنني
|
|
كثير ذنوب
أرتجيك الترحما
|
وأدعوك يا
خير النبيين منشدا
|
|
عليك إله
العرش صلى وسلما
|
وقصيدة في صفات
العين وهي :
احفظ أخيّ
صفات العين والبصر
|
|
وكن بحفظكها
في العلم ذا بصر
|
فالواسع
العين في حسن يقوم بها
|
|
يدعى به [أنجل]
الألحاظ والنظر
|
أما شديد
سواد العين [أدعجه]
|
|
ومع شديد
بياض صاحب [الحور]
|
و [الأزرق]
الأخضر الأحداق منظره
|
|
ومع دنو بياض
[أملح] اعتبر
|
و [أشكل] من
سواد العين خالطه
|
|
لون احمرار
بدا فيه بلا نكر
|
وإن يكن زاد
فيه الاحمرار فذا
|
|
[بالأشهل] امتاز بين الناس والبشر
|
وناظر عرض
أنف [أقبل] وإلى
|
|
محاجر [أحولا]
سماه كل دري
|
وإن [أغطشه]
من كان ناظره
|
|
قد احتوى
الضعف حتى في سنا القمر
|
أو كان ذا
الضعف في العينين مع صغر
|
|
[فأخفش] وهو عن حسن اللحاظ بري
|
ومن إذا أظلم
الليل الدجيّ فلا
|
|
يرى فذلك [أعشى]
فاستمع خبري
|
وقوله وهو
تعريب عن شعر تركي :
ما كنت أعلم
أن الدهر يفجؤني
|
|
بالخطب وهو
عن الأقوام في شغل
|
لا عتب مني
على دهر دهيت به
|
|
سواد حظي
مكتوب من الأزل
|
وكانت وفاته
سنة ١٢٦٥ كما أخبرني بعض أحفاده.
١٢١٩ ـ الشيخ محمد الهبراوي المتوفى سنة ١٢٦٧
الشيخ محمد بن
الشيخ أحمد الهبراوي.
كان رحمهالله من العلماء الأعلام ، ذا نظر نقاد وفكر وقاد ، تقدم في
كل فن على أهله ، حتى اعترف الكل بفضله. وكان في علم الحديث البيهقي الثاني ، أو
الحافظ ابن حجر العسقلاني. وأما الأصول فصدره فيه جمع الجوامع ، وهمع الهوامع. حفظ
رحمهالله الكتاب المجيد ، بالإتقان والتجويد ، ثم عكف على اجتناء
ثمر العلوم واقتطاف أزهار الفنون ، وشارك والده الشيخ الإمام ، في الأخذ عن بعض
أشياخه الأعلام ، منهم الشيخ محمد سعيد الديري والشيخ قاسم المالكي والشيخ إبراهيم
الهلالي والشيخ عبد الرحمن العقيلي ، وأجازه بالعلوم كلها بإجازة محررة سنة ١٢٣٤.
ولما سما ما سما ، وطال أوج السما ، أخذ يؤلف ويصنف ، وانتهت إليه بعد أبيه رتبة
التدريس حتى أصبح العلم على المنابر ، فمنها مواده المسماة «بالكواكب الدرية
المضية على شرح العلامة الملوي على السمرقندية» ، و «شرح على الدور الأعلى» ، و «مواده
الكبرى» على التوضيح لابن هشام ، كتب منها ثمانية كراريس ، و «مواده على تحرير شيخ
الإسلام» ، كتب منها أربعة كراريس ، وشرحه في علم الحرف المسمى «بالوتر والشفع في
شرح عظائم النفع» ، وهي منظومة شريفة في أسرار الحروف ، أولها :
أصول علوم
الحرف نقطة مركز
|
|
عليها مدار
الأمر في جملة الملا
|
وشرح على رسالة
له في النكاح ، وشرح على منظومة والده في أركان الصلاة ، وعدة من الموالد الشريفة
أطال فيها النفس ، وقد عبثت بها أيدي الزمان فدخلت في خبر كان.
وكان رحمهالله محمدي الذات فالاسم ، صدّيقي الثبات والحزم ، فاروقي
الهمة عثماني الحياء والحلم ، علوي الفضل والعلم. وكان لا يستطاع لهيبته عليه
الرضوان ، أن يشرب بين يديه الدخان ، قائما من صغره على قدم الجد والاجتهاد في
العبادات والرياضات والمجاهدات. وكان رحمهالله فصيح العبارة مليح الإشارة ، حسن النظم والنثر ، ومن
نثره الشهي في الكلام على اسمه الفتاح ما نصه : هو الذي بعنايته يفتح كل مغلق ،
وبهدايته يكشف كل مشكل ، فتارة يفتح الممالك لأنبيائه ، ويخرجها من أيدي أعدائه ،
ويقول : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً) وتارة يرفع الحجاب عن قلوب أوليائه ، ويفتح لهم الأبواب
إلى ملكوت سماؤه وجمال كبريائه ، ويقول : (ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) ومن بيده مفاتيح الغيب ومفاتيح الرزق فبالحري أن يكون
فتاحا ، وينبغي أن يتعطش العبد إلى أن يصير بحيث ينفتح بلسانه مغاليق المشكلات
الإلهية ، وأن يتيسر بمعونته ما يتعسر على الخلق من الأمور الدينية والدنيوية ،
ليكون له حظ من اسمه الفتاح. ا ه.
وكانت وفاته رحمهالله لخمس وعشرين من شهر المحرم سنة ١٢٦٧ ، ودفن بمقبرة سيدي
كليب الطاهوي بجانب قبر أبيه الشهاب أحمد.
ورثاه تلميذه
الشيخ مصطفى الأصيل بقصيدة في واحد وستين بيتا قال في مطلعها :
يا قوم
بالصبر الجميل تدرعوا
|
|
فاليوم أكباد
الورع تتقطع
|
اليوم هد من
الشريعة ركنها
|
|
وعفت معالمها
وتلك الأربع
|
اليوم غاب عن
الحقيقة بدرها
|
|
فظلامها من
بعده لا يقشع
|
اليوم زيل عن
الطريقة فخرها
|
|
فغدت وناديها
قفار بلقع
|
اليوم حل
بديننا وبأهله
|
|
خرق ليوم
قيامة لا يرقع
|
اليوم مات
محمد بن محمد
|
|
خير الورى من
في الخليقة يشفع
|
اليوم مات
الهبرويّ محمد
|
|
أستاذنا
العلم الهمام الأورع
|
بدر الهدى
بحر المواهب والندى
|
|
رب المعالي
والإمام الأورع
|
قطب الوجود
مجدد العصر الذي
|
|
آثاره كالشمس
فينا تسطع
|
__________________
محيي دروس
العلم بعد دروسها
|
|
فلذا عليه
لواها أمسى يرفع
|
مبدي شموس
الحق بعد طموسها
|
|
فلذاك من
علياه كانت تطلع
|
ومنها :
مولاي يا قمر
الملا وبودنا
|
|
لو كنت في
الأكباد منا تهجع
|
ما كان ظني
قبل نعشك أن أرى
|
|
طودا على
أيدي الخلائق يرفع
|
أو أن شمس
الأفق تهبط في الثرى
|
|
والبحر يحمله
رجال أربع
|
والله لو
تفدى بأرواح الورى
|
|
لفدتك أرواح
البرية أجمع
|
لكن قضاء
الله جل محتم
|
|
فإذا جرى في
غاية لا يدفع
|
وإذا دنا
الأجل المتاح فلا ترى
|
|
طبا يفيد ولا
دواء ينجع
|
[وإذا المنية أنشبت أظفارها
|
|
ألفيت كل
تميمة لا تنفع]
|
ومنها :
لا زال معهده
الشميم معطرا
|
|
بعبير عفو
عرفه يتضوّع
|
فازينت دار الخلود
لروحه
|
|
وغدت لعرف
لقائه تتطلع
|
وصفا له برد
النعيم بظلها
|
|
وصفا له
الورد وطاب المشرع
|
وأباحه
الرحمن رؤية وجهه
|
|
فغذا برؤية
ربه يتمتع
|
وأحله برضائه
فردوسه
|
|
فغدا من
التسنيم فيها يكرع
|
أو قمت أرثيه
فقلت مؤرخا
|
|
يوحى الهدى
كسفت فأنى تطلع
|
١٢٦٧
١٢٢٠ ـ الشيخ حسين بن محمد الغزي المتوفى سنة ١٢٧١
الشيخ حسين بن
محمد بن مصطفى البالي الغزي ، والد الفاضل المؤرخ الشيخ كامل أفندي الغزي.
__________________
ولد رحمهالله سنة ١٢٣٥ في مدينة غزة من أسرة نشأ منها عدة علماء
وفضلاء ، وبعد أن ترعرع تعلم القراءة والكتابة وأخذ مبادىء العلوم من علماء بلدته
، ولما بلغ السادسة عشرة من عمره سافر إلى مصر ودخل جامع الأزهر وأكب على تحصيل
العلوم والفنون وأحرز منها النصيب الأوفر في مدة وجيزة ، ثم عاد إلى بلدته فأقبل
عليه أهلها ، فحسده بعض الناس لذلك ونصبوا له المكايد. ولما تنكد عيشه فيها غادرها
إلى جزيرة أرواد ، ثم توجه منها إلى طرابلس الشام في أواخر سنة ستين ومائتين وألف
وأخذ في نشر العلم فيها. وفي ذلك الأثناء مر بطرابلس وليّ الله الشيخ محمد المغربي
الشهير متوجها إلى حلب ، فاتصل به المترجم وحظي عنده وأخذ عنه الطريقة النقشبندية
، فحسّن له الشيخ محمد المغربي أن يتوجه معه إلى حلب وبشره بأنه ينال فيها إقبالا
زائدا ويبنى له مدرسة ، فتوجه معه إليها ودخلها سنة ١٢٦٤ ونزل مع أستاذه في جامع
بانقوسا واختلى معه بالخلوة النقشبندية وأخفى ما لديه من العلم. وصادف في ذلك
الحين أن الحاج وفا ابن الحاج أحمد الموقت أحد أعيان الشهباء وشيخ تجارها قد حج
تلك السنة ، وفي عودته مر على مصر بنية إحضار أحد متفوقي علمائها إلى حلب ، وذلك
لقلة العلماء وقتئذ بحلب ، وذلك للطاعون الذي حصل قبل سنتين وللفتنة الإبراهيمية
التي دامت نحو ٨ سنين ، ولما ذاكر بعض العلماء في هذا الشان قيل له إن في طرابلس
رجلا من أكابر العلماء وأفاضلهم يقال له الشيخ حسين الغزي ، وهو إذا رضي بالذهاب
إلى حلب تكون قد حصلت على بغيتك. فتوجه الحاج وفا إلى طرابلس ، ولما وصلها وسئل
عنه قيل له إنه قد سبقك إلى حلب منذ أيام قلائل ، فسر لذلك وتوجه إلى وطنه حلب ،
ولما وصلها اجتمع بحضرة الأستاذ الشيخ محمد المغربي وعرّفه غرضه وطلب منه أن يكلف
الشيخ حسين بنشر ما لديه من العلم ، فامتثل المترجم الأمر واختار له الحاج وفا
مسجدا قريبا من سوق القصيلة وهو مسجد أشقتمر المعروف الآن بجامع السكاكيني ، فصار
يقرىء الطلبة فيه ، وشاع عند ذلك فضله وأقبل عليه الطلبة من جميع أنحاء البلدة ،
وكان الناس في ذلك الوقت في شوق زائد إلى طلب العلم بسبب القرعة العسكرية ومسامحة
الدولة طلبة العلوم من التجنيد ، وهي أول قرعة كانت في أيام الدولة العثمانية في
مدينة حلب وبلاد العرب ، وقد كثر اجتماع الطلبة لهذا السبب ، ولما كان عليه من
الجد والنشاط وفصاحة اللسان وغزارة المادة وقوة التعبير عن مراده ، وبلغ عدد
الدروس التي كان يقرؤها في هذا المسجد كل يوم تسعة دروس في فنون مختلفة.
وكان رحمهالله غيورا على الطلبة حريصا على استفادتهم ، يتمنى أن لو
كان العلم لقمة سائغة يضعها في فم الطالب في جلسة واحدة.
ولما رأى السيد
محمد راجي ابن السيد علي بيازيد أحد كبراء تجار حلب ومن مشاهير أعيانها وأجوادها
أن تمام الانتفاع من فضائل الأستاذ إنما يتحقق بواسطة مدرسة يقيم فيها الطلاب
وينقطعون فيها للطلب بنى في مسجد أشقتمر المعروف الآن بجامع السكاكيني في محلة
القصيلة ست حجرات في مصيف كان هناك في الجهة الشمالية ، وجعل أكبرها لإقامة حضرة
الأستاذ والباقين للطلبة. وكان الحاج محمد راجي المذكور يقدم للطلبة المجاورين
طعام الغداء والعشاء ، ويعطي لكل واحد منهم ثلاثين قرشا مشاهرة وكسوة في الصيف
وكسوة في الشتاء ، ويصطنع لهم الولائم في المواسم وفي كل ليلة من شهر رمضان ، ويدر
عليهم إحساناته ، ويقدم لحضرة الأستاذ رحمهالله كفايته من المؤونة والأقمشة والنقود ، وانهالت عليه
الهدايا والوظائف انهيال السيل في الليل ، فكان يصرفها في سبيل بر تلامذته.
ولم يزل على
هذه الحالة إلى أن توفي يوم الاثنين في الثالث والعشرين من ذي القعدة سنة ١٢٧١ ،
ودفن في مقبرة الشيخ جاكير بجانب قبة الفتياني ، وشيع جنازته ألوف من الناس ،
وتخرج على يده في برهة ست سنوات كثير من العلماء والفضلاء ، منهم الشيخ أحمد
الكواكبي والشيخ أحمد الزويتيني والشيخ طاهر الطيار الكيالي وأخوه الشيخ عبد
الرؤوف والشيخ محمد الخياط والشيخ علي ناصر وغيرهم.
وألف رحمهالله عدة مؤلفات ، منها رسالة في المجاز ، ومنظومة من بحر
الرجز ذكر فيها فضائل رمضان وسماها «منحة الرحمن في فضائل رمضان» وسمى شرحها «عطايا
المنان» ومطلعها :
يقول راجي
عفو ذي الجلال
|
|
حسين الغزي
نجل البالي
|
حمدا لمن
فضّل شهر الصوم
|
|
على الشهور
عند كل القوم
|
ومنها بعض
كراريس في شرح سلم المنطق ، ورسالة مختصرة في التوحيد (وهي موجودة في مكتبة محمود
أفندي الجزار التي كانت موضوعة في الجامع الكبير) ، ورسالة في إعراب لا سيما
وإعراب لا أبا لزيد ، ومسائل متفرقة من مشكلات علم النحو
والصرف ، وهي دالة على فرط ذكائه وقوة التحقيق والتدقيق وسعة الاطلاع.
وكان الشعر أقل
مزاياه ، وكان سريع البديهة ينظم ساعة واحدة في معان مختلفة ما لا ينظمه غيره في
عدة أيام ، إلا أنه لم يكن له اعتناء بجمعه وبقي مفرقا ، غير أن بعض تلامذته جمع
كراسة صغيرة من شعره وهي مفتتحة بقصيدة نبوية قال في مطلعها :
بجاه إمام
الأنبياء أتوسل
|
|
ومن جوده
الأوفى شفائي أؤمل
|
وأعرض للجاه
العريض شكايتي
|
|
وبثي وأحزاني
وما أتحمل
|
وأطلب منه
كشف ضري وكربتي
|
|
وعلمي يقينا
أنني لست أخذل
|
فقد أعيت
الآسي المجرب علتي
|
|
وما ينفع
الآسي ودائي معضل
|
ا ه ملخصا من
قلم ولده الشيخ كامل أفندي ، وإنما اكتفينا منها بهذا المقدار اعتمادا منا أن
يذكرها ولده بتمامها في الجزء الرابع من تاريخه.
ورأيت للمترجم
فيما عندي من المسودات أبياتا يمدح فيها إلياس ناقوس الطبيب المشهور في ذلك العصر
، وقد طرز اسمه ولقبه في أول كل بيت ، وهي :
ا إن رمت
حكمة بقراط وفطنته
|
|
ورمت تشفى من
الأمراض والألم
|
ل لا تلغ قول
الذي أبدى العجائب في
|
|
طب المريض
وإلا تغد في ندم
|
ي يخفي
تواضعه إفراط معرفة
|
|
وتلك أشهر من
نار على علم
|
ا آراؤه كلها
في الطب ليس لها
|
|
عيب سوى أنها
مشهورة الحكم
|
س سل عنه
دائي وما قاسيت ثم على
|
|
يديه زال
الذي أشكو من السقم
|
ن نام
الأطباء عن دائي لجهلهم
|
|
واستيقظت
عينه لي فانجلت غممي
|
ا أجارني
الله من هم أكابده
|
|
على يديه
فأحياني من العدم
|
ق قال
الأطباء عنه قول ذي سعة
|
|
جهلا وذلك
شأن الحاذق الفهم
|
وولو أصابوا
طريق الطب لالتقطوا
|
|
من لفظه دررا
في صورة الكلم
|
س سارت
بجهلهم الركبان واشتهروا
|
|
بالكذب
وافتضحوا في العرب والعجم
|
وترجمه الأديب
الشاعر قسطاكي بك الحمصي في كتابه «أدباء حلب» ترجمة موجزة قال : وله شعر كثير منه
قوله في مطلع قصيدة :
قلب يجدّ به
الغرام ويعبث
|
|
ويميته الحب
المبيد ويبعث
|
أنا في هواه
شج أجوب حزونه
|
|
سيرا فها أنا
فيه أغبر أشعث
|
ومن قصيدة أخرى
:
كف ألحاظك
المراض الصحاحا
|
|
لست أقوى ولا
أطيق السلاحا
|
ليت شعري ما
كان ذنبي حتى
|
|
أدخلتني سود
العيون الجراحا
|
وله قصيدة
بميلاد ابنه الشيخ كامل يقول في مطلعها :
كم لفضل
الإله من بعد يأس
|
|
نعم أذهبت
همومي وبؤسي
|
وبمسك ختامها
يؤرخ مولده بقوله :
وصلاة على محمد
الهادي وآل ما طاب تاريخ غرسي ١٢٧٠
١٢٢١ ـ الشيخ محمد الشهير بالجذبة المتوفى سنة ١٢٧٣
الشيخ محمد ابن
الحاج صالح بن محمد بن عمر بن عبد الله بن عمر البصمجي ، الشهير بابن الجذبة.
قال الشيخ أبو
الوفا : كان الشيخ محمد من أهل التقوى والصلاح ، حسن الأخلاق لين الجانب ، عظيم
التواضع حسن المعاملة ، متحببا للناس ، يحب الخير وأهله ، محقرا لنفسه. نصبه
إبراهيم باشا مفتيا ورئيسا في المجلس الذي سماه بالشورى وميزه على أرباب التمييز ،
فلم يتغير عما كان فيه من الاتصاف بالأوصاف المحمودة ، بل ازداد تواضعا ولينا. وكان
كثير الصوم ، مثابرا على العبادة والصلوات في أوقاتها مع الجماعة ، ملازما على
الأوراد والأذكار والخلوات في المسجد الذي في جواره ، يجتمع إليه الناس وهو كأنه واحد
منهم لا يمتاز على أحد منهم ، جميل الاعتقاد بالفقراء ، كثير الزيارة لقبور أهل
الشهرة والصلاح ، غير متغال بالمأكل والمشرب ، يجيب إذا دعي إلى الضيافة ولو كان
الداعي فقيرا غير مكترث بما يعنى به أرباب الظهور ، وليس له دعوى في مزية من
المزايا ، مأمون الغوائل ميمون النقيبة صبيح الوجه ظاهر الوضاءة والنورانية
والبشاشة متواضعا. وكان شهرة والده رحمهالله بابن الجذبة ، فكان في بعض الأوقات إذا أراد أن يكتب
إمضاءه في مكتوب أو غيره
يكتب : الفقير الحاج محمد الشهير بابن الجذبة ، تواضعا منه ، وله مزايا
عديدة يطول شرحها.
وأخبرني أن
والده الحاج صالح ثالث ثلاثة ولدوا في بطن واحدة وحملوا فيها ، وأن أخويه ماتا
صغيرين وبقي والده. ا ه.
وكانت ولادته
سنة ١٢٢٧ وتوفي في جمادى الأولى سنة ١٢٧٣.
١٢٢٢ ـ عبد الحميد أفندي الجابري المتوفى سنة ١٢٧٣
عبد الحميد
أفندي ابن الحاج عبد القادر أفندي الجابري.
كان من الفضلاء
الأدباء الوجهاء ، وهو جد صديقنا الوجيه الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي.
ومن شعره قوله
:
كن في أمور
الفقه صاح متابعا
|
|
للنقل واجتنب
الهوى والوسوسه
|
واترك لما في
العقل يخطر إنما
|
|
علم الشريعة
ليس علم الهندسه
|
ومنه قوله :
وليلة قامت
براغيثها
|
|
ترقص إذ غنى
لها البقّ
|
فكدت من غيظي
لأفراحها
|
|
أنشقّ لو لا
الصبح ينشقّ
|
وقيل إنهما
ليسا له.
توفي سنة ١٢٧٣
بعد أن عاش نحو ٦٥ سنة.
وذكر جميل
أفندي الجابري حكاية لطيفة كثيرا ما سمعناها من الأفواه ، وهي أنه أقام الشيخ محمد
أفندي الطيار الكيالي حفلة ختان دعا إليها الكثير من الفضلاء والوجهاء والمشهورين
من المطربين في ذلك العصر مثل مصطفى البشنك وابن عبدو ، فبينما هم يعزفون ويغنون
دخل عليهم الحاج عبد الكريم البلّه الشاعر صاحب النكت الغريبة ، فاستقبله المنشدون
بإنشاد كلام مستهجن ، ولما استوفوا حظهم منه وفرغ ما عندهم قال لمن حضر :
إن هؤلاء الجماعة يمدحون الأغنياء للجائزة ، والمشايخ للتبرك والدعاء ،
ومثلي ليمدحهم ، فوجب عليّ مدحهم ، وأنشد ارتجالا :
ورب شداة
كالحمير نواهق
|
|
بمختلف
الأصوات من غير ضابط
|
مزاهرهم دلت
على نغماتهم
|
|
كما دلت
الأرياح عن إست ضارط
|
وكان في
الحاضرين الوجيه الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي الجابري ، فنظم بيتين في الحال
وأعطاهما عبد الكريم وهما :
أرح عبد
الكريم كرام قوم
|
|
من التعريض
في نظم القريض
|
وبدل هجوهم
كرما بمدح
|
|
فهم مداح ذي
الجاه العريض
|
فاعتذر عند ذلك
الحاج عبد الكريم وأرسل للشيخ عبد الحميد أفندي بهذه الأبيات :
أيا مولى رقي
رتب المعالي
|
|
على القمرين
فضلا بالوميض
|
تقبل عذر عبد
قد رمته
|
|
بنو الآمال
بالسهم الحضيض
|
فلو وقفوا
على مدح التهامي
|
|
لكان المدح
فيهم من فروضي
|
ولكن أسرفوا
في صفع قحفي
|
|
وزفوني
بفائضة المريض
|
فأمطرهم
سحابي مزن سلح
|
|
وحيتهم رياحي
من محيض
|
فلا عتبا
عليّ هجاء قوم
|
|
يقيسون
الذبابة بالبعوض
|
وعبد الكريم
بلّه كان رجلا ظريفا من العوام ، صاحب ملح ونوادر ، مشهورا بذلك يتناقل ملحه
الطاعنون في السن إلى الآن ، وكان ذا ذكاء وفطنة ، وعني بقرض الشعر وصار عنده ملكة
منه ، غير أن غالب شعره في الخلاعة والمجون ، فلم أستحسن إثبات شيء منه ، وبلغني
أن له ديوانا لكني لم أعثر عليه بعد ، وكذلك لم أتمكن من الوقوف على تاريخ وفاته
غير أنها كانت أواخر هذا القرن.
وترجمه الأديب
قسطاكي بك الحمصي في «أدباء حلب» وأشار إلى هذه النادرة ، لكنه لم يقف منها إلا
على البيتين الأوليين ، وتتمة النادرة هي ما ذكرناه.
ووجدت له في
بعض المجاميع تشطيرا لبيتين وهما :
عرضنا أنفسا
عزت علينا
|
|
لها في ذروة
العليا مكان
|
هي الشمس
المنيرة حين مرت
|
|
عليكم فاستخف
بها الهوان
|
ولو أنّا
رفعناها لعزت
|
|
ولكن التواضع
لا يشان
|
وما كسفت
ببرج النحس شمس
|
|
ولكن كل
معروض مهان
|
١٢٢٣ ـ الشيخ عمر المرتيني الإدلبي
المتوفى سنة ١٢٧٥
الشيخ عمر ابن
الشيخ أحمد المرتيني الإدلبي. ترجمه صديقنا الفاضل برهان الدين أفندي العياشي مفتي
إدلب حالا في مجموعة له تفضل بإرسالها لنا قال :
ومن علماء
البلدة الشيخ عمر أفندي المرتيني. كان من فضلاء البلدة وعلمائها ، وكان مولعا بنسخ
الكتب ، قوي الحافظة سريع البديهة ، لا يكتب كتابا إلا ويحفظ غالبه. وكان يحفظ
مقامات الحريري عن ظهر قلب ، وله الوقوف التام على أنساب العرب ووقائعهم. كتب بخطه
شرح العلامة العيني على صحيح الإمام البخاري مرتين ، وجمع بخطه مكتبة جسيمة. توفي
سنة ١٢٧٥. ا ه.
أقول : كان
المترجم سريع الكتابة جدا مع الإتقان والضبط. رأيت فيما بقي من الكتب الخطية في
خزائن البيوت في حلب كتبا كثيرة بخطه تزيد على ثلاثين ، وعندي بخطه الحسن كتاب «الدر
المختار على تنوير الأبصار» في الفقه الحنفي وهو مما كتبه سنة ١٢٣٧ ، وكتاب «فاكهة
الخلفاء» وهو مما كتبه سنة ١٢٦٠ ، وهذا يدلك على أنه كان مع اشتغاله بالعلم
والتدريس دائبا على استنساخ الكتب العلمية والأدبية.
وكتب على قبره
أبيات من نظم أخيه الشيخ صالح وهي :
يا رعى الله
ضريحا قد حوى
|
|
شيخ هذا
الوقت فضلا ونظر
|
كان في ذا
القطر بدرا مشرقا
|
|
رحمة للناس
بدوا وحضر
|
بحر علم لم
يزل يشهد ما
|
|
خطه من كل فن
أو أثر
|
إنه الفرد
الذي ليس له
|
|
من نظير كائن
بين البشر
|
مذ دعاه
الشوق قد آن اللقا
|
|
وإلى الفردوس
ناداه القدر
|
سار في موكب
أملاك إلى
|
|
مقعد الصدق
ويا نعم المقر
|
وبشير العفو
نادى أرّخوا
|
|
إن دار الخلد
والاها عمر
|
١٢٧٥
ووالد المترجم
الشيخ أحمد كان من العلماء الفضلاء أيضا ، جدد جامعا بإدلب يقال له الجامع الأقرعي
كان تخرب ، وبنى له منارة حسنة وجعل فيه مدرسة ، وكان يقيم فيها ، ولم يزل على ذلك
إلى أن توفي سنة ١٢٢٩ ودفن في التربة التي تلي تربة والده.
أقول : وقد
اطلعت على حجة مؤرخة في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة ١٢٣٧ في إثبات نسب
المترجم لدى قاضي إدلب في ذلك الحين وأنه من الأشراف ، وقد جاء فيها : عمر بن أحمد
الشهير بالمرتيني بن بركات بن حسين بن شهاب الدين البعاجي المهاوي قائلا إنهم
نتجوا بقرية مرتين المجاورة لقصبة إدلب الصغرى ، وإن والده ووالد والده هاجرا من قرية مرتين وتوطنا في قصبة
إدلب ، وإنه رجل شريف صحيح النسب بموجب هذا النسب الذي بيده المرئي بالمجلس الشرعي
المختوم بأختام كثيرة وحجة شرعية مؤرخة في سنة أربع وثلاثين وألف.
١٢٢٤ ـ أحمد آغا ابن عبد الرحمن آغا الجزّار المتوفى سنة ١٢٧٦
أحمد آغا
الشهير بالجزار بن عبد الرحمن آغا الشهير بالسيّاف بن محمد بن إبراهيم بن علي بن
أحمد بن مصطفى بن حسن ، السري ابن السري والوجيه ابن الوجيه.
ضم إلى سروّه
علما وإلى وجاهته نبلا ، فاستنارت في سماء العلياء مصابيح مجده ، وفاح في رياض
العلوم عبير فضله ، فكان للمحافل بهجتها ، وللمجالس طرازها وزينتها ، تعرف أسرته
ببني السياف وهي من البيوتات القديمة في الشهباء.
وأما هو فاشتهر
بالجزار ، وسبب ذلك كما حدثني به بعض أحفاده نقلا عن الشيخ المعمر الشيخ محمد عاصم
أن أحمد باشا الجزار الشهير الذي كان حاكما في عكا لما انتهى من حروبه مع نابليون
بونابرت قائد الجيوش الإفرنسية ونال الشهرة بالظفر على عدوه الطائر الصيت استدعاه
السلطان سليم خان الثالث سنة ١٢٠٣ إلى الآستانة ليكافئه على أعماله
__________________
التي قام بها ويغدق عليه من إنعاماته ، فشد الرحال إلى دار السعادة من طريق
البر ، فمر بحلب فحل ضيفا عند والد المترجم عبد الرحمن آغا المشهور بالسياف ، وكان
له منزل عظيم واسع في حي الفرافرة يؤمه الكبراء والعظماء الذين يمرون من الشهباء ،
وكان سمح اليد رحب الصدر ، فصادف أثناء وجود أحمد باشا الجزار عنده أنه رزق غلاما
، فجاءه البشير بذلك وهو يسمر مع الباشا ، فأظهر الباشا سروره وهنأه واقترح عليه
أن يسمي هذا الغلام (أحمد) ويلقبه (بالجزار) تذكارا لضيافته ، فعمل عبد الرحمن آغا
بمقتضى إشارة ضيفه الكريم ، ومنذ ترعرع كان والده وأهله يدعونه بالجزار ، فصار
لقبا له ولعقبه من بعده إلى الآن.
تلقى المترجم
مبادىء العلوم على أفاضل عصره ، ثم وجه عنايته إلى العلوم الروحانية وعلوم الهيئة
والفلك ، فمهر بها وصار من النابغين المشار إليهم فيها ، ولصرف عنايته إلى هذه
الفنون اقتنى واستنسخ كتبا كثيرة فيها ، فصار لديه منها ومن غيرها كتب قيمة نادرة
المثال ، واعتنى أيضا بشراء الآلات الفلكية فحصل على نفائس منها آل الجميع إلى
ولده محمود أفندي الجزار الذي تلقى عنه هذه العلوم وشارك فيها مشاركة حسنة كما
سنذكره في ترجمته إن شاء تعالى.
وكان شيخنا
الشيخ أحمد المكتبي يثني على علم المترجم وفضله ، ويشهد له بالتفوق ورسوخ القدم في
العلوم التي ذكرناها ، وكان يقول : إنه لم يكن له نظير في هذه البلاد ، وحصل منه
عدة وقائع تدل على تضلعه في العلوم الروحانية والزايرجة يتحدث بها إلى الآن ويطول
الشرح لو ذكرناها.
ووجدت عند بعض
أحفاده مجموعة بخطه فيها جداول كثيرة لمعرفة التاريخ العربي والمسيحي والإسرائيلي
، ومسائل كثيرة تتعلق بعلم الأفلاك وبروجها ودلالات الكواكب على البلدان وسرعة
دوران السيارات فيها إلى غير ذلك من الفوائد التي يعرف بها طول البلاد وعرضها ،
وهي جديرة بالنشر ، وبعض هذه المجموعة بخط ولده الموما إليه.
وهناك مجموعة
أخرى له أيضا قال في أولها : وبعد فهذا زيح العسيني نبغ في عصرنا نزهة زمانه هو
الرصد الجديد المرصود في باريس. وقد اقتطف من أصل نسخته الكبيرة الحجم بعض العلماء
تقويم النيرين والخمسة المتحيرة والاجتماع والاستقبال ، وترجمه من
اللغة الفرنساوية إلى التركية في مدينة قسطنطينية وحول الرصد إليها ، وفي
سنة ١٢٦١ ترجم إلى اللغة العربية في مدينة حلب الشهباء إلخ.
وكان له عناية
بعلم الرمل رأيت بخطه عدة أوراق تتعلق بذلك. وبالجملة فقد كان رجل علم وعمل ، ذا
همة في التحبير والتحرير ، ولو أتيح له من يترجمه في عصره خصوصا إذا كان من
الواقفين على هذه العلوم لأطال ذيل ترجمته ووفاها حقها.
وكان منزل
المترجم كما قدمنا في محلة الفرافرة ، ثم حصل بينه وبين بعض بني عمه نزاع دعاه أن
يشتري دارا في محلة باب قنسرين تعرف بقناق الجزار إلى الآن ، ثم إنه وقفها سنة خمس
وسبعين ومائتين وألف على سكنى ذريته ووقف عليهم ثلاث دور أخرى ومصبغة ودكاكين.
وكان يتعاطى الزراعة شأن معظم الوجهاء في هذه البلاد وأثرى منها ، وكان يملك من
القرى السفيرة وتل عرن وتل حاصل وبرقوم ، ثم في زمن السلطان عبد المجيد أخذت منه
القرى الثلاث الأول وملكت لسكانها من الفلاحين وخصص له راتب كان يتناوله مدة حياته
من الحكومة ، وأبقي له قرية برقوم وهي في يد أحفاده إلى الآن.
ولم يزل على
وجاهته وحرمته وانكبابه على علومه المتقدمة إلى أن وافاه الأجل المحتوم سنة ألف
ومائتين وست وسبعين ، ودفن في الجبانة الخاصة بهذه العائلة وهي واقعة بين تربة
الصالحين وتربة الشيخ السفيري.
وكان للمترجم
أخ يقال له محمد آغا توفي بالبصرة ، والسبب في ذهابه إليها أنه كان مر من حلب علي
باشا المرسل من الآستانة واليا على البصرة ، فاصطحبه معه وولاه رياسة المالية (دفتر
دار) في أيام حكمه فيها ، ثم إنه صار واليا عليها. وكانت وفاته بها ، ولم أقف على
تاريخ ذلك ولا على شيء من أخباره.
١٢٢٥ ـ محمد أسعد أفندي الجابري المتوفى سنة ١٢٧٧
محمد أسعد
أفندي ابن الحاج عبد القادر أفندي الجابري مفتي حلب.
ولد رحمهالله سنة ١٢١٦ كما وجدته بخط حفيده جميل أفندي في مجموعة له
، وتلقى العلوم العربية والفقه الحنفي على علماء عصره. وكان صدرا محتشما ذا هيبة
ووقار. تولى إفتاء حلب سنة ١٢٧٣ ، وبقي في هذا المنصب إلى أن توفي في سنة ١٢٧٧.
وله شعر حسن
مطبوع انتهبته أيدي الضياع ولم يجمع ، ومن قصائده المشهورة التي يتغنى بها المغنون
في حلب قوله :
لله من
بالهوى بالصد أفتاها
|
|
ومن على الصب
بالهجران جرّاها
|
أهل ترى علمت
أني أبرّ بها
|
|
أقسمت أن
فؤادي ليس ينساها
|
أو هل ترى
تدري ما بالقلب من شجن
|
|
كما درت
مقلتي من لوعتي ماها
|
وأنت يا
طرفها لا تبق لي رمقا
|
|
لا خير في
مهجة الحب أبقاها
|
تنهدت رحمة
لما رأت سقمي
|
|
خوفا لئلا
أرى ما بين قتلاها
|
فأثرت خمسها
في صدرها عددا
|
|
مثل العقيق
على بلّور نهداها
|
[هكذا]
لا عيب فيها
سوى معسول ريقتها
|
|
مثل النبات فما قد كان
أحلاها
|
واصلت في
شعرها ليل الوصال فلم
|
|
أخش صباحا
سوى ضاحي محياها
|
بتنا جميعا
بأثواب العفاف إلى
|
|
أن قام داعي
صلاة الفجر حياها
|
ضمت إلى
صدرها صدري تودعني
|
|
ثم انثنت عن
ضلوع ثم مثواها
|
فقام ينشدها
في الروض بلبله
|
|
مذ غردت
برخيم الصوت ضاهاها
|
قالت أتخلص
من حبي فقلت لها
|
|
بمدح خاتم كل
الأنبيا طاها
|
لا تستطيع
الورى تحصي مدائحه
|
|
لو كان كل
شعور الناس أفواها
|
صلى عليه إله
العرش ما صدحت
|
|
قمرية إلفها
بالبين أبكاها
|
والآل والصحب
والأتباع ما نشدت
|
|
لله من
بالهوى بالصد أفتاها
|
وله مخمسا :
لم يبق في
الدنيا مواخ
|
|
زمن الرجا
ولى وشاخ
|
يا ناعيا زد
في الصراخ
|
|
خلت الرقاع
من الرخاخ
|
وتفرزنت
فيها البيادق
|
__________________
هي جيفة حظ
الكلاب
|
|
فترى الكرام
بها تصاب
|
ولئامها تعطى
النصاب
|
|
وسطا الغراب
على العقاب
|
واصطاد
فرخ البوم باشق
|
حكم الإله
فلا اعتراض
|
|
لرفيعها
بالإنخفاض
|
فانظر إلى ذا
الإعتياض
|
|
سكتت بلابلة
الرياض
|
وأصبح
الخفاش ناطق
|
ذهب الخليل
مع السمير
|
|
ورقى الصغير
مع الكبير
|
واحسرتا أين
المجير
|
|
وتسابقت عرج
الحمير
|
فقلت
من عدم السوابق
|
ومن شعره وهو
مما كتبه لي الصديق الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي الجابري قوله :
يقولون تب
والكاس في يد أغيد
|
|
وصوت المثاني
والمثالث عالي
|
فقلت لهم لو
كنت أضمرت توبة
|
|
وعاينت هذا
في المنام بدا لي
|
١٢٢٦ ـ يوسف باشا ابن نعمان أفندي
شريّف المتوفى سنة ١٢٧٨
يوسف باشا ابن
نعمان أفندي ابن عبد الرحمن آغا ابن عبد الوهاب آغا ابن محمد ابن الحاج عثمان ابن
الشيخ عبيد الله الشهير بشريّف : بضم الشين وفتح الراء وتشديد الياء ، أحد وجوه
الشهباء وأعيانها.
ولد رحمهالله سنة ١٢١٤ ، وظهرت عليه أمارات النجابة والدهاء من صغره
، ولما أتى إبراهيم باشا المصري إلى هذه البلاد عيّنه متصرفا على اللاذقية وطرابلس
الشام ، فجمع من أموال هاتين البلدتين ما لا يحصى ، ثم إنه أخذ هذه الأموال وهرب
بها إلى الآستانة إلى السلطان محمود وأخبره بما كان من إبراهيم باشا في هذه البلاد
وحظي لدى السلطان بذلك.
وأما إبراهيم
باشا فإنه حينما سمع بما أجراه يوسف باشا أمر بتصويب المدافع إلى منزله وأطلق عليه
القنابل إلى أن جعله قاعا صفصفا ، فكتب بعض وجوه حلب إلى يوسف باشا بالقضية ،
فأعاد له الجواب إنه يهيىء ٨٠ ألف مخلاة للخيل و ٣٠٠ ألف من العساكر
الجرارة إلى قتال إبراهيم باشا ، وشاع أمر هذا الكتاب بين الأهالي ، ففترت
لذلك عزائمهم وأثر ذلك فيهم تأثيرا عظيما. ولما خرج إبراهيم باشا من حلب عاد من
الآستانة يوسف باشا واستقبله أهالي حلب استقبالا فخيما.
ومن آثاره ثكنة
بناها في قرية أبي قلقل تعرف به إلى الآن. وصنع مدفعين في بيته ، فوشى به بعض
الناس إلى الحكومة فقال : نعم عمرت ثكنة وصنعت مدفعين من مالي وأرسلتهما إليها
خدمة للحكومة لتضع هناك جندا يأمن الناس على أموالهم ومزارعهم من العربان القاطنين
ثمة.
وكان صاحب نفوذ
عظيم ، فعينته الحكومة العثمانية متصرفا على أورفة بقصد إبعاده عن حلب ، وحوّل
منها إلى معمورة العزيز ثم إلى متصرفية الموصل ، وهناك توفي على إثر مرض ألم به
ودفن في الموصل وذلك سنة ١٢٧٨ وله من العمر أربع وستون سنة.
وترك إذ ذاك ما
بين أملاك ونقود ومجوهرات ما ينيف عن مائة ألف ليرة ذهبا عثمانيا. وبعد وفاته
اختلف أولاده فيما بينهم وكل واحد منهم وضع يده على ما أمكنه الوصول إليه من
التركة وخبؤوا البعض منها عند الناس ، فضاعت بسبب ذلك وتمزق شمل هذه الثروة
الطائلة وعاد أولاده فقراء بعد ذاك الغنى.
وترجمه علامة
العراق الشيخ محمود أفندي الألوسي في رحلته المسماة «غرائب الاغتراب ونزهة الألباب»
وهي مطبوعة في بغداد ، قال : ومنهم (أي ممن اجتمع بهم في رحلته إلى الآستانة) من
أخذ بضرع الشرف فارتضع منه ما شاء وحلب ، حضرة الحاج يوسف بك ابن شريّف بصيغة
التصغير ، نخبة أهل حلب ، وهو من قوم أمجاد ، ولم أجتمع به يوم جاء مع علي باشا
إلى بغداد ، ولا بعد أن صار متسلم البصرة وعاد منها ، وذلك لأمور طويلة الذيل لا
ينبغي أن يكشف الغطاء عنها. ولما اجتمعت به في القسطنطينية رأيته ذا خبرة بالعلوم
الأديبة ، ورأيت له من مكارم الأخلاق ما وددت أن يكون مثلها في بعض وجوه العراق ،
فيا لله تعالى دره من فتى عالي الجناب ، وإذا قلت قد أوتي يوسف شطر الحسن فلا
عجاب. وحدثني المرحوم والدي تغمده الله برحمته أنه نزل في بعض أسفاره ضيفا عند جده
، فرأى من إكرامه إياه ما يشهد بعلو مجده ، وهذا الكعك من ذاك العجين ، وهذا الليث
من ذاك العرين. وقد رجع إلى وطنه قبلي بأيام ، وبقدومه إليه استبشر على
ما سمعت الخاص والعام ، وظني أنه سيكون له في الرياسة الشان ، ولا بدع
فقلما رأيت مثله في رؤساء هذا الزمان. ا ه.
١٢٢٧ ـ الشيخ أحمد الحجّار المتوفى سنة ١٢٧٨
العلامة الشيخ
أحمد بن قاسم شنّون الشهير بالحجّار.
ترجمه ولده
الشيخ عبد الرحمن بكتاب كان أرسله لبعض أصحابه فقال :
هو المرحوم
العلامة أبو عبد الرحمن الشهاب أحمد بن قاسم شنّون الحجّار الحلبي. نشأ رحمهالله تعالى في حجر أبيه ، وكان أبوه من الصالحين من أهل
النسب الطاهر العلوي ، يتصل نسبه بالسادة الأشراف آل الجنزير بالجيم والنون والزاي
آخره راء مهملة. قرأ المترجم القرآن على الشيخ عبد الكريم الترمانيني والد شيخنا
الشهاب أحمد الترمانيني ، وكان الشيخ عبد الكريم من أهل العلم والخير والصلاح
مشتغلا بتعليم القرآن الكريم ، وكان أصم لا يسمع غير القرآن المجيد كما ذكره الشيخ
عمر الطرابيشي في ترجمته ، وحفظ المترجم عنده القرآن المجيد بالضبط والإتقان ،
وقرأ عنده مقدمات العلوم من النحو والفقه وغيرهما ، إلى أن برع وصنف وقتئذ رسالته
المعروفة «بالتمرين في النحو» وهي مقدمة مباركة يستدل من الانتفاع بها على الإخلاص
في تأليفها ، وأقرأها وهو في المكتب لولد شيخه شيخنا الشهاب أحمد الترمانيني ،
وبهذا كان يعد في مشايخ شيخنا الترمانيني كما قاله شيخنا محمد شهيد بن عبد العزيز
الترمانيني عن شيخنا الشيخ أحمد الترمانيني.
ثم تجرد
المترجم للتحصيل والتبحر في العلوم ولازم الشيخ أحمد الهبراوي المتوفى سنة ١٢٢٤
وغيره من علماء ذلك العصر في حلب ، ومن أجلّهم إذ ذاك العلامة الكبير والولي
الشهير الشيخ إبراهيم بن محمد الدارعزاني الهلالي ولازمه وسلك على يديه وانتفع به
، ثم أذن له في الرحلة إلى دمشق الشام ، فهاجر إليها ونزل في المدرسة البدرائية
ولازم العلامة الشيخ سعيد الحلبي والمولى عبد الرحمن الكزبري وأقرانهما من فضلاء
ذلك العصر . ولما هاجر العلامة المرشد الكامل الماجد مولانا ذو
الجناحين ضياء الدين الشيخ خالد الكردي النقشبندي إلى دمشق لازمه المترجم وقرأ
عليه شيئا من علم الكلام وسلك على يديه وأجازه
__________________
ورحل معه إلى زيارة بيت المقدس ، وفي هذه الرحلة حفظ المترجم «جمع الجوامع»
الأصولي عن ظهر قلب. ولم يزل مشتغلا في تحصيل العلوم حتى مهر وبهر وصار في عصره
ممن برع واشتهر. ثم رجع إلى بلده حلب الشهباء ولازمه الطلبة وانتفعوا به ، وصار
العلم في حلب وملحقاتها لا يرفع سنده إلا إليه في الغالب لفقد العلماء بسبب
الطاعون الذي حصل في حلب وملحقاتها سنة ١٢٦٤ أيام إبراهيم باشا المصري ، إلى أن
رحم الله تلك الجهة بالمترجم وبتلميذه شيخنا الشهاب أحمد الترمانيني ، فأحيا بهما
العلم بعد دروسه وانطماس آثاره في حلب وملحقاتها ، كل ذلك مع اشتغال المترجم
بإحياء المدارس والمساجد التي تقادم العهد عليها واندرس معظمها لا سيما في زلازل
سنة ١٢٣٧ ، وضبط الناس ما بقي من أوقافها فأحيا من ذلك القدر الكثير ، ومن جملتها
المسجد الكائن في وسط الزقاق الواقع شرقي الخان المعروف بخان الكمرك ، وكان بعض الأجانب قد استولى عليه وجعله مربطا للدواب.
وقصة تخليصه من يد الأجنبي معروفة مشهورة.
وكان رحمهالله مع اشتغاله بجميع ذلك مشتغلا بأمور العامة والشفاعة لهم
عند الحكام وولاة الأمور ، وكان مقبول الشفاعة مرعي الجانب نافذ الأمر مسموع
الكلمة ، لم يعهد أنه رد في أمر توجه به ، وكان يعيب على شيخنا الشيخ أحمد
الترمانيني عزلته عن الناس وانفراده بخويصّة نفسه ويقول : إن الله يسأل العالم عن
جاه العلم.
واستدعاه
السلطان عبد المجيد خان عليه الرحمة والرضوان مع من استدعاهم من علماء المملكة
العثمانية للإعزاز الذي أعده لختان أولاده ، ولما أذن للمترجم بالمثول لدى الحضرة
الشاهانية دخل فابتدأ بالسلام المسنون وصافح أمير المؤمنين وقرأ ويده في يده سورة
__________________
(وَالْعَصْرِ إِنَّ
الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) حتى أتمها ، فجعلت عينا السلطان تهملان بالدمع خشية. ثم
عاد معززا مكرما معرضا عن زهرة الحياة الدنيا لم يسأل شيئا ولم يقبل شيئا مما عرض
عليه من المراتب والإقطاع.
وكان المترجم
ممن يرجع إليه ويعول في حل المشكلات عليه لما أتقنه من العلوم والمعارف النقلية
والرياضية.
وله التصانيف
النافعة ، منها «مخدرات الحور منظومة في الحل والكسور» ، وقد شرحها ولده شرحا
لطيفا سماه «الجوهر المنثور على مخدرات الحور» ، وشرحها أيضا الفاضل الشيخ مصطفى
الشهير بابن باقو الحلبي ، ومنها «في الجمل وأقسامها» مطلعها :
يقول أضعف
العباد أحمد
|
|
الله ربّ
العالمين أحمد
|
وقد شرحها
بإعراب ألفاظها نظما الفاضل الشيخ محمد الصابوني الحلبي ، ومنها «معفوات الصلاة»
وشرحها على مذهب الإمام الشافعي ، ونظم مختصر المنار في أصول الفقه الحنفي وشرحه
أيضا تلميذه الشيخ عبد القادر الحبال ، و «التحفة السنية نظم رسالة الفتحية في
الربع المجيب» وقد شرحها الشيخ أحمد ابن الشيخ إسماعيل اللبابيدي ، و
«منظومة في الرمال» ، ومقدمة في النحو سماها «تمرين الطلاب» وقد شرحها الفاضل
الشيخ عمر الطرابيشي الحلبي شرحا حافلا ، و «رسالة في الاستعارات» ، ورسالة في
الجهاد سماها «إرشاد العباد في أحكام الجهاد» في نحو خمس كراريس ، وشرح على رسالة
الشيخ قاسم الخاني في المنطق سماها «كنز المعاني شرح رسالة الشيخ قاسم الخاني» ، و
«رسالة في الطب». وله «نظم تنوير الأبصار» في الفقه ، و «تنقيح حاشية ابن عابدين»
في المسائل التي انتقد فيها على الطحطاوي ، و «شرح على ورد الشيخ مصطفى البكري» ، و
«مختصر نظم السراجية» للشيخ عبد الله الميقاتي الحلبي ، و «نظم أسماء أهل بدر» ، و
«رسالة في تحريم الدخان» ، وله في غير ذلك في علوم شتى.
وتولى تدريس
مدرسة بني العشائر في الجامع الأموي والمدرسة الصلاحية. وبالجملة
__________________
فقد كان المترجم آية من آيات الله في العلم والعمل والذكاء وقوة الحافظة ،
وظهر على يديه كرامات كثيرة.
توفي رحمهالله مساء يوم الثلاثاء حادي عشر شهر شوال سنة ألف ومائتين
وسبع وسبعين ، ودفن من الغد في تربة كليب العابد المعروفة بالكليماتي خارج باب
قنسرين ، وصلى عليه في الجامع الكبير الأموي الأستاذ الشيخ عبد اللطيف الهلالي ،
وكانت له جنازة حافلة حضرها والي حلب الوزير عصمت باشا فمن دونه. ا ه.
وترجمه الشيخ
بكري الكاتب في مجموعته الكبيرة التي سماها «مراح الغيد وطوائر التغريد» وذكر له
من المؤلفات غير ما ذكره ولده في ترجمته «بشائر النصر في نصائح أولي الأمر» ، و «رسالة
في الحيض. وذكر أنه ولد سنة ١١٩٠ ، وبلغت قيمة مكتبته بعد موته أربعين ألفا مع
أنها بيعت بغير أثمانها. وكان رحمهالله يحب اقتناء الكتب التي سمعنا أنه رأى كتابا يباع ولم
يكن معه دراهم ، وكان عليه ثياب فنزع بعضها وباعه واشترى الكتاب في الحال.
وكان رحمهالله زاهدا نقشبندي الطريقة ، يستتر في الطريق بجبته لئلا
ينظر إلى ما يغضب الله تعالى ، يسعى في عمل الخير ولو على إتلاف نفسه ، جسورا في
الدخول على الحكام.
ومن تلامذته
الذين نجحوا على يده الشيخ يحيى النعساني والشيخ عبد القادر الحبال. ا ه. ببعض
حذف.
وكان له نظم
يسير ، ومما وجدت له في بعض المجاميع هذا التخميس :
حللتم فؤادي
فالهيام بكم يحلو
|
|
سلبتم رقادي
والغرام بكم يعلو
|
أيا من
بذكراهم يلذ لي العذل
|
|
يمينا بكم أن
لا أحول ولا أسلو
|
ولو
فتكت فيّ الآسنة والنبل
|
لأنتم ضيا
عيني ونور بصيرتي
|
|
وأنتم منائي
في رخائي وشدتي
|
سلوت الورى
طرّا سواكم بجملتي
|
|
وكيف سلوّي
عنكم يا أحبتي
|
وما
فيّ عضو من محبتكم يخلو
|
طرحت الورى
طرا سواكم وما السوى
|
|
سواكم غدا
دائي وأنتم هو الدوا
|
وإذ كنتم روح
الوجود وما حوى
|
|
تعشقتكم طفلا
وما أدري ما الهوى
|
وشاب
عذاري والغرام بكم طفل
|
سعيت لأن
أحيا بحسن رضاكم
|
|
وهمت لكي
أحظى بطيب لقاكم
|
وأعرضت عن كل
الأنام سواكم
|
|
وضيعت عمري
في انتظاري هواكم
|
فيا
خيبة المسعى إذا لم يكن وصل
|
حياتي موتي
في رضاكم أولي الوفا
|
|
فنائي بقائي
ثم سقمي بكم شفا
|
(بياض بالأصل)
|
|
وذلي فيكم
عين عزي بلا خفا
|
كما
أن عزي في سواكم هو الذل
|
ومن نظمه كما
وجدته في بعض المجاميع وسمعته غير مرة من الأفواه :
إني لأعجب
والحجارة صنعتي
|
|
وأصعب ما
فيها علي يهون
|
كيف ابتليت
بقلبك القاسي الذي
|
|
عمري أعالجه
وليس يلين
|
١٢٢٨ ـ الشيخ جوهر الحافظ المتوفى
سنة ١٢٧٩
الشيخ جوهر
العالم الفاضل الحافظ المتقن.
أصله من
البادية من قبيلة بني عجل المشهورة. توطن حلب وخدم الشيخ إسماعيل القطان المقيم في
جامع السليمانية المتوفى سنة ١٢٣٥ وقرأ العلم عليه ، ولازم بعده درس العارف بالله
تعالى الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ، وكان الشيخ يعترف بفضله ، وكان يقول
: الشيخ جوهر لا حاجة له إلى علمنا ، وهو يحضر إلينا تبركا. وكان حافظا لكتاب الله
متقنا له ، وإذا سئل عما قبل هذه الآية من الآيات فإنه يجيب في الحال بلا توقف ،
وهذا من النادر في الحفاظ.
وكانت وفاته
سنة ١٢٧٩ ، ودفن في التربة المعروفة بقبور البيض في الصفا وقد ناهز الثمانين عاما.
١٢٢٩ ـ الشيخ محمد الطيّار الكيّالي المتوفى سنة ١٢٧٨
الأستاذ الطبيب
محمد الطيّار الكيّالي ، السرميني أصلا الحلبي موطنا ، ابن السيد عبد
__________________
الرؤوف الكيالي دفين سرمين المتوفى سنة ١٢٣٧ ابن عمر بن عبد الكريم الصغير
شقيق الأستاذ السيد عبد الجواد الكيالي دفين زاويته الشهيرة بحلب ، ابني أحمد الجد
الجامع بين كيالية حلب والطيارية ، ابن عبد الكريم دفين زاوية سرمين ، ابن أحمد
الكبير ابن عمر ابن الشهاب أحمد المحدث الكبير ابن يحيى بن عمر تاج الدين بن عبد
السميع بن حسن دفين قرية معرة العليا ، ابن عيسى بن عمر دفين قرية داديخ ، ابن
المكين محمد الملقب بالسمين الجد الجامع لكيالية حلب عامة مع كيالية إدلب.
ولد رحمهالله عام ألف ومائتين وتسعة وعشرين في قصبة سرمين ، وقد توفي والده ثم والدته
وهو لم يتجاوز الربع الرابع ، فكفلته عمته السيدة آمنة إلى أن ترعرع. ومن نعم الله
عليه وحسن عنايته به أن قيض الله له عالما من أفاضل العلماء وهو الشيخ عبد العال
التونسي ، فإنه أتى من بلاد بعيدة وجاور في زاوية جد الطيار الأعلى الأستاذ الكبير
الشيخ عبد الكريم الكائنة بقصبة سرمين ، فلازمه مدة طويلة يتلقى عنه العلوم
الشرعية والعلم الطبيعي ، ومما أخذه عنه علم الطب. ولما عزم شيخه بعد مدة على
النزوح من سرمين والرجوع إلى بلاده توجه الطيار إلى إدلب فأكمل الطلب على ابن عمه
الأستاذ عبد القادر أبي النور الكيالي وعلى الشيخ محمد الجوهري البكفلوني وغيرهما
من العلماء الأجلاء.
ولما أخذ
الإجازات العالية من مشايخه وآنس من نفسه الكفاءة والاقتدار أخذ الطريقة عن ابن
عمه الشيخ محمد الكيالي الإدلبي وجلس إذ ذاك شيخا في زاوية جده بسرمين التي مر
ذكرها.
وفي سنة ١٢٥٥
توجه إلى حلب ونزل ضيفا على خاليه الأستاذين الفاضلين الشيخ عبد القادر والشيخ
محمد ولدي الأستاذ الكبير الشيخ إسماعيل الكيالي ، فكان مدة إقامته موضع الإجلال
والاحترام من أفاضل علماء الشهباء وأكابر رجالها. وقد كان الإعجاب به كثيرا لحسن
روايته ودرايته. وبعد أن أقام مدة في حلب توجه إلى الآستانة يصحبه السيد أحمد
الشماع أحد تلامذة أخواله ، ونزل بمدرسة السلطان الفاتح. ولما اتصل خبر قدومه بأحد
رجال الدولة العثمانية الحائز على رتبة قاضيعسكر الأناضول السيد عبد الله آل الباقي
الحلبي أسرع في الحال لزيارته ، وعندما رآه ارتجل هذين البيتين :
أهلا بأكرم
قادم من سادة
|
|
سادوا الأنام
بطيّب الأفعال
|
أنت الفتى
القرشيّ شبل المرتضى
|
|
وابن الجليل
السيّد الكيّال
|
وبعد ما جلس
إليه وتحادث معه أضافه في داره وبقي عنده فيها مدة كانت داره كعبة يقصدها الكبير
والعظيم ما بين زائر ومستفيد. وفي هذا الوقت بلغه وفاة عمته السيدة آمنة فعاد إلى
حلب ، وقد أشار عليه أخواله بتوطنها ففعل ما أشاروا به عليه.
وبدأ يتعاطى
مهنة الطبابة حتى اشتهر بها ، وألف كتابا في الطب شرح فيه منظومة الشيخ حسن العطار
في فن التشريح وهو موجود بخط يده ، أوله :
الحمد لله الذي
لا تكيف حقيقة معرفته العلوم والأفهام ، ولا تحيط بكنه ذاته العقول والأوهام ،
ابتدع الأجرام العلوية وزينها بأجمل صورة ، واخترع الأجسام السفلية وكونها على
أكمل صفة محصورة ، وجعل العناصر سببا ماديا للكائنات والفاسدات ، والكون والفساد
شرطا ذاتيا للمتولدات ، فيحصل منها بواسطة الخلق والتقدير الحيوان والمعدن والنبات
، وقضى من دونها على الإنسان بحسن الخلق والتقويم ، وخص من بينها بالوحي والإلهام
والتعليم. ثم بعد الحمد والصلاة على الرسول عليهالسلام القائل : العلم علمان : علم الطب للأبدان وعلم الفقه
للأديان.
يقول راجي لطف
ربه المتعالي ، محمد الطيار الكيالي : لما كان علم الطب بحرا لا يدرك له قرار ،
وتيها واسعا لا يشق له غبار ، وقد دون في أصوله وفروعه الأساطين من اليونانيين ،
ثم الفحول من أطباء المسلمين ، وكان ممن ألف فيه الإمام الأوحد الشيخ حسن العطار
المصري منظومة في فن التشريح وهي من أجل المختصرات في هذا الفن أردت أن أضع له
شرحا لطيفا يسفر عنه النقاب ، ويظهر ما خفي منها تحت الحجاب ، مع زيادات على
المصنف تتميما للفائدة مع اعترافي بقلة البضاعة ، والعجز في هذه الصناعة ، فإني في
هذا الأمر كمبين منهج في شعاب المسالك المتوعرة ، ومقنن قاعدة في كشف المدارك
المتعسرة ..
إلخ.
وقد اطلع على
هذا الكتاب صديقنا الطبيب النطاسي السيد عبد الرحمن الكيالي المتخرج من الكلية
الأميركية في بيروت ، فكتب عليه بعد مطالعته :
اطلعت على كتاب
«شرح منظومة الشيخ حسن العطار في التشريح» تأليف الأستاذ السيد محمد الطيار
الكيالي فوجدت أن الكتاب قد ألف قبل (٦٣) سنة أي سنة ١٢٧٧ هجرية ، وهو آخر كتاب
عربي كتب في علم الطب القديم ، وأن الناظم جمع في أرجوزته معظم علم التشريح ، وزاد
عليها فوائد علمية كثيرة تتعلق بمعرفة النبض ودلائله المرضية ، وفي وظائف الأعضاء
والأجهزة الدموية ، وفي الروح وماهيتها ، ولكن بصورة مختصرة وغامضة لا يفهمها
العارف بفنون الطب إلا بصعوبة.
وأما الشيخ رحمهالله فقد شرح الغامض ، وفصل الموجز ، وأضاف إلى الفوائد
حقائق علمية نافعة ، وذيل المنظومة برسالة في مفردات الطب مع بيان خواصها ومنافعها
الأقرباذينية ، فجاء الكتاب مفيدا في محتوياته ، وسهلا في عباراته ، وجامعا في
طياته خلاصة ما كتبه الأوائل في علمي التشريح والأقرباذين.
وقد استرعت
نظري ثلاثة أمور هي جديرة بالتقدير.
أولا : إصابة
النظر مع حسن الوصف وصحة التتبعات التشريحية التي تنطبق تماما على ما قرره الفن
الحاضر ، مثال ذلك أن الناظم ذكر أزواج الأعصاب الدماغية مختصرا والشارح أبان ما
نظم مفصلا فقال :
إن الأعصاب
قسمان : الأول ينبت من الدماغ ، والثاني من النخاع ، وصار الحال كذلك لأن الأعضاء
على نوعين : منها ما هي بعيدة عن الدماغ ، ومنها ما هي قريبة منه ، وكل منها إما
باطن أو ظاهر ، فما كان قريبا أو باطنا فالأعصاب الدماغية منبثة فيه ، وما كان
بعيدا أو ظاهرا فالأعصاب النخاعية منبثة فيه. واعلم أن الدماغ مقسوم في طوله
بنصفين وفي عرضه بثلاثة أقسام تسمى بطونا ، والمقدم منها ألين من الأوسط ، وهو
ألين من المؤخر ، ويتصغر متدرجا إلى النخاع ، وينبت من المقدم مما يلي الجبهة
زائدتان من كل نصف زائدة شبيهتان بحملتي الثدي بهما يكون الإحساس بالروايح ، وفي
وسط الدماغ فيما بين المؤخر والمقدم منفذ يسمى (الدروة) جوهرة قريب الغشاء. واعلم
أن الأعصاب الدماغية ثمانية أزواج (في كتب الطب الحديثة هي اثنا عشر) الأول ينبت
من نصفي الدماغ عند جوار الزائدتين الشبيهتين بحلمتي الثدي ، فيكون في كل نصف فرد
، ثم يتيامن النابت منها يسارا ويتياسر النابت منهما يمينا ، ثم يلتقيان على تقاطع
صلبيين ، ثم ينفذ النابت يمينا
إلى الحدقة اليسرى والنابت يسارا إلى الحدقة اليمنى. وهذان الفردان فيهما
قوة الباصرة سارية في تجويفهما وتغشاهما الأم الجافية والرقيقة ، فإذا برزت العصبة
في نقرة العين فارقتها الأم الجافية وتشظت إلى شظايا دقيقة وانتسج البعض بالبعض
وصار منها طبقة تسمى الطبقة المشيمية ، ثم نفس العصبية يحصل منها ما حصل من تينك
ويصير منها طبقة تسمى الشبكية ... إلخ.
ثانيا : اختصاص
كل نابغة في فروع من العلوم وتبحره فيه ، وهذا يدل على درجة الرقي العلمي الذي
وصلت إليه العرب في أيام تمدنهم ويكشف عن سعة استعدادهم الذهني.
ثالثا : سيرهم
الفني في تتبعاتهم واستقرائهم ، فلقد عللوا كل حادثة بعلة علمية ، وسعوا لتخليص
الحقائق من قيود الأوهام.
قال الشارح
المرحوم الشيخ محمد الطيار الكيالي نقلا عن الرئيس ابن سينا : «لا ينبغي أن يوثق
بطريق الاستدلال من أحوال البول إلا بعد مراعاة شرائط ، فيجب أن يكون أول بول أصبح
عليه ولم يرافع به إلى زمن طويل ويبيت من الليل عليه ولم يكن صاحبه شرب ماء ولا
أكل طعاما ، ولم يكن تناول صابغا من مأكول أو مشروب كالزعفران والخيار شنبر ،
فإنهما يصبغان إلى الصفرة والحمرة ، وكالبقول فإنها تصبغ إلى الخضرة ، والمري فإنه
يصبغ إلى السواد ، والشراب المسكر يغير البول إلى لونه ، ولا لاقت بشرته صابغا
كالحناء ، فإن المختضب بها ربما انصبغ بوله عنه ولا يكون تناول ما يدر خلطا ولم
يكن تعاطى من الحركات والأعمال والأحوال الخارجية عن المجرى الطبيعي ما يعين الماء
لونا مثل الصوم والسهر والتعب والجوع والغضب ، فإن هذه كلها تصبغ الماء إلى الصفرة
والحمرة ، والجماع فإنه يدسم البول تدسيما شديدا ، ومثله القيء والاستفراغ فإنهما
يبدلان الواجب عن لون الماء وقوامه ، وكذلك إتيان ساعات عليه ، ولذلك قيل يجب أن
لا ينظر في البول بعد ست ساعات لأن دلائله تضعف ولونه يتغير وثقله يذوب ويتغير أو
يكشف ... إلخ». مما يدل على أن الأوائل لم يقصروا في تدقيق الحوادث وكشف الحقائق
وأن الفكر الفني كان نبراسهم مع ضعف وسائلهم التي نجدها اليوم في معاملنا
ومصانعنا. ولقد كان الطبيب في زمنهم نافذ النظر يستند على ذكائه وبصيرته وتجاربه
أكثر مما هو عليه الطبيب في زمننا الحاضر ، ولهذا أقدر الطبيب الأستاذ سعيه
ومقدرته العلمية
في شرح الأرجوزة وكشف غوامضها وتبيانه للحقائق ووصفها كما هي ، وأتمنى أن
يكون لنا أمثاله نبغاء في زماننا الذي قضى علينا بإهمال مخلدات آبائنا وفيها من
الكنوز ما لا يستهان به.
١٠ ربيع الأول
سنة ١٣٣٩ الطبيب عبد الرحمن الكيالي. ا ه.
إن العصر الذي
نشأ فيه المترجم لم يكن آهلا برجال الطب حتى ينبغ فيما بينهم ، كما أنه لم تكن
علماء الدين متوفرة حتى يتخرج على يديهم ، فما هو السبب في تقدمه بفن الطب وتفوقه
بعلوم الدين. إن السبب يرجع إلى تلك المواهب التي كان يحملها وذلك العقل الفوار
والذكاء النادر. تمكن بعقله وقوة إرادته وذكائه إلى أن يتعلم ويتلقى فن الطب عن
شيخه ، فلما رحل لم يقف عند حد ما تعلمه بل سافر إلى إدلب وأتم ما نقصه من علوم
الشريعة على أبناء عمه.
لم يكن في عصر
الأستاذ الطيار عناية بفن الطب في هذه البلاد ، فاشتغاله فيه وتفوقه كما شهد له
الطبيب السيد عبد الرحمن برهان واضح على علو همته وكبر نفسه. إن إنسانا يعيش يتيما
ويتربى على يدي عمته في مثل سرمين في عصر انصرفت النفوس فيه عن تحصيل العلم
الضروري فضلا عن مثل فن الطب ، ثم يتقدم في مضمار الحياة ويكون له منزلة كبيرة
أينما توجه وحيثما سار وفي أي محل نزل لهو رجل طلاع إلى منازل العلياء والشرف ،
نزاع إلى المجد الأثيل ، وهكذا كان الأستاذ الطيار فإنه لم يعرف الطب فيقف على
حقائقه ، والأقرباذين فينتهي عندها ، بل كان له لسان فصيح وأسلوب في مخاطباته قلما
يجاريه في عصره أحد.
وكان الأستاذ
الشيخ يوسف الجمالي تنازل للأستاذ الطيار عن تدريسه بالجامع الكبير الأموي ، كما
فرغ له مشيخة المدرسة القرموطية رغبة منه أن يكثر نفع الطلبة من علومه وفضله ، ومن
ثمة باشر بإحياء النفوس بما يلقي عليها من علوم الدين في الجامع الكبير والمدرسة
القرموطية ، ومداواة الأجسام من أمراضها حينما يرجع إلى منزله.
واستمر رحمهالله يشتغل بعلم الأديان وعلم الأبدان إلى أن دعاه إلى جواره
فلبى نداءه في سنة ١٢٧٨ هجرية ودفن بمقبرة العبّارة.
وخلف ثلاثة أولاد هم الشيخ عبد الرؤوف والشيخ طاهر والسيد عبد الرزاق.
١٢٣٠ ـ الحاج أحمد الصابوني المتوفى سنة ١٢٧٩
الحاج أحمد ابن
الحاج عبد الله الشهير بالصابوني.
أصله من قرية
حريتان ، توطن حلب وتعاطى صنعة الصابون واشتهر بها وصار ذا ثروة طائلة ، وعمر دارا
عظيمة أمام جامع الرومي في محلة باب قنسرين وصرف في عمارتها وزخرفتها ونقشها
بالدهانات البديعة أموالا كثيرة ، وكان للجامع المذكور ميضاة ملاصقة لداره ،
فخربها وأدخلها في داره وبنى عوضها ميضاة داخل الجامع ، وكان بناؤه لها كما وجدته
في مجموعة الشيخ عبد الرحمن المشاطي بخطه سنة ١٢٥٥. وقال ثمة : إنه لما شرع في
ترميم الجامع أخرج منه عواميد عظيمة من الرخام المرمر وباعها إلى الحكومة وهي
وضعتها أمام مخفر باب النصر وأنفق القيمة في عمارة الجامع. ا ه.
أقول : ومن ذلك
الحين لم يفلح لا هو ولا أولاده بعد أن كان في داره من الجواري للخدمة خمس عشرة جارية
، وأخذ حاله في الاضمحلال ، وباع هو أو أولاده بعد ذلك الدار المذكورة وصاروا في
أسوأ حال ، وباع مصبنته الكائنة في المحلة المذكورة أمام المارستان الأرغوني
بثمانين ألفا وهي الآن تساوي آلافا من الليرات.
ومن الغريب أن
الدار المذكورة لم يزل الشؤم حالا فيها إلى يومنا هذا لا يسكنها أحد إلا ويصيبه
النقص إما في ماله أو في عائلته ، ومن جملة من تملكها مفتي حلب الشيخ بكري أفندي
الزبري ، اشتراها من بيت القاوجي بألف ليرة عثمانية ، فلم يمض أشهر إلا وعزل من
الإفتاء وأخذ حاله وجاهه يضمحل إلى أن توفي سنة ١٣١٢ كما سيأتي ، وبيعت من ذلك
الحين إلى يومنا هذا عدة مرات ، وهذا مما لم يعهد مثله ، وبالجملة فهذه نتائج
التعدي على أماكن الأوقاف نسأل الله السلامة بمنه وكرمه.
وكانت وفاته
كما وجدته بخط المشاطي في مجموعته سنة ١٢٧٩ ودفن في مقبرة السفيري رحمهالله تعالى وعفا عنه.
١٢٣١ ـ الشيخ مصطفى بن هاشم الأصيل المتوفى سنة ١٢٧٩
الشيخ مصطفى بن
هاشم الأصيل العالم الفاضل.
ولد سنة ١٢١٦ ،
وتلقى العلوم العربية والفقهية على الشيخ محمد الهبراوي والشيخ أحمد الحجار والشيخ
أحمد الترمانيني وغيرهم ، وتلقى علم القراءات السبع على شيخ القراء في وقته الشيخ
محمد المشاطي وبرع فيه ، وتلقاه عنه الشيخ أحمد الزويتيني والشيخ عبد القادر
المشاطي والشيخ شريف الأعرج القاري الشهير والشيخ محمد الرزاز وغيرهم.
وذهب إلى مصر
وجاور في الأزهر مدة ثم عاد.
رأيت له ثبتا
حافلا محررا بخط أحمد بن إسماعيل الدمياطي أجازه فيه بما حواه من إسنادات ومرويات
الشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ محمد فتح الله الخلوتي المالكي والشيخ أحمد بن محمد
الدمياطي ، والكل سنة ١٢٥١. قال الأخير في إجازته له :
وممن سلك هذه
المسالك ، وذاق هذه المدارك ، الفاضل الكامل ، العالم العامل ، اللوذعي الأديب ،
الفهامة الحبيب ، السيد مصطفى ابن السيد هاشم الشامي الحلبي الحنفي ، فانتظم في
سلك الأفاضل الأزهريين ، وتحلى من درر تقاريرهم بكل عقد ثمين ، فشمر عن ساق
الاجتهاد ، في اغتنام ذلك المراد ، حتى رجع من تلك العلوم بأوفر حظ ، ورمق بعين
الإجلال ورمي باللحظ. وحين أراد الفاضل المذكور الرجوع إلى أوطانه ، بعد تحقيق
نظره وإمعانه ، استجازني بعد أن لازمني في كتب عديدة ، وفنون شريفة مفيدة ، فسارعت
لسؤاله ، وبادرت لتحقيق آماله. إلخ.
وكان يقرأ
دروسه في مدفن الجلبي التحتاني وفي الأحمدية ، وكان ملازما للصيام والعبادة لا
يفطر إلا في أيام الأعياد. وكان حسن الخط ، رأيت بخطه جزءا من سورة البقرة تسر
رؤيته الناظرين. أخذ عنه الخط كثيرون ، منهم الخطاط الشهير الشيخ محمد العريف
الأشرفي والخطاط الشيخ محمد الدهنة والخطاط الشيخ مصطفى الحريري. وكان حنفي
المذهب.
وأخبرني ولده
الحاج وحيد أن عائلتهم تنسب إلى الشيخ جمال الدين ابن نفيس المدفون في جامع
المستدامية ، وأنهم إلى الآن يتناولون من وقفه.
وله شعر حسن
لكنه لم يدون ، ومن نظمه قصيدة يمدح بها الحضرة النبوية وهي ومن خطه نقلت :
مني عيني
أراك ولو مناما
|
|
وللأقدام
ألتثم التثاما
|
وانظر نور
وجهك يا حبيبي
|
|
وأسمع إذ ترد
لي السلاما
|
بروحي طيبة
والقرب منها
|
|
فمن لي أن
أنال بها الختاما
|
وأظفر
بالجوار وبالأماني
|
|
وأبعث آمنا
يوم القياما
|
هلموا معشر
العشاق نبكي
|
|
علينا كلما
نصبوا الخياما
|
وسار الركب
للمختار طه
|
|
رسول الله من
ساد الكراما
|
وأحيا ذا
الوجود بكل جود
|
|
وأظهر نوره
نعما عظاما
|
هو السر
المصون بكل سر
|
|
وروح
الكائنات بدا تماما
|
جميع الرسل
والأملاك طرا
|
|
له خضعت
جلالا واحتراما
|
عليهم قد
تقدم في مقام
|
|
به يسمو وكان
لهم إماما
|
وخص برؤية
وبكل قرب
|
|
ويوم البعث
أن له الكلاما
|
محال أن يفي
في بعض مدح
|
|
لبيب فيه لو
فاق الأناما
|
وكيف بمدح من
أثنى عليه
|
|
إله العرش
والمدح استداما
|
وخلّقه بما
يحوي كلام
|
|
قديم عن حدوث
قد تسامى
|
وعلّمه علوم
الغيب جمعا
|
|
وفي رتب
الترقي قد أقاما
|
أغثنا يا أبا
الزهرا أغثنا
|
|
بوقت لا يفي
معنا وفاما
|
بجاهك قد
توسلنا وحاشا
|
|
إذا كنت
الوسيلة أن نضاما
|
صلاة الله مع
أزكى سلام
|
|
لكم والآل مع
صحب دواما
|
وما قال
الأصيل بصدق شوق
|
|
منى عيني
أراك ولو مناما
|
وأخبرني تلميذه
الشيخ وفا الطيبي أن له نظم المعراج النبوي وأوله :
حمدا لمن
بعبده قد أسرى
|
|
ليلا لفك
هؤلاء الأسرى
|
ومولدا شريفا
مطلعه :
الحمد لله
الصمد
|
|
الواحد الفرد
الأحد
|
قال : ولما
حضرته الوفاة عرضنا عليه الماء فقال : لا ، اتركوني أنا وربي.
وقدمنا بعض
قصيدته التي رثى فيها شيخه الشيخ محمد الهبراوي ، وله غير ذلك من النظم.
وكانت وفاته في
صفر سنة ١٢٧٩ ، ودفن في تربة الجبيلة وعمره ٦٣ سنة رحمهالله تعالى.
١٢٣٢ ـ الشيخ عبد القادر ابن الشيخ إسماعيل الكيال المتوفى سنة ١٢٨١
الشيخ عبد
القادر ابن الشيخ إسماعيل ابن الشيخ عبد الجواد الكيالي الرفاعي.
ترجمه الشيخ
صالح المرتيني في أوراق ذكر فيها حوادث ووفيات سنة ١٢٨٠ و ٨١ وبعض سنة ٨٢ قال ومن
خطه نقلت : آخر نهار الأربعاء غرة شهر ربيع الأول سنة ١٢٨١ توفي في مدينة حلب ولي
عصره وأوانه الشيخ عبد القادر ابن الولي الشهير والقطب الكبير الشيخ إسماعيل
الشهير بابن الشيخ عبد الجواد الكيال. وكان المتوفى المذكور ضاعف الله له الأجور
في مقام الغرق عما سوى الله تعالى ، لا التفات له إلى دنيا أو جاه ، منخلعا من
الدنيا وزخارفها ، ومن مخالطة الناس وتعارفها ، ولا يأوي إلى أهل ولا فراش ، ولا
يتناول إلا غذاء جسمه من المعاش ، صيفه وشتاؤه سواء ، مقتصرا من اللباس على ثوب
واحد ورداء ، حافي القدمين من خف أو جراب ، مكشوف الرأس ومع ذلك فكأنه ملك مهاب ،
لم يترك ولدا يحذو من بعده حذوه ، بل له كريمة عليها آثار القرب والفتوّة ، طاهرة الأنفاس ، مشهورة
بذلك عند جميع الناس. وقد توفي ولم يبلغ من العمر ستين ، وكان معتقدا عند الخلق
أجمعين. وله الكرامة الظاهرة ، والأنفاس الطاهرة ، وأعظم كرامة له إقامته زيادة عن
ثلاثين سنة على هذا الحال ، تاركا للدنيا مشغولا بمراقبة مولاه عن النفس والعيال ،
ولو أراد الالتفات إلى الدنيا وزخارفها لما منعه من ذلك مانع فقر ، لأن واردات زاويته
في حلب تنوف عن ثلاثة آلاف في كل شهر. وقد دفن في زاويته المذكورة عند أبيه وأخيه
فهم في أرض الزاوية قبورهم الثلاثة على صف. ا ه.
وترجمه الشيخ
أبو الهدى في كتابه «تنوير الأبصار» فقال في حقه :
ولد كأبيه
وأخيه بحلب ونشأ بها ، وشب رضيع ثدي الولاية والتوفيق والعناية. تلقى العلوم
الشرعية عن أفاضل حلب ، وأتقن فنون الفضائل والأدب ، وكان على جانب عظيم من ظرافة
الطبع وحسن الخلق ، ولا زال على هذا المنوال ، شريف الأحوال كريم الخصال ،
__________________
حتى طرقه من الله الحال ، فتوله وهام ، وأعرض عن الحطام ، وحضر بحضيرة
العرفان في خلوة الإحسان ، وخلف أخاه الشيخ محمد المتوفى سنة ١٢٥٥ في مشيخة
الزاوية.
واشتهرت
كراماته في الديار الحلبية اشتهار الشمس المضية ، وكم له من خارقة ، أيدتها من
مطالع القدس أشرف بارقة. ثم ذكر وفاته في التاريخ المتقدم.
أقول : حدثني
غير واحد بكشف ظاهر عنه ، وكرامات كثيرة لو دونتها لجاءت في أوراق ، ولا زال
يتناقلها الناس ، منها ما حدثني به الحاج أحمد المصري النجار ، وهو رجل صالح مسن
درّاك من أهل محلة وراء الجامع ، وقد توفي منذ سنوات قلائل قال : ذهبت في السابع
عشر أو الثامن عشر من عمري إلى المقهى التي هي شمالي المدرسة الحلوية ، وكان فيها
من يلعب بخيال الظل (المسمى بالخيالاتي) ، وكانت وقتئذ غاصة بالناس ، وبينما نحن
كذلك إذ بالشيخ قدور الكيال قد دخل علينا وأسند ظهره إلى جدار المقهى وشخص ببصره
إلى سقفها ، بقي على ذلك نحو ربع ساعة ثم ذهب ، أما الحاضرون فارتاعوا جدا لدخول
الشيخ عليهم وأخذوا في الانصراف وعجبوا من دخول الشيخ عليهم في مثل هذا الوقت ولا
عادة له بذلك ، فاضطر صاحب المقهى أن يطفىء ناره ويقفل المكان ويذهب إلى بيته. قال
: فو الله ما كاد يصل إلى آخر السوق حتى سمع هدة عظيمة ارتاع لها الجيران ، وإذا
بالسقف قد خر ، فأتينا في اليوم الثاني وشاهدنا الأخشاب والأتربة وقد ملأت أرض
المقهى ، فعلمنا حينئذ مقصد الشيخ في المجيء ونجى الله من كان هناك ببركته. وهذا
كشف ظاهر لا مرية فيه. ولا ريب أن هذه العائلة لم تأخذ هذه الشهرة في هذه الديار
سدى. وأمثال هذه الوقائع التي أثرت في نفوس الناس ودعتهم إلى الاعتقاد في مشايخ
هذه العائلة يورثه الآباء للأبناء وخصوصا العوام والنساء إلى يومنا هذا ، غير أن
هؤلاء قد بالغوا في الأمر بحيث إنهم يحلفون بهم ، وأنت تعلم أنه لا يجوز الحلف
بغير الله تعالى ، إلى غير ذلك مما جاوزوا به حد الاعتدال وحادوا به عن منهج الشرع
القويم ، في حين أن الحلال بيّن والحرام بيّن. ويالله من زمننا هذا الذي أصبحنا
فيه بين أناس فرطوا وقوم أفرطوا ، والاعتدال والتوسط هو الحق ، وفيه الخير
والسلامة والنجاة والنجاح ومن الله التوفيق.
١٢٣٣ ـ الشيخ عبد القادر سلطان المتوفى سنة ١٢٨١
الشيخ عبد
القادر ابن الشيخ محمد سلطان. ذكره الشيخ صالح الترمانيني في أوراق له ومن خطه
نقلت ، قال :
ليلة الخميس
ثاني ربيع الأول سنة ١٢٨١ توفي في طريق الحج المبرور رجل من العلماء والصلحاء اسمه
الشيخ عبد القادر ابن الشيخ محمد سلطان. صار مدة مفتيا بحلب ، وكان من الدنيا
وغناها بالغا الأرب ، إلا أنه كان له رغبة في الحج إلى البيت الحرام ، فتكرر منه
ذلك في أكثر الأعوام ، فكان يخرج تارة للحج متنقلا ، وتارة عن غيره بدلا. ففي هذه
السنة خرج عن امرأة من الأكابر ، وفي رجوعه من طريق الشام في قرية من قراها يقال
لها حسّه أدركته الوفاة. وقد كان كريم الأخلاق حسن التلاق ، في مدة فتواه لم يخرج
عن طوره المعهود ، ولم يلهه منصب الفتيا عن بذل المجهود ، في خدمة الرب المعبود ،
فعليه الرحمة من ربه تعالى على الدوام ، والله اسأل أن يجمعنا به في دار السلام. ا
ه.
ورأيت في
مجموعة لشيخنا عبد الله أفندي سلطان ولد المترجم أن والده قرأ على والده الشيخ
محمد وعلى خاله الشيخ محمد الخانطوماني ، وتولى الإفتاء في حلب ، وأن ولادته كانت
سنة ١٢٢٧ ا ه.
ورأيت في بعض
المجاميع أنه تولى الإفتاء بحلب في العشرين من شوال سنة ١٢٧٣ بعد وفاة مفتيها
الشيخ محمد الجذبة.
وله مجموعة
الفتاوي التي أفتى بها مدة توليته الفتوى ، وله «مختصر الحدائق الأنسية في كشف
الحقائق الأندلسية» في علم العروض.
١٢٣٤ ـ الشيخ مصطفى الأريحاوي أمين الفتوى المتوفى سنة ١٢٨١
الشيخ مصطفى
أفندي الأريحاوي. قال الشيخ صالح المرتيني :
في خمسة خلت من
شهر شعبان سنة ١٢٨١ توفي في مدينة حلب الشيخ مصطفى أفندي الأريحاوي المعروف بابن
محفوظ. كان أمين الفتوى ، معروفا بالديانة والتقوى ، متقنا أمر الفتيا غاية
الإتقان ، لا يوجد الآن في حلب مثله يقوم مقامه من أبناء الزمان ، وذلك لإقامته في
هذه الخدمة مدة تزيد على ثلاثين سنة. وكان أريحاوي الأصل والمنشأ ، وصنعته وصنعة
أبيه من قبله الصباغة ، فنقلته الأيام إلى مدينة حلب ، ووفقه الله لتحصيل العلم
والطلب ، فسبحان الموفق لمن شاء إلى ما شاء. ا ه.
وتلقيت ترجمة
هذا الفقيه الكبير من ولده الرجل الصالح الشيخ تميم قال :
حضر والدي إلى
حلب من ريحا وهو في سن العشرين ، وقعد أجيرا عند بعض الصباغين ، ثم حبب إليه طلب
العلم فتلقاه عن الشيخ أحمد الترمانيني. ثم توجه إلى مصر فانتظم في عقد طلبة
الأزهر وتلقى هناك عن كثيرين ، وكان جل تحصيله على العالم الشهير الشيخ تميم ،
وبعد عودته من مصر حمل كتابه وذهب للحضور على الأستاذ الكبير الشيخ أحمد
الترمانيني ، فاستشكل الشيخ في عبارة ، وبعد التأمل فيها كثيرا قال لمن حضر من
تلامذته : إني لم أفهم هذه المسألة ، فمن كان عنده فيها علم فليقل ، فسكت من بحضرة
الأستاذ تأدبا معه ، فأعاد العبارة ثانيا وثالثا ، فعندها قال المترجم : إني أعلم
شيئا عن هذه المسألة تلقيته عن شيخي الشيخ تميم المصري ، ثم سرد ما عنده ، فأعجب
الأستاذ بذلك وأطرق مليا ثم قال له : يا شيخ مصطفى ، من كان مثلك في هذه المنزلة
لا ينبغي أن يحضر عليّ ، وعليك أن تنشر علمك في الناس. فامتثل المترجم أمره وصار
يقرأ حاشية ابن عابدين في المدرسة القرناصية ، وعين مدرسا لها ، وتولى أمانة الفتوى في عهد مفتي حلب تقي الدين باشا
وفي أيام مفتيها محمد أسعد أفندي الجابري ثم في أيام الشيخ محمد بهاء الدين
الرفاعي ، وتلقى العلم عنه كثيرون ، من أجلّهم الشيخ علي القلعجي والشيخ بكري
الزبري والشيخ أحمد الزويتيني ، والأخيران توليا إفتاء حلب كما سيأتي في ترجمتهما
إن شاء الله تعالى.
وكان أستاذنا
الشيخ محمد أفندي الزرقا يثني على علمه وفضله وطول باعه في علم الفقه ويقول : إنه
لم يكن في عصره في حلب من يدانيه في الفقه الحنفي.
وتوفي عن أربع
وستين عاما ، ودفن في تربة الجبيلة رحمهالله تعالى.
١٢٣٥ ـ الشيخ محمد الخيّاط المتوفى سنة ١٢٨٢
الشيخ محمد
الخيّاط الشافعي ، من أهالي محلة قارلق.
كان فاضلا
زاهدا ، له شهرة في علم الفرائض ، وكان من القانعين من هذه الدنيا
__________________
باليسير. تلقى العلم عن الأستاذ الترمانيني الكبير وغيره. ومن تلامذته
الشيخ أحمد أفندي الصدّيق كما حدثني بذلك.
وكانت وفاته في
الهواء الأصفر سنة ١٢٨٢ عن سبعين عاما.
١٢٣٦ ـ الشيخ صالح بن أحمد المرتيني المتوفى سنة ١٢٨٢
الشيخ صالح بن
أحمد المرتيني ، الإدلبي مولدا ومنشأ الحلبي موطنا ووفاة ، أخو الشيخ عمر المتقدم
آنفا.
ولد رحمهالله في بلدة إدلب من أعمال حلب سنة ١٢١٨ وبها نشأ ، وتلقى
العلم على والده وغيره من فضلاء إدلب ، وعانى صناعة النظم والنثر وكان له منهما حظ
وافر. ومن نثره اللطيف رسالة في أحوال إبراهيم باشا المصري وأعماله في هذه البلاد
، وعندي منها نسخة بخطي ، وقد أدرجت منها قسما كبيرا في الكلام على ولاية إبراهيم
باشا ، وقال في آخرها إنه فرغ من تحريرها سنة ١٢٥٧ ، ومما جاء فيها من نظمه قوله :
عظم الذنب
والفساد فأضحى
|
|
من على الحق
ضائعا وذليلا
|
واستبيحت
محارم الله حتى
|
|
صار شيطاننا
لدينا خليلا
|
وقوله :
لله نشكو ولاة
في البلاد سعوا
|
|
بالظلم
والجور والطغيان والتلف
|
آذانهم عن
سماع الخير في صمم
|
|
وقلبهم عن
قبول العذر في صدف
|
ثم إنه توطن
حلب سنة ١٢٦٢ ، وصار مدرسا للحديث في الجامع الأموي وفي المدرسة الصلاحية المسماة
الآن بالبهائية ، وتولى أوقاف جامع البهرمية نيابة عن متوليه عبد الرحمن أفندي
العلمي القدسي مدة ، وتصدى لأخذ التولية من المذكور ليكون أصيلا فيها ، وترافعا
إلى الحكام ، وكان الوالي وقتئذ ثريا باشا ، وامتدحه بقصيدة طويلة على أمل الحصول
على مطلوبه فلم يجده ذلك شيئا وذهبت مساعيه أدراج الرياح.
ورأيت أوراقا
بخطه ذكر فيها من توفي من أعيان الشهباء في سنة ١٢٨١ و ١٢٨٢ وشيئا من تراجمهم ،
وقد أثبتّ ذلك في محله. ومما جاء في هذه الأوراق أن مما تفضل
به علينا الملك المنان ، وحصل لنا من المعونة على غلاء أسعار هذا الزمان ،
إجراء ما كان قطعه عنا عصمت باشا الوالي سابقا بحلب من وظيفتنا في الجامع الكبير
وقدره مائة قرش في كل شهر ، وسبب ترجيعه أن والي مدينة حلب الآن ثريا باشا وفقه
الله لمرضاته كما يشا شرع في بناء في جوار حضرة ولي الله الكبير الشيخ أبي بكر
الوفائي الشهير ، والذي دعاه لبنائه نشاط ذلك المحل وطيب هوائه ، فحين أكمله
بنيانا وجمله بأنواع التجملات حسنا وإتقانا ، خطر في البال أن أعمل له تهنئة بما
صنع ، وأبث له الشكوى بما جرى لي من الأذية من سلفه ووقع ، وكان شروعي في ذلك قبل
توجهه إلى تنظيم عربان الأزوار ، القاطنين على أطراف الفرات في القفار ، فقابلناه
بما قلناه ، وطلبنا من إحسانه ما رجوناه ، فألهمه الحق تعالى بإجابتنا إلى ما
سألناه ، وأمر بعوده من غرة شهر أيلول حسبما أملناه ، وربنا كافاه على ذلك الإحسان
، بنصره على الأعراب ذوي الطغيان ، فأدخلهم تحت رابطة الحكم على الإطلاق ، وانقطع
عن الناس ضررهم من حدود الشهباء إلى صدر العراق.
وهذه هي
التهنئة الحاوية على تاريخ تلك الأبنية :
بناء شاده
ركن المعالي
|
|
على النهج
الأتم أتى سويا
|
إلى أن قال :
ولما أن بنى
حرما مصانا
|
|
من الأكدار
مبتهجا بهيا
|
أتيت مهنئا
بقريض نظم
|
|
لباب علائه
الباهي المحيا
|
وقلت لملتج
بحماه أرّخ
|
|
جدار ربوعه
يحكي الثريا
|
١٢٨١
ومن نظمه هذا
التخميس وقد رأيته في مجموعتين :
سيوف لحظك في
الأحشاء صائلة
|
|
وشمس حسنك
للأفكار شاغلة
|
تفديك نفس
محب فيك قائلة
|
|
يا رب إن
العيون السود قاتلة
|
وإن
عاشقها لا زال مقتولا
|
سبحان من
زانها في السحر مع حور
|
|
حتى غدت فتنة
تجري على قدر
|
أنا الأسير
بها كهلا وفي صغر
|
|
وقد تعشقتها
عمدا على خطر
|
ليقضي
الله أمرا كان مفعولا
|
ومن نظمه كما
وجدته في بعض المجاميع :
طلعت شموس
السعد من بعد المغيب
|
|
وصفا الزمان
لنا وقد وافى الحبيب
|
وحدائق
الأفراح أينع غصنها
|
|
لما تبدى
صاحب الحسن العجيب
|
غر الكواكب
مذ رأين جبينه
|
|
قالت لبدر
التم مالك لا تغيب
|
أفديه من ظبي
كحيل لواحظ
|
|
عذب المقبّل
ماجد زاك أديب
|
ضاعت عقول
أولي النهى لما انثنى
|
|
بملابس
الترفيل والقد الرطيب
|
لو جاءني منه
البشير بقربه
|
|
ووهبته روحي
لكنت أنا المصيب
|
(يا قلب لا تيأس وإن طال المدى
|
|
واعلم بأن
الله ذو فرج قريب)
|
أيضام عبد
يستجير بجاه من
|
|
ركب البراق
وكلم الرب المجيب
|
سر الوجود
خلاصة الموجود من
|
|
خير الجدود
وصاحب الصدر الرحيب
|
كنز التقى
ظبي الأجادع والنقا
|
|
من قد رقي
بالمجد والفضل الحسيب
|
فهو الرسول
أبو البتول ومن له
|
|
تسعى القفول
ويهرع الصب الكئيب
|
يا صاحبي يمم
حماه ولا تحد
|
|
عن بابه
العالي فحاشا أن تخيب
|
وأعد عليّ
مديح أفضل شافع
|
|
في يوم حر
يجعل الولدان شيب
|
|
وقل الصلاة
مع السلام عليك ما
|
|
ناح الحمام
ودمدم الحادي اللبيب
|
وللمترجم ابن
أخ فاضل اسمه الشيخ محمد ، وقد وقع لي كراسة بخطه أعطانيها بعض بني المرتيني
المقيمين في إدلب ذكر فيها حوادث وقعت سنة ١٢٧٠ في حلب وإدلب وغيرهما ، وفيها عدة
منظومات لعمه المترجم اخترت منها هذه الأندلسية وذكر أنه نظمها قبل سكناه بحلب وهي
:
قد جرى الدمع
من العين دما
|
|
عندما ذكرت
ما كنت نسي
|
وإذا جزت
بأكناف الحمى
|
|
عطفت عيني
لذاك المجلس
|
يا رعى الله
زمانا سمحت
|
|
لي به الأيام
يوما وذهب
|
فيه أنفاس
التهاني نفحت
|
|
وكؤوس الراح
تجلى من ذهب
|
شربت منه
ظباء شطحت
|
|
في ميادين
الصفا حين غلب
|
حسنهم أخجل
أقمار السما
|
|
فتراهم
كالجوار الكنّس
|
وعلى أصداغهم
قد رسما
|
|
جلّ من
أيّدنا بالحرس
|
يا مليك
الحسن جدلي بالوصال
|
|
فالحشا ذاب
ولم يبق رمق
|
طال ما راقبت
طيفا أو خيال
|
|
وإلى مغناك طرفي
قد رمق
|
إن يكن بعدك
عزا ودلال
|
|
فارحم القلب
الذي فيك احترق
|
أو يكن قصدك
تضني مغرما
|
|
فاتق الله
بقتل الأنفس
|
فقتيل الحب
والبيض الدمى
|
|
حلل الفردوس
حقا يكتسي
|
قسما بالجيد
والخصر الرقيق
|
|
وبورد الخد
أو آس العذار
|
وبمن من أجله
صرت رقيق
|
|
لي حلا في
حبه خلع العذار
|
لست أبغي
بعده خلا رفيق
|
|
مدة العمر
وإن شط المزار
|
ومعاذ الله
أن أنسى لما
|
|
نلت منه في
ظلام الحندس
|
كيف أسلو من
بأحشاي رمى
|
|
نار وجد
كشهاب القبس
|
كل من رام من
الله المنى
|
|
فليعوّل نحو
باب المصطفى
|
الذي شرف
أرجاء منى
|
|
وختام الرسل
أهل الإصطفا
|
لذ بعلياه
ولا تخش العنا
|
|
وبذاك الظل
كن مكتنفا
|
وأعد ذكراه
بين الندما
|
|
طيب الألحان
زاكي النفس
|
وإذا مستك أو
صاب الظما
|
|
بكؤوس المدح
راحا فاحتسي
|
برسول الله
إني مستجير
|
|
من تباريح
التجافي والنوى
|
معدن الإحسان
والفضل الغزير
|
|
خير من صام
وصلى ونوى
|
مانح الجود
لذي القلب الكسير
|
|
من له في
الحشر حوض ولوا
|
كم له الضب
صريحا كلما
|
|
وهو الشافع
في كل مسي
|
وعليه الله
صلى كلما
|
|
هزم الصبح
جيوش الغلس
|
ورضاء الله
يهدى بالدوام
|
|
لأبي بكر
المكنّى بالعتيق
|
من غدا في
حبه يلقى الهيام
|
|
من عذاب الله
ناج وعتيق
|
وإلى الفاروق
والشهم الهمام
|
|
صهر خير
الخلق عثمان الصديق
|
وعليّ من به
الدين سما
|
|
بطل الهيجاء
أقوى فارس
|
وعلى آل رسول
الله ما
|
|
عشقت عيني
لطرف ناعس
|
وكانت وفاته في
رابع عشر رجب سنة ١٢٨٢ ، ودفن خارج باب قنسرين في تربة الكليباتي. وأعقب عدة أولاد
منهم من مات ولم يعقب ذكورا ، ومنهم من أعقب ذكرا وهو الشيخ إسماعيل ، والشيخ
إسماعيل أعقب خليل أفندي والشيخ عمر أفندي والشيخ محمود أفندي ، فالأولان لا زالا
في قيد الحياة ، ولخليل أفندي ولدان هما نبيه بك وإسماعيل أفندي ، ونبيه بك هو
حاكم حلب الآن تولاها في السنة التي نحن فيها وهي سنة ١٣٤٥ في ١٩ المحرم الموافق
٢٩ تموز سنة ١٩٢٦.
١٢٣٧ ـ سيدي الجد الشيخ هاشم الطبّاخ المتوفى سنة ١٢٨٢
الشيخ هاشم ابن
السيد أحمد ابن السيد محمد الشهير بالطبّاخ ، جدي والد أبي.
ولد رحمهالله سنة ألف ومائتين وعشرين أو قبل ذلك بسنة ، ولما ترعرع
تلقى مبادىء العلوم الآلية والفقهية على الأستاذ الكبير الشيخ إبراهيم الدارعزاني
وعلى غيره من فضلاء ذلك العصر ، وحصل طرفا صالحا من العلم ، وأخذ الطريقة الخلوتية
القادرية على الأستاذ المذكور ولازم زاويته ، إلى أن توفي فلازم بعده ولده الشيخ
محمد وسلك على يديه وصار يختلي معه الخلوة الأربعينية في كل سنة ، ثم خلّفه وألبسه
العرف على جاري عادتهم فيمن يخلّفونه ، والعرف هو عمامة كبيرة بيضاء ، ولا زالت
هذه العمامة محفوظة عندي.
ورحل سيدي الجد
إلى الآستانة فصار له فيها القبول التام ، وعرض عليه القضاء فأبى وقال : إن لنا
صنعة أغنانا الله بها عن القضاء ، لأنه مع الاشتغال بالعلم والتدريس كان يتعاطى
صنعة البصم المشهورة بالبصمجي ، وهي صنعة أبيه من قبله ، فإنه مكتوب على لوح قبره
في تربة السنابلة : السيد أحمد ابن الحاج محمد الطباخ البصمجي.
وكانت وفاته
سنة ١٢٤٢.
وكان سيدي الجد
على جانب عظيم من الصلاح والتقوى وحسن الأخلاق ، كثير التهجد ، ملازما للعبادة ،
مكبا على مطالعة كتب السادة الصوفية ، واقتنى كتبا خطية نفيسة كثيرة توزعها أولاده
ثم بيعت بعد ذلك ، ومنها الآن جملة وفيرة في مكتبة المجلس البلدي في الإسكندرية ،
وعلى كثير منها خطه. وأنفس هذه الكتب كتاب «الجامع لآداب الراوي والسامع» للحافظ
الخطيب مجلدان في عشرين جزءا ، وهي نسخة قديمة يغلب على ظني أنها محررة في القرن
السادس وعليها خطوط كثير من الحفاظ وكبار العلماء ، وكتاب «أسرار التنزيل» للفخر
الرازي ، و «شرح منظومة الإمام النسفي» في الخلاف ، و «جزء عبد الله بن المبارك»
في الحديث ، و «شرح المناوي الكبير على الجامع الصغير» وغير ذلك من النفائس.
وكان يقرأ
الدروس في مسجد العمري وفي مسجد الزيتونة كلاهما في محلة الجلّوم ، وفي مسجد الشيخ
حمود في محلة باب قنسرين حسبة لله تعالى لا يتناول شيئا من الوظيفة لاستغنائه
بصنعته وتجارته.
وكان ملازما
للزاوية الهلالية يحضر الذكر الذي يقام فيها يوم الجمعة بعد العصر ، وخطب فيها مدة
طويلة. وكان مع عكوفه على المطالعة وملازمته للعبادة والتهجد وقراءة الأوراد
متأنقا في ملبسه ومطعمه سخي اليد كثير الصدقة كثير التفقد لأخوانه وأصدقائه وصولا
للرحم مبذول الجاه لا يرد من قصده بحاجة يقوم بذلك أتم قيام.
وكان رحمهالله بدينا مربوع القامة عظيم الأذنين أبيض الوجه مستديره ،
يعلوه احمرار ، عظيم الهيبة ، مكللا بالوقار والحشمة ، تدل هيئته على صلاح عظيم
وقلب نيّر. حدثني غير واحد من العارفين به والمعاصرين له بعدة كرامات عنه يطول
الكلام لو ذكرتها ، وحسبه ما كان عليه من التقوى والاستقامة والتمسك بالسنة
السنية. وكان يتعمم بالزنانير الهندية على نسق كثير من العلماء في ذلك العصر ، إلا
في الجمعة والأعياد وعند حضور مجلس الذكر فكان يلبس العرف الذي قدمنا ذكره.
وقبل وفاته
بعدة سنين سلم دار طباعته وقد كانت ملاصقة لداره الكبيرة في محلة الجلّوم لأولاده
الثلاثة : عمي الشيخ عبد السلام أفندي ووالدي الحاج محمود أفندي وعمي الشيخ علي
أفندي ، ولزم البيت لا يخرج إلا قليلا ، وازداد في الانكباب على المطالعة
والاجتهاد
في العبادة ، إلى أن وافاه اليوم المحتوم في ثامن رمضان سنة ١٢٨٢ ، ودفن
بجانب قبر والده في تربة السنابلة خارج باب أنطاكية ، وكان مرضه أياما قلائل. ولما
حضرته الوفاة طلب إبريقا فتوضأ ، وكان ذلك قبيل العشاء ، وأشار إلى من كان عنده
بالخروج ، قال : فخرجنا وبعد ساعة رجعنا فدخلنا عليه فرأيناه قد توفي وهو ساجد ،
أغدق الله عليه سحائب رحمته وصيب رضوانه.
تحقيق في نسب عائلتنا
سمعت من سيدي
العم الشيخ علي أفندي غير مرة أن سيدي الجد كان يحدثهم أن نسبنا يتصل بآل البيت
النبوي ، وكان لنا نسب محفوظ عند بعض أجدادنا ، وكانت دار سكناه في محلة قلعة
الشريف ، فسقط في هذه الدار بيت ذهب ما كان فيه ومن الجملة النسب. وقلت في ترجمة
الشيخ حسن بن علي الطباخ خطيب الخسروية المتوفى سنة ١١٤٠ إنه يغلب على ظني أن
المترجم هو جدي الأعلى وإني ما زلت آخذا في البحث. وقد وجدت بعد ذلك في كتاب وقف
السيد أحمد أفندي طه زاده واقف المدرسة الأحمدية المحرر سنة ١١٦٦ أن من جملة
الشهود في الكتاب السيد أحمد ابن السيد حسن خطيب الخسروية ، فيغلب على ظني ظنا يكاد
يكون يقينا أن السيد محمد المذكور في أول ترجمة سيدي الجد هو ابن السيد أحمد ابن
الشيخ حسن ابن السيد علي ، فيكون جد والدي السيد أحمد قد تسمى باسم جده.
ورأيت نعت
الشيخ حسن المذكور بالسيد في غير موضع ، منها ما رأيته في خطبة الكتاب المسمى «بالطلب
الروي في شرح حزب الإمام النووي» للشيخ مصطفى الصديقي البكري ، فإنه قال في خطبة
هذا الكتاب : (ورد علي الصديق الحسن السيد حسن خطيب الخسروية ذو اللسن فجرى ذكر
الإمام الهمام محي الدين يحيى النووي قدس الله روحه ... إلخ). ثم ذكر في آخره أنه
فرغ منه في شعبان سنة ١١٤٠ ، وتقدم أن وفاة الشيخ حسن كانت في ختام شهر ذي الحجة
من هذه السنة ، فيستفاد من ذلك أنه حين توجهه للحجاز مر بالقدس فاجتمع بالشيخ
مصطفى الصديقي ، ثم ذهب للحجاز وتوفي في هذه السنة.
وهذا الكتاب
رأيت منه في مكاتب حلب عدة نسخ ، وعندي منه نسخة على هامشها
تصحيحات كثيرة تدل على أنها نقلت عن نسخة المؤلف باسم الجد السيد حسن حين
مروره بالقدس وبقيت محفوظة عندنا إلى الآن.
ومنها ما ذكره
الشيخ عبد الكريم الشراباتي في أوائل ثبته حيث قال ما ملخصه : ومن جملة مشايخي
الشيخ زين الدين كاتب الفتوى شددت إليه الرحلة مرة ثانية وكان معي أخي الشيخ عبد
الوهاب الشعيفي ، فأجازنا بجميع مروياته ، وقال : إن ثبتي عند السيد حسن الطباخ.
وقال في أواخر
هذا الثبت : ومن مشايخي أبو السعود أفندي الكواكبي حضرت درسه أول ما دخلت بيته
المعمور في مختصر المعاني حين كان يقرؤه للمرحوم السيد حسن الطباخ. وأنت تعلم أن
النعت بالسيادة لا يعطى في ذلك العصر إلا لمن كان شريف النسب حقا وخصوصا حين النعت
في الكتب والأثبات والإجازات.
هذا مبلغ علمي
الآن ومنتهى معرفتي في نسب أسرتي ، على أن على العاقل أن لا يكتفي بمجرد النسبة
الهاشمية والصلة بالعترة النبوية ويقول حسبي نسبي ، بل عليه أن يكون كما قال ذلك
الشاعر :
لسنا وإن
أحسابنا كرمت
|
|
يوما على
الأنساب نتكل
|
وأن يجعل نصب
عينيه قوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ذلك خير له وأبقى. نسأل الله حسن التوفيق والهداية
لأقوم طريق ، فإنه لا حول ولا قوة إلا به.
١٢٣٨ ـ حسن أفندي العيّاشي المتوفى سنة ١٢٨٤
حسن أفندي ابن
محمد أفندي العيّاشي الإدلبي الذي تقدمت ترجمته.
كان رحمهالله من المشهورين بمكارم الأخلاق وسعة الصدر والصدر الرحيب
والكرم
__________________
الذي ما عليه من مزيد. تولى نقابة الأشراف ببلدته إدلب ، وامتدحه الشعراء
بالقصائد الغراء. وكانت ولادته سنة ١٢٠٢ وتوفي سنة ١٢٨٤ رحمهالله تعالى.
١٢٣٩ ـ مؤيد بك ابن أحمد بك ابن إبراهيم باشا زاده المتوفى سنة ١٢٨٤
مؤيد بك ابن
أحمد بك ابن إبراهيم باشا زاده ، أحد وجهاء الشهباء وأعيانها.
صار قائم مقام
في إدلب وعضوا في مجلس التحقيق ، ثم صار قائم مقام في بلدة بازرجق ، ومرض هناك
فأتى إلى حلب وتوفي بها سنة ١٢٨٤ ، ودفن في تربة الصالحين.
ومن آثاره سبيل
عمره في محلة الفرافرة تحت القلعة وهو ملاصق للدار العظيمة المشهورة بدار أحمد
أفندي كتخدا ، وفي سنة ١٣٤١ رفع الجرن الذي كان هناك واتخذ المكان مركزا لماء عين
التل.
١٢٤٠ ـ الشيخ عمر بن محمد الطرابيشي المتوفى سنة ١٢٨٥
الشيخ عمر بن
محمد بن عمر المخملجي ثم الطرابيشي ، ينتسب إلى محمد قضيب البان الحلبي.
ولد في حلب سنة
١٢٢٠ ، وقرأ القرآن على الشيخ محمد الفاخوري في المدرسة الشرفية ، ثم تلقى مبادىء
العلم على الشيخ محمد السرميني ، قرأ عليه كتابا له في النحو سماه «الحقائق» ثم
شرحه المترجم ، وقرأ على الشيخ محمد الترمانيني ، ثم اتصل بالأستاذ الكبير الشيخ
أحمد الترمانيني فقرأ عليه كتبا كثيرة ذكرها المترجم في ترجمة شيخه المذكور نقلت
إلينا عن مجموعة له ترجم فيها أشياخه قال فيها :
وقد تشرفت
بقراءة جملة من الكتب عليه ، فمنها «شرح الأجرومية» للشيخ خالد ، و «الأزهرية» ، و
«شرح القطر» للمصنف وابن عقيل والأشموني مرتين ، و «مغني اللبيب» مرتين ، و «تفسير
الجلالين» مرتين ، و «التصريح شرح التوضيح» مرتين إلا قليلا من أوله ، و «شرح
إيساغوجي» مرتين ، و «شرح السلم» للأخضري مرتين ، و «شرح السلم» للملوي مرتين ، و
«حكم ابن عطاء الله الإسكندري» ، و «متن
العزي» وشرحه للسعد التفتازاني مرتين ، و «رسالة الشيخ قاسم الخاني في
المنطق» ، و «شرح السلم الكبير» للملوي ، و «شرح المنهاج» للرملي أربع مجلدات
للقاضي زكريا مع حاشية الشبراملسي عليه أربع مجلدات أيضا مع حاشية الرشيدي مجلد
ضخم على حاشية الشبراملسي ، و «اللمعة في الحساب» ، ورسالته في الحساب ، و «شرح
اللمعة في الحساب ، و «متن الخزرجية» ، و «شرح السنوسية» للهدهدي ، والخبيصي في
المنطق ، والبخاري الشريف ، و «الهمزية» ، و «البردة» ، و «الجامع الصغير» مرتين ،
و «المصابيح» ، وغير ذلك من الكتب والرسائل والحمد لله على ذلك. وقد طلبت منه مرة
إجازة فقال : الإجازة على خمسة أقسام : أعلاها أن يقرأ الشيخ قراءة دراية ويسمع
التلميذ ، فإما أقرأتك وأنت سمعتني فمعك أعلى الإجازات. فسلمت له مقالته ولكن أردت
ورقة كما عليه عمل الناس اليوم ، فرأيت في النوم أن رجلا طلب منه فتيا وأنا جالس
عنده في حجرته فقال لي : اكتب له الجواب ، فكتبت له ، فأخذ الرجل الفتيا ثم عاد
وقال : أريد أن تكتب الجواب أنت لا الشيخ عمر ، وكان متكئا فجلس وقال له : كلام
الشيخ عمر هو كلامي فما قاله هو قولي. وكان يقول لي : من أذن له في التعبير فهمت
عبارته. وقد قرأت على مشايخ عظام كتب فقه ونحو وغير ذلك وانتفعت بهم والحمد لله ،
ولكن ما انتفعت على شيخ منهم مثل انتفاعي عليه جزاه الله عن إقليمه خيرا. ا ه.
وأخذ رحمهالله الطريقة القادرية عن الشيخ إبراهيم الهلالي ثم عن ولده
الشيخ محمد ، وكان يلازم زاويتهم يكاد لا يفارقها ، وأخذ الطريقة الرفاعية عن
الشيخ عمر الحريري الحموي ، واختلى معه هو والشيخ أحمد الحجار في جامع بانقوسا سنة
١٢٦٢ ، ولما فضل ونبل صار يقرأ الدروس في جامع العادلية وذلك من سنة ١٢٤٠ إلى سنة
وفاته ، وكذلك كان يقرأ الدروس في المدرسة وفي جامع النور في الجلّوم الجواني وفي
الزاوية الكيالية وفي المدرسة الحلوية وفي المدرسة الأحمدية وفي الجامع الكبير.
ومن تلامذته الشيخ عبد القادر الحبّال وعمي الشيخ عبد السلام الطباخ والشيخ عبد
القادر قلقاس والشيخ محمد العقّاد ابن الشيخ عبد الله العقّاد الشهير ، وكان يقرأ
الدروس عن هذا وكالة في الجامع الكبير. وممن أخذ عنه الشيخ عبد الرؤوف الطيّار
والشيخ علي الكيّال.
وكان مرة يقرأ
الدروس في جامع العادلية فدخل إلى حلقة الدرس إبراهيم بك العادلي وإبراهيم باشا
المصري فلم يعبأ بهما ومضى في درسه كما هو لم يغير وضعيته ، وذلك سنة
١٢٥١ ، ولم يكن دخل عليه قبل ذلك ، فبعد انتهاء الدرس خرج الشيخ إلى بيته ،
فأرسل إليه إبراهيم بك ودعاه إلى طعام العشاء مع إبراهيم باشا ، فسأله إبراهيم بك
: هل الشيخ أحمد الترمانيني أفضل أو الشيخ أحمد الحجار؟ فقال له : الترمانيني على
قدم سيدي الرفاعي والحجار على قدم سيدي أحمد البدوي ، فقل لي أيهما أفضل لأقول لك
أي هذين أفضل من الآخر ، فاستحسن منه هذا الجواب وأمر أن يضاعف راتبه في الدرس.
وكان لا يأكل
اللحم ولا البرغل ولا السمك ولا المحاشي ولا المقالي ، وكان لا يأكل هذه الأشياء
طبيعة لأن نفسه كانت تعافها ، وكان طعامه من الخضر ويأكل السمن والزيت وما طبخ
وقلي بهما. وكان مع عدم أكله اللحم وغيره مما ذكرناه قوي البنية جدا ، وكان أسمر
اللون طويلا يقرب إلى السمن. ومن كلماته : سلاح اللئام قبح الكلام.
وله من
المؤلفات «شرح كنوز الحقائق» في الحديث للمناوي ، و «نفحات الخزام» وهو في أصول
الحديث والفقه وفيه شرح حديث الرحمة. وله «الدرة الفاخرة في حسبة أهل الدنيا
والآخرة» ، و «القول المألوف في تعداد الحروف» ، و «النجوم السائرة إلى منازل
الآخرة» ، و «عمدة المعربين وعكاز المتعلمين» ، و «شرح الحقائق في النحو» وهو كتاب
شيخه السرميني كما قدمنا ، و «الفتح المبين في رسالة التمرين» للشيخ أحمد الحجار
وهو موجود في مكتبة محمود أفندي الجزار ، و «شرح اللؤلوية في الطريقة المولوية» ،
وله شرحان على أوراد الشاذلية وغير ذلك من المجاميع .
وكان رحمهالله صالحا زاهدا قانعا باليسير ، مكبا على الإفادة ونشر
العلم ، لا يعتري همته شيء من الفتور. ولم يزل على هذه الحال إلى أن انتقل إلى
رحمة الله تعالى تاسع ذي الحجة سنة ١٢٨٥ ودفن في أوائل تربة الكليماتي خارج باب
قنسرين.
١٢٤١ ـ الشيخ عقيل الزويتيني المتوفى سنة ١٢٨٧
الشيخ عقيل ابن
الشيخ مصطفى الزويتيني.
__________________
كان رحمهالله عالما جليلا وفاضلا نبيلا ، تلقى العلم عن والده وعن
غيره ، وتلقى العلم عنه كثيرون ، منهم ولده العلامة الشيخ أحمد الزويتيني مفتي
حلب. وكان رحمهالله يفتي على المذاهب الأربعة ويدرس في مسجد الشيخ موسى
الريحاوي. وصار كاتبا لوقف بيت الحاج موسى ولوقف جامع السفاحية ، وصار رئيسا
للكتاب في المحكمة الشرعية مدة ، ثم ترك ذلك ولزم بيته سنين عديدة إلى أن توفي
أواخر ذي الحجة سنة ١٢٨٧ ودفن في تربة السفيرة. وأرخ وفاته الشاعر الشهير الشيخ
محمد الوراق بقوله :
إن هذا الرمس
فيه سيد
|
|
عم نفعا إن
دهى خطب جليل
|
فهو حبر بل
وبحر قد طما
|
|
ليس في
الدنيا له يلفى مثيل
|
شيخ أهل
العصر علما وتقى
|
|
قد حباه الله
بالفضل الجزيل
|
قلت لما أن
قضى أرخ وها
|
|
في جنان
الخلد قد أمسى عقيل
|
١٢ ـ ١٩٤ ـ ٦٦٥ ـ ٢٠٦ ـ ٢١٠
ورأيت بخطه في
المكتبة المولوية بحلب ضمن مجموع كتب على ظاهره تحفة البلغاء كتاب «راحة الأرواح
في الحشيش والخمر والراح» وهو في ١٣٥ صحيفة.
١٢٤٢ ـ أحمد أفندي باقي زاده المتوفى سنة ١٢٨٨
أحمد أفندي ابن
عبد القادر آغا ابن عبد الباقي بن علي بن ناصر بن عبد الباقي بن عبد القادر
المعروف بباقي زاده ، أحد وجهاء الشهباء وسراتها الذين نالوا شهرة واسعة وصيتا
بعيدا.
وكان سلاطين آل
عثمان يثقون به ويعتمدون في مهام أمورهم عليه ويخاطبونه بعبارات التبجيل والاحترام
، وجاء في بعض فرامينهم له ما مآله : قدوة الأماجد وعمدة الأكابر والأكارم هو أنت
باقي زاده السيد أحمد مختار أفندي الحائز على ثقتنا واعتمادنا الشاهاني ، والنائل
لأحاسن تعطفنا الملوكاني وبعد : فلتحط علما أنه نظرا لا تساع سواحلنا الهمايونية
المتنائية الأطراف غدا بعض أعدائنا المخذولين يرمقها بعين الغدر ، وتطمح نفسه إلى
التغلب عليها ، ونخشى أن يهاجمنا العدو على حين غفلة ، فيقتضي أن لا نكون غافلين ،
وعليه وجب التيقظ والانتباه وتدبير الأمر من الآن بإنشاء بعض القلاع والحصون
والاستحكامات
في الأماكن المناسبة. ولما نعهده فيك من الصداقة واللياقة ، ولأنك من خواص
أحبابنا الغيورين ، فقد عهدنا إليك بالقيام بهذه الخدمة ذات الأهمية العظيمة بجهة
السويدية وكسب والبسيط وحواليهما ، فحين وصول توقيعنا هذا العالي توجه بنفسك إلى
هذه الأمكنة وبادر بإنشاء ما مر ذكره من القلاع والحصون في الأماكن التي تناسب على
مقتضى الخرائط التي تنظم من قبل المهندس الإفرنسي فلان الذي أرسل لهذه الغاية ،
فعليك بالعجلة دون إضاعة وقت ، وبتسوية المصاريف من قبلك الآن وسيجري تعويضها لك
من خزينتنا الخاصة الشاهانية عند انتهاء العمل.
وعلى أثر وصول
المهندس المتقدم استصحب كل ما يلزم من الآلات والمعمارين والنجارين وتوجهوا جميعا
للأماكن المتقدمة وشرعوا في العمل في أماكن متعددة مرجحين الأهم على المهم. وفي
هذا الأثناء مرض المهندس مرضا لم ينجع فيه دواء وتوفي على أثر ذلك ، فتعطلت
الأعمال وعاد المترجم إلى حلب وعرض أعماله لدار الخلافة منتظرا صدور الإرادة
السنية في المثابرة على العمل إلى أن ينتهي ، فلم يتلق جوابا ما ذلك الوقت لاشتغال
السلطنة العثمانية بمسائل هامة أوجبت التقاعد عن إتمام هذه الأعمال التي لا تزال
آثارها باقية إلى الآن في تلك الأماكن.
ومن آثار
المترجم وقف وقفه على ذريته وأشفعه بوقف آخر عليها ، وهو حاو على أنواع من الخيرات
والمبرات ، فهو واقف الوقف الثاني والثالث على ذريته.
وما زال على
حرمته وحشمته إلى أن توفي في جمادى الثانية سنة ١٢٨٨ ونقش على لوح قبره ثلاثة
أبيات جاء في الشطرة الأخيرة منها :
في جنة الفردوس
يرقد أحمد. وهي تاريخ وفاته كما تقدم.
ورأيت في أوراق
بخط الشيخ محمد المرتيني الإدلبي ما نصه : ومن التواريخ المحكمة ما رأيته منقوشا
على المنهل المسمى بالفندق وكان جدده الحاج عمر أفندي باقي زاده من أعيان مدينة
حلب سنة ١٢٤٠ بعد تخريبه بحادثة الزلزلة التي حصلت سنة ١٢٣٧ وهو :
قديما كان ذا
الأثر
|
|
فأوهى ركنه
القدر
|
فأحيا رسمه
أرخ
|
|
بباقي خيره
عمر
|
١١٥ ـ ٨١٥ ـ ٣١٠ ـ ا ه
أقول : موقع
الفندق في صحراء غربي حلب من قبليها يبعد عنها تسع ساعات بالسير المعتاد ، ويبعد
عن إدلب أربع ساعات وهو في شماليها ، وعن ريحا خمس ساعات ، وعن أرمناز ست ساعات ،
وهو عبارة عن موقف على قارعة الطريق للقوافل التي تغدو وتروح بين هذه البلاد ، ولا
ماء هناك سوى هذا المنهل ، فهو مبني في موضع يحتاج الناس فيه إلى الماء أشد
الاحتياج ، فجزاه الله خيرا.
وعمر أفندي هو
أخو عبد القادر آغا والد المترجم كما هو مثبت في شجرة نسب هذه العائلة ، ولم أقف
على تاريخ وفاته ، وهو أخو شوكت باشا الذي صار شيخا للحرم النبوي ، وقد خلف عدة
أولاد نزحوا عن حلب إلى الآستانة وغيرها وتولوا المناصب العالية في الدولة العثمانية
في عدة بلاد ، منهم ولده الحاج رشيد باشا رئيس شورى الدولة العسكرية وخطيب جامع (نور
عثمانية) المشهور في الآستانة ، وهو جد الفريق علي رضا باشا والميرلوا وصفي باشا
والمشير إسماعيل حقي باشا الذي كان مشير الجيش الخامس (في الشام) حوالي سنة (١٣٢٢)
رومية ، وتوفي في ربيع الأول سنة ١٣٢٨ في الآستانة ، ولم أقف على شيء من تراجم
هؤلاء لانقطاع أخبارهم عن أهليهم وذويهم.
١٢٤٣ ـ الحاج صالح آغا الملّاح المتوفى سنة ١٢٨٨
الحاج صالح آغا
ابن السيد قاسم مرعي الشهير بالملّاح ، السريّ الوجيه ، ممن كان له من اسمه أوفى
نصيب.
ولد رحمهالله سنة ١٢٢٤ ، وهو أحد أفراد عائلة الملّاح التي اكتسبت
هذه الشهرة بسبب بقائها أعواما كثيرة محافظة على مملحة الجبّول ، وهي من ممتازي
عشيرة أبي خميس المنسوبة إلى عشيرة الدليم الشهيرة في العراق ، وكان أحد أجداد هذه
العائلة من عشيرة النعيم التي تمت بنسبها إلى سيد نازين العابدين.
كان الحاج صالح
ذا ثروة طائلة ورثها من والده ووسعها بالتجارة ، عرف بالتقوى والصلاح وعمل البر
والتصدق في السر والعلن ، وكانت صدقاته الخفية أكثر من صدقاته الجهرية ، فهو ممن
صدق عليه حديث (نعم المال الصالح للرجل الصالح).
تولى جامع بانقوسا
بأمر من الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني بعد وفاة متوليه ،
ففرش صحنه بالبلاط الأصفر وكلّس قبليته ورواقه الشرقي ، وجدد أعلى منارته
والمراحيض التابعة له ، ورمم عقاراته ، وأكثر هذه النفقات من ماله ومما تبرع به
أهل الخير ، وقد كانوا لا يتأخرون عن مساعدته في هذا السبيل ثقة منهم به وأن ما
يأخذه سيصرف في محله البتة.
وكان قائما
بشؤون جامع البكرجي أيضا ، وكان غيره متوليا عليه اسما وفي الحقيقة هو الذي يباشر
أموره ، ففرش أيضا صحنه بالبلاط ورممه وعمر عقاراته من ريع أوقافه التي عمرت كما
ينبغي.
ومن أعمال
المترجم الخيرية أنه بلط جادة جب القبة إلى قرب جامع بانقوسا ، وفرش الجادة من
مسجد هارون دده حتى جوار داره ، وفرش الطريق الممتد من المحل المعروف بورشة الفعول
حتى سبيل محلة الأبراج ، وكل ذلك من ماله الخاص.
ولما حصل
الغلاء سنة ١٢٨٧ تصدق بمبالغ طائلة وسد ثلمة كبيرة في سبيل تلك المجاعة.
وله نكتة لطيفة
تنم عن ذكاء وحب مفرط لعمل الخير ، وهي أنه جاء ذات يوم إلى المحل المعروف بورشة
الفعول حيث يجتمع الفعلة ، وسأل المجتمعين من كان منهم يشتغل مياومة بغرش ونصف (ثمن
مائة درهم من الخبز إذ ذاك) فليتبعه ، فتبعه من كان اشتدت به الفاقة ، فمشى بهم
إلى زقاق هادىء له منفذ ونقد كل واحد ريالا مجيديا وصرفهم وطلب إليه أن يذهب حيث
شاء مشترطا عليه أن لا يعود من الطريق التي أتى منها.
وكانت له وجاهة
عند الولاة وقواد الجند وغيرهم من كبار الموظفين ، وكان متهالكا فيما يتعلق بالنفع
مثل ترميم القناة ومكافحة الغلاء وتعمير الطرق ومناصرة الضعيف والمظلوم وغير ذلك
من الأعمال التي غرست في قلوب مواطنيه حبه واحترامه ، وكان مع ذلك لا يحب الظهور
والوظائف الرسمية ، وقد رفض مرارا عديدة تكليف كامل باشا الصدر الأعظم لما كان
متصرفا على مركز حلب في سنة ١٢٨٧ منصب رئاسة البلدية ، وقال له : إما أن تعفيني أو
تنفيني أو تعطيني مهلة أربعين يوما لأهاجر من حلب.
وأوصى قبيل
وفاته بأن يكتب على قبره نص خاتمه الذي هو (ربي اجعل عملي صالح) وهذا يدل على
تواضعه.
وبعد وفاته كان
الشيخ أحمد الترمانيني يثني عليه أثناء درسه العام الثناء الحسن ، وحسبه ذلك. وقد
مر على وفاته خمسون سنة ولا زال الأهلون وخصوصا أهل محلات بانقوسا يثنون عليه أطيب
الثناء ويذكرون أعماله الخيرية ومبراته.
ولم يزل على
وجاهته وكريم أفعاله وأخلاقه إلى أن توفي سنة ١٢٨٨ ودفن في تربة قاضي عسكر عند
أهله رحمهالله تعالى.
١٢٤٤ ـ الشيخ علي ابن الشيخ خير الله الرفاعي المتوفى سنة ١٢٨٩
الشيخ علي ابن
الشيخ خير الله ابن السيد محمد ابن السيد خير الله ابن السيد أبي بكر الرفاعي.
اشتهر بيتهم ببيت خير الله هذا.
ترجمه الشيخ
أبو الهدى في «تنوير الأبصار» فقال : ولد في حلب ، ونشأ بحجر أبيه رضيع ثدي
الولاية ، ربيب مهد السيادة والعناية ، ولا زالت تحفه الوقاية الربانية ، وتشمله
الأنظار المحمدية ، حتى كبر وأحرز مشيخة المشايخ بعد أخيه السيد محمد ، وظهر
واشتهر وعلا شانه وقدمه أقرانه ، وطاب قلبه وعذب لسانه ، وحسنت إشاراته ، وتواترت
بالديار الحلبية كراماته. كان جماليّ المشرب جلاليّ الجناب رفيع المكانة رقيق
الطبع سليم القلب مبارك الحال جليل المقام ، له أحوال قدسية ، ومحاضرات أنسية ،
وكلمات شريفة ، ونكات لطيفة ، وسريرة عامرة وسيرة زكية طاهرة ، يسر الله توبة كثير
من العصاة على يديه ، وقاد قلوب العامة والخاصة إليه ، وروى له الجم الغفير
الكرامات الكثيرة (وهنا ساق بعضا منها ثم قال) : لبس الخرقة من أبيه العارف بالله
السيد خير الله الثاني ، وسند خرقتهم معروف. وتوفي بحلب سنة تسع وثمانين ومائتين
وألف ودفن بزاويته المباركة التي أنشأها بمحلة بانقوسا. وقد أرخه الكثير من
الفضلاء منهم الحاج مصطفى الأنطاكي الحلبي ، وبيت التاريخ قوله :
ولدى زيارتنا
له أرّخ ترى
|
|
نور الرفاعي
من مقام عليّ
|
ا ه
وذكره الشيخ
أبو الهدى أيضا في كتابه «قلادة الجواهر» قال :
ولما بلغني خبر
وفاته طرقني طارق الفراق بالكدر الوفي ، ولكمني عارض البعد بالمرض الخفي ، وقلت
شعرا :
إذا ذكرت
نفسي زمانا تصرمت
|
|
لياليه
بالشهبا وشملا تجمعا
|
هتفت بهاتيك
الصحاب كأنني
|
|
وليد تمنى في
العشية مرضعا
|
قال : وحصرت
فكري قاصدا أن أندرج بسلك مادحيه ، وأن أؤرخه على قدر الحال ، فمنعني الهم والحزن
والغم ، فطلبت من بعض الأحباب (هو الحاج مصطفى الأنطاكي المتقدم ذكره هنا) تاريخا
لحضرته الكريمة ، فأجاب لطفا قائلا :
زر من بني
الصيّاد خير وليّ
|
|
من آل أشرف
مرسل ونبيّ
|
وأرق دموعا
أو نجيعا أو دما
|
|
أسفا على ذاك
الفتى العلويّ
|
قد كان في
الشهباء ركن حقيقة
|
|
بطريقة
الصياد والمكيّ
|
حجبته أطباق
الثرى عن أعين
|
|
تبكيه من حزن
بكل عشيّ
|
خلت الزوايا
من خباياها وقد
|
|
ملئت برزء
فراق خير تقيّ
|
فسحائب
الرضوان تسقي لحده
|
|
في كل هطّال
وكل رويّ
|
ولدى زيارتنا
له أرّخ نرى
|
|
نور الرفاعي
من مقام عليّ
|
وذكر الشيخ أبو
الهدى في تنوير الأبصار أن السيد أبا بكر المذكور في أول الترجمة كان نزل قرية
متكين من عمل المعرة ، ثم لما نزل السيد حسين برهان الدين الخزامي الصيادي قبيلة
بني خالد واشتهر أمره انتسب إليه السيد أبو بكر وزوجه ابنته ، وكان يرسله إلى
مريديه الذين في الأقطار السائرة ، وكان كثيرا ما يتردد لأطراف حلب ويمكث أحيانا
في قرية بلليرمون من أعمال حلب ، ففي سنة وفاة شيخه وعمه ألح على الشيخ أبي بكر
مريدوه فنقلوه من القبيلة الخالدية إلى قريتهم وبنوا له بيتا وزاوية ، وأقام فيهم
يرشدهم إلى سنة ستين ومائة وألف ، ففيها سافر إلى ديار الشام فتوفي في جبل يبروت ،
فبنوا عليه قبة عظيمة.
ومات عن ولدين
هما السيد خير الله والسيد سيف الدين ، أما الثاني فلم نعلم أن له عقبا ، وأما
السيد خير الله فإنه اشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار ، وخلف الكثير من المشايخ
(ذكر منهم جملة) ، وأقام في الزاوية التي بناها والده في قرية بلليرمون ، فلما
اشتهر أمره في حلب أجمع رأي أخوانه وأتباعه على نقله بعياله إلى حلب ، فوافقهم
السيد خير
الله وانتقل بأهله إليها (وهنا ساق الشيخ أبو الهدى حكاية العلمين بين
المترجم وبين بعض مشايخ السعدية في حلب وهي حكاية لا صحة لها ولا ريب أنها من
الخرافيات التي يتناقلها الجهلة ويتحدثون بها في مجالسهم ، ثم قال) : وكانت وفاته
سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف ، ودفن عند أبيه بالمدفن المبارك المعروف بمدفن
الشيخ العرابي .
وأعقب السيد
محمدا وقد خلفه في مشيخة الشيوخ ، ولما مات دفن في مدفن العرابي أيضا ، وأعقب
السيد خير الله الثاني فخلفه في المشيخة إلى أن مات وخلف ولدين : السيد علي والسيد
محمد ، فالسيد محمد لا عقب له من الذكور ، والسيد علي هو المترجم. ا ه.
(تنبيه) الشيخ
محمد أبو الهدى الصيادي مع اعترافنا بفضله ووفور ذكائه ليس بثقة ، فلا يعتمد على
التراجم والأنساب التي ذكرها في مؤلفاته إذا انفرد فيها ، فإن فيها أكاذيب كثيرة
وأمورا واهية ، ولعمري إنه لو كان في زمن تدوين الحديث النبوي لعد في مقدمة
الوضاعين.
منها قوله هنا
إن السيد أبا بكر جد المترجم نزل قرية متكين ، فهذا لا أصل له ، فإن أصل هذه
العائلة من كفر طاب ، ثم انتقلوا منها إلى جهة العمق لقحط أصابهم ، ثم انتقلوا
منها إلى قرية بلليرمون من أعمال حلب ، وبها ولد المترجم.
ومنها قوله إن
السيد أبا بكر لما نزل السيد حسين الخزامي الصيادي انتسب إليه وزوجه ابنته ، فهذا
لا أصل له أيضا ، وقصد الشيخ أبو الهدى بذلك أن يجعل بين أجداده وبين هذه العائلة
نسبة ولا أثر لذلك.
ومنها قوله في
حق المترجم : (إنه ممن اشتهر أمره وعلا شأنه وتواترت بالديار الحلبية كراماته وإن
كان له أحوال قدسية وكلمات شريفة ، وإنه انقادت له قلوب العامة والخاصة وروى له
الجم الغفير الكرامات الكثيرة) فكل ذلك محض افتراء لا أصل له كما تحققته من
العارفين الثقات من أهل تلك المحلات. نعم كان رجلا صالحا نبيها شهما ذا مروءة
وفتوة ،
__________________
له ميل عظيم إلى قضاء حوائج الناس ونفع الكثير منهم بواسطة ذلك ، ودودا
متواضعا بعيدا عن حب الشهرة والظهور في أمر مشيخة الطريق. وكان ينهى بني طريقته عن
ضرب السلاح وغير ذلك أشد النهي وينكره عليهم أعظم إنكار. وكان ورده سورة الإخلاص
فكان كثير التلاوة لها متى أمكنته الفرصة ، هذا غاية ما كان عليه المترجم ، ولم
ينسب له أحد من الناس كرامة ولا حالا ولا علما. ومن أكاذيبه ما قاله في كتابه «قلادة
الجواهر» في ترجمة أبيه الشيخ حسن وادي من أنه تلقى الطريقة الرفاعية على الشيخ
رجب الصيادي دفين كفر سجنا ، وأقامه عنه خليفة فجلس على السجادة الرفاعية بزاويته
في قصبة خان شيخون الملحقة بمعرة النعمان ، واشتهر أمره وسار في البلاد ذكره ،
وانتسب له خلق كثير من القبائل والقرى والمدن ، وانتفع به جماعة كثيرة ، وله مناقب
مأثورة وعنايات مشهورة. ثم ساق له عدة كرامات ووصفه بالسيد الجليل الفاضل الأصيل [ثم
قال] : وأما سخاؤه وكرم طبعه ففي نواحيهم أشهر من أن يذكر ، وأما علو مظهره وتأييد
ظهوره فهي أشهر من نار على علم. [ثم قال] : وانتسب إليه خلق لا يحصى عددهم ، وزادت
خلفاؤه عن المائة خليفة. سكن حلب الشهباء من سنين يسيرة وعمر الزاوية الرفاعية
فيها ، وعلت شهرته في حلب الشهباء ونواحيها ، وحسن فيه اعتقاد الناس. ثم ساق بعد
ذلك نسبه إلى الإمام الحسين رضياللهعنه. وترجمه بنحو ذلك في كتابه «تنوير الأبصار» ، وربما
يكون ترجمه في غير كتاب من كتبه.
وجميع ما وصفه
به ولده من العلم والفضل وما نسبه إليه من الكرامات وخوارق العادات وسخاء الطبع لا
أصل له ، وهو محض افتراء ، فوالده لم يكن سوى رجل من البسطاء المغفلين أثر عنه في
تغفله عدة حكايات وليس فيه مزية علم ولا سمة فضل ، وحقيقة أمره أنه لما نشأ ولده
أبو الهدى أفندي وعلا أمره وذاع في الناس صيته استحضره إلى الآستانة وألبسه
العمامة الخضراء التي هي شعار السادة الرفاعية وصار يعظم شأنه لدى سكان الآستانة
وينسب له ما شاء من الفضل والكرامات والأحوال ليصطاد بذلك حطام الدنيا ، وهو ممن
برع في ذلك جدا ، وأنشأ له زاوية في حلب في محلة باب الأحمر سنة ثمان وتسعين
ومائتين وألف. ثم إن ولده أرسله إلى حلب قبيل سنة ١٣١١ فقطن في دار ملاصقة للزاوية
إلى أن توفي سنة ١٣١٢ ، فدفن في قبلية الزاوية على الطرف اليمين ، وعمر له ضريح
فخيم يخاله الناظر إليه أنه أحد أكابر الأولياء أو من أعاظم العلماء. ومدح وقتئذ
من بعض المنافقين
بعدة قصائد تقربا لقلب ولده ووصفوه بأنه ممن نال درجة القطبية والغوثية ،
وحقيقة ترجمته ما قدمناه.
وزاد الشيخ أبو
الهدى في الطنبور نغمة أنه طبع عدة كتب نسبها لبعض المتقدمين ولشيخه الشيخ مهدي
الرواس الذي لا وجود له إلا في مخيلته ، ولذا لم ننقل عن كتبه في تاريخنا سوى ما
نقلناه هنا مع التنبيه على ما فيه ، وسوى مكانين آخرين أو ثلاثة نقلنا عنه سطورا
قلائل علمنا صحتها بمشافهة بعض من نثق به.
ولا ريب أن
إقدامه على هذه المفتريات ووضعه لهذه الأكاذيب جرأة عظيمة ، وإنا وايم الله لنأسف
على ذكائه المفرط وسعة مداركه وفضله الجم وما أوتيه من واسع الجاه ورفيع المكانة
لدى السلطان عبد الحميد أن يصرف ذلك في ترويج بضاعته ونفاق سلعته بحيث قضت أحواله
وأطواره أن يسيء الناس الاعتقاد بمن تقدم ويقيسوا الحاضر على الغائب ، ولو كان صرف
عنايته إلى إصلاح الأمة الإسلامية ولم شعثها ، والحق يقال إنه ممن توفرت لديه
الأسباب ، وتمهدت له السبل ، ومدت له السعادة يدها ، وانقادت له أزمتها ، لأتى في
ذلك بالآيات البينات ، ولحمدت سيرته في دنياه ، وجوزي بالحسنى في أخراه ، وخلد له
في بطون الأسفار ذكرى حسنة تتناقلها الأجيال ، ولا يمحوها مرور الأيام والليال.
١٢٤٥ ـ الشيخ محمد بهاء الدين الرفاعي المتوفى سنة ١٢٩٠
الشيخ محمد
بهاء الدين ابن الشيخ محمد أبي الوفا الرفاعي الحلبي.
ولد كأسلافه
بحلب ، ونشأ بها ، وتلقى العلوم الشرعية والفنون عن أبيه وعن جماعة من خواص أفاضل
البلدة. وكان محبا للناس حسن الأخلاق جميل الصورة بشوشا عذب اللسان نبيها شاعرا
حسن الخط مهابا في الأعين محترما.
أخذ الطريقة
الرفاعية عن أبيه وسار بالناس سيرة حسنة ، فاجتمعت عليه القلوب ، ولا زال يعظم
شأنه حتى صار بعد سنة السبعين مفتي البلدة ، وأقبلت عليه الدنيا وانتهت
إليه الرياسة بحلب ، ورأى من العز ورفعة القدر والحرمة وإقبال الحكام
والناس عليه ما لم يره أحد.
ومن شعره :
كيف أخشى من
سطوة التنكيل
|
|
وإلهي على
الأعادي وكيلي
|
واعتصامي
بحبله والتجائي
|
|
لحماه من كل
سوء كفيلي
|
واردات
الإحسان منه لنحوي
|
|
قبل جاءت ولم
تزل تأتي لي
|
ا ه ملخصا من
كتاب «تنوير الأبصار» للشيخ أبي الهدى الصيادي.
أقول : أدركت
الكثير ممن عرفوا المترجم وعاشروه ، فإذا هم قد أجمعوا على أنه كان سمح اليد كثير
البر مبذول الجاه لمن عرفه ومن لم يعرفه ، محسنا لمن أساء إليه ، ولا زال يصله
ببره إلى أن يملك قلبه فينطلق لسانه بالثناء ، وأنه لم يكن عنده من العلم ما يؤهله
للإفتاء ، لكنه رفع هذا المنصب الجليل إلى المكانة التي تستحقها بما كان عليه من
وقار وحشمة وتصدر ووقوف أمام الحكام في مهام المسائل التي تتعلق بالرعية ، فلا
يألو جهدا في نصرة الضعيف وإبلاغ شكواه إلى آذان أولي الأمر. وبالجملة فقد كان من
دهاة الرجال. وحسنة من حسنات الشهباء.
وما زال رفيع
القدر عالي المنزلة واسع الجاه إلى أن توفاه الله سنة ١٢٩٠ ، ودفن في تربة
الصالحين شرقي مقام الخليل بجانب أبيه رحمهالله تعالى.
وله شعر قليل
ونثر لطيف وقدود كانت تلحن وتلقى أثناء الذكر الذي كان يقيمه كل ليلة جمعة في
زاويتهم الإخلاصية في محلة البياضة. فمن نظمه تخميس وجدته في مجموعة منشد حلقة
ذكره الموسيقي الشهير أحمد عقيل وهو :
لله من لحظه
جان بلا قود
|
|
يزري الغزال
بلين القد والغيد
|
أفديه من رشأ
بالحسن منفرد
|
|
رنا إليّ فرن
السهم في كبدي
|
وهادمي
قد جرى بالصدق يشهد لي
|
لا تأخذوه
بما ألحاظه فعلت
|
|
فكم شفاعة
حسن فيه قد قتلت
|
يكفي جزاء له
أن الدما هطلت
|
|
فطار مني
إليه قطرة وصلت
|
لعينه فهي الحمراء لم تزل
وله أيضا مخمسا
كما في هذه المجموعة :
لله قوم
مكرمون بفضله
|
|
شربوا المصفى
من موارد نهله
|
فتراهمو
متوالهين لوصله
|
|
قوم إذا عبث
الزمان بأهله
|
كان
المفرّ من الزمان إليهم
|
فهم الأولى
سادوا بأعظم منّة
|
|
ومحبهم لا
يختشي لمهمة
|
ولكم لديهم
من فضائل جمة
|
|
وإذا أتيتهم
لدفع ملمة
|
جادوا
عليك بما يكون لديهم
|
وله في مطلع
قدّ نغمه راست صوفيان ، وهو لا زال مما يتغنى به في الأفراح وحلقات الأذكار :
وجه محبوبي
تجلّى
|
|
بالبها
والحسن يجلى
|
وبقربي جاد
فضلا
|
|
فاشد يا حادي
ورنّم
|
وبه
مضناه هيّم
|
دور :
واجل لي كأس
الصبوح
|
|
في غبوق
وصبوح
|
مع ذي الوجه
الصبوح
|
|
أفتديه إذ
يزمزم
|
ولما توفي رثاه
الشاعر الأديب الحاج يوسف الداده بقوله :
دمع العيون
عليك غير ضنين
|
|
لكن صبري عنك
غير معيني
|
يا راحلا جعل
القلوب منازلا
|
|
بعد الرشا
والفرع والشرطيني
|
(هكذا)
أبكيت عين
الأنس إذ فارقتها
|
|
فتبسمت للقاك
عين العين
|
قالوا وقد
ساروا بنعشك من به
|
|
وبهيّ نورك
فيه غبر مكين
|
هذا بهاء
الدين فيه أجبتهم
|
|
مهلا فقد
سرتم بعز الدين
|
مات الحجا
والمجد يوم مماته
|
|
من بعد موت
العز والتمكين
|
هذا الوفائي
ابن الوفا وأبو الوفا
|
|
هذا محط
الجود والتأمين
|
هذا بقية آل
بيت المصطفى
|
|
يسري به
التابوت بعد الحين
|
هذا مخيّب كل
باغ باسل
|
|
هذا مشجّع
مهجة المسكين
|
هذا مفيض
الجود إن بخل الحيا
|
|
هذا مكيد
الفاجر المغبون
|
هذا منار
الشرع والطرق التي
|
|
جليت بها
بمطارف التحسين
|
هذا المؤكد
عندنا بوجوده
|
|
زهد الرشيد
وعفة المأمون
|
ساروا به
للصالحين فبادروا
|
|
للقائه
بالذكر والتأذين
|
وعيون أهل
الفضل عند فراقه
|
|
تحكي بأدمعها
سحاب الجون
|
شقوا به سوق
الزحام كأنه
|
|
بدر يسير
بأحسن التكوين
|
وارحمة
لحرائر قد صانها
|
|
في حجره
بالأمن والتحصين
|
تبكي عليه
والصخور تجاوبت
|
|
من حولها
بتأوه وأنين
|
ومن الحجارة ما بكى لفراق من
|
|
أبكى من
الشهباء أهل الصين
|
هلا شجى منه
الحمام وإنه
|
|
لهو الحميم
لأهل هذا الحين
|
خانت لسيدها
الليالي فانثنت
|
|
سودا وهذا
دأب كل خؤون
|
حانت منيته
فلو قبل الفدا
|
|
جئنا لفديته
بلا تعيين
|
لمن المحاريب
الشريفة بعده
|
|
بقيت تئن
بلوعة وشجون
|
لمن المنابر
كالعرائس تنجلي
|
|
بالوشي بعد
خطيبها الميمون
|
آلت لنا
الأقلام بعد يمينه
|
|
أن لا تجر
مدادها بيمين
|
وعلى حمى
الآداب والإنشا إذا
|
|
أزكى سلام
مودع ميمون
|
لا يشمت
الحساد فيه فإنهم
|
|
من بعده
ذاقوا عذاب الهون
|
وليصبر
الأحباب عنه إنه
|
|
لم يلف أول
نازح وظعين
|
فلكم دعت تلك
المنية سيدا
|
|
فأجابها
بالطوع والتأمين
|
أخنت بنوح
وابنه سام ولم
|
|
ترع الخليل
لخلة وشؤون
|
ورمت بذي
القرنين أسهمها فلم
|
|
ينفعه ملك
الأرض والترصين
|
وبنو جذيمة
بعدما جزموا بأن
|
|
لا يشربوا في
الدهر كأس منون
|
تركوا
الخورنق والسدير وغادروا
|
|
ملك الكبير
سدى بغير أمين
|
والبهرميون
الذين تبؤوا
|
|
سبأ بظل
جنائن وعيون
|
يبكيهم
الإيوان وهو مشيّد
|
|
واه لبيتهم
بغير قطين
|
وبنو ربيعة
بعد عز شامخ
|
|
ومكارم
وعزائم وظعون
|
أودى مهلهلهم
وحل بعمرهم
|
|
داعي المنية
طالبا بديون
|
وأناخ عبسا
بعد بدر صارخ
|
|
حج الحجاز
وطاف حول حجون
|
ونزار أنذرهم
وحل بربعهم
|
|
فأباح وجه
الأرض كل جبين
|
فإذا المنية
ألحقت بمحمد
|
|
من ذا لطول
بقائه بضمين
|
فلنا بأحمد
أسوة محبوبة
|
|
ولنا العزاء
بفضله المسنون
|
لا زال صوب
العفو يسقي تربة
|
|
قد حل أشرفها
بهاء الدين
|
وأباحه النظر
الكريم لوجهه
|
|
رب العباد
بحلة التزيين
|
وهناك تغبطه الجنان
وأهلها
|
|
ونود رؤية
وجهه بعيون
|
في المشهد
الأعلى يظل مراقبا
|
|
وجه الكريم
إذا ليوم الدين
|
١٢٤٦ ـ الشيخ إسماعيل اللبابيدي
المتوفى سنة ١٢٩٠
الشيخ إسماعيل
ابن الحاج صالح المشهور باللبابيدي.
ولد تقريبا سنة
١٢٤٠ ، ولما ترعرع حبب إليه طلب العلم ، فقرأ على فضلاء عصره في مقدمات العلوم ،
وجاور في المدرسة الشعبانية ، ثم انتقل منها إلى المدرسة العثمانية ، وأكثر من
الحضور على الشيخ أحمد الترمانيني ولازمه سنين عديدة ، فتخلق بأخلاقه من الورع
والتقوى وملازمة العزلة والانقطاع إلى التعبد مع الزهد في الدنيا بحيث أعرض عما
كان له من الثروة من غنم كثير كان له وزراعة ورث ذلك من أبيه فلم يلتفت إليه ، بل
سلم الجميع لأخيه وقنع منه باليسير ، وأخذ في مجاهدة النفس وقمعها بتقليل الطعام
والإعراض عن ملاذه. وقد حدثني غير واحد عدة حكايات في مجاهدته لنفسه ومخالفته لها.
منها أن نفسه اشتهت باذنجانا محشيا ، ولما أحضر إليه رفعه فوق الرف أياما إلى أن
اشتغل فيه الدود ، ثم أنزله ووضعه أمامه وصار يخاطب نفسه : كلي أيتها الخبيثة ،
أما اشتهيت على الباذنجان المحشي. وكان يلبس خشن الثياب ويتزر بالبلاس الذي يغلف
به التنباك ، وكان لا يرى إلا ساكتا أو ذاكرا أو مذاكرا في علم ، لا تعرف الغيبة
أو النميمة في مجلسه. وبالجملة فقد كانت حالته تمثل السلف الصالح ، يتوسم فيه ذلك
كل من رآه ، لا تكلف في ذلك
ولا تصنع ، بل كان بعيدا عن ذلك كل البعد.
ولم يزل على
هذه الحالة إلى أن توفي سنة ١٢٩٠ ودفن في تربة لالا المعروفة بتربة البلاط
الفوقاني ، وإلى الآن يثني عارفوه عليه ويلهجون بحسن سيرته وما كان عليه من التقشف
والعبادة والعلم ، رحمهالله تعالى.
وله شعر قليل
في المواعظ وعلى لسان القوم لكنه ليس بشيء ولم أجد منه ما يصلح للتدوين.
وله شرح على
الأجرومية في النحو غريب في بابه ، فإنه يأتي بأمثلة فيها مواعظ وحكم نحو قوله بعد
عن من حروف الجر : مثالها : (بعد انتهاء آجالنا نسأل عن أعمالنا) ، وبعد على : (إذا
انقضت الآجال نقدم على ما قدمنا من الأعمال) ، وبعد في : (حضور القلب في العبادة
من علامات السعادة). ثم يأخذ في الكلام في هذه الأبحاث ، والشرح جميعه على هذا
النسق ، وعندي منه نسخة بقلم الشيخ وفا الطيبي منقولة عن نسخة استنسخت عن خط
المؤلف وهي في ٢٣٤ صحيفة.
وأخو المترجم
اسمه الحاج محمود ، وقد كان رجلا صالحا متمولا طلق اليد كثير البر والإحسان لذوي
رحمه وللفقراء والمساكين ، وكان خير مساعد لأخيه ، فإن الشيخ إسماعيل لما انقطع عن
الدنيا وزهد فيها وأقبل على العبادة أنفق الكثير مما لديه من الثروة واستلم أخوه
بقيتها ، فكان ما يحصل منها من الربح في التجارة لا يفي بنفقة زوجة أخيه الشيخ
إسماعيل وأولاده ، فكان يتمم نفقاتهم من ماله طيب الخاطر منشرح الصدر. وكان يمد يد
المعونة لمن قعدت به الأيام ورمته بالنكبات بعد أن كان من ذوي النعمة واليسار.
وكان من انقطع من الغرباء أو الحجاج عن الوصول إلى بلده يحمله إليها ، إلى غير ذلك
من وجوه الإحسان.
ومن آثاره
الباقية أنه كان أوعز لإحدى قريباته المثريات أن تنشىء بركة كبيرة في جامع البلاط
، فقامت بالعمل ، ثم إنه بلط صحن الجامع من ماله.
وكانت ولادته
سنة ١٢٦٨ ، وذهب إلى ربه راضيا مرضيا سنة ١٣٢٠ ، وخلف عدة أولاد يتعاطون إلى الآن
التجارة والزراعة.
(عودا إلى
الترجمة) : ولما أتى الشيخ علي اليشرطي الشاذلي المغربي إلى الديار السورية وذلك
سنة ١٢٦٦ وشاع أمره في هذه البلاد وانتشرت طريقته فيها كان المترجم من جملة من رحل
إليه إلى عكا ، ورافقه في الرحلة إليه الشيخ محمد الشعار الريحاوي من علماء ريحا ،
وأخذ عنه الطريقة الشاذلية اليشرطية ، وعاد إلى حلب متزودا بمزيد الاعتقاد في
الشيخ سالكا طريقته الحسنة واستقامته المستحسنة ، وصار يقيم الذكر في جامع
الزينبية في محلة الفرافرة وصارت الناس تبايعه. وأخذ عنه هذه الطريقة عدة من وجوه
الشهباء. ولم يزل ناهجا ذلك المنهج من التمسك بالشرع وآدابه والوقوف عند حدوده
ورسومه لا يحيد عنه قيد شبر حتى اخترمته المنية في التاريخ المتقدم.
ثم حضر بعده
إلى حلب في أول القرن الرابع عشر رجل من أهالي ريحا يقال له الشيخ عمر الريحاوي ،
وكان ممن أخذ هذه الطريقة عن الشيخ علي وصار الناس يبايعونه ، وكان وعاؤه ممتلئا
فسقا وفجورا فسطا على عقول بعض العوام وفتح للجهلة المنتسبين إلى هذه الطريقة باب
القول بوحدة الوجود ، تلك المقالة الشنعاء المردودة ببداهة العقل ، وخلاصتها أن
جميع ما في هذا الكون هو الله لا فرق في ذلك بين البشر والبقر ، ولا تفاوت بين
الطيبات والمستقذرات ، فساقهم ذلك إلى انتهاك حرمات الشرع واستباحة المحظورات ،
فارتكبوا المعاصي واقترفوا المآثم ، فصدق في هؤلاء الجهلة قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا).
وحدثني من أثق
به من ذوي الاستقامة من أهل طريقتهم الذين أخذوها بصفاء قلب وحسن نية أن الشيخ
عليا كان حينما يبلّغ أمثال هذه الحوادث عن بعض مريديه يغضب لذلك وتثور حفيظته
ويقول لخواصه : ازجروا هؤلاء وحولوا بينهم وبين التلطخ بهذه القاذورات والوقوع في
هذه الموبقات بالموعظة الحسنة ، وأرشدوهم إلى الطريق السويّ ولا تسيئوا سمعة هذه الطريقة.
ولكن هيهات
هيهات ، فقد قيل ما قيل وسبق السيف العذل ، وكان لهؤلاء الجهلة صولة في بعض محلات
حلب في ابتداء هذا القرن وكثر مشايعوهم وسرت فكرتهم إلى أمثالهم في إدلب وريحا ،
فأتى هؤلاء بالقبائح والمنكرات ، فكان ممن تصدى ثمة لمقاومتهم
__________________
وتبيين شناعاتهم وتفنيد ما ذهبوا إليه من القول بوحدة الوجود العالم الفاضل
الشيخ طاهر أفندي الكيالي المشهور بالملا الذي لا زال في عداد الأحياء ، وأكثر من
ذلك في دروسه ومجالس وعظه ، فخفت شرتهم وتثلمت حدتهم ، ولاذوا بالتوبة والإقلاع
عما يرتكبونه من السفاسف ، وكذلك من كان هنا على هذه الشاكلة ، فقد انطفأت منذ خمس
عشرة سنة شرارتهم ، وخمدت نارهم ، وانتبهوا بعد غفلتهم ، وتبين لهم الرشد من الغي
، وثابوا إلى الصراط القويم بعد الضلال المبين ، ولم يبق منهم إلا أشخاص قلائل
يعدون بالأصابع نسأل الله لهم الهداية وسلوك سبل الرشاد.
١٢٤٧ ـ ترجمة الشيخ علي اليشرطي الشاذلي
ولا بأس أن
نذكر هنا ترجمة الشيخ علي اليشرطي مؤسس هذه الطريقة في البلاد السورية ، لأن النفس
تتوق إلى معرفة أصله وترجمته ، وقد نقلناها عن التاريخ الموسوم ب «حلية البشر»
للعلامة الأديب الفاضل الشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي الذي لا زال مخطوطا ، قال :
هو الشيخ علي
بن أحمد المغربي اليشرطي الشاذلي الترشيحي ، شيخ الطريقة ، ومعدن السلوك والحقيقة.
ولد في بنزت من أعمال تونس الغرب سنة ألف ومايتين وإحدى عشرة ، ووالده الحاج أحمد
اليشرطي ، قيل نسبته إلى بني يشرط : قبيلة بالمغرب قيل إنها تنسب إلى سيدنا الحسن
بن علي سبط رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان قائدا كبير للجيش التونسي ولم يترك ولدا غير
المترجم المشار إليه ، فالتفت المترجم من صغره إلى الطلب وحضور دروس العلماء
والفضلاء ، إلى أن نال مطلوبه وملك مرغوبه ، ثم أخذ الطريقة الشاذلية عن أستاذ
العصر وفرد الدهر الأستاذ الكبير والعالم الشهير أبي محمد بن حمزة ظافر المدني ،
فاشتغل بهمة قوية وسيرة مرضية ، ودأب على الذكر في السر والجهر ، وكان مقدما عند
الشيخ على الجماعة لما شاهده منه من كمال الانقياد والطاعة. ولم تزل مرتبته تتعالى
وخوارقه في الطريق تتوالى إلى أن تأهل للإرشاد ، وارتقى مقامه وساد.
وبعد وفاة شيخه
وأستاذه وعمدته وملاذه قصد مكة المكرمة للنسك ، وبعد أن أتم
__________________
حجّه ، وعجّه وثجّه . توجه لزيارة أشرف إنسان ، وأفضل مخلوق من ملك وإنس
وجان ، وجاور في تلك البلدة الشريفة ، ذات الرتبة العالية المنيفة ، أربع سنوات.
وكان يحج في كل عام ، ثم بعد التمام يرجع لمدينة خير الأنام.
ثم قصد زيارة
القدس الشريف ، فلما وصل يافا في مركب شراعي تعسر عليه النزول إليها لأن النوء كان
شديدا غير لطيف ، فطلع إلى عكا ، وكان قد مرض لشدة ما أصابه من الأهوال والعناء ،
فذهب منها إلى ترشيحا لتبديل الهواء ، وكان ذلك سنة ألف ومايتين وست وستين ، وأخذ
أمره من ذلك العهد بالانتشار ، فقصدته الناس من القرايا والأمصار ، وأخذوا عنه
الطريق ، باذلين همتهم في حفظ ذلك العهد الوثيق ، وفي كل يوم يشتهر أمره ، ويزداد
علوه وقدره ، إلى أن انتشر الطريق في الآفاق ، فلم يدخل الإنسان من البلاد السورية
إلى محل إلا ويجد مرشدا منهم قد وقف للترغيب على ساق.
وفي حدود سنة
ألف ومائتين وثمانين أيام ولاية رشدي باشا الشرواني رأى منهم اجتماعا منافيا
للسياسة العثمانية ، فنفاه هو وبعض جماعته إلى الجزيرة القبرصية ، ولم يزل بها
ثلاثة أعوام ، إلى أن تداخل في الرجا في إحضاره الأمير عبد القادر الجزائري
فاستجلبه إلى الشام ، وقد أجرت الحكومة عليه شديد التنبيهات ، في ترك ما كانوا
يفعلونه من الاجتماع وأنه من الممنوعات. ثم عاد إلى عكا ورجع ، بعد أن أعطى
المواثيق بأنه ترك ما كان عليه ونزع. ثم بعد أن انفصل ذاك الوالي المشار إليه ،
رجع المترجم إلى ما كان من الظهور عليه ، إلى أن وجهت الولاية على رشدي باشا ،
وكان قد حصل من جماعته في بعض المحلات أمور مذمومة واعتقادات مشؤومة ، فاستحضر
الوالي المترجم تحت الحفظ إلى الشام ، وأراد نفيه إلى فزّان ، وقبض على نحو عشرين
شخصا من جماعته المعدودين من خلاصة الأخوان ، فبذل الأمير عبد القادر رجاه لحضرة
الوالي المرقوم أن يجعله محبوسا في داره ، وأن يسمح عن نفيه رحمة لذله وانكساره ،
فحقق الوالي رجاه ، لما له عنده من الفضل والجاه. وأما جماعته فإنه نفاهم إلى
فزّان ، وأذاقهم بذلك الذل والهوان. ثم إن حضرة الأمير بعد مدة أطلقه من حبسه ،
وأرجعه إلى محله مشمولا بسرمده وكمال أنسه.
__________________
وحاصل الكلام
في سيرة هذا المترجم المفضال فإنه اختلفت فيه أقوال الرجال ، فمنهم من طعن به وزاد
، ومنهم من برأه من كل ما يوجب الملام والفساد ، وإن الحق يقال ، ما علمنا عليه
سوى ما يوجب الكمال ، غير أن بعضا من جماعته قد خرجوا عن دائرة الأدب ، وتكلموا
بما هو لكل ملام سبب ، وتركوا في الظاهر كل مأمور ، وارتكبوا أقبح الأمور. ثم إن
المنفيين إلى فزّان أحسنت عليهم الدولة بالإطلاق فرجعوا إلى الشام. ولم يزل بعض
أهل هذه الطريقة يفتخرون بمخالفة الشريعة الغراء ، وبترك كل مأمور به وبفعل كل ما
يوصل فعله إلى كل شقاء ، ويقولون بأن الشريعة حجاب ، وفعل المنكرات موصل إلى رب
الأرباب ، فلاطوا بالأبناء وزنوا بالأمهات ، وأكلوا الحرام وانهمكوا في المنكرات ،
واعتقدوا بأنفسهم أنهم صوفية الزمان ، وأن من سواهم قد ألبس نفسه ثياب الحرمان ،
ويفسرون كلام الله ورسوله بكل تفسير فاسد ، ويقولون بأن هذا التفسير قد ألقاه
إليهم الوارد ، فما أعظمها مفسدة في الدين ، وما أجسمها فتنة على المسلمين ، فيا
عباد الله من يقول بأن المنهي عنه طريق الوصول ، وهو المرضيّ عند الله تعالى وعند
الرسول ، وأما المأمور به فهو حجاب ، ولا يتمسك به إلا المحجوبون عن طريق الصواب ،
فإننا نبرأ إلى الله من هذا الاعتقاد ، ونعوذ به مما يوصل إلى كل شر وفساد ،
ونتمسك بما جاء به النبي الأمين ونقول : (رَبَّنا آمَنَّا بِما
أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ).
ثم إن كثيرا من
الناس قد شكى هؤلاء الجماعة إلى المترجم ، فيقتصر على قوله : عظوهم وعرفوهم أن هذا
أمر محرّم ، وإذا وعظهم إنسان ، يسخرون به ويعدونه من أهل الجهالة والخسران. نسأل
الله العفو والعافية ، والمعافاة الدائمة والنعمة الوافية ، وأن يحفظنا والمسلمين
، من مخالفة الملة والدين.
وفي ليلة
الأربعاء التاسع عشر من رمضان المبارك توفي هذا المترجم سنة ألف وثلاثمائة وست
عشرة رحمهالله تعالى. ا ه.
١٢٤٨ ـ فرنسيس بن فتح الله مراش المتوفى سنة ١٢٩٠
فرنسيس بن فتح
الله مراش. ترجمه جرجي زيدان في كتابه «مشاهير الشرق» فقال بعد أن صدر الترجمة
برسمه :
__________________
ولد بمدينة حلب
في ٢٩ يونيو سنة ١٨٣٦ (١٢٥٢ ه) من أرومة طيبة الأصل ، ولما بلغ الرابعة من عمره
أصيب بداء الحصبة ، وثقلت وطأتها عليه حتى كادت تودي به ، ثم منّ الله عليه
بالشفاء ، إلا أنه بقي من آثارها في جسمه وبصره ما نغص عليه عيشه وأوهن قواه مدى
العمر ، ولبث في حلب إلى أن يفع يتلقن القراءة ثم مبادىء العلوم ، إلى أن كانت سنة
١٨٥٠ فسار به والده إلى أوربا واستصحبه معه ، فتجول فيها مدة تنيف على السنة ، ثم
رأى والده أن يطيل مكثه في فرنسا لضرورة دعت إلى ذلك ، فأرجعه إلى حلب وبقي فيها
إلى سنة ١٨٥٣.
ولما عاد والده
من أوربا في هذه السنة دعته مقتضيات تجارته إلى التعريج على بيروت ، فعرج عليها ،
واستدعاه من حلب فسار منها إلى بيروت وأقام معه بها نحوا من سنة ، ثم عاد إلى مسقط
رأسه وألقى به عصا التسيار مدة مديدة ، وأقبل يشتغل في خلالها بالأدب وهو الفن
الذي كان قد ولع به منذ صبوته ، حتى إنه عرف له نظم على طريقة الصبيان نظمه وهو
ابن تسع سنين ودونها.
ولكنه لم يقصر
درسه على الأدب وحده ، بل أقبل يدرس غيره من العلوم ، وكان يتخرج في كل علم منها
على من يلقاه من الأساتذة. ولما رأى آخر الأمر أن علم الطب لا يبلغ أحد منه أربا
ما لم ينل الإجازة في تعاطيه عملا ، وتيقن أن أعظم الإجازات اعتبارا في تلك الأيام
ما كان صادرا منها من مدرسة باريز ، رحل في طلب ذلك إلى هذه المدينة حوالي سنة
١٨٦٧ وأقام بها نحوا من سنتين يتردد على مدرسة الطب فيها إتماما لدروسه واستعدادا
للامتحان ، ولكن صروف الدهر عاندته وخانته الجدود العواثر من وجوه أخرى ، فاعتراه
من أسقام البدن وضعف البصر ما صرفه عن المثابرة على الدرس ، فلم يظفر بمراده من
التقدم للفحص لنيل الإجازة ، بل اضطر أن يقفل راجعا إلى حلب وهو عليل ومكفوف البصر
أو يكاد. ولم يزل مقيما بحلب إلى أن توفاه الله في أواسط سنة ١٨٧٣ (١٢٩٠ ه).
أما تصانيفه
فالمطبوع منها «غاية الحق» و «مشهد الأحوال» وكلاهما مطبوع في بيروت. وله ديوان
سماه «مرآة الحسناء» أرسله بحياته إلى سليم البستاني فطبعه له في مطبعة المعارف في
بيروت. أما الكتابان الأولان فقد سلك فيهما مسالك فلسفية وبث فيهما آراءه
بأسلوب بديع. صنف معظم الأول منهما في باريز والثاني في حلب. وله أيضا
رسائل موجزة في مواضيع شتى ، ولكنها لم تطبع ، فلذلك لم تعرف. وله رحلة إلى باريس
طبعت في بيروت ، و «شهادة الطبيعة بوجود الله والشريعة» طبعت بمطبعة الأمير كان
بعد نشرها في النشرة الأسبوعية. وله «غرائب الصدف» وغيرها من الرسائل.
وكان في الجملة
مشاركا في كثير من العلوم ، إلا أنه كان إلى العلوم الفلسفية أميل ، وكان يؤثرها
على العلوم الرياضية وغيرها لما في تلك من سعة المجال للخواطر ، ولما في هذه من
ضيق المجال وحرج القيود والقوانين على من يريد أن يقتدح زناد نفسه ، فإنه كان لا
يطيق احتمال الأسر المعنوي فضلا عن الحسي ، ولذا كان يحاول التملص من رق العادات
الجازمة بحجز حرية التصرف ، بل طالما كان ينزع إلى الإغضاء عن قيود اللغة وأغلال
قوانينها وسلاسل قواعدها أيضا ، حتى صار قليل الالتفات إلى تحرير أساليبه وتنقيح
عباراته على ما تقتضيه أصول الإنشاء. إلا أنه كان يعرف حق المعرفة أن الحرية
المطلقة هي كالكبريت الأحمر لا تقوم إلا في الذهن ولا وجود لها في الخارج ، وهذا
ما حداه أن يقول :
رقّ الزمان
حوى على كل الورى
|
|
واقتداهم
بسلاسل وقيود
|
رسف الأمير
مكبلا بنضاره
|
|
رسف الأسير
مكبلا بحديد
|
وأن يقول :
صدّقوني كل
الأنام سواء
|
|
من ملوك إلى
رعاة البهائم
|
كل نفس لها
سرور وحزن
|
|
لاتني في
ولائم أو مآتم
|
كم أمير في
دسته بات يشقى
|
|
باله والأسير
في القيد ناعم
|
أصغر الخلق
مثل أكبرها جر
|
|
ما لهذا وذا
مزايا تلائم
|
هذه النمل
تستطيع الذي تعجز
|
|
عن فعله
الأسود الضياغم
|
والخلايا
للنحل أعجب صنعا
|
|
من قصور
الملوك ذات الدعائم
|
وكل من أنعم
النظر في تصانيفه خيل له أنه لم يكن في كل الأحوال راضيا عن الزمان وأهله ، وأنه
كان كثير التبرم بالناس والأشياء كافة ، وأن كلامه في كثير من المواطن يشف عن
الشكوى من الدنيا وأهلها. وهذا لا يستغرب من رجل رماه الدهر بالأرزاء حتى أصبح
كئيبا كاسف البال ، وقد حداه ذلك إلى أن قال :
توتّر أقواس
الردى لرمايتي
|
|
ومن أعين
الحساد تبرى سهامها
|
يجر عليّ
الدهر جيش خطوبه
|
|
فتلقاه نفس
يستحيل انهزامها
|
ومن خبر
الدنيا وأدرك سرها
|
|
تساوى لديه حربها
وسلامها
|
ومن هذا القبيل
ما أورده في غابة الحق :
إذا كان وقع
السيف ليس يمضّني
|
|
فعندي سواء
غمده وغراره
|
وإن كان جمر
الخطب ليس يصيبني
|
|
فلا خوف لي
مهما يهب شراره
|
أنا لا أرى
في الأرض شيئا يروقني
|
|
لذلك نور
العمر عندي ناره
|
أيطربني هذا
الزمان وكله
|
|
عراك على
الدنيا يثور غباره
|
هذا ما يلمح من
خلال نظمه ونثره ، إلا أنه كان في معاشرة الناس ومخالطتهم متوددا أنيسا تأبى نفسه
أن يصيب الناس أذى مما ابتلاه الله به من الأشجان ، وكان إذا عن له خاطر أملاه على
كاتب أو صديق. توفاه الله وهو في شرخ الشباب.
ومن نظمه قوله
من قصيدة :
أنا على ما
أنا من الخلق
|
|
باق على
مذهبي وفي طرقي
|
مالي عدوّ
سوى الكذوب فلم
|
|
يزل عدوا
لصاحب الصدق
|
لا أكذب الله
إن لي شيما
|
|
تحمي فمي من
شوائب الملق
|
فلا كبير سطا
عليّ ولا
|
|
يد لها منة
على عنقي
|
ولا تسابقت
في المفاخر بل
|
|
سرت الهوينا
وفزت بالسبق
|
ولا اشتريت
الثناء من أحد
|
|
بالمال بل
بالجهاد والأرق
|
أسقي غروسي
فإن أجد ثمرا
|
|
أقطف وإلا
رضيت بالورق
|
وقال في وصف
الجمال :
يا ربة الحسن
جمالك لا
|
|
يدوم إلا
كدوام الخيال
|
فحسن وجه
ذاهب كالهبا
|
|
وحسن طبع
راسخ كالجبال
|
فجمّلي الطبع
وحلّي النهى
|
|
لتقتني الحسن
العديم المثال
|
هذا هو الحسن
البسيط وما
|
|
للجوهر
البسيط قط انحلال
|
ومن هذا القبيل
قوله :
طرقت خباها
بغتة يوم تبكير
|
|
فصبّحني وجه
كرقعة تصوير
|
هناك على
المرآة كانت مكبة
|
|
تموّه خديها
بصبغة حنجور
|
فأيقنت أني
في الهوى كنت والعا
|
|
بمسحوق تبييض
ومحلول تحمير
|
ا ه
وترجمه الأديب
قسطاكي بك الحمصي في كتابه «أدباء حلب» ترجمة مسهبة أثنى عليه من جهة وانتقده من
جهة ، قال : ومن محاسن شعره :
هداة السّرى
مهلا فهذي خيامها
|
|
وتلك روابيها
وذاك غمامها
|
قفوا ساعة
نشتم رائحة الحمى
|
|
هنا علقت
روحي وطال هيامها
|
هنا لي من
الغادات من لو تبسمت
|
|
لدى البرق
ليلا لازدهاه ابتسامها
|
فهل ذكرت تلك
المنيعة في الخبا
|
|
شريدا طحاه
البين وهو غلامها
|
وهل علمت
أسماء وهي عليمة
|
|
صبابة نفس قد
تسامى مرامها
|
نسيم الصبا
هل قد عثرت بردنها
|
|
فعطّرت أم لي
معك آت سلامها
|
تقلبني
الدنيا على موقد البلا
|
|
ولي همة في
الصبر عز انصرامها
|
ويجري عليّ
الدهر جيش خطوبه
|
|
وما أنا ذا
نفس يهون اقتحامها
|
ومن عرف
الدنيا وأدرك سرها
|
|
تساوى لديه
حربها وسلامها
|
ومن إحسانه في «مشهد
الأحوال» (اسم كتاب للمترجم) :
ما للمليحة
غضبى لا تكلمني
|
|
كأنها بي لم
تسمع ولم ترني
|
ما بال
أعينها في الأرض مطرقة
|
|
وكلما أطرقت
عيناي ترمقني
|
ونحن في مجلس
قد قام من نخب
|
|
فمن عذول ومن
واش ومن خشن
|
ليت المليحة
تدري أنني كلف
|
|
بها إلى
غيرها ما ملت في زمني
|
وقال :
على صراط
مستو مستقيم
|
|
سلكت والناس
حيارى تهيم
|
يضج فوق
الأرض سكانها
|
|
شبه ذباب فوق
شيء وخيم
|
كذا ترى
الدنيا عيون الورى
|
|
كما ترى
العقرب عين الفطيم
|
وأورد له شيئا
من نثره وغير ذلك من نظمه ، وفيما نقلناه كفاية.
١٢٤٩ ـ محمد خير بن محفوظ الريحاوي المتوفى سنة ١٢٩٠
الشيخ محمد خير
بن محفوظ الريحاوي الأصل الحلبي الموطن ، وهو ابن أخي الشيخ مصطفى الريحاوي
المتوفى سنة ١٢٨١.
تلقى مبادىء
العلم في حلب ، ثم توجه إلى مصر ودخل الأزهر الشريف وجد هناك في طلب العلم ،
ورافقه في الطلب الشيخ بكري أفندي الزبري مفتي حلب. ولما توفي عمه الشيخ مصطفى حضر
إلى حلب لتعزية ابني عمه الشيخ تميم والشيخ محمود بوفاة والدهما.
وشوهد فيه
الفضل والنبالة ، وكان المفتي وقتئذ الشيخ بها الرفاعي ، فعرض عليه أمانة الفتوى ،
فلم يرغب في ذلك ، وعاد إلى مصر وتولى الإفتاء في أنبابه ، ودرّس مدة في الأزهر.
واطلعت من
مؤلفاته على رسالة سماها «العقود الدرية في القضايا الضمنية» وهي في كراسة.
وكانت وفاته في
مصر في حدود سنة ١٢٩٠ ، ودفن بالقرافة بالقرب من الإمام الشافعي ، وخلف ذرية في
مصر لم تزل قاطنة هناك.
١٢٥٠ ـ محمد بن ياسين أفندي الكوراني المتوفى سنة ١٢٩١
محمد أفندي ابن
ياسين أفندي الكوراني ، أحد وجهاء الشهباء وأعيانها ومن بيت قديم فيها.
ولد سنة ١٢٣٨ ،
ولاحت عليه أمارات النجابة من سن طفوليته ، ولما أتى إبراهيم باشا المصري إلى هذه
البلاد صار المترجم في عداد كتاب ديوانه ، ثم صار كاتبا في قلم مجلس الولاية ،
وتولى بعد ذلك عدة مناصب ، فصار قائمقام في طرسوس ومرسين
وأنطاكية ، وآخر وظيفة عين فيها وظيفة محاسبة دائرة الأوقاف في الشام ،
وبها كانت وفاته سنة ألف ومايتين وإحدى وتسعين رحمهالله.
١٢٥١ ـ الشيخ هاشم عيسى المتوفى سنة ١٢٩٢
الشيخ هاشم بن
حسين أفندي ابن الحاج عمر عيسى باشا المشهور بابن عيسى.
جده المذكور
تلقى القرآن العظيم على الشيخ سعيد القاري المشهور ، ولما بلغ الثلاثين من العمر شرع في طلب العلم ، فجاور
في المدرسة العثمانية. وقرأ على الشيخ أحمد الحجار والشيخ أحمد الترمانيني ، أخذ
عنهما علوم العربية والفقه والحديث ، إلى أن برع وفضل فعين مدرسا في المدرسة
البهائية سنة ١٢٨٢ ، ثم عين مدرسا للحديث في الجامع الكبير وإماما للشافعية في
جامع العادلية ومدرسا للحديث فيه ، وبقي في ذلك إلى أن توفي.
وكان رحمهالله من الزاهدين في الدنيا المعرضين عنها ، يألف العزلة
والوحدة ولزوم بيته ، وكانت المخدة التي يستند إليها حشوها من نخالة ، ولا يتناول
الأطعمة اللذيذة. وكان حسن الأخلاق متواضعا بشوشا نصوحا ، وربما سمع ما يؤذيه
أثناء نصحه فكان يحتمل ذلك ويقابل من يؤذيه بالبشر والبشاشة ويلاطفه إلى أن يرضي
خاطره.
وله مؤلف صغير
في النحو وتعليقات في التفسير وشرح على الألفية.
توفي رحمهالله سنة ١٢٩٢ ودفن في تربة الشيخ جاكير.
وتلقى العلم
عنه كثيرون ، منهم الشيخ بكري الزبري مفتي حلب والشيخ صالح الجندي مفتي المعرة
والشيخ محمد الكلاوي والشيخ بكري العنداني والشيخ شهيد الدار عزاني والشيخ هاشم
النيربي والشيخ محمد السراج والشيخ محمد ديب الريحاوي والشيخ أحمد ابن الشيخ
إسماعيل اللبابيدي والشيخ محمد الصابوني المجاور بالمدرسة العثمانية وغيرهم.
__________________
١٢٥٢ ـ الشيخ محمد الأهدلي اليماني المتوفى سنة ١٢٩٣
الشيخ محمد بن
محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن حاتم القديمي اليمني.
ولادته في وادي
سردد من بلاد اليمن ، ثم رحل إلى زبيد وتلقى العلم بها على فضلائها ، ثم رحل
إلى وادي بني عشيرة ، ثم توجه إلى منيبار من بلاد الهند ، ثم رجع إلى مكة المشرفة
، فقرأ بها على العلامة السيد أحمد الدحلاني في المنهاج وأجازه ، ثم أتى إلى
المدينة المنورة فقرأ على الشيخ ... الكردي والدراجي والهندي ، ثم أتى دمياط ثم
القدس ثم الشام ثم حمص ثم المعرة ثم إلى جسر الشغر من أعمال حلب ، وكان كلما أتى
بلدة قرأ على أفاضلها واستجازهم إلى أن برع في العلوم والفنون مع الزهد في الدنيا
والمجاهدة للنفس والرياضة والتعبد ليلا ونهارا ، وحصل له الإقبال التام من أهالي
بلادنا. وأكب على الإفادة والإرشاد وانتفع به كثيرون من خواص وعوام وظهر على يديه
كرامات كثيرة مستفيضة يتحدث بها أهل جسر الشغر ومن حولها ويتناقلونها جيلا بعد جيل
، وهو معتقد تلك البلاد وبركة تلك الديار.
توفي رحمهالله في شهر صفر سنة ١٢٩٣ ودفن بزاويته التي أنشأها في قرية
الشغر القديمة.
وأرسل لي الشاب
النبيه الشيخ محمد الأهدلي ترجمة الشيخ محمد الموما إليه فقال فيها ما خلاصته :
في الديار
اليمنية عائلة شريفة حسينية النسب قد اشتهرت بالأهدل ، وهي من نسل محمد بن سليمان
الأهدل ، وهي عائلة كبيرة منتشرة في عدة من البلاد اليمنية ، غير أن الوطن الأصلي
لها وسكنى غالب أفرادها في قرية (مراوعة) وهي قرية صغيرة شرقي الحديدة تبعد عنها
نحو ثلاث ساعات ، وللسيد عبد الرحيم البرعي صاحب الديوان المشهور قصائد متعددة
مثبتة في ديوانه في مدح بعض أفراد هذه العائلة.
وفي نواحي سنة
١٢٧٠ حضر المترجم إلى قرية الشغر الكائنة في قضاء الجسر من
__________________
أعمال حلب ، وكأن الله تعالى أرسله لهداية أهل هذه القرية الذين كانت
حالتهم أشبه بحالة الجاهلية من القتل والسلب المشروعين في اعتقادهم ، فأقام الشيخ
بينهم آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر متحملا منهم أنواع الأذى ، وثابر على ذلك إلى
أن أثمر نباته وتحققت أمنيته ، فإن الضلال لم يلبث أن انعكس إلى هدى ، وأضحى سكان
الشغر قدوة حسنة لغيرهم.
وبعد حضوره
أنشأ في قرية الشغر زاوية وأخذ في نشر العلوم الشرعية موجبا على نفسه قراءة ثلاثة
دروس في كل يوم ، فاشتهر علمه وفضله وصلاحه وتقواه بين الخاص والعام ، وذاع صيته
في الأقطار ، وصارت تضرب إليه أكباد الأبل من كثير من البلاد ، سيما بعد أن ظهرت
على يده كرامات باهرة ، وأصبحت زاويته محط الرحال للمستفتي والمستشفي والممتحن
والمستجير والمجاور. وكان المستفتي لا يتكلف السؤال ، بل كان يجلس في حلقة الدرس
العام فيسمع جواب مسألته ، وهكذا الممتحن والمستجير وغيرهم. ويطول تعداد مناقبه
وكراماته التي يحفظها الكثيرون من معاصريه.
ومن الذين
قصدوه ممتحنين له عالم ريحا الشيخ محمد نوري أفندي مفتي إدلب سابقا ، وكان بينهما
موقف شهير اعترف فيه الشيخ محمد نوري بفضله والتسليم بكراماته الظاهرة للعيان ولا
زال يذكرها إلى الآن ، وكذا الأستاذ الشيخ عبد الفتاح أفندي المحمودي اللاذقي حتى
إنه أخذ عنه ومدحه بعد وفاته بقصيدة توسلية جاء فيها :
وبشيخنا
القطب اليماني الذي
|
|
في الشغر
أضحى ثاويا مستوطنا
|
حتى توفاه
الإله وقبره
|
|
بجوار عز
الدين يشرق بالسنا
|
أحيا بلاد
الشرق في إرشاده
|
|
وبنى المساجد
في قراها واغتنى
|
وكان لا يقبل
إنعاما من أحد إلا إذا أهدي إليه كتاب ، ولا يمد يده لغير مشروع ، زاهدا في هذه
الدنيا ، لم يتزوج ولم يملك من حطامها شيئا ، ويكتفي بالقليل من الطعام. وكان صومه
أكثر من إفطاره ، ولباسه ثوبا من الخام الذي يصنع بالقرية نفسها.
وحينما حضر إلى
هذه البلاد كان عمره ٢٣ سنة وتوفي في الخامسة والأربعين من العمر (في التاريخ
المتقدم) وأنشأ الزاوية المتقدمة وجامعا في الشغر بكسرية ومسجدا في قرية كفرنجي.
وكان من جملة
عارفيه بعض الأفاضل من العائلة الرافعية في طرابلس. وكان ذهب للآستانة لتجديد
وظيفة القضاء فعين في إحدى بلاد اليمن فقصد وداع الشيخ والتزود بكتبه فأخبر
بوفاته. ولما دخل اليمن قاصدا مقر الوظيفة مر في طريقه على مراوعة وهناك اجتمع
بالسيد عبد الباري الأهدلي شيخ السجادة الأهدلية فأخبره عن أحوال الشيخ ووفاته
وأنه ترك زاوية ومكتبة ثمينة لا تقل عن خمسمائة مجلد ، فكلف السيد عبد الباري ابن
عم الشيخ وهو (باعزى حسن الأهدلي) أن يتوجه إلى الديار الشامية لاستلام هذه الكتب
وزوده بتحارير ، ولما وصل إلى قرية الشغر وجد المكتبة مبعثرة لم يبق منها إلا
النزر اليسير ، فقصد الرجوع من حيث أتى فمنعه مريدو الشيخ وتلامذته وكلفوه أن يقيم
بين ظهرانيهم مكان الشيخ ، وعندئذ ذهب إلى الآستانة للاستحصال على تخصيص راتب
للزاوية ، فمكث أشهرا ولم ينل مطلوبه فعاد إلى الشغر ، ثم ذهب للآستانة ثانية
فتوفق إلى ذلك وعين له السلطان عبد الحميد ٣٠٠ قرش في كل شهر للزاوية ، فعاد وأقام
في الشغر شيخا للسجادة الأهدلية ، ثم تعين مفتيا لقضاء الجسر وبقي في هذا المنصب
إلى أن توفي سنة ١٣٣٢ رومية وأعقب ولدين أكبرهما الشيخ محمد الأهدلي مفتي جسر
الشغر سابقا ومفتي قضاء جرابلس في هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥.
١٢٥٣ ـ العلامة الكبير الشيخ أحمد الترمانيني المتوفى سنة ١٢٩٣
العلامة الكبير
، مفتي الشافعية ، العارف بالله تعالى ، الشيخ أحمد ابن الشيخ عبد الكريم ابن
الحاج عيسى ابن الحاج أحمد بن نعمة الله الترمانيني الأزهري ، الزاهد العابد
المحدث المفسر المجمع على علمه وفضله وجلالة قدره وولايته ومكاشفاته الكثيرة
الظاهرة.
ترجمه تلميذه
الفاضل الشيخ عمر الطرابيشي ، ووصل إليّ ترجمته بخطه ، قال فيها ما خلاصته : أنه
لما ترعرع رحل إلى مصر بأمر من والده للمجاورة بالأزهر ، وكان والده مشهورا بالورع
والزهد والصلاح ، ولما وصل إليها اشتغل بأخذ العلم على مشايخ عظام كالشيخ إبراهيم
البيجوري والشيخ محمد الفضالي والشيخ علي البخاري ، صحب هؤلاء مدة تزيد عن عشر
سنين وانتفع بهم ، وأخذ الطريقة الخلوتية عن السيد السند من اتفقت على ولايته
وتسليكه فحول الرجال الشيخ أحمد الصاوي ، وألبسه التاج فصار خليفة من
خلفائه وليا لله عارفا به ناصحا لعبيده دالا عليه قائما بأمره عالما عاملا
كاملا وقورا.
ثم أذن له
بالرجوع إلى حلب فرجع إليها وأخذ في الإرشاد بقاله وحاله ، وهرعت الناس إليه وصارت
تضرب به الأمثال في الورع والعلم والعمل ، واشتهر بالمكاشفات الجلية.
وكان جماعته لا
يقدرون على مواجهته إذا وقعت منهم هفوة وإن قلتّ حتى يتداركوها بتوبة ، فإن لم
يلحقوها بتوبة مقتهم وأغلظ عليهم المقال. وما أضمر أحد في نفسه شيئا إلا واجهه به
شفاها في معرض كلامه ، فإن أنكر أعاد عليه الكلام ، فإن أنكر زجره بالتعريض ، فإن
لم يفد معه التعريض زجره بالتصريح وصرح له بما ارتكبه من الهفوات.
وكان محببا في
قلوب الناس ، ومع ذلك لا يقدرون على مكالمته لشدة هيبته. وكان يحب العزلة عن الناس
هاربا إلى الله تعالى ملازما لأوراده خصوصا قراءة الفاتحة ، قل أن تجده ساكتا
مفرغا عن عبادة ما مراقبا خاشعا محققا مدققا في العلوم النقلية والعقلية في درس
الخواص وموضحا بتقرير الأمثال وتوضيح الإشكال في دروس العوام. وكان ينزل الناس على
قدر قربهم من الله تعالى لا على قدر ظهورهم في الدنيا. وكان إذا أطال أحد الجلوس
عنده قال له : قم مع السلامة ، ولو كان من أعز أصدقائه ، وكان شفوقا على سائر
الناس.
وأما بغضه
للعصاة فمن حيث المخالفة لربهم ، ففي الحقيقة شفقة عليهم. وليس عنده اعتراض على ما
في الكون ، بل كل ما فيه يراه حسنا من حيث صدوره من الفاعل المختار ، وكان كثيرا
ما يتمثل بشطر هذا البيت ويقول : (وقبح القبح من حيثي جميل). وكان المرجع إذا
اختلفت الآراء ، كشافا للمعضلات ، أستاذ العصر.
وقد عرف قدره
في حلب والشام ومصر. تصدر للإفتاء والتدريس بحق ، وكانت دروسه حافلة لطلاقة لسانه
وحسن تقريره وضربه للأمثال وتحريره وتنقيحه للأقوال ، ولا يغضب ويرضى إلا لله
تعالى ، ولا يخاف الخلق ، ولا يقدر أحد أن يعترض عليه من الرجال لوفور علمه وخوفهم
من أسرار باطنه ، وله الصدارة في حلب وغيرها ، ولكن تنزه عنها ورغب في الخمول
والخفا ، والذي يراه من بعيد ظنه من أهل الجفا. وكان في التواضع على جانب عظيم ،
فما رؤي أنه ركب فرسا أو بغلا أو حمارا في البلد قط ، وما أعطى
يده للتقبيل قط ، بل كان كل من أراد أخذ يده للتقبيل هو يفتح يده ليأخذ يد
مريد تقبيل يده. وكان يكتب في مكاتيبه ومراسلاته : من أحقر الورى أحمد الترمانيني.
وكان كثيرا ما يقول : لو أطاق جسمي النار لما سألت ربي الجنة ، فإني أستحي أن
أسأله دار كرامته.
وانتفعت به
الطلبة طبقة بعد طبقة. وكان يحب أن لا يأكل من المعلومات التي له ، بل يفرقها
ويأكل من ربح التجارة ، ولا يأكل من أموال الزكاة إلا عن ضرورة ، ويقول إنها تورث
ظلمة في القلب. وكان يكره كل شيء فيه شائبة رئاسة طبعا فلا يمكن أحدا يمشي خلفه ،
ولا يأتي حاكما ولا واليا ولا قاضيا قط ، وهم يتمنون تقبيل قدمه فما يمكنهم أبدا.
ومرة أراد وال أن يقبل يده بالقوة فما أعطاه الشيخ يده ووقع طربوش الوالي من على
رأسه إلى الأرض وما قدر على أخذ يد الشيخ ، وكانت تلك الواقعة في جامع الرضائية
بمحضر من الناس منهم العلماء والخطباء والطلبة ، ولا يبعث لهم ورقة في قضاء حاجة
بل يتوسل الله تعالى فتقضى كما يحب. وكان الموت نصب عينيه ، فهو جالس في الدنيا
جلوس رجل مستوفز يريد النهوض.
وقد اشتهر
بالهمة بين أهل العلم فكان يجلس قدر أربع ساعات في الدرس على ركبتيه ولا يمل وكأن
جسمه من حديد ، ومع هذا يكتب ما يرد عليه من الإفتاء بالأجوبة الحسنة لأهل حلب
ولغيرهم من إقليمها ، ويكتب على هوامش نسخه التي يقرؤها للطلبة ، ويؤلف في كل شيء
رأى فيه على الطلبة صعوبة تأليفا يقرب عليهم مسافة الطريق. وكانت دروسه مطرزة
بالحكم الإلهية والآداب اللدنية حتى دروس النحو والمنطق وعلوم العربية.
وبالجملة كان
مفردا في علمه وأخلاقه وأحواله وهمته وزهده وورعه وغير ذلك ، وقد تشرفت بقراءة
جملة من الكتب عليه (سردها وقد ذكرناها في ترجمته وختمها بقوله) :
وقد قرأت على
مشايخ عظام كتبا من فقه ونحو وقراءة وغير ذلك وانتفعت بهم ولله الحمد ، ولكن ما
انتفعت على شيخ منهم مثل انتفاعي عليه ، جزاه الله عن أهل إقليمه خيرا ورفع له في
الدارين قدرا. ا ه.
أقول : لم يذكر
الشيخ عمر الطرابيشي تاريخ وفاة هذا الأستاذ الجليل لتقدم وفاته عليه ، وكانت
وفاته بعد عصر يوم الأحد ، ودفن صبيحة يوم الاثنين في الرابع عشر من شهر
ربيع الثاني سنة ١٢٩٣ ، ودفن في تربة الجبيلة في أواخرها من الجهة الشمالية
رحمهالله رحمة واسعة.
وقد مضى على
وفاته اثنان وخمسون سنة والناس إلى الآن لهجون بذكره والثناء الحسن عليه في
محافلهم ومسامراتهم ويعددون مناقبه وكراماته ومزاياه مما لو جمعناه لكان في سفر
كبير. وقد دعانا ذلك أن نزيد في ترجمته ونبسط المقال في أحواله ومؤلفاته مما
تلقيناه من أقاربه وعارفيه الواقفين على شؤونه فنقول :
كانت ولادته رحمهالله في قرية ترمانين سنة ١٢٠٨ كما وجدته مقيدا في مجموعة
المشاطي بخطه ، ثم جاء به والده إلى حلب وهو ابن ست سنين وعلمه القرآن العظيم
تلاوة وحفظا ، ثم شرع في طلب العلم فقرأ على والده الشيخ عبد الكريم وعلى الشيخ أحمد
الهبراوي الملقب بالشافعي الصغير وعلى أخيه الشيخ محمد مبادىء العلوم ، ثم انبعثت
في نفسه رغبة التوجه إلى القاهرة للمجاورة بالأزهر ، فعرض على والده ما قام بنفسه
فاستحسنه ، غير أنه أمره بالتربص مدة ريثما يبلغ سن الرشد.
ذهابه إلى الأزهر :
وفي سنة ١٢٣٠
أذن له والده بالسفر إلى القاهرة ، ولما وصلها لزم الإقامة في جامع الأزهر وأخذ في
تحصيل العلوم العقلية والنقلية ، وكان معه أخوه الشيخ محمد الذي تقدمت ترجمته وكان
أكبر منه بسنتين ، وكان أحد ذهنا منه وأسرع فهما ، فكان يصعب ذلك على الشيخ ، فصار
يحفظ متون المطولات عن ظهر قلب ، وربما حفظ الشروح مضاهاة لأخيه. وما زال مجدا في
ذلك إلى أن فتح الله عليه وصار سريع الفهم ثاقب الذهن وأربى على أخيه.
وتلقى العلم
هناك على الشيخ حسن القويسني شيخ الأزهر والشيخ أحمد الدمهوجي الشافعي والشيخ أحمد
الصاوي المالكي الخلوتي والشيخ محمد الدمنهوري والشيخ حسن العطار. وأخذ الطريقة
الخلوتية على الشيخ أحمد الصاوي المتقدم. وما زال مكبا على التحصيل منقطعا إليه
وإلى العبادة حتى شهدت له مشايخه بتفوقه على أقرانه ، ومع هذا فما كان ليغتر بذلك
أو يلتفت إليه ، وما كان في أثناء هذه المدة ليشتغل في غير التحصيل ،
حتى إن التحارير التي كانت تأتيه من أهله كان يتركها على الرف حتى انتهى من
التحصيل وعول على الرجوع ، وحينئذ فتحها فوجد أن فلانا من أقاربه قد تزوج وفلانا
قد مات إلى غير ذلك ، وقصد بذلك أن لا يشغله عن العلم شاغل آخر.
وعاب عليه
الطلاب في الأزهر الانزواء وعدم الاختلاط وعدم الخروج ، فما زالوا به حتى خرج معهم
مرة ، فخرج ومعه كتابه إلى بعض رياض مصر ، فترك رفقاءه وهم ساهون لاهون في بعض
الألعاب وانفرد هناك عن إخوانه وأخذ في مطالعة درسه وحمد الله الذي أشغلهم عنه.
وفي اليوم الثاني لما حضر هو ورفقاؤه بين يدي أستاذهم تبين تقصيرهم لعدم مطالعتهم
، ولما علم الأستاذ ذلك شكره كثيرا وأنحى باللائمة على الباقين.
ولما عول على
الرجوع إلى بلدته طلب من مشايخه أن يأذنوا له بالسفر وأن يجيزوه بالتدريس فيها ،
فأذنوا له وأجازوه بذلك. ومما يحكى عنه أنه لما عزم على الرجوع ترك الحضور ذلك
اليوم فقط وأخذ في تهيئة حوائجه وكتبه ، فرآه الشيخ إبراهيم البيجوري وهو منفرد في
زاوية من زوايا الأزهر ، فقال لمن حضره : إن هذا الرجل الذي ترونه بهيئة المساكين
والله لم يحصّل طالب علم في مصر بقدر ما حصّل ، وسيكون له شأن عظيم.
عوده إلى حلب :
عاد إلى حلب سنة
١٢٤٣ بعد أن جاور في الأزهر ثلاث عشرة سنة ، وكان أخوه الشيخ محمد هو المتصدر فيها
وإليه المرجع في فقه الشافعية ، لذا لم يشتهر أمره في التدريس ، فأخذ في التأليف
فألف في كل فن ، وبقي على ذلك إلى سنة ١٢٥٠ ، ففيها توفي أخوه فتولى وظائفه في
دروس الجامع الكبير وفي المدرسة الرحيمية والعثمانية والقرناصية والصروي وفي إفتاء
الشافعية ، وجاءه المنشور في ذلك ، وكانت الشهباء وقتئذ في حاجة إلى مثله
__________________
متعطشة إليه تعطش الظمآن إلى الماء البارد ، وذلك لقلة العلماء في ذلك
الوقت لما حصل في حلب من الطاعون الذي فتك في تلك السنين فتكا ذريعا ذهب به كثير
من العلماء إلى أن كادت الشهباء تخلو منهم ، وصارت تتخبط في دياجير الجهل ،
ولحوادث الأنجكارية وتلك الوقائع وحوادث إبراهيم باشا المصري التي ذكرناها في
أواخر الجزء الثالث التي قضت على كثير من العلماء وغيرهم بالهجرة من حلب. فلما
تصدر للتدريس في هذه الأماكن تهافت الناس عليه وازدحموا حول منهله العذب ، وصار
يقرأ الدروس المتعددة في فنون مختلفة من فقه وحديث وتفسير ونحو ومنطق وغير ذلك ،
فلم تمض مدة من الزمن إلا وقد تخرج به رجال متعددون ، ومن ذلك الحين شاع فضله وبعد
صيته وانتشر في الآفاق ذكره.
وكان شيخنا الكبير
الشيخ محمد أفندي الزرقا كثير الثناء عليه معترفا بجلالة قدره وغزارة علمه ، وحسبه
ثناء مثله عليه.
وفي حياة أخيه
قرأ كتاب الدر المختار في الفقه الحنفي وذلك بأمر من أخيه الشيخ محمد المذكور ،
وحضر عليه عدة من الأفاضل منهم الشيخ مصطفى الريحاوي والشيخ عقيل الزويتيني والشيخ
عبد القادر سلطان والشيخ علي القلعجي ، وما كانت تعجبه حاشية العلامة ابن عابدين ،
وكانت وقتئذ تستنسخ من الشام يستنسخها السيد راجي بيازيد أحد التجار المشاهير
ليستفيد منها الطلاب ، ويقول إنها غير محررة ، وكانت تعجبه حاشية العلامة الطحطاوي
على الدر وحاشية العلامة الحلبي ، وكان يقول : لو لا هاتان الحاشيتان لما تمكن ابن
عابدين من تحشية هذا الكتاب.
ومن حين عودته
من الأزهر إلى سنة ١٢٩٣ وهي السنة التي توفى فيها كان يقرأ الدروس يوميا بلا كلل
ولا ملل ، من الصباح إلى قبيل الظهر يقرأ الدروس الخاصة في علوم شتى ، ومن الظهر
إلى العصر صيفا وشتاء ربيعا وخريفا حتى في رمضان يقرأ درسا عاما في الجامع الكبير
يبقى فيه مقدار أربع ساعات قاعدا على ركبتيه لا يغير قعدته. وربما قرأ في درسه
الحديث أو الحديثين ويتكلم عليهما بالعجب العجاب بصورة تأخذ بمجامع القلب ، وقل أن
يمل أحد من المستمعين الذي يقدرون في معظم الأوقات بأزيد من ألف شخص ، ويذكر أثناء
ذلك أحوال الحكام ومظالمهم وتقصير العلماء وأحوال التجار وغشهم وكسل الفقراء ،
وربما صرح بأسماء بعض الأشخاص غير هياب ولا وجل ، ولذا كان الجميع يهابونه ويخشون
أن يذكرهم الشيخ في دروسه. وكان جهوري الصوت فصيح اللسان حسن التقرير ،
يفهمه القريب منه والبعيد عنه ، وعند تقريره الأحكام الشرعية يعيدها ثلاث
مرات لترسخ في أذهان السامعين. وله في أثناء درسه تطورات وشطحات في الكلام تخرج
تلك الكلمات منه من فؤاد مليء علما ومعرفة بالله تعالى ، وقد سمع منه غير مرة أنه
ما سأل الله شيئا إلا أجابه ولا دعا على أحد إلا وانتقم منه بموت سريع أو غيره.
ويبقى في درسه
هذا إلى أن ينادي المؤذن بصلاة العصر ، فيصليها ثم يذهب إلى بيته فلا يخرج منه إلى
الصباح.
أحواله وأخلاقه :
كان رحمهالله ملازما للعزلة إلا في أوقات الدروس ، لا يزور أحدا من
الأمراء ورجال الدولة العثمانية وصدورها العظام ، بل كانوا هم الذين يتقصدون
زيارته للتبرك به ، وكانوا يؤمون دروسه الإرشادية ويقعدون فيها كآحاد الناس ، وقل
أن يقبل زيارتهم.
وحدثنا عن رشيد
باشا الشرواني الصدر الأعظم لما أتى إلى حلب واجتمع بالشيخ بعد جهد أنه قال : لقد
حضرت مجالس الملوك كثيرا فلم أر في جميعها ما رأيته في مجلس الشيخ من الخوف
والمهابة والجلالة. وحدثنا بمثله عن نامق باشا لما مر بحلب قاصدا بغداد أو عائدا
منها إلى الآستانة.
وكان شاه العجم
مر بحلب وحضر درسه ، ثم طلب مقابلته ، فبعد جهد حتى أذن له بذلك فقال له وكان
واقفا أمامه وقفة الخاضع الخاشع : أسمع أن العجم قوم شيعة مع أن عندهم علماء ، فهل
تشيعهم مجرد تعصب أو هو مبني على دليل ، فكيف اعتقادكم؟ فخاف الشاه من الجواب وأن
يدخل في البحث مع الشيخ ، فقال له : يا سيدي نحن عائلة الملك من أهل السنة
والجماعة ، وأنكر تشيعه بتاتا. وكان الشاه يطلب الاجتماع بعالم مجتهد ، فأجيب :
ليس عندنا عالم مجتهد بل إنما لدينا عالم مشهور وهو فلان.
ولما كان جودت
باشا واليا على حلب أخذ عنه الحديث بعد وسائل متعددة ، ودعاه إلى ضيافة عملها في
رمضان ، ولم يجب إلا بعد جهد ، ولما حضر وضعت الشوربا أولا على العادة المتبعة ،
فتناول منها لقيمات ، ثم قاموا إلى صلاة المغرب ، وبعد أن فرغوا منها كلفوا إلى
المائدة ثانيا فقال : أما تعشينا ، فأعلم أن هذه مقدمة لأجل الإفطار ، فقال :
لا قد اكتفينا ، ولم يأكل سوى ذلك. ولم نسمع أنه أجاب دعوة أحد من الكبراء
غير هذه ، ولعله أجاب دعوة جودت باشا لأنه من العلماء كما ذكرنا ذلك في الكلام على
ولايته.
وكانت له
الهيبة العظيمة في القلوب بحيث إن كل من رآه من الناس على اختلاف طبقاتهم وأديانهم
يهابه بحيث إنه إذا كان مارا في الطريق يقف له المارون هيبة. وما كان يسلم في
طريقه على أحد من الناس ، بل كان مشتغلا بقراءة الفاتحة ، هذا كله مع كمال التواضع
والحلم والأناة ، حتى إنه قد اشتهر عنه أنه كان يخبز خبزه بيده ويحمله على كتفه
وهو قد جاوز الثمانين ، ويأتي بجميع لوازمه البيتية يحملها بنفسه ، واجتهد كثير من
خاصة أهل بلدته وعامتهم أن يساعدوه في حمل شيء منها فكان يأبى.
وكان مع ما
امتاز به من العلم والعمل على مقتضى الشريعة الإسلامية قد اشتهر عنه نصرة الحق
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يغلظ القول في رجال الدولة وغيرهم من الأمراء
عندما يرى منهم أو يسمعه عنهم ما يخالف الشرع والحق ، لا يبالي بهم ولا تأخذه في
الله لومة لائم.
وكان ديدنه
التأليف بين الناس وجمع القلوب إلى بعضها بعيدا عن كل فتنة ، لا يدع مجالا لمن رام
ذلك ، عرف هذا الخلق منه عامة الناس على اختلاف طبقاتهم وأديانهم فعكفت القلوب
جميعها على محبته وأجمعوا على مدحه والثناء عليه.
وقد علم أهله
وجيرانه أنه كان ينام نصف الليل أو ثلثيه بدون اضطجاع ولا فراش ، بل ينام على جلد
محتبيا فلا يعلم أهل بيته أهو نائم أو مستيقظ ، ثم يقوم إلى الصلاة وقراءة الأوراد
والأذكار بصوت متوسط بحيث يؤنس المستيقظ ولا يوقظ النائم. وأجمع أهل عصره أنه كان
ورده في النهار قراءة الفاتحة يقرؤها دائما في قعوده وقيامه وفي طريقه ويقول : إنها
مفتاح الخير ومغلاق الشر وفيها النجاة.
وبلغ من
احتياطه وتباعده عن مواطن الشبهات أنه كان لبناته بعض عقارات قد اشترينها من مالهن
الموروث عن والدتهن ، فكان حينما يقبض بدل الإيجار لهن يضع ما يخص كل واحدة منهن
على حدة خشية اختلاط المال من غير إذنهن. وحدثت مرة أنه قد اختلط معه البدل
المذكور بماله فجمعهن وطلب منهن المسامحة وأنه لم يكن ذلك منه إلا سهوا.
وبلغ من زهده
أن قدم إليه كثير من الوزراء ورؤساء الحكومة من الهدايا العظيمة التي تبلغ مئات من
الدنانير ، فردها عليهم ولم يقبل منها شيئا معتذرا عن قبولها بأن عنده من المال ما
يكفيه فلا حاجة له بها ، مما يدل على أن هناك نفسا قد اتخذت من حضائر القدس وجهة
خاصة أغنتها عن زخارف الدنيا وزهرة الحياة الفانية.
وكان ربع
القامة أبيض اللون أسود العينين خفيف اللحية يلبس فروة من جلود الغنم.
مكاشفاته وتنبؤاته :
لا زال الناس
يتحدثون عن مكاشفات الشيخ بالكثير الذي بلغ مبلغ التواتر بحيث لم يبق مجال
لإنكارها ، وسلم له بذلك معاصروه وملازموه ، ولو جمعت ما كنت أسمعه منذ ثلاثين سنة
إلى الآن من كراماته لبلغت مجلدا. وحمل هذه الكرامات الكثيرة والمكاشفات على مجرد
الصدفة كما يقول منكر وذلك مجرد عناد ومكابرة منهم. وقد اشتهر في حياته أن دروسه
كانت بغية السائل وهداية الضال ، فكثيرا ما أخبر في درسه العام عن الشؤون والأحوال
التي تعترض الدولة التركية في أدوارها المستقبلية ، فجاءت بعد وفاته كفلق الصبح
يتبع بعضها بعضا ، وقد أخبر عن هذه الحرب العامة قبل خمسين سنة بحيث قال غير مرة :
يا ويل الناس من البلاء الذي سيحل بهم سنة ١٣٣٣ ، ولم يزل بين ظهرانينا من سمعها
منه أو سمعها ممن سمعها منه.
ومن مكاشفاته
ما حدثت به عن تلميذه شيخنا الشيخ أحمد المكتبي رحمهالله تعالى قال : كنت في حياة الشيخ مجاورا في المدرسة
العثمانية وملازما للعزلة والانفراد في حجرتي ، فحدثتني نفسي يوما في الاجتماع مع
بعض المجاورين وأن يكون اجتماعنا قاصرا على مطالعة كتاب أو قراءة مولد ترويحا
للنفس ، فجئت ذلك اليوم إلى درس الشيخ فكان أول ما سمعته منه أن قال : أيها
الإخوان ، إن بعض الطلبة يسأمون من دوام العزلة ويشتهون أن يجتمعوا مع رفقائهم ،
إخواني إن الله إذا أحب عبدا كرّهه في معاشرة الناس.
ومنها ما حدث
به الشيخ حمادة البيانوني قال : كنت عولت على أن أتزوج ، ولكن ترددت أتزوج حلبية
أو قروية ، فذهبت إلى درس الشيخ فسمعته يقول : إن بعضا من الناس يريد أن يتزوج
ويتردد في أي المرأتين أحسن الحلبية أو القروية ، فأقول : إن القروية له أحسن
لأنها تكون أقنع باليسير.
ومنها ما حدث
به الشيخ محمد الحجار أنه كان يوما في درسه الخاص حسب عادته ، وإذ قد رأيناه ينظر
إلى الكراس الذي يقرأ فيه بتأمل ، ثم ينتفض بسرعة ويقول : يا لطيف ، وقد تكرر منه
هذا العمل مرارا ، فتعجب كل الحاضرين من هذه الحالة الغريبة التي لم يعهدوا مثلها
في الشيخ من قبل ، حتى إذا ما فرغ من الدرس وهممنا بالخروج من عنده وإذا زلزلة
عظيمة كاد يسقط لها المكان.
ومنها ما كنت
سمعته من خالي السيد محمد كلزية غير مرة قال : كنت وأنا غلام أشتغل عند والدي في
صنعة المنير ، فسمعت بدرس الشيخ فتوجهت إليه ، ولما سمعته تعشقته وواظبت على الدرس
، فتعطل لذلك بعض شغل والدي ، فنهاني عن ذلك إلا في أوقات الفراغ ، فلم أصغ لنهيه
لشدة حبي للشيخ وتعلقي بدرسه ، وذهبت للجامع ، فما كاد يستقر بي الجلوس وإذا
بالشيخ قد التفت نحو جهتي وقال ما معناه : يا إخوان ، إن بعض الناس يأتون إلى
الدرس ليستمعوا وقد نهاهم آباؤهم عن ذلك إلا في بعض الأحيان ، ألا فليعلموا أن
طاعة الوالدين واجبة ، فليسمعوا منهم ، ولا فلاح لمن لا يبر بوالديه. قال خالي :
فأثرت فيّ تلك الكلمات ووصلت إلى أعماق فؤادي ، فنهضت للحال. وله مثل ذلك كثير.
وممن ترجمه
الشيخ يوسف النبهاني في كتابه «جامع كرامات الأولياء» ، ومما قاله :
وكان رحمهالله من أفضل فضلاء هذا العصر وأعلمهم في العلوم العقلية والنقلية وأزهدهم في
الدنيا وأرغبهم في الآخرة. وكان لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يداهن أهل الدنيا
لدنياهم ، بل يصدع بالحق ولا يبالي بكبير ولا صغير مأمور أو أمير. وحصل منه في نشر
العلم في حلب وجهاتها النفع التام العام ، ووقع الإجماع عليه في تلك البلاد أنه
فريد هذا العصر عندهم في العلم والعمل. وقد سمعت أوصافه هذه كلها من كثيرين ممن
اجتمع بهم من أهل العلم وغيرهم بحيث لا شك بأنه كان كذلك وفوق ذلك ، وقد حدثني عنه
الثقات أنه كان مع وفرة العمل والعلم صاحب كرامات وخوارق عادات ، فمن ذلك أنه كان
يذكر في درسه ما يوافق ضمائر الحاضرين ويحل مشكلاتهم التي تتعلق في دنياهم وأخراهم
، ولما تكرر ذلك منه واشتهر بين الناس صاروا يقصدون درسه لذلك ، فإذا حضر الرجل في
الدرس يسمع كلاما يتعلق بنيته من استحسان ما عزم على فعله أو استقباحه ،
فيعمل بمقتضى ما فهمه من كلام الشيخ فيحصل له الخير. وممن أخبرني بكرامات
كشفه الشيخ محمد الناشد الحلبي ، وكان من تلامذته الملازمين لدرسه ، قال : ومن ذلك
أن رجلا جاءه مولود أسمر مخالف للون أبيه وأمه ، فاشتبه الرجل بزوجته وأساء الظن
بها ، ثم وقف على دروس الشيخ فكاشفه الشيخ وقال إن الله تعالى قد حرم الجماع في
الحيض لحكمة ، فمن فعل ذلك وأتاه ولد أسمر مخالف للون أبيه وأمه فلا يلومن إلا
نفسه ، فإن تغير اللون إنما هو بسبب الجماع في الحيض. فعرف الرجل أنه هو المراد
بهذا الكلام لأنه كان قد وقع منه ذلك وعزم على أن لا يعود إلى مثله وزال سوء ظنه
بزوجته ، وذلك ببركة الشيخ رضياللهعنه.
مؤلفاته :
(١) تفسير
القرآن العظيم.
(٢) شرح متن
الشمسية في علم المنطق سماه «الهبات الربانية للقواعد المنطقية» ، رأيته بخطه وهو
في ٢٢ كراسة.
(٣) حاشية على
شرح التهذيب في المنطق سماها «هبة الحبيب على شرح التهذيب» ، وهو في ٥ كراريس ألفه
سنة ١٢٤٩ ، وفي هذه الحاشية ذكر أنه جاور في الأزهر ثلاث عشرة سنة.
(٤) «الفتوحات
الربانية على الرسالة الخانية» في علم المنطق أيضا.
(٥) «شرح على
القطر» في النحو في ثلاث مجلدات هو الآن في الديار المصرية لا أدري في أي مكتبة.
(٦) شرح على
الشافية في علم الصرف سماه «العبارات الوافية بما يفهم من ظاهر الشافية» ، أول هذا
الشرح : الحمد لله الذي جمع مقصور عقولنا على المنسوب لمصدر التحقيق ، وأمال ممدود
نفوسنا للوقوف على ما ألهم من الاستعداد لماضي التدقيق. ثم قال : فإنني ولله الحمد
أدلجت مع المحصلين ، وشربت من ماء تحت أقدام سيد المرسلين ، وحزت من فن البلاغة
أسهما ، وسقيت من بحار التلقي حتى أنسيت الظما ، ولو كان فرسان الحظوظ بالمعارف
والتبيين ، لأتيت بجميع ذلك بسلطان مبين. وهو في عشرين كراسا
شرحه إملاء بدون مراجعة كتاب كما ذكر ذلك في آخره ، وحسبك ذلك دليلا على
قوة حفظه وسعة علمه. وإنشاؤه هذا يدلك على أنه ممن أخذ من الأدب وعلوم البلاغة بحظ
وافر.
(٧) تعليقات
على البخاري الشريف.
(٨) «شرح على
الهداية» للأبهري في الحكمة والفلسفة.
(٩) «شرح على
منظومة البرهانية» في الفرائض.
(١٠) «شرح على
معفوات ابن العماد».
(١١) «شرح كبير
على المنظومة التائية» للعلامة السبكي في نحو ثلاثين كراسة.
(١٢) «حاشية
على الشذور» لابن هشام رأيتها بخطه على هامش نسخة من الشذور.
(١٣) «حواشي
على المغني» لابن هشام رأيتها بخطه على هامش نسخة لو أفردت كانت في مجلد.
(١٤) تعليقات
على شرح السعد على التلخيص في المعاني والبيان والبديع.
(١٥) «رسالة في
أحكام الإمام والمقتدي» على مذهب الإمام الشافعي.
(١٦) «رسالة في
أحكام المستحاضة» على مذهب الإمام الشافعي أيضا.
(١٧) «رسالة في
أحكام توريث ذوي الأرحام».
(١٨) «رسالة في
المسبوق والموافق» ، ألفها سنة ١٢٥٨.
(١٩) «شرح على
حكم الشيخ رسلان».
(٢٠) «مؤلفات
في علم الكيميا» في سبع مجلدات ، جمع فيها ما قاله علماء هذه الصنعة فيها وما
ذكروه من التجاريب. ولم يكن عند الشيخ من الوقت ما يسمح له أن يشتغل فيها ، لكن
كان بعض الصاغة من تلامذته يطلبون منه أن يقوموا بتجربة ذلك ، فكان يبين لهم ما
قاله علماء الكيميا في ذلك ، وكانوا بعد التجربة يخبرونه بنتائج اختباراتهم ، وفي
آخر عمره ذكر غير مرة أنه لم يترك علما إلا واشتغل فيه حتى علم الكيميا ، وأنه قد
تبين له أن هذا العلم قد فقدت أربابه ولا يصح إلا بموقف ، فصار ينصح الناس ألا
يضيعوا أوقاتهم في هذه التجاريب فإنها لا تأتي لهم بفائدة. وقد أنحى عليه باللائمة
بعض أهل عصرنا لاشتغاله في هذا العلم وتصديه للتأليف فيه ولا حق له في ذلك ، فقد
ألف واشتغل فيه قبله كثير من علماء الإسلام ، وعلماء الغرب الآن عادوا إلى الاشتغال
فيه بعد إنكارهم
له مدة طويلة ، ولا ندري إلى ماذا يؤديهم البحث. ولا ينافي ذلك لزهده رحمهالله في هذه الدنيا وإعراضه عنها إذا كان القصد من المال
صرفه في سبيل الخير وفي المصالح العامة. نعم ينافي ذلك لو كان القصد به الوصول لحظ
نفساني والتبسط في المآكل والمشارب والمناكح ، وقد علم من حال الشيخ رحمهالله مدة تزيد عن ستين سنة أنه كان بعيدا عن كل ذلك ، وهذه
المدة الطويلة كافية للاختبار والوقوف على حقيقة أحوال الشيخ من التقوى والورع
والزهد ومجاهدة النفس والعزلة عن الناس مما أصبح معروفا مشهورا مستفيضا بين جميع
الناس.
وخلاصة القول
فيه أنه كان عالم هذه الديار وبركة هذا الأقطار ولا بدع إذا قلنا إنه كان لهذه
الأمة في هذا القرن ممن جدد لها أمر دينها ، فقد رأينا الكثير من تلامذته وممن
سمعوا دروسه العامة من العوام على جانب عظيم من الصلاح والتقوى وحسن المعاملة أثرت
في أعماق قلوبهم أنفاسه الطاهرة ومواعظه الحسنة ، فجلت عنها الصدأ أو أزالت عنها
ما غشيها من ظلمة الجهالة ، فاستنارت بنور المعرفة واهتدت إلى الصراط المستقيم.
ولم يزل بين ظهرانينا بقية من هؤلاء الصلحاء إلى اليوم ، والكل مجمعون على أنه لم
يأت بعده مثله في علمه وأحواله رحمهالله تعالى وقدسسره.
١٢٥٤ ـ علي بن سعيد الجابري المتوفى سنة ١٢٩٤
علي أفندي ابن
سعيد أفندي ابن محمد أسعد بن عبد القادر بن مصطفى بن أحمد بن أبي بكر بن أسعد ،
المشهور بالجابري ، أحد وجوه الشهباء وسراتها وأعيانها.
ولد سنة ١٢٤١ ،
ولاحت عليه أمارات النجابة منذ حداثته ، وحبب إليه الفضل وأهله والتحلي بمكارم
الأخلاق ، فكان متواضعا دمث الأخلاق واسع الصدر سمح الكف. أنشأ بستانا كبيرا في
السمت المعروف بسمت باب الله (بابلّا) سمي بستان باب الله ، وصرف عليه مبالغ طائلة
وعمر فيه أبنية وقصورا واتخذه مسكنا له ونزلا وصارت الناس تهرع إليه ، فكان لا يرى
خاليا من الضيوف ، منهم من يتناول الطعام ويعود ، ومنهم من يبيت عنده.
وبعد أن تولى
عدة مناصب في حلب طلب إلى الآستانة ليكون عضوا في مجلس (شورى
الدولة) وذلك سنة ١٢٨٥ ، وصادف بعد وصوله إليها أنه خرج مع بعض رجال الدولة
إلى منتزه على ساحل البحر ، فقال له ذلك الرجل : (أي علي أفندي نصل بوغازي بكند
كزمي) أي : هل استحسنتم هذا الخليج؟ فقال له : (أفندم بوغاز عالمك معده سني أكشتمس)
أي إن هذا الخليج أفسد معدة العالم ، فأخفاها له ذلك الرجل الحسود ، وحكاها للصدر
الأعظم وقتئذ أمين عالي باشا ، فتأثر من ذلك وبلغ المترجم تأثر الصدر منه. ولما
تمم الصدر بناء قصره في محلة (مرجان يوقوشي) عمل وليمة حافلة دعا إليها معظم رجال
الدولة ، وكان المترجم في جملتهم ، فقبل تناول العشاء خطر له بيت فسطره في ورقة
وقدمه للصدر وهو : (بثبني صدر جهاني أيده الله معمور) فسر الصدر به لما فيه من حسن
التورية ، وقبل الورقة ووضعها بين عينيه ، وكان ذلك سببا لزوال ما كان بقلبه عليه
، ولم يزل مقربا منه رفيع المنزلة عنده ، إلى أن توفي الصدر ونال وقتئذ من الرتب
الرتبة الأولى من الصنف الثاني ، وكانت تلك الرتبة قل من ينالها ممن كان خارج مركز
السلطنة ، وقد كان نال قبل ذلك الرتبة الثانية وذلك سنة ١٢٧٥.
وله جدول سماه [سلسلة
الكحائل] في الخيل قدمه للسلطان عبد العزيز فوقع لديه موقع الاستحسان وكوفىء على
ذلك برتبة نيشان المجيدي الثالث.
وبعد أن بقي في
الآستانة مدة معينا في مجلس (شورى الدولة) عاد إلى حلب لمرض ألم به فألزمه الفراش
سنة وستة أشهر ، وكانت وفاته في شهر صفر سنة ألف ومايتين وأربع وتسعين ، ودفن في
تربة الجبيلة قرب قبر جده لأمه الشيخ حسن أفندي المدرس رحمهالله.
١٢٥٥ ـ الشيخ علي القلعجي المتوفى سنة ١٢٩٥
الشيخ علي
القلعجي ، الفقيه الحنفي.
تلقى العلم على
الشيخ مصطفى الريحاوي وغيره من فضلاء عصره ، وكان ممن يشار إليه في الفقه الحنفي ،
وكان يتعاطى البيع والشراء في دكان له في سوق الصابون ، ولم يمنعه ذلك من
الاستفادة والإفادة وكان على جانب عظيم من التقوى والصلاح ولين الجانب وحسن
الأخلاق. وفي أواخر عمره ترك البيع والشراء وعين مدرسا في المدرسة القرناصية بعد
وفاة شيخه الشيخ مصطفى.
ولم يزل مكبا
على الإفادة والتدريس إلى أن توفاه الله سنة ١٢٩٥ ، ودفن في تربة السيد علي
الهزازي.
وممن تلقى عنه
الفقه الحنفي أستاذنا الشيخ محمد أفندي الزرقا ، وكان يكثر من الثناء على علمه
وفضله ودقة نظره ، وحسبه ثناء مثل هذا الأستاذ عليه.
١٢٥٦ ـ الشيخ عبد المعطي النحيف المتوفى سنة ١٢٩٥
الشيخ عبد
المعطي بن عبد القادر البابي أصلا الحلبي موطنا.
ولد سنة ١٢٢١ ،
وتلقى العلم على الشيخ محمد الجذبة مفتي حلب والشيخ مصطفى الريحاوي الفقيه الحنفي
والشيخ أحمد الترمانيني ، قرأ عليه النحو والصرف والحديث والحساب ، وتلقى أيضا على
الشيخ مصطفى الشربجي الآتي ذكره. وبرع في هذين العلمين وصار مشارا إليه فيهما.
وعين مدرسا في
مدرسة الأسدية الجوانية في محلة باب قنسرين ومحدثا في جامع الطواشي داخل باب المقام
وواعظا في جامع الخسروية.
وله من
المؤلفات «شرح نظم الأجرومية» للعمريطي ، و «شرح متن العزي» في الصرف في (٦)
كراريس ، و «شرح متن السخاوية» في علم الحساب وهو في ثلاثة كراريس ، و «شرح اللمع»
في علم الحساب الهوائي وهو في كراستين ، فرغ من تأليفه سنة ١٢٨٦ ، و «شرح السراجية»
في علم الفرائض. رأيت هذه المؤلفات بخطه عند ولده الشيخ عبد الله أفندي.
وما زال في
مدرسته المتقدمة يفيد الطلاب إلى أن توفي في الخامس والعشرين من رمضان سنة ١٢٩٦ ،
ودفن في تربة الكليباتي خارج باب قنسرين ، وخلف ثلاثة أولاد توفق لطلب العلم منهم
ولده الشيخ عبد الله أفندي المتقدم وآلت إليه وظائف أبيه في هذه المدرسة وغيرها ،
وهو مشهور كوالده في علم الفرائض والحساب ، ورمم المدرسة المتقدمة وعمر فيها عدة
حجر ، وفي هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥ بلغ ٧٣ سنة.
١٢٥٧ ـ الشيخ شهيد الدار عزاني المتوفى سنة ١٢٩٨
الشيخ شهيد
الدار عزاني ، نسبة إلى دارة عزة : قرية من قرى حلب في غربيها مشهورة بنسج الخام
المسمى بخام الدرعوزي ، يباع منه في أسواق حلب بكثرة لمتانته.
ولد المترجم
سنة ١٢٣٥ بالقرية المذكورة ، ولما ترعرع أتى إلى حلب فقرأ بها على الشيخ أحمد
الحجار والشيخ عقيل الزويتيني والشيخ أحمد الترمانيني والشيخ هاشم عيسى. وغلب عليه
التفقه في مذهب الإمام الشافعي وفي المعاملات.
وله شرح على
قطر الفاكهي ورسائل متعددة.
واستقام في
دارة عزة إلى أن توفي بها سنة ١٢٩٨.
وله شعر حسن ،
منه ما كتب به من القرية المذكورة إلى ولده الشيخ أحمد بحلب :
يا أيها
الولد العزي
|
|
ز عليك في
الشهبا الإقامه
|
واصبر على
جور الزما
|
|
ن بها ولا
تخشى دوامه
|
ستراه من بعد
الإسا
|
|
ءة مقبلا
يرخي زمامه
|
فالعسر مثل
الضيف أو
|
|
كالطيف لا بل
كالغمامه
|
حذرا تطيع
النفس إن
|
|
في البرّ
حسّنت الإقامه
|
فمتى نظرت
إلى أبيك
|
|
فسل من الله
السلامه
|
هلا اعتبرت
به فقد
|
|
أضحى نديما
للندامه
|
يرنو إلى من
دونه
|
|
فيراه في حلل
الكرامه
|
ويرى حقارة
نفسه
|
|
فيلومها ليت
الملامه
|
ألقى هواه به
إلى
|
|
أهلية الحمر
الضخامه
|
وتكاثرت
أعداؤه
|
|
أزروه إذ تركوا
احتشامه
|
أبدوا له حبا
وفي الأثنا
|
|
لقد خفضوا
مقامه
|
رضعوا له ثدي
الأما
|
|
ني بعد أن
زعموا فطامه
|
فالله يمنحنا
جميل
|
|
اللطف في دار
القيامه
|
١٢٥٨ ـ الشيخ شريف المقري المتوفى سنة ١٢٩٨
الشيخ شريف ابن
الشيخ إبراهيم المحبّك المقري الشهير.
كان في أوائل
عمره يتعاطى صنعة البصم المعروفة [بالبصمجي] ، فخرج يوما إلى ظاهر حلب فرأى رجلا
معه حمار عليه عدل دقيق ، فوقع العدل ، فاستنجد بالمترجم وسأله معاونته في تحميل
العدل ، فلبى طلبه ، وفي أثناء تحميله وقع العدل على رجله اليسرى فانكسرت من
الركبة وتعطلت بتاتا ، فقطعت وصار بسببها أعرج ، فاتخذ له حجرة في الجامع الكبير ،
فأشار عليه الأستاذ الترمانيني أن يلازم المقرىء الشهير الشيخ سعيد الركبي ويتعلم
القرآن العظيم غيبا ويتلقاه عنه ، فامتثل أمره ولازم الشيخ سعيد في دار القرآن
العشائرية في الجامع ، وفي مدة وجيزة أتقن القرآن العظيم حفظا من رواية حفص.
حدثني تلميذه
الحافظ الشيخ محمد بيازيد شيخ دار الحفظة الآن عن شيخه المترجم قال :
كنت يوما هناك
، فإذا بالشيخ أحمد الترمانيني قد فتح باب المكتب وقال : يا شيخ شريف ، قد خرج لك
الإذن في إقراء القرآن وتعليمه. وأمره أن يفتح مكتبا على حدة ، وأمر الشيخ عقيل
الزويتيني أن يضع ولده الشيخ أحمد الذي صار مفتيا في حلب ، فكان أول من قعد عنده
وأول من حفظ القرآن عليه. ولما تصدى للتعليم هرع الناس للتعلم عنده في المسجد
الكائن في سوق الحرير أمام الخان المعروف بخان البنادقة وأقبلوا عليه إقبالا عظيما لما كان عليه رحمهالله من الصلاح والتقوى والنصح في التعليم ، ولا يمكن أن
يحصى عدد الذين تعلموا عنده القرآن تلاوة في المصحف وعن ظهر قلب ، ومئآت ممن
أدركنا من أهالي الشهباء يقولون كان تعلّمنا عنده ، ولم يزل منهم عدد ليس بقليل في
قيد الحياة من حفظة وغيرهم ، والكل مجمعون على الثناء عليه وعلى صلاحه وورعه
وتقواه وصفاء سريرته. وكان لا يمل من القراءة ويقرأ في كل يوم ختمة مواظبا على
قيام
__________________
الليل وقراءة القرآن فيه والتهجد. وللناس فيه اعتقاد عظيم ، وكان كثير من
المرضى يستشفون بقراءته لهم فيشفون بإذن الله تعالى ، وظهر منه كرامات يتحدث الناس
بها في مجالسهم إلى يومنا هذا.
وكانت وفاته
سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين رحمهالله تعالى.
وحدثني تلميذه
الحافظ المتقدم الذكر أن الشيخ شريف رحمهالله كان كثير البكاء من خشية الله ، حتى إنه أثّر ذلك في
سجادته التي يصلي عليها ، وكان أثر ذلك ظاهرا عليها. قال : وعدته في مرض موته
فحدثني أنه رأى كأن القيامة قد قامت وأخذ للحساب فقعد هناك وقرأ عشرا من القرآن ،
قال : فلما انتهيت من القراءة أخذت إلى ذات اليمين.
قال : وكان
مربوع القامة أسمر اللون ، يلف على رأسه الزنانير الهندية على نسق كثير من أهل
العلم في ذلك العصر. وعمر ٦٣ سنة. وكان عمر لنفسه قبرا في تربة الشعلة ، ثم بدا له
أن يدفن في تربة الكليباتي عند أقاربه فقال للتربي : بع القبر لمن شئت فإني قد بدا
لي ما هو كذا وكذا ، قال : فرأى الشيخ قاسم الخاني المدفون في هذه التربة فقال : يا
فلان ، رضيناك جارا لنا وأنت تعرض عنا ، فعاد حينئذ إلى وصيته الأولى ، ولما توفي
دفن بالقرب منه.
١٢٥٩ ـ الأديب رزق الله حسّون المتوفى سنة ١٢٩٨
رزق الله بن نعمة
الله حسّون.
ولد في حلب سنة
١٨٢٥ (١٢٤١ ه) وتوفي في لندن سنة ١٨٨٠ (١٢٩٨ ه).
كاتب تصرف في
الشعر والإنشاء كما يتصرف بالعبيد الأمراء. أطال وأوجز ، واختصر وأعجز. شن على
الحكومة التركية بقلمه غارة شعواء ، وقضى بعيدا عن بلاده وفي نفسه منها أشياء. درس
في مدرسة دير بزمّار بلبنان ، ثم قصد القسطنطينية واتصل بفؤاد باشا الوزير المشهور
، إلى أن جاء هذا سوريا سنة ١٨٦٠ في الخطب المعروف بحادثة الشام ، فاصطحبه وقلده
ترجمة أوامره فيها إلى العربية ، ثم عاد معه إلى القسطنطينية فقلده نظارة مكس
الدخان (التبغ) فاتهم بنقص فاحش في مال خزينتها ووشي به ، فسجن ثم هرب
من السجن. وبعد أن قصد كثيرا من البلاد ألقى عصا الترحال في مدينة لندن.
وكان متبحرا في
العربية وسائر فنونها ، مطلعا على أخبار العرب ، راويا لأشعارها ، لا يرضيه غير
شعر جاهليتها. وكان يجيز لنفسه ما ورد في شعرها من الزحافات والسنادات وسائر عيوب
الشعر التي جمعها
الخليل
وتحاماها الشعراء من بعده. وله شعر كثير فيه شيء وافر من ذلك ، وقد طبع منه «أشعر
الشعر» وهو ستة أسفار من التوراة نظمها وأحسن في بعضها كل الإحسان ، وله رسالة
سماها «النفثات» عرّبها نظما ونثرا عن كريكوف شاعر الصقالبة ، وهي حكم مروية على
ألسن الطير والبهائم شبيهة بكليلة ودمنة ، وفي بعضها من حسن السبك والانسجام ما
جرى على ألسنة قرائها في العربية مجرى الأمثال ، كقوله في ختام القصيدة المعنونة
بشركة الأربعة المتفقة :
أنّى اشتهيتم
فكونوا الجالسين فما
|
|
على يديكم
تأتّت نغمة الطرب
|
ومن نظمه يتشوق
إلى ولده ألبير في جزيرة الأمراء بالقسطنطينية :
نفحات الشمال
حيّ الجزيره
|
|
حي ألبير
واستزيدي سروره
|
راح يمرح في
الرياض وطورا
|
|
كغزال البقاع
يبدي نفوره
|
شبهه ليس في
بني الناس لكن
|
|
في الملائك
صورة وسريره
|
نزّل الحسن
والبهاء عليه
|
|
خالق الحسن
آية مشهوره
|
قد تخيلته
بفكري وقلبي
|
|
نازع يجتلي
على البعد نوره
|
حجّبوني في
حجرة وحموا عن
|
|
مقلتي أن
يزورني أو أزوره
|
يا صبيا على
حداثة سن
|
|
يكتم السر لا
يزيح ستوره
|
أرقد الليل
فوق صدري عن عك
|
|
س الضياء على
محياك صوره
|
ما تأملتها
بكيت التياعا
|
|
ضارعا أن
تراك عيني قريره
|
وله أيضا من
السجن يستعطف فؤاد باشا :
فؤاد يا ذا
الملك عطفا على
|
|
غرسك يذوي في
شقا محنته
|
__________________
إن لم تغث
عبدك من ذا الذي
|
|
يحميه أو
ينجيه من نكبته
|
ومنها :
ارحم عبيدا
لك واستبقه
|
|
للولد
المحبوب من مهجته
|
فو الذي حقق
ظني بما
|
|
أرجو من
الإنصاف أو رحمته
|
أمسيت في
الحبس كفرخ القطا
|
|
من كرب الحزن
ومن شدته
|
وكان أشعر ما
يكون إذا تعرض للهجاء ، وكان بصيرا بنقد أغلاط سواه كما ظهر مما كتبه في الرد على
العلامة أحمد فارس وسواه. على أنه مع رسوخ قدمه في معرفة اللغة وشواردها وآدابها
ووقوفه على كثير من نوادر كتبها في العلم والشعر ونسخه كثيرا منها من جوامع
القسطنطينية ومكاتب أوربا قد بدرت من قلمه في الشعر والنثر هفوات كثيرة كقوله في
جمع المغارة مغائر بدل مغاور ، وكقوله الشجار على لغة الجرائد بدل الشجر أو
التشاجر ، والشجار لا يؤدي معناهما ، وكقوله خصم الحساب بمعنى قطع الحساب ، ولعل
لفظ حسم أقرب إلى المعنى وهي عامية. وكل ذلك عجيب وقوعه من قلمه مع رسوخه في علم
اللغة كما ذكرنا .
ثم لما امتدت
به النكبة ألقى عصا الترحال في بلد لندن. وأكثر ما وصل إلينا من شعره ونثره كان
مما كتبه فيه. وكأنه لما يئس من العود إلى بلاده أعاد نشر جريدته «مرآة الأحوال»
وكان نشرها في القسطنطينية مدة ، وكان يكتبها في لندن بخطه الحسن ويطبعها على ورق
صقيل رقيق جدا. ثم يبعث بها في البريد في غلف مختومة إلى أطراف الأرض ، وفيها من
الفصول الشائقة ومقالات الانتقاد على سياسة الحكومة العثمانية يومئذ والتنديد
برجالها والتشنيع على جور عمالها وطرق ارتكابهم في مظالمهم (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ
خَلْقَهُ) ما أيقظ الجفون وحرك السكون ، ولم ينشرها حتى أدركته
المنون.
ومما يروى له
هذان البيتان :
قدر الله أن
أموت غريبا
|
|
في بلاد أساق
كرها إليها
|
__________________
وبقلبي
مخبّآت معان
|
|
نزلت آية
الحجاب عليها
|
وقال لي بعض
الأدباء : إنه رآهما في كتاب من كتب الأدب لشاعر قديم ، فإن صح أنهما للمترجم
فعندي أنهما بكل شعره . ا ه (مجلة الشعلة بقلم قسطاكي بك الحمصي).
أقول : وممن
نسب هذين البيتين إلى رزق الله حسون وجزم بذلك الخوري فسقفوس جرجس منش في مقالته
المنشورة في هذا العدد من المجلة بعنوان «حب الوطن» ، والأديب البحاثة عيسى إسكندر
المعلوف في ترجمته المطولة المنشورة في المقتطف (مجلد ٣٦ صفحة ٢٢٩) والتي نقلها
جرجي زيدان في تاريخه «مشاهير الشرق» ، والخوري فسقفوس جرجس شلحت في مجلة الورقاء
الحلبية (سنة ١ ص ١٠١) ، والفيكونت فليب دي طرازي في تاريخ الصحافة العربية (مجلد
١ ص ١٠٩) ، والأديب شكري كنيدر في جريدة التقدم الحلبية. والبيتان ليسا له بل هما
قديمان لم نقف على ناظمهما إلى الآن ، إنما شطرهما الأديب عمر اللبقي الحلبي أحد
رجال تاريخ المرادي المتوفى سنة ١١٨٩ ه كما تقدم في ترجمته وقد قال :
قدر الله أن
أكون غريبا
|
|
بين قوم
أغدوا مضاعا لديها
|
ورمتني
الأقدار بعد دمشق
|
|
في بلاد أساق
كرها إليها
|
وبقلبي
مخدرات معان
|
|
حين تبدو
تختال عجبا وتيها
|
صرت إن رمت
كشفها فأراها
|
|
نزلت آية
الحجاب عليها
|
ورزق الله حسون
كانت وفاته سنة ١٢٩٨ ه و ١٨٨٠ م ، فبين وفاته ووفاة الفاضل اللبقي مائة وتسعة
أعوام ، فتحقق من هذا أن المترجم كان يكثر من إنشادهما فظنهما بعض من سمعهما منه
أنهما له ، والحقيقة ما قلناه ، وقد نشرت هذا التحقيق في مجلة الشعلة المتقدمة في
العدد الثالث من السنة الثانية.
ولرزق الله
حسّون في «مشاهير الشرق» لجرجي زيدان ترجمة حافلة نقلها عن مجلة المقتطف (ج ٣٦ ص
٢٢٩) وهي بقلم الأديب البحاثة عيسى إسكندر المعلوف أحد
__________________
أعضاء المجمع العلمي في دمشق وصاحب مجلة الآثار نقتطف منها ما يأتي ، قال :
نشأت أسرة
حسّون الأرمنية في بلاد العجم ، وقيل في ديار بكر ، فجاء جدها الأعلى وسكن حلب
وولد أولادا تفرقوا في البلاد ، وبقي أحد أولاده في حلب ولد له بها المترجم.
وتعلم مبادىء
القراءة وأتقن الخط على الشيخ سعيد الأسود الحلبي الشهير بجودة خطه وما ترعرع حتى
انتقل إلى دير بزمّار [في لبنان]. ولما أتم دروسه فيه عاد إلى مسقط رأسه حلب. وكان
يمارس التجارة لأن والده كان غنيا. وكثيرا ما كان يختلف إلى دار قنصلية النمسا في
حلب حيث كان والده ترجمانا فيها فيتمرن على أعمال الترجمة في القنصلية.
ثم ذهب إلى
أوربا وطاف في لندن وباريس ، وجاء مصر واستنسخ كتبا كثيرة لأنه كان ولوعا
بالمطالعة كثير الميل إلى صناعة الخط الذي عرف بيتهم بها كما أشار إلى ذلك بقوله
من قصيدة :
لا خاملا لا
دنّيا منشئي حلب
|
|
فسل وهاك
بفضلي يشهد القلم
|
ثم عاد إلى
الآستانة وتقرب من رجالها ونال منزلة عندهم.
ولما انتشبت
حرب القرم بين روسيا والدولة العلية وتداخلت فيها الدول أنشأ المترجم جريدة (مرآة
الأحوال) في دار السعادة ، فكانت أول جريدة عربية فيها ، وكان يصف فيها حرب القرم
ومواقعها. وأصدر مجلة عربية عنوانها (رجوم وغسّاق إلى فارس الشدياق) نشر منها
عددين في لندن ردّ فيهما على أحمد فارس الشدياق صاحب (الجوائب) على أثر ما حدث
بينهما من الخصام الشديد. ثم عطل مرآة الأحوال ونشر مجلة عربية طبعت في لندن سنة
١٨٧٩ كانت تصدر كل خمسة عشر يوما مرة عنوانها (حل المسألتين الشرقية والمصرية) وهي
أول مجلة عربية شعرية لأنها كانت قصائد تبحث في هذه المواضيع ، فاجتمع منها مجلد
بقطع ربع في أكثر من ثلاث مائة صحيفة.
ثم انقطع بعد
ذلك إلى النسخ والاشتغال بتصحيح حروف الطباعة العربية في أوربا ومساعدة كثير من
المستشرقين حتى بلغ ما استنسخه من نفائس الكتب أكثر من عشرين ، أهمها ديوان الأخطل
وديوان ذي الرمة ونقائض جرير والفرزدق وصبح الأعشى في صناعة
__________________
الإنشا للقلقشندي والمتمم لابن درستويه والأناجيل المقدسة ترجمة أبي الغيث
الدبسي الحلبي وديوان حاتم الطائي ، وهذا طبعه ، ولا تزال بعض مخطوطاته في مكاتب
روسيا وفرنسا وإنكلترا حيث كان يتردد بين هذه الممالك. وجاء حلب قبل وفاته بسبع
سنوات متنكرا فتفقد مكاتبها واستنسخ منها بعض الآثار النادرة ثم عاد إلى إنكلترة التي اتخذ معظم سكناه فيها.
وأهم ما وصلت
إليه يد البحث من مؤلفاته ومطبوعاته هو :
[١] «النفثات» ، وهو قسمان : أولهما في تعريب قصص كريكوف شاعر
الصقالبة التي وضعها على طريقة بيدبا الهندي في كليلة ودمنة ولافونتين الفرنسي في
خرافاته ، عربها نظما في ٤١ قصة تقع في ٦٩ صفحة ، وألحق بها نخبة من منظوماته
وبينها قطعة عرض فيها بالشيخ أحمد فارس الشدياق ، حتى إن الشدياق لما انتهت إليه
قال فيها عبارته الشهيرة : (كان حسون لصا وله سرقات فأصبح صلا وله النفثات).
[٢] «أشعر
الشعر» وهو نظم سفر أيوب الصديق ، وهو مطبوع في المطبعة الأميركية ببيروت سنة ١٨٧٠
، وفي أشعر الشعر من الركاكة والجوازات الشعرية ما يدل على اضطراب بال المؤلف حين
نظمه وسرعة إعداد بعض الأسفار الأخرى ، فلم تمسه يد النقد ولا جال فيه خاطر
التهذيب.
[٣] «السيرة
السيدية» وهو عبارة عن مزج الأناجيل الأربعة المعروفة بالبشائر ، طبع في مطبعة
الأمير كان في بيروت في ١٩٠ صحيفة.
[٤] رسالة
مختصرة في الطباعة العربية والاقتصاد فيها ماديا ووقتا ، وقد وجدت منها نسخة بخطه
الجميل في مكتبة أسقفية الأرثوذكس بحلب فاستنسختها سأنشرها قريبا لفوائدها.
[٥] ديوان حاتم
الطائي المشهور بكرمه ، استنسخه عن نسخة قديمة وطبعه في لندن سنة ١٨٧٢ في ٣٣ صفحة.
__________________
[٦] كتاب «المشمرات»
طبع في (سانباولو) من أعمال البرازيل ، وسعت بطبعه إدارة جريدة المنظر منذ بضع
سنوات.
[٧] «حسر
اللثام» وهو كتاب جدلي تم تأليفه سنة ١٨٥٩ ، ولا أظنه طبع.
وذكر المترجم
كثيرون من المستشرقين وآخرهم ثناء عليه المسيو كليمان هوار الفرنسي في كتابه تاريخ
آداب اللغة العربية. ا ه ما اقتطفناه من ترجمته من مشاهير الشرق.
١٢٦٠ ـ الشيخ عبد القادر الحبّال المتوفى سنة ١٣٠٠
الشيخ عبد
القادر بن عمر بن صالح الحبّال الزيبري نسبا الحنفي مذهبا ، الفقيه الصوفي ، أحد
علماء الشهباء وفقهائها المشار إليهم.
ولد رحمهالله سنة ١٢٣٧ ، وأكثر من الأخذ على علماء عصره خصوصا الشيخ
أحمد الحجار الشهير ، فإنه لازمه مدة طويلة واستفاد منه علما جما. ثم تصدر للتدريس
فكان ممن تلقى عنه الشيخ كامل الهبرواي والشيخ أحمد المكتبي والشيخ بكّور الريحاوي
والشيخ عبد الرحمن الجليلاتي وغيرهم ، وأكثرهم أخذا عنه شيخنا الشيخ أحمد المكتبي.
وأجازه في دمشق
الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ محمد الكزبري ، ومن مصر الشيخ إبراهيم السقا المصري ،
رأيت إجازته له وهي موقعة بخطه وختمه ومحررة سنة ١٢٩٧.
وأخذ الطريقة
القادرية عن الشيخ إبراهيم الهلالي المتوفى سنة ١٢٨٨ ولازمه في زاوية بني الهلالي
الكائنة في محلة الجلّوم.
وألف عدة
مؤلفات ، منها شرح الأوراد الخمسة القادرية سماه «الفوائد المرضية» ، و «رياض
الرائض» شرح نظم مقدمة الفرائض والنظم له ، ونظم تنوير الأبصار في الفقه الحنفي
سماه «نتيجة الأفكار نظم تنوير الأبصار» وشرحه. وقد رأيت هذه المؤلفات الثلاثة
بخطه عند حفيده. إلا أن نظمه في منتهى الركاكة ، وربما خرج في بعض الأبيات عن
الوزن ، وذلك لأنه لم يكن ممن عانى صناعة النظم والنثر وهي لا تنقاد لمن لم يرزق
جودة القريحة إلا بعد كثرة التمرين والممارسة. وأما علم المترجم وفقهه فهو مما لا
ريب فيه كما حدثني بذلك غير واحد من معاصريه وعارفيه ، لكنه أضاعه في هذا النظم.
وعيّن مدة
طويلة قيّما على المكتبة الأحمدية ، وأظنه بقي في هذه الوظيفة إلى أن أدركته
المنية.
وكانت وفاته في
السابع والعشرين من شعبان سنة ألف وثلاثماية ، ودفن في تربة الكليباتي خارج محلة
باب قنسرين بالقرب من قبر شيخه الشيخ أحمد الحجار في الجهة الغربية من التربة
بينهما أذرع قليلة ، رحمهالله تعالى.
١٢٦١ ـ علي باشا شريّف المتوفى سنة ١٣٠٠
علي باشا ابن سعيد
أفندي ابن نعمان بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب الشهير بشريّف ، أحد أعيان الشهباء
ووجوهها وصدر من صدورها ومن بيت قديم فيها.
خلف والده خمسة
أولاد : علي باشا هذا وأحمد بك ومصطفى بك وعبد الله بك وأمين بك ، وكان المترجم
أكبرهم وأنجبهم ، ظهرت عليه مخايل النجابة والبراعة في حداثة سنه وعنفوان شبابه ،
ودخل السلك العسكري وصار كتخدا عند المشير عمر باشا السردار الأكرم. ولما نشبت
الحرب بين الدولة العثمانية والدولة الروسية سنة ١٢٧٠ كان المترجم في جملة من حضر
هذه الحرب التي كان النصر فيها حليف الدولة العثمانية ، وأبلى المترجم فيها بلاء
حسنا ، وحينما عزم على التوجه لحضور هذه الحرب مع الجند الذي كان معه امتدحه الشيخ
أبو النور أفندي الكيالي الإدلبي بقصيدة طويلة قال في أولها :
خطرت بقوام
كالسمهر
|
|
هيفا
بلواحظها تسحر
|
فتنت بجمال
مشرقه ال
|
|
وضاح حكى
نجما أزهر
|
سلبت لب العشاق
بكو
|
|
كب مطلعها
الزاهي الأبهر
|
وقسيّ
حواجبها اللاتي
|
|
بغنى دعج
المقل الأحور
|
وسواد الطرة
أقلقني
|
|
بصباح الغرة
كم أسهر
|
تغزو العشاق
بذي حور
|
|
يصمي الأحشاء
ولا يظهر
|
ورحيق الثغر
مراشفه
|
|
ما الند وما
المسك الأزفر
|
لاحت كالبدر
بليل الشع
|
|
ر وسقم الخصر
فكم مرمر
|
وضياء النحر
بعقد الدر
|
|
هلال الصدر
حكى مرمر
|
صدت أسماء
بلا سبب
|
|
هجرت ناديت
لما أهجر
|
أو ما شاهدت
مدامعه
|
|
كخطوط الماهر
إن سطّر
|
إني بصبابة
قيس يا
|
|
ليلى ومحياك
الأنور
|
ما همت بغيرك
لا وفتى
|
|
ليث الهيجا
بطل قسور
|
العالي المجد
عليّ الجد
|
|
عظيم السعد
حلا مظهر
|
نجم قد لاح
برتبته
|
|
فلك الجدوى
قمرا أبدر
|
أسد شهدت
بفتوته
|
|
أن قال أنا
ألسر عسكر
|
بعزائمه قوّى
قلبا
|
|
من ذي جبن
وله صبّر
|
وغدا تلقاه
أمام النا
|
|
س يغير بعزم
لا يحسر
|
وعلى زمر
الأعدا يسطو
|
|
بنجيب كالطود
الأعفر
|
شوقا يهتز
الرمح له
|
|
والترس
بصاحبه الأبتر
|
وإذا الوطساء
علت لهبا
|
|
وتقاعس
فسطلها الأغور
|
فعليّ يبدو
حينئذ
|
|
بكعوب
للأعداء تنحر
|
ثم قال :
وشريف الأصل
شريف ال
|
|
جد شريف
الاسم علي حيدر
|
إن جاء على متن
الدهما
|
|
قال الرائي
هذا عنتر
|
أو قام لبذل
المال ترى
|
|
بأنامله مزنا
يحدر
|
كتب الرحمن
براحته
|
|
إنا أعطيناك
الكوثر
|
ما خاب مؤمله
كلّا
|
|
بل آب بنيل
لا يحصر
|
ثم قال في
ختامها :
__________________
نجل الكيال
أتى يهدي
|
|
غرر التمداح
كما العنبر
|
خذها يا ذا
المفضال ولا
|
|
تنظر للناظم
إن قصر
|
فيها بشرى
بالنصر لكم
|
|
والمدح مع
السعد الأكبر
|
وعلي يسمو
أرّخ جاها
|
|
وعساكرنا
بعلي تنصر
|
١٠ ـ ٤٠٨ ـ ١١٢ ـ ٧٤٠
١٢٧٠
ولما وضعت
الحرب أوزارها عين متصرفا إلى البصرة سنة ١٢٧٥ ، ثم أورفة ، ثم صنجق بيازيد من
أعمال ولاية أرزن الروم ، ثم أرزنجان ، ومنها عين إلى اليمن لما شقت عصا الطاعة
على الدولة العثمانية في جهات عسير وحاولت إزالة سلطتها عنها ، وكان مع المترجم
ألفا جندي ، فحارب بها تلك القبائل الثائرة وحاصر الحديدة مدة ، ودامت هذه الحرب
نحو ثمانية أشهر ، وقتل من الثائرين عددا غير قليل ، وفي آخر الأمر انقادوا إلى
الطاعة وخمدت نيران تلك الفتن ، وكان ذلك في سنة ١٢٨٥ ، ثم عين متصرفا في بني غازي
من أعمال ولاية طرابلس الغرب ، ثم إلى الدير ، ثم إلى كربلا ، وتوفي وهو متوجه
إليها في رمضان من سنة ١٣٠٠ ودفن في عانة في زاوية بني الراوي رحمهالله تعالى.
١٢٦٢ ـ الشيخ أحمد الكواكبي المتوفى سنة ١٣٠٠
الشيخ أحمد
بهائي بن محمد مسعود ابن الحاج عبد الرحمن بن محمد بن محمد ابن الشيخ عبد الرحمن
بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد الشيخ أبي يحيى الكواكبي.
ولد سنة خمس
وأربعين ومائتين وألف ، وتلقى العلوم النقلية والعقلية على أشياخ عصره في الشهباء
، منهم الشيخ شريف الرزاز ، والشيخ عثمان الكردي المدرس في المدرسة العثمانية ،
والشيخ حسين البالي الذي قدم من غزة واشتهر بالغزي.
وأخذ الطريقة
الشاذلية عن الشيخ بكري البلباني. وكان شديد الصحبة للشيخ أبي بكر الهلالي ، يمضي
معظم أوقات فراغه معه في الزاوية الهلالية.
وأقرأ في
المدرسة الكواكبية والمدرسة الشرفية وفي الجامع الأموي منذ وجهت إليه جهة التدريس
فيه ، وذلك سنة ثلاث وثمانين ومائتين. واشتهر بعلم الفرائض وتحرير الصكوك ،
واشتغل بأمانة الفتوى مدة ، وعين عضوا في مجلس إدارة الولاية.
وكان ربعة أسمر
اللون نحيف الجسم أسود العينين وخطه الشيب في أواخر عمره ، وكان رقيق الحاشية ظريف
المحاضرة لا يمل منه جليسه ، حسن الخلق جدا ، وربما أوقفه ذو سؤال زمنا غير يسير
وهو يستمع له ولا ينصرف حتى يكون السائل هو المنصرف.
وكان وقورا
مهابا قنوعا متصلبا في دينه وقافا عند الحق.
وكان يعرف
اللغة التركية إذ كان يندر من يعرفها بحلب خصوصا من العلماء. وحدث مرة أن انحلت
نيابة القضاء في حلب وتأخر قدوم النائب ، فأراد الوالي إذ ذاك أن لا تتراكم
الأشغال في المحكمة الشرعية ، فكلف رئيس الكتاب أن يتولى القضاء وكالة ، فقال له :
لا يجوز توكيل
الوالي ولا ينفذ قضاء من يوكله ، فقال له : أنا وكيل الخليفة فلي أن أوكل ، فأبى
عليه القبول ، فتكدر منه وأخرجه من عنده. ثم إنه أراد تنفيذ مقصده فكلف المترجم
إلى الوكالة ، فأجابه إلى ذلك ، فسر جدا وكتب له في الحال منشورا بتوكيله إياه في
القضاء ، فذهب إلى المحكمة الشرعية وصار الناس يتطلعون إلى صنيعه كيف يوفق بين أمر
الوالي والحكم الشرعي ، فكان يسمع للخصمين ويضبط مقالهما ثم يشير عليهما بالصلح
ويريهما أحسن وجه للاتفاق ، ولا يزال يعظهما بالموعظة الحسنة حتى يتصالحا فيكتب
بينهما صكا وقد حصل المطلوب من للقضاء. وإذا أتى عليه خصمان عن المصالحة قال لهما
: أتحكمانني بينكما؟ فيحكمانه ، فيكتب صكا بتحكيمهما ثم يحكم بينهما ويؤخر تسليم
صك الحكم إلى حضور النائب ، ثم لما حضر النائب أمضى كل ما تم من قبل المترجم وختم
صكوكه. وقد اكتسب شهرة عظيمة بهذا الصنيع فكان من بعد ذلك وقفا على الإصلاح بين
الناس ، وربما حضر مجلسا لإصلاح بين خصمين فوجد الخصم الذي دعاه غير محق ، فكان لا
يألو جهدا في نصحه وإرجاعه إلى طريق الحق ، وإنما كان موفقا في ذلك لأنه إنما كان
يقصد وجه الله تعالى.
وكان متوليا
على جامع جده أبي يحيى وخطيبا وإماما فيه.
وكانت وفاته في
الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة ثلاثمائة وألف ، ودفن في جامع جده المتقدم رحمهالله تعالى ، وخلف ولدين أحدهما السيد الشيخ عبد الرحمن
أفندي المشهور
صاحب «أم القرى» و «طبائع الاستبداد» المتوفى سنة ١٣٢٠ وستأتي ترجمته ،
والثاني صديقنا الفاضل الأديب السيد الشيخ مسعود أفندي من أعضاء مجلس النواب
العثماني سابقا والعضو في مجلس التمييز في دمشق الآن.
أعيان القرن الرابع عشر
١٢٦٣ ـ الشيخ مصطفى الشربجي الفرضي المتوفى سنة ١٣٠١
الشيخ مصطفى بن
محمد الشربجي (بضم الشين وسكون الراء وفتح الباء).
وكان رحمهالله من العلماء العاملين والصلحاء المشهورين ، وله اليد
الطولى في علم الفرائض ، وانتهت إليه الرياسة فيه وتلقاه عنه الكثير. وكان وقورا
محتشما مهابا مقبولا لدى الخاص والعام قانعا من دنياه بما تيسر.
حدثني تلميذه
الشيخ أحمد بن محمد ابن الشيخ بكري المعروف بالمرحوم قال : خدمته اثنتين وثلاثين
سنة فما رأيته قال لأحد : أعطني وظيفة كذا ، بل كان متى دعي إلى تقسيم تركة أو
حضور مبايعة يتوجه وما يعطى له يأخذه ويضعه في جيبه ، قليلا كان أو كثيرا.
وبقي قريبا من
ستين سنة يقرأ علم الفرائض في بيته ، وكان يقرأ من الظهر إلى العصر.
وكان سكناه في
محلات الجديدة ، وكان الكثير من الناس إذا حصل فيما بينهم نزاع وخلاف يتحاكمون
إليه ويرجعون إلى قوله ، حتى مسيحيو حلب ، فقد كانوا يتركون المحاكم ويترافعون
إليه لعلمهم أنه كان وقّافا عند الحق ولا تأخذه فيه لومة لائم.
ولم يزل على
حاله إلى أن توفاه الله يوم الثلاثاء في الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة سنة إحدى
وثلاثمائة وألف عن مائة عام أو تنقص قليلا ، فيكون قد استغرق القرن الماضي بتمامه.
وكانت جنازته مشهودة حضرها الوالي وقتئذ جميل باشا ، وكان كثير المحبة والزيارة له
، وأمر أن يحضر جنازته تلامذة المدارس جميعها اعتناء بشأنه واعترافا بفضله ومقامه
، وكنت وقتئذ في جملة من شهد جنازته مع تلامذة مكتب الزينبية الكائن في محلة
الفرافرة وعمري ثماني سنين ، وكنت في ذلك الحين أجوّد القرآن وأتلقى الخط ومبادىء
الحساب فيه عند الشيخ محمود المرتيني ، ودفن في مقبرة السيد علي ، وأسف الناس
لموته أسفا عظيما ، رحمهالله تعالى.
١٢٦٤ ـ الشيخ محمد شهيد الترمانيني المتوفى سنة ١٣٠١
الشيخ محمد
شهيد ابن الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ عبد العزيز أيضا ابن الشيخ عبد السلام ابن
الشيخ محمد ابن الشيخ عبّود بن أحمد بن نعمة ابن الشيخ عيسى ، دفين قرية الطرينة
من أعمال ريحا.
ولد سنة ألف
ومايتين وسبع وثلاثين بقرية ترمانين ، وقدم لحلب فتوطنها في محلة قلعة الشريف وهو
ابن عشر سنين ، وشرع في طلب العلم ، فتلقاه عن الشيخ أحمد الترمانيني والشيخ أحمد
الحجار والشيخ عمر شيخه زاده. وأخذ علم الحديث عن الشيخ عبد القادر الحبّال والشيخ
عمر الأبزماوي.
ولما برع وظهر
فضله وعلمه عين مدرسا في الشعبانية والسيافية وجامع الحدادين وجامع التوبة والجامع
الكبير ، وصار إماما في جامع عبيس.
وكان على جانب
عظيم من الصلاح والتقوى ، وجاور في مدرسة الشعبانية مدة طويلة. وكان مؤثرا
للانزواء فيها قليل الاختلاط بالناس ، دعي لأن يكون رئيسا للكتاب في المحكمة
الشرعية فأجاب بعد إلحاح عظيم ، ولم يبق إلا أياما قلائل واستعفى وقال : إن هذه
الوظيفة لا تصلح لي. ولم يزل مكتفيا بما يحصل له من الراتب القليل في الوظائف
المتقدمة.
ولم يزل على
حاله وزهده وورعه ونشر ما عنده من العلم إلى أن توفاه الله سنة إحدى وثلاثمائة
وألف عن خمسة وستين عاما ، ودفن في تربة الكليباتي خارج باب قنسرين رحمهالله تعالى.
وممن تلقى عنه
العلم من الذين فضلوا بعده الشيخ محمد الكلاوي والشيخ بكري العنداني والشيخ محمود
الريحاوي والشيخ مصطفى أسعد والشيخ عبد الرحمن الجليلاتي والشيخ عبد الله الأتاربي
والشيخ أحمد البدوي الجميلي والشيخ حمادة البيانوني والشيخ حسن الكيالي والشيخ
مصطفى الدار عزاني الهلالي وشيخنا بالإجازة الشيخ كامل الهبراوي ، وهو الباقي في
قيد الحياة من هؤلاء في هذه السنة (أي سنة ١٣٤٥) وقد بلغت سنه الثمانين حفظه الله
تعالى.
١٢٦٥ ـ محمد سعد الدين أفندي الجابري المتوفى سنة ١٣٠٢
محمد سعد الدين
أفندي ابن سعيد بن محمد بن أسعد أفندي الجابري ، أحد وجهاء الشهباء وسراتها.
ولد رحمهالله سنة ١٢٤٨ ، ووالدته بنت الشيخ حسن أفندي المدرس المتوفى
سنة ١٢٥٠.
نشأ نشأة حسنة
وحبب إليه من صغره طلب العلم ، فحصل طرفا صالحا منه. وكانت قراءته على الشيخ حسين
الغزي والشيخ عبد القادر سلطان والشيخ صالح المرتيني وغيرهم ، قرأ على هؤلاء
العلوم العربية والفقهية. وكان يكثر المطالعة في كتب التاريخ ، ورزق قوة الحافظة
فكان يحاضر في مجالسه في كثير منه. وكان حسن الاعتقاد في أهل الطريق يكثر التردد
إليهم مثل الشيخ محمد اليماني الأهدلي القاطن في الجسر وغيره ، وأخذ عنهم بعض
الأوراد فكان يواظب على تلاوتها.
وتولى عدة
مناصب ، فصار عضوا في مجلس التمييز ومجلس الدعاوي ، وعضوا في مجلس إدارة اللواء ،
وتولى رئاسة المجلس البلدي سنة ١٢٨٨ ، وحاز من الرتب باية أزمير يعني موالي ،
وحمدت سيرته في المناصب التي تولاها لحسن مداراته وسياسته.
وكانت وفاته في
العشرين من شعبان سنة ١٣٠٢ ، ولم يمرض سوى نحو سبع ساعات كان يشكو بها من وجع في
ظهره وصدره ، ودفن بتربة الجبيلة بجانب أخيه علي أفندي بالقرب من قبر جدهما لأمهما
الشيخ حسن أفندي المدرس ، وأعقب ولدين هما جميل أفندي ومحمد سعيد أفندي رحمهالله تعالى.
١٢٦٦ ـ الشيخ محمد راغب الطرابيشي المتوفى سنة ١٣٠٢
الشيخ محمد
راغب الطرابيشي الحلبي ثم البابي ، أحد العلماء الأتقياء والفضلاء الصلحاء.
ولد رحمهالله سنة ١٢٢٦ ، ولما ترعرع أقعده والده في صنعة الفتّال ،
وفي سنة ١٢٤٠ توفي والده فأتى إلى أخيه الشيخ عمر إلى الزاوية الهلالية فقعد عنده
أياما ، فسأله عن سبب
قعوده ، فشكى له صعوبة هذه الصنعة وعجزه عن تعلمها ، فأخذه ووضعه في صنعة
البصمجي (صبغ الشاش بالألوان) عند الحاج محمد الطباخ أخي سيدي الجد الشيخ هاشم ،
فبعد أيام أتى إلى أخيه وشكى له من هذه الصنعة أيضا لما فيها من كثرة الدخان ،
وصادف دخول رمضان فحسّن له شيخ الزاوية الهلالية الشيخ محمد الهلالي رحمهالله أن يتعلم قراءة القرآن وقد ناهزت سنه ١٥ ، فأكب على ذلك
في حينه ، ولم يمض رمضان إلا وقد تعلم بعض أجزاء من القرآن ، وفي قليل من الزمن
أتم تعلمه ، ولما شاهد منه أخوه هذا الذكاء أخذه إلى مدرسة القرناصية ووضعه عند
مدرسها الشيخ محمد الخانطوماني ، فشرع في قراءة مبادي العلوم النحوية والفقهية
عليه ، ثم اتصل بالأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ولازمه عدة سنين وصار يقرأ
له دروسا على انفراده لما شاهده منه من الحرص على التعلم والاستفادة. ولم يزل يدأب
على ذلك حتى نبل وفضل في مدة قليلة لقوة حافظته وسرعة فهمه وحرصه الشديد على
التعلم مع الورع والزهد في الدنيا والإقبال الزائد على العبادة والتلاوة وقراءة
الأوراد وحب العزلة عن الناس.
وفي سنة ١٢٧٧
عين مفتيا للباب وتوطنها إلى أن توفي فيها في جمادى الآخرة سنة ١٣٠٢ ودفن هناك.
وتصدر فيها للوعظ والإرشاد وانتفع به أهلها وتاب على يده الكثير ، وكان لأهلها
وللقرى التي حولها اعتقاد عظيم فيه ، وينسبون له عدة كرامات منها الإخبار عما في
الضمائر لكثير ممن يحضر مجلسه أو دروسه على نسق شيخه الشيخ أحمد الترمانيني ، وأسف
أهل تلك الديار لموته أسفا عظيما ، ولم يزالوا يتذكرون علمه وفضله ويتحدثون
بمناقبه.
وكان رحمهالله من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر لا تأخذه في
الله لومة لائم ، مسموع الكلمة هناك.
وتعلق على صناعة
الشعر ، وله نظم حسن ، ومن شعره :
ما ديننا إلا
اتباع نبينا
|
|
وجميع ما في
ديننا حق حميد
|
ومنه :
قد أذهب
الطبل دنياكم ودينكم
|
|
أهل القرى لو
علمتم ما تلافونا
|
ومنه :
الكلب خير
عند كل الناس
|
|
من تارك
الصلاة غير الناسي
|
ومن شعره بيتان
أرسلهما إلى السيد الوجيه جميل أفندي الجابري يشفع عنده في شخص اسمه أبو طه وهما :
جابري الأصل
أصلا
|
|
يا جميلا كل
جسمك
|
كن بفضل منك
فضلا
|
|
مع أبي طه
كإسمك
|
وله منظومة
حسنة في التوحيد وغير ذلك.
١٢٦٧ ـ الشيخ محمد الرزّاز المتوفى سنة ١٣٠٣
الشيخ محمد ابن
الشيخ شريف ابن الشيخ محمد الفرضي الشهير بالرزّاز ، خطيب الجامع المعروف
بالعادلية.
ولد رحمهالله في شعبان سنة ١٢٤٩ ، ولما بلغ سن التميّيز تعلم القرآن
وحفظه عن ظهر قلب ، ثم أخذ في طلب العلم ، فقرأ على الشيخ مصطفى الأصيل وعلى والده
الشيخ شريف المذكور ، وتلقى القراءات السبع عن الشيخ مسعود المصري الضرير وأجازه
إجازة حافلة ، وحضر دروس الأستاذ الترمانيني مدة طويلة.
وبعد وفاة شيخه
الشيخ مصطفى الأصيل تولى خطابة جامع العادلية وإمامته. وبعد وفاة مدرسه الشيخ هاشم
عيسى تولى التدريس فيه ، وبقي في هذه الوظائف إلى أن توفي. وتولى تدريس القراءات
في المدرسة الأحمدية وتدريس المدرسة الصلاحية التي تعرف الآن (بالبهائية). وتولى
تدريس الحديث في وقف موتياب أحمد باشا الشهير بقبض بك ، وتلقى عنه العلم والقراءات
أخي الشيخ محمد الطباخ ولازمه إلى حين وفاته ، وكان أخي رحمهالله يزور قبره في كل يوم جمعة يكاد لا يفتر عن ذلك لكثرة
محبته له لما كان عليه رحمهالله من دماثة الأخلاق والتواضع ولين الجانب. وممن أخذ العلم
عنه ولداه الشيخ أحمد والشيخ محمد والشيخ محمد درويش فتحي وغيرهم.
وألف مولدا
شريفا نثرا يغلب في عباراته تعبيرات السادة الصوفية ، وقد ضمنه بعض الآيات
القرآنية ، وكثيرا ما سمعناه من ولده الشيخ أحمد.
والخطب التي
كان يخطبها في جامع العادلية بعضها من إنشائه وبعضها من إنشاء شيخه الأصيل. وولده
الشيخ أحمد المذكور يحفظ معظم هذه الخطب ويخطب بها في الجامع المذكور.
وكانت وفاته في
الحادي عشر من جمادى الأولى سنة ألف وثلاثمائة وثلاث ، ودفن في تربة العبارة ، رحمهالله تعالى.
١٢٦٨ ـ الشاعر الأديب أنطوان الصقّال المتوفى سنة ١٣٠٣ (١٨٨٥ م)
أنطوان بن
ميخائيل الصقال ، الشاعر الأديب.
كان على جانب
عظيم من الذكاء والفطنة والنباهة ، مع دماثة أخلاق وحسن معاشرة ورقة طبع نال شهرة
واسعة بين أرباب النظم والنثر وخصوصا لدى الأدباء المسيحيين في حلب ، فكانوا
يعترفون له بالفضل والنبالة والتفوق في العلوم الأدبية.
ترجمه ولده
الشاعر الأديب ميخائيل أفندي (مؤلف «طرائف النديم في تاريخ حلب القديم» وقد ذكرناه
في المقدمة) في كتابه «لطائف السمر في سكان الزهرة والقمر» وهو مطبوع فقال :
ولد والدي في
اليوم الثالث من شهر آذار سنة ١٨٢٤ ، وكان يعرف من اللغات العربية والسريانية
والإنكليزية والتركية معرفة تامة تكلما وكتابة ، ويعرف كثيرا من العلوم والفنون
العصرية ، ألقيت إليه من مدارس مالطا ومن عين ورقة بلبنان ومن حلب.
وكان ناثرا
محسنا وبارعا فصيحا قوي الحجة مسموع الكلمة صادق الرواية رزين المجلس. وكان شاعرا
مجيدا له ديوان شعر وروايتان إحداهما رواية غرامية أخلاقية نحابها نحو حكايات ألف
ليلة وليلة ، وهي حكاية إحدى ملوك الصين المسماة بالقاهرة مع الحسن البصري نجل
الملك عبد الرحيم. وله إنشادات في اللغة التركية.
وهو من رجال
النهضة العلمية الأخيرة في الأمة المسيحية ، وجاهد الجهاد الحسن في سبيل العلم
والتعليم ، واهتم كثيرا في نشر المجلات والجرائد حتى أقبل الناس عليها.
__________________
وكان صيادا
ماهرا ، وموسيقيا أطرب بأكثر المطربات العربية والأعجمية وفنونها في إيقاع حسن ،
ومهندسا اشتهر بالأعمال اليدوية.
وكان بارا
بأهله وجيرانه ، عرف بالنزاهة في معاملاته ، وذكر أيضا بالأمانة ورد الحقوق إلى
أربابها ، فإذا حكم عدل وأنصف غير متردد ، يحب المساواة ، اجتهد في إزالة خرافات
كثيرة من عقول كثيرين. وقد كان رصينا ثابت العزم لا يستصعب صعبا ، إذا طلب أدرك ،
غير هياب ولا محجم. شهد مواقع من حرب القرم سنة ١٨٥٤ [١٢٧٠] وهو الترجمان الأول
لقائد الجيوس الإنكليزية حينما ناصرت الدولة الإنكليزية للدولة العثمانية في هذه
الحرب.
وكانت وفاته في
اليوم الثامن من شهر كانون الأول سنة [١٨٨٥] وهي موافقة لسنة ١٣٠٣ هجرية.
وأورد له في
هذا الكتاب كثيرا من شعره ، ومنه قوله :
معان تعالت
عن ذكا كل فطنة
|
|
مبان توارى كنهها
عن بصيرتي
|
شؤون أبت أن
يسبر العقل غورها
|
|
لذا لم أبت
منها بغير السكينة
|
صروف جرت في
كل فعل تقلبا
|
|
كما فجّرت
أمواه بحر المجرة
|
وذات تحاشت
عن تحاديد حيز
|
|
فحاشت حدود
الكل في جمع حوزة
|
هي الحضرة
العليا ائتد ربّ غافل
|
|
تشوهت
الأفكار فيه لشهوة
|
برت كل ما في
عالم الكون فانبرى
|
|
لها قلم يجري
بكل صحيفة
|
وقوله :
دنياك يا هذا
ديار الزوال
|
|
فلا تكن فيها
كظمآن آل
|
ومنها :
رب أصيحاب
لقد حاولوا
|
|
أن يجعلوا
بدر اكتمالي هلال
|
ما بالهم لا
أصلحت حالهم
|
|
يرمون في قلب
اليقين النبال
|
وهل يروع
الوعل صمّ الصفا
|
|
مناطحا
والريح شمّ الجبال
|
والشمس هل
تنحط إن حجّبت
|
|
أنوارها يوما
بنقع القتال
|
وقوله من قصيدة
أرسلها إلى صديقه فرنسيس المرّاش :
أقصاه طرف عن
سناك كليل
|
|
فدهاه حتف من
لقاك مهول
|
لا غرو أن
شرق الذميم بكأسه
|
|
ففوارغ
الدعوى لذاك تؤول
|
وإذا اللئيم
أقل فخرا كاذبا
|
|
فلقلما ارتضت
الفخار فحول
|
وإذا تصاهلت
النواهق مرة
|
|
فلطالما
اعترض النهيق صهيل
|
أرعى الذمام
لمن يراعي ذمتي
|
|
والعهد عهدي
لست عنه أحول
|
لا تبلوني في
المحبة إنني
|
|
بالروح سمح
بالرياء بخيل
|
ومنها :
أسفي لقد ضاع
الزمان ولم يكن
|
|
أحد لديّ كما
علمت خليل
|
لهفي على تلك
الغدو وزهوها
|
|
لم يخش فيها
للوشاة أصيل
|
أيام نرتع في
ربيع نضارة
|
|
كم جر فيه
للوفاء ذيول
|
وقوله من قصيدة
بعث بها إلى صديقه الأديب نصر الله الدلّال :
طاوعت فيه
صبابتي فعصاني
|
|
وقليت فيه
معنّفي فسلاني
|
ما كنت أدري
العشق يفعل بالفتى
|
|
فعل النسيم
بأهيف الأغصان
|
|
حتى حثثت
مطيتي نحو الهوى
|
|
ولويت عن نصح
النصوح عناني
|
فركبت فلك
صبابتي تيها على
|
|
لج النواح
كنوح في الطوفان
|
يلقى رسول
الفرع فيّ ضلالة
|
|
وأرى الهدى
بتبلج الفرقان
|
وأفر من
أقداح أحداق الظبا
|
|
فأرى الفؤاد
مراتع الغزلان
|
أغدو وقلبي
بين وقع مناصل
|
|
وصليل هنديّ
وهزّ سنان
|
فأروح بين
جآذر بمحاجر
|
|
وكواعب
بقواضب وحسان
|
مالي وللعذال
لا سلمت لهم
|
|
علل تقوم
بفاسد البرهان
|
لكنهم أخذوا
الجزا سلفا فلم
|
|
يبرح حشاهم
موقد النيران
|
ومنها :
خذ بالذراع
وخل عنك تطاولا
|
|
مد الذراع
لعاتق الميزان
|
فالدهر ميدان
به دول النهى
|
|
تجري مع
البرهان جري رهان
|
ومنها في
المديح :
شهم إذا ما
استل سيف يراعه
|
|
شمت الضلال
يخر للأذقان
|
إن يرض
للعليا الرضى فلطا لما
|
|
نزلت إليه
تودّ منه تداني
|
وذكره الأديب
قسطاكي بك الحمصي في كتابه «أدباء حلب» ومما قاله فيه : أنه كان حسن الخط مليح
الصوت فصيح الكلام ولوعا بالموسيقى يضرب بمختلف آلاتها ، وله كتاب ربط فيه كثيرا
من الأغاني شبيه بكتب الخطوط والأنغام الموسيقية الفرنجية (كتب النوطه). ولد في
حلب سنة ١٨٢٤ وأقام في مدينة مالطة مدة يصحح الكتب العربية في مطبعتها ويدرس في
إحدى مدارسها. وله كتاب «الأسهم النارية» وهو رواية ضمنها بعض الوقائع المحلية.
وله مقالات بالجرائد والمجلات باسم مستعار. وكانت بينه وبين فرنسيس المراش ونصر
الله الدلال وغيرهما من فضلاء معاصريه مجالسات ومطارحات وممادح ا ه ملخصا.
١٢٦٩ ـ الشيخ محمد علي الكحيل المتوفى سنة ١٣٠٤
الشيخ محمد علي
بن حسين المعروف بالكحيل ، الحلبي الحنفي ، أحد فقهاء الشهباء وفضلائها.
ولد رحمهالله سنة ١٢٣٤ ، وتلقى العلوم العربية على الأحمدين الحجار
والترمانيني ، وقرأ الفقه الحنفي على الشيخ مصطفى الريحاوي وعلى الشيخ عبد القادر
سلطان مفتي حلب ومدرس الإسماعيلية ، قرأ عليه عدة كتب ولازمه مدة طويلة إلى أن برع
في الفقه الحنفي وصار أحد أعلامه والمشار إليهم فيه.
وعين أمينا
للإفتاء حينما كان الحاج عبد القادر أفندي الجابري مفتيا ، وصار مدة نائبا في
المحكمة الشرعية ، وعين مدرسا في الجامع الكبير وفي مدرسة بني العشائر الكائنة في
الرواق الشمالي من الجامع المذكور ، ومدرسا في جامع الصروي في محلة البياضة ،
وخطيبا في جامع السفاحية ، وناظرا على وقف جامع الخسروية.
وكان رحمهالله صالحا متعبدا ساكنا.
توفي في جمادى
الأولى سنة ١٣٠٤ ، ودفن في تربة الشيخ جاكير.
وممن أخذ عنه
شيخنا الشيخ بشير الغزي وأخوه الشيخ كامل والشيخ محيي الدين سلطان وغيرهم.
١٢٧٠ ـ الشيخ عبد الحميد دده المتوفى سنة ١٣٠٤
الشيخ عبد
الحميد دده ابن الشيخ حسن دده البيرامي ، شيخ التكية البيرامية والفلكي المشهور.
مولده سنة
١٢٢٨. قرأ النحو والفقه على الأستاذ الكبير الترمانيني ، ثم شد الرحال إلى الديار
المصرية أربع مرات وجاور في أزهرها ، وكان في كل مرة يقيم أزيد من سنتين. ورحل إلى
مكة المكرمة وجاور فيها أربع سنين. ورحل إلى الآستانة عدة مرات. وكان في رحلاته
جميعها يجد في تحصيل أنواع العلوم ويجني من ثمارها. وأكب على تحصيل علم الفلك إلى
أن برع فيه ومهر وصارت له فيه اليد الطولى ولا يدرك شأوه فيه. ثم تصدى للتأليف فيه
فألف عدة كتب أضاعتها أيدي الزمان ومزقتها كل ممزق ، وقيل أحرقها أخوه الحاج يوسف
دده الشاعر المشهور بغضا فيه.
وكان عالما
باللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية ، وله فيها أشعار حسنة ، لكن لم يصل
إلينا منها شيء. ونظم مولدين شريفين بالعربية والفارسية سماهما «الحميدية في قصة
خير البرية» ، ونظم مولدا باللغة الفارسية سماه «الابتهالات في قصة صاحب المعجزات»
ألفه سنة ١٢٧٨.
ومن آثاره جرن
من حجر رسم فيه دائرة تعلم منها الأوقات وهو موضوع في صحن الجامع الأموي ، ومن
تأمل في هذه الرسوم يعلم تضلع المترجم في العلوم الفلكية ، وكان صنعه له سنة ١٢٩٧
وصنع نظيره للسلطان عبد الحميد الثاني سنة ١٣٠٠ وضع في سراي يلدز المشهورة في
الآستانة ، وأجزل له السلطان المذكور العطاء على ذلك.
وكان شيخا
للتكية البيرامية الكائنة خارج محلة آقيول ، جلس على سجادتها سنة ١٢٤٤
بعد وفاة عمه حسين دده وبقي إلى سنة ١٢٩٥ ، ففيها خلّف لسبطه الحاج يوسف
دده ابن الحاج إسماعيل بن يوسف بن محمد بن يوسف بن محمد الجمالي (أحد رجال تاريخ
المرادي وهو المترجم في أول هذا الجزء).
وكان مع تضلعه
في العلوم الفلكية له وقوف على علم الحساب والهندسة والجبر والزايرجة ، إليه
المنتهى في هذه العلوم في حلب. وبالجملة فقد كان حسنة من حسنات الشهباء المشهود
لهم بالفضل والنبل ، ولم يخلفه في الشهباء بعده في فنونه مثله.
وكانت وفاته
سنة ١٣٠٤ رحمهالله تعالى.
الكلام على تكية بابا بيرم
هذه التكية
واقعة في آخر محلة آقيول من جهة الشمال عند منتهى العمران ، وهي مسماة باسم
المدفون فيها وهو الشيخ بابا بيرم ، وهو على ما كتبه لي شيخ التكية الشيخ يوسف ابن
الحاج إسماعيل الجمالي المتقدم الذكر بيرام خواجه أحمد اليسوي مرشد الحاج بكتاش
ولي ابن الشيخ يوسف الهمداني أحد مشايخ الشيخ بهاء الدين نقشبند ، كان حضر من بلاد
خراسان إلى حلب ونزل في مغارة موجودة إلى الآن داخل التكية المذكورة وصار يعبد
الله هناك ، واجتمع حوله كثير من الفقراء وأخذوا عنه الطريقة البيرامية ، وظهر على
يده كرامات متعددة زادت في اعتقاد الناس فيه. وبقي على ذلك إلى أن انتقل بالوفاة
إلى رحمة الله تعالى سنة ٧٦٤ ودفن بجانب المغارة ، ولا زال ضريحه باقيا إلى الآن
يزوره الكثير من الناس. وبنى أهل الخير على قبره قبة ، إلى أن دخلت سنة ٨٧٥ ففيها
حضر لحلب ملك العراق السلطان حسن بن علي بن عثمان الطويل ، وهو ممن ذكر في تاريخ
القرماني ، فمر السلطان بهذا المكان وسئل عنه فأعلم بخبره فقال : يلزم علينا أن
نزور ضريحه ، فنزل وزاره وقرأ ما تيسر من القرآن وذهب إلى حال سبيله ، وبعده بني
على قبره تكية اشتهرت باسم دفينها وهو الشيخ بيرام بابا ، واشترى وقتئذ من بعض
الأمراء مزرعة متاخمة لقرية عندان واقعة في جبل سمعان من أعمال حلب يقال لها مزرعة
إبرن (بكسر الهمزة والراء) ووقفها على التكية وسلمها لشيخها وقتئذ ، وهي باقية إلى
الآن بيد مشايخ التكية ، وشرط الواقف أن تكون التولية لمن يكون شيخ التكية ، وهي
مستثناة من الأعشار وسائر التكاليف الأميرية من طرف ملوك بني عثمان. وفي سنة ٨٧٧
أرسل السلطان حسن الطويل كتابا
لشيخ التكية مذيلا بتوقيعه (الواثق بالملك الرحمن حسن بن علي بن عثمان)
وعلى ظاهر الكتاب تواقيع وزرائه وأختامهم ، وهو إلى الآن محفوظ عند شيخ التكية.
والتكية تحتوي
على صحن واسع في وسطه حوض صغير ومزرعة فيها بعض الأشجار. وهناك قبلية كتب فوق
بابها أنها جددت سنة ١٠٤٦ ، والمجدد لها أحد مشايخها الشيخ حسن دده ، وهي مربعة
الشكل ، سقفها قبة واحدة طولها عشرة أذرع وعرضها كذلك ، ووراء الصحن مزرعة واسعة.
وهناك من الجهة الشرقة مدفن من جملة من دفن فيه الحاج حسين دده بن عمر دده ووفاته
سنة ١٢٤٤ ، والشيخ يوسف دده ابن الحاج إسماعيل المتوفى سنة ١٣٤١. وهناك حجرة واسعة
في وسطها ضريح شيخ التكية الشيخ بابا بيرم. وكان في الحجرة شمعدان من النحاس أرسله
السلطان المذكور ، فاستأذن متولي التكية الشيخ يوسف داده الحاكم في بيعه فباعه
بستين ليرة ذهبا اشترى بها مع غلّة كانت متجمعة في واردات الوقف دارا ألحقها بوقف
التكية ، وهي ملاصقة للتكية من جهة الشمال. وهناك في طرف هذه الحجرة من جهة الشمال
قبر ملاصق للجدار هو قبر زوجة السلطان قانصوه الغوري ولها وقف لكنه غير معروف
الآن.
وفي أول هذه
المزرعة دولاب في أوائل طرفه الشرقي المغارة التي كان يتعبد فيها الشيخ بابا بيرم
، وهي واسعة جدا على قدر الصحن ، وهي واقعة تحته ، وفيها أو اوين ومصاطب. وخارج
التكية من شماليها سبيل أنشأه المترجم وشرط له في كتاب وقفه ١٨٠ قرشا يشتري بها
حبال ودلاء.
١٢٧١ ـ الشيخ عبد السلام الترمانيني المتوفى سنة ١٣٠٥
الشيخ عبد
السلام ابن الشيخ عبد الكريم ابن الشيخ الحاج أحمد ابن الشيخ نعمة الله ابن الشيخ
علي ، المشهور بالترمانيني ، مفتي الشافعية بحلب وابن مفتيها وشيخ الحديث بمدينة
حلب وما يليها.
ولد رحمهالله سنة ألف ومائتين وثمان وثلاثين في غرة رمضان ، وسماه
والده عبد السلام تأريخا لسنة ولادته.
قرأ القرآن
العظيم وأتقن حفظه عن ظهر قلب على شيخ القراء الشيخ سعيد الركبي ،
وحفظ الخلاصة في النحو ومتن الزبد في الفقه الشافعي وألفية العراقي في
المصطلح ، وقرأ على والده التحريرات النحوية تأليف والده التي ألفها باسمه ، ورحل
به إلى مصر سنة ١٢٥٠ ، وقد ذكرنا ذلك هناك ، وبعد وصولهما إلى مصر بأيام توفي
والده بالطاعون ، فبقي المترجم في مصر يتلقى العلوم والفنون في جامع الأزهر ، فقرأ
النحو والعلوم العربية على الشيخ محمد الدمنهوري والشيخ أحمد المرصفي ، والفقه
والأصول على الشيخ إبراهيم البيجوري ، والحديث والتفسير على الشيخ مصطفى المبلط ،
وقرأ على الشيخ محمد الجناني والشيخ حسن البلتاني والشيخ عياد الطنطاوي فنونا
عديدة من معقول ومنقول ، وتلقى الحديث المسلسل خاصة على شيخ الوقت الشيخ أحمد
البهيّ الشاذلي.
وأقام في
الأزهر مكبا على التحصيل ست عشرة سنة يستفيد ويفيد ، وعين هناك مدرسا في إحدى
العواميد بمعلوم. ثم طلبه عمه العارف بالله تعالى الشيخ أحمد أن يعود إلى وطنه ،
فاستأذن مشايخه المشار إليهم بالحضور ، فأذنوا له وأجازوه إجازة عاما بما يروونه
عن مشايخهم ، وحرروا له بخطوطهم إجازات حافلة. ومن جملة ما حرره له العلامة
المرصفي في إجازته مجيزا ومودعا :
يا كعبة
التحقيق والعليا ومن
|
|
لحقائق
العرفان أنت مجاز
|
عد سالما
ومؤيدا فجنابكم
|
|
منا بأنواع
العلوم مجاز
|
وودعه علماء
عصره باثنتي عشرة قصيدة كل واحدة تزيد على ثلاثين بيتا.
ثم في أثناء
عوده من مصر إلى حلب مر على القدس الشريف واجتمع هناك بأفاضلها ، ثم مر على يافا
واجتمع هناك بصديقه الشيخ حسن أبي الإقبال الدجاني.
ثم أتى إلى
بيروت ، وكان قد بلغه أن العلامة الكزبري بالشام عالي السند في الحديث ، فتوجه من
بيروت إلى الشام للأخذ عن العلامة المذكور ، وحصل له احتفال عظيم من أفاضلها ،
وأجازه المشار إليه بما يرويه عن مشايخه إجازة عامة.
ثم حضر إلى حلب
وذلك سنة ١٢٦٦ ، وعلى أثر حضوره فرغ عليه عمه التدريس في جامع الصروي الكائن في
محلة البياضة بعد امتحانه. وأكب على قراءة الدروس والإفادة في فنون عديدة ، وصار
بعد وفاة عمه الأستاذ الكبير الشيخ أحمد مدرسا في المدرسة الرحيمية ، وأقبلت عليه
الطلبة فأخذ عنه كثيرون فضلوا به ، منهم العلامة الشيخ أحمد
الزويتيني مفتي الحنفية بحلب ، والشيخ سعيد السنكري ، والشيخ عبد القادر
المشاطي ، والشيخ أحمد الكواكبي ، والشيخ محمد الرزّاز ، والعلامة الشيخ محمد
الزرقا ، والشيخ أحمد المكتبي ، والشيخ عبد الله سلطان ، والشيخ محمد البدوي
وغيرهم من الواردين إلى حلب.
ثم توجه عليه
درس الحديث في الجامع الأموي أمام الحضرة ، وصار له إقبال تام من وجهاء حلب
وكبرائها ومن الأمراء. ومن جملة من قرأ عليه من الوزراء جميل باشا والي حلب ، وكان
له عنده المنزلة السامية والشفاعة المقبولة ، واستجازه بالحديث الحاج محمد توفيق
أفندي النوشهري الذي حضر مفتشا على إدارة الجفتلك الهمايوني ، وكذلك استجازه
بالحديث ملا صاحب بك الذي حضر مفتشا على والي حلب جميل باشا ، وعرض عليه إفتاء
الحنفية مرارا فلم يقبلها.
وكان له اليد
الطولى في فن النظم والنثر ، ونظم قواعد فقهية ونصائح حكمية ودينية ، وجمع من نظمه
ديوان معظمه مديح في الحضرة النبوية أضاعته أيدي الزمان ، ولم يصل إلينا من شعره
إلا القليل ، فمنه قصيدة وداعية ودع بها أحد رفقائه المجاورين في الأزهر مطلعها :
قسما بالعيون
ذات المهنّد
|
|
إن قلبي عن
السرور مجرّد
|
كيف عيش
المحب بعدك يحلو
|
|
وصميم الفؤاد
منه توقّد
|
حين مسراك
للديار عيوني
|
|
قد كستها
الدموع ثوبا مورّد
|
إن يغب شخصك
البهيّ غيابا
|
|
فبقلبي معناك
دوما مخلّد
|
أسأل الله أن
تردّ علينا
|
|
عن قريب
وبالمعالي ممجّد
|
وأرى هذه
الشمائل تدعى
|
|
باسم خير
الورى حبيبي محمّد
|
ومنه وقد أجاد
:
كن مستقيما
في الأمور جميعها
|
|
فإن استقمت تك المقدّم في الملا
|
أفلا ترى ألف
الهجاء تقدمت
|
|
لما استقامت
فهي تكتب أولا
|
وله :
__________________
كن محسنا
مهما استطعت فإن من
|
|
فعل الأذى
لابد أن يتضررا
|
فالباز قصر
عمره لما بغى
|
|
والنسر من
ترك الأذى قد عمرا
|
وله من قصيدة
طويلة مطلعها :
تملكهم لحظ
الحبيب وحاجبه
|
|
فأدخلني ظلما
بذا النظم حاجبه
|
تعشقته عمدا
وخالفت مذهبي
|
|
وآليت إني لا
أزال أصاحبه
|
ومنها :
لعمرك ما حب
الحسان محرّم
|
|
إذا سار في
نهج الشريعة صاحبه
|
وله مطرزا اسم
أسعد العطار :
أسعد الله
بالصباح مليحا
|
|
تفتديه
بروحها الأقمار
|
سل سبيلا من
الرحيق بفيه
|
|
فيه يحلو
وحقه الإسكار
|
عل يصحو من
الذهول محب
|
|
حاربته
بقوسها الأوتار
|
داعبته جفونه
وهي تطفو
|
|
إذ على الطار
دندن العطار
|
وله :
ولم أنس لما
جاد دهري بقربكم
|
|
بليلة أنس
بعد طول التفرّق
|
غفرت بها ذنب
الزمان لأنني
|
|
صفوح عن
الماضي قنوع بما بقي
|
وله أيضا يخاطب
صديقا له اسمه شافع :
ولو لا
افتقاري ما افتقرت لشافع
|
|
يقربني ممن
أحب ويشفع
|
فإن زماني
أهله حرموا الحجا
|
|
وما عندهم
شيء سوى القرش ينفع
|
وله يخاطب
صديقا له :
يحدثني قلبي
بأن لبانتي
|
|
لها منكم كفؤ
يكافي وشاتها
|
فإن لم تكن
بين الأحبة نصرة
|
|
فمن ذا الذي
يحمي الرعاة وشاتها
|
وكان رجل يقال
له عاقل أفندي ادعى القصيدة الزهيرية التي مطلعها :
دعوا الوشاة
وما قالوا وما نقلوا
|
|
بيني وبينكم
ما ليس ينفصل
|
وأرسلها في ضمن
كتاب لبعض أحبابه ونسبها لنفسه وحرف فيها بعض كلمات ليخفيها على أبناء جنسه ، فبلغ
ذلك المترجم فقال :
وافت إلينا
على كره محبرة
|
|
بديعة الحسن
لكن مسها الخجل
|
يا طالما كنت
مشتاقا لرؤيتها
|
|
إذ صار يضرب
من دهر بها المثل
|
أقول كيف
سبيلي في الوصول لها
|
|
ما الرأي في
ذاك ما التدبير ما الحيل
|
حتى بعثت بها
هيفاء مشرقة
|
|
كأنّ ريقتها
في ثغرها عسل
|
كانت جواهر
ألفاظ مخبئة
|
|
في الكنز
فاستخرجتها السادة الأول
|
لكن أتت في
ثياب الحزن مطرقة
|
|
برأسها ودموع
العين تنهمل
|
فقلت لا
تحزني قالت ألست ترى
|
|
تداولتني في
طول المدى الدول
|
حتى وصلت
لأقوام لهم همم
|
|
تحت الثرى
ودواع تحتها زحل
|
يستقرضون
قريض الشعر واعجبا
|
|
ويدعيه الفتى
منهم وينتحل
|
بالنقل لا
العقل جهلا حرفوا كلمي
|
|
وأوجبوا كسر
قلبي حينما نقلوا
|
فقلت بالله
طيبي النفس وانشرحي
|
|
وسامرينا ولا
تأسي بما فعلوا
|
أتعجبين وهذا
العصر قد كثرت
|
|
فيه اللصوص ولكن
أمرهم جلل
|
وكل من يدعي
ما ليس يحسنه
|
|
بالقول كذبه
في جهله العمل
|
إن الشجاعة
كل الناس تزعمها
|
|
وفي الحروب
يبين الفارس البطل
|
أما مؤلفاته فهي :
«ذخائر الآثار
في تراجم رواة الحديث والآثار» ، و «تذكرة الوعاظ لجميل المعاني والألفاظ» شرح فيه
الجامع الصغير بعبارة سهلة قريبة للأفهام وهو في مجلد ضخم ، وحاشية سماها «لطف
التعبير على شرح التحرير» في الفقه الشافعي لم تكمل ، ورسالة سماها «رفع الخلاف
والشقاق في أحكام الطلاق» ، ورسالة في «شرح بيتي الشيخ محي الدين ابن العربي في
معرفة الغالب والمغلوب» ، و «بهجة الجلّاس في مذاكرة الأنفاس» في الأدب ، ورسالة «فكاهة
الغريب بمسامرة الأديب» ، ورسالة في «أحكام الجامع» ، و «حواش على مختصر السعد في
المعاني والبيان» ، و «حواش على البخاري» ، ومجموع يحتوي على فتاوي له وخطب نكاح
من إنشائه ، ومجموع فيه مراسلاته مع أحبابه لمصر وغيرها وفيه
أيضا إجازاته من مشايخه ولتلاميذه ، وله غير ذلك من التحريرات الفائقة.
ومعظم كتبه
مهمشة بتقارير مشايخه ، ومنها من تحريراته ، وكلها نافعة لو جمعت لجاءت في مجلدات.
وبالجملة فقد
كان من محاسن الشهباء علما وفضلا وأدبا وجاها وإقبالا.
ويروى أن نسبه
متصل بسيدنا عبد الله بن مسعود أحد الصحابة المشاهير.
وما زال ينشر
علمه وفضله إلى أن وافته المنية في شهر ربيع الأول سنة ١٣٠٥ بعد أن مرض ما يقرب من
سنة ، ودفن في تربة السفيري في جواره بجانب جده الشيخ عبد الكريم ، وأسف الناس على
فقده كثيرا ، وكانت جنازته مشهودة ، رحمهالله رحمة واسعة.
الكلام على المدرسة الرحيمية
قلنا إن
المترجم كان مدرسا في المدرسة الرحيمية ، وإن عمه الأستاذ الكبير الشيخ أحمد كان
مدرسا بها قبله ، فهذه المدرسة في محلة البياضة بجانب محلة الجبيلة وقفتها رحمة
قاذين بنت عبد القادر بك ابن أحمد بك من سكان محلة الجبيلة ، وهي عبارة عن دار
كانت تسكنها تحتوي على إيوان به قبتان وبيت صغير وبيتين آخرين ، وقد دفنت فيها
ابنتها الست واصلة بنت عمر آغا ابن عبد الله ، وتاريخ كتاب وقفها في جمادى الأولى
سنة ١١٥٦ ، وشرطت للمدرسة مدرسا في العلوم الدينية وغيرها وخادما للسبيل الذي على
باب المدرسة وخادما للمدرسة ، وشرطت أن يعطى لأربعة رجال من محسني تلاوة القرآن
العظيم في كل يوم (١٢) عثمانيا ليقرأ كل واحد منهم في دارها المذكورة كل يوم جزءا
، وشرطت أن يزاد عددهم في رمضان إلى عشرة.
ووقفت على هذه
المدرسة البستان المعروف ببستان ابن عيد ، وكان مغتصبا فأعيد إلى الوقف بعد محاكمة
من متولي الوقف الآن الشيخ إبراهيم أفندي ابن المترجم مع مغتصبه وذلك سنة ١٣٢٨.
ووقفت له ستة دكاكين ومصبغة وعدسة ودارا لم تزل في يد المتولي المذكور. ووقفت فرنا
في بلدة سلقين وأرضا فيها وعدة أراض في قرى حولها وفي حارم ، وقد تغلب عليها من
قديم ولا شيء منها الآن في يد المتولي. ووقفت دارا في محلة جب
أسد الله على من يكون مدرسا للمدرسة سكنا وإسكانا في وقفية على حدة سنة
١١٦٦ ، وهي مغتصبة أيضا إلى الآن ولله الأمر.
١٢٧٢ ـ أخي الشيخ محمد الطبّاخ المتوفى سنة ١٣٠٧
الشيخ محمد ابن
الحاج محمود ابن الشيخ هاشم ابن السيد أحمد ابن السيد محمد الطبّاخ ، الحلبي
الحنفي ، أخي وشقيقي. كان رحمهالله ممن أكرمه الله بالعلم وجمله بالحلم وزينه بالتقوى.
ولد سنة ١٢٦٧ ،
وهو أكبر إخوتي وأول مولود لوالدي. وظهرت عليه أمارات النجابة والصلاح منذ نعومة
أظفاره ، وكان سيدي الوالد يستصحبه معه إلى حضور مجالس الذكر في الزاوية الهلالية
، فنشأ على محبتها ومحبة العلم وأهله ، فأخذ في طلب العلم ، ولازم الشيخ محمد
الرزّاز خطيب جامع العادلية ، فأخذ عنه علم القراءات وغير ذلك ، وقرأ على الشيخ
بكري الزبري العلوم العربية ، وقرأ على الشيخ أحمد المرحوم الفرضي علم الفرائض ،
وبرع في هذا العلم في مدة وجيزة ، وأخذ عن غيرهم من فضلاء ذلك العصر.
وكان في أول
نشأته مع ما عليه من الصلاح كثير التأنق في ملبسه ، يلبس الأثواب الحريرية التي
كانت تجلب من بلاد الهند ، وقد كان سيدي الوالد يستجلبها من مكة وجدة لأنه كان
يتعاطى التجارة إليها في كل سنة كما سيأتي في ترجمته ، فكان سيدي الأخ يلبس منها
ما يروق له ، ثم إنه أعرض عن ذلك وأقبل على استكمال فضائل النفس ، ولازم الزاوية
الكيّالية ، وشيخها إذ ذاك الشيخ حسن أفندي ابن الشيخ طه الكيالي ، فأخذ عنه
الطريقة الرفاعية ولازمه ملازمة الظل لصاحبه ، وكانا متحدين في العمر ، وأخذا في
مطالعة كتب السادة الصوفية ، وطالعا عدة كتب في الزاوية المذكورة ، وصار يختلي معه
فيها في كل سنة أربعين ليلة على حسب عادة أهل الطريق ، وسافر معه إلى الباب لزيارة
الشيخ عقيل المنبجي ولزيارة الشيخ أبي بكر الهوّار وغيرهما. ثم سافر معه هو وبعض
مريديه إلى القدس على قدم التجريد وزاروا الأماكن المقدسة هناك ، وذلك في حدود سنة
١٣٠٢ ، وصار لبسه في تلك المدة الأثواب من الكتان ، بل إنه حين سفره إلى القدس
اتخذ جبة ذات رقع كثيرة لم تزل محفوظة عند ولده إلى الآن ، ولم يكن عمله هذا يشوبه
شيء من الرياء أو
قصد السمعة أو طلبا لدنيا ، فقد كان والحمد لله في سعة من العيش غنيا بغنى
أبيه ، غير أنه زهد في هذه الدنيا وزخارفها وعلم أنها دار ممر لا دار مقر ، وأن
الإنسان لم يخلق سدى بل خلق ليعبد الله تعالى ويهذب هذه النفس ويصفيها من الكدورات
لتلتحق بالملأ الأعلى وتدخل في عداد النفوس التي خاطبها تعالى بقوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي
عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) ولذا أعرض عنها وأكب على العبادة وقراءة الأوراد
وملازمة الذكر والمراقبة ، واجتهد في ذلك غاية الاجتهاد. وكان لا يفتر عن التهجد
في الليل وصوم يوم الاثنين والخميس وغيرهما من الأيام المباركة. ومع ذلك لم يكن
ليترك نصيبه من الدنيا ، بل كان بعد انتهائه من حضور دروسه يتوجه إلى مخزن والده
الكائن في خان العلبيّة ويحرر له حساباته وتحاريره التي يرسلها إلى البلدان ،
وينوب عنه في البيع والشراء في أوقات سفره ، إلا أنه لم يكن متهافتا على الدنيا
متكالبا عليها كما هو شأن أبناء هذا الزمان ، بل كان مجملا في الطلب ، صادق اللهجة
، ناصحا في بيعه وشرائه ، لا يعرف الكذب ولا التغرير ، ولا يحلف لا صادقا ولا
كاذبا.
وفي سنة ١٣٠٥
توجه مع أهله وولديه وبنت له إلى مكة ، أرسله سيدي الوالد في تجارة إليها وأرسل
معه ما يروج هناك من بضائع هذه البلاد. وقد كان حج قبل ذلك مرتين أو ثلاثا ، ولم
تكن غايته الربح بل الحج وزيارة تلك الأماكن المقدسة ، ولما وصل إلى مكة ازداد
هناك زهدا في هذه الحياة وأقبل على العبادة مزيد الإقبال ، فكان يدخل إلى الحرم
المكي من الساعة الحادية عشرة ويبقى فيه إلى الساعة الثالثة وهو بين طواف وصلاة
ومراقبة ومشاهدة للكعبة المشرفة وذكر لله تعالى خفية ، ثم يعود إلى البيت فينام
إلى الساعة الثامنة ، ثم ينهض فيعود إلى الحرم فيبقى فيه على هذه الحالة إلى أن
يصلي الضحى ، ثم يخرج إلى حانوته ويأخذ في البيع والشراء على الحالة التي قدمناها.
وكان كثير
الاجتماع بالشيخ حسن عرب وأخيه الشيخ أحمد والشيخ حسب الله الهندي ، وهم من علماء
مكة الفضلاء ، ويتذاكر معهم في كثير من المسائل العلمية.
وبقي مجاورا في
مكة على هذه الحالة إلى سنة ١٣٠٧ ، ففيها توجهت مع سيدي الوالد إلى مكة ، فوصلناها
في الرابع من ذي الحجة. وفي الثامن منه خرجنا جميعا إلى عرفات
__________________
ونحن على أهنأ عيش وأصفى بال ، فصادف بعد نزولنا من عرفات بيوم حصول مرض
الكوليرا (الهواء الأصفر) وصار يفتك في الحاج فتكا ذريعا بحيث كان يموت كل يوم ما
يقرب من ألف إنسان بقي على ذلك نحو ١٥ يوما ، وكان ممن أصيب به سيدي الأخ ، وذلك
في الخامس عشر من الشهر ، وفي الثامن عشر منه توفي إلى رحمة الله وعفوه ولم ينجع
فيه دواء ، ودفن في المعلا ، وبعد يومين توفيت بنته وكان سنها نحو ثلاثة عشر عاما
، فكان مصابنا بهما جللا ورزؤنا عظيما ، وحزنا عليهما حزنا شديدا ، وأسف على سيدي
الأخ كل من عرفه وعرف علمه وسمع بفضله ، وقد مضى على وفاته ثمان وثلاثون سنة وأنا
لا أزال عليه حزينا وذلك لما كان عليه رحمهالله من العلم والفضل وكرم الأخلاق والزهد والورع والعبادة ،
وكان مع ذلك كثير الصدقات. وفي أثناء وجوده في مكة لم يأل جهدا في إقراض المنقطعين
من الحجاج الحلبيين دراهم ليعودوا إلى أوطانهم ، ولو طال عمره لكان أحد الأفراد
علما وعملا وممن يشار إليه في هذا العصر ، ولكن قضاء الله لا مرد له وله الأمر من
قبل ومن بعد.
١٢٧٣ ـ القاضي أمين أفندي المقيّد المتوفى سنة ١٣٠٨
الشيخ محمد
أمين أفندي ابن محمد بن زكريا ابن الشيخ محمد المشهور بالمقيّد.
ولد بحلب سنة
خمس وأربعين ومائتين وألف ، ونشأ بها ، وقرأ العلوم على أفاضل عصره ، فأخذ الفقه
عن الشيخ مصطفى الأريحاوي أمين الفتوى الفقيه المشهور وقتئذ ، والعلوم العربية
وعلم الحديث عن مفتي حلب الشيخ عبد القادر سلطان ، وعلم الفرائض عن الشيخ مصطفى
الشربجي والشيخ عبد المعطى البابي ثم الحلبي ، وكلاهما من المشاهير في هذا العلم.
وفي مدة وجيزة ظهر فضله واستبان نبله ، وأول ما تولاه من الوظائف حفظ السجلات وقيد
الصكوك في المحكمة الشرعية بحلب ، ثم معاونا لرئيس الكتاب فيها ، وذلك في سنة ست
وستين ومائتين ، وفي سنة تسع وستين صار ينوب في الحكم عن قاضي حلب السيد محمد سعيد
بك درناقجي زاده عند ذهابه لحضور الجلسات في المجلس الكبير المشكل وقتئذ في
الولاية ، وهو كمجلس الإدارة في زماننا. وفي سنة أربع وسبعين عين لقضاء أنطاكية ،
ثم عين نائبا في محكمة حلب الشرعية. وفي ست وسبعين عين درناقجي زاده المتقدم قاضيا
في الشام ، فدعا المترجم إلى دمشق وجعله نائبا معه إلى أن انتهت مدته ،
فعاد المترجم إلى وطنه وعين نائبا هنا من قبل قاضيها ، ثم عين رئيسا لمجلس
تمييز الحقوق بها.
ولما حصل ما
حصل من العربان القاطنين في دير الزور من التعدي على عابري السبيل وصاروا يسلبون
الأموال من القوافل عين المترجم ، فتوجه إلى تلك الجهات وكانت له اليد الطولى في
إرجاع كثير من الأموال المسلوبة إلى أربابها ، وبذل النصح لهؤلاء العربان فكفوا عن
التعدي وعادوا إلى الطريقة المثلى.
وفي سنة ست
وثمانين عين قاضيا للشام ، فأقام بها إلى أواخر سنة ثمان وثمانين ، وحمدت سيرته
فيها وامتدح من شعرائها بعدة قصائد لما رأوه من حسن قضائه ومهارته في فصل الدعاوي.
ثم في سنة ٢٩٨
عين لقضاء نابلس ونظم محكمتها الشرعية ، فأرخ الشيخ عباس أفندي الخمّاش أحد فضلاء
نابلس ذلك ببيتين كتبا على باب المحكمة وهما :
لمحكمة
الشريعة حكم عدل
|
|
يزكّيه الورى
سرا وجهرا
|
تقول وقد
تباهت أرخوني
|
|
أمين شادني
للشرع برا
|
وامتدحه في
نابلس غير واحد من الشعراء منهم الشيخ عباس المذكور بقوله :
ولما درى
المجد الرفيع بحالتي
|
|
هداني إلى
بدر المعالي أمينه
|
وقال لك البشرى
بوافر فضله
|
|
فما خاب من
يحظى بلثم يمينه
|
وله ترسل حسن
ونظم كذلك ، ويعرف اللغة التركية معرفة جيدة.
وفي سنة ١٣٠٨
عين للقضاء في صنعاء فتوجه إليها عن طريق مصر ، ولما وصل إلى مصر مرض فيها أياما ،
ثم توفاه الله تعالى في سنة ١٣٠٨ عن ثلاث وستين من العمر ، ودفن بالقرب من مقام
الشيخ العفيفي المشهور ، رحمهالله تعالى.
١٢٧٤ ـ سيدي العم الشيخ عبد السلام الطبّاخ المتوفى سنة ١٣٠٨
الشيخ عبد
السلام ابن الشيخ هاشم الطبّاخ ، عمي شقيق والدي ، وهو أكبر أولاد سيدي الجد.
ولد رحمهالله سنة ١٢٤٠ ، وتلقى العلوم العربية والفقه الحنفي عن سيدي
الجد ، ثم اتصل بالأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني فقرأ عليه علم النحو وعلم
الحديث ، وقرأ علم الفرائض على الشيخ مصطفى الشربجي الفرضي المشهور. وحبب إليه
الاشتغال بالطريق فلازم الزاوية الهلالية كسيدي الجد ، وأخذ الطريقة الخلوتية عن
مشايخها الشيخ محمد ابن الشيخ إبراهيم الكبير ، ثم عن ولده الشيخ عبد اللطيف ، ثم
عن ولده الشيخ مصطفى الهلالي ، وكان ملازما لحضور مجلس الذكر الذي يقام في الزاوية
المذكورة في كل يوم جمعة بعد العصر ، ويختلي في الشتاء أربعين ليلة على عادتهم لا
يفتر عن ذلك. وأكب على مطالعة كتب السادة الصوفية خصوصا كتاب «إحياء العلوم»
للإمام الغزالي.
وكان مع
اشتغاله بالعلم والطريق يتعاطى صنعة البصم المسماة (بالبصمجي) إلا أنه لم ينجح
فيها ، فاضطر إلى تركها ، وصار سيدي الوالد يرسله في تجارته إلى مكة في بعض
السنين. وفي سنة ١٣٠٦ باع داره الكبيرة التي هي في محلة الجلّوم الكبرى في شارع
الصليبة وهي من الدور العظام في هذه المحلة إلى الشيخ مصطفى الهلالي ، وقد وقفها
الشيخ مصطفى على بناته ، وقد كانت آلت إلى سيدي العم بالإرث عن والده وبالشراء من
أخويه وشقيقته ، ثم إنه أخذ بثمنها تجارة إلى مكة وذلك سنة ١٣٠٧ وسنة ١٣٠٨ ، ففي
هذه السنة حصل هناك مرض الكوليرا كما حصل في السنة التي قبلها وأصيب به سيدي العم
وتوفي هناك في السابع عشر أو الثامن عشر من ذي الحجة ودفن في المعلا.
ولما عدت من
مكة مع سيدي الوالد إلى حلب وذلك في ربيع الأول سنة ١٣٠٨ كان سيدي العم معنا
ونزلنا جميعا في جدة وقعدنا فيها ٤٥ يوما ننتظر مجيء سفينة تقلنا إلى بيروت أو
الإسكندرونة ، وكان هناك تاجر قاطن فيها يقال له الشيخ محمد مراد الطرابلسي من
أهالي طرابلس الشام ، وكان من أهل العلم والفضل وبينه وبين سيدي العم وسيدي الوالد
مودة تامة وصحبة أكيدة ، فكانا أثناء إقامتنا في جدة يزورانه في كثير من الأوقات ،
وكنت أذهب معهما ، فكان هو وسيدي العم يتطارحان المسائل الفقهية والأدبية ويأخذان
في المناظرة ويطول الجدال بينهما ، فكان يتراءى لي وأنا صغير أن الحق تارة يكون مع
السيد الطرابلسي وتارة مع سيدي العم ، وأنهما في حلبة السباق فرسا رهان ، ويتبين
جلالة فضلهما ودقة نظرهما وسعة مداركهما وغزارة مادتهما. ولم يطل تمتعي بسيدي العم
لأنه عاد في هذه السنة إلى مكة وتوفي بعد نزوله من عرفات كما تقدم.
وأجازه الشيخ
مصطفى الهلالي الدار عزاني بالطريقة القادرية الخلوتية وخلّفه ، ولذا كان حينما
يحضر مجالس الذكر عنده يلبس العمامة المسماة (بالعرف) ويلبسها في أيام العيد ولا
يلبسها إلا من كان مخلّفا مأذونا له بإقامة الذكر ، إلا أن سيدي العم لم يتسن له
أن يتخذ له زاوية يقيم الذكر فيها ويتصدى للتسليك في الطريق والإرشاد.
وأجازه أيضا بالطريقة
الرفاعية الشيخ أحمد الحريري الرفاعي الآخذ عن والده الشيخ عمر الحريري المشهور
بإجازة طويلة محررة سنة ١٢٨٥ ، وخلّفه وأذن له أن يبايع ويعاهد لمن كان فيه أهلية
لذلك على حسب عادة أهل الطريق.
وأجازه
بالطريقة البدوية الشيخ طه ابن الشيخ مصطفى بطيخ الأحمدي.
وأخذ الطريقة
القادرية أيضا عن الشيخ محمد غازي النسيمي القادري الآخذ عن والده الشيخ محمد شاكر
الخوجكي وأجازه بإجازة طويلة عليها خطوط مشايخ الطريق في عصره ، وأجازه المذكور
بالطريقة الرفاعية والبدوية والدسوقية والشاذلية والبكرية والخلوتية.
وأجازه
بالطريقة الشاذلية والبدوية والنقشبندية مفتي حلب أبو الرضى السيد محمد بهاء الدين
الرفاعي بإجازة طويلة محفوظة عندي ، ومما جاء فيها :
هذا وقد التمس
مني العبد الصالح والنجيب الفالح الناسك المتعبد الصالح المتهجد الشيخ عبد السلام
ابن المرحوم الشيخ هاشم أفندي الطباخ ، فاستخرت الله الذي لا إله سواه ، والتجأت
بالقلب والقالب لباب علاه ، فانشرح صدري لذلك ، مع علمي بأني لست أهلا لما هنالك ،
فأجبته لما سأله ، راجيا من الله سبحانه المعونة والتوفيق لي وله ، وسائلا من فضل
الله وإحسانه له التوفيق ، إذ هو بالاستخلاف حقيق ، ومن خلاصة أهل الزيّ والزيق ،
في الطرائق الثلاث الشاذلية والنقشبندية ، والبدوية الأحمدية ، فنهضت على قدم
المبادرة ، ونظمته في سلك هذه العصابة الفاخرة ، واستخلفته في الطرائق الثلاث
الشاذلية والنقشبندية والأحمدية ، وجعلته إماما قائدا أزمّة فضائلها العلية. (إلى
أن قال) :
وأذنت له أن
يأخذ العهد على من شاء من طالبي السلوك فيها ، ويعاهد فيها من يراه من أهليها ،
كما استخلفني وبايعني وأجازني أشياخي تلقيا منهم وأخذا عنهم ، كما هو مشروح في «عقد
الجواهر في سلاسل الأكابر» للسيد العارف بربه سيدي محمد عقيلة رضياللهعنه.
ثم ذكر سنده في
الطريقة الشاذلية من غير طريق سيدي محمد عقيلة وأطال في ذلك ، ثم قال :
وقد جرت عادة
أئمتنا أن يخصوا الخليفة بحديث مسلسل ، فها أنا أذكر الحديث المسلسل بالمصريين وهو
حديث البطاقة وهو أرجى حديث يوجد في كتب الستة لما اشتمل عليه من البشارة.
ثم ساق سند
المصريين فيه إلى أن أوصله إلى الإمام الليث بن سعد إمام المصريين عن الإمام عامر
بن يحيى المصري عن الإمام عبد الرحمن المصري قال : سمعت عبد الله بن عمرو ابن
العاص رضياللهعنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ،
فتنشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ، ثم يقول الله تبارك وتعالى :
أتنكر من هذا شيئا؟ فيقول : لا يا رب ، فيقول الله جل شأنه : بل إن لك عندنا حسنة
وإنه لا ظلم عليك. فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده
ورسوله ، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله عزوجل : إنك لا تظلم. قال : فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في
كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة). حديث مسلسل بالمصريين أخرجه الحاكم في صحيحه
والإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والطبري وقال الحاكم على شرط
مسلم ا ه .
١٢٧٥ ـ الحاج محمد آغا المكانسي المتوفى سنة ١٣٠٨
الحاج محمد آغا
ابن أحمد آغا ابن الحاج ناصر آغا ابن الحاج حسين آغا ابن عبد الله آغا ابن محمد
جمعة ابن عابدين بن ناصر الدين بن أحمد سويدان المكانسي ، الزعيم الكبير والصدر
الجليل ، وهو نابغة هذه العائلة وواسطة عقدها والمجدد لها مجدها.
ولد المترجم
سنة ألف ومائة وثمان وتسعين في مدينة حلب في محلة محمد بك الشهيرة بمحلة باب
النيرب ، ولما بلغ من العمر ١٩ عاما أدخله والده في سلك اليكيجرية ، يعني
__________________
العسكر الجديد ، وترقى إلى أن صار ييج آغاسي ، يعني آغة الداخلية.
وفي سنة ١٢٢٧
رحل إلى حماة لقيام أهالي حلب على الوالي جبار زاده وبقي هناك ثلاث سنين ، وبعدها
عاد إلى حلب.
وفي سنة ١٢٤٠
عين مفتشا على ميناء السويدية لأجل الكشف على الأسلحة التي وردت من بعض الدول
الغربية بقصد تهريبها.
ولم يزل
المترجم في خدمة الدولة العثمانية إلى سنة ست وأربعين ومائتين وألف ، ففيها ترك
الوظيفة لمجيء إبراهيم باشا المصري لأنه كان من المخلصين إلى الدولة العثمانية.
ولم يزل على ذلك حتى ذهب إبراهيم باشا من هذه البلاد ورجعت إلى حوزة الدولة
العثمانية ، فحينئذ عاد المترجم إلى الجندية.
وفي سنة ١٢٦٧
عين عضوا في المجلس الكبير (كناية عن مجلس الإدارة اليوم).
وفي سنة ١٢٦٨
عين المترجم رئيسا إلى المجلس الذي تشكل للبحث عن الأموال التي نهبت في حادثة ١٢٦٧
المعروفة (بقومة البلد).
وفي سنة ١٢٦٩
صار متسلم حلب وفوض إليه أمر محافظتها ، وبقي متسلما إلى سنة ١٢٧٦ ، وكان في سنة
١٢٦٨ عين لرئاسة كتاب مقيدي النفوس في إيالة حلب علاوة على وظيفته.
وفي سنة ١٢٧٠
صار رئيس ألف (بيكباشي) للعساكر المرتبة في ولاية حلب ، وفيها وجهت عليه رتبة رأس
البوابين للحضرة السلطانية المسماة (قبوجي باشي) مكافأة له على خدماته والسلطان إذ
ذاك السلطان عبد المجيد خان. وفي هذه السنة حصلت الحرب بين الدولة العثمانية
والدولة الروسية المسماة بحرب القرم ، فجهز المترجم من ماله مائة مجاهد وأرسلهم
تحت قيادة ابن أخيه حسن آغا وابن أخته محمود آغا. وفي هذه السنة تعدت عشيرة
الموالي والهيب على ما حولهما من القرى وصاروا يقطعون السبل وينهبون أموال أهل
القرى ، فعين المترجم لتأديبهم ، فتوجه ومعه ألف جندي ومدفعان وقبض على زعمائهم
وأشقيائهم وأتى بهم إلى حلب ، فنفى بعضهم إلى الآستانة وأرجع الأموال المنهوبة إلى
أربابها وأعاد الأمن إلى نصابه وعاد ظافرا.
وفي سنة ١٢٧١
أرسلت الحكومة شخصين لأخذ العشر من القرى ، فبلغ خبرهما عشيرة الموالي فقبضوا
عليهما بقرب تل السلطان وأخذوهما أسيرين وأعلموا الوالي أنا لا نطلقهما ما لم
تطلقوا سراح زعمائنا الذين أرسلتموهم إلى الآستانة. وشقوا عصا الطاعة وصاروا
يغيرون على القرى وينهبون أموالها وأموال المارة ، وأقلقوا بذلك بال الحكومة ،
فعين المترجم لقمع هذه الفتنة ، فتوجه بالعسكر ومعه مدفعان وبذل منتهى النصح
لهؤلاء الثائرين ، فلم يجد ذلك نفعا ، ولما أعياه أمرهم حاربهم في محل يقال له
الظلمة ، فولوا الأدبار ودخلوا على عشيرة أولاد علي ، فعند ذلك انقادوا وخضعوا
وسلموه الشخصين مع ما نهبوه من الأموال. وفي هذه السنة عين ناظرا على الجفتلك
الهمايوني.
وفي سنة ١٢٧٥
ذهب لتأديب العصاة من عشيرة الحديديين والتركمان بسبب قطعهم الطريق وسلبهم الأموال
وعاد موفقا.
وفي سنة ١٢٧٧
عادت عشيرة الحديديين إلى العبث في الأرض ، فتوجه إليها بشرذمة من العساكر وأخضعها
واسترجع منها الأموال المنهوبة واستحصل منها التكاليف الأميرية المتأخرة. وفي سنة
١٢٧٩ عادت هذه العشيرة وعشيرة الموالي إلى النهب والسلب ، فعين المترجم فذهب وأدب
العصاة منهما وعاد ظافرا.
وفي سنة ١٢٨٧
عين رئيسا للمجلس البلدي. وفيها عين رئيسا للجنة تحصيل الأموال الأميرية. وفي سنة
١٢٨٩ عين لرئاسة المجلس البلدي للمرة الثانية. وفي سنة ١٢٩٤ عين له للمرة الثالثة
، وكان الوالي وقتئذ في حلب الوزير كامل باشا الصدر الأعظم المشهور. وفي سنة ١٢٩٥
في شعبان فوضت إليه محافظة حلب بمقتضى مرسوم من كامل باشا المذكور ، وقد كانت حلب
خالية من العساكر ، لأن من فيها كان أرسل للحرب الناشبة بين الدولة العثمانية
والدولة الروسية ، فقام المترجم بالمحافظة أحسن قيام ولم يحصل في تلك المدة ما يخل
بالأمن. وكان في كثير من الليالي يركب فرسه ويدور في الأسواق وفي الأزقة وكان عمره
إذ ذاك سبعا وتسعين سنة.
وفي سنة ١٢٩٦
عين عضوا لمجلس أخذ العسكر المسمى (بالقرعة). وفي سنة ١٢٩٩ عين فيه أيضا. وفي سنة
١٣٠٢ عين لهذا المجلس في قرية قضاء جبل سمعان. وفي سنة ١٣٠٣ عين رئيسا إلى مجلس
تحصيل الأموال الأميرية ، وكان الوالي جميل باشا وعمر المترجم
يومئذ مائة وخمس سنين. وفي هذه السنة أو التي بعدها ترك المناصب ولزم بيته
وهو ممتع بصحته وعقله ولم تقلع له سن ولا حني ظهره ، وصار الوزراء والكبراء وذوو
الوجاهة يزورونه في منزله ويستمدون من آرائه. بقي على ذلك إلى أواخر سنة ١٣٠٨ ،
ففيها توفي إلى رحمة الله تعالى ودفن في تربة الشيخ جاكير وقد بلغ من العمر مائة
وعشر سنين ، وربما لا يمر عليك في تاريخنا من بلغ هذه السن.
وكان رحمهالله شجاعا مقداما وقورا مهابا سخيا محبا لأهل العلم مكرما
لهم متواضعا حسن المعاشرة لطيف المذاكرة ، من ذلك ما حدثني به الأستاذ الكبير
شيخنا الشيخ محمد أفندي الزرقا رحمهالله قال : اجتمعت يوما مع محمد آغا المكانسي في بيت في محلة
باب النيرب في خطبة في زواج اجتمع فيه خلق كثير ومعهم المنشدون ، وقد كان ذلك عادة
متبعة في ذلك الحين ، فجر الحديث إلى ذكر الموت ، فقال لي محمد آغا : الموت على
ثلاثة أقسام : موت أبيض ، وموت أحمر ، وموت أسود ، أما الموت الأبيض فهو الموت
الاعتيادي ، وأما الموت الأحمر فهو الفقر ، وأما الموت الأسود فإنسان يرافقك ولا
يوافقك ولا يفارقك.
وكان المترجم
طويل القامة أسمر اللون واسع العينين أشهلهما واسع الجبين أقنى الأنف ، تدلك رؤيته
على شهامة وشجاعة وعلو جناب. وحدثت عنه غير مرة أنه كان قوي الحافظة يحفظ ما جرى
معه وفي زمنه وقبل ذلك من الحوادث ، ولو كان في عصره من يكتب ما يحدّث به لجمع من
ذلك تاريخ حافل مفعم بالحوادث المهمة التي حصلت في القرن الماضي.
وأخبرني ولده
طاهر آغا الذي توفي سنة ١٣٤٠ وكتب لي به أيضا أن أصل عائلتهم من الغرب من بلدة
مكناس ، قدم جدهم الأعلى أحمد سويدان المكناسي مع أخيه إلى حلب سنة ٨٨٥ في أيام
دولة الجراكسة ، وكانت شهرتهم ببيت المكناسي ، وبتقادم الأيام حرفت إلى بيت
المكانسي ، وهاجر مع جدهم المذكور اثنان من أخوته ، الواحد توجه إلى بصرى الحرير
من بلاد الشام فنزلها واستوطنها وله بها ذرية إلى يومنا هذا تعرف ببيت الحريري ،
والثاني نزل في حسّة البلدة التابعة لقضاء حمص وتوطنها وله بها ذرية تعرف ببيت
سويدان ، منها الآن عبدو آغا سويدان من كبراء تلك البلدة وزعمائها. وأخبرني أن
عائلتهم تنتسب
إلى الإمام زين العابدين ، ونسب العائلة محفوظ لديهم إلى الآن والعهدة في
ذلك عليه.
١٢٧٦ ـ سيدي الوالد الحاج محمود أفندي الطبّاخ المتوفى سنة ١٣٠٩
سيدي الوالد
الحاج محمود أفندي ابن الشيخ هاشم ابن السيد أحمد ابن السيد محمد الطبّاخ.
ولد رحمهالله سنة ١٢٤٦ ، ولما ترعرع قرأ مبادىء الفقه على سيدي الجد
، وصار يأخذه معه إلى الزاوية الهلالية فيحضر معه مجالس الذكر ، وشيخ التكية وقتئذ
الشيخ محمد الهلالي ابن الشيخ إبراهيم الهلالي ، وصار يحضر دروس الوعظ والفقه
والتصوف على الشيخ محمد المذكور ثم على ولده الشيخ إبراهيم ، فنبت نباتا حسنا ونشأ
نشأة صالحة ، وصار لديه من الفقه ما يكفيه في أمور دينه ودنياه.
وكان سيدي الجد
يتعاطى صنعة البصم المسماة بالبصمه جي كما قدمته في ترجمته ، فتعاطى سيدي الوالد
هذه الصنعة أسوة بأبيه ، وظهرت عليه أمارات النجابة والحذق فيها ، فسلّمه سيدي
الجد وهو في سن العشرين دار طباعته التي كانت ملاصقة لداره في محلة الجلّوم ،
واعتزل في بيته على العبادة والتلاوة ومطالعة كتب القوم ، فقام سيدي الوالد بإدارة
أشغالها وترتيب صنّاعها والبيع والشراء أحسن قيام ، ثم أذن له أن يتخذ لنفسه دار
طباعة على حدة ، وأخذ حانوتا في سوق العبي صار يبيع فيه المناديل المطبوعة ، وصار
يجلب من حماة وحمص والشام ما يباع في هذا السوق من البضاعة ، فنمت تجارته في مدة
قليلة ، فاشترى سنة ١٢٧٦ دارا عظيمة في محلة باب قنسرين مشتملة على دارين كبيرة
وصغيرة ، باب الصغيرة من زقاق غير نافذ يعرف ببوابة بيت بيازيد ، وباب الكبيرة من
بوابة تعرف بنا وهو يقابل الباب الثاني للبيمارستان الأرغوني ، وفي هذه الدار قاعة
كبيرة ذات أو اوين ثلاثة مفروش صحنها بالرخام الأصفر ، وفي الوسط بركة صغيرة ،
ويظهر أنه قد مضى على بنيانها نحو ٣٠٠ سنة ، وفي هذه الدار كانت ولادتي.
وفي نواحي سنة
١٢٩٠ صار سيدي الوالد يتجر إلى بلاد الحجاز ، ويأخذ مناديل تسمى دجاج الحبش وملافع
أشكالا متنوعة يطبعها في مطبعته ، ويأخذ معه أنواعا من بضائع هذه البلاد مثل البسط
والصايات والقصب الذهبي والفضي المعروف بالتيل وهو
من مصنوعات حلب ، ويأخذ معه أيضا من البضائع الإفرنجية يشتري بعضا منها
من حلب وبعضا من بيروت ، ويجلب من مكة وجدة الأقمشة والزنانير الهندية والأواني
النحاسية والمسك والعطر وأنواع العطارة ، وكان يتوجه هو سنة وسيدي الأخ الشيخ محمد
سنة ، وربما أرسل سيدي العم الشيخ عبد السلام في بعض السنين ، ويستصحب معه أحيانا
بعض إخوتي ، واستصحبني معه سنة ١٣٠٧ كما قدمته في ترجمة سيدي الأخ الشيخ محمد. وفي
سنة ١٣٠٨ أرسل أخي الحاج عبد القادر وأرسل معه قريبا لنا ، وعادا في الثامن
والعشرين من ربيع الأول سنة ١٣٠٩ ، فخرج سيدي الوالد ومعه بعض أقاربنا وكنت معهم
إلى قرية ترمانين لاستقبالهما على حسب العادة المألوفة وقتئذ في استقبال الحجاج
القادمين من طريق الإسكندرونة إلى هذه القرية أو قرية تقات وهي قبل تلك القرية ،
وعدنا ونحن فرحون مسرورون بوصول أخي ومن معه سالمين ، فما كدنا نصل البيت إلا
وظهرت أمارات الإعياء والتعب على سيدي الوالد ومرض من ذلك اليوم ، وظل مريضا اثني
عشر يوما ولم ينجع معه دواء.
وفي يوم الجمعة
في التاسع من شهر ربيع الثاني فارقت روحه جسمه وعمره ثلاث وستون سنة ، فعظم بذلك
مصابنا وتبدلت أفراحنا أتراحا ، ولكن لا مرد لقضاء الله ولم يسعنا إلا الصبر
والاحتساب. وكانت له جنازة مشهودة ، ودفن في تربة السنابلة ملاصقا لقبر سيدي الجد.
وعمل له الشاعر
الأديب عبد الفتاح الطرابيشي أبياتا نقشت على قبره وهي :
إلهي ذنوبي
أورثتني مذلة
|
|
وأنت إلى
العاصين بالعفو موجود
|
أتيتك يا
مولى البرية كلها
|
|
وهل يلف باب
غير بابك مقصود
|
فحقق لظني
بالذي أنت أهله
|
|
فإنك أهل
الفضل والفضل مشهود
|
أنلني مقاما
في الجنان مؤرخا
|
|
(فلطفك يا ذا العلم بالعبد محمود)
|
١٣٠٩
__________________
كان سيدي
الوالد مربوع القامة ، أسمر اللون سمرة قليلة ، مستدير الوجه ، متوسط اللحية ، شاب
معظمها قبيل وفاته ، كثير التبسم دائم البشر حسن الملاقاة واسع الصدر لقاصده ،
مبذول الجاه لا يألو جهدا في قضاء حوائج الناس ، رقيق القلب ، كثير الصدقات ، يقرض
الحجاج المنقطعين في مكة ما يوصلهم إلى حلب ويستأجر لهم الجمال ويشيعهم إلى ظاهر
مكة ، وله في ذلك حكايات يتحدث بها عارفوه.
وكان لا تزعزعه
الكوارث ولا تزعجه المصائب ، بل يتلقاها بقلب متين وعزم شديد ، لا يفرح مهما ربح
في تجارته ولا تلقاه مهموما أو محزونا مهما خسر فيها ، هو هو في الحالتين ، وهذا
الخلق قليل في الناس.
وكان ناصحا في
بيعه وشرائه ، مستقيما في أخذه وعطائه ، لا يروج سلعته بيمين أو قسم بشيء.
وكان يحفظ
كثيرا من فروع الفقه خصوصا أحكام البيع والشراء الصحيح منها من الفاسد ، ولم يكن
وحده في هذه الصفة بل كان على ذلك معظم تجار المسلمين لا يتعاطى أحدهم التجارة إلا
بعد الوقوف على جانب من علم الفقه ، بخلاف تجار هذا الزمان الذي قل فيهم من يعلم
ذلك.
وكان ماهرا في
صنعة بصم المنديل التي كانت قبل خمسين سنة واسعة في حلب ، يتعاطاها نحو ستين شخصا
يشغل كل واحد منهم فيها قدر عشرين شخصا ما بين صانع وأجير ، وتشغل هذه الصنعة قدر
عشر مصابغ للنيل كل مصبغة فيها نحو عشر من الصناع ، وكان هذا المنديل يباع في بلاد
القارص وأرزن الروم وأسعرد وآذنة وطرسوس وملاطية وغيرها من بلاد الأناضول وفي
بغداد والموصل ومصر والحجاز والشام وطرابلس وحمص وحماة وحلب ، لكل ناحية أشكال
مخصوصة يضعه فلاحو هذه البلاد على رؤوسهم رجالا ونساء. ولما صارت الحرب الروسية
العثمانية سنة ١٢٩٠ واستولت روسية على مقاطعة القارص بطل ما كان يباع إليها ، لأن
الحكومة الروسية وضعت على ما يدخلها إلى بلادها مكسا ثمانين في المئة ، وكان مبلغا
عظيما يشغّل عدة مطابع ، وما يباع في باقي البلاد أخذ في التدني بمزاحمة البضائع
الإفرنجية ، وكلما تدنت وقل رواجها يقل من عدد هؤلاء المعلمين ، بعضهم افتقر
وبعضهم تعاطى صنعة غيرها. وكنت مع اشتغالي بخدمة العلم
أتعاطها وأتعاطى التجارة مع أخويّ الحاج بشير والحاج عبد القادر في الخان
المعروف بخان العلبية ثم بخان البرغل. وفي سنة ١٣٣٤ في المحرم توفي أخي الحاج بشير
وقد كان أحذقنا في هذه الصنعة. وفي سنة ١٣٣٩ تركنا هذه الصنعة بتاتا لقلة رواجها.
وفي هذه السنة أعني سنة ١٣٤٥ لم يبق من معلمي هذه الصنعة سوى اثنين ، ولا يباع هذا
المنديل الآن إلا على فلاحي قرى حلب وحماة وحمص والدير ، وقد كان يباع إلى بعض
بلاد الأناضول وله هناك شيء من الرواج ، وقد بطل ذلك في هذه السنين الثلاث من حين
ما ألزم مصطفى كمال باشا رئيس الجمهورية التركية الأتراك بلبس القبعة (البرنيطة)
وربما بطل الباقي بعد سنين قلائل. وقد مضى على وجود هذه الصنعة في حلب أكثر من
مائتين وخمسين سنة.
ومكتوب على لوح
قبر جد والدي (الحاج أحمد بن محمد الطباخ البصمجي) وقد كانت وفاته سنة (١٢٤٢).
والشاش الذي يطبع عليه كان قبل ثمانين سنة يحاك في حلب ويقصر فيها وتسمى صنعته
جبّدارا ، وكان يشتغل فيها نحو ألفي شخص كان البعض يؤخذ للبصم والبعض يتخذ للقمصان
وغير ذلك ، إلا أنه لم يكن متنوعا في القماش والعرض مثل الذي يجلب في هذه الأزمنة
من مانجستر ، بل كان أنواعا وعروضا معدودة. ولما صار يأتي الشاش من مانجستر ، وهو
أتقن صنعة وأشد بياضا وأكثر أنواعا وأرخص سعرا ، صار ظل هذه الصنعة يتقلص إلى أن
أضمحلت قبل سبعين سنة من حلب ولم يبق لها أثر الآن ، وكثير من الصنائع التي كانت
في حلب وغيرها من بلاد الشرق اضمحلت وتلاشت بمزاحمة الصنائع الغربية ، ولله في
خلقه شؤون.
١٢٧٧ ـ السيد محمد حسام الدين أفندي المتوفى سنة ١٣٠٩
السيد محمد
حسام الدين أفندي ابن تقي الدين أفندي ابن محمد قدسي أفندي ، أحد وجوه الشهباء
وأعيانها.
ولد رحمهالله سنة أربع وأربعين بعد المائتين والألف ، ولما صار عمره
دون العشر توفي والده فربي في حجر أخيه لأبويه السيد أحمد بهاء الدين.
وقرأ على الشيخ
طالب الشهير بأبي عرقية والشيخ عبد القادر سلطان بعض ما يحتاج إليه من العلوم الدينية
والعقلية وحصل طرفا منها. وقرأ اللغة التركية على بعض أفاضل الأتراك
إلى أن صار يحسن التكلم والكتابة فيها. وحصل قسما صالحا من اللغة الفارسية.
وفي عنفوان
شبابه صار رئيسا لكتاب المجلس الكبير في حلب لما كانت إيالة أي قبل التشكيلات التي
حصلت سنة ١٢٨٤ ، ثم لما ضمت ريحا والجسر إلى إدلب عين قائم مقام على إدلب ، وبعد
ثلاث سنين توجه مع علي باشا الشريف إلى البصرة التي كانت وقتئذ تابعة لبغداد وعين
هناك وكيلا لمتصرف البصرة ، ثم عين قائم مقام إلى كفري وغيرها من الأقضية ، ثم
متصرفا للحلة مقدار خمس عشرة سنة.
وفي سنة ١٢٨٨
حضر إلى حلب وعين في وظائف موقتة. وفي سنة ١٢٩٢ عين رئيسا لتحصيلات الولاية ، ثم
عين عضوا في مجلس الإدارة.
وفي سنة ١٣٠٦
عين رئيسا للمجلس البلدي وتوفي وهو في الرئاسة.
وكانت وفاته
مساء يوم الاثنين سابع عشر رجب سنة ألف وثلاثمائة وتسع ، ودفن في تربة الصالحين.
وحاز من الرتب
التي كانت تعطى من قبل الدولة العثمانية على (الرتبة الأولى) مع النيشان العثماني
من الطبقة الثالثة.
وكان قصير
القامة بدينا قوي الجسم حسن المحاضرة لطيف المعاشرة. وخلف ولدين هما كامل باشا
ورشيد أفندي ، رحمهالله تعالى.
١٢٧٨ ـ السيد عبد القادر أفندي القدسي المتوفى سنة ١٣٠٩
السيد عبد
القادر أفندي ابن السيد تقي الدين ابن السيد محمد المشهور بالقدسي الحلبي.
ترجمه الشيخ
عبد الرزاق البيطار في تاريخه «حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر» ناقلا ذلك
عن الكتاب المسمى «بالعقود الجوهرية في مدائح الحضرة الأحمدية الرفاعية» تأليف
أحمد عزت باشا ، قال : هو صاحب الخصائل الممدوحة والآداب والمعرفة ، تدفقّ ذكاء
وتجسّم حياء ، قد صيغت أخلاقه من النسيم ، وتهذبت أطواره بحكم التجاريب من الحديث
والقديم ، فهو من بيت شرف وعز مستديم.
كان أبوه نقيب
أشراف الشهباء ، وجده مفتيها ومرجع العلماء. فهم فيها عماد الشرف
والمحامد ، وركن الطارف والتالد.
ولد حفظه الله
سنة ست وأربعين ومائتين وألف ، وترعرع في حجر والده ، ونشأ على حال عظيم من الكمال
والتقوى والأدب ، وتلقى علوم العربية والفقه وغيرها من علوم السنة من أفاضل حلب ،
ثم أتقن بعدها اللغة التركية والفارسية ، وأحسن المنثور والمنظوم في اللغتين
العربية والتركية ، وله فيها الآثار الحسنة والأفكار المستحسنة ، ومن أعظمها أنه
ترجم كتاب «البرهان المؤيد» مؤلف حضرة الغوث الرفاعي رضياللهعنه من العربية إلى التركية ، ورسالة «رحيق الكوثر» التي هي
من كلام الغوث الرفاعي الأكبر ، أبدع فيها كل الإبداع ، وترجم «المجالس الأحمدية»
، ونظم حلية النبي صلىاللهعليهوسلم في التركية ، وهو مطبوع في الآستانة ، وله غير ذلك من
المآثر العديدة والآثار الحميدة ما تتزين به الصحائف والأوراق ، وتهتز لها الأغصان
بالأوراق.
وقد تقلب مذ
نشأ في خدمة الدولة العثمانية ، حتى أحرز المراتب العلية والمناصب السنية ، وهو
الآن الكاتب الثاني في المابين للجناب العالي السلطاني (السلطان عبد الحميد الثاني)
لا زال ملحوظا بالأنظار الخفية والجلية ، بكل غدوة وعشية.
وله نظم رقيق ،
ونثر بكل مدح حقيق ، ومن نظمه تخميسه قصيدة حسن أفندي البزاز الموصلي في مدح السيد
أحمد الرفاعي قدس الله سره وهي :
يا سادتي
فضلكم في الصحف مكتوب
|
|
وحبكم بلسان
الشرع مندوب
|
والحمد لله
أني فيه مسلوب
|
|
قلبي إليكم
بأيدي الشوق مجذوب
|
والصبر
عن قربكم للوجد مغلوب
|
ولست أبغي
براحا عن مودتكم
|
|
حسبي أعد
دخيلا في عشيرتكم
|
وقد فنيت بكم
من فيض همتكم
|
|
لا أستفيق
غراما في محبتكم
|
وهل
يفيق من الأشواق مسلوب
|
عسى بإسعافكم
أستحصل الأملا
|
|
فالصبر فرّ
وفيكم للمحب حلا
|
__________________
كم ذا أقول
وقيد البعد قد ثقلا
|
|
يا قلب صبرا
على هجر الأحبة لا
|
تجزع
لذاك فبعض الهجر تأديب
|
لعل يوما
بلطف منهم يصلوا
|
|
أسير هجر
وحبل الوصل يتصل
|
فلا تحد عنهم
مهما بدت علل
|
|
هم الأحبة إن
صدوا وإن وصلوا
|
بل
كل ما صنع الأحباب محبوب
|
والقصيدة طويلة
ذكرها بتمامها صاحب العقود الجوهرية ، وهي تدل على كمال صاحب الأصل والتخميس
مذكورة بتمامها في ترجمة صاحبه. ا ه.
وكتب لنا السري
الوجيه السيد تقي الدين أفندي ، وهو ابن أخي المترجم ، ما تولاه عمه من المناصب
قال :
لما كان شابا
وكانت حلب إيالة كان رئيسا لمحاسبة الواردات مع ويس باشا الذي كان رئيسا لمحاسبة
المصاريف. ولما جاء الوالي سليمان باشا إلى حلب سنة ١٢٧٢ أخذه معه إلى إزمير وجعله
رئيسا لديوانه الخاص. وفي سنة ١٢٧٧ صار مديرا لأوقاف حلب ، ثم توجه إلى الآستانة
سنة ١٢٨٣ بناء على أمر ناظر المالية رشدي باشا الشرواني وعين رئيسا لقلم المحاسبة
في نظارة المالية. وفي سنة ١٢٨٥ عين رئيسا لديوان تحريرات بورسة. وفي سنة ١٢٨٧
توجه ثانية إلى الآستانة ، وعاد منها بعد مدة إلى حلب وعين رئيسا لتحريرات ديوان
الولاية ورئيسا للبلدية معا ، وبعده عين قائم مقام لعينتاب وبره جيك. وفي سنة ١٢٩٢
حضر لحلب وانتخب نائبا عن حلب في مجلس المبعوثين ، فاستقال ، ثم توجه إلى الآستانة
وانتخب وهو موجود هناك سنة ١٢٩٣ نائبا لمجلس المبعوثين ، فقبل ذلك وعندما أقفل
السلطان عبد الحميد المجلس عين كاتبا خامسا في البلاط الملكي ، وبعد أشهر قلائل
حول إلى متصرفية حوران ، ثم حول منها وعاد إلى الآستانة وعين مفتشا للعدلية في
ولاية طربزون ، ثم حول منها سنة ١٢٩٤ إلى متصرفية كليبولي ، وبعد أشهر قلائل عين
كاتبا ثانيا في البلاط الملكي ، وبقي في وظيفته حتى تاريخ وفاته في القسطنطينية
سنة ١٣٠٩ ، ودفن في بشك طاش في دركاه يحيى أفندي. ا ه.
أقول : كان
المترجم حسن الاعتقاد في الشيخ محمد أبي الهدى الصيادي ، وله اليد الطولى في تقدمه
والتعريف به لدى كبراء الآستانة ، وبينهما صحبة أكيدة ومحبة زائدة ،
وأخلص كل واحد منهما الود لصاحبه فصارا يعظمان شأن بعضهما ويذيع كل واحد
منهما فضل الآخر ومزاياه ، فطار بذلك صيتهما وعظم شأنهما وصار سببا لتقدمهما
ونوالهما المناصب العالية والمنازل الرفيعة ، وتقدما عند السلطان عبد الحميد تقدما
زائدا وعلت منزلتهما لديه وعظم جاههما عنده ، وأقبل عليهما بذلك الخاص والعام ،
فكانا ملجأ القصاد ومرجع ذوي الحاجات.
وأورد الشيخ
أبو الهدى للمترجم في كتابه «تنوير الأبصار» قصيدتين طويلتين إحداهما في مدح والده
الشيخ حسن وادي ومطلعها :
علوت ولا
يكون علاك بدعا
|
|
فقد أترعت
جيب الدهر نفعا
|
وقد بالغ في
إطرائه وتغالى في ذلك جدا وجاوز الحد حيث قال بعد هذا البيت :
وأنت السيد
الشهم المرجّى
|
|
لكل ملمة في
الناس تدعى
|
وأنت الفرد
في الدنيا ولكن
|
|
أتيت لأوحد
الآباء شفعا
|
والثانية في
مدح الشيخ محمد الرواس الذي يدعي الشيخ أبو الهدى أنه شيخه مطلعها :
خفاء كاد
يستبق الظهورا
|
|
وطور قد كساه
الغوث نورا
|
هو المهديّ
فخر بني الرفاعي
|
|
خفي وبدا لنا
فجرا منيرا
|
أمير كان في
ملك المعاني
|
|
نعم لم يتخذ
يوما سريرا
|
١٢٧٩ ـ بهاء الدين أفندي القدسي
المتوفى سنة ١٣٠٩
السيد بهاء
الدين أفندي ابن تقي الدين أفندي ابن السيد محمد قدسي أفندي ، السريّ الوجيه ، أحد
أعيان الشهباء.
ولد سنة ألف
ومائتين وثمان وعشرين بحلب ، ونشأ بها. وأول ما تولاه من المناصب نقابة الأشراف
وذلك سنة ١٢٥٦ حينما كان قاضيا في بلاد الروم إيلي ، ثم عين عضوا للمجلس الكبير مع
بقائه في منصب النقابة ، وفي سنة ١٢٦٥ استعفى من هذه الوظيفة. ولما حصلت حادثة حلب
سنة ١٢٦٧ اتهم المترجم أن له بها دخلا ، فأرسل مع المتهمين إلى الآستانة ، ثم لما
تبين براءته عاد إلى حلب ، ثم عين رئيسا لمجلس التحقيق ، ثم عين
عضوا في المجلس الكبير للمرة الثانية. ولما حصلت التشكيلات في المحاكم وذلك
سنة ١٢٨٢ رجع إلى رئاسة مجلس التحقيق. وفي سنة ١٢٨٤ صار رئيسا للبلدية ، وبقي إلى
سنة ١٢٨٥ وفيها توجه إلى القسطنطينية لأشغال تتعلق بالأملاك الأميرية ، وعاد منها
سنة ١٢٨٧ وعين على أثر حضوره عضوا في مجلس تمييز الولاية ، ثم اعتزل المناصب من
سنة ١٢٩٠ إلى ١٢٩٥ ، ثم عين عضوا في مجلس التمييز للمرة الثانية وبقي إلى آخر سنة
١٢٩٨ ، ثم عين عضوا في مجلس الإدارة ، وبعد ستة أشهر عين أيضا رئيسا للبلدية.
وفي سنة ١٣٠٣
انسحب من وظيفته ولزم البيت لشيخوخته إلى أن توفي يوم الجمعة في الثاني عشر من
شعبان سنة ١٣٠٩ ، ودفن في تربة الصالحين.
ونال من الرتب
رتبة (بلاد خمس) وهي من الرتب العلمية.
ووصفه جميل
أفندي الجابري في مجموعته فقال : كان طويل القامة نحيف الجسم جسورا مقداما حليما
كريما سخيا ، عارك الدهر وعاركه ، لا يبالي برخاء ولا شدة ، حسن الاعتقاد مواظبا
على الصلوات الخمس ، يتهجد في بعض الليالي ، قوي الحافظة يحفظ وقائع أيامه في أوقاتها
وأيامها. وخلف خمسا من الذكور وهم مجيب أفندي وتقي الدين أفندي ونور الدين أفندي
وجلال الدين أفندي ونجم الدين أفندي ، والأخير توفي شابا سنة ١٣١٦ ولم يتزوج.
١٢٨٠ ـ تقيّ الدين باشا المدرس المتوفى سنة ١٣١٠
تقي الدين باشا
ابن الشيخ عبد الرحمن أفندي ابن الشيخ حسن أفندي المدرس. كانت ولادته سنة ١٢٣٠
تقريبا. قرأ على أفاضل بلده ، وحصل طرفا صالحا من العلوم العربية والفقهية واللسان
التركي ، وتولى إفتاء حلب سنة ١٢٦٥. وبعد سنتين حصلت الواقعة المشهورة بقومة البلد
، وكثر هنا القيل والقال واتهم بأن له دخلا فيها ، فضاق بذلك ذرعا ووجد أن النزوح
عنها أولى به ، فتوجه إلى بلاد الحجاز وأدى فريضة الحج سنة ١٢٦٨ ، وعاد من هناك
إلى الآستانة ولم يحضر إلى حلب ، وهناك غير زيّه العلمي ولبس الطربوش ، وعين
متصرفا للقارص ثم إلى أورفة ثم آدنة فكركوك فالموصل فبغداد ، وكانت البصرة وقتئذ مرتبطة
ببغداد ، ثم سيواس ثم الحجاز ، وكانت توليته للحجاز سنة ١٢٩١.
وقد ذكره السيد
الدحلاني في تاريخه «إعلام الأعلام بأمراء البلد الحرام» فقال في حوادث هذه السنة
: وتولى بعده (بعد محمد رشدي باشا الشرواني) تقي الدين باشا الحلبي ، وكان مفتيا
في حلب كأبيه من قبله ، ثم وقعت فتنة في حلب اتهم بالتسبب لها ، فوقع بينه وبين
أهل حلب تنافر ، فعزل من الفتوى وتوجه إلى دار السلطنة ودخل في سلك الملكية وأعطي
رتبة الوزارة ، وترقى وولي ولايات ، منها بغداد وليها سنة واحدة بعد نامق باشا ،
ثم عزل من بغداد وجاء إلى دار السلطنة ، ثم أعطي ولاية الحجاز سنة إحدى وتسعين بعد
وفاة الشرواني ، فقدم في ذي القعدة من السنة المذكورة ، وفي شهر ذي القعدة من سنة
أربع وتسعين عزل عنها منها. ا ه.
أقول : ثم عين
لبغداد للمرة الثانية ، وفي سنة ١٣٠٤ استعفى وعاد إلى حلب فوصلها في ٢٣ رجب كما
ذكرته جريدة الفرات الرسمية ، فبقي مقدار شهرين ، ثم توجه إلى الآستانة ، وله فيها
منزل فأقام فيه إلى أن توفي في رمضان سنة ١٣١٠.
ووقف كتبا
كثيرا فيها المخطوط والمطبوع على المدرسة العثمانية بحلب وضعت مع الموقوفة من زمن
الواقف ، وأرسل هذه الكتب من بغداد ، ووقف جميع أملاكه على المدرسة المذكورة. وشرط
في كتاب وقفه أن يقرأ في كل يوم بعد صلاة الصبح ثلاثون جزءا من القرآن يقرؤها
ثلاثون طالبا ، وشرط لكل قارىء ثلاثين قرشا في الشهر ، والعمل جار على ذلك إلى
يومنا هذا ، رحمهالله تعالى وأجزل ثوابه.
١٢٨١ ـ جبرائيل بن عبد الله الدلّال المتوفى سنة ١٣١٠ ه و ١٨٩٢ م
ترجمه صاحب
كتاب «الصحافة العربية» فقال : نشر قسطاكي بك الحمصي سنة ١٩٠٣ في كتيّب عنوانه «السحر
الحلال في شعر الدلّال» ترجمته فاقتطفنا منها ما يأتي وأضفنا بعض زيادات تناسب
المقام :
ولد في ٢ نيسان
سنة ١٨٣٦ ، وهو سليل بيت كريم من أعرق بيوتات حلب في العز والجاه ، فنشأ في بيت
أبيه عبد الله الدلال ومجلسه إذ ذاك منتدى الفضلاء ومثابة النبلاء ، يقصده أدباء
الوقت وشعراؤه كفتح الله مرّاش ونصر الله الطرابلسي وسواهما. وفقد صاحب الترجمة
أباه صغيرا فاعتنت شقيقته مادلينا بتربيته وهي من فاضلات النساء.
وقد نظم المعلم
بطرس كرامة تاريخا لضريح عبد الله الدلال بقوله :
لحد ثواه ابن
دلّال التقى فغدا
|
|
برحمة الملك
القدوس مغمورا
|
قضى الحياة
على نهج الصلاح وقد
|
|
لاقى المنية
مبرورا ومشكورا
|
ناداه رب
غفور إذ تؤرخه
|
|
نل جنة الخلد
عبد الله مسرورا
|
١٨٤٧
ولما أكمل درس
مبادىء اللغة العربية أرسلته أخته إلى مدرسة عين طورا بلبنان ، فلم يلبث فيها إلا
ستة شهور ، ثم عاد إلى حلب وكأنه قد درس الفرنسية والإيطالية سنين طوالا ، وذلك
لما أوتيه من توقد الذهن وملكة الحفظ ، فأقام فيها يطالع العلوم بنفسه ويدرس أصول
اللسان التركي.
ومال إلى
اقتناء الكتب فلم يقع كتاب نفيس في يده إلا اشتراه فأصاب حظا وافرا من علوم العرب.
وكان يحفظ جل ما كان يقرؤه ، فكان يتذكر في الخمسين من عمره ما كان قرأه مرة واحدة
قبل ذلك بثلاثين سنة. وكان يحفظ ديوان المتنبي وأكثر شعر الصفيّ ومقامات الحريري
وكثيرا من مقدمة ابن خلدون والمعلقات السبع وطائفة من أشعار العرب وقسما كبيرا من
القرآن.
وكانت له
مشاركة في أكثر العلوم. ودرس فن الرسم فأصاب شيئا منه. وكان شديد الولوع بالغناء ،
عارفا بفن الموسيقى ، متمكنا من علمي الجغرافيا والتاريخ.
وله رسالة في
التاريخ العام غير كاملة.
وكان يحرز حصة
حسنة من العلوم الرياضية والفلسفة والطب ، وكان يتبع العلوم والفنون العصرية
والاكتشافات والاختراعات ، فكان صدره أشبه بخزانة علوم وفنون ، فلا يسأل عن علم أو
اختراع أو مسألة فلكية أو سياسية إلا ويجيب أحسن جواب ، بل كثيرا ما كان يأخذ في
الشرح والتعليل كأنه من أئمة ذلك الفن فيجيد غاية الإجادة.
وكان طيب
الحديث لسنا فصيحا وشاعرا متفننا من الطراز الأول (في هذا مبالغة) سريع التصور
لطيف الشمائل خفيف الروح صحيح الانتقاد يميل إلى المزاح أحيانا.
وكان الغالب
على طباعه سلامة السريرة وكثرة الوفاء وحرية الفكر.
ولما كان في
نحو العشرين من عمره مات له عم في القسطنطينية بلا عقب وترك ثروة كبيرة ، فسافر
إليها ليستولي على حصته من التركة المذكورة ، ثم عاد إلى وطنه بعد خمسة شهور ،
وعلى إثر رجوعه بمدة قصيرة تزوج فتاة من أجمل بنات الشهباء بل بنات الشرق ، جامعة
بين الذكاء والصيانة. وفي سنة ١٨٦٨ عاد إلى القسطنطينية فلبث فيها إلى السنة
التالية ، وفي تلك الأثناء نظم من القصائد والمقطعات شيئا كثيرا ، كقوله من قصيدة
يمدح بها جودت باشا :
العلم بعض
صفاته والفضل بع
|
|
ض خلاله
والعلم بعض خصاله
|
والجود من
أسمائه والسعد من
|
|
قرنائه
واليمن من إقباله
|
ثم استصحب
قرينته معه إلى أوربا وزار أكثر مدنها الشهيرة. وبعد مدة قصد صاحب الترجمة بلاد
البورتوغال لقضاء حاجة كانت في نفس أحد أصحابه من الأشراف كان توسل إليه في
التماسها من ملك تلك الدولة ، فلما تشرف بمقابلة الملك أجاب الملك سؤله وبلغه
مأموله وربح جبرائيل من ذلك مالا جزيلا.
ومر في طريقه
بإسبانيا وأحب أن يتفقد آثار العرب في الأندلس وما كان لهم هناك من ضخامة الملك
واتساع الحضارة ، ثم عاد إلى مرسيليا حيث أصيبت قرينته بمرض عضال فماتت مأسوفا على
شبابها ، فرثاها رثاء مؤثرا بقوله :
لي حالة
يكتمها تجلدي
|
|
إظهارها يصدع
قلب الجلمد
|
قد شرّد الغم
جناني بالأسى
|
|
وقيّد الهم
لساني ويدي
|
فباطن تبكي
له أحبتي
|
|
وظاهر تضحك
منه حسّدي
|
وما جرى نفي
الكرى وفي الورى
|
|
بعد الذرى
عدت أرى في الوبد
|
في محنتي
وفكرتي ولوعتي
|
|
تجلدي تسهدي
تنهدي
|
وهمتي تأبى
الخمول فترى ال
|
|
جدّ مقيمي
والقضاء مقعدي
|
على شبابي
والبلاء والفنا
|
|
واحسرتي
واحزني واكمدي
|
ولما لم يطق
الإقامة في المدينة المذكورة بعد هذا المصاب سار إلى باريس ، ومنها إلى بلاد
الجزائر في المغرب الأوسط ، ومنها إلى بلجيكا. ثم رجع فألقى عصا التسيار في باريس
،
__________________
وهناك انتدبه سنة ١٨٧٧ وزير المعارف لتحرير جريدة (الصدى) العربية التي
كانت تصدر فيها بأمر الحكومة الفرنسية.
وكان يترجم بين
سفراء الحكومات العربية الذين كانوا يقصدون باريس كوزراء مراكش وتونس وزنجبار وبين
وزراء فرنسا وغيرهم من أشراف العاصمة. وبين أولئك الوزراء نذكر خير الدين باشا
وزير باي تونس ، فإنه اتخذ صاحب الترجمة نديما له وجعله أمين سره وكلفه ترجمة
رسالات عديدة سياسية من اللسان العربي إلى الفرنسي وتهذيب بعض الرسائل التي كان
يكتبها الوزير بالعربية. وقد توثقت عرى المودة بينهما فلم يكن يستغني عنه يوما ،
حتى إنه استصحبه معه إلى حمّامات فيشي حيثما كان يذهب في صيف كل عام أكثر رجال
السياسة من سائر الممالك للمذاكرة في المهمات متسترين ببراقع الاستحمام.
ومن غرر أشعاره
الموشح الذي مدح به خير الدين باشا ومطلعه :
ساعد الحظّ
بذا اليوم السعيد
|
|
طالع ميمون
|
فغدا عود
اللقا أبهج عيد
|
|
صفوه مضمون
|
جرد البرق
على عنق الغمام
|
|
صارما بتّار
|
فانبرى يفتك
في جيش الظلام
|
|
آخذا بالثار
|
وهفا خفقا
كعتب المستهام
|
|
إثر ركب ثار
|
ولما انتدب خير
الدين باشا سنة ١٨٧٩ لمنصب الصدارة العظمى كتب إلى جبرائيل يستدعيه إلى
القسطنطينية ، فلبى هذا أمر الصدر الأعظم ، وكان يأكل على مائدته ويملي على سمعه
درر مفاكهته ، وكلفه الصدر المشار إليه إنشاء جريدة (السلام) وكان خير الدين باشا
ينشر بها آراءه السياسية وأفكاره في طرق إصلاح السلطنة ، ثم ألغيت الجريدة. وكان
صاحب الترجمة قد نال شهرة بعيدة لدى أعاظم رجال الدولة العثمانية.
وبعد استقالة
خير الدين باشا من منصب الصدارة وردت الرسائل على الدلال من رئيس المكتب الملكي في
فينا عاصمة النمسا التي يطلب بها إليه أن يكون أستاذا أول في المكتب المذكور ،
فرحل إليها سنة ١٨٨٢ حيثما لبث سنتين. وألف لتلامذته رسالة في الهمزة وأحكامها ،
ورسالة ثانية في قواعد اللغة العربية تقرّب منالها على الطالبين من الفرنج.
وكان يراسل في
أسفاره أهم جرائد ذلك العصر كصحيفة (الجوائب) في الآستانة
و (الجنان) في بيروت و (الأهرام) في الإسكندرية و (مرآة الأحوال) في لندن.
وفي تلك
الأثناء اقترح عليه السيد موسى المفضل وزير مراكش أن يمدح سلطانها مولاي حسن ،
فنظم قصيدة من غرر القصائد حازت حسن القبول.
ولما وافى
باريس ناصر الدين شاه إيران طلب وزيره حينذاك يعقوب خان إلى جبرائيل دلال أن يمدح
جلالته ، فنظم قصيدة شائقة مطلعها :
يا أيها
الملك المظفّر
|
|
ذو البطش
والليث الغضنفر
|
يا ناصر
الدين الذي
|
|
في الملك قام
مقام حيدر
|
وفي صيف سنة
١٨٨٤ عاد إلى حلب بعد أن طال رحيله عنها نحو سبعة عشر عاما وقد طبقت شهرته الآفاق
واشرأبت لرؤيته الأعناق ، فأقام في منزله مجلسا للآداب جمع فيه شتيت ذوي الألباب ،
لم تر مثله الشهباء منذ قديم الزمان ، غير أن بعض الحساد افتروا عليه قولا زورا
وفعلا يعلو هذا الصحافي علوّا كبيرا ، فعكروا صفاء أيامه ، وسئمت نفسه الإقامة في
وطنه مع شدة تعلقه به ، فرحل عنه ولسان حاله ينشد مع الشاعر :
سيذكرني قومي
إذا جد جدّهم
|
|
وفي الليلة
الظلماء يفتقد البدر
|
وأم مدينة
بيروت ، فلقي من حفاوة علمائها به ما أنساه شيئا من الأكدار التي صادفها في آخر
أيام إقامته بحلب. ثم قصد القسطنطينية وحل ضيفا على صديقه منيف باشا وزير المعارف
الذي أعاده إلى الشهباء وعينه لوظيفة أمين خزانة مجلس المعارف في مركز ولايتها ،
وأضاف إليه منصب أستاذ أول للغة الفرنسية في المكتب الإعدادي في المدينة المذكورة
، وقال له حينئذ هذا الوزير : [إن هذا دون ما يليق بفضلك ووجاهتك ، ولكن إن قدر
الله فستنال بعده ما يشرح صدور أهل الفضل] فقام الدلال بخدمة ذلك المنصب بكل أمانة
، إلى أن اتهم بتأليف وطبع قصيدة (العرش والهيكل) المشهورة التي لم ترق في عيون
الحكام المستبدين في العهد الحميدي ، فعزل من منصبه وألقي في السجن مدة سنتين حتى
فاجأته المنية في صبح الرابع والعشرين من كانون الأول سنة ١٨٩٢ عن ستة وخمسين عاما
قضاها في الأسفار وخدمة العلم ، فتقاطر آله وأصحابه ونقلوه إلى منزله ، ثم دفن بين
ذرف
__________________
العبرات وتردد الحسرات. وقد نظم قسطاكي بك حمصي هذه الأبيات لتنقش على
ضريحه :
هاهنا اليوم
ثوى بدر النهى
|
|
بعدما كان
ينير الخافقين
|
هاهنا قد
ألحدوا بحر الحجى
|
|
فيلسوف القطر
نظّام اللجين
|
ذاك جبرائيل
دلّال الذي
|
|
فضله قد ضاء
مثل الفرقدين
|
يا أولي
الفضل الثموا هذا الثرى
|
|
واندبوه أثرا
من بعد عين
|
وترجمه صاحب
مجلة المشرق في السنة الثالثة عشرة منها ، ومما قاله أنه نشأ على آداب والده ودرس
في مدارس المرسلين في عين طورا وحلب ، وكان مغرما بالعلوم العصرية فأحرز منها حصة
حسنة ، وانكب على الفنون العربية ودرس آثارها نثرا ونظما فصار من أوسع أهل وطنه
معرفة بآداب العرب. وسافر غير مرة إلى الآستانة وتعلم فيها التركية ، وتجول في
الأقطار حتى بلغ إسبانية والبرتغال وبلاد الجزائر ، وحط عصا التسيار في باريس فحرر
مدة صحيفة (الصدى) لسان حال السياسة الفرنسوية ، وصار ترجمانا لوزارة المعارف.
وتعرف في منصبه بكثيرين من أهل الوجاهة القادمين إلى باريس. ثم استدعاه الوزير خير
الدين باشا لما قلد منصب الوزارة إلى دار السلطنة لينشىء فيها صحيفة (السلام) ،
ولكن تلك الجريدة لم تلبث أن تلغى بعد استقالة خير الدين باشا ، فطلبه المكتب
العلمي في فيانا ليدرس العربية في كليتها ، ففعل مدة سنتين ، وصنف هناك بعض
المصنفات ، منها رسالة في ملخص التاريخ العام ورسالات لغوية. ثم عاد إلى وطنه سنة
١٨٨٤ بعد تغيبه عنه عشرين سنة. فبقي مدة يتعاطى الآداب ، وهناك اجتمعنا به سنة
١٨٨٧ ونقلنا بعض مخطوطات مكتبته ، وما كنا لنظن أن هذه المكتبة ستباع يوما ويقع في
يدنا كثير من آثارها.
وكان صاحب
الترجمة لاختلاطه بأهل السياسة في أوربة عرف ما تقتضيه بلاده من الإصلاحات ففرط
منه بعض أقوال نقلت إلى ذوي الأمر ، فألقي في الحبس وبقي هناك إلى يوم وفاته في
سنة ١٨٩٢ ، وقيل إنه قتل مسموما في اليوم الذي جاء الأمر بإطلاقه والله أعلم.
وكان بين
جبرائيل الدلال وبعض مشاهير العصر وشعرائه مراسلات ومساجلات ، وله قدود غناء وكان
بارعا بأصول الموسيقى.
وقد جمع الأديب
البارع قسطاكي أفندي الحمصي ما وجده من آثاره الأدبية في كتاب دعاه «السحر الحلال
في شعر الدلال» وصفناه في المشرق (٦ : ٨٩٥) واقتطفنا بعض جناه ، أوله فيه قصائد
غراء مدح فيها علية زمانه ، فمن ذلك قصيدة نظمها في ناصر الدين شاه ملك إيران في
جملتها في مدح السلم والعدل :
فالسلم أوفى
واقيا
|
|
ولثروة
البلدان أوفر
|
والعدل إن عم
المما
|
|
لك شاد
علياها وعمّر
|
والباقيات
الصالحات على
|
|
مرور الدهر
تذكر
|
ومن طيب نثره
ما روي له هناك من جواب إلى صديق :
كتبت أعزك الله
وقد وصلني طرسك الذي فاق الدر النضيد ببهجته ، وأزرى على رخيم الثغر بلهجته ، وإني
لأحق بابتدائك بما ابتدأتني به من الصلة تفضلا ، ولكن قدر لك عليّ السبق وأن تكون
في كل شيء أولا ، فلساني عاطر بشكرك ، وقلبي عامر بذكرك ، غبت أو حضرت ، سرت أو
أقمت ، فو الله لم أذكر أيام اللقاء ولذتها إلا وطارت نفسي شعاعا ، ولا تخيلت
ساعات الوداع وكربتها إلا وزادني الشوق التياعا ... فإن تأملت قصر مدة ألفتنا هاج
بي الشوق آلاما ، وإن تذكرت صميم صحبتنا زادني التذكار هياما ، وإذا فكرت في
فرقتنا قلت ما كان اللقاء إلا مناما. ا ه.
ومن بديع نثره
كتاب أرسله إلى الطبيب بكري أفندي زبيدة يعزيه فيه بوفاة والدته ، وقد رأيته عند
حفيده بخطه وهو :
كتبت أطال الله
بقاء مولاي ولي فؤاد منشغل لبلبالك ، وخاطر كدر لاضطراب بالك ، وقد بلغني الآن (وأن
الآن) الخبر الذي تعثرت فيه الألسن بالأفواه ، وأربدّت الوجوه وتطبت الجباه ، وهو
وفاة سيدة العقائل ، وكريمة الأوصاف والشمائل ، حضرة والدتكم تغمدها الله برحمته
ورضوانه ، وأسكنها فسيح جنانه ، وبوّأ روحها أعلى عليين ، وهيّأ ذاتها بهيئة الحور
العين ، وأعانكم على تجشم فقدها بالصبر الجميل إن الله مع الصابرين ، وعظم لكم به
الأجر الجزيل وثواب المحسنين ، وهي والله أعز فقيد لخير فاقد فاق أدبا وفضلا وعلما.
وإن لم تكن
بنتا لأكرم والد
|
|
كفاها
افتخارا أن تكون لكم أما
|
جعل الله هذه
النازلة آخر المصائب ، وخاتمة النوائب ، ولا أذاقكم بعدها ما يدعو إلى لوعة وتعذيب
، ولا أراع لكم فؤادا على فقد حبيب. وإني لأقول عنكم للدهر وقد تيتمتم (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) وعن دمعكم (وَأَمَّا السَّائِلَ
فَلا تَنْهَرْ) فكفكف فديتك ماء العيون وقل (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ) وحيث لا مرد لقضاء الله فلا حول ولا قوة إلا بالله.
كن المعزي لا
المعزى به
|
|
إن كان لابد
من الواجد
|
ا ه أقول : إن
قصيدة (العرش والهيكل) التي تقدمت الإشارة إليها هي التي ساقت المترجم إلى حتفه ،
وأصلها لشاعر فرنسا (فولتير) أبي الثورة الفرنسوية المشهورة ، ترجمها المترجم نظما
، وقد ذكرها بتمامها عطا بك حسني في كتابه «خواطر في الإسلام» ص (٨٨) وقال ثمة إنه
اتصلت به هذه القصيدة مطبوعة في باريس بمطبعة حجرية بتاريخ سنة (١٨٦٤ م) ورأيت من
الفائدة أن أعلق عليها الهوامش اللازمة لإيضاح ما يصعب فهمه من مغامزها ، ومطلعها
:
عسرت لك
الأيام في تجريبها
|
|
وسرت بك
الأوهام إذ تجري بها
|
ومضت أويقات
الهنا وتلاعبت
|
|
أيدي سبا
ببعيدها وقريبها
|
فإلام تعرض
ناسيا ذكر البلى
|
|
وعلام تغريك
الحياة بطيبها
|
واللمة الشمطاء
تنذر بالفنا
|
|
وتشيب صفو
صفائنا بمشيبها
|
ولى الشباب
وأخلقت أثوابه
|
|
وأحسرتي
لنضيرها وقشيبها
|
وهي في ١٥٢
بيتا ، وذيّلها عطا بك بقوله : إن المترجم بعد أن بقي ثلاثين عاما في باريس رجع
إلى وطنه حلب فوشى به القسيسون إلى الحكومة بأنه من أنصار الحرية مستشهدين بهذه
القصيدة ، فأخذ الرجل وسجن ، وما زال سجينا إلى أن مات في سجنه شهيد الحرية.
__________________
وقد ترجمه ابن
أخته الأديب قسطاكي بك الحمصي في تاريخه «أدباء حلب في القرن التاسع عشر» وأورد له
جملة من شعره فارجع إليه إن شئت.
١٢٨٢ ـ الحاج مصطفى الأنطاكي الشاعر المتوفى حول سنة ١٣١٠
الحاج مصطفى بن
عبد الوهاب بن مصطفى المعروف بالأنطاكي ، الحلبي المولد والمنشأ ، الشاعر المشهور
، أحد النابغين في الشعر المبرزين فيه.
ولد في الشهباء
بعد الستين والمائة والألف ظنا ، وتلقى العلوم العربية والأدبية في مبدأ عمره على
فضلاء ذلك العصر ، فملأ منها ذنوبه واكترع منها كأسا رويا ، واجتنى من الآداب ثمرا
يانعا ، ولمعت عليه بوارق الفضل في مدة يسيرة لما كان عليه من الذكاء وتوقد الذهن
وسرعة الخاطر ، فأخذ في قرض الشعر واستخرج درره وصوغ عقوده ، وانقادت له المعاني
وصارت طوع إرادته وعلى رؤوس أقلامه وأطراف أنامله. وفي عنفوان شبابه اقتعد غارب
الاغتراب إلى بغداد لتعاطي التجارة بها لأنه من بيت عريق فيها ، وهناك ألقى عصا
تسياره ، وسمع به فضلاء بغداد وأدباؤها ، فهرعوا إليه ، ولما بان لهم فضله وأدبه
الجم التفوا حوله وصار حانوته سوق عكاظ ومجمع أهل الأدب والفضل. وأقام هناك مدة
طويلة ، وراج أمر تجارته في مبدأ الأمر ، ثم أخذ الدهر في معاكسة آماله ، ولم يزل
على ذلك إلى أن ذهب منه جل ماله ، ولم ترق له الإقامة في بغداد وهو على تلك الحال
، فاضطر إلى مغادتها وقصد دار الخلافة ، وكان قد شاع أمر الشيخ أبي الهدى الصيادي
فيها وعظمت منزلته عند السلطان عبد الحميد الثاني وأصبح كعبة القصاد ومنتهى الآمال
، فحط رحاله لديه ، فأكرم نزله وقدر مكانته ومزيته وحسن به حاله ، وامتدحه المترجم
بعدة قصائد من غرر الشعر. وبقي هناك إلى أن أدركته المنية في حوالي سنة ١٣١٠.
ولم تكن له
عناية بجمع شعره ، فمزقته أيدي الزمان ، وهو جدير بالجمع والتدوين لسلاسة مبانيه
وحسن معانيه ، وربما وجد شعره في بغداد وفي مكتبة الشيخ أبي الهدى لأنه كان خصيصا
به في آخر عمره. وقد أثبت هنا ما وصل إلي من نظمه وقد جمعته من عدة مجاميع ومنه
يعلم منزلته من الشعر ورسوخ قدمه فيه ، قال :
إن هذا
العذار في وجه من قد
|
|
فاق حسنا على
بدور السماء
|
هي لام من
الزمرّد صيغت
|
|
فوق تلك
الياقوتة الحمراء
|
وله :
على ياقوت
وجنته تبدّى
|
|
زمرّد عارض
بالنبت أخضر
|
على تلك
المحاسن إن توفّت (هكذا)
|
|
يكرر أربعا
الله أكبر
|
وله :
لا تلمني إذا
تركت حضور العلم
|
|
خوفا من قول
شهم حكيم
|
جنح الدهر
للتنازل حتى
|
|
يدعي العلم
كل علق قديم
|
وله في مليح
اسمه مصطفى :
ومهفهف حلو
الرضاب رأيته
|
|
فسألته ما
الاسم يا مولاي قص
|
فاختال تيها
في الهوى متثنيا
|
|
ولوى بمبسمه
الشهيّ وقال مص
|
وله مشطرا :
جبينك مسفر
كالصبح باد
|
|
وفيه لقد
هدينا للرشاد
|
وأخجلت
البدور بنور فرق
|
|
وشعرك غيهب
أبد السواد
|
وقامتك
الرطيبة غصن بان
|
|
عليه طائر
الأرواح شاد
|
غصون البان
مغرسها رياض
|
|
وذاك الغصن
مغرسه فؤادي
|
وله مخمسا :
من لي بوضاح
الجبين صبيحه
|
|
عذب اللمى
حلو الكلام فصيحه
|
ناديت لما تم
ذبح جريحه
|
|
يا واضع
السكين بعد ذبيحه
|
في
فيه يسقيها رحيق لهاته
|
لا غرو أن
تحيا النفوس بشفرة
|
|
قد مازجت من
فيك أعذب خمرة
|
إن رمت
تصديقا لذاك بسرعة
|
|
عدها إلى
المذبوح ثاني مرة
|
وأنا
الضمين له بردّ حياته
|
وله :
كفى بقلبي
غراما حين ذكراك
|
|
يذوب شوقا
إلى باهي محياك
|
لم يبق وجهك
في شمس ولا قمر
|
|
حسنا وللبرق
نور من ثناياك
|
يا دمية
الحسن يا من في الهوى حكمت
|
|
على المحبين
في التعذيب عيناك
|
من لي بنيل
مرام طالما بخلت
|
|
سود الليالي
به عن حال مضناك
|
نسيم زهر
الربا ما لذ مورده
|
|
لو لا يبلّغ
للمشتاق رياك
|
تملكتني
صبابات الهوى فأنا
|
|
وحدي بكل
الذي يا هند يهواك
|
يسر قلبي
الهوى والدمع يظهره
|
|
يا من لطرف
شجيّ لم يزل باكي
|
نمّت عليّ
دموعي في الهوى فأنا
|
|
أموت وجدا
وأحيا عند ذكراك
|
وله وهو مما
يتغنى به :
غصن بان القد
من تحت الإزار
|
|
يتثنى حاملا
شمس النهار
|
في هواه لذ
لي خلع العذار
|
|
حيث مالي في
الهوى عنه اصطبار
|
دور :
منية الأرواح
منت بالتلاق
|
|
وثناها الوجد
نحوي للعناق
|
ثم مدت تبتغي
حل النطاق
|
|
معصما يشكو
لها ضيق السوار
|
دور :
يا أخا
اللذات بادر للمدام
|
|
في رياض
زانها نقط الغمام
|
حيثما
الندمان في أبهى انتظام
|
|
وشقيق الروح
يشجو كالهزار
|
ومدح أحمد فارس
صاحب (الجوائب) بقصيدة طويلة مثبتة في الجزء الرابع من كتاب «كنز الرغائب في
منتخبات الجوائب» وهي :
أتى زائرا
والليل شابت ذوائبه
|
|
على غير وعد
خوف واش يراقبه
|
فلو لم توار
الجيد منه ضفائر
|
|
لنمّت علينا
وافضحتنا كواكبه
|
ردينيّ قدّ
إن تناهض قائما
|
|
فتقعده
أردافه أو تجاذبه
|
يكاد إذا ما
ماس من لين قده
|
|
نسيم الصبا
تحت البرود يلاعبه
|
فيا خصره ما
أنت جسمي فما الذي
|
|
دعاك نحيلا
مثله أو تقاربه
|
ويا قلبي
الخفاق ما أنت بنده
|
|
ولا قرطه
الحالي ففيم تناسبه
|
بروحي من لو
لم تصن كنز حسنه
|
|
ظبى مقلتيه
لا تزال تناهبه
|
على صفحة
الياقوت دبّ عذاره
|
|
وبالمبسم
الدريّ قد خطّ شاربه
|
وكم بدرا من
تحت فاحم جعده
|
|
جلته لنا فوق
الجبين غياهبه
|
وكم شمس حسن
في محياه أشرقت
|
|
لقد أسفرت
عنها لدينا ذوائبه
|
مليك زمام
الحسن في ظل وصله
|
|
رعى الله
عيشا قد تقضّت أطابيه
|
بأيام أنس لو
علمت نهبتها
|
|
كما أشتهي
والعيش خضر جوانبه
|
فيا عذّلا قد
بالغوا في ملامهم
|
|
دعوني فداعي
الوجد للقلب غاصبه
|
ولا تزعموا
أن الملام يروعني
|
|
وهيهات مثلي
أن يروّع جانبه
|
أما والقوام
السمهريّ ولينه
|
|
ولحظ كحيل
يتمتني حواجبه
|
وجيد عليه
جوهر القرط قد زها
|
|
وصدغ على
الريحان دبت عقاربه
|
فما العشق
إلا مغناطيس أولي النهى
|
|
يروم فؤادا
كالحديد يجاذبه
|
وليس له في
الوغد أدنى تأثر
|
|
ومن أين
للأوغاد تصفو مشاربه
|
فصرح أخا
الأشجان بالوجد معلنا
|
|
وبح باسم من
تهواه أو من تحاببه
|
ويا جاهلا
قدر الغرام دع الهوى
|
|
لمن فاخرت
أوج الثريا مراتبه
|
هو الفارس
المفضال أحمد من له
|
|
تظل عيون
المجد دوما تراقبه
|
لقد شاد في
دار السعادة مربعا
|
|
وركنا على
التمييز للعلم ناصبه
|
همام بليغ
بارع قد تولعت
|
|
بسبق الرجال
الأقدمين ركائبه
|
ففاتهم نظما
ونثرا حقيقة
|
|
فلا من
يدانيه ولا من يقاربه
|
له الله من
حبر أرانا يراعه
|
|
من السحر ما
قد حللته غرائبه
|
يراعات سحر
في عباراته التي
|
|
هي السحر من
طرف تزجّج حاجبه
|
تصدى إلى نيل
المعالي فنالها
|
|
على رغم من
بالحقد ظل يراقبه
|
به اللغة
الفصحى تفاخر غيرها
|
|
لما أنه فيها
تسامت مراتبه
|
لقد كنت قبلا
بالسماع أوده
|
|
فها قد تبدت
للعيون عجائبه
|
فيا عين قرّي
في لقاه فإنه
|
|
لأزيد مما قد
سمعت مناقبه
|
__________________
ويا بدر آداب
وعلم تشعشعت
|
|
لرجم
الشياطين الأعادي كواكبه
|
إليك قواف
زينتها يد الثنا
|
|
تؤم مقاما
منك قد عز جانبه
|
ونظما تكاد
الشهب تحكي سناءه
|
|
هو الدر إلا
أن مدحك ثاقبه
|
يقدم عذرا من
صميم ملكته
|
|
فهل لك يا رب
الكمال تكاتبه
|
وعفوا ففكري
لا يزال مبددا
|
|
به من أسى
الأيام ما يتناهبه
|
فلولاك لم
تسمح بنظم قريحة
|
|
بها هاطل
الأحزان قد سح ساكبه
|
فلا زلت بحرا
بالمكارم طافحا
|
|
تسير إلينا
بالنوال مراكبه
|
كذا نجلك
السامي فخارا ورفعة
|
|
مدى الدهر ما
لاحت بأفق كواكبه
|
ومن آثاره
تقريظه لكتاب «عنوان الشرف» للإمام الشيخ إسماعيل المقرىء الذي طبع في حلب سنة
١٢٩٤ في المطبعة العزيزية ، قرظه على نسق الأصل ، وهو يدلك أيضا على تضلعه في
الأدب وأنه ممن كان له منه الخط الأوفر. وبعد أن قرظه على ذلك النسق ختمه ببيتين
من الشعر وهما :
سرح بهذا
السفر طرف مفكر
|
|
فيما حواه من
البدائع والطّرف
|
واحمد بني
الشهبا وأرخ قائلا
|
|
في طبعهم قد
بان عنوان الشرف
|
١٢٩٤
١٢٨٣ ـ الشيخ بكري أفندي الزبري مفتي حلب المتوفى سنة ١٣١٢
الشيخ بكري بن
أحمد ابن الحاج عبيد البابلّي الشهير بالزبري ، العالم الفاضل المتفنن.
ولد بحلب في
نواحي سنة ١٢٤٠ ، وفي مبدأ نشأته تعاطى صنعة العطارة ، فلم ينجح فيها ، فتركها
ودخل المدرسة القرناصية وسنه ١٧ عاما وأخذ في التحصيل ، وتلقى عن الأحمدين
الترمانيني والحجار. ثم ذهب لمصر في حدود سنة ١٢٦٠ وجاور في الأزهر مدة مع الضنك
وضيق اليد ، وكان بعض أرباب الخير في حلب يرسل إليه دراهم يستعين بها. وقرأ في
الأزهر على الشيخ الأشموني والشيخ الخضري. وكان شافعي المذهب ثم تحنف. وطبع بعض
الكتب فارتفق منها. وبعد أن تأهل أخذ في التدريس بالأزهر ، ثم عين مفتيا لطنطا ،
وهناك تعاطى مع الإفتاء صنعة الزراعة فأثرى منها وتجملت أحواله ،
ثم عاد إلى حلب سنة ١٢٩١ وأخذ في نشر العلم ، وهرعت إليه الطلاب. وبعد
مجيئه بأشهر قلائل عيّن مفتيا لحلب ، فبقي نحو سنتين ثم عزل بالحاج عبد القادر
أفندي الجابري المشهور بحاجي أفندي. وبعد سنتين أعيد إلى منصب الإفتاء وبقي إلى
سنة ١٣٠٤ ، ففيها عزل حينما عزل والي الولاية جميل باشا وعيّن موضعه الشيخ أحمد
الزويتين.
كان رحمهالله مربوع القامة أبيض اللون ، ذا شيبة نيرة ، بشوشا دمث
الأخلاق ، حسن العشرة. وعين مدرسا للمدرسة القرناصية يقرأ فيها الفقه الحنفي وغيره
، ومدرسا في الجامع الأموي يقرأ فيه درسا عاما أمام الحضرة النبوية.
ومن تلامذته
الشيخ علي العالم قاضي حلب الآن ، والشيخ نجيب سراج واعظ الديار الحلبية ، والشيخ
راجي مكناس ، والشيخ وحيد حمزة ، والشيخ أحمد الشماع ، والشيخ بها الكاتب وغيرهم.
واشترى دار
الحاج أحمد الصابوني الشهيرة في محلة باب قنسرين ، وقد تكلمنا عليها في ترجمته ،
ولم ينجح المترجم بعد شرائها ، فإنه عزل على إثر ذلك.
وكان بينه وبين
سيدي الوالد مودة أكيدة ، واستصحبني غير مرة لزيارته في داره هذه وأنا صغير ، فكنت
أرى فيه من البشاشة والملاطفة ما لا مزيد عليه ، ولم يتسن لي الحضور عليه لأني
ابتدأت في الطلب قبيل وفاته وكنت أقرأ في مبادىء العلوم.
وله رسالة في
علم الفرائض وتعليقات على دلائل الخيرات مطبوعة على هامشها في الطبعة التي طبعت
سنة ١٢٧٧ ، وذكر أنه اقتبس ذلك من شرح العلامة الفاسي والشيخ سليمان الجمل والشيخ
حسن المدابغي والعلامة السملاوي. وله رسالة سماها «كشف الران عن وجه البيان» وهي
شرح لمنظومة للشيخ الأكبر في علم الزايرجة رأيتها وهي في ٣٥ صحيفة.
وكان رحمهالله كثير اللطف بالطلبة عظيم الرأفة بهم ، حتى إنه كان إذا
جاءه المتولي على المدرسة القرناصية بوظيفته يسأله هل أعطيت المجاورين ، فإن قال
له نعم يأخذها حينئذ وإلا قال له : أعط الطلبة وأخرني فإنهم أحوج مني ، إلى غير
ذلك من مآثره الحسنة.
ولم يزل دائبا
على التدريس والإفادة إلى أن توفي ثاني عشر شوال سنة ١٣١٢ ودفن في تربة الكليباتي
خارج باب قنسرين. وكانت وفاته في جنينته المعروفة بجنينة التقي ،
فإنه بعد أن توضأ وصلى العصر أراد ركوب دابته فلم يقدر وتوفي في الحال
فجأة. وكان لوفاته رنة أسف في قلوب الناس ، وكانت جنازته مشهودة امتلأ للصلاة عليه
صحن الجامع الأموي على سعته ، رحمهالله تعالى.
١٢٨٤ ـ الشيخ سعيد السنكري المتوفى سنة ١٣١٢
الشيخ سعيد ابن
الحاج عمر ابن الحاج سعيد النجار المكني سابقا بالقفّال والمشهور أخيرا بالسنكري
لتعاطيه في هذه الصنعة.
ولد رحمهالله سنة ١٢٤٤ ، وأخذ العلم عن عدة من أفاضل الشهباء ، منهم
العلامة الشيخ أحمد الحجار والعلامة أحمد الترمانيني ، وبعد وفاته اتصل بابن أخيه
الشيخ عبد السلام الترمانيني. تلقى على هؤلاء الفقه الشافعي والحديث وغير ذلك
وأجازوه إجازة حافلة.
ولم يزل مع
اشتغاله بالتحصيل يتعاطى صناعة السنكرة [لحم التنك] إلى أن عيّن مدرسا للحديث بعد
سنة ١٢٨٠ ، فحينئذ ترك هذه الصنعة وتجرد للتدريس والإفادة وصار مرجع المستفتين في
الفقه الشافعي وخصوصا بعد وفاة شيخه الشيخ عبد السلام. وكان بارعا في علم الفرائض
أيضا يرجع الناس إليه في تقسيم التركات.
وله مؤلف في
العبادات على مذهب الشافعي سماه «كفاية العوام فيما يجب عليهم من الصلاة والصيام»
وعدة رسائل في النحو والمنطق وفي بعض المسائل ، وله شعر قليل لم يصل إليّ منه شيء.
ولم يزل مثابرا
على التدريس مع العزلة والانجماع عن الناس إلى أن توفي سنة ألف وثلاثماية واثنتي
عشرة وعمره ثمان وستون عاما ، ودفن بتربة الشعلة ظاهر باب المقام. وخلف ثلاثة
أولاد أحدهم وهو أكبر أولاده صديقنا العالم الفاضل الشيخ محمود السنكري الذي هاجر
سنة ١٣٤٣ إلى الديار المصرية ولم يزل فيها إلى الآن.
١٢٨٥ ـ محمود أفندي الجزّار المتوفى سنة ١٣١٤
محمود أفندي
ابن الوجيه الفاضل أحمد آغا الشهير بالجزّار ، وقد قدمنا في ترجمة والده
سبب اشتهار هذه العائلة بذلك ، وكانت تعرف ببني السيّاف.
ولد رحمهالله سنة ألف ومائتين وإحدى وخمسين ، ولما بلغ سن التمييز
شرع في القراءة والكتابة ، ثم تلقى مبادىء العلوم على علماء عصره ، منهم شيخ محلته
الشيخ عمر الطرابيشي ومدرس المدرسة الأسدية الشيخ عبد المعطي النحيف. ثم شرع في
تلقي العلوم الروحانية والفلكية على والده الذي كانت له اليد الطولى في هذه العلوم
والشهرة الواسعة كما ألمعنا إلى ذلك في ترجمته. ثم إنه بعد وفاة والده أكب على
المطالعة فيها وفي تلك الكتب التي آلت إليه من والده ، إلا أنه لم يصل إلى الدرجة
التي كان عليها والده ولم تحصل له تلك الشهرة.
ومن مناقبه في
هذا الشأن ما حدثني به الشيخ عبد الله المعطي أنه كان له أخ يقرأ هو والمترجم بعض
العلوم الفقهية على والده الشيخ عبد المعطي ، فأراد المترجم أن يعلّم أخا الشيخ
عبد الله شيئا من هذه العلوم ، وباشر في ذلك ، فلم تمض مدة وجيزة إلا واعتراه
الجنون ، وبقي على ذلك إلى أن توفي. وكان جالسا مرة مع الشيخ عبد الله ، فأخذ ورقة
وكتب فيها حروفا لا تفهم ودق الورقة بمسمار ، فصارت الورقة تدور ، فأمسكها الشيخ
عبد الله بيده وقال له : ناشدتك الله أن تكف عن ذلك ، فإني أخاف على نفسي وأخشى أن
يصيبني ما أصاب أخي ، فأمسك عندئذ. والشيخ عبد الله لا زال إلى هذه السنة وهي سنة
١٣٤٥ في عداد الأحياء.
وتولى المترجم
صندوق المالية في ولاية حلب في أيام واليها ناشد باشا وفي أيام واليها جميل باشا ،
ولم يكن توليته لهذه الوظيفة عن طلب أو توسل منه ، غير أن هذه الوظيفة كان يعين
لها من اتصف بالدراية والاستقامة والأمانة ، ولاجتماع هذه الخصال في المترجم دعي
إلى توليتها وألح عليه في قبولها.
وفي أيام ولاية
جميل باشا كان حسام الدين أفندي القدسي رئيسا للمجلس البلدي ، فاتهم بالتواطؤ
والاتفاق مع المترجم على مناهضة جميل باشا والقيام ضده لما كان يجريه من الأعمال
الاستبدادية ، وطبعا إن ذلك لم يرق في عين جميل باشا ، وكان ممن لا يألو جهدا
بالبطش بمن رام معارضته في أعماله ومعاكسته في مقاصده ، فاتهم المترجم بالخيانة في
صندوق المالية ، في حين أن جميل باشا هو الذي كان يشتري بواسطة بعض الصيارف الذين
وضعهم تحت يده السندات التي كانت تعطى بيد المأمورين الملكيين والعسكريين.
وبعد أن حوكم في حلب حولت محاكمته بطلب منه إلى ولاية بيروت ، وهناك تبينت
براءته مما نسب إليه ، فعاد إلى حلب وهو ناصع الجبين ، ومن ذلك الحين لزم بيته
وعكف على المطالعة فيما لديه من نفائس الكتب التي اقتناها بنفسه والتي آلت إليه من
والده. ثم إنه في شوال من سنة ١٣١١ وقف هذه الكتب ويبلغ عددها ثمانمائة وثمانية
وسبعين كتابا والآلات الفلكية وهي أربع وثلاثون قطعة ووضعها في الجامع الكبير ،
وجعل القيم عليها شيخنا الشيخ أحمد المكتبي ، وجعل له لقاء قيامه بذلك سكنى دار من
دور وقفه في محلة قلعة الشريف ، وبقي ساكنا فيها إلى أن توفي في التاريخ الآتي في
ترجمته. وهذه المكتبة نقلتها إدارة الأوقاف إلى المدرسة الخسروية سنة ١٣٤١ ، وفي
هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥ نقلتها إلى المدرسة الشرفية وراء الجامع الكبير حيث اتخذت
فيها مكتبة عامة تجمع شتات الكتب المتبعثرة في المدارس والزوايا.
نفائس المخطوطات في هذه المكتبة :
(في علم الحديث)
: «مشارق الأنوار» للصغاني. «الحلية» لأبي نعيم في ثلاثة أجزاء. «الحلية الصغيرة»
لأبي نعيم في جزئين. «العمدة» للإمام المقدسي في جزء.
«سيرة ابن سيد
الناس» في جزء. «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد» في جزء.
(في علم الفقه)
: «مجمع البحرين» في ثلاثة أجزاء. «الوافي» للإمام النسفي.
«كتاب الخراج»
لأبي يوسف.
(في الفقه
الشافعي) : «كتاب التمهيد» للأسنوي. «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» للقرشي.
(في التصوف) : «عوارف
المعارف» للإمام السهروردي. «الميزانية الخضرية الموضحة لجميع الفرق الإسلامية».
(في التاريخ
والأدب) : «طبقات الشافعية للأسنوي». «طبقات الأولياء» للسخاوي. «شرح قصيدة عبد الله
الحجازي» للشيخ شعيب الكيالي. «المختار من نوارد الأخيار» للمقري. «روض الأنس»
للنيسابوري. «سبائك الذهب في أنساب العرب». «تراجم الأدباء». «الأنس الجليل في
تاريخ القدس والخليل».
(في كتب النحو)
: «شرح اللباب» لابن هشام. «شرح الأنموذج» للزمخشري.
(في كتب الدواوين)
: «ديوان الجعبري».
وفي قسم
المجاميع عدة مجاميع يطول الكلام لو أتينا على ما فيها من الرسائل المخطوطة.
وأما كتب
الهيئة والفلك والزيج فهي فيها كثيرة وهي أغنى مكتبة في الشهباء في هذه العلوم وفي
الآلات الفلكية.
ثم إن المترجم
مرض أياما ، وكانت وفاته في الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة
وأربع عشرة ودفن عند والده في التربة الخاصة بهذه العائلة بين تربة الصالحين
والشيخ السفيري.
وكان رحمهالله مع مزاياه العلمية دمث الأخلاق حسن الصداقة سليم
الاعتقاد ملازما للصوات محبا للعلماء وخصوصا لشيخنا الشيخ أحمد المكتبي.
وكان طويل
القامة ممتلىء الجسم أبيض اللون ذا شيبة نيرة ، تردى برداء الحشمة وتحلى بالوقار ،
مع عقل ودهاء وفطنة وذكاء ومعرفة بالزمن وخبرة بأهله ، رحمهالله تعالى وأغدق على جدثه صيب إحسانه وسحائب غفرانه.
١٢٨٦ ـ الشيخ إبراهيم بن محمد اللبابيدي المتوفى سنة ١٣١٤
الشيخ إبراهيم
بن محمد بن إبراهيم اللبابيدي الحلبي الأعزازي الأصل ، انتقل جده من أعزاز إلى حلب
فتوطنها.
ولد سنة ١٢٣٤ ،
وقرأ بعد أن جاوز العشرين من العمر على الشيخ أحمد الحجار وهو الذي شوق له تحصيل
العلم ، ثم على الشيخ أحمد الترمانيني حضر عليه عشر سنوات في علوم شتى ، وكان
مقربا لديه ، وكان يخدمه في قضاء حوائج بيته.
وأخذ الطريق
على الشيخ محمد اليماني الجسري المتقدم الذكر ، وأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ
بهاء الدين الرفاعي ، والدسوقية والبدوية عن الشيخ بكري الزبري مفتي حلب ، وقرأ
عليه في النحو والتفسير والأصول.
وكان رحمهالله عالما فاضلا صالحا قليل الاختلاط بالناس مؤثرا للعزلة ،
درس في الجامع الأموي مدة طويلة إلى أن توفي.
وكان لا يتعاطى
شرب الدخان ويذهب إلى تحريمه ، وكاد لا يخلو درس من دروسه من التنديد بشاربيه ،
ويحرض الناس كثيرا على تركه ، وقد تركه أشخاص كثيرون ممن حضروا مجالس وعظه.
وفي عنفوان
شبابه كان يرحل كل سنة إلى بلدة الباب وغيرها ويقرأ دروسا هناك. وكان يدور بين
العشائر ويجهد في تعليمهم ما ينتفعون به من أمور دينهم من أحكام الصلاة والصيام
والزكاة والعقائد ويعظهم ويرشدهم.
ونظم «إحياء
علوم الدين» لحجة الإسلام الغزالي في أربعة آلاف بيت وسماه «القول المتين في
اختيار مسائل من كتاب إحياء علوم الدين» ، وشرحه في أربعة أجزاء وسمى الشرح «الضياء
المبين شرح القول المتين» فرغ منه سنة ١٣٠٨ ، وأول النظم :
ببسم الله
حقّ الإبتداء
|
|
وحمد الله
كان به الثناء
|
وصلى الله
مولانا وسلم
|
|
على المختار
من به الاقتداء
|
وأول الشرح :
الحمد لله ملهم الصواب ومنزل الكتاب ومرسل الرسل لجلب الخلق لعبادته إلخ ، رأيته
عند ولده الشيخ محمد. وفي نظمه تكلف بيّن وركاكة ظاهرة ، لأن المترجم لم يكن فيه
قريحة فطرية ولم يمارس صناعة النظم والنثر حتى تنقاد له المعاني والمباني ، لذا لم
تصعد هذه المنظومة إلى الدرجة الوسطى من الشعر.
وله «التحفة
المرضية الحاوية للمسائل الفقهية» منظومة اختصرها من كتاب «التنوير» للعلامة
التمرتاشي وشرحها ، وأول النظم :
يقول راجي
اللطف والتكريم
|
|
الخاضع المدعو
إبراهيم
|
وله كتاب «المدد
المجدد والقول المسدد» شرح «البرهان المؤيد» له أيضا ، وهو في مجلد أوله : الحمد
لله رافع مقام الأولياء إلى أعلى عليين ، ومانح عباده المتقين أنواع اليقين. فرغ
من تأليفه سنة ١٣١٣.
ولم يزل رحمهالله على سكونه وورعه وزهده وانجماعه عن الناس وتعبده وتهجده
والعناية بالوعظ والإرشاد إلى أن توفي في صفر سنة ١٣١٤ ودفن في تربة الشيخ
جاكير خارج باب المقام.
١٢٨٧ ـ يحيى أفندي مفتي أنطاكية المتوفى سنة ١٣١٤
الشيخ يحيى
أفندي مفتي أنطاكية ، عالم زمانه وإمام أهل وقته وأوانه.
ولد سنة ١٢٣٠
تقريبا ، ومنذ نشأ أقبل على العبادة والطلب ، فبرع وفاق ، واشتهر في الآفاق ،
وتفنن في العلوم ، وبرع في فنّي المنطوق والمفهوم ، وأقبل الناس عليه ، للاستفادة
منه والنظر إليه. وأخذ عن مشايخ ذوي رتب سامية ، أسانيدهم في الأخذ عالية. ولما
رأوا منه المعرفة التامة ، أجازوه بالإجازة العامة. ثم ولي منصب الإفتاء بأنطاكية
، وله بإقليمها شهرة عالية ، وله معرفة بالسياسة قوية ، ومهارة بالألسنة الثلاث
العربية والتركية والفارسية. ونظره في الأمور دقيق ، مقصود في الاستشارة لكل بعيد
أو قريب أو عدو أو صديق.
وفي سنة
ثلاثمائة واثنتين بعد الألف جاء إلى حلب جميل باشا واليا عليها ، وكان له شدة
عظيمة على أهل الرئاسة في حلب وما يتبعها من بقية الولاية ، فاضطر المترجم أن يخرج
من محله وأن يخرج من الولاية ، فرحل إلى دمشق واتصل برؤوسها وولاتها وأكابرها
وذواتها.
وله محاضرة
عجيبة وحافظة غريبة ، فكثيرا ما كان يستشهد تارة في العربية وتارة في التركية
وتارة في الفارسية بأبيات لطيفة رقيقة ذات معان أنيقة. وله حكايات ونوادر تشهد له
أنه في الأدب له المقام النادر ، ومعرفته في الشطرنج حظها وافر ، فكان كثيرا ما
يلعب به مع الحكام والأكابر. وكانت لي معه الصحبة الوافرة والمحبة المتكاثرة ،
والمباحثة والمذاكرة والمسامرة والمحاضرة. وقد أخبرني بأنه ولد في الشام حين كان
أبوه بها مستقيما ، ثم عاد به أبوه إلى وطنه المذكور. ثم إنه لا زال في الشام يعلو
مقامه وينمو احترامه ، إلى أن وقع بينه وبين حسين فوزي باشا بعض منافرة ، وكان قد
عزل جميل باشا من حلب ، فرجع إلى وطنه وذلك سنة ألف وثلاثمائة وخمس أطال الله
بقاه. ا ه. (حلية البشر للبيطار). أقول : كانت وفاته كما كتب لنا من أنطاكية أول
ليلة من رمضان سنة ١٣١٤ عن اثنين
وسبعين عاما ، فتكون ولادته على التحقيق سنة ١٢٤٢ ، رحمهالله تعالى.
١٢٨٨ ـ الشيخ علي ابن الشيخ هاشم الطبّاخ المتوفى سنة ١٣١٦
الشيخ علي ابن
الشيخ هاشم الطبّاخ ، عمي شقيق والدي.
ولد رحمهالله سنة ١٢٥٦ ، وهو أصغر أولاد سيدي الجد. حصّل جانبا قليلا
من العلم على والده وعلى العلامة الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ، ثم أخذ في التجارة
في صناعة الطبع المسماة بالبصمجي كوالده وأخويه ، بقي فيها إلى سنة ١٣٠٠ ، ففيها
سلّم أشغاله لولده الكبير ولزم بيته مكبا على مطالعة كتب الصوفية مكثرا من التلاوة
والتعبد والتهجد. وكان يحفظ كثيرا من السور القرآنية فكان يتلوها أواخر الليل.
وكان أخذ
الطريقة الخلوتية القادرية على الشيخ إبراهيم الهلالي ، وبعد وفاته لزم ولده الشيخ
مصطفى الهلالي. وكان حينما يذهب إلى الزاوية الهلالية لحضور الذكر بعد عصر كل جمعة
يلبس العرف (هو عمامة كبيرة بيضاء) واختلى مع الشيخ المذكور الخلوة الأربعينية عدة
مرات. وفي نواحي سنة ١٣١٠ خلّفه وأذن له بإقامة الذكر والإرشاد ، فكان يقيم الذكر
في مسجد الروضة الذي جدّد بنيانه قبل ذلك بسنوات في المحلة المعروفة بسراي إسماعيل
باشا ، وصار له بعض مريدين ، وكان ساكنا في دار أمام المسجد المذكور ، وكان يقرأ
للمرضى فيشفى الكثير منهم بإذن الله تعالى. وتيقن الكثير بركة يده فكان للناس فيه
مزيد الاعتقاد.
ولم يزل على
هذه الحالة من الاستقامة في الأقوال والأفعال والعزلة والتعبد وملازمة الذكر إلى
أن توفي في الخامس والعشرين من رمضان سنة ١٣١٦ بعد مرض ألم به أياما قلائل ، ودفن
في تربة السنيبلة خارج باب أنطاكية بين قبور أسرتنا ، وأسف عليه كل من عرف صلاحه
وتقواه ، رحمهالله تعالى.
١٢٨٩ ـ الشيخ أحمد البابي الحلبي ثم المصري المتوفى سنة ١٣١٦
أحمد بن عمر
البابي الحلبي ثم المصري.
ولد رحمهالله في بلدة الباب ، ولذا سمي البابي نسبة إليها. وبعد أن
تلقى القراءة والكتابة
ومبادىء العلوم في بلدته انتقل إلى حلب ولازم العلامة الكبير الشيخ أحمد
الترمانيني.
ثم رحل لمصر
ودخل الأزهر وجدّ هناك في التحصيل على علماء وقته ، منهم العلامة الشيخ محمد
الأنبابي قرأ عليه الفقه وبعض العلوم العقلية ، ومنهم شيخ المشايخ الشيخ محمد
الخضري الدمياطي قرأ عليه علم الحديث. ولم يزل مجدا في التحصيل حتى تأهل للتدريس
في الأزهر فكتب في زمرة علمائه وصار يدرس فيه ، فقرأ شرح ابن عقيل بحاشية السجاعي
وكتب عليها تقريرات تنبىء عن تفوقه ، وطبعت هذه التقريرات سنة ١٣٢٥.
وكان رحمهالله حسن المحادثة كريم الأخلاق ، لا ترى فيه أثرا من آثار
الكبر والعظمة مع ما كان عليه من الثروة الطائلة التي حصلها بطبع الكتب والتجارة ،
وإذا حادثته لا تمل من حديثه مع دين متين واستقامة في المعاملات.
وحج عدة مرات ،
وزار المدينة المنورة على صاحبها أفضل السلام وأزكى التحية ، ولما رأى حالة
الغرباء فيها وقف على أربعين رجلا من فقراء المدينة المشتغلين بطلب العلم ، ووقف
على الفقراء العجزة الملازمين في حضرة السيد أحمد البدوي ، ووقف أوقافا أدخل فيها
زوجتيه وإن كن متزوجات ، ووصل في أوقافه رحمه بهبات وافرة رحمهالله تعالى.
وكان شروعه في
التجارة في الكتب وطبعها في سنة ١٢٧٦ ، فوفق لنشر الكثير منها ، ومنها ما أصبح
الآن في حكم المخطوطات لندرتها ، منها تفسير «الدر المنثور» للجلال السيوطي في ستة
مجلدات ، و «إتحاف البشر في القراءات الأربعة عشر» ، و «المكرر فيما تواتر في
القراءات السبع وتحرر» ، و «منار الهدى في الوقف والابتدا». وطبع في علم الحديث «شرح
القسطلاني على صحيح البخاري» ، في عشرة مجلدات ، و «مسند الإمام أحمد بن حنبل» في
ستة مجلدات ، و «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» في خمسة مجلدات ، و «صحيح
البخاري» ، و «سنن النسائي». وفي الفقه الشافعي «حاشية الجمل على المنهج» في خمسة
مجلدات ، و «شرح الروض» لشيخ الإسلام في أربعة مجلدات ، و «شرح العمدة» في مجلدين
، و «فتح الجواد في شرح الإرشاد» في مجلدين. وفي مذهب مالك «الخرشي على خليل» في
خمسة مجلدات ، و «الدسوقي على خليل» في أربعة مجلدات. وفي علم التصوف «شرح الإحياء»
للزبيدي في عشرة مجلدات ، إلى غير ذلك من الكتب التي لو استقصيت لطال الكلام. وذلك
ولا ريب يدلك على علو همته وأن
له الفضل الكبير في سعيه في إبراز هذه الآثار إلى عالم المطبوعات ، وقد خدم
في ذلك العالم الإسلامي خدمة جليلة ، فجزاه الله عن أعماله المبرورة ومساعيه المشكورة
خيرا.
وما زال ذلك
دأبه وتلك طريقته ، مع كرم نفس وحسن أخلاق ويد مطلقة في سبيل البر والإحسان إلى أن
توفي في مصر سادس ربيع الأول سنة ١٣١٦ ، رحمهالله تعالى وأمطر على جدثه صيّب العفو والرضوان.
١٢٩٠ ـ الشيخ أحمد الزويتيني مفتي حلب المتوفى سنة ١٣١٦
الشيخ أحمد ابن
الشيخ عقيل ابن الشيخ مصطفى بن أحمد بن عبد الله بن مصطفى العمري الشهير
بالزويتيني ، ينتهي نسبه على ما رأيته في عمود النسب المحفوظ لديهم إلى أبي حفص
عمر بن الخطاب رضياللهعنه.
ولد رحمهالله في شعبان سنة ١٢٤٦ ، ولما ترعرع قرأ على والده وعلى
الشيخ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني وعلى الشيخ صالح الصيجلي في العثمانية. وظهرت
عليه من حين نشأته أمارات النجابة والنبالة ، وما زال مجدا في التحصيل عاكفا على
المطالعة حتى مهر وبهر ، وأجازه والده إجازة عامة صادق عليها الأستاذ الترمانيني.
وأخذ في
التدريس في المدرسة الأحمدية في الفقه الحنفي وفي البهائية وفي الجامع الكبير ،
فأعرب عن علم جم واطلاع واسع مع حسن تقرير وفصاحة لسان يعيه كل سامع ، ولا زال بعض
من كان يحضر دروسه يحدث عنه ويطنب في ذلك مزيد الإطناب. وبالجملة فقد كان رحمهالله جبلا من جبال العلم وحسنة من حسنات الشهباء صارت تتيه
به فخارا وتزين به جيد ذلك العصر. وكان له اليد الطولى في سائر العلوم المنقولة
والمعقولة. وأما الفقه الحنفي وعلم التفسير فكان إليه فيهما المنتهى وهو المرجع في
الشهباء.
تولى أمانة
الإفتاء تسع سنوات ، ثم لما عزل الشيخ بكري أفندي الزبري من إفتاء حلب عين بدله ،
وذلك سنة ١٣٠٤ ، وبقي في هذا المنصب إلى أن توفي.
وصار متوليا
على وقف المدرسة الشعبانية من سنة ١٢٨١ إلى حين وفاته أيضا ، وعمر في وقفه طاحونا
كان خرابا واثنين وعشرين دكانا وخانين ، فحسنت واردات المدرسة
وعمرت بالدروس والطلاب وقتئذ. وبعد أن تولى الإفتاء انجمع عن الناس وترك
الاجتماع بهم ، بل وما كان ليذهب إلى مجلس الإدارة مع أنه عضو طبيعي فيه على حسب
نظامات الدولة العثمانية ، وكانت ترسل إليه الأوراق فيوقع على ما شاء منها ،
وامتناعه عن الذهاب كان تورعا منه رحمهالله.
وأقبل على
العبادة في الجامع الكبير وفي بيته. وكان يحفظ دلائل الخيرات فكان يقرؤها في كل
يوم مرة أو عدة مرات ، ويكثر من التلاوة أيضا ، ويصلي التراويح بجزء من القرآن في
الحجازية التي في الجامع الكبير يؤم به الحافظ الشهير الشيخ محمد النيّال. ولم يكن
فيه ما يعاب به سوى حدة في مزاجه حصلت له لما آثر العزلة على الاجتماع ، وقد كان
على ما بلغني حسن العشرة كثير الانبساط.
ومن مزاياه رحمهالله أنه صادق الود لا يعرف التلون ويكره ذلك أشد الكره ،
حسن النصح ثاقب الرأي ، علم ذلك منه من خالطه وعاشره.
ووضع شرحا على «الطريقة
المحمدية» في مجلدين ، وحاشية على كتاب «نزهة الناظرين» في مجلد ضخم ، وشرح «دلائل
الخيرات» و «بداية الهداية» للغزالي في مجلد ، وشرح «المراح» و «الأمثلة» ، وله
رسالة في التوحيد والفتاوي التي أفتى بها في هذه المدة.
وقبل وفاته ترك
التدريس لضعف ألم في جسمه كان يحول بينه وبين مطالعة دروسه ، غير أنه زاد في
الإقبال على التعبد والتلاوة على ما قدمنا.
وما زال على
ذلك إلى أن توفي في شعبان سنة ١٣١٦ ودفن في تربة السفيري خارج باب المقام ، وكانت
له جنازة مشهودة حضرها الخاص والعام ، وكان الأسف عليه كثيرا لفقد الناس به ركنا
عظيما من أركان العلم في الشهباء وعلما من أعلامه.
وكان أمينا
للفتوى في عهد ولايته الإفتاء شيخنا الشيخ محمد الزرقا وشيخنا الشيخ محمد الجزماتي
، وكاتب الإفتاء الشيخ كامل الموقت ، وناهيك بهؤلاء علما وفضلا.
وأرّخ وفاته
الشاعر الشهير الشيخ محمد الوراق بأبيات نقشت على لوح قبره ، وقد أعطاني ولده الشيخ
مصطفى الورقة التي فيها الأبيات بخط الوراق وتوقيعه وهي :
جدث به حل
الهمام الأوحد
|
|
كنز التقى
والمكرمات السيد
|
إن عد أهل
الفضل في شهبائنا
|
|
فعليه في
الفتوى الخناصر تعقد
|
لا زال غيث
العفو يغشى قبره
|
|
ما الليل
عسعس أو أضاء الفرقد
|
فلكم إلى سبل
الهدى أرّخ هدى
|
|
في جنة
الفردوس يرقى أحمد
|
١٩ ـ ٥٤٣ ـ ٣٨١ ـ ٣٢٠ ـ ٥٣
١٣١٦
الكلام على المدرسة الشعبانية :
قد مر ذكر هذه
المدرسة في غير موضع من تاريخنا ، وحيث إن المترجم رحمهالله كان متوليا على وقفها وإدارة شؤونها وبقي في ذلك خمسا
وثلاثين سنة كما قدمناه في صدر الترجمة رأينا من المناسب أن نتكلم عليها هنا فنقول
:
هذه المدرسة
بناها شعبان آغا بن أحمد آغا المأمور لتحصيل الأموال في حلب ، ففي ديوان الشاعر
الأديب مصطفى البابي ما نصه : وقال يمدح شعبان آغا المحصّل حين بنى المدرسة
الشعبانية سنة ١٠٨٥ ، وقد وجد في بعض قوافي هذه القصيدة سناد الردف وهو مغتفر
للمولدين أيضا :
إذا المرء
وفّق في حدسه
|
|
أفاق وحل عرى
لبسه
|
وثاب لتطهير
أوزاره
|
|
ودحض الذي
كان من رجسه
|
وأيقن أن
متاع الحيا
|
|
ة نقش فلابد
من طمسه
|
وأن ليس
للمرء من ماله
|
|
سوى ما يرجّى
إلى رمسه
|
ومن ضن
بالمال خوف الخطوب
|
|
أعان الخطوب
على نفسه
|
وأن السعيد
الذي يومه
|
|
إلى الخير
أقرب من أمسه
|
وذو اللب من
نال حسن الثناء
|
|
إذا الدهر
أخفى صدى جرسه
|
ومن رفعت فيه
أيدي الدعا
|
|
إذا الدهر
طأطأ من رأسه
|
فأنعم ما كان
في بؤسه
|
|
وأسعد ما كان
في نحسه
|
ومعيار عقل
الفتى صنعه
|
|
به يظهر
الحمق من كيسه
|
ليهن المحصّل
شعبان ما
|
|
أصاب المحزّة
في هجسه
|
همام هو
الغيث في بذله
|
|
على أنه
الليث في بأسه
|
رأى أن ذي
الدار دار الفنا
|
|
وكلا سيكرع
من كأسه
|
وأيقن بالأجر
إيقان من
|
|
يراه ويطمع
في لمسه
|
فجدّ وحصّل
من دهره
|
|
مآثر تبقى
على رأسه
|
بنى مكتبا
نور فرقانه
|
|
يعير النهار
ضيا شمسه
|
ومدرسة
لاقتباس العلوم
|
|
بها يجتنى
العلم من غرسه
|
وجامع أنس
بإشراقه
|
|
يكاد يجلّى
دجى دمسه
|
فهذا يرتل
قرآنه
|
|
وهذا مكبّ
على درسه
|
وآخر منتصب
للصلا
|
|
ة يلتمس
الفوز في خمسه
|
فيا لك من
جامع جامع
|
|
وجوه المبرات
في أسه
|
ومنتجع للتقى
نوعت
|
|
فضول العبادة
من جنسه
|
وسوق تجارته
لن تبور
|
|
يجل به البيع
عن بخسه
|
فلله بانيه
من غارس
|
|
جنى ثمر
الفوز من غرسه
|
سينظر آثار
ما قدمت
|
|
يداه وسطّر
في طرسه
|
فوفقه الله
للصالحات
|
|
ورد النوائب
عن نفسه
|
وعوضه بعض
عمر النسور
|
|
بقرب الحضائر
من قدسه
|
وذكر الواقف في
كتاب وقفه التركي المترجم إلى العربية بقلم صديقنا الأديب الوجيه سامح أفندي
العينتابي شقيق الوجيه أسعد أفندي أنه اشترى العرصة الخالية الواسعة الأنحاء من
جانبولاد زاده محمد بك الكائنة في محلة الفرافرة وبنى فيها مسجدا بديعا من الحجر
عليه قبة عالية جسيمة ، وبنى فيها مدرسة من الحجر ذات قبة عالية لتقرأ فيها مباحث
العلوم والفنون ، قال : وشيدت رواقا شرقيا ورواقا غربيا وداخلهما تسع وعشرون حجرة
، وخصصت هذه الحجرات لسكنى طلبة العلم الشريف ، وفرشت صحن المسجد المذكور بالحجر
المرمر ، وجعلت في وسطه حوضا عشرا بعشر ذا صفة أنيقة من المرمر ، وزينت ثلاثة
أطراف هذا الحوض الكبير بحدائق على أن يجري إليها الماء من قناة حلب باستحقاق مقرر
، وبنيت مكتبا لطيفا للأهالي المسلمين خارج هذه العرصة (هو جنوبي المدرسة ولم يزل
مكتبا يتعلم فيه القراءة ومبادىء الكتابة).
ثم ساق ما وقفه
على مصالح المدرسة من الأوقاف ، وشرط التولية لأرشد عصباته ثم
لأرشد ذوي الأرحام ثم لمن تربع على سرير الإفتاء من المفاتي الحنفية بحلب ،
وأن يعطى للمتولين مئتا أسدي ويعطى للمفاتي ما تنقل التولية إليهم مائة أسدي وذلك
في كل سنة.
واشترط أن يقيم
بالمدرسة رجل فاضل متضلع بالعلوم معروف بالزهد والصلاح ، وألا يكون مسقط رأسه
ومرباه في إيالة حلب ، بل يكون آتيا من ديار أخرى ، وأن يكون ماهرا بالفنون
العقلية فيقرأ للطلبة في كل صباح الفنون العقلية ويعطى له شهريا ٨ قروش أسدية ،
وأن يقطن في الحجرات ثلاثون رجلا من الصلحاء بهم قابلية واستعداد للتحصيل ومجدون
في طلب العلم على ألا يكون مسقط رأسهم ومحل نشوهم في إيالة حلب بل يكونون من بلدان
أخر . وبعد أداء صلاة الصبح من كل يوم يجتمعون في المسجد ويتلو كل واحد جزءا
مستقلا من القرآن العظيم. واشترط كاتبا لضبط إيراد الأوقاف ومصاريفها وجابيا
يستوفي ريعها وغلاتها إلى غير ذلك من الوظائف واللوازم للمسجد والمدرسة والمكتب.
ثم قال : حرر في منتصف شهر رمضان سنة ثمان وثمانين وألف. ا ه.
ولم أقف على
أول من تولى التدريس فيها ، لكني رأيت في أول حاشية العلامة الشيخ محمد المرعشي
الملقب بساجقلي زاده على قول أحمد والخيالي على شرح السعد للعقائد النسفية ما نصه
: لما وليت تدريس الشعبانية بحلب المحروسة في قريب من تمام ألف ومائة من الهجرة
إلخ. ويظهر من هذا أنه ثاني من تولى التدريس فيها.
وبعد وفاة
المترجم صار المتولي عليها ولده الشيخ مصطفى ، بقي من سنة ١٣١٦ إلى سنة ١٣٣١ ،
ففيها أتى إلى حلب أحمد جودة أفندي من أهالي بروسة مستصحبا امرأة هرمة تسمى خديجة
وادعى أن هذه المرأة وأخاها الغائب حمدي أفندي هما من ذرية الواقف وأنهما
المتوليان على هذه المدرسة بمقتضى شرط الواقف. وطال أمد المحاكمة والمرافعة بينهما
لدى قضاة حلب إلى سنة ١٣٣٨ ، ففيها استرضي الشيخ مصطفى بدفع مائتي ليرة وعشرين
ليرة عثمانية ذهبا لقاء ما وضعه من مصاريف المرافعة في تلك المدة ، وعندئذ تنازل
الشيخ مصطفى عن التولية وحكم بها لهذه المرأة ولأخيها وبالوكالة عنهما لأحمد جودة
المذكور.
ومن حين
استلامه للوقف وللمدرسة قطع معلوم المجاورين والمدرسة بحجة أنه يريد تطبيق شرط
الواقف المشعر بأن مجاوري المدرسة ومدرسها يلزم أن يكونوا من الغرباء ،
__________________
وعندئذ أقام مدرس المدرسة الشيخ أحمد الزرقا نجل أستاذنا الكبير الشيخ محمد
الزرقا دعوى على وكيل المتولين يطلب فيها منعه من التشبث بكتاب الوقف المذكور ،
لأنه ليس له قيد موثوق في سجلات المحكمة. وطالت المرافعة بينهما ، ولم يزل أحمد
جودة مصرا على قطع رواتب المجاورين ، فتفرق لذلك من كان فيها وصرفوا وجوههم عن
الالتفات إلى هذه المدرسة ، وبقيت عدة سنوات ليس فيها سوى بضعة أشخاص وكادت تخلو
من الطلاب وتصبح خالية خاوية.
وفي سنة ١٣٤٢
اهتمت دائرة الأوقاف بأمرها بعض الاهتمام وألزمت وكيل المتولي أن يقبل الطلاب من
أهالي حلب وغيرهم ، وذلك على أثر القرار الذي أعطي من قبل مجلس الأوقاف الأعلى
الذي عقد في دمشق سنة ١٣٤٠ (وقد أوضحت ذلك في الكلام على المدرسة الأحمدية) فرتّب
فيها ثلاثون طالبا وصارت تعطى لهم الرواتب ، غير أنه لم يطبق عليها النظام الموضوع
للمدرسة الخسروية ، لذا لا ينتظر أن تأتي بالفائدة التي نتطلبها ما دامت هذه
حالتها.
وليست هذه
المدرسة بالمدرسة الفذة في عدم الانتظام ، بل في الشهباء عدة مدارس على شاكلتها
تتجلى لك حالتها إذا سئلت عن وارداتها وعن حالة التدريس فيها ، وحينئذ يأخذك العجب
إلى أقصاه وتأسف لتلك الأموال الطائلة والواردات الهائلة التي تذهب سدى ، ويتبين
لك أن هذه المدارس لو اعتني في أمرها وصرف ريعها في السبيل الذي تستحقه لحييت تلك
المعاهد العظيمة بالعلم والعرفان وجادت على هذه الديار وعلى غيرها من البلاد بوابل
الفوائد ، ولا أدري أيبتسم ثغرها برؤية محيا ذلك اليوم أولا.
١٢٩١ ـ الحاج يوسف الداده الشاعر المشهور المتوفى سنة ١٣١٦
الحاج يوسف
الداده بن حسن دده بن عمر دده البيرامي ، نسبة إلى التكية البيرامية ، الحلبي.
كان في حلبة
الأدب من السابقين ، وفي صوغ عقود النظم والنثر من المجيدين ، مع رقة طبع ألطف من
النسيم ، وحسن معاشرة تعيد العافية للسقيم ، ولطيف محاضرة تهتز طربا لها الأغصان ،
وتبدد بها عن الفؤاد غياهب الأحزان.
ولد رحمهالله سنة ١٢٤٢ ، وفي ابتداء نشأته تلقى العلوم الأدبية
والدينية على الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني وغيره من علماء ذلك العصر. ثم
رحل إلى مصر والشام وبقي هناك مدة ولقي من بهما من الفضلاء.
وأخذ في نظم
الشعر إلى أن برع فيه وصار من الشعراء الذين يشار إليهم بالبنان في ذلك العصر ،
وهو مجيد في أكثر ما نظمه ونثره ، وأوتي جودة القريحة وسرعة الخاطر.
وجمع شعره
ونثره في مجلد ضخم اطلعت على نسختين منه هما عند الشيخ يوسف الجمالي شيخ التكية
البيرامية وفي مكتبة صالح آغا كتخدا ، وأول الديوان : الحمد لله الذي أهلّ بدور
البيان من شارق البراعة ، وجلا عرائس المعاني على منصات البلاغة ، وأعجز ببديع
كلامه القديم من تقدم أو تأخر ، وجعله تذكرة لمن تذكر وتبصرة لمن تبصر إلخ. وله
نظم «الأجرومية» في ١٦٠ بيتا ذكرها في ديوانه ، أولها :
الحمد لله
على ما وهبا
|
|
وزان بالذكر
الحكيم العربا
|
وله رحلة دلت
على مهارته في صناعة النثر أيضا أولها : لما قضى عليّ الرحيم الرحمن ، بفرقة
الأوطان وجوب البلدان ، وحملتني يد الاقتدار ، فطافت بي على الأقدار إلخ.
ونظم «السنوسية»
في التوحيد في عشرين بيتا ، وهي موجودة في ديوانه ومطلعها :
ثلاثة في
حكمها العقل انحصر
|
|
لم يلف رابعا
لها من اعتبر
|
وله نظم أصول
الطريقة القادرية وسبب تنقلهم من حال إلى حال مطلعها :
إلى جليس
الذاكرين أحمد
|
|
طول المدى
وغيره لم أعبد
|
وهي في نحو
مائة وخمسين بيتا.
وخمّس «البردة»
البوصيرية وهي موجودة في ديوانه أيضا ، قال في مطلعها :
ما بال وجدك
نام غير منصرم
|
|
تساير النجم
أنى سار في الظلم
|
يا ساهر
الليل حتى الصبح لم تنم
|
|
أمن تذكر
جيران يذي سلم
|
مزجت
دمعا جرى من مقلة بدم
|
غنّت حمامات
نجد غير سالمة
|
|
بما تجن
وأنّت غير راحمة
|
أم فاح نشر
زرود طي قادمة
|
|
أم هبت الريح
من تلقاء كاظمة
|
وأومض
البرق في الظلماء من إضم
|
وله معارضا
قصيدة أبي الطيب التي مطلعها :
بأبي الشموس
الجانحات غواربا :
بأبي الغصون
المائسات عواطفا
|
|
اللابسات من
الجمال مطارفا
|
الناظمات من
النجوم قلائدا
|
|
والمبرزات من
الصباح سوالفا
|
الفاتنات
محاسنا والبارقا
|
|
ت مباسما
واللينات معاطفا
|
الصائلات على
الأسود الحاميا
|
|
ت عن النهود
المانعات مراشفا
|
المرسلات على
الهضاب أساودا
|
|
والمشهرات
على الخدود مراهفا
|
الآخذات على
القلوب مواثقا
|
|
والمبديات
إلى العيون طرائفا
|
المخلفات
وعودهن الناقضا
|
|
ت عهودهن
الناكصات خوالفا
|
أسبلن ليلات
ولحن كواكبا
|
|
ونفرن غزلانا
وملن وصائفا
|
عاهدننا ألّا
تزال عيوننا
|
|
بدم الحشاشة
في الخدود ذوارفا
|
وتركننا نلقى
الهوان مع الهوى
|
|
ونمل من شكوى
الغرام صحائفا
|
وارحمتا
للعاشقين قلوبهم
|
|
أبدا تظل من
الظباء رواجفا
|
وله مهنئا
الشيخ حسن الكيالي عند إيابه من الحجاز :
هزوا القدود
وأرهفوا الأجفانا
|
|
فسلوهم
للعاشقين أمانا
|
عقدت على تلف
النفوس عهودهم
|
|
فسلوهم من ذا
أباح دمانا
|
وتضافروا
بضفائر ما أرسلت
|
|
إلا ومدت
للحشا ثعبانا
|
غيد تذل
الأسد عند لقائهم
|
|
فرقا ويرتجع
الكميّ جبانا
|
نظموا
الدراري في عذيب ثغورهم
|
|
وعلى النقا
اتخذوا المعاطف بانا
|
حلوا حصا
الياقوت في وجناتهم
|
|
وبنوا لكوثر
ثغرهم مرجانا
|
ومنها في
التخلص :
يا قلب لا
تبرح هنالك إنما
|
|
عوّضت بالصخر
الأصم جمانا
|
آويت للحسن
بن طه حيث قد
|
|
أولاك من
إحسانه إحسانا
|
ومن حكمياته :
أمن الليالي
قد أمنت نوائبا
|
|
ومن الأفاعي
السود بتّ مقاربا
|
وطمعت في نيل
السعادة قاعدا
|
|
وقنعت بالأمل
الكذوب مداعبا
|
خامرت عقلك
بالأماني إنما
|
|
منّتك نفسك
لا محال غرائبا
|
صفو الليالي
مستعار ربما
|
|
انكدرت
فصيّرت الصباح غياهبا
|
ولرب نازلة
أمنت وقوعها
|
|
نصبت حبائلها
فكنت الناصبا
|
وكذاك من ترك
التحفظ دأبه
|
|
إن عاتب
الأيام كان معاتبا
|
أدب الفتى
خير وجودة رأيه
|
|
من أن ينال
مناصبا ومراتبا
|
فمآل من يؤتى
الولاية عزله
|
|
ويظل غاد في البلاد
وآيبا
|
ولربما مالت
بمالك ليلة
|
|
فأعادت الذهب
المدنّر ذاهبا
|
شرط المروءة
ما ائتمنت فلا تخن
|
|
وإذا استشرت
كن المشير الصائبا
|
فعلى القلوب
من القلوب شواهد
|
|
ستراك إما
جاهدا أو لاعبا
|
ولو اعتبرت
بما كرهت وجدته
|
|
عين الذي قد
كنت فيه الراغبا
|
إن الحكيم
بأصغريه فكم ترى
|
|
جيشا كبيرا
عنه ولى هاربا
|
فإذا تبصر
كان نجما ثاقبا
|
|
وإذا تكلم
خلت درا ذائبا
|
وإذا استطال
بأسمر في أبيض
|
|
أبصرت مسودّ
الكتاب كتائبا
|
قدر الفتى ما
كان يحسن صنعه
|
|
لو كان فيه
راغبا أو راهبا
|
حرص الحريص
بغير عرض بدعة
|
|
لم تبرح
الأخيار عنه جانبا
|
لا تسلبنّك
حسن رأيك فترة
|
|
لا خير في
السيف الصقيل إذا نبا
|
في نفس مخبرك
اليقين لما أتى
|
|
وبما أحب
المرء قال وجاوبا
|
ولربما كان
الصدوق وإنما
|
|
نظر الطيور
على الثغور مراكبا
|
ما كل برق
خلته بك ممطرا
|
|
كلا ولا كل
النجوم كواكبا
|
إن كنت تعتب
كل خل مذنب
|
|
لم تلق في
تلك البرية صاحبا
|
لهواك هون لا
يطاع فلا تكن
|
|
في غيه نحو
التهاون واثبا
|
حب الغواني
في الأنام غواية
|
|
طبعت على قلب
الجهول قوالبا
|
نوب إذا
حققتهن بحكمة
|
|
ألفيتهن مع
الزمان مصائبا
|
فإذا فرحن
فواحشا وإذا
|
|
غضبن فواضحا
وإذا حزن نوادبا
|
وودادهن على
شبابك إنما
|
|
يكرهن منك
إذا رأينك شائبا
|
اربأ بنفسك
أي مجد شامخ
|
|
إن قمت للمجد
المؤثّل طالبا
|
كم في الخمول
كريم أصل ساقط
|
|
ويسود من لا
أم فيه ولا أبا
|
شرف تسيل به
النفوس على الظبا
|
|
نعم النصيب
لمن أراد مناصبا
|
لابد من كأس
الحمام فشربه
|
|
بالعز أحلى
ما يهنىء شاربا
|
إيداع سرك في
صديقك بدعة
|
|
فإذا أزيع
فكن لذلك حاسبا
|
فلربما انقلب
العدو مسالما
|
|
ولربما رجع
الصديق محاربا
|
ولربما كبت
الجياد براكب
|
|
ولربما قتل
السلاح الضاربا
|
فاصحب على
حسن الوقاية إنما
|
|
يفنى الزمان
إذا أردت تجاربا
|
والماء لون
إنائه إن صافيا
|
|
فإذا تكدر
كان ألون غالبا
|
لا تنتظر
وعدا تساء بمطله
|
|
ما ثم واف
سالبا أو واهبا
|
قد كان عرقوب
بيثرب واحدا
|
|
واليوم أصبحت
الأنام عراقبا
|
أبناء هذا
الدهر دهر مثله
|
|
تلد العقارب
مثلهن عقاربا
|
أنت الملوم
بما تلوم به السوى
|
|
والذنب ذنبك
لا تكن متواربا
|
أنت المفرط
والحكيم مقدر
|
|
فلمن إخالك
ساخطا ومغاضبا
|
والصبر أجمل
في الأمور جميعها
|
|
للطيش تلقى
دون عقلك حاجبا
|
شكواك
للإنسان عيب ظاهر
|
|
فمتى شكوت
عددت منك معائبا
|
حمل الجبال
ولا سؤالك هين
|
|
إن عدت منه
غانما أو خائبا
|
ويد تمد لغير
خالقها أرى
|
|
في قطعها بعد
التسنن واجبا
|
في بيع ماء
الوجه غبن فاحش
|
|
لو أن شريت
مشارقا ومغاربا
|
والصدق في كل
الأمور سفينة
|
|
تنجو وتنجي
في البحور الراكبا
|
والكذب أقبح
مقتنى لو يقتنى
|
|
لا ترتضي من
أن تكون الكاذبا
|
والصوم عن
نطق الفضول فضيلة
|
|
أعلى وأسلم
مفعلا وعواقبا
|
إن السنان عن
اللسان لقاصر
|
|
مهما استطال
مناصلا وكواعبا
|
بالعلم ترقى
من قصدت من العلا
|
|
فاطلبه تلقى
في العلوم رغائبا
|
ولسانك
الثاني يراعك فابتهج
|
|
ببراعة
الإنشا تكون الكاتبا
|
وكل الأمور
إلى مدبّرها ترى
|
|
بين انطباق
الجفن منك عجائبا
|
وأنب إلى
المولى وتب متندما
|
|
إن الإله يحب
عبدا تائبا
|
وإذا الزمان
عدا عليك وجئته
|
|
بالمصطفى
المختار كنت الغالبا
|
ا ه
ومن بديع نظمه
:
تبسم عن
ثناياه فخلنا
|
|
لآلىء في
رحيق من عقيق
|
وأبرز نكتة
في الخد تحكي
|
|
ثريا في سماء
من شقيق
|
أراد بالنكتة
حبة حلب التي تعرف بحبة السنة. ومن نظمه في هذا الباب :
مذ حل في حلب
قامت تقبله
|
|
يا حسن ما
غادرت في الخد من أثر
|
في موضع
اللثم منه نكتة ظهرت
|
|
كما بدا أسد
في دارة القمر
|
وله :
إذا أتبعت
حسن الخط إنشا
|
|
فوائده تزيد
ولا تبيد
|
وأتقنت
الحساب وكنت عبدا
|
|
إلى مولاك
أنت إذا رشيد
|
وله :
ومهفهف يهوى
أبوه شقيقه
|
|
ويهيم وجدا
عمه في خاله
|
وفروعه ذهبت
تحب أصوله
|
|
فأخو الصبابة
لا تسل عن حاله
|
وله :
ومن العجائب
أن أعد لقاتلي
|
|
قلب المهلهل
وارتجال الأصمعي
|
وإذا تلاقينا
بهت فلم أجد
|
|
نطقا يساعدني
ولا قلبي معي
|
وبالجملة فإن
شعره رقيق منسجم لا كلفة فيه.
وفي سنة ١٢٨٠
توجه إلى كفر تخاريم من أعمال حلب وأقام هناك مدة وصار يتنقل في سلقين وحارم
وقرقنيا وغيرها ، وعمر في حارم بيتا في قلعتها وكان غالب إقامته فيها.
وفي أواخر
حياته حضر إلى حلب وبقي فيها سنتين ، ثم رجع إلى أرمناز وبها توفي سنة ١٣١٦ رحمهالله تعالى.
١٢٩٢ ـ الشيخ محمد فاتح الهبراوي المتوفى سنة ١٣١٦
الشيخ محمد
فاتح ابن الشيخ محمد خير الدين الهبراوي الحسيني الحلبي.
ماجد عجنت
طينته من ماء الذكاء والنباهة ، وتزين جيده من حين نشأته بحلي الأدب والنبالة. ولم
يبلغ سن الشباب إلا وقد سار في سبيل الفضائل شوطا بعيدا ، وكاد يعتلي ذروتها ويبلغ
منتهاها لو لا أن عاجلته المنية ومدت يدها إلى ذلك الغصن فقصفته على طراوته ، ولم
ترع فيه إلا ولم تحفظ له عهدا.
ولد رحمهالله سنة ١٢٩٢ ، ونشأ في حجر والده ، وحفظ القرآن العظيم في
مدة يسيرة. ثم أخذ في التفقه على مذهب الإمام الشافعي ، فلم تمض مدة وجيزة إلا وقد
برع فيه وجلس للتدريس على مذهب ذلك الإمام بتقرير يشفي الغليل ، مع التحلي بلباس
الصلاح والتقوى واشتغاله بالأوراد والعبادة بحيث يسهر معظم لياليه إلى وقت
الأسحار.
ولم يزل دائبا
على ذلك حتى انصرفت همته إلى الاستزادة من تلك المناهل العذاب ، فعزم على اقتعاد
غارب الاغتراب ، وإن كان في السفر نوع من العذاب ، وسافر من الشهباء في ربيع الأول
سنة ١٣١٤ قاصدا دمشق الشام ، ولما حل بهاتيك الديار وشاهد من كان هناك من العلماء
الأعلام ، ألفوه وأحبوه ، وتمكنت محبته لما شاهدوه فيه من الذكاء والفضل على حداثة
سنه. وأقام هناك مدة ، ثم استأنف السير إلى الديار المصرية ، ومر في طريقه على
القدس وزار تلك الأماكن المقدسة ، ولما ألقى عصا التسيار في تلك الديار جاور
بجامعها الأزهر وأخذ في التلقي عن علمائها الأعلام بهمة زائدة ، ساهرا الليالي
للاقتطاف من ثمار العلوم والارتشاف من كؤوس المعالي ، مع مواظبته على ما كان عليه
من العبادة والأذكار. وفي يسير من الزمن صار هلاله بدرا واستنار في سماء الكمال
وحفظ صحيح البخاري عن ظهر قلب. وأقام ثمة نحو ثلاث سنين مكبا على التحصيل ، فوافاه
الأجل المحتوم ليلة عيد الفطر سنة ١٣١٦ ، فكان المصاب به جللا والخطب عظيما. ولو
اتسعت له فسحة الأجل لوجدت الشهباء فيه منتهى الأمل ، ولكان اليوم إنسان عينها
والسابق في حلبة ميدانها.
وكانت له على
صغر سنه اليد الطولى في صناعتي النظم والنثر ، وقد أبقى من آثاره رسائل وقصائد
أرسلها لصديقه الشيخ محمد مراد الشطي الدمشقي ، وقد جمع هذه الرسائل الشيخ محمد
جميل الشطي ابن أخي الشيخ محمد مراد المذكور وطبعها باسم «الرسائل الفاتحية» ، فمن
نظمه قصيدة أرسلها في ١٢ محرم سنة ١٣١٣ وهي مثبتة مع الرسائل المتقدمة قال في
مطلعها :
ما هب من
جلّق الفيحاء ريح صبا
|
|
إلا وقلبي
إلى تلك الرياض صبا
|
وما سرت من
غوير السفح سارية
|
|
إلا وهزت
فؤادي نحوه طربا
|
وما بدت
لعيون الصب بارقة
|
|
من ذلك الحي
إلا صاح وانتدبا
|
حيّ الحيا
حيّ أحبابي الأولى سكنوا
|
|
فيه ومدوا
على هام السهى طنبا
|
حيّ به الميت
حيّ فانتجعه تجد
|
|
بدور تمّ زهت
في حسنها عجبا
|
من كل أغيد
وضاح الجبين لو ان
|
|
جلى سنا وجهه
للبدر لاحتجبا
|
ناريّ خدّ به
وجدي قد التهبا
|
|
فضّيّ جسم به
عقل الورى ذهبا
|
ما سل في فئة
العشاق أحوره
|
|
إلا ونادوا
على الإطلاق واحربا
|
إلى أن قال في
التخلص إلى المديح :
تبارك الله
ما أحلاه من بشر
|
|
روحي فداه
وإن أمست له سلبا
|
خط العذار
على خديه تحسبه
|
|
خط المراد
المفدى سيد النجبا
|
وكان الشيخ
محمد مراد المذكور من المبرزين في حسن الخط كما ذكر في ترجمته في أول هذه الرسائل.
١٢٩٣ ـ الشيخ محمد الورّاق الشاعر الموسيقي المتوفى سنة ١٣١٧
الشيخ محمد بن
أحمد بن محمد بن صادق المعروف بالورّاق.
ولد في سنة
١٢٤٧ أو قبل ذلك بقليل. ولما ترعرع تعاطى بعض المهن ، وصار يتردد إلى الزاوية
الهلالية الكائنة في محلة الجلّوم الكبرى ، ولازم حلقة الذكر ورئيس المنشدين فيها
الموسيقي البارع الحاج مصطفى البشنك المنشد المشهور ، فعلق به ولازمه مدة طويلة
ملازمة الظل لصاحبه وتتلمذ له وتخرج عليه في علم الموسيقى والأنغام ، وصار
مساعدا له في الإنشاد في الزاوية المذكورة ويرافقه أينما ذهب ، إلى أن توفي البشنك
سنة ١٢٧٢ فاستقل بعده في رئاسة الحلقة.
وكان بدا له أن
يتطلب العلوم العربية والأدبية والشرعية ، فقرأ على الشيخ أحمد الكواكبي والشيخ
عبد القادر الحبّال النحو والصرف والفقه والحديث. ثم اتصل بالشيخين الشيخ عبد
السلام الترمانيني فقرأ عليه حصة وافرة من علم الحديث ، والشيخ أحمد الزويتيني
مفتي الحنفية فقرأ عليه الفقه الحنفي.
وبعد أن أخذ
بحظ وافر من علم العربية والأدب في مدة وجيزة لما كان عنده من الذكاء الفطري عني
بنظم الشعر والقدود وصار يلحنها ويلقيها أثناء الذكر ، وشاع بذلك ذكره وبعد صيته ،
ومع هذا فقد كان حيث أدركته حرفة الأدب في ضيق من معيشته ، تعاطى صنعة العطارة مدة
فكان يعيش منها ومن الراتب القليل الذي كان يتناوله من الإنشاد في الزاوية
المتقدمة.
ثم إنه رفع إلى
الوالي جميل باشا قصيدة امتدحه فيها ، فسعى في تعيينه بقراءة جزء في الجامع الكبير
براتب مائة قرش أعني ليرة عثمانية ذهبية في كل شهر ، وترك الإنشاد في أواخر عمره
لكبر سنه.
وأمّ الناس
بالوكالة في الجامع الكبير في محراب الحنفية مدة طويلة ، ثم في المسجد الكائن داخل
خان القصابية ، فكان يعيش بهذه الوظائف القليلة عيشة الكفاف.
ولم تزل هذه
حالته إلى أن وافاه الأجل المحتوم ليلة الاثنين سادس عشر ذي الحجة سنة ١٣١٧ وذلك
يوافق ثالث نيسان سنة ١٣١٦ رومية كما هو محرر في الدفتر المحفوظ عند ناجي الكردي
رئيس خدمة الجامع الكبير الذي يقيد فيه وفيات موظفي الجامع جميعهم في حينها ، ودفن
في تربة السفيري في التربة الوسطى منها.
وترجمه الأديب
قسطاكي الحمصي في مجلة الشعلة وفي كتابه «أدباء حلب» فقال :
إنه كان عالما
فقيها ، وفي علمي اللغة والحديث نبيها ، وهو آخر عالم فقدته البلاد السورية في فني
الموسيقى والألحان العربية ويروى أن له عدة مجاميع ضمنها من الطرائف
والظرائف طائفة مما له ولغيره ، فهل في الحمى أديب عالم بمكانها فينتضيها
انتضاء السيوف من أجفانها ، ويبرزها إبراز النفائس من صوانها.
وكان أوصى أن
لا يحنّط ، وظن بعضهم أن ذلك لفرط شحه ، فإن كان ما دفعه إلى ذلك ما ظنوه فهو من
الغرابة بمكان.
وكان يقرض
الشعر ، ولم يصل إلينا إلا ما نثبته هنا. ثم أورد له تخميسا وأبياتا من قصيدة ،
وقال في صدر ترجمته إن وفاته كانت سنة ١٣٠٨.
أقول : إن من
حدث الأديب المترجم بأن المترجم أوصى أن لا يحنّط فقد افترى عليه أشد الافتراء ،
وبحثت عن ذلك كثيرا من عارفيه وذويه فأنكروا ذلك أشد الإنكار. وقوله إن وفاته سنة
١٣٠٨ هو أيضا خطأ محض ، وكيف تكون وفاته في هذا التاريخ وقد ذكرت في ترجمة شيخه
الشيخ أحمد الزويتيني المتوفى سنة ١٣١٦ الأبيات التي نظمها المترجم ونقشت على لوح
قبره ، وأن الورقة التي كتب فيها تلك الأبيات هي عندي بخطه ، والصواب في وفاته ما
قدمناه.
وكان بيني وبين
ولد له اسمه بشير معرفة تامة ، فقد كنت أنا وهو في المدرسة المنصورية ، وقد هاجر
إلى مصر منذ سنين وهو لا زال فيها إلى الآن ، فبعيد وفاة والده أطلعني على ديوان
أبيه ، فاستعرته منه ونقلت منه ثلاثين صحيفة من قصائده وتخاميسه وتشاطيره وقدوده
ضمن مجموع لا زال محفوظا عندي ، سنثبت هنا قسما منها ، وأما قصيدته التي امتدح بها
الوالي جميل باشا التي أشرنا إليها فهي منشورة في عدد (٦٩٦) من جريدة الفرات
الرسمية المؤرخ في رابع ذي القعدة سنة ١٢٩٩ وهي :
عود عيد وفى
لنا بقبول
|
|
أم حبيب قضى
لنا بالوصول
|
أم رياح
بنفحة المسك هبت
|
|
أم شفاء
لمدنف وعليل
|
أم بشير أتى
بلقيا حبيب
|
|
أم شموس
تنزهت عن أفول
|
أم صباح بدا
بطالع سعد
|
|
أم سنا طلعة
الوزير الجليل
|
أشرقت في
الربوع بعد احتجاب
|
|
فهدتنا إلى
سواء السبيل
|
يا لها نعمة
بها أنعم الله
|
|
علينا وكم
شفت من غليل
|
فله الحمد
والثنا كل آن
|
|
وله الشكر في
الضحى والأصيل
|
من عبيد لم
يعرفوا قدر ما هم
|
|
فيه من نعمة
وفضل جميل
|
يا وزيرا به
العدالة تنمو
|
|
كل وقت في كل
عصر وجيل
|
أنت ظل ما ضل
من قال يوما
|
|
في حماكم من
تحت ظل ظليل
|
أنت غيث
أتيتنا بعد محل
|
|
بل وغوث بكل
خير كفيل
|
أنت ليث أردى
العداة بحزم
|
|
وبعزم وخير
باع طويل
|
شنّع
المرجفون لما ارتحلتم
|
|
أن نويتم
فراقنا بالرحيل
|
فاستعذنا
بالله مولى الموالي
|
|
واعتصمنا
بمحكم التنزيل
|
وسألناه
بالمشفّع طه
|
|
سيد العاملين
أزكى رسول
|
أن يديم
الإقبال والعز دوما
|
|
لجميل
الأفعال زاكي الأصول
|
الوزير
المشير في كل خطب
|
|
قامع
المعتدين غوث الدخيل
|
خير وال وتاج
كل رئيس
|
|
قام بالعدل
وفق ما في النقول
|
فاستجاب
الدعاء مولى البرايا
|
|
وأباد
الأعداء بالتنكيل
|
سيدي والذي
حباك مقاما
|
|
عز شأنا
برفعة وقبول
|
بك شهباؤنا
اكتست ثوب عز
|
|
نسجته أيدي
الكرام الفحول
|
من رقوا في
العلا أعز مقام
|
|
قد تسامى في
عزه عن مثيل
|
فهمو آل
عثمان من قد
|
|
عطّر الكون
ذكرهم بالشمول
|
سادة أشرقت
بدور المعالي
|
|
من سناهم على
الربا والطلول
|
فهم الحسنات
في جبهة الدهر
|
|
وذكر همو
شفاء العليل
|
كم أفاضوا
على البرية جودا
|
|
من جداهم وأنعموا
بالجليل
|
وعلينا
تفضلوا بوزير
|
|
جل قدرا ما
إن له من عديل
|
جمّل الله
ذكره بالمعالي
|
|
إذ حباه من
فضله بجميل
|
فرع مجد نما
بدوحة عز
|
|
فوقها هيبة
المليك الجليل
|
يا خليليّ
والخليل المواسي
|
|
منكما من يحب
نفع الخليل
|
عللاني بذكره
بامتداح
|
|
إن قلبي يطيب
بالتعليل
|
__________________
يا لقومي وكم
له من مزايا
|
|
أحيت
المرملين بعد محول
|
كم ضريح لما
جد قد عفته
|
|
من مرور
الأيام وقع السيول
|
كم وكم مسجد
ومكتب قرآ
|
|
ن رماه البلى
بسهم وبيل
|
فأعاد الرميم
بعد عفاء
|
|
وحباه من
فضله بالجزيل
|
يا هماما سما
وطاب نجارا
|
|
وانتسابا إلى
أعز مقيل
|
هاك مني
عقيلة بنت فكر
|
|
ذات حسن قد أهديت
لجميل
|
تتهادى كأنها
ذات خدر
|
|
ترجو منك
القبول غب الوصول
|
قد تحلت من
وصفكم ببديع
|
|
يا هنائي إن
أتحفت بقبول
|
زادك الله
رفعة وسرورا
|
|
وابتهاجا
بخير نجل نبيل
|
وابق واسلم
ولا برحت مغيثا
|
|
للهيف ودمت
خير مقيل
|
ما عليك
الشهباء أثنت وقالت
|
|
بلسان عن
الوفاء كليل
|
طاب عيشي وقد
صفا حيث إني
|
|
لذت في جاهك
العريض الطويل
|
أو أتاك
الورّاق يهدي مديحا
|
|
عود عيد وفى
لنا بالقبول
|
وقال يمدحه
أيضا :
طاب الصبوح
فأيقظ راقد السّمر
|
|
والفجر لاح
وغنّى بلبل السحر
|
وألسن الشكر
تتلو الحمد معلنة
|
|
بمدح تاج
الملوك السادة الغرر
|
عبد الحميد
الذي قامت بدولته
|
|
شعائر الدين
في بدو وفي حضر
|
فإنه قد
حبانا من مكارمه
|
|
بخير وال
جميل الورد والصدر
|
فالله يجزيه
عنا كل آونة
|
|
نصرا وحفظا
له من حادث الغير
|
يا كعبة
المجد يا ذا الحمد يا حرم
|
|
اللاجي إليه
وأمن الخائف الحذر
|
يا شامل
الجمع من جود ومن كرم
|
|
وجامع الشمل
بين النصر والظفر
|
ويا جميل
المساعي دام عزكم
|
|
روض السماح
لديكم يانع الثمر
|
لله درّ همام
بالجميل لقد
|
|
سماكم فسموتم
كمّل البشر
|
إن الملوك
حسام أنت جوهره
|
|
والسيف من
غير ماء غير مشتهر
|
لو لا وجودكم
يا سادتي قسما
|
|
لكان فجر
المعالي غير منفجر
|
إن جزتمو
بمحل المحل صار بكم
|
|
خصب المراعي
ويجري الماء في الحجر
|
وهذه دولة
كالجسم أنت لها
|
|
روح وكالعين
فيها أنت كالحور
|
فإن زهت
كسماء كنت كوكبها
|
|
وإن زكت
كرياض كنت كالمطر
|
لو بعض نوركم
للشمس ما احتجبت
|
|
أو للبدور
بدت في أكمل الصور
|
يفنى الزمان
ولا تفنى مآثركم
|
|
فلا محا الله
منكم طيب الأثر
|
وقد أتى عبدك
الورّاق ممتدحا
|
|
يرجو القبول
وهذا غاية الوطر
|
وله مخمسا وهو
ما نقلته من ديوانه ومن مجموعة أخرى :
بانت سعاد
وحبل الود قد صرمت
|
|
وأودعت في
الحشا نارا وما رحمت
|
بالله إن
بعدت عن ناظري ونأت
|
|
خذني بعيسك
يا حادي فإن ظمئت
|
ردها
دموعي ولا تأمن من الغرق
|
لعل بالقرب
أن أحظى ولو نفسا
|
|
فإنني بالنوى
قد ذقت كل أسى
|
ويا حويدي
أنخ بي إن أتيت مسا
|
|
وحسبك النار
من أحشاي مقتبسا
|
واحذر
تداني مكان القلب تحترق
|
وله في المغنّي
المشهور طاهر النقش المتوفى سنة ١٣٠٥ وهو كما حدثنا عنه عارفوه ممن جمع فيه حسن
الصوت وجمال الصورة :
تغنّى فأغنى
طاهر بغنائه
|
|
عن الناي
والقانون إذ ردد اللحنا
|
فلم أر من
شاد وعينيه مثله
|
|
بحسن وحسّ
يملأ العين والأذنا
|
وله فيه تذييلا
على أبيات ابن إسحق الزاهي :
تبدت فهذا
البدر من كلف بها
|
|
وحقك مثلي في
دجى الليل حائر
|
وماست فشق
الغصن غيظا جيوبه
|
|
ألست ترى
أوراقه تتناثر
|
وفاحت فألقى
العود في النار نفسه
|
|
كذا نقلت عنه
الحديث المجامر
|
وقالت فغار
الدر واصفر لونه
|
|
كذلك ما زالت
تغار الضرائر
|
وغنت فماج
الكون وجدا كأنما
|
|
يغنّيك في
ربع المسرة طاهر
|
وله فيه :
وبي أغنّ
يغنّيني فيطربني
|
|
ما روقت فيه
أفكاري عن الغزل
|
وكلما كرر
الإنشاد قلت له
|
|
لا فضّ فوك
بغير اللثم والقبل
|
وله فيه غير
ذلك. وله مخمسا :
سيوف لحظك في
الأحشاء صائلة
|
|
وشمس حسنك
للأفكار شاغلة
|
تفديك نفس
محب فيك قائلة
|
|
يا رب إن
العيون السود قاتلة
|
وإن
عاشقها لا زال مقتولا
|
سبحان من
زانها بالسحر مع حور
|
|
حتى غدت فتنة
تجري على قدر
|
أنا الأسير
بها كهلا وفي صغر
|
|
وقد تعشقتها
عمدا على خطر
|
ليقضي
الله أمرا كان مفعولا
|
وله مخمسا :
ولرب ظبي
باللواحظ صادني
|
|
وإليه من بعد
التعفف قادني
|
وبردفه
المرتجّ لما شاقني
|
|
ذاكرته عهد
الوصال أجابني
|
كم
ذا تطيل من الكلام المؤلم
|
فأجبته للوصل
شمت دلائلا
|
|
وعليك لم أدع
وحقك باخلا
|
فلوى وعني قد
غدا متشاغلا
|
|
فأريته
الدينار أنشد قائلا
|
أين
المفر من القضاء المبرم
|
وله مخمسا :
وظبي قدّ
أحشائي بقدّ
|
|
يميس بقامة
زينت بجعد
|
حبيب لا يشان
بخلف وعد
|
|
له خال على
صفحات خدّ
|
كنقطة
عنبر في صحن مرمر
|
سبى بجميل
طلعته فؤادي
|
|
وخلّفني أهيم
بكل واد
|
له ثغر حلا
وردي وزادي
|
|
وألحاظ
كأسياف تنادي
|
على
عاصي الهوى ألله أكبر
|
وله مخمسا :
غرامي بتذكار
الأحبة قد نما
|
|
وقلبي من تلك
اللواحظ كلّما
|
وكم قلت إذ
مر الحبيب على الحمى
|
|
عفا الله عن
عينيك كم سفكت دما
|
وكم
فوّقت نحو الجوانح أسهما
|
محبك قد أودى
الغرام بلبه
|
|
وعنك فلا
يوما يميل وربه
|
فيا من لنا
لذّ الهيام بحبه
|
|
أكل حبيب حاز
رق محبه
|
حرام
عليه أن يرق ويرحما
|
فعطفا على صب
بحبك هالك
|
|
ورفقا به يا
ذا اللحاظ الفواتك
|
فكم قلت مذ
أضحى اصطباري متاركي
|
|
تحكمت في
قلبي لأنك مالكي
|
بروحي
أفدي المالك المتحكما
|
يمينا فلا
أسلو هواك مدى المدى
|
|
ولو لامني
اللاحي عليك وفنّدا
|
فيا من زكا
خالا وخدا مورّدا
|
|
هنيئا لطرف
بات فيك مسهّدا
|
وطوبى
لقلب ظل فيك متيما
|
وهذه الأبيات
للشيخ محمد ابن الشيخ محيي الدين محمد بن علي بن العربي الأديب البارع سعد الدين.
ولد بملطية سنة ٦١٨ ، وكان شاعرا محسنا له ديوان. توفي في سنة ٦٥٦ ودفن بدمشق عند
أبيه.
ووجدت في بعض
المجاميع بعد البيت الأخير بيتين آخرين وهما :
أما القد من
ماء الشبيبة مرتو
|
|
فيا خصره
الممشوق لم تشتكي الظما
|
حمى ثغره عني
بصارم لحظه
|
|
فلو رمت
تقبيلا لذاك اللمى لما
|
وله مخمسا
أبيات العارف بالله الشيخ أبي العباس المرسي :
فنون حديث
العشق عني تؤثر
|
|
ومرسل دمعي
فوق خدي مسطّر
|
وكم من مريد
قال لي ليس يحصر
|
|
أعندك من
ليلى حديث محرر
|
فإيراده
يحيي الرميم وينشر
|
فقلت له
والحب يا صاح مضّني
|
|
وأنحلني
الشوق المقيم وعلّني
|
إذا شئت عن
ليلى تسائل فأتني
|
|
فعهدي بها
العهد القديم وإنني
|
على
كل حال في هواها مقصّر
|
إليها
اشتياقي دائما يستطيرني
|
|
ومن فيضها
الهطّال كم ذا تعيرني
|
ومن صدها يا
قوم من ذا يجيرني
|
|
وقد كان منها
الطيف قدما يزورني
|
ولمّا
يزر ما باله يتعذر
|
وقد لذ لي
ذلي لعز جمالها
|
|
وطاب افتضاحي
في الهوى لدلالها
|
فما بالها
عني اختفت بجلالها
|
|
فهل بخلت حتى
بطيف خيالها
|
أم
اعتلّ حتى لا يصح التصوّر
|
شفائي لقاها
والتباعد ممرضي
|
|
وعمر اصطباري
في الهوى غير منقض
|
فكيف إلى
الأغيار أصبو وأرتضي
|
|
ومن وجه ليلى
طلعة الشمس تستضي
|
وفي
الشمس أبصار الورى تتحير
|
فحمدي لها
أني مقيم ببابها
|
|
ألوذ وأستجدي
لذيذ خطابها
|
وقد شملتني
عطفة من جنابها
|
|
وما احتجبت
إلا برفع حجابها
|
ومن
عجب أن الظهور تستّر
|
وله مخمسا :
ثق برب منعم
مولي الجميل
|
|
وادّرع صبرا
على الخطب الجليل
|
واستمع ما
قاله الشهم النبيل
|
|
كن غني النفس
واقنع بالقليل
|
مت
ولا تطلب معاشا من لئيم
|
فوض الأمر
إلى رب العباد
|
|
فله في كل
مقدور مراد
|
إن ترم تسلك
في طرق الرشاد
|
|
لا تكن للرزق
مهموم الفؤاد
|
إنما
الرزق على المولى الكريم
|
وله عروض (لا
لا تجيني النوما) :
دع يا عدولي
اللوما
|
|
فالعشق قد
حلالي
|
يا طلعة
الكمال
|
|
يا باهي
الجمال
|
زهى عقد
اللآلي
|
|
في ثغرك
الشهيّ
|
دع
يا عذولي
|
القد غصن بان
|
|
والعطف خيز
راني
|
والعشق قد
دعاني
|
|
لخدك النقيّ
|
دع يا عذولي
بقدك المياس
|
|
وجيدك
الألماسي
|
ووجهك
النبراس
|
|
بالوصل جد
وحيّ
|
دع يا عذولي
صلّ ذا
الجلال
|
|
والجود
والنوال
|
على النبي
والآل
|
|
في الصبح
والعشيّ
|
وصل سلامي
دوما
|
|
لمعدن الكمال
|
وله عروض (العواذل
ليه تلمني) من نغمة الصبا أصوله صاده :
إن تواصل أو
تزرني
|
|
أيها الظبي
النفور
|
ليت شعري من
يلمني
|
|
فيك يا وجه
السرور
|
لو تزور
دور :
طاب وقتي يا
حبيبي
|
|
وزمان الأنس
راق
|
ورد خديك
النصيبي
|
|
قد تجلى فوق
طور
|
وهو نور
دور :
روّق الصهبا
ورنّم
|
|
باسم من يهوى
الفؤاد
|
أيها الساقي
وزمزم
|
|
كاس أنسي
بالحبور
|
كم تجور
دور :
برحيق الثغر
حيّا
|
|
منيتي باهي
الجمال
|
ودعا قلبي
شجيّا
|
|
عندما هز
النحور
|
والخصور
دور :
صلّ يا مولى
البرايا
|
|
وتفضل
بالسلام
|
ثم عمم
بالتحايا
|
|
صفوة المولى
الغفور
|
الشكور
وله عروض (الليلتين
وليلتين وليّا) نغمته عشاق أصوله يكرك :
يا ربة
المحاسن البهيّا
|
|
قوامك الخطي
سطا عليّا
|
كأسمر
لازمة :
بالله يا ذات
الخديد القاني
|
|
رفقا بصب
مستهام فاني
|
بمظهر
جبينك الوضاح
عالي الشان
|
|
بدا كبدر قد
سما مضيّا
|
وأنور
دور :
هيّا لروض
الأنس والإيناس
|
|
يا مفردا
بعادل مياس
|
كسمهر
واجل على
الصوت الرخيم كاسي
|
|
ما بين نسرين
غدا زكيّا
|
وعنبر
دور :
هيفاء حيت
بالرضاب الشافي
|
|
من ثغرها
الدري حلا ارتشافي
|
لسكر
بديعة الشؤون
والأوصاف
|
|
بلحظها كسرى
غدا شجيّا
|
وعنتر
دور :
فريدة الجمال
من رآها
|
|
بروحه لو لم
يجد سواها
|
لأمهر
سبحان من
بالحسن قد حباها
|
|
وزان منها
منظرا بهيّا
|
وصوّر
دور :
صلى إله
العرش بالسلام
|
|
على النبي
وآله الكرام
|
وحيدر
ثم على
أصحابه الفخام
|
|
لعل أن أغدو
بهم نجيّا
|
بمحشر
وله غير ذلك من
القدود والتشاطير والتخاميس والقصائد وحسبنا هذا المقدار.
قلنا في صدر
الترجمة : إن المترجم تلقى علم الموسيقا والأنغام عن الحاج مصطفى بن بكري البشنك ،
فهذا الرجل كان آية في هذا الفن ونابغة من نوابغ ذلك العصر ، فارس لا يجارى وبطل
لا ينازل ، أذعن له أبناء هذا الفن واعترفوا بأنه السابق في حلبة هذا الميدان
وصاحب القدح المعلى.
وقرأت بخط
الشيخ عبد الرحمن المشاطي ، وهو ممن أدرك البشنك ويعرفه حق المعرفة ،
أنه كان يدق النقرظان (وهو المسمى في عرفنا بالنقاريات) في التكية المولوية
في حلب ، وكان يضع النقرظان خلف ظهره ويدق وحوله النايات وغيرها من الآلات ، وأنه
كان إذا دخل لجمع ليلا يجلس على كرسي ويحدث من ألف ليلة وليلة عن ظهر قلب ما يناسب
الجمع ، إن كانوا علماء فمما يناسبهم وإن كانوا من الوجهاء أو الشبان فكذلك. فدقه
على الآلة على هذه الصورة مع عدم الخلل في ذلك يدل على مهارة تامة في علم الموسيقا
ودربة بالغة منتهاها ، وتحديثه على الشكل المتقدم يدل على قوة حافظته وحسن
استحضاراته.
وحدثني من أثق
به أنه كان يقال : لو رمي الحاج مصطفى البشنك من فوق منارة الجامع الكبير إلى صحنه
لما حصل له شيء من الضرر ، لأنه لا يهوي إلا على الأصول ، فلا يصل إلى الصحن إلا
على رجليه فلا يناله لذلك أدنى ضرر.
وحدثني أيضا
أنه كان في بعض الليالي في فرح ومعه مسيحي ماهر في دق النقرظان ، وكان شيخا مسنا
ناهز الثمانين وعلى رأسه عمامة سوداء كبيرة ، فبينما كان يدق في النقرظان إذ به قد
أخطأ في دقة ذهب منه (تك) فنظر إليه البشنك نظرة مغضب وأخذته الحدة لغلطته وعدها
شيئا نكرا ، ولم يسعه إلا أن ضربه بالدف الذي كان بيده على عمامته الكبيرة وقال له
: ويحك لقد أذهبت (تكا) لا يقام له ثمن. وتناول النقرظان ووضع عوديه بين إبهامي
رجليه وصار يدق بهما دقا محكما لا يختل فيه مثقال ذرة ، وبيده الدف يضرب عليه ،
فتعجب الحاضرون من عظيم مهارته.
وكانت وفاته
سنة ١٢٧٢ ، ودفن في تربة السفيري بجانب الشيخ قاسم الخاني في قبليه.
ومكتوب تحت
اسمه :
قد كان صاحب
هذا القبر جوهرة
|
|
نفيسة صاغها
الرحمن من صدف
|
إلخ البيتين
المشهورين ، وفي ذلك تنويه بعظم شأنه وتقدير أهل عصره له. ولم يخلفه في حذقه في
هذه الصناعة والضرب على الآلات أحد مثله في هذه الديار ، حتى إنه يضرب به المثل
إلى الآن فيقال لكل من تقدم أمام قوم أو برز في أمر : هو البشنك.
على هذا
الأستاذ تلقى الورّاق دروسه الموسيقية وبه تخرج في الأنغام والألحان ، فكان
خليفته في هذا الفن بلا مدافع ، وإليه انتهت الرئاسة فيه بلا منازع.
وإنا نذكر لك
نبذة من طريقة الوراق في الإنشاد ، وبها تعلم أن الإنسان لا يبلغ هذه المنزلة مع
الذكاء المفرط إلا بعد عناء كثير وتمرين طويل ، وبذلك تقف على مقدار رقيّ هذا الفن
في الشهباء في القرن الماضي والعصور التي قبله ، وتخيل في نفسك مقدار ما كان يدخل
على النفوس من الطرب حين كان الإنشاد على هذه الصورة ، وتعلم انحطاط هذا الفن في
هذا العصر وأنه أصبح خلاعة ومجونا قد خرج فيه أربابه عن حدود الحشمة والآداب ،
وخصوصا بعد ما فشا السماع في الديار المصرية والسورية والعراقية والتركية من
العاهرات الفاجرات ، فصار المقصود من السماع الخلاعة والفجور لا المهارة الفنية
ولا الصناعة الأدبية.
وكان الوراق رحمهالله لا ينتقل من إنشاد إلى شغل أو من شغل إلى إنشاد أو من
شغل إلى شغل إلا لمناسبة ، إما للوزن والقافية أو للمعنى لما يصح أن يجعل الثاني
مقولا للقول الأول أو غير ذلك مع الأساليب الموافقة للصناعة من الأصول والطبقة
والنغم وتصوير النغم ، فبينما كان ينشد مثلا :
رعا الله
أرعانا ودادا لخله
|
|
وبلّ من
الأشواق أشجان أشجانا
|
ولا بلغ
المأمول منا أملّنا
|
|
ولا اكتحلت
بالسهد أجفان أجفانا
|
وإذا به قد
انتقل إلى شغل :
يا سيد كل
الغيد
|
|
ما ضر لو
وافانا
|
يا من لقاه
عيدي
|
|
وصاله أحيانا
|
وبينما تراه
ينشد مثلا :
قبل صحبي إلى
المدامة صح بي
|
|
وإلى كل سرب
يا صاح سربي
|
بأبي ظبية من
السرب لاحت
|
|
طال عتبي لها
وما طلّعت بي
|
ثم قالت يا
مولعا بهوانا
|
|
ما تقل بي
فقلت قد مات قلبي
|
وإذا به قد
انتقل إلى شغل على هذا الروي فيقول :
حادي الركب
لنحو حبي سربي
|
|
وعج بي نحو
الشعب
|
فإن قلبي مسبي يلبي
وبينما تراه
يغني من نغم خاص على أصول خاصة :
انهض وبادر
يا رفيق
|
|
ولا تفارق ذا
الطريق
|
لأن ساقينا
الرحيق
|
|
يملا طفاح
|
وإذا به قد
انتقل منه إلى قدّ آخر فينشد :
قم يا أمير
الغزلان
|
|
كي ننفي
التراح
|
واسمع لصوت
العيدان
|
|
في وقت
الصباح
|
واترك قول
اللاحي
|
|
واحذر تغدو
صاحي
|
فالحب قد
وافانا
|
|
في وقت
الصباح
|
وهنا إذا تأملت
تجد المناسبة ظاهرة بين قوله : (لأن ساقينا الرحيق يملا طفاح) وبين قوله في القدّ
الآخر : (قم يا أمير الغزلان).
ثم إنه بعد
إنشاده : (فالحب قد وافانا إلخ) يدخل منه إلى شغل آخر إلى مثل هذا النغم أو إلى
غيره مع وجود التناسب بين النغمين فينشد مثلا :
السعد وافى
بالأماني
|
|
هيا بنا يا
صاح
|
نرشف سلافات
الدنان
|
|
في روضها
الفياح
|
وهنا كما ترى
المناسبة ظاهرة أيضا بين قوله : (فالحب قد وافانا إلخ) وبين قوله :
(السعد وافى
بالأماني) ثم ينتقل بكل رشاقة وخفة من البيتين المتقدمين فينشد مثلا :
زارني
المحبوب
|
|
في رياض الآس
|
روّق المشروب
|
|
وملالي الكاس
|
قلت له يا
زين
|
|
يا أعز الناس
|
ثم ينتقل من
قوله : (يا أعز الناس) إلى شغل آخر وهو :
فيك كل ما
أرى حسن
|
|
مذ رأيت وجهك
الحسن
|
جل من به
عليك من
|
|
أيها الذي
الصدود سن
|
من لسيف
أدعجيك سن
|
|
لم حرمت
مقلتي الوسن
|
وهنا يتلاعب
الوراق بالنفوس والأرواح ، فيدعها غارقة في بحار السرور سكرى من خمرة الطرب لا
حراك بها ، مع أن صوته لم يكن بالصوت الحسن ، وإنما تلك الأصول والتصرف في الأنغام
وتلك التنقلات المتناسبة مع بعضها حتى كأنها شيء واحد هي التي كانت تفعل في
الألباب ما تفعله بنت الدنان في العقول.
وبينما كان
ينشد :
يا بدر في
جنح الغلس
|
|
عرج ركّابك
والنفس
|
سلطان جمالك
مفترسي
|
|
ولك قوام يا
ذا الغلام
|
قولوا لحبي يرفق بي
وإذا به قد
انتقل منه على الطريقة التي قدمناها من التصرف في الأنغام إلى قوله وهو من قدّ من
نظمه :
بالله يا كنز
الكمال
|
|
ويا بديعا
بالجمال
|
عطفا على
معنّى
|
|
يبكي بدمع
يحكي دم
|
وهنا ترى أيضا
المناسبة ظاهرة بين قوله : (قولوا لحبي يرفق بي) وبين قوله : (بالله يا كنز الجمال
إلخ) ويجعلها مقول القول.
وبينما تراه
ينشد :
قم نغنم
اللذات
|
|
قد غاب
واشينا
|
وقد تجلى لنا
|
|
جمال ساقينا
|
وإذا به قد
انتقل من قوله : (قم نغنم اللذات قد غاب واشينا) وينشد من شغل آخر :
إنّ ليل الصد
ولى
|
|
وهلال السعد
هلّا
|
وبديع الحسن
يجلى
|
|
في أويقات
السعود
|
ثم يرجع إلى
قوله : (قم نغنم اللذات قد غاب واشينا) وهكذا ، وهذا النوع يسمى
__________________
()
عند أهل الفن بالتحميل ، وهنا كما ترى المناسبة ظاهرة بين قوله : (وقد تجلى
لنا جمال ساقينا) وبين قوله : (إن ليل الصد ولى وهلال السعد هلّا).
وهذا ولا ريب
يكون له أحسن وقع في النفوس وأعظم تأثير فيها. ولا تظن أنه كان ممن يلتزم أن ينشد
بعد قوله : (قم نغنم اللذات إلخ) (إن ليل الصد ولى إلخ) لأن ذلك يحفظ عنه ويقلد
فيه ، بل تراه يدخل بعد قوله مثلا : (قم نغنم اللذات) إلى شغل آخر على طريقته
المتقدمة ، فتراه كالفارس المغوار يصول ويجول في أي ميدان كان بحيث يدع الأفكار
حيارى في تصرفاته وسرعة ما تنقلاته وحسن استحضاراته.
وكان ينشد في
كل محفل ومجتمع ما يناسبه ، فكان ينشد في حلقات الأذكار بما يناسبها من كلام القوم
، وفي الأفراح بما يناسبها ، وربما اقترح عليه أن يكون مجلسه في ذلك اليوم في ذكر
الخال ، فكنت تراه يمضي ذلك المجلس في الإنشاد من أناشيد وأشغال فيها ذكر الخال ،
وكذا إذا اقترح عليه أن يكون مجلسه في ذكر العيون وهكذا.
وكان إذا وجد
في عقد نكاح أو حفلات المولد النبوي يستقبل المدعوين حين دخولهم كل واحد على حسب
مقامه وصنعته ، فيستقبل العالم بما يناسب العلماء والوجيه بما يناسب الوجهاء والتاجر
بما يناسب التجار والشاب بما يناسب الشبان ونقباء الصناعة بما يناسب صناعتهم ،
وربما صرح باسم الداخل وأدخله في إنشاده.
حدثت عنه أنه
كان في عقد ، فدخل رجل يقال له عمر أفندي جابي الحرمين ، فحين دخوله شرع ينشد :
يا عمر هذه
مكارم
|
|
من أتى للرسل
خاتم
|
وهو من نشيد
أوله :
حسبي المختار
حسبي
|
|
لحماه حادي
سربي
|
حبه أمسى
نديمي
|
|
والشفا من كل
كرب
|
ولا تسل هنا
عما داخل عمر أفندي والحاضرين من الطرب والسرور ، وكل ذلك كان يأتي به بلا تكلف
ولا توقف.
وكان يحفظ ما
لا يحصى من النظم والنثر والأناشيد فيما يلزم لكل مجتمع ومحفل من
الأذكار وعقود الأنكحة والولائم التي تصنع عند الولادة المسماة بالعقيقة
وعند الختان ، وكانت تقام له في ذلك الوقت بكثرة ، وفي المجتمعات التي تقام لسفر
الحجاج والغزاة وقدومهم وغير ذلك.
وهذا لعمري
مقدرة ما بعدها مقدرة ، ومهارة ما وراءها مهارة ، وهذه أعطية من الله تعالى ،
والله يخص من شاء من عباده بما شاء.
وبعد وفاة
الورّاق ووفاة أستاذه البشنك تفرد في صناعة هذا الفن في حلب المنشد الشهير أحمد
عقيل ، وهو ممن أدركناه وسمعناه ، وكنا نتخيل به على مقتضى ما حدثنا عن طريقة
البشنك والوراق ما كان عليه هذان من المهارة والحذاقة ونعجب من كثرة محفوظاته
ولطيف استحضاراته ، ومع هذا فكان يذكر لنا أنه لم يدرك شأو أولئك وأنه حسنة من
حسناتهم ، وبعد وفاته ، وليس العهد بها ببعيد ، انحط شأن هذا الفن في الشهباء من
ذروة عليائه وتضاءلت أنوار ضيائه ، ولله في خلقه شؤون.
١٢٩٤ ـ الطبيب الشيخ أحمد الحكيم الإدلبي المتوفى سنة ١٣١٨
الشيخ أحمد ابن
الشيخ طه بن محمد المشهور بالحكيم الإدلبي.
ولد في إدلب
سنة ١٢٥٥ ، ونشأ في حجر أبيه الرجل الصالح فرباه تربية صالحة. ولما ترعرع لازم
الشيخ عبد القادر أبا النور الكيالي في زاويته مدة فحصّل فيها قسما وافرا من
العلوم العربية والدينية ، ثم لازم أخاه الشيخ عارف الكيالي في جامع الشيخ خليل
فأخذ عنه من علوم القوم الأخلاقية ما فيه الكفاية ، وأخذ عنه الطريقة الرفاعية.
وأخذ عن الشيخ المغربي المقيم في إدلب المشهور بالعلم والصلاح وانتفع به كثيرا. ثم
انقطع إلى الشيخ حسين الكحيل فانتفع بعلمه وأجازه بالطريقة الشاذلية الزروقية. وما
زال يتردد إلى أشياخه إلى أن انتقلوا إلى رحمة الله تعالى.
وكان والده
يتعاطى الطبابة هناك ، فتلقاها عنه كما تلقاها والده عن جده. وكان يطبب كأبيه وجده
على مقتضى الطب القديم لأن الطب الحديث لم يكن منتشرا ، ثم أخذ من الطب الحديث
بقسم وافر بمطالعة كتبه ومجلاته واجتماعه بحذّاق الأطباء ومذاكرته لهم في بيروت
وحلب.
وفي حلب كان
يجتمع بأطبائها المشهورين في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن ، مثل السيد
بكري زبيدة والحاج محمد الحكيم المشهور بالأفندي ومصطفى أفندي الخلاصي. وهؤلاء مع
معرفتهم بالطب القديم كانوا قد تلقوا شيئا من الطب الحديث عن بعض الأطباء الغربيين
الذين توطنوا في حلب ، فكان المترجم يذاكر هؤلاء وكانوا يعترفون له بالذكاء
والمهارة في هذه الصنعة.
وكان متمسكا
بدينه تمام التمسك ، قائما بما افترضه الله عليه لا يهمل شيئا من ذلك ، وله أدعية
خاصة كان يدعو بها. ومما حفظ عنه قوله : اللهم أعذني من شموس الطبيعة وجموح النفس
الردية ، يا منير ظلمة الضلالة بنور الإيقان خذ بأيدينا ، ومن مهواة الهلكة نجنا ،
ومن ردغة الطبيعة طهرنا.
وكان لأهل بلده
اعتماد عظيم عليه وثقة تامة به ، حتى إن أكثر المسيحيين القاطنين في بلدته كانوا
يتطببون عنده ، وذلك لحسن معاملته ونصحه في تطبيبه لجميع الناس.
وكان له عطف
على الفقراء والضعفاء ، فكان فضلا عن مداواتهم مجانا يأتيهم بالطعام والشراب وكل
ما يحتاجون إليه في أثناء مرضهم. وكان له صدقات سرية لا يقصر في ذلك.
ومن آثاره
الحميدة تجديده لزاوية بني المراد بعد أن تخربت ، فجدد مسجدها وبنى بمقابلته من
جهة الشمال قبوا مستطيلا أقام على ظهره أربع غرف أسكن فيها الطلاب ، وأمامها تتمة
ظهر القبو جعله للصلاة أيام الصيف وفرشه وفرش صحن الزاوية بالبلاط.
وكان إذا فرغ
من تفقد المرضى اعتكف في المسجد يتلو كتاب الله تعالى عن ظهر قلب. وكان له صوت
حسن. وكان يهجر مضجعه في داره ويأوي إلى هذا المسجد ليلا ، ولا يزال معتكفا فيه
يتلو أوراده تارة ويتهجد تارة إلى أن يطلع الفجر ، ذكر ذلك بعض عارفيه الواقفين على
أحواله من المجاورين في إحدى الغرف المتقدمة.
وكان لا يألو
جهدا في مساعدة من يسعى لترميم المساجد ومعاونة من ينهض لجمع شيء من المال للفقراء
عند الشدائد.
وكان هو القائم
في التوقيت في رمضان للإفطار والسحور بنفسه ، ويضرب المدفع لأهل البلدة بيده ويعطي
قيمة البارود من ماله. ويهتم في أمر النظافة في البلدة كثيرا.
واهتم في جلب
ماء عين مرتين إلى إدلب ، إلا أنه لم يوفق لذلك ، لكنه أودع هذه الفكرة إلى ولده
الطبيب السيد محمد حلمي وابن أخيه السيد حكمة ، وهما من الأطباء المأذونين من
المكتب الطبي في دار السعادة ، فهذان جدا في جلب هذا الماء واشتركاهما ومفتي
البلدة الشيخ برهان الدين أفندي العيّاشي وقائم مقامها وطنينا توفيق بك الحياني في
السعي ، وتم ذلك سنة ١٣٤٣ ، فكان لهؤلاء اليد البيضاء في إبراز هذا المشروع لحيز
العمل جزاهم الله خيرا.
وكان المترجم
فصيح المنطق حسن التعبير ، تجردت عبارته عن حشو العامة. وكان لكلامه تأثير في
القلوب لإخلاصه ولحسن الظن فيه. وكان مؤدبا مهذبا نصوحا يعامل المجاورين عنده في
غرف الزاوية أحسن معاملة ، وله عليهم غيرة زائدة ، وكان يجلس إليهم ويؤنسهم ويعظهم
بمواعظ حكمية لا تقل عن الحكم العطائية ، فكان المجاورون يجدون لذلك في قلوبهم
أحسن تأثير.
وكان منجمعا في
نفسه لا يألف مخالطة الناس ، ولو لا الطبابة ما واجه أحدا ولا خالط أحدا.
وفي الجملة فقد
كان من خيار الناس أجمع أهل بلده على الاعتراف بفضله ومهارته في صنعته والثناء على
جميل أخلاقه.
وكنت سافرت مع
والدي إلى إدلب في صفر من سنة ١٣٠٧ ونزلنا هناك في دار الحاج محمد طاهر الأصفري من
تجار إدلب وأعيانها ، فصادف أن والدي مرض بعد وصوله بأيام مرضا شديدا ، فاستدعي
المترجم لتطبيبه ، فكنت أراه يأتي له بالعقاقير والبذور ، فكان يدقها وينخلها ثم
يركبها ويعالج بها سيدي الوالد مع بشاشة ولطف لا مزيد عليهما ، وكان يأتي كل يوم
لتفقده ، وامتد به المرض نحو ١٥ يوما وخشينا وقتئذ موافاة الأجل ، فأرسلنا إلى حلب
فأرسل لنا وقتئذ محفة (تخت روان) فعدنا فيها إلى حلب ، وكانت صحته قد تحسنت نوعا ،
ويوم عودتنا حضر المترجم على عادته فأخرج سيدي الوالد كيس دراهمه ، وكنت مشاهدا
لذلك ، وقبض قبضة من الدراهم ملء كفه وناولها له فلم يأخذها ، وألح عليه كثيرا وهو
لا يزداد إلا تمنعا وملاطفة لسيدي الوالد ، وهذا ولا ريب من كرم أخلاقه وطيب
أعراقه رحمهالله تعالى.
وكانت وفاته في
رابع ذي الحجة سنة ألف وثلاثمائة وثماني عشرة ، وكان لوفاته رنة حزن عظيمة ، ودفن
في المقبرة الكبرى القبلية. وكتب على ضريحه من نظم الفاضل الشيخ محمد الخيزراني من
جهة القبلة قوله :
بفضل الله
أحمد حزت خيرا
|
|
فكم أبرأت من
قلب سقيم
|
لذاك الخير
في التاريخ عز
|
|
لك البشرى
بجنات النعيم
|
ومن جهة الشمال
قوله :
لقد خطبتك
علّيون شوقا
|
|
للقياها لقد
أسرعت سبقا
|
ولم تعلم
لفقدك كم فقدنا
|
|
عيونا بل
وألبابا ونطقا
|
١٣١٨
١٢٩٥ ـ الأديب عبد الله مرّاش المتوفى سنة ١٣١٨ ه و ١٩٠٠ م
عبد الله بن
فتح الله بن نصر الله بن بطرس مرّاش ، من أسرة عريقة في الفضل والوجاهة معروفة
بالعلم والأدب ، وكفاه شهرة أنه أخو فرنسيس مرّاش وشقيق مريانا مرّاش الشاعرة
العربية ومن شهيرات النساء الكاتبات في سوريا.
ولد في حلب في
١٤ أيار سنة ١٨٣٩ ، ونشأ بها على والده وغيره ، فتلقى في حداثته مبادىء علوم
العربية والخط والحساب ، ثم دخل مدرسة الرهبان الفرنسيسين فأخذ عنهم أصول اللغة
الإيطالية ... وبعد ذلك انصرف إلى أعمال التجارة فتخرج في أبوابها وفنونها.
ولما بدت
نجابته فيها انتدبته جماعة من جملة تجار حلب لعقد شركة تجارية ينشىء لها محلا في
منشستر من بلاد الإنكليز ، فسافر إليها سنة ١٨٦١ ولبث بها إلى سنة ١٨٦٩ ، واشتهر
بما كان عليه من الأمانة والدراية فكان له مقام محمود بين معامليه من أرباب
التجارة ، وأحرز منها ثروة صالحة.
وفي تلك السنة
تم فتح خليج السويس ، فاستشف من وراء هذا الفتح أنه سيكون ضربة قاضية على تجارة
حلب ، لأنه قدّر أن البضائع التي كانت ترسل إليها فتحملها القوافل برا إلى نواحي
العراق وبلاد العجم لابد أن ترسل بعد ذلك بحرا عن طريق السويس ثم
البصرة ، ولهذا السبب ولأسباب أخرى نوى العدول عن التجارة بتة وشرع في حل
الشركة وتصفية أعمالها.
وبعد أن وضعت
الحرب أوزارها بين الفرنسيس والألمان ١٨٧٠ انتقل إلى باريس فأقام بها يتعاطى
التجارة وخدمة المعارف. ولما أنشأ رزق الله حسّون سنة ١٨٧٦ جريدة (مرآة الأحوال)
في لندن تولى عبد الله مرّاش تحريرها ، ثم عاد إلى منشستر فلبث بها إلى سنة ١٨٨٠
كاتبا لأشغال فتح الله طرّازي وأعماله التجارية ، وبعد ذلك فارقها فأتى باريس مرة
ثانية حيث حرر في جريدة (مصر القاهرة) لأديب إسحق وجريدة (الحقوق) لميخائيل عورا
وصحيفة (كوكب المشرق) لأحد رجال الفرنسيس. ثم زايلها وسافر إلى مرسيليا وألقى بها
عصاه ولم يزل مقيما فيها إلى أن توفاه الله في ١٧ كانون الثاني سنة ١٩٠٠.
هذا مجمل ما
يذكر من تاريخ هذا الرجل وما تقلب فيه من أطوار الحياة ، وقد عبرت أيامه كلها على
السكينة والدعة ، لأنه كان قليل المزاحمة والتطاول إلى بعيد الشؤون والتفاني في
معالجة الحظوظ وابتغاء الشهرة والمقامات العلية بالإكثار من الجلبة والحراك.
على أنه كان
على حظ من الدنيا بلغ به مبلغ الرضى وهو الغنى كله ، فلم يكن بعد ذلك يحرص على حشد
الدينار ولا يعاني الكسب. ولكنه انصرف إلى المطالعة والتوسع في العلم وهو ما لم
ينقطع عنه قط مع اشتغاله بالتجارة أيضا. فإنه كان كثير الاختلاف إلى مكاتب لندن
وباريز يتصفح ما فيها من الأسفار قديمها وحديثها ولا سيما الخطية منها ، فأدرك حظا
وافرا من لغة العرب وتواريخهم وآدابهم ، وانتسخ منها عدة كتب عزيزة نذكر منها كتاب
«يتيمة الدهر» للثعالبي ، وهو مصنف ضخم يكون نحوا من ألف وخمسمئة صحيفة كبيرة
انتسخه من مكتبة باريز ثم عارضه بنسخة لندن ، وأشار إلى مواضع الفرق بين النسختين
، ونبه على ما وجده مباينا للصحة من غلط النساخ مما استدركه بنفسه ، وبعد ذلك
عارضه بالنسخة المطبوعة في دمشق ، وبعد أن جمع بينها وبين نسخته وقد تتبعها صحيفة
صحيفة وسطرا سطرا علق على هوامشها كل ما وجده من الفروق والزيادات وغيرها ، فكانت
كل واحدة من هاتين النسختين أصح نسخ هذا الكتاب.
وهناك كتب
ورسائل أخر كلها غرر آثار الأقدمين ونوادر تآليفهم انتسخها بخطه مع العناية
والتدقيق في مقابلتها وتصحيحها.
وكان مليح الخط
نقيّ الرقعة ، كثير التأنق كأكثر خطاطي حلب. وكان يكتب أولا بقلم من القصب الهندي
وهو شديد الصلابة لا يكاد يتشعث ولا يتغير ، ثم صار يكتب بأقلام الحديد ولذلك ترى
خطه من أول الكتاب إلى آخره واحدا.
وكان عبد الله
من أكابر أهل الإنشاء ، حسن الترسل ، سهل العبارة ، واضح الأسلوب ، بصيرا باختيار
الألفاظ والتراكيب ، حسن النقد ، حريصا على البلاغة ووضوح المعاني ، آخذا بالنصيب
الأوفر من قوالب فصحاء العرب وألفاظ الخاصة من أهل الأدب. وكان مع ذلك متقنا اللغة
الإنكليزية والفرنسوية والطليانية يكتب فيهن جميعا.
وكان له باع
طويل في التاريخ والفلسفة وعلم الأخلاق والأديان والشرائع المختلفة ، مشاركا في
علوم المعاصرين كالطبيعيات والهيئة وسائر الفنون الرياضية. وكان بصيرا بالسياسة
مطلعا على أسرارها ودقائقها ، وله في كل ذلك مقالات ورسائل شتى ، منها ما هو باق
بخطه ومنها ما نشر في بعض الجرائد العربية في لندن وباريس وجرائد ومجلات القطر
المصري.
وأشهر ما طبع
له منها مقالة في التربية التي نشرها تباعا في مجلة (البيان) اليازجية فلا حاجة
إلى الإطناب في وصفها.
وأما النظم
فإنه مع تضلعه من فنون البلاغة وكثرة ما كان يحفظ من أشعار العرب والمولدين ومع
اشتهار بيتهم في الشعر كان قليل الرغبة فيه والمعاناة له ، ولا سيما مع ما بلغ إليه
الشعر في هذا العصر من الانحطاط والتفاهة ومع قلة المميزين بين جيده ورديئه.
وأما صفاته
الشخصية فقد كان ربعة القوام ، معتدل الجسم ، أبيض اللون ، طلق المحيا ، فصيح
اللسان ، مهذب المنطق ، واسع الروية ، لطيف المحاضرة. وكان رجلا جليل القدر كامل
الصفات ، قد جمع بين رزانة الإنكليز ورقة الفرنسيس وأريحية العرب. وكان على أعظم
جانب من الزهد وخفض الجناح ، بعيدا عن الزهو والخيلاء ، منزها عن الدعوى والكبر ،
حتى إنه مع سعة فضله ورسوخ قدمه في العلم والإنشاء وإجماع المطلعين على
استحسان كلامه كان يتفادى من ذكر اسمه في أكثر ما كتبه وما طبع له ، ويشترط
ذلك على من يروم نشر شيء من آثاره. هذا ولا جرم من عنوان تمام فضله وتناهيه في
الكمالات الإنسانية لأنه لم يكن يتوخى فيما يكتبه إلا نشر فائدة أو تقرير حقيقة
دون ابتغاء الشهرة والتهالك طلب الإطراء.
وتوجد من آثار
قلمه رسالتان ، إحداهما جمع فيها فوائد متفرقة في (علم الهيئة وتخطيط الأرض)
والثانية عرب فيها خواطر (الدوك دولا رشفوكو) في الأخلاق والأدب. وأما فصوله في
الهيئة فإنها لا تخلو من إحياء ألفاظ من مصطلحات العرب في هذا العلم مما أذهبت
بأكثره الأيام إلا من بعض الأسفار الباقية إلى هذا العهد في خزائن أوربا مما يدل
على وفرة اطلاعه وإمعانه في البحث والتقييد.
وله أيضا نقد
مطول على ترجمة إفرنسية لكتاب «مروج الذهب» بقلم واحد من أكابر علماء الفرنسيس
يقال له بربياي دي مينار ، وهو نقد جزيل الفائدة نشرته مجلة (الضياء) اليازجية في
القاهرة سنة ١٩٠٠. ا ه. (تاريخ الصحافة العربية).
١٢٩٦ ـ الشيخ مصطفى الحريري المتوفى سنة ١٣١٩
الشيخ مصطفى
ابن السيد الشيخ محمد ياسين المعروف بالحريري ابن السيد عبد القادر ابن السيد موسى
المهاجر من حماة إلى حلب سنة ١١٣٢.
ولد الشيخ
مصطفى سنة ١٢٣٨ ، ولما بلغ من العمر أربع سنوات توفي والده في دمشق الشام وكفله
جده ، وتوفي عنه سنة ١٢٥١.
وطلب الفقه
والنحو والحديث وكتب الخط على شيخه الشيخ مصطفى الأصيل ، وأجازه في ذلك سنة ١٢٧٠ ،
رأيت تلك الإجازة عند أولاده ، وهي بديعة الخط ذكر فيها أنه أخذ الخط عن الشيخ عبد
القادر الرسمي ، ولا أعلم إن كان الشيخ عبد القادر من أهل حلب أو من غيرها.
وفي سنة ١٢٧٧
زار بغداد في زمن ولاية تقي الدين باشا المدرس ، وعلّق في جامع الشيخ عبد القادر
الكيلاني لوحة كتب فيها (أَلا إِنَّ
أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) وهي مجوفة كتب داخلها خمسة أجزاء من القرآن العظيم.
ومما جرى له في
بغداد أنه كان ذات يوم على مائدة الباشا الموما إليه ، فسأله عما إذا كان في حاجة
إلى شيء من الدراهم ومن أين يصرف مدة وجوده في بغداد ، فقال له : أطال الله بقاء
مولانا الباشا ، ما دامت مائدة الطعام حاضرة في الصبح والظهر والعشي لا أحتاج إلى
شيء. في حين أنه كانت دراهمه قد فرغت منذ أسابيع ، وقبل فراغها نسخ مصحفا بخطه
البديع في خمسة عشر يوما وأتقن تجليده وعرضه في أسواق بغداد ، فاشتري بعشرين قطعة
ذهبا عثمانيا. ولما عاد من بغداد إلى وطنه زوده الباشا بما يكفيه إلى حين وصوله إلى
حلب.
وفي سنة ١٢٨١
زار الآستانة من طريق البر وأهدى للسلطان عبد الحميد مصحفا شريفا.
وفي سنة ١٢٨٥
زار آدنة زمن ولاية تقي الدين باشا المدرس عليها وعين هناك لدائرة النفوس وغيرها.
وفي سنة ١٢٩١
ذهب للحج ثانيا ، وكان قد حج قبل ذلك ، وهناك علّق على أستار الكعبة لوحة كتب
عليها (وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) وهي مجوفة كتب داخل تلك الحروف الكبيرة أربعة أجزاء من
القرآن العظيم.
وفي سنة ١٣٠٢
زار الآستانة أيضا وعلّق في جامع السلطان عبد الحميد لوحة كتب فيها (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً)
(مُبِيناً) وكتب داخل هذه الآية جزئين من القرآن وذيّلهما ببيتين
فيهما تاريخ بناء الجامع وهما :
سلطاننا عبد
الحميد قد ابتنى
|
|
لله بيتا خصّ
بالتمجيد
|
لبنائه قد
جاء أرّخ زاهيا
|
|
والسعد تممه
بشهر العيد
|
ولم تزل هذه
اللوحة معلقة فوق المحراب إلى الآن.
__________________
وفي سنة ١٣٠٣
زار الآستانة أيضا وقدّم لخزانة السلطان عبد الحميد خان نسخة من الشجرة المحمدية
على طرز جميل جدا ، وعند أولاده الآن نسخة ثانية ، وهي في ٢٠ صحيفة كبيرة الحجم.
وهذه الشجرة مأخوذة عن نسخة قديمة في مكتبة المدرسة الأحمدية وأولها : قال نقيب
النقباء بمصر أبو علي محمد ابن القاضي الكامل السعدي ابن علي الحسيني الجواني
النسابة : هذه تحف شريفة وطرف منيفة ، تختص بالمنصب المطهر النبوي ، والفخر المقدس
المصطفوي ، وضعها برسم الملك الناصر صلاح الدنيا والدين وتصلح أن تكون تاريخا
مختصرا في بيان أعمام النبي وأخواله وكتّابه وحجّابه وخدّامه إلى غير ذلك. كتب
بخطه منها ثلاثا أو أربع نسخ إحداهن على ورق ثخين جدا.
وكان كتب لوحة
فيها (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً) سنة ١٢٩١ وكتب داخلها بعض سور من القرآن وهي الآن عند
أولاده.
وكان يكتب
بظفره أيضا وكان مما كتبه به [حسبي الله وحده] واللوحة موجودة عند أولاده. وله
آثار متعددة في الخط.
وكان إماما
وخطيبا في جامع النحويين في محلة سويقة الحجارين وشيخا للتكية الحريرية هناك.
وفي أخريات
عمره تنازل عن وظائفه لولده الشيخ محمد لكبر سنه وأقبل على خويصّة نفسه إلى أن
توفي سادس عشر رمضان سنة ١٣١٩ وله من العمر ثلاث وثمانون عاما ، ودفن في تربة
العبارة ، رحمهالله تعالى.
١٢٩٧ ـ صدّيق أفندي الجابري المتوفى سنة ١٣٢٠
الحاج صدّيق
أفندي ابن الحاج عبد الحميد الجابري ، أحد أعيان الشهباء ووجهائها.
جمع إلى وجاهته
علما وفضلا وأدبا وتصوفا ، ومنزله مجمع الفضلاء وسوق عكاظ الأدباء ، لما يرون فيه
من حسن المذاكرة ولطيف المحاورة ، مع رأي صائب وفكر ثاقب ، يرجع إليه في المهمات
ويشاور في النائبات ، فيجد الناس لديه مخرجا ومن ضيقهم فرجا.
أدركته وقد وهن
العظم منه واشتعل رأسه شيبا ، وجلله الوقار وعمته الحشمة والهيبة ،
ينبيك مرآه عن وفرة ذكائه وكبر عقله وعلو همته.
ومن شعره وهو
مما نقلته من خط ولده صديقي الفاضل الأديب الشيخ عبد الحميد أفندي قوله :
أيا من يدّعي
حبا لشخص
|
|
إذا حققت ما
المحبوب غيرك
|
تميل إلى
الذي تهواه منه
|
|
وما تهوى سوى
ما فيه خيرك
|
وقوله في وصف
بيروت حينما زارها :
صحراء بيروت
زهت نضرتها
|
|
لا سيما
أشجار روض الحرش
|
قد بسطت
أكفها تدعو لمن
|
|
يزورها بنيل
طيب العيش
|
وكانت ولادته
سنة ١٢٤١ ووفاته ثالث ذي الحجة سنة ١٣٢٠ ، ودفن في تربة الصالحين ، رحمهالله تعالى.
١٢٩٨ ـ السيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي المتوفى سنة ١٣٢٠
ترجمه صاحب
مجلة المنار تحت عنوان (مصاب عظيم بوفاة عالم حكيم) فقال :
في يوم الجمعة
يوم ٦ ربيع الأول سنة ١٣٢٠ أصيب الشرق بفقد رجل عظيم من رجال الإصلاح الإسلامي ،
وعالم عامل من علماء العمران ، وحكيم من حكماء الاجتماع البشري ، ألا وهو السائح
الشهير والرحالة الخبير السيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الحلبي مؤلف كتاب «طبائع
الاستبداد» وصاحب سجل جمعية أم القرى الملقب فيه بالسيد الفراتي. اختطفت المنية
منا بغتة هذا الفاضل الكريم والولي الحميم.
(ثم قال) :
وإني أدع الرثاء والتأبين لأفاضل الشعراء المجيدين ، وأذكر في المنار ما يليق
بموضعه من خلاصة سيرة هذا الرجل ، ليعلم القراء منها كيف ينبت الشرق الرجال العظام
، وكيف تضيعهم الأمم والحكام ، ولتكون ذكرى لمن يذّكر وعظة لمن يعتبر. وأبدأ
بترجمة الفقيد الرسمية ، وهي مطبوعة في ورقتين رسميتين ، إحداهما مصدق عليها من
والي حلب المشير عثمان نوري باشا ورؤساء حكومة حلب يومئذ ، والثانية مصدق عليها من
الوزير رائف باشا والي حلب وهي الأخيرة. وإنما أبدأ بالسيرة الرسمية لأنها
من مواد استنباط سيرته الاجتماعية والسياسية والأدبية. قال :
هو عبد الرحمن
أفندي ووالده الشيخ أحمد أفندي من آل الكواكبي ومن المدرسين في الجامع الأموي
الكبير والمدرسة الكواكبية ، وآخر وظيفة كان فيها عضوية مجلس إدارة ولاية حلب ،
وبيتهم من بيوتات المجد والشرف (خاندان) المشهورة في الآستانة العلية وحلب.
ولد السيد عبد
الرحمن أفندي في ٢٣ شوال سنة ١٢٦٥ ، وتعلم القراءة والكتابة في المدارس الأهلية
الابتدائية ، ثم استحضر له أستاذ مخصوص علمه أصول اللسانين التركي والفارسي. وتلقى
العلوم العربية والشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأسرته. وقد وقف على العلوم
الرياضية والطبيعية وبعض الفنون الجديدة بالمطالعة والمراجعة. ومن تأليفه تحرير
الجريدة الرسمية (فرات) بقسميها التركي والعربي من سنة ١٢٩٢ إلى سنة ١٢٩٧ ، ومنه
جريدة (الشهباء) التي أنشأها في حلب سنة ١٢٩٣.
خدمته ووظائفه :
دخل في وظائف
الدولة رسميا في الثامنة والعشرين من عمره. وفي سنة ١٢٩٣ عين محررا رسميا للجريدة
الرسمية بقسميها (كأنه كان في سنة ١٢٩٢ يحررها بصفة غير رسمية للاختبار) براتب
قدره ثمانمائة قرش. وفي ٥ ربيع الأول سنة ١٢٩٥ عين كاتبا فخريا للجنة المعارف التي
تأسست في ولاية حلب (يعنون بالفخري ما كان بدون راتب) ، وبعد ثلاث سنين اتسعت
دائرة اللجنة وزيد فيها قسم للنافعة (الأشغال العمومية) وعين عضوا فخريا فيها. وفي
جمادى الأولى عين محررا للمقاولات (مسجل المحكمة). وفي ربيع الثاني سنة ١٢٩٨ صار
مأمور الإجراء (رئيس قلم المحضرية) في ولاية حلب. وفي رمضان سنة ١٢٩٨ عين عضوا
فخريا في لجنة امتحان المحامين. وفي ربيع الأول سنة ١٢٩٩ عين مديرا فخريا لمطبعة
الولاية الرسمية. وفي رجب عين رئيسا فخريا للجنة (قومسيون) النافعة. وفي ذي القعدة
عين بأمر نظارة العدلية (الحقّانية) في الآستانة عضوا في محكمة التجارة بولاية حلب
مع البقاء في وظيفته الأولى (محرر المقاولات). وفي سنة ١٣٠٣
انفصل من هذه الأخيرة. وفي رجب سنة ١٣٠٤ عاد إلى وظيفة مأمور الإجراء. وفي
رجب سنة ١٣١٠ عين رئيسا للبلدية.
وجاء في ترجمته
الرسمية الثانية بعد ذكر ما تقدم أنه في ربيع الأول سنة ١٣١٢ عين رئيس كتاب
المحكمة الشرعية. وفي ذي الحجة منها عين ناظرا ومفتشا لمصلحة انحصار الدخان (الريجي)
المشتركة مع نظارة المالية في ولاية حلب ومتصرفية الزور. وفي أثناء ذلك اتفق مع
إدارة المصلحة على أن يستلم منها جميع ما تقدمه من الدخان (التبغ) إلى الولاية
والمتصرفية بزيادة كثيرة على القدر المعتاد وجميع ما يزرع فيهما منه ويتولى بيعه ،
وتعهد في إزاء ذلك بمبلغ من المال يزيد عما كانت تبيع به المصلحة دخانها زيادة
كبيرة. وفي غضون ذلك استقال من رياسة كتاب المحكمة الشرعية. وفي ذي الحجة من سنة
١٣١٤ أعيد إليها وعين رئيسا للجنة البيع والفراغ (أي استبدال الأراضي الأميرية من
أصحاب اليد بالمال). وفي ربيع الأول عين رئيسا أولا لغرفة التجارة في حلب ورئيسا
لمجلس إدارة المصرف البنك الزراعي. وفي رجب عين قاضيا شرعيا لراشيّا التابعة
لولاية سورية.
رتبه ووساماته :
في رجب سنة
١٢٩٧ وجهت إليه باية رؤوس رؤوس أدرنة العلمية. وفي ربيع الثاني وجه إليه تدريس هذه
الرتبة. وفي ذي الحجة من سنة ١٣١٢ وجهت إليه مولوية إزمير المجردة ، ثم أعطي
الوسام المجيدي من الدرجة الثالثة. ا ه.
إن من ينظر في
هذه الترجمة الرسمية ولم يكن عارفا بالمترجم ولا بسيره في هذه الوظائف العلمية
الأدبية الإدارية القلمية الحقوقية التجارية الزراعية المالية يقول : إن صاحبها من
أوساط الناس لا من أفراد الرجال الذي يعدون من علماء الاجتماع وأركان العمران
ومهذبي الأمم كما وصف في فاتحة القول. ولكن من يعلم أنه في كل عمل منها آية بينة
في إنفاذ العمل وحكمة التصرف يحار كيف يحسن رجل هذه الأعمال المتباينة. وإذا وقف
بعد ذلك على بعض سيرته في العزيمة وقوة الإرادة وعلم ما كانت تسمو إليه نفسه ويرمي
إليه فكره وقرأ بعض ما جادت به قريحته الوقادة وفكرته النقادة علم أنه من أفراد
الزمان ، وأدرك ما كان يرجى منه لو ساعده الزمان والمكان. وإنا لم نلم بشيء مما
وقفنا عليه من سيرته في مدة صحبتنا له في هاتين السنتين اللتين أقامهما في مصر.
أدبه وأخلاقه :
توفيت والدته
وهو في أول سن التمييز ، فعهد والده بتربيته إلى خالة له من بيوتات أنطاكية من
نوابغ النساء اللواتي قلما يعرف مثلهن الشرق لا سيما في هذا الزمان ، كانت تعرف
بالعقل والكياسة والدهاء والأدب البارع ، فنشّأته على أدب اللسان والنفس ، فكان من
أخلاقه الراسخة الحلم والأناة والرفق والنزاهة والعزة والشجاعة والتواضع والشفقة
وحب الضعفاء. وقد كنت ككل من عرفه معجبا بأناته حتى كنت أقول : إنني أراه يتروى في
رد السلام ويتمكث في جواب ما يجيبه عدة ثوان ، ولا أكاد أعرف أخلاقا أعصى على
الانتقاد من أخلاقه ، ولقد كان لسان الحال يصفه بقول ابن دريد :
يعتصم الحلم
بجنبي حبوتي
|
|
إذا رياح
الطيش طارت بالحبى
|
لا يطّبيني
طمع مدنّس
|
|
إذا استمال طمع
أو اطّبى
|
والحمد خير
ما اتخذت جنة
|
|
وأنفس
الأذخار من بعد التقى
|
علمه ومعارفه :
نزيد على ما
جاء في السيرة الرسمية أن الفقيد درس قوانين الدولة درسا دقيقا ، وكان محيطا بها
يكاد يكون حافظا لها ، وله انتقاد عليها يدل على دقة نظره في علم الحقوق والشرائع
، ولهذا عينته الحكومة في لجنة امتحان المحامين.
ولا أعلم أنه
برز في فن أو علم مخصوص فاق فيه الأقران ، ولكنه تلقى ما تلقاه من كل فن بفهم وعقل
بحيث إذا أراد الاشتغال به عملا أو تأليفا أو تعليما يتسنى له أن ينفع نفعا لا
ينتظر من الذين صرفوا فيه أعمارهم. ألا تراه كيف ألف كتابا في طبائع الاستبداد لم
يكتب مثله فيلسوف في الشرق ولا في الغرب فيما نعلم وكما سمعنا من كثيرين لهم اطلاع
واسع في مؤلفات فلاسفة الغرب وكتابه.
على أن الفقيد
لم يتعلم شيئا من علوم النفس والأخلاق والسياسة وطبائع الملل والفلسفة في مدرسة ،
وإنما عمدته في هذه العلوم ما طالعه فيها من المؤلفات والجرائد التركية والعربية. أرأيت
عقلا يتصرف هذا التصرف الذي يفوق فيه الحكماء والفلاسفة في علم لم يأخذه بالتلقي ،
وهو أصعب العلوم البشرية وأعلاها ، كيف يكون أثره لو تربى وتعلم في مدارس
منتظمة كمدارس أوربا الجامعة وكان عنده من مواد العلم ومعرفة الأمة
والحكومة بقيمة صاحبه مثلما في أوربا.
وبالجملة إنك
لم تكن تذاكره في شيء ولا علم إلا ويشاركك فيه على بصيرة.
عمله ووجهته :
كانت وجهته في
كل عمل عمله أو حاوله هي المنفعة العامة. فأول شيء ولاه وجهه هو إنشاء جريدة في
بلاد لم تكن تعرف الجرائد الأهلية ولم تكن بضاعة الكتاب رائجة فيها ، ولو كان في
بلاده حرية للجرائد لكان له في (الشهباء) الأثر المحمود ، ولكن البلاد التي تحكم
بالاستبداد كالأرض الموبوءة لا تحيا فيها الجرائد ، ولذلك لم تنجح جريدة من
الجريدتين اللتين أنشأهما ، لأن نفسه الأبية لم تستطع إرضاء الحكام فيما يكتبه ،
وهكذا كان شأنه في وظائفه.
ولي رياسة
البلدية ، فكان أول عمل عمله للبلد أن وضع على طرق المدينة من خارجها سلاسل من
الحديد تمنع الجمال التي كانت تسد الطرقات وتمنع المارين من التردد في حوائجهم ،
وجعل لهذه الجمال التي تحمل إلى البلد ومنه مكانا أو أمكنة مخصوصة.
وكانت مصلحة
القبّان قد حصرت في واحد من الأغنياء يأخذها من البلدية بالالتزام ولا يتجاسر على
الزيادة عليه أحد لتقربه من الرؤساء ، فلما علم أن الرئيس الجديد لا يصده التقرب
إليه عن خدمة المصلحة عرض عليه أربعين ألف قرش أو أكثر يعطيه إياها رشوة كل عام في
مقابلة سكوته عنه ، فلم يقبل الفقيد أن يأخذ لنفسه شيئا ، ولكنه قبل أن يكون
المبلغ إعانة لصندوق البلدية ، فعلم الوالي بهذه الزيادة في الصندوق وسعى في أن
يكون له سهم منها ، فأبى عليه الفقيد ذلك فعزله.
وهكذا كانت
سيرته مع الحكام في كل وظائفه أو جلها ، يتصرف للإصلاح فيصدونه عنه لأجل منفعة
مالية أو لتقليل نفوذه فلا يتم له عمل.
وكل أول عمل
عمله في إدارة مجلس البلدية هو قطع عرق الرشوة من العمال الذين يباشرون الأعمال
والمصالح ويسمون (الجاويشية) ولكنه زاد في راتبهم لعلمه بأن الذي يضطر أكثر العمال
إلى الرشوة هو قلة الراتب.
وكان من ظلم
الوالي بعد عزل الفقيد من رياسة البلدية أنه أرجع راتب الجاويشية كما كان ، وألزم
صاحب الترجمة بدفع ما كان زاده لهم في مدته إلى صندوق البلدية ، كما ألزمه بدفع ما
أنفق على سلاسل الحديد التي منع بها الجمال من المدينة لأن الوالي أمر بإزالتها
عقيب عزله ، ثم عاد فأمر بإعادتها بعد زمن قريب ، ولكنه لم يعد إلى الفقيد الغرامة
التي ظلمه بها.
ولما عين رئيسا
لكتاب المحكمة الشرعية كانت المحكمة في أسوأ الأحوال في الصورة والمعنى ، فكان
ينفق على إصلاحها من جيبه ، حتى إنه استحضر لها السجوف والأستار من بيته ، ومنع
اختلاط النساء بالرجال إذ جعل لكل مكانا ينتظر فيه دوره للتقاضي ، ورتّب الأوقات
ونظّم الدفاتر.
وكان صاحب
عزيمة ، لا يهاب حاكما ولا يخاف ظالما ، وعزيمته هي التي جنت عليه ، فقد كان نجح
في عمله عندما عين مديرا ومفتشا لمصلحة حصر الدخان كما تقدم في السيرة الرسمية ،
حتى وقع النزاع بينه وبين عارف باشا والي حلب يومئذ فبطل العمل.
عمل الفقيد في
ضبط هذه المصلحة ما عجزت عنه إدارتها العمومية والحكومة جميعا ، حتى كانت تخسر في
ولاية حلب دون سائر بلاد الدولة.
وكان المشتغلون
بتهريب الدخان البلدي وبيعه في حلب سبعمائة رجل ، فعين لهم رواتب شهرية ومنعهم من
التهريب بحكمة عجيبة. وسيأتي مجمل خبره في عداء الوالي عند الكلام على بعض
الصعوبات التي لقيها في طريقه.
كانت مدة
الاتفاق الأول مع مصلحة حصر الدخان ثلاث سنين ، فانفصل من إدارة العمل والتفتيش
بعد سنتين بالسبب الذي ألمعنا إليه. ولثقة الفقيد بنفسه واقتداره على العمل ذهب
إلى الآستانة بعد عزل عارف باشا من ولاية حلب ، فعقد اتفاقا آخر مع المصلحة
والحكومة مدته عشر سنين. وكان أراد أن يضم إلى ولاية حلب ومتصرفية دير الزور
ولايتي بيروت وسورية فلم يرض له ذلك من استشاره من الأقربين ، فرجع عنه وقد نجح
أيضا في المرة الثالثة ، ولكن بعد أربع سنين حدثت الفتنة الأرمنية فنهب الأرمن
الدخان من عدة بلاد وقتلوا موظفي المصلحة ، فكان الفقيد يخسر في الشهر بضعة عشر
ألفا من
الليرات ، فتوسل بذلك إلى الآستانة بحل العقد وإبطال الاتفاق ،
فتم له ذلك بعد عناء وخسارة عظيمة.
مشروعاته :
طلب من الحكومة
عدة امتيازات بأعمال عظيمة ، (منها) إنشاء مرفأ في السويدية وطريق حديدي منها إلى
حلب. (ومنها) جلب نهر الساجور إلى حلب لأن ماء المدينة قليل ، ولو تم هذا العمل
لأحييت به أرض واسعة فكانت جنات وحدائق. (ومنها) أن عينا خوارة في سفح جبل بين
أرمناز وإدلب قد أغرقت أمواهها تلك الأرض فجعلتها مستنقعات تضر الناس ولا يأوي إلى
غاباتها إلا الخنزير البري ، فذهب المترجم إليها واختبر حال الأرض والعين اختبارا
هندسيا زراعيا ، فعلم أنه يمكن جرّ مائها إلى إدلب القليلة الماء وتجفيف تلك
المستنقعات فتصير نافعة وتحيا أرض إدلب وتحيا أهلها ، فطلب بذلك امتيازا.
(ومنها) إنارة
حلب وبيره جك ومرعش وأورفة بالكهربائية بواسطة شلال يحدثه من نهر العاصي في محل
اسمه المضيق بالقرب من دير كوش تابع لجسر الشغر ، وكان اختبر المكان اختبارا
هندسيا فعلم أن إحداث الشلال فيه ممكن. (ومنها) استخراج معدن نحاس من أرغنة
التابعة لولاية حلب.
وقد حال دون
إعطاء بعض هذه الامتيازات ما يحول دون كل مصلحة عامة يطلبها الوطنيون كالرشوة
ونحوها. وقد كان أعطي امتياز استخراج النحاس واشتغل به ثلاث سنين ونيّف ، وبعد ذلك
أرادت حكومة الولاية إبطاله لأمر ما ، فأدخلت مع المترجم بعض الأجانب وتوسلت بذلك
إلى إبطاله.
خدمته للناس والحكومة :
كان اتخذ له
مكانا بين داره ودار الحكومة سماه المركز يأوي إليه فيه وكلاء الدعاوى البارعون ،
فكان يؤمه أصحاب الحاجات والقضايا يستشيرون صاحب الترجمة في حل عقد المشكلات
ويستضيئون برأيه في دياجير المهمات. وكان في الغالب يفصل بينهم بالتراضي
__________________
ويغنيهم عن المحاكمة والتقاضي ، فإن احتيج في قضية إلى الحكومة يندب لها من
يراه أهلا لها من الوكلاء المحامين ، وإن كانت عظيمة الشأن يندب نفسه ويحاكم
المبطل حتى يحق الحق لصاحبه. وقد كان قصاد ذلك المركز يكادون يزيدون على قصاد دار
الحكومة نفسها تستشيره في الشؤون الغامضة وتعتمد على رأيه.
مقاومة الحكام له :
ورث المترجم عن
سلفه السادة الأمراء علو الهمة وقوة العزيمة وعدم المبالاة بالأخطار ، فهو من
سلالة السيد إبراهيم الصفوي الأردبيلي المهاجر إلى حلب. وما حديث الصفوية في
الإمارة بمجهول. بهذا كان رحمهالله تعالى لا يهاب الحكام ولا يداريهم مع أن حكومتهم في
الحقيقة استبدادية.
وهذا هو الذي
أحبط أعماله في بلده وذهب بثروته. غاضب عارف باشا أحد ولاة حلب ، فأغرى بعض الناس
أن يكتب إلى الآستانة شاكيا من سيئات الوالي شارحا لها ، فعلم الوالي بذلك ، فعمل
مكيدة لحبس المترجم وضبط أوراقه وزوّر عليه ورقة سماها (لائحة تسليم ولاية حلب إلى
دولة أجنبية) وطلب محاكمته عليها ، وحكم القانون في هذه الجريمة بالإعدام ، ولكنهم
غلطوا في معاملته بالحبس وطلب الاستنطاق غلطا قانونيا ما كان ليخفى على المترجم ،
فكتب إلى الآستانة كتابة مطولة يظهر فيها أن خروج حكومة الولاية عن حدود القانون
هو من دلائل تحاملها عليه وتحريها ظلمه ، وطلب أن يحاكم في ولاية أخرى ، فأجيب
طلبه وحوكم في بيروت ، فحكم ببراءته ، وما زال يتبع الوالي حتى عزل بعد عودته إلى
حلب ، وكان هو أول من بشره بالعزل بواسطة قاضي الولاية. ثم إنه أخرجه من حلب
بإهانة عظيمة لأنه أو عز إلى أصناف الفقراء الذين كانوا يسمون المترجم أباهم
لنصرته إياهم ، فاجتمعوا عند داره بهيئات غريبة ، فترك أهله وخرج كالهارب وسافر
إلى الآستانة ، وتبعه المترجم ليحاكمه ، ولكنه لم يكد يصل إليها حتى مات قهرا.
وكان الشيخ محمد
أبو الهدى أفندي الشهير من أعدائه ، ويقال إن السبب الأول في ذلك إباء الفقيد أن
يصدق على نسب الشيخ أبي الهدى هذا ، وإن الشيخ أبا الهدى صار نقيب أشراف حلب وكانت
هذه النقابة من قبل في آل الكواكبي. ومن آداب الفقيد العالية أنه كان هنا يثني على
صفات الشيخ أبي الهدى الحسنة كالمروءة والكرم والذكاء والثبات ،
وقلما يخوض بانتقاده إلا مع الخواص الذين يعرفون الحقائق ، فكانت عداوتهما
عداوة العقلاء.
خسر المترجم
بتلك المحاكمة وبإدارة شركة انحصار الدخان للمرة الثانية مبلغا جسيما ، لأن
الحكومة مكلفة بحفظ أماكن الشركة ، فلما حدثت فتنة الأرمن امتنع الوالي عن إرسال
العساكر لمنع نهب الأرمن مال الشركة.
خسر بعدم
مداراة الحكام غير ذلك من المزارع والأراضي. (منها) مزرعة جميل باشا الوالي
اشتراها منه المترجم ، فاعتدى عليها زعماء التركمان بإغراء خفي حتى أخذوها. (ومنها)
مزرعة كانت مستنقعات تابعة للأراضي الأميرية ، فألف لها شركة وأخذها من الحكومة
وجففها ، فأغرى المغرون بعض عشائر الأكراد بالتعدي على حصته خاصة ، فحاكمهم فحكم
لهم عليه بالمساعدة الخفية. وفي إثر ذلك سافر مهاجرا إلى مصر.
سياسته ورأيه في الإصلاح :
لم يكن المترجم
في اشتغاله بخدمة بيته وبلده وحكومته غافلا عن شؤون المسلمين العامة ، فقد كان
يقرأ الجرائد التركية والمصرية حتى الممنوعة التي كانت تدخل إلى حلب كغيرها بوسائط
خفية. ولما هاجر إلى مصر كان أول أثر له فيها طبع سجل جمعية أم القرى ، وكان يقول
إن لهذه الجمعية أصلا وإنه هو توسع في السجل ونقحه ست مرات آخرها عند طبعه منذ
سنتين ونيف ، أعني عقب قدومه إلى مصر. وقد قال لنا مرة : الإنسان يتجرأ أن يقول
ويكتب في بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد ، بل إن بلاد الحرية
تولّد في الذهن من الأفكار والآراء ما لا يتولد في غيرها. ومن يقرأ الكتاب يظن أن
صاحبه صرف معظم عمره في البحث عن أحوال المسلمين وتاريخهم وعقائدهم وعلومهم
وآدابهم وتقاليدهم وعاداتهم ، ومنه يعلم رأي المترجم في الإصلاح.
وقد كنا معه
على وفاق في أكثر مسائل الإصلاح ، حتى إن صاحب الدولة مختار باشا الغازي اتهمنا
بتأليف الكتاب عندما اطلع عليه. وربما نشير إلى المسائل التي خالفنا الفقيد فيها
في هامش الكتاب عند طبعه ، وأهمها الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية.
أما آراؤه
ومعارفه السياسية فحسبنا منها كتاب «طبائع الاستبداد» الذي كاد يكون
معجزة للكتاب السياسيين. وقد زعم زاعمون أن معظم ما في هذا الكتاب مقتبس من
كتاب لفيلسوف إيطالي. ومن كان له عقل يميز بين أحوال الإفرنج الاجتماعية وأحوالنا
وذوقهم في العلم وذوقنا يعلم أن هذا الوضع وضع حكيم شرقي يقتبس علم الاجتماع
والسياسة من حالة بلاده حتى كأنه يصورها تصويرا.
وإذا لاحظ مع
ذلك أن هذا الكتاب كان مقالات مختصرة نشرت في (المؤيد) ثم مدها صاحبها مد الأديم
العكاظي وزاد فيها فكانت كتابا حافلا يتجلى له علمه الأول بصورة أوضح وأجلى. وإذا
علم بعد هذا كله أنه نقحه بعد الطبع فحذف منه قليلا وزاد فيه كثيرا يعلم علم
اليقين أنه ينبوع علم هذا الرجل صدره ، وأنه كان يزداد في كل يوم فيضانا وتفجيرا.
نعم إنه قال في مقدمته إن بعضه مما درسه وبعضه مما اقتبسه. وإننا نعلم أنه لم يولد
إنسان عالما ، ولكن فرقا عظيما بين من يحكي كلام غيره كآلة (الفوتوغراف) وبين من
يحكم عقله في علوم الناس فيأخذ ما صح عنده وينبذ ما لا يصح.
من كان له مثل
هذا العقل الحاكم في كليات العلوم فهو الفيلسوف إن كان اجتهاده هذا في العلوم
العقلية والكونية ، وهو الإمام إن كان اجتهاده في العلوم الدينية.
وجهته الأخيرة :
وجه همته أخيرا
إلى التوسع في معرفة حال المسلمين ليسعى في الإصلاح على بصيرة. فبعد اختباره التام
لبلاد الدولة العلية تركها وعربها وأكرادها وأرمنها ، ثم اختباره لمصر ومعرفة حال
السودان منها ساح منذ سنتين في سواحل إفريقية الشرقية وسواحل آسيا الغربية. ثم أتم
سياحته في العام الماضي فاختبر بلاد العرب التي كانت موضع أمله أتم الاختبار ،
فإنه دخلها من سواحل المحيط الهندي ، وما زال يوغل فيها حتى دخل في بلاد سوريا
واجتمع بالأمراء وشيوخ القبائل وعرف استعدادهم الحربي والأدبي ، وعرف حالة البلاد
الزراعية ، وعرف كثيرا من معادنها حتى إنه استحضر نموذجا منها. وقد انتهى في رحلته
الأخيرة إلى كراجي [من موانىء الهند] وسخر الله له في عودته سفينة حربية إيطالية
حملته بتوصية من وكيل إيطاليا السياسي في مسقط فطافت به في سواحل بلاد العرب
وسواحل إفريقية الشرقية ، فتيسر له بذلك اختبار هذه البلاد اختبارا سبق فيه
الإفرنج.
وكان في نفسه
رحلة أخرى يتمم بها اختباره للمسلمين وهي الرحلة إلى بلاد العرب ، ولكن حالت دونه
المنية التي تحول دون كل الأماني والعزائم.
أرأيت رجلا
كريم الأصل ، كبير العقل ، تربى أحسن تربية ، وتعلم أحسن تعليم ، ودخل في الأعمال
المختلفة ، وتصدى للمشروعات المتعددة ، وكتب في أدق المسائل أحسن الكتابة ، وساح
في البلاد واختبر أحوال الأمم ، حتى بلغ أشده واستوى ، كيف يكون حاله وما هي درجة
استعداده. هذا هو صديقنا الذي فقدناه بالأمس ، فكأنما فقدنا به الشمس. ومثل تلك
الآمال الكبيرة لا تبلغ إلا بمساعدة الحكومة أو سعة المال أو الجمعيات ، وقد كان
له أمل في مصر وأميرها أراه الاختبار خلافه.
ولقد كان لموته
تأثير كبير في نفوس الفضلاء والعقلاء ، وقد نعي إلى الجناب الخديوي في صبيحة
الليلة التي مات فيها ، فأمر بأن يجهز على نفقة سموه وأن يعجل بدفنه ، فكان ذلك.
فرحم الله فقيدنا وأحسن عزاء الإسلام والشرق فيه. ا ه. (مجلة المنار).
وترجمته أيضا
على إثر وفاته جريدة اللواء والمؤيد والقاهرة والرقيب والأهرام ومجلتا المقتطف
والهلال ، وكلها تضرب على وتر واحد من بيان فضله وسعة مداركه وعلو همته وآماله ،
وذكرت أنه دفن في قرافة باب الوزير.
ونقش على قبره
بيتان من نظم شاعر النيل محمد حافظ إبراهيم نقلتهما من ديوانه المطبوع وهما :
هنا رجل
الدنيا هنا مهبط التقى
|
|
هنا خير
مظلوم هنا خير كاتب
|
قفوا واقرؤوا
أمّ الكتاب وسلموا
|
|
عليه فهذا
القبر قبر الكواكبي
|
ورثاه الأديب
الفاضل الشيخ مصطفى صادق الرافعي بقوله :
أحقا رأيت
الموت دامي المخالب
|
|
وفي كل ناد عصبة
حول نادب
|
وتحت ضلوع
القوم جمرا مؤججا
|
|
تسعر ما بين
الحشا والترائب
|
وفي كل جفن
عبرة حين أرسلت
|
|
رأوا كيف
تهمي مثقلات السحائب
|
أبى الموت
إلا وثبة تصدع الدجى
|
|
وكم ليلة قد
باتها غير واثب
|
فما انفلق
الإصباح حتى رأيته
|
|
وقد نشبت
أظفاره بالكواكب [ي]
|
وكم في حشا
الأيام من مدلهمة
|
|
قد ازدحمت
فيها بنات المصائب
|
هوى القمر
الوهاج فاخبط معي الثرى
|
|
إذا لاح ضوء
النجم بين الغياهب
|
ووطّن على
خوض المنيات أنفسا
|
|
تساوقها
الآجال سوق النجائب
|
فهن العواري
استرجع الموت بعضها
|
|
وقصر البواقي
ما جرى للذواهب
|
أبعد حكيم
الشرق تذخر عبرة
|
|
وما هو من
بعد الرحيل بآيب
|
حثوا فوق
خديه التراب وأرسلوا
|
|
عليه سحابات
الدموع السواكب
|
ولو رفعوا
فوق السماكين قبره
|
|
لما بلغوا من
حقه بعض واجب
|
لتبك عليه
الصحف في كل معرك
|
|
إذا ما انتضى
أقلامه كل كاتب
|
فقد كان إن
هز اليراع رأيته
|
|
يصول بأمضى
من فرند القواضب
|
ولم يك هيابا
إذا حمس الوغى
|
|
ورفرفت
الأعلام فوق الكتائب
|
وكانت سجاياه
كما شاءها الهدى
|
|
وشاءت
لأهليها كرام المناقب
|
ولا بدع أن
تعزى الكواكب للعلا
|
|
وقد نسبته
نفسه للكواكب
|
سلوا حامليه
هل رأوا حول نعشه
|
|
ملائكة من
حارب حلف حارب
|
وهل حملوا
التقوى إلى حفرة الثرى
|
|
وساروا بذاك
الطود فوق المناكب
|
وهل أغمدوا
في قبره صارما إذا
|
|
تجرد راع
الشرق أهل المغارب
|
فكم هزه
الإسلام في وجه حادث
|
|
فهز صقيل
الحد عضب المضارب
|
أرى حسرات في
النفوس تهافتت
|
|
لها قطع
الأحشاء من كل جانب
|
وما بعجيب أن
ذا الدهر قلّب
|
|
إذا كان في
أهليه كل العجائب
|
أقول : قول
الفاضل صاحب (المنار) في أوائل الترجمة إنه أنشأ جريدة (الشهباء) ١٢٩٣ هو سهو ،
والصواب أنه أنشأها سنة ١٢٩٥ ، وهي أسبوعية رأيت العدد الثاني عشر منها عند أسعد
أفندي العينتابي أحد وجهاء الشهباء ، وهو مؤرخ في ٢٩ جمادى الثانية سنة ١٢٩٥. وقد
تكلم على هذه الجريدة الأديب فليب دي طرازي في كتابه «تاريخ الصحافة العربية».
ثم عطلت هذه
الجريدة ، فأصدر جريدة أخرى سماها (الاعتدال) رأيت العدد الأول منها عند الوجيه
الموما إليه ، وهو مؤرخ في ٥ شعبان سنة ١٢٩٦ ه و ٢٥ تموز سنة ١٨٧٩ م. ولم يطل أمد
هذه أيضا لخروج المترجم فيها عن حد الاعتدال وطعنه الشديد

في سياسة الدولة العثمانية ، فلم يسر فيها على مقتضى ما سماها به. وقد تكلم
على هذه أيضا في «تاريخ الصحافة العربية».
والسيد
الكواكبي هو أول من أنشأ صحيفة في الشهباء بعد الصحيفة الرسمية ، فكان له فضل
التقدم ، وذلك ينبئك عن علو همته وما انطوت عليه نفسه من حب الإصلاح ، غير أنه كان
الأجدر به أن يخفف اللهجة في كتاباته ويلين القول في عباراته ، لأن الأمراء
العثمانيين لم يتعودوا بعد سماع الانتقاد على سياستهم ، ولم يألفوا أن ينبهوا إلى
سيىء إدارتهم ، فلا ريب أنهم يستعظمون ذلك على نفوسهم ويكافحونه بما لديهم من
القوة ولا يتكافأ معهم قلم السيد الكواكبي ، وبه وحده لا تثل عروش الاستبداد ولا
تدك صروح الاستعباد ، تلك سنة الله في خلقه.
ولذا كان عمر
هاتين الصحيفتين قصيرا ، ولم تحصل الثمرة المقصودة ولم تنل الضالة المنشودة ، وهي
استبدال الإدارة السيئة بإدارة حسنة تنتظم بها حالة البلاد والأمة.
كان الجهل
فاشيا في الشهباء ، والأمية غالبة في تلك السنين ، وقل فيها من كان يكتب ويقرأ ،
فكان الجدير بالسيد أن يجعل باكورة أعماله نداء الأمة نداء خفيا يحثها على طرح
رداء الجهل المنتشر بين أبنائها والتحلي بحلية العلم ، ويوقظها من سباتها من حيث
لا يشعر به أحد ، وينبه فيها الشعور من وراء ستار ، لتدب فيها روح الحياة ، وتتربى
نفوسها على الحركة والعمل. ولا ريب أنه بذلك لا يجد في سبيل سيره معارضة ، ولا من
أولي الأمر مقاومة ، وكان لا يلبث عشية أو ضحاها إلا ويرى أمامه فئة تغذت بلبان
العلم واكتست برداء النباهة ، وتستبدل الشهباء حينئذ تأخرها العلمي والاقتصادي
بالسير إلى الأمام في هذا السبيل من ذلك الحين ، وكان يظهر الآن أثر ذلك وتجتنى
ثمرته.
وأعظم بهذه
النهضة إذا بنيت على التمسك بالشريعة الإسلامية وآدابها العالية والتخلق بالأخلاق
الفاضلة التي عليها بني مجدنا الغابر ، وبها كنا خير أمة أخرجت للناس.
ولا ريب أن
الأمة الحلبية بعد أن تتقلد بهذا السلاح المتين كانت تلتف حوله بطبيعتها ، وتكون
له خير معين على نيل مقاصده وتحقيق أمانيه ، فالمرء كثير بأخيه. وحسبنا في هذا
الباب قوله تعالى (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ
بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) وحديث (يد الله مع الجماعة).
ولعل غليان دم
الشباب في فؤاده وقتئذ وتلك النفس المفطورة على الإباء المتعشقة من الطفولية
لمحاسن الإصلاح المتطلعة إليه تطلع الأسد إلى فريسته هي التي أهابت به أن يطلق
لجواد قلمه العنان في هذا الميدان ، وحال حبه الشديد لأوطانه وشغفه العظيم بانتظام
أحوال بلاده بينه وبين التطلع إلى أمامه والالتفات إلى ما كان يومئذ حوله ، فكبابه
يراعه [ولكل جواد كبوة] وكان ما كان ، والأمور مرهونة بأوقاتها.
١٢٩٩ ـ الشاعر الأديب الشيخ محمد حميدة المتوفى سنة ١٣٢١
الشيخ المشهور
بالشيخ حمدو حميدة بن عبد المجيد النيربي المعروف بالناصر ، الشاعر الأديب الأصم.
ولد سنة ١٢٥٢ ،
وتلقى العلوم العربية وغيرها على الشيخ أحمد الحجّار في مدرسة القرناصية ، وعلى
الشيخ شهيد الترمانيني ، وعلى الشيخ هاشم عيسى ، وعلى الشيخ أحمد الترمانيني.
وجاور في المدرسة القرناصية والمدرسة العثمانية.
ثم غلب عليه
الشعر والأدب. وكان يتردد إلى إدلب وكفر تخاريم وحارم ودير كوش ويمدح أغوات هذه
البلاد ، وكانوا لا يقصرون في بره وصلته ، مع عزة نفس وكرم طبع.
وله ديوان شعر
وشعره جيد. وكانت له اليد الطولى في التشطير والتخميس ، ومن تخاميسه الفائقة التي
يتغنى بها قوله :
شهيّ اللمى
تحكي الأزاهر ثغره
|
|
وهيهات طيب
المسك يعدل نشره
|
فإن زارني
بدري وأظهر بشره
|
|
أقول له
والليل قد مد ستره
|
علينا
وقد نامت عيون الحواسد
|
فها أنا قد
أنفقت فيك وسائلي
|
|
ولم تك يوما
عن ودادي بسائلي
|
__________________
وناديت لما
أن تناءت عواذلي
|
|
ترى عن يقين
أنت عندي مواصلي
|
بغير
رقيب بعد ذاك التباعد
|
فيا ويح قلب
في هواك تفطّرا
|
|
من الوجد
والتبريح للعظم قد برى
|
وحالي لا
تخفى عليك كما ترى
|
|
فقال وقد
مالت به سنة الكرى
|
وشرب
الحميّا وهو في طيّ ساعدي
|
لقد آن أن
تلقى لديّ تعطفا
|
|
وتشفي أسقاما
دعتك على شفا
|
فدونك ما
تهوى ترى الدهر منصفا
|
|
خذ الحظ
واغنم من زمانك ما صفا
|
فما
كل وقت دهرنا بمساعد
|
ومن نظمه
مشطّرا :
ألا قاتل
الله الضرورة إنها
|
|
على الحر
أمضى من سيوف قواطع
|
كفى خسة فيها
إذا جد جدها
|
|
تعلّم خير
الناس شر الطبائع
|
وتحوجه
بالرغم عنه لمعشر
|
|
يرون اتخاذ
الكبر أسنى البضائع
|
ومن تضامينه
اللطيفة :
أسير هواكم
يا آل سعد
|
|
غدا يوم
الوداع سمير وجد
|
أصاحي إن تكن
ترعى لعهد
|
|
تمتع من شميم
عرار نجد
|
وودّع
من تخلّف في الديار
|
سقاه الله من
روض وسيم
|
|
سرى بوروده
أرج النسيم
|
تذكّر فيه
أوقات النعيم
|
|
وزوّد منه
طرفك يا نديمي
|
فما
بعد العشية من عرار
|
وقال مشطرا :
خلت الرقاع
من الرخا
|
|
خ وشاهها
للهول ذائق
|
والفيل ملقى
في الفخا
|
|
خ وفرزنت
فيها البيادق
|
وسطا الغراب
على العقا
|
|
ب وفاخر
البرذون عاتق
|
والأسد دانت
للذئا
|
|
ب وصاد فرخ
البوم باشق
|
سكتت بلابلة
الزما
|
|
ن وكل منطيق
وحاذق
|
والدهر أخرس
للقيا
|
|
ن وأصبح
الخفاش ناطق
|
وتسابقت عرج
الحمي
|
|
ر فلست تبصر
غير ناهق
|
ولقد تداعوا
للبدا
|
|
ر فقلت من
عدم السوابق
|
وقال :
في الصين طير
ناطق
|
|
يبدي لدينا
حكمه
|
فيا له من
واعظ
|
|
سبحان مولى
ألهمه
|
يقول في
تغريده
|
|
تجنبوا ماء
الأمه
|
إني إليكم
ناصح
|
|
ابن الأمه ما
ألأمه
|
ومن منظوماته
التي أحسن فيها تخميس بردة البوصيري ومطلعها :
مالي أراك
حليف الوجد ذا ألم
|
|
وساجي الطرف
ترعى النجم في الظلم
|
تالله يا من
غدا في حيّز العدم
|
|
أمن تذكر
جيران بذي سلم
|
مزجت
دمعا جرى من مقلة بدم
|
أم من تباريح
أشواق ملازمة
|
|
لمهجة بهوى
الأحباب هائمة
|
ولوعة منهم
للقلب صارمة
|
|
أم هبت الريح
من تلقاء كاظمة
|
وأومض
البرق في الظلماء من إضم
|
وقال في
التحذير من النفس :
فاحذر أخا
الحزم منها بأس شدتها
|
|
فكم أذاقت
هماما طعم حدتها
|
إن كنت ترتاح
من بلوى مضرتها
|
|
فلا ترم
بالمعاصي كسر شهوتها
|
إن
الطعام يقوي شهوة النهم
|
فكن بها
مستهينا واقطع الأملا
|
|
عنها وكن
بالذي يعنيك مشتغلا
|
فالعمر ولى
ولن تلقى له بدلا
|
|
والنفس
كالطفل إن تهمله شب على
|
حب
الرضاع وإن تفطمه ينفطم
|
وتخميسه للبردة
طبع في مطبعتي [العلمية] سنة ١٣٤٣.
وله مشطّرا كما
وجدته في بعض المجاميع والأصل لبدر الدين بن النقيب :
لي عند خدّيك
أقساط من القبل
|
|
من أجلها عاد
مني القلب في وجل
|
وأنت ذو دولة
في الحسن واسعة
|
|
فوفّني البعض
مما لي من الجمل
|
ولا تحلني
على ما كان منكسرا
|
|
من طرف أحور
يسبي الغصن بالميل
|
|
ولا على من
يصيد الأسد في شرك
|
|
من الجفون
ولا المرضى من المقل
|
وكان المترجم
أصم ، فاصطنع له مصّاصة [قمجة] وضع في آخرها فنجانا مثقوبا ، فمن أراد أن يكلمه
وضع الفنجان على فمه وخاطبه ، ويأخذ المترجم المصّاصة وقد وضع في آخرها ما سورة من
معدن ويضعها في أذنه ، فكان بهذه الواسطة يسمع بسهولة.
وكانت وفاته في
كفر تخاريم من أعمال حلب الغربية سنة ١٣٢١ ، ودفن ثمة رحمهالله تعالى.
١٣٠٠ ـ الشيخ محمد العالم المتوفى سنة ١٣٢٢
الشيخ محمد ابن
الشيخ علي ابن الحاج أحمد بن أبي بكر بن مصطفى ابن السيد محمد الشهير بالعالم ،
الشافعي مذهبا ، القادري طريقة.
ولد سنة ألف
ومائتين وست وأربعين في بلدة كفر تخاريم مركز قضاء حارم من أعمال حلب ، وهي تبعد
عنها أربع عشرة ساعة. ونشأ في حجر والدته ، فحفظ القرآن العظيم وأتقنه في مدة
يسيرة. ولما بلغ اثنتي عشرة سنة شرع في تحصيل مبادىء العلوم في وطنه على من كان
بها من العلماء ، ثم انتقل إلى حلب وجاور في المدرسة الصلاحية المعروفة الآن بالبهائية
، وصار يشتغل في تحصيل العلوم النقلية والعقلية.
ولما بلغ عمره
اثنتين وعشرين سنة تقريبا سافر إلى مصر سنة ألف ومائتين وثمان وستين ، وجاور في
جامعها الأزهر ، وأقام ثمة ثماني سنين ، وجد في التحصيل إلى أن مهر وصار معيد درس
الشيخ حسن العدوي. ثم أجيز من شيخه المذكور ومن الشيخ محمد الدمنهوري والشيخ محمد
الخضري والشيخ محمد الأنبابي والشيخ محمد العشماوي والشيخ مصطفى المبلط ، ودرس في
الجامع الأزهر بحضور مشايخه المار ذكرهم علم الكلام والحديث والمنطق.
وفي سنة ألف
ومائتين وسبع وسبعين آب إلى بلدته وأخذ في نشر العلم هناك ، وشرع في التأليف
فاختصر من البخاري الشريف أحاديث سماها «السراج المنير في أحاديث البشير النذير»
وشرحها ، وألف رسالة في علم الكلام سهلة العبارة ، وعمل قصتين في مولد النبي صلىاللهعليهوسلم ، وشرع في تأليف فتاوي في الفقه الحنفي سماها «الكريمية»
جمع فيها صحيح المذهب ، إلا أنها لم تتم له بسبب تجرده التام في ذلك الحين
وانقطاعه عن الناس ولزومه للتعبد والتبتل.
وفي سنة ألف
وتسع وثمانين ومائتين انتقل بأهله إلى مدينة حلب وتوطنها.
وفي تلك السنة
سافر إلى بغداد لزيارة الشيخ عبد القادر الكيلاني ، وحصل له مزيد الإكرام من ذرية
الشيخ القاطنين ثمة لما ظهر لهم من علمه وكرم أخلاقه.
وكان رحمهالله متقنا لعلم الحديث وتعبير الرؤيا بارعا فيهما ، وعلى
جانب عظيم من الصلاح والتقوى والزهد في هذه الدنيا ، منقطعا في بيته للمطالعة
والتعبد ، لا يزور أحدا من الكبراء والأمراء ولا يتطلع إلى وظيفة ، وللناس فيه
اعتقاد عظيم ، يزورونه ويطلبون منه صالح الدعوات ويستشفون بما يكتب لهم من الآيات
القرآنية على قطعة من السكر أو غير ذلك ، ولا يأخذ على ذلك أجرا. وكان ربما يخرج
إلى سوق محلته فيقعد عند بعض الباعة قليلا ترويحا للنفس ثم يعود إلى بيته. وبالجملة
فإنه ممن سلم الناس من لسانه ويده ، وممن ترك ما لا يعنيه واشتغل بخويصّة نفسه
واجتهد فيما يستنير به قلبه ، واستبانت ملامح ذلك على أسارير وجهه ، فكان الناظر
إليه لا يشك في صلاحه وتقواه. ورؤيت له عدة مكاشفات دلت على صفاء سريرته وعمارة
باطنه وأنه من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.
ولم يزل مرضيّ
الطريقة محمود الأقوال والأفعال إلى أن توفي ليلة الجمعة لأربع خلت من شهر رمضان
سنة ألف وثلاثمائة واثنتين وعشرين ، وكانت جنازته حافلة ، ودفن في تربة الشيخ ثعلب
غربي محلة المشارقة ، وخلف ولدين هما العالم الفاضل الشيخ علي أفندي قاضي مدينة
حلب الآن (أي في سنة ١٣٤٥) والشيخ أحمد أفندي قاضي إدلب سابقا.
١٣٠١ ـ عطاء الله أفندي المدرّس المتوفى سنة ١٣٢٣
الحاج عطاء
الله أفندي ابن مفتي حلب الشيخ عبد الرحمن أفندي ابن الشيخ حسن
أفندي الشهير بالمدرس ، تقدمت ترجمة أبيه وجده.
ولد سنة ١٢٥٦ ،
ومن حين نشأته انتظم في سلك طلاب العلوم في المدرسة العثمانية الشهيرة ، وأخذ في
التحصيل على مدرسها في ذلك الحين الشيخ صالح أفندي صاجلي زاده.
ثم اتصل
بالأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني وبابن أخيه الشيخ عبد السلام ، فقرأ عليهما
النحو والصرف والحديث والتفسير ، وقرأ الفقه الحنفي على الشيخ مصطفى الريحاوي
الشهير مدرس القرناصية. وما زال دائبا في التحصيل إلى أن نال قسطا وافرا من العلوم
الدينية والأدبية.
واشتغل في
اللغة التركية فمهر فيها تكلما وكتابة فترجم إلى هذه اللغات كتاب «الخراج» في
الفقه للإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة رضياللهعنهما ، وفي ذلك الحين بعد صيته واشتهر فضله. وأهدى من هذا
الكتاب نسخة إلى السلطان عبد الحميد خان ، فحازت لديه القبول التام وأنعم عليه
وقتئذ بالنيشان المجيدي الثالث.
وتولى وظائف
عديدة في الشهباء فعين عضوا في ديوان التمييز ، ورئيسا في مجلس الدعاوي ، وعضوا في
مجلس الإدارة واستئناف الحقوق ، ورئيسا للجنة الأوقاف ، ورئيسا في مجلس المعارف.
وحاز عدة رتب
علمية ، وأخيرا رتبة باية الحرمين الشريفين وهي رتبة لم يحرزها غيره في ولاية حلب.
وله شعر رقيق
منسجم خال من التكلف ، يدخل في الآذان بلا استئذان ، ولو صرف عنايته إليه وأعاره
جانبا من وقته لألحق على تأخره في الزمن في زمرة المتقدمين. وقد ذهب ما صاغه من
هذه العقود وغير ذلك من آثاره في حريق حصل في الغرفة التي فيها مكتبته في داره في
محلة الفرافرة وذلك سنة ١٣٢١ ، والتهم الحريق معظم المكتبة ولم يبق منها إلا
القليل ، وهو باق عند أولاده.
والتقطت بعض
شعره من عدة مجاميع ، فمن ذلك قصيدته الهائية التي لا زال ينشدها المنشدون في
الأفراح وهي في نحو ٥٠ بيتا أثبت هنا ما وصل إلي منها بعد البحث ، ومطلعها :
سلّت لحاظا
أسود الغاب تخشاها
|
|
فأرخصت مهجا
ما كان أغلاها
|
فاحذر سهاما
بدت من قوس حاجبها
|
|
فالرمي يا
صاح ضرب من سجاياها
|
يا قلب صبرا
لعلّ الصبر يعقبه
|
|
شهد الوصال
فبعد العسر يسراها
|
زارت بليل
فخلت الشمس قد طلعت
|
|
أو ليلة
القدر جادت لي برؤياها
|
لله من ليلة
ما كان أحسنها
|
|
إذ لم أفز
بنعيم الوصل لولاها
|
لا ذنب للدهر
عندي بعدها أبدا
|
|
يا قلب فاشكر
لها لا تنس جدواها
|
لقد ذكرت
ظباء القاع إذ خطرت
|
|
والعطف
بالميل للأغصان قد باهى
|
فسحّ مزن
دموعي عندما سطعت
|
|
طوالع الحسن
من باهي محيّاها
|
وافت وفي
العيد زارتني مهنئة
|
|
فكدت من فرحي
بالروح ألقاها
|
قدّمت قلبي
قربانا لزورتها
|
|
فالقلب في
العيد أضحى من ضحاياها
|
ومنها :
سارت سحيرا
تبعت الركب أنشده
|
|
قلبي لقد ضاع
مني يوم مسراها
|
فما احتيالي
وشوقي زادني كمدا
|
|
واها لقلب
المعنى بعدها واها
|
يا حادي
العيس مهلا وامش متئدا
|
|
وعلل القلب
يا حادي بذكراها
|
علّ التذكر
يبقي فيه من رمق
|
|
فمهجتي أخلقت
والحب أبلاها
|
وكدت أيأس لو
لم أعتصم بعرى
|
|
خير البرية
أولاها وأخراها
|
وله مشطرا :
خلقت الجمال
لنا فتنة
|
|
وصورت ألحاظا
بنا يفتكون
|
وحذرت إذ
حكمت فينا الهوى
|
|
وقلت ألا يا
عبادي اتقون
|
وأنت جميل
تحب الجمال
|
|
وخلقك طرا به
مغرمون
|
وإن أنت
أحببت خير الورى
|
|
فكيف عبادك
لا يعشقون
|
وله وهو مما
التقطته من مجموعة شيخنا الشيخ عبد الله سلطان :
__________________
وأربعة قد
لازمت منك أربعا
|
|
فليست لعمري
ساعة عنك تنفكّ
|
جبينك والسنا
وريقك والطلا
|
|
وشعرك والدجا
وخالك والمسك
|
وللشيخ أحمد
المحجوب في هذا الباب :
حمى الله من
تلك المحاسن أربعا
|
|
لأربعة يتبعن
ما بقي الدهر
|
قوامك والنقا
وشعرك والدجا
|
|
ونطقك
والصهبا ولحظك والسحر
|
وللمترجم مضمنا
:
أهدت شمائلكم
للسمع طيب ثنا
|
|
من ذكركم
عطّر الأرجا فأحيانا
|
لا غرو أن
عشقت روحي ولم تركم
|
|
والأذن تعشق
قبل العين أحيانا
|
وله أيضا :
السمع أوحى
لقلبي أنه قمر
|
|
فبتّ أرعى
نجوم الليل حيرانا
|
لا غرو أن
هام سمعي قبل باصرتي
|
|
والأذن تعشق
قبل العين أحيانا
|
وله أيضا :
يقول لما رأى
قلبي به كلفا
|
|
متى عشقت ولم
تنظر محيّانا
|
فقلت قد سمعت
أذني بوصفكم
|
|
والأذن تعشق
قبل العين أحيانا
|
وللشيخ كامل
الغزّي :
لما سمعت من
العشاق أنكم
|
|
في الكون
أجمل خلق الله إنسانا
|
عشقتكم
بسماعي قبل باصرتي
|
|
والأذن تعشق
قبل العين أحيانا
|
وللشيخ أحمد
شهيد الدار عزاني مفتي حارم :
سرت محاسن من
أهواه في بصري
|
|
من بعد ما قد
سرت في السمع أزمانا
|
قد أسرع
السمع في تمثيل صورته
|
|
والأذن تعشق
قبل العين أحيانا
|
ولأحمد وهبي
الإدلبي :
زار الحبيب
بيوم مثل طلعته
|
|
ووصله بعد
موت الصد أحيانا
|
على السماع
عشقنا حسن صورته
|
|
والأذن تعشق
قبل العين أحيانا
|
ولمراد أفندي
ابن أمين أفندي مقيّد قاضي أنطاكية الآن :
تأرج الروض
من عرف الكرام وقد
|
|
أهدى لنا
طيبهم نشرا فأحيانا
|
فسمعنا هام
فيهم قبل أعيننا
|
|
والأذن تعشق
قبل العين أحيانا
|
وللشيخ عبد
السلام الترمانيني في هذا الباب :
وفد الصبا
جاءنا من نحو ربعكم
|
|
بنفح طيب
فحيّانا وأحيانا
|
لذا عشقناكم
قبل اللقا معكم
|
|
والأذن تعشق
قبل العين أحيانا
|
وكان على ما
فيه من أدب وفضل لطيف المعاشرة حسن المذاكرة ، مجلسه مزدحم بأهل الفضل ومنزله
مقصود من الآفاق. وكان مع ذلك واسع الجاه مقداما جسورا نافذ الكلمة لدى أمراء
الدولة العثمانية ، يقدرون أصالة رأيه ودرايته وحزمه ، مع حشمة ووقار ومهابة ،
وكان للمجالس زينتها وللمحافل بهجتها.
وما زال على
ذلك إلى أن وافاه الأجل المحتوم في الثالث والعشرين من صفر سنة ١٣٢٣ ، ودفن في
تربة الجبيلة رحمهالله تعالى.
١٣٠٢ ـ الحاج عبد القادر الميسّر التاجر المشهور المتوفى سنة ١٣٢٣
الحاج عبد
القادر بن عمر الشهير بالميسّر ، التاجر المشهور ، وبقية نسبه تقدمت في ترجمة جده
الأعلى حسين باشا البابي المتوفى حول سنة ١١٦٠.
ولد رحمهالله سنة ١٢٤٧ ، ونشأ ملما بشيء من الفقه وأحكام البيع
والشراء كما هو عادة تجار ذلك العصر ، وتعاطى بيع الطرابيش في دكان له في السوق
الكائن أمام خان العلبية وأثرى من ذلك ، فصار يتعاطى مع ذلك التجارة إلى
الإسكندرية وغيرها في مخزن له في الخان المذكور ، مع الصلاح والتقوى والاستقامة
والحرص على قضاء حوائج الناس ، فكان لا يمنع جاهه في كل ما أمكنه.
وكان يشبه سيدي
الوالد خلقا وخلقا ولباسا وعمامة ، إلا أنه كان أبيض منه.
وكانت يده
مطلقة في سبيل الخير والصدقة ولا يتأخر عن مكرمة دعي إليها.
فمن آثاره
تجديد مسجد في زقاق النخلة في محلة باب النيرب صرف عليه ٤٠٠ ليرة عثمانية ، ولا
زال ولداه يتفقدان هذا المسجد بالنفقة. وتجديد جامع الخواجا في محلة العقبة على يد
الرجل الصالح الحاج خليل إكريّم وقد قدمنا ذلك. وبعد أن أنشئت المنازل في العرصة
المسماة بسراي إسماعيل باشا شرقي جامع الرومي أنشأ المترجم هناك بئرا للاستقاء صرف
عليه ١٠٠ ليرة ، ولا زال ولداه يتفقدان هذا البئر بالنفقة.
وفي زمن ناشد
باشا لما أدخل ماء قناة حلب إلى محلة الفردوس عمر المترجم طريق القناة من قسطل باب
المقام إلى محلة المعادي فالمقامات فالفردوس ، ويبلغ طول هذا الطريق نحو ألف متر
صرف عليه نحو ٣٠٠ ليرة. وأنشأ سبيلا في محلة المقامات صرف عليه نحو ٤٠ ليرة. وفي
سنة ١٣١٨ توهنت قبلية جامع محلة الأعجام فجدد بناءها وصرف في ذلك نحو ١٥٠. وهكذا
كان رحمهالله لا يألو جهدا في أمثال هذه الأعمال الخيرية.
ولم يزل على
ذلك إلى سنة ١٣٢٣ ، ففيها في شهر جمادى الثانية توجه إلى المدينة المنورة مهاجرا
وزائرا لساكنها عليهالسلام ، فوافته المنية فيها في العشرين من رمضان ودفن ثمة بالبقيع
، فكانت نعمت الهجرة والزيارة رحمهالله تعالى.
١٣٠٣ ـ محمد نصوح الجابري المتوفى سنة ١٣٢٤
محمد نصوح
أفندي ابن الحاج صدّيق أفندي الجابري ، الوجيه السريّ الأديب.
ولد سنة ١٢٧٧ ،
وتربى في حجر الوجاهة. ومن حين نشأته كانت همته متوجهة لطلب الكمال والتحلي بحلية
أهل الفضل ، فسعى إلى تلك الدوحة واقتطف من يانع ثمارها ، وحصل من العلوم الفقهية
والأدبية طرفا صالحا مع نباهة فكر وأصالة رأي.
وتوجه في نواحي
سنة ١٣٠٤ إلى عكا فأخذ الطريقة اليشرطية عن نزيلها الشيخ علي اليشرطي ، وبعد عودته
اهتم في نشرها في حلب.
وكان مولعا بكتب
التصوف مكثرا من المطالعة فيها ، وله مع ذلك شعر حسن يميل
فيه إلى الزهد والإعراض عن هذه الدنيا الفانية ، فمنه وهو مما نقلته من خط
أخيه صديقنا الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي :
كل اللذائذ
والآمال زائلة
|
|
وبعد عين
يعود الكل في خبر
|
فليت شعري ما
الدنيا وزينتها
|
|
وما التفاخر
بالأموال والدرر
|
وما التصدر
للعليا بمدّ يد
|
|
للّثم ثم
امتداد في ثرى الحفر
|
ومنه قصيدة
طويلة قسمها إلى عدة فصول عارض بها بردة الأبوصيري ، رأيتها بخطه ، قال في مطلعها
وهو الفصل الأول :
بان الخفاء
وبانت بانة العلم
|
|
ترمي بلحظ تروم
الفتك في العلم
|
فاكظم رجاءك
في أرجاء كاظمة
|
|
واسلم فديتك
لا تطمع بذي سلم
|
واقصر هوى
طالما فيه هويت إلى
|
|
وهد الهوان
وهذا الذل والسقم
|
هل يجهد الحر
في تمليك مهجته
|
|
لمن يرى
سلبها من واجب الذمم
|
هي الغواني
لديها خير مكرمة
|
|
إغوا الكريم
وقطع الوصل والكرم
|
كم من فقيد
بمغناها بلا قود
|
|
للغنم وافى
وإن الغنم بالغنم
|
ماذا التجلد
للواشين تظهره
|
|
دوما وذا
دمعك الهتّان كالديم
|
أما الذي قد
جرى من مقلتيك دما
|
|
هو الفؤاد
فعش جسما بغير دم
|
ومنها في الفصل
الرابع في فضل شريعته صلىاللهعليهوسلم على ما قبلها :
لئن شرائعهم
طبق العصور أتت
|
|
فكلها انطبقت
في عصر ختمهم
|
وكل مستكمل
سيرا لأوله
|
|
يعود يا حبذا
بدء بمختتم
|
لذاك قلت
استدار الوقت هيئته
|
|
كيوم فطرته
في سالف القدم
|
أعظم بعصر
جديد مبرز عجبا
|
|
من كل شأن بديع
الحسن منتظم
|
كل اختراع
وكشف كان عن أثر
|
|
من بعثه رحمة
للعرب والعجم
|
فمن قرا سيرة
الماضين في سلف
|
|
درى تفرد هذا
العصر في الشمم
|
هذي الظواهر
والآثار قد نطقت
|
|
ناهيك عن
جوهر الأسرار ذي القيم
|
__________________
وما حوى شرعه
من كل مكرمة
|
|
وكل شأو علا
الدارين ملتزم
|
عزائم لأولي
الألباب مع رخص
|
|
للسبق تهدي
الفتى في قصد معتزم
|
ومنها في الفصل
السادس في بقية معجزاته صلىاللهعليهوسلم :
سل الغزالة
والأشجار كيف سعت
|
|
والجزع أنّ
أنين الجازع الوجم
|
حيث المواليد
جاءته ثلاثتها
|
|
مسخرات بأمر
الواحد الحكم
|
منها الحصى
أثبتت في بطن راحته
|
|
إلى قلوب
العدى الإفراط بالصمم
|
ما جحدهم
صمما بل كان عن حسد
|
|
إن الحسود
لنشر الفضل كالخدم
|
ومنها في الفصل
السابع في فضل أصحابه رضياللهعنهم وقومه العرب :
بشرى مصدقه
طوبى لقسمته
|
|
يا فوز صاحب
ذاك الحظ في القسم
|
يا نعم صحبا
رضاء الحق صاحبهم
|
|
عنهم رضي
ورضوا عنه بسيرهم
|
هم أمة أخرجت
للناس خيرهم
|
|
في الصدق
والعرف والمعروف والذمم
|
من معشر جودة
الأخلاق فطرتهم
|
|
كخام جوهرة
الأصداف في الخيم
|
في الجاهلية
كانت فيهم شيم
|
|
عنها عري كل
ذي علم بغيرهم
|
ما ضر ساذج
أطباع تجرده
|
|
من الفنون مع
الإحسان في الشيم
|
حتى أتت درة
الأكوان مبرزة
|
|
فأبرزتهم من
الأصداف والأجم
|
فزيّنوا عقد
جيد الدهر من نعم
|
|
وليّنوا عنق
وحش الكفر كالنعم
|
حتى غدت ملة
الإسلام سالمة
|
|
وصار كل مصرّ
ملقي السلم
|
في مدة ربع
قرن ما تجاوزه
|
|
ما تلك قوة
ذي القرنين أو إرم
|
هذا افتتاح
كبدء الخلق ثانية
|
|
هدي النفوس
كإحياها من العدم
|
أحيوا ومدوا
لطير الأمن أجنحة
|
|
في الشرق
والغرب من رايات عدلهم
|
فأوشجوا
الأرض سلك النور وابتدروا
|
|
فتح القلوب
قبيل البيد والأطم
|
هم الملوك
اقتدارا همة وحجا
|
|
هم المساكين
من لين ومن رحم
|
رهبان ليل
وأبطال النهار فهم
|
|
في حب مولاهم
مستغرقو الخدم
|
كلا تراه
حكيما شاعرا بطلا
|
|
شهما وديعا
أخا رفق وذا همم
|
وختمها بقوله
وهو الفصل الحادي عشر في الصلاة عليه صلىاللهعليهوسلم :
مدح الرسول
شفاء المستجير به
|
|
وعصمة لمحب
فيه معتصم
|
إن الصلاة
عليه خير فاتحة
|
|
إلى الهداية
في بدء ومختتم
|
صلى عليه إله
العرش ما سطعت
|
|
آلاؤه زاهرات
في عروشهم
|
والآل والصحب
تقديما لصاحبه
|
|
في الغار
صدّيقه المختار بالقدم
|
والناشر
الدين والسامي الحجا عمر
|
|
وكافل الجيش
عثمان أخي الكرم
|
وخاتم الخلفا
الأركان حيدرة
|
|
في الآل
والصحب ذو السهمين في القسم
|
والسابقين
وتالي الحزب ما تلت ال
|
|
حمائم العزب
آي النوح بالنغم
|
تبكي ابتسام
ليال بالحمى سلفت
|
|
من بعدها مرت
الأيام كالظلم
|
رثى النصوح
لشكواها فناشدها
|
|
ومن يهم
صادقا نصّاحه تهم
|
حالي كحالك
إن فتشت عن خبري
|
|
لا تحسبي دمك
المسفوح غير دمي
|
تبديه جهرا
وأخفي والخفا لمتى
|
|
بان الخفاء
وبانت بانة العلم
|
اللازمة التي
تعاد من الحاضرين للصلاة عليه :
صلاة ربي
والأملاك والأمم
|
|
على الحبيب
الوحيد الجامع الشيم
|
تعداد أسطرها
برء لسامعها
|
|
فابري السقام
بها يا بارىء النسم
|
٢٠٣
وكانت وفاته في
الثامن عشر من شهر شوال سنة ١٣٢٤ ، ودفن بين أسرته في تربة الصالحين جنوبي مقام
إبراهيم عليهالسلام ، رحمهالله تعالى.
١٣٠٤ ـ الشيخ محمد طاهر أفندي العيّاشي مفتي إدلب المتوفى سنة ١٣٢٤
الشيخ محمد
طاهر أفندي ابن السيد حسن ابن السيد محمد العيّاشي ، الإدلبي المنشأ والأصل ،
والمفتي بها.
ولد ببلدة إدلب
سنة أربعين ومائتين وألف ، وتلقى العلم على جملة من فضلاء بلده ، منهم الشيخ
الفاضل محمد المعروف بالغزّالي ، والشيخ صلاح الدين الجوهري مفتي الحنفية ، والشيخ
عمر المارتيني وغيرهم. ودأب على التحصيل إلى أن برع بين أقرانه وبهر.
وتولى نقابة
الأشراف بعد والده ، ثم تولى الإفتاء سنة ألف وثلاثماية.
وله رسالة
سماها «أوضح المسالك في سياسة الممالك» ، و «الفتاوي العياشية» في مجلد كامل جمعها
ولده الفاضل محمد برهان الدين أفندي بعد وفاته من مسوداتها.
وكان رحمهالله متواضعا للكبير والصغير ، سليم القلب ، يعامل المسيء
إليه بالإحسان ولا يعامل أحدا على إساءته ، وكان مهابا عظيم الوقار حلو المحاضرة
لطيف المسامرة ، لا يمل جليسه ويأنس به أنيسه ، لين الجانب سخي الطبع.
وكانت وفاته في
محرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وألف.
وله مخمسا
قصيدة العالم الكامل الشيخ شعيب الكيالي الإدلبي التي مطلعها : (ببابك ربي قد انخت
مطيتي) وأولها :
إليك التجائي
في رخائي وشدتي
|
|
وأنت رجائي
يا منائي وعدتي
|
لقد جئت في
فقري وعجزي وزلتي
|
|
ببابك ربى قد
أنخت مطيتي
|
وأنزلت
ما بي في حماك وخلتي
|
فبابك لا
يرتد دون وقيعه
|
|
ومن لاذ فيه
لم يخف من مريعه
|
رجوتك إحسانا
فجد في سريعه
|
|
وعوّلت في
أمري عليك جميعه
|
وأفنيت
حولي في رضاك وقوتي
|
وهي طويلة. وله
مشطّرا :
ولما رشفت
الريق منها تمنعت
|
|
وفي القلب من
نار الغرام ضرام
|
فعاودت أبغي
العل من منهل اللمى
|
|
فقالت أما
تخشى وأنت إمام
|
أتزعم أن
الريق مني محلل
|
|
لعمرك ما
أفتى بذاك همام
|
يمينا لقد
أخطأت بالزعم سيدي
|
|
فريقي مدام
والمدام حرام
|
وله مشطّرا :
ونائمة
قبّلتها فتنبهت
|
|
مسارعة تختال
في عادل القدّ
|
وجاءت قضاة
الحب تبدي شكاية
|
|
وقالت هلموا
واطلبوا اللص بالحدّ
|
فقلت لها إني
لثمتك غاصبا
|
|
وكان ارتكابي
الغصب من شدة الوجد
|
ولا حدّ فيما
تزعيمن إدعاءه
|
|
وما حكموا في
غاصب بسوى الردّ
|
وفي سنة أربع
وثمانين ومائتين وألف هجرية أسس في حلب الشهباء جريدة سميت (الفرات) وذلك في أيام
واليها جودت باشا ، فنظم المترجم هذه الأبيات :
لوالي ولاية
الشهباء فضل
|
|
غنيّ في
الورى عن بينات
|
رقي للذروة
العلياء يسمو
|
|
بجودة رأيه
والمكرمات
|
وقد نشر
الحديث بلطف طبع
|
|
فعم بنشره كل
الجهات
|
إذا ما حدّث
الأقوام راو
|
|
حديثا يرتضيه
عن الثقات
|
وباهى
بالحوادث في غلو
|
|
وبالمعنى
البديع بالرواة
|
لنا التضمين
في التاريخ يحسن
|
|
فكل الصيد في
جوف الفرات
|
١٢٨٤
١٣٠٥ ـ الشيخ عبد الله سلطان المتوفى سنة ١٣٢٤
الشيخ عبد الله
ابن الشيخ عبد القادر ابن الشيخ محمد ابن الشيخ صالح الشهير بسلطان ، العالم الفاضل
والأديب الكامل ، من بيت تسلسل فيه العلم والفضل.
ولد في الخامس
والعشرين من المحرم سنة ١٢٦٠. وبعد أن تعلم قراءة القرآن عن ظهر قلب والكتابة دخل
المدرسة الإسماعيلية ، وهي المدرسة التي يدرّس فيها آباؤه وأجداده ، وشرع في تلقي
العلوم والفنون فيها على مدرسها والده ، وعلى الأستاذ الكبير الشيخ أحمد
الترمانيني ، وابن أخيه الشيخ عبد السلام ، وعلى الشيخ مصطفى الريحاوي مدرس
القرناصية ، والشيخ علي القلعجي ، والشيخ مصطفى الشربجي الفرضي الشهير. وفي مدة
وجيزة ظهرت عليه أمارات النجابة والفضل ، فتوجه سنة ١٢٨١ إلى مصر وجاور في أزهرها
عشر سنين ، وأجازه من مشاهير مشايخه الشيخ إبراهيم السقا والدمنهوري والعلامة
الشيخ محمد الأنبابي والشيخ حسين الطرابلسي.
وعاد إلى حلب
سنة ١٢٩٠ ، فعين مدرسا في مدرسة آبائه ، ومحدثا في جامع أموي حلب في قاعة بني
العشائر. وعلى إثر رجوعه تلقى بعض العلوم العصرية فكان له فيها إلمام حسن ، وتعلم
اللغة التركية وقليلا من الإفرنسية. وعين أستاذا للغة العربية سنة ١٣٠٨
في المكتب السلطاني الذي عمر بحلب في محلة السليمية والذي انتهت عمارته في
هذه السنة ، وعين عضوا في مجلس المعارف وفي محكمة الحقوق والجزاء ، بقي نحو عشرين
سنة وحمدت سيرته فيهما في جميع هذه المدة.
وكان الرؤساء
يرجعون إلى ثاقب فكره ويعتمدون عليه لدرايته واستقامته ورغبته في العدل ، وكان
يخالف بقية الأعضاء فيما فيه مخالفة للشرع المتين بكل متانة.
وأنعمت عليه
الدولة العثمانية برتبة إزمير المجردة ، ثم برتبة الموالي ، ورشح عدة مرات لمنصب
الإفتاء.
وله عدة مؤلفات
في الفقه والمنطق والنحو والصرف والمعاني والبيان والعروض ، وشرح على «متن الإظهار»
للبركوي ، وحاشيتان كبرى وصغرى على «إيساغوجي في المنطق» ، وحاشية على «متن
التهذيب» في المنطق ، وتقريرات على حاشية «نسمات الأسحار على شرح المنار» في أصول
الفقه ، ومجموع في علم الحديث مرتب على الحروف الهجائية ، وله في كل فن رسالة على
طريق السؤال والجواب مع ترجمتها باللغة التركية ، وله مجموع في تعاريف الفلسفة
الطبيعية والمنطق ، وله مقالات على تفسير بعض آيات قرآنية ، ورسالة في المباحات ،
ورسالة في المحرمات في الفقه ، وفي السنن المؤكدة والمستحبة ، ورسالة في الفروض
العينية ، ورسالة في المكروهات ، وحاشية على مرقاة الوصول إلى علم الأصول لم تتم ،
وغير ذلك من التحريرات ، ولكن لم يطبع له من هذه المؤلفات والتحريرات شيء وتفرقت
أيدي سبا.
وبالجملة فقد
كان فقيها نحويا منطقيا أصوليا فرضيا شاعرا ، وله ديوان شعر استعاره بعض تلامذته
الذين كانوا يحضرون عليه ولم يردّه.
وكان رحمهالله أسمر اللون طويل القامة ، من يراه من بعد يرى فيه أثر
العبوسة ، حتى إذا دنا منه وعاشره يجده قد عجنت طينته بماء اللطافة وتجلت في محياه
شموس البشاشة.
وكان محبوبا
عند عموم الطوائف لما كان فيه من الخصال الحميدة التي قدمناها.
وهو من جملة من
أخذنا عنهم العلم ، قرأت عليه شرح ابن عقيل على الألفية من أوائله إلى الآخر قراءة
تحقيق وتدقيق ، وبعضا من شرح ملتقى الأبحر المعروف بشرح الداماد.
وكانت وفاته
سادس رمضان سنة ١٣٢٤ ، ودفن عند آبائه في تربة الشيخ جاكير ، وأسف عليه كل من عرف
علمه وأدبه ومزاياه الحسنة ، رحمهالله تعالى.
وقد اطلعت على
مجموعة له جمع فيها على حروف الهجاء مختارات شعرية وقد ذكر فيها شيئا من شعره ،
فمنه :
وأربعة ما
فارقت منك أربعا
|
|
ولا شانها
نقص ولا حازها ندّ
|
فقدّك والقنا
وجيدك والدما
|
|
ووجهك والضحى
وخالك والندّ
|
ومنه :
الحسن في وجه
هذا الظبي ننظره
|
|
يحكي لنا خده
الياقوت والتبرا
|
وإن نعد نظرا
نلقى بوجنته
|
|
خالا ومنبته
في الجنة الخضرا
|
وله :
والخال في
وجهه يبدو لأعيننا
|
|
كأنه كلف في
صفحة القمر
|
وإن تعاكس في
مرآة وجنته
|
|
حكاه تمثاله في أبدع الصور
|
ولا تظنهما
خالين من شعر
|
|
بل إنما
الطرف أهدى حبتي بصري
|
وله :
إن كنت تروي
حديث الحب عن دنف
|
|
في غامض
القول مكنيّ ومرموز
|
فالحسن يروي
أحاديث الجمال لنا
|
|
موضحا عن
عليّ القدر نيروز
|
وله مشطّرا
بيتين هما لعطاء الله أفندي المدرس بطلب منه :
إلى الله
أشكو من بنار بعاده
|
|
رماني وقد
ضاقت عليّ المسالك
|
ولما كوى
قلبي وأحرق مهجتي
|
|
أذاب فؤادي
وهو للقلب مالك
|
ويزداد
بالشكوى إليه قساوة
|
|
إذا قلت يا
مولاي إني هالك
|
ويترك قلبي
في هواه معذبا
|
|
كأني عاص وهو
في النار مالك
|
وله :
__________________
زار الحبيب
الذي قد كنت أعشقه
|
|
على السماع
فحيّانا وأحيانا
|
وقد سرى
العشق من سمعي إلى بصري
|
|
والأذن تعشق
قبل العين أحيانا
|
وله :
هنئت يا بدري
بصحتك التي
|
|
عادت كخادمة
إليك موافيه
|
وخلعت أثواب
السقام على العدا
|
|
فالبس على
دوم ثياب العافيه
|
وله موشح على
طريقة أهل الأندلس ، وهو في المجموعة المارة الذكر :
يا غزال الحي
من وادي الحمى
|
|
صاد بالألحاظ
أسد الحرس
|
وجلا من وجهه
البدر كما
|
|
شق صبح الجيد
ليل الغلس
|
دور :
رقم الحسن
على غصن الدلال
|
|
بيد التصوير
في الوجه الجميل
|
آية النمل
على خد الجمال
|
|
يا لعمري جلّ
هذا عن مثيل
|
والعيون النجل
بالسحر الحلال
|
|
قصرت للعمر
بالهدب الطويل
|
ونديّ الورد
بالخد نما
|
|
حول سوسان
بأبهى ملبس
|
وبه صارم لحظ
حرّما
|
|
نظرة الوجه
على المختلس
|
دور :
يا نبي الحسن
منك المعجزات
|
|
قد أزاحت
ظلمة الشك المريب
|
فصباح الوجه
فيه البينات
|
|
أطلع الشمس
على غصن الرطيب
|
وسماء الخد
أندى البركات
|
|
وبه الخال
يرى قطبا عجيب
|
وسناء الثغر
نجم رجما
|
|
ما رد العذل
بشهب القبس
|
ونذير الطرف
داع حكما
|
|
أن دين الحب
قتل الأنفس
|
دور :
يا نديم
الأنس إن الشرب طاب
|
|
زمزم الكأس
فذا وقت الربيع
|
فعقيق الثغر
بالكاسات ذاب
|
|
وجرى الطل
على الروض الينيع
|
فاجلها سرا
فما أحلى الشراب
|
|
بين ورد صنع
مولانا البديع
|
فأدار الكاس
لما زمزما
|
|
طيّب الراح
بطيب النفس
|
وفم الإبريق
لما ابتسما
|
|
بكت السحب
بروض النرجس
|
دور :
شنّف السمع
بأطراف الكلام
|
|
من ورا حجب
فذا قلبي كليم
|
واصطفاني
بإشارات المرام
|
|
فغدوت عبد رق
مستقيم
|
وانجلى لي ثم
حيّا بالظلام
|
|
فأفاض الحب
في القلب السليم
|
قرب الوصل
ولما استحكما
|
|
حاكم الحب
بقلبي الهجس
|
أسبل الستر
وأخفى الحكما
|
|
فأنا في تيه
وادي الهوس
|
دور :
بأبي أفديه
من ظبي كحيل
|
|
قام يسعى في
بنود وبرود
|
وأتى يختال
في الخصر النحيل
|
|
مثل غصن لاح
في وادي زرود
|
غزلي في نقطة
الخد الأسيل
|
|
ومديحي جاء
في بدر السعود
|
من إلى المجد
انتمى أصلا كما
|
|
طاب فرعا
فخلا عن دنس
|
جاءه نظمي
كدر نظما
|
|
وسط ثغر ضاء
مثل القبس
|
وقال شيخنا في
مجموعته : رأيت في بديعية الشيخ قاسم البكرجي في قسم التشبيه بيتين لإبراهيم
القيرواني في العذار ، والطرفان أي المشبه والمشبه به معنويان ، وهما هذان :
أورد قلبي
الردى
|
|
غصن عذار بدا
|
أسود كالكفر
في
|
|
أبيض مثل
الهدى
|
قال الشارح
الشيخ قاسم البكرجي : ورأيت من سلك هذا الطريق من شعراء عصرنا منهم مصطفى جلبي
البيري فقال :
طرّز منه
الجمال
|
|
عذاره منذ
سال
|
أسود كالهجر
في
|
|
أبيض مثل
الوصال
|
ولأخيه عبد
الرحمن البيري :
أورث قلبي
الأنين
|
|
عذاره مذ أبين
|
أسود كالشك
في
|
|
أبيض مثل
اليقين
|
ولعبد اللطيف
الكوراني :
طيّر مني
الجنان
|
|
عذاره منذ
بان
|
أسود كالخوف
في
|
|
أبيض مثل
الأمان
|
وللشيخ قاسم
البكرجي :
أورث قلبي
العنا
|
|
عذار ظبي رنا
|
أسود كالفقر
في
|
|
أبيض مثل
الغنى
|
فأردت أن أقتفي
أثرهم في هذا السبق فقلت من هذا النسق سنة ١٢٩٦ :
أورث قلبي
السهر
|
|
عذار ظبي نفر
|
أسود كاللحظ
في
|
|
أبيض مثل
الحور
|
وقلت أيضا :
سلب مني
القرار
|
|
عذاره مذ
أنار
|
أسود كالليل
في
|
|
أبيض مثل
النهار
|
وقد التمست من
شيخنا الشيخ عبد السلام الترمانيني أن يتكرم من هذا النمط فقال :
رب عذار وفى
|
|
فوق خديد صفا
|
أسود كالداء
في
|
|
أبيض مثل
الشفا
|
وقال الحاج
عطاء الله أفندي المدرس :
أورث قلبي
النقم
|
|
عذاره مذ هجم
|
أسود كالبؤس
في
|
|
أبيض مثل
النعم
|
وقال أخوه أمين
أفندي :
أورث جسمي
السقام
|
|
عذار باهي
القوام
|
أسود كاللؤم
في
|
|
أبيص مثل
الغمام
|
وقال عزت بك
إبراهيم باشا زاده :
أورث قلبي
الهيام
|
|
عذار بدر
التمام
|
أسود كالغمد
في
|
|
أبيض مثل
الحسام
|
وقال الشيخ
أحمد المحجوب :
أورث قلبي
الجراح
|
|
عذاره منذ
لاح
|
أسود كالليل
في
|
|
أبيض مثل
الصباح
|
وقال بكري
أفندي زبيدة الطبيب :
أورث قلبي
الثبور
|
|
عذار ظبي
نفور
|
أسود كالحزن
في
|
|
أبيض مثل
السرور
|
وقال أحمد
أفندي وهبي :
أورث قلبي
الترح
|
|
عذار ظبي سرح
|
أسود كالغم
في
|
|
أبيض مثل
الفرح
|
وله في هذا المجموع
عدة قصائد ودع فيها رفقاءه في الأزهر حين عودته إلى بلده على حسب العادة المتبعة
ثمة ، وفيما ذكرته من شعره كفاية.
١٣٠٦ ـ الحاج عبد القادر أفندي الجابري المتوفى سنة ١٣٢٥
الحاج عبد
القادر أفندي ابن مراد أفندي ابن عبد القادر أفندي الجابري ، الشهير بحاجي أفندي ،
الوجيه السريّ.
ولد كما وجدته
في مجموعة لجميل أفندي الجابري سنة ١٢٤٦. قرأ على الشيخ مصطفى الريحاوي ، والشيخ
عبد القادر سلطان ، والشيخ هلال القسطلي ومن عاصرهم ، فحصل على الفقه وغيره
مقدارا.
وكان في مبدأ
أمره ضعيف الحال ، ثم أخذ في تعاطي الزراعة فحسنت حاله وأثرى منها.
وتداخل مع
الحكام وصار عضوا في مجلس إدارة الولاية ، ثم تولى إفتاء حلب في نواحي سنة ١٢٩٢
بعد الشيخ بكري الزبري ، فبقي في هذا المنصب نحو سنتين ، ثم عزل وأعيد الشيخ بكري
إليه.
وصار له درس في
علم الحديث في الجامع الكبير كان يقرؤه أمام ضريح يحيى عليهالسلام.
وأخذ في اقتناء
الكتب مخطوطها ومطبوعها ، فكان له خزانة كتب نفيسة.
ولم يزل دائبا
على الزراعة واقتناء الأملاك إلى أن توفي ١٣٢٥ وعمره ثمانون سنة ، ودفن في تربة
الصالحين.
وكان أبيض
اللون أشهل العينين مربوع القامة نيّر الشيبة تعلوه الحشمة والوقار ، خصوصا حينما
يتعمم بالعمامة الخضراء ، فكان يزداد بها بهاء ووقارا مع نباهة ودهاء. وله مع جميل
باشا والي حلب وقائع مشهورة ، وكان الولاة يحسبون له حسابا.
وبنى مسجدا في
وسط جادة الخندق ووقف له وقفا. ووقف على ذريته أملاكا واسعة. ووقف مكتبته التي
قدمنا ذكرها ، بقيت عند ولده الحاج مراد أفندي إلى سنة ١٣٤٣ ، فسعيت في نقلها إلى
المدرسة الخسروية ، ثم نقلت مع بقية المكتبة العامة التي أسست هناك إلى المدرسة
الشرفية الواقعة شرقي الجامع الكبير وذلك في منتصف جمادى الأولى من هذه السنة وهي
سنة ١٣٤٥ ، وهي ٦٠٠ مجلد ، ومن جملة نفائسها كتاب «بدائع الصنائع» في الفقه الحنفي
الذي سعى ولده الموما إليه ومحمد أسعد باشا الجابري في طبعه في مصر في ٧ مجلدات ،
وقد ذكرت ذلك في ترجمة مؤلفه الإمام الكاساني المتوفى سنة ٥٨٧.
ومن نفائس هذه
المكتبة كتاب «العدة في شرح العمدة» [عمدة الأحكام] لأبي الحسن علاء الدين علي بن
إبراهيم الشافعي العطار في مجلدين ، وهو شرح العمدة للحافظ أبي محمد عبد الغني
المقدسي ، وهو منقول عن نسخة المؤلف ، والنسخة محررة سنة ٨٥٤.
وكتاب «تجريد
المعقول وخلاصة جامع الأصول» لقاضي القضاة شرف الدين البارزي ، قرىء على مؤلفه سنة
٧١٧ وعليه خطه وخط من قرأه عليه وهو محمد بن سعد
الله بن عبد الله الحراني ، والنسخة محررة سنة ٧١٥ ، لكنها ناقصة أوراقا من
الأول. والجزء الثالث والرابع من «المحيط البرهاني» في الفقه الحنفي. وفتاوي
العلامة الطوري ، وهي بخط الشيخ عمر المرتيني الإدلبي. و «فتاوي التاتار خانية» في
سبعة مجلدات محررة سنة ٨٤١. وكتاب «المدهش في التاريخ والوعظ» للإمام ابن الجوزي.
وجزء من تاريخ العلامة المحبي الدمشقي صاحب «خلاصة الأثر» غير الخلاصة. وكتاب «نصاب
الاحتساب» لعمر بن محمد بن عوض الشامي. و «شرح المقصورة الدريدية» لابن خالويه. و
«روضة العلماء» للزندوسي. وثبت لبعض العلماء في أوله إجازة من الشيخ عبد الرحيم
ابن الشيخ مصطفى ابن الشيخ عبد الكريم الشراباتي لمراد أفندي الجابري والد المترجم
محررة سنة ١٢٤٧ ، وهي تفيد أن مراد أفندي المذكور كان من أهل العلم والفضل أيضا.
١٣٠٧ ـ حسني بك باقي زاده المتوفى سنة ١٣٢٥
حسني بك ابن
الحاج أحمد أفندي ابن عبد القادر آغا المعروف بباقي زاده ، السريّ ابن السريّ.
ولد في حلب
خامس عشر ذي الحجة سنة ١٢٥٩ ، ولما ترعرع تلقى القراءة والكتابة عند الشيخ سليمان
أفندي في المكتب المعروف بمكتب السبيل في محلة سويقة الحجارين ، ثم تلقى مبادىء
العلوم الدينية والصرف والنحو وفن الإنشاء واللغة التركية ، وألمّ بالفارسية ، ثم
تلقى اللغة الإفرنسية والإيطالية على معلم مخصوص إلى أن برع فيهما ، ثم لازم في
قلم المجلس الكبير في ولاية حلب. وما زال في ترق إلى أن تولى رياسة كتاب ديوان
تمييز الولاية ، ثم صار عضوا فيها ، ثم عين قائمقام لبيره جك فألبستان ، وما زال
يتقلب في هذا المنصب إلى أن عيّن رئيسا لديوان التمييز.
وفي سنة ١٢٩٣
انتخب عضوا لمجلس المبعوثين الأول الذي افتتح لأول مرة في أوائل سلطنة السلطان عبد
الحميد خان. ولعنايته بالأمور العمرانية وتوجه همته إليها اهتم بوضع مواد قانون
البلدية ، فأكثر مواد هذا القانون من آثاره.
وفي ذلك الحين
كانت الحرب الروسية على الأبواب ، ولما طرحت قضية الحرب على المجلس كان من رأيه
عدم الحرب ، وذلك لما يعلمه من عجز الدولة عن الحرب وفروغ
بيت المال من الأموال التي عليها المعوّل في الحروب ، وكان رئيس المجلس
أحمد وفيق باشا موافقا لرأيه ، لكنه تغلب رأي القائلين بلزوم إعلان الحرب ، وكانت
النتيجة خسارة الأموال والرجال والبلاد كما هو مبسوط في أخبار هذه المحاربة.
وآخر وظيفة
أسندت إليه عضوية هيئة التحقيق بنظارة الضابطة العثمانية ، ومنها حسب طلبه وإلحاحه
أحيل على التقاعد ، وذلك في جمادى الأولى سنة ١٣١٣ ، فلزم من ذلك الحين بيته وأخذ
في إدارة أملاكه وأطيانه بالإسكندرونة وناحية أرسوز ، وتعاطى الزراعة بنوع تطبيق
على الفن الحديث.
وما زال على
ذلك إلى أن وافته المنية على إثر جموح جواده به وسقوطه عنه أثناء عودته من قصبة (قاب
أو) مركز ناحية أرسوز ، ونقل وقتئذ إلى الإسكندرونة للتداوي فلم ينجع فيه دواء
لكثرة الرضوض وعظم الجروح ، فلبى دعوة ربه في الثالث عشر من شهر شوال سنة ١٣٢٥
ودفن بمدفنه الخاص به بالمحل المعروف بقلعة الصغيرة بالإسكندرونة ، وكان الأسف
عليه عظيما لما كان عليه من العلم والمعرفة والدراية في الأمور والدهاء والمعرفة
بسياسة الدولة العثمانية ، وكان لها اعتماد عظيم عليه ، وانتدبته لكثير من مهام
أمورها ، فكانت تظهر فيها دربته وحنكته.
وكان عارفا
باللغة العربية حسن الإنشاء فيها ، وأما اللغة التركية فكان له فيها اليد الطولى
ويعد في طليعة الكتاب فيها. وكان عارفا باللغة الإفرنسية والإيطالية ملما
بالفارسية والعبرانية والأرمنية ، اهتم بهذه اللغة على أثر الثورة الأرمنية التي
حصلت في الزيتون ، وقد بسطنا أخبار هذه الفتنة في أواخر الجزء الثالث .
مؤلفاته :
كان للمترجم
عناية بجمع الكتب واقتنائها ، صرف فيها مبلغا عظيما ، فكان لديه مكتبة نفيسة غير
أنها ذهبت طعمة الحريق الذي حصل في داره في الحوادث الأرمنية التي حصلت في
الإسكندرونة في شباط سنة ١٩١٧ م الموافقة سنة ١٣٣٧ هجرية.
وله كتاب «منهاج
الأرب في تاريخ العرب» يبحث عن عوائد العرب وحالتهم وعيشتهم
__________________
في الجاهلية وصدر الإسلام ، ألفه على إثر إعلان ملك الأسويج والنرويج
أوسكار الأول بأن من ألّف في هذا الموضوع وحاز قصب السبق فله جائزة كذا ، فكان من
جملة من ألّف في ذلك المترجم ، والذي فاز بقصب السبق وحاز الدرجة الأولى العلامة
محمود شكري الألوسي البغدادي في كتابه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» ، وقد
طبع مرتين الثانية في مصر سنة ١٣٤٣. وحاز كتاب المترجم الدرجة الرابعة ، وبيض من
تأليفه نسختين قدم إحداهما للملك المشار إليه وبقيت الثانية عنده ، غير أن السلطان
عبد الحميد كان لا يسمح في زمنه بطبع أمثال هذا الكتاب لما فيه من نشر آثار العرب
وفضائلهم خصوصا إذا كان من قبل موظف في حكومته ، فبقي هذا الكتاب مهملا محفوظا في
خزانة كتب المترجم إلى أن حصل الحريق التي ذكرناه فذهب فيما ذهب.
ويسعى الآن ولد
المترجم ثريا بك في استنساخ نسخة منه عن النسخة التي قدمت لملك الأسويج ، وفي عزمه
إذا توفق لذلك أن يسعى في طبعه.
ومن مؤلفاته
رسالة باللغة التركية سماها «عبرت ياخود مرسينده إيكي دوكون» أي عبرة أو عرسان في
مرسين ، وهي درس اقتصادي يفصل فيها حالة الإسراف في الأعراض المؤدية إلى الإفلاس ،
طبعت في الآستانة.
ورسالة في
التركية أيضا في فن الاستنطاق ، ذيّلها ببيان كيفية إصلاح المجرمين وتهذيبهم ،
ووضع فيها خرائط توضح كيفية إنشاء السجون ، وقد طبعت أيضا.
وإحصاء لبلدة
الإسكندرونة يحتوي على نبذة من تاريخهم ويبين ما لموقعها الجغرافي من الأهمية
السياسية والاقتصادية ، وما حوته من أجناس المعادن وما فيها من ينابيع مائية صالحة
للشرب ومعدنية صالحة للاستحمام إلى غير ذلك من الفوائد.
وإحصاء لبلدة
حيفا نظير ذلك الإحصاء ، وكلاهما باللغة التركية ، وقدم الاثنين للمابين الهمايوني
في الآستانة ونال امتنان السلطان عبد الحميد خان منهما.
ورسالة فصل
فيها المسألة الصهيونية قديما وحديثا ، وبين الوسائل التي يقتضي اتخاذها والطرق
اللازم سلوكها تجاه هذه القضية ، وقدم هذه الرسالة للمابين أيضا ونالت هناك
القبول.
آثاره العمرانية العامة والخاصة :
سعى بواسطة
الإعانة في تأسيس مكتب رشدي ومكتب ابتدائي وعمارة دار وثلاثة دكاكين ألحقها
بالمكتب الابتدائي ، وذلك في الإسكندرونة.
وأسس في حيفا
مكتبا ابتدائيا للذكور وآخر للإناث. ورمم في عينتاب (٣٤) دارا للفقراء والأرامل
والأيتام التي خربت دورهم على إثر الزلزلة التي حصلت هناك. وجدد عمارة جسر (قشيق)
في الزيتون ، وكان قد نسف من قبل عصاة الأرمن. وأنشأ هناك ثكنة عسكرية بواسطة
الإعانة مبتدئا بنفسه ثم بما جادت به أكف المحسنين وذوي الحمية. وعمر جسر عفرين
الشهير وكثيرا من الجسور التي بين حلب والإسكندرونة وبينها وبين عينتاب.
ووقف
بالإسكندرونة وفي ناحية أرسوز وقفا على ذريته وفي وجوه البر والإحسان ، وأشفعه
بوقف ثان من جملته حمّام في الإسكندرونة من أحسن حمّامات سورية. وأنشأ غرفة لتدريس
علم الحديث وغرفة للمدرس خاصة وتحتها غرفة لمبيت الغرباء الفقراء الذين يمرون من
الإسكندرونة ، ومكتبا ابتدائيا للصبيان جعل راتب من يتولى التعليم فيه من غلة
وقفه. وأنشأ مخفرا بموقع عين الحرامية في منتصف الطريق ما بين الإسكندرونة وأرسوز
تأمينا للمارة هناك.
خلقه وخلقه :
كان رحمهالله مربوع القامة ، صبيح الوجه ، ممتلىء البدن ، بشوشا حتى
عقب حدته ، وقلما يغضب ، يكره الكبر والخيلاء والتفاخر ، قوي الذاكرة ، محبا
للصراحة في النطق ، بعيدا عن الأذى ، كارها للفسق ، متدينا مواظبا على الصلاة ،
محبا للعدل وإقامة ميزانه ، وله في ذلك وقائع مشهورة وأخبار مأثورة.
ونال من الرتب
الدرجة الأولى من الصنف الأول ، وعلى مقتضى ما كان عليه المترجم من العلم والفضل
والدراية يقتضي أن يشغل في الحكومة العثمانية وظيفة أسمى من القائمقامية ، ولكن
نفسه الأبية كانت تأبى الخضوع والتملق ، ونوال أمثال هذه الوظائف لابد له من سلوك
هذه الطريق وأمثالها ، والمترجم كان بعيدا عن هذه الصفات ، فلذا لم
ينل من الوظائف ما يستحقها ، خصوصا وقد عرفت فيه كبراء الدولة العثمانية أن
فيه نزعة عربية.
وكان قد علم
نوايا الدولة الغربية واتفاقها على تقسيم الدولة العثمانية ، فكان يسعى بالتوفيق
بين مصلحتها وبين النهضة العربية على طريقة اللامركزية ، وتوسيع المأذونية للولايات
العثمانية ليحصل التمرين والملكة والاقتدار على الحكم الذاتي رويدا رويدا ، وفي
ذلك نجاة الدولة العثمانية من خطر التقسيم ، ونهضة لأبناء الناطقين بالضاد. ولكن
لم تتحقق تلك الأماني وكان ما كان من إعلان الحرب العامة وانفراط عقد الدولة
العثمانية وانسلاخ الكثير من ولاياتها ، ولا ندري كيف تكون الأحوال في المستقبل
فإن الله به عليم.
١٣٠٨ ـ الشيخ محمد الجزماتي المتوفى سنة ١٣٢٦
الشيخ محمد بن
عبد الله بن نجيب بن عبد القادر ابن الحاج أحمد الشهير بالجزماتي . عالم تزينت الشهباء بحلي علومه ، وأشرقت في ربوعها
شوارق فنونه ، فاستنارت بها هذه الأرجاء ، وتعطرت بطيب فضله هذه الأنحاء. كان في
الفقه النعماني البحر الرائق ، وانطوى صدره منه على كنوز الدقايق.
ولد رحمهالله سنة ١٢٦٢ أو التي بعدها ، ومن حين نشأته شمر الذيل إلى
طلب العلم وجد في التحصيل ، فتلقى العلوم النقلية والعقلية على جده لأمه العلامة
الشيخ أحمد الترمانيني وشمل بنظره الكريم ، وتلقى علم الفرائض على الفرضي الشهير
الشيخ مصطفى الشربجي.
وذهب إلى مصر
في سنة ١٢٧٨ وجاور في أزهرها ست سنوات ، تلقى العلم على جملة أفاضل ، منهم الشيخ
الدمنهوري والشيخ إبراهيم السقا والشيخ محمد الأنبابي ، وتلقى الفقه الحنفي عن
الشيخ محمد الرافعي وعن الشيخ عبد القادر الرافعي مفتي الديار المصرية.
وبعد عودته من
مصر ، وكان قد امتلأ وطابه ، شرع في نشر علمه وصار يقرأ الدروس
__________________
في الجامع الكبير وغيره ، وهرعت إليه الطلاب وصاروا يقتبسون من أنوار علمه
ويكترعون من كؤوس فضله. وحينما كان الشيخ بكري الزبري مفتيا صار لديه أمينا للفتوى
، وكذلك لما عين العلامة الشيخ أحمد الزويتيني لإفتاء حلب أقر في وظيفته وصار معه
شيخنا العلامة الشيخ محمد الزرقا ، فكانا أميني دار الفتوى لديه ، وناهيك بهما
علما واقتدارا.
وقد لازمته عشر
سنين ممن سنة ١٣١٠ إلى سنة ١٣٢٠ ، وأول ما قرأته عليه متن «تنوير الأبصار» في
الفقه الحنفي في الحجازية في الجامع الكبير ، ثم شرح «الدرر» لملا خسرو ، ثم «الدر
المختار شرح تنوير الأبصار» مع مشارفة حاشية العلامة ابن عابدين عليه. وكان
ابتداؤه فيه في شوال سنة ١٣١٦. وأخبرنا يوم شروعه في قراءته أن سنده في الفقه عن
الشيخ محمد الرافعي الطرابلسي عن الشيخ أحمد الطحطاوي محشّي «الدر المختار» وعن
الشيخ عبد القادر الرافعي عن الشيخ محمد الرافعي المتقدم عن الشيخ أحمد الطحطاوي
بسنده. وكان يقرأ دروسه بدون مطالعة لفرط ذكائه وسرعة خاطره. وبقي في أمانة الفتوى
إلى حين وفاة المفتي الزويتيني وذلك في سنة ١٣١٦ ، وأنهي له في الفتوى بعده من قبل
الوالي رائف باشا لأهليته التامة لهذا المنصب وتضلعه في الفقه الحنفي ، ولم يقسم
له ذلك لأسباب نذكرها في ترجمة الشيخ محمد العبيسي الذي صار هو المفتي في حلب بعد
الشيخ أحمد الزويتيني.
ومن ذلك الحين
ترك هو وشيخنا الشيخ محمد الزرقا وظيفة أمانة الفتوى ، وعيّن لها الشيخ بكري
العنداني وشيخنا الشيخ بشير الغزي.
وبقي مواظبا
على الدروس والإفادة للطلاب مع وجع الصدر الذي كان لا يفارقه إلى أن توفي ليلة
الرابع عشر من المحرم سنة ١٣٢٦ ودفن من الغد في تربة الشيخ ثعلب الواقعة غربي محلة
المشارقة وجنوبي المكتب السلطاني ، وكانت جنازته مشهودة.
وكان ماهرا في
كتابة صكوك المبايعات العقارية ، يرجع إليه فيها وفي المنازعات التي تحصل في
الشركات والمسائل الإرثية ، فكان يفصل بين المتخاصمين ويحكم فيهم بمقتضى الشرع.
ومما نأسف له
أن لم يتصد لتأليف شيء من الكتب ، ولعل اشتغاله بالدروس وأمانة
الفتوى والضيق الذي كان في صدره هو المانع له من التصدي لذلك.
وكان رحمهالله مربوع القامة ، درّي اللون ، أشهل العينين ، مستدير
الوجه ، ممتلىء الجسم ، خفيف اللحية ، لين قشرة المعاشرة ، دمث الأخلاق ، متواضعا
، كريم النفس ، بعيدا عن كل دنية ، وقورا ، محتشما.
وفي الجملة فقد
كان حسنة من حسنات الشهباء وركنا من أركان العلم فيها ، عرف فضله الداني والقاصي ،
وتلقى الفقه عنه كثيرون ، منهم الشيخ علي العالم قاضي حلب الآن والشيخ عمر
المرتيني والمحامي الشيخ عبد القادر السرميني والشيخ أحمد سراج الدين ابن خالته
بنت الشيخ أحمد الترمانيني وغيرهم.
١٣٠٩ ـ الشيخ محيي الدين الباذنجكي المتوفى سنة ١٣٢٧
الشيخ محيي
الدين الباذنجكي ابن الشيخ سعيد ابن السيد عبد الواحد بن مصطفى بن عبد الرحمن
النبهاني المشهور بالباذنجكي ، العالم العامل التقي المرشد.
ولد رحمهالله سنة ١٢٤٢. ولما ترعرع انتظم في سلك الطلاب ، فتلقى
العلوم الآلية والفقهية والحديثية على الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ،
وتلقى الحساب والفرائض على الشيخ عمر ابن السيد محمد بن شيخ أفندي ، وتلقى النحو
أيضا وعلم التفسير والفقه عن أمين الفتوى الفقيه الشيخ مصطفى ابن السيد محفوظ
الريحاوي ، قرأ عليه حاشية الصاوي على الجلالين. وجاور في المدرسة القرناصية خمس
سنين وهو دائب فيها على الاشتغال.
وأخذ الطريقة
القادرية الخلوتية عن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ إبراهيم الهلالي ، وبقي في خدمته
نحو عشر سنين ، وأبوه كان آخذا لها عن الشيخ المذكور كما تقدم في ترجمته. ولما
توفي الشيخ محمد أخو المترجم ، وذلك سنة ١٢٦٠ ، قعد بعد أخيه على السجادة القادرية
في المدرسة الطرنطائية داخل باب النيرب بالقرب من باب الملك ، وصار يقيم الذكر
كأسلافه بعد عصر كل خميس مع الإرشاد والتسليك ، وصار له مريدون لا يحصون.
وكان لما لديه
من العلم يقرأ الفقه والنحو وغير ذلك لطلبة معظمهم من أهل محلته ومريديه ، مع
المواظبة على العبادة والانقطاع إليها وعدم الخروج إلى الأسواق إلا نادرا.
وكان رحمهالله على طريقة حسنة ، لا يتعاطى ما يتعاطاه بعض الجهلة
المنسوبين إلى الطريق من كتابة حجب وتعاويذ لا تفهم معانيها ولا يدرى ما هي ، بل
كان إذا أتي بالمرضى قرأ لهم ما تيسر من القرآن وما جاء في ذلك من الأحاديث
النبوية ، ويكتب لهم تعاويذ كذلك ، وكان الناس يرون بركة قراءته وتعاويذه ويشفى
الكثير منهم بإذن الله تعالى نظرا لصلاحه وتقواه وعظيم اعتقادهم فيه.
وكان رحمهالله حاد البصر ، كان كثيرا ما يرى هلال رمضان وهلال شوال في
أول ليلة مع علو سنه ويريه لبعض أولاده ومريديه ، ويأتي حينئذ للمحكمة الشرعية
ومعه من رآه من جماعته ويشهدون بالرؤية ، فيزول بذلك الشك والارتياب ، وتقطع جهيزة
قول كل خطيب.
وكان رحمهالله درّي اللون ، مستدير الوجه ، بدينا ، إلى القصر أقرب ،
نيّر الشيبة جدا ، مهابا لا يشك من رأى نورانية وجهه أن قلبه ملىء تقوى وإخلاصا.
ولم يزل على ما
هو عليه إلى أن وافته المنية مساء الثلاثاء عاشر رجب سنة ١٣٢٧ ، ودفن من الغد واحتفل
في جنازته احتفالا بالغ الحدود ، ودفن في حجرة في المدرسة المتقدمة ، وكان الأسف
عليه عظيما. وكانت مدة قعوده على السجادة سبعا وستين سنة ، ولذا كثر أتباعه
ومريدوه وصاروا لا يحصون كثرة ، رحمهالله تعالى.
١٣١٠ ـ عبد الرحمن زكي بك المدرّس سنة ١٣٢٧
عبد الرحمن زكي
بك ابن حسين باشا المدرس ، وجيه ارتضع ثدي المكرمات طفلا ، وسطعت كواكب مجده كهلا
، وظهرت عليه أمارات النجابة منذ نعومة أظفاره ، فكانت تبشر بسمو مقداره.
حصل جانبا من
العربية وأكب على درس اللغة التركية إذ كانت هي الرائجة في ذلك الحين ، فحصل منها
قسما وافرا وصار له فيها الإنشاء الحسن.
وتقلب في عدة
مناصب أولها عيّن مميزا في قلم مكتوبي الولاية ، ثم عيّن عضوا في مجلس إدارة
الولاية بقي في ذلك مدة طويلة.
وكان لا يألو
جهدا في قضاء مصالح الناس وإن لم تساعده الظروف على قضاء مصلحة اعتذر أحسن اعتذار.
ومع وجوده في عضوية مجلس الإدارة صار عضوا في لجنة دائرة الأوقاف وفي لجنة
المهاجرين وفي لجنة النافعة. وورث أملاكا وقرى عن والده ، وزادت أملاكه على ما
ورثه من أبيه لعنايته بالزراعة.
وكان من صلحاء
الوجهاء ، حسن الاعتقاد ، محبا لأهل العلم والفضل ، مواظبا على الصلاة. وكان لا
يدع صلاة الصبح في جامع المدرسة العثمانية الواقع بالقرب من داره ، وربما أيقظ
خدمة الجامع للصلاة ، وبعد عودته يقرأ جزءا من القرآن ، ثم يجلس لاستقبال الزائرين
إلى الضحوة الكبرى ، ثم يذهب لمجلس الإدارة.
وكان سمح اليد
، وبيته محط الرحال ، يؤمه الولاة والمأمورون المعينون لهذه الولاية والذاهبون إلى
البلاد الشرقية والآيبون منها ، إذ لم يكن في الشهباء وقتئذ فنادق منظمة كما هو
اليوم. وكان الآتون للشهباء والمارون بها ينزلون في البيوت كل صنف من الناس عند
صنفه ، وكان هذا هو المعتاد في البلاد السورية والمصرية والعراقية والأناضولية
وغيرها. وسمعت بعض الوجهاء يقول بعد وفاة المترجم : إن زكي بك ممن بيّض وجوه
الحلبيين بصدره الرحب وحسن قراه لمن أمّ منزله.
وكان يلقب بزكي
بك ، ثم لما أنعمت عليه الدولة العثمانية برتبة (أمير ميران) صار يدعى زكي باشا ،
أنعم عليه برتبة (روم إيلي بكلربكي) ثم برتبة (بالا) وهي أكبر الرتب القلمية.
ومن آثاره
الخالدة الجامع العظيم الذي عمره في المحلة المعروفة بالجميلية ، وسبب عمارته له
أنه لما عمر جميل باشا والي حلب داره خارج باب الفرج غربي نهر قويق وغربي التربة
الدقماقية التي درس معظمها واتخذ منها جادة وبني في قسم كبير منها دار عظيمة هي
الآن دائرة الاقتصاد العامة [وقد ذكرت ذلك في ترجمة الوالي جميل باشا في الجزء
الثالث] صار الناس يبنون هناك الدور ، وبني هناك المكتب السلطاني الكبير ، وتتابع
البناء فأصبحت محلة واسعة سميت في دوائر الحكومة محلة السليمية ، غير أنه غلب
عليها إلى الآن اسم (الجميلية) نسبة إلى جميل باشا المتقدم الذكر ، عند ذلك رأى
المترجم أن المحلة أصبحت في حاجة لبناء جامع فيها ، فاهتم في ذلك واشترى أرضا
مساحتها ١٤٦٠ ذراعا بالذراع
النجاري وبنى فيها جامعه الذي سمي باسمه ، وكان الباني له الحاج علي صهريج
البنّاء المشهور ، وصرف في عمارته نحو ١٥٠٠ ليرة عثمانية ذهبا ، وبعض الناس يقولون
إن بعض هذا المصروف من وصية زوجة عمه تقي الدين باشا ، ولا صحة لذلك ، بل جميعه من
ماله الخاص. وكان بناؤه له سنة ١٣١٧ وعيّن له إماما الشيخ الفاضل ابن خالي الشيخ
محمد كلزية ، وهو إمامه إلى يومنا هذا ، وبنى في الجهة الشمالية من الجامع حجرتين
مقبوتين بالأحجار إحداهما لسكنى الإمام والثانية لوضع أدوات الجامع ، وحجرة كبيرة
معدة لتعليم أطفال المسلمين القرآن العظيم ، وبنى صهريجا مقبوا بالأحجار واقعا تحت
قبلية الجامع يملأ من ماء المطر ، ووضع جرنين يملآن من الصهريج المذكور ليشرب
منهما الناس.
ووقف على هذا
الجامع في هذه المحلة أربعة دور متلاصقة بناها ودارا وجنينة وعرصة لبناء إصطبل
مساحة الجميع ٣٣٥٥ ذراعا بالذراع النجاري كما هو موضح في كتاب وقفه المؤرخ في ثامن
عشر شهر ذي القعدة سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية. ومما شرطه في
هذا الكتاب أن يشتري المتولي عليه من ريع هذه الدور كل سنة قبل عيد الفطر خاما
وطرابيش ونعالا بمبلغ خمسمائة قرش يوزعها على الأطفال الأيتام الفقراء الذين
يتعلمون في مكتبه المذكور ، جزاه الله عن سعيه أحسن الجزاء وأجزل له الثواب بمنّه
وكرمه.
وكانت وفاته
يوم الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ألف وثلاثمائة وسبع وعشرين عن ستين عاما ،
ودفن في تربة الجبيلة ، رحمهالله تعالى.
ولما أتم بناء
الجامع امتدحه الشيخ أحمد ابن الشيخ شهيد الترمانيني مفتي حارم بأبيات مطرزا فيها
اسم المترجم في أول كل كلمة من الشطرة الأولى وذاكرا الجامع في آخر كل كلمة منها
بحيث صار المجموع بيتا على حدة في كل شطرة منه تاريخ البناء ، وذلك سنة ١٣١٧ ،
وطرز اسمه في أول كل كلمة من الشطرة الثانية ، وهي :
(ز) زها بارق الشهباء والمنهل العذب (ب)
|
|
(م) مقاصفها يرتاح في شمها القلب
|
(ك) كما شاء قلبي والهوى لي منهج (ج)
|
|
(ن)
نهاني النهى عن غيه وله أصبو
|
(ي) يواصلني في حندس الليل طيفها (أ)
|
|
(أ) أفيق ولي والفجر في وصلها حرب
|
(ب)
بدوت وما في البدو قصدي ولم أحم (م)
|
|
(ح)
حمى وصلها والصب بغيته القرب
|
(أ) ألا يا بني الشهباء هل ثم سامع (ع)
|
|
(م) مجير فلي في طيّ بلدتكم نحب
|
(ش)
شوى قلبي الولهان وجد مبرح (ح)
|
|
(د) دعاني لها والحب منهجه صعب
|
(أ) أنادي وهل بعد الزكيّ محافظ (ظ)
|
|
(م)
مودة من يحويه مجلسه الرحب
|
(ل)
لرب البرايا تم بالخير سعيه (ه)
|
|
(ف)
فدونك والتقوى بجامعه تربو
|
(ه)
هويّ دجى الأسحار لله خاشعا (أ)
|
|
(ت) تراقبه الأملاك في الليل والكتب
|
(أ) أعدّ سبيلا ماؤه الوفر هاطل (ل)
|
|
(ي) يباح إلى الظمآن منهله العذب
|
(ل)
له الأثر المشكور لله باقيا (أ)
|
|
(ح) حميدا وكم لله في دينه صحب
|
(ف) فكم ثمّ في ملك الحميد محاسن (ن)
|
|
(أ) إليه انتمت حقا وفيه لها حب
|
(ض)
ضيا الدين في أيام دولته ولو (و)
|
|
(ر)
رفعت لقلت الكون والملك والحرب
|
(ل) لإحسان باريه الزكيّ مناظر (ر)
|
|
(م)
من الغرّ أبناء المدرس هم حزب
|
زكي باشا له
الفضل ١٣١٧ بجامع حظه الأنور ١٣١٧ من أحمد مفتي حارم ١٣١٧.
ومما يجدر ذكره
هنا أنه لما عمر الجامع اتخذ فيه منبرا ، إلا أن السلطان عبد الحميد
خان لما كان لا يأذن بإقامة الخطبة لما يتجدد في زمنه من الجوامع ، وذلك
بسبب الوهم الذي كان مستحوذا على أفكاره ، بقي الجامع من حين أن عمر إلى سنة ١٣٢٨
لا تقام فيه الخطبة ولا تصلى فيه الجمعة. ففي هذه السنة سعى السيد بهاء بك الأميري
حينما كان مبعوثا عن ولاية حلب في مجلس المبعوثين الذي عقد في الآستانة في
الاستحصال على الإرادة السلطانية بالإذن بإقامة الخطبة فيه ، وتوفق إلى ذلك ،
واحتفل في أول خطبة أقيمت فيه ، دعي إلى حضور ذلك الاحتفال العلماء والوجهاء ،
وكان الخطيب يومئذ شيخنا الشيخ بشير الغزي وتعرض في أثناء الخطبة للثناء على من
سعى في هذا العمل المبرور. وبالجملة فإن إنشاء هذا الجامع في هذه المحلة كان له
وقع كبير في النفوس ، جزى الله بانيه أحسن الجزاء وأجزل له الثواب بمنّه وكرمه.
١٣١١ ـ الشيخ حسن الكيّال المتوفى سنة ١٣٢٩
الشيخ حسن ابن
الشيخ طه الكيّال ، العالم الصوفي الرفاعي الطريقة.
ولد سنة ١٢٦٩.
وبعد أن أتم القراءة والكتابة أخذ في تحصيل العلم ، فقرأ على الشيخ عمر الطرابيشي
والشيخ إسماعيل اللبابيدي ، وكانا يأتيان إلى زاويتهم المعروفة في محلة وراء
الجامع ويقرأان له الدروس ، وعلى الشيخ عبد القادر المشاطي والشيخ محمد الزرقا.
وكان في مبدأ
أمره يلبس فاخر اللباس ، ثم خلع ذلك وصار يلبس خشنه ، وأخذ في رياضة نفسه وتقليل
الطعام والانقطاع إلى العبادة ، وربما ذهب للاحتطاب ليأكل من ثمن كسبه الحلال ،
وصار يذهب إلى مزارات حلب ويظل في كل مزار ساعات ، وحصل له شيء من الجذب ، دام على
هذه الحالة نحو ثمانية عشر عاما لم يأو في هذه المدة إلى فراش ، وإذا نام ينام
متربعا أو محتبيا ، وقلّ أن ينام قبل طلوع الفجر ، ويظل ليله مراقبا ذاكرا.
وصار للناس فيه
اعتقاد عظيم ، وهرعوا لأخذ الطريق عنه ، وكثر مريدوه وازدحموا على حضور مجلس ذكره
في كل ليلة جمعة.
وفي سنة ١٢٩٨
حج للبيت الحرام ، وذهب معه نحو عشرين من مريديه كان ينفق عليهم من ماله ، وصرف في
هذه الحجة نحو ١٢٠٠ ليرة عثمانية ذهبا. وحصل معه في حجته هذه مسألة اشتهرت عنه
وزادت في اعتقاد الناس فيه ، وهي أنه حينما كان هناك
أتي له برجل مقعد ، فقرأ له ما تيسر فقام في الحال بإذن الله تعالى. وشاع
ذلك في مكة ، ولا زالت تتناقل هذه الحكاية إلى الآن.
وحج ثانية في
سنة ١٣٠٤ وكان معه نحو ٣٠ شخصا ينفق عليهم نفقة واسعة ، وقد باع للأولى والثانية
بعض أملاكه التي ورثها عن أبيه وصرف ثمنها في هذا السبيل.
ولما كان هناك
بلغه أن أناسا من العبيد عليهم ضريبة لأسيادهم يؤدونها لهم مياومة ، فاشتراهم
واعتقهم ، وكانوا ثلاثة عشرة عبدا.
وأعتق في حلب
ثلاثة من العبيد وسبعا من الجواري ، وزوّج بعضهم.
ورحل في سنة
١٣٠٢ إلى القدس الشريف على قدم التجريد ، وكان معه عدة من مريديه ، وزار من هناك ،
ومن جملة من كان معه أخي الكبير الشيخ محمد رحمهالله ، وكان من خواص مريديه بل أول مريد لديه لما كان عليه
من العلم. وكان قبل سفره إلى مكة ومجاورته بها ملازما للشيخ يكاد لا يفارقه ،
وكانا متساويين في السن ، فكان يأتي سيدي الأخ إلى الزاوية كل ليلة غالبا ويطالعان
سوية في كتب الصوفية مثل «الإحياء» وغيره ، وكانا عالمين باصطلاحاتهم عارفين
بكلامهم معرفة تامة ، وكانت محبتهما لبعضهما محبة خالصة لا يشوبها شيء من المنفعة
الدنيوية ، وهي التي يسميها الصوفية المحبة في الله. وبعد أن سافر أخي إلى مكة
للمجاورة والتجارة كانت المكاتبات لا تنقطع فيما بينهما ، ولما حج الشيخ حجته
الثانية كان أخي هناك ، فلقي هو وإخوانه من أخي كل ما فيه راحتهم. وظلت المكاتبات
بينهما إلى أن توفي أخي رحمهالله سنة ١٣٠٧ كما تقدم في ترجمته.
وبعد أن عاد من
حجته صحا من جذبه وعاد إلى لبس فاخر اللباس ولازم زاويته للإرشاد وإقامة الذكر ،
ومريدوه كل يوم في ازدياد ، حتى أصبحوا لا يحصون كثرة.
وكان من شأنه
أن يسمر مع زائريه إلى الساعة الرابعة والخامسة ويذاكرهم في مسائل علمية وأدبية
وتاريخية. وقد كان له إلمام في التاريخ ومعرفة تامة في الأنساب خصوصا أنساب
العائلات الشهيرة في حلب ، ويعظهم بالمواعظ الحسنة بما يرقق قلوبهم ويوجب إقلاعهم
عن المعاصي والدنيئات وتخلقهم بالأخلاق الحسنة ، ويؤلف فيما بينهم بحيث يصدق في
حقهم قوله تعالى (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).
وتزوج رحمهالله ست زوجات جمع بين أربع. وحدثتني زوجته السيدة الشريفة
عائشة بنت الحاج صادق الموقت ، وهي بنت أختي من الرضاعة ، فإن أمها السيدة فاطمة
بنت السيد الحاج محمد الطباخ شقيق جدي وعم والدي كانت رضعت من والدتي ، قالت : كان
الشيخ بعد أن ينتهي من سمره مع الناس يدخل إلى منزله الداخلي إلى بيت من يكون
دورها ، وتكون متهيئة له مترقبة حضوره ، فإذا أتى قامت بواجب خدمته من تقديم
القهوة والنارجيلة ، وبعد أن يتحدث مع إحدانا يأخذ في مطالعة الكتب ، وربما أسمعنا
ما فيه عظتنا ومسائل فقهية يقتضي أن يتعلمها النساء ، ونظل معه هكذا إلى الثلث
الأخير من الليل ، فينهض إلى التهجد وقراءة أوراده إلى أن يؤذّن الفجر ، فعند ذلك
يؤدي الصلاة وينام ولا يزيد نومه على خمس ساعات ، وربما نام أقل من ذلك ، وبعد أن
يستيقظ يقوم فيتوضأ ويأخذ في صلاة الضحى ، ويتناول لقيمات إن لم يكن أصبح صائما
ويخرج إلى الزاوية. بقي على ذلك ثمانية عشر عاما إلى أن توفي رحمهالله تعالى ا ه.
وكان كثير
الصدقة ، يقوم بمؤنة كثير من البيوت. وعمر مسجدا صغيرا في أول محلة العقبة قبيل
الخان المعروف بخان كامل.
وكان مربوع
القامة أبيض الوجه خفيف اللحية ، الحمرة لا تفارق عينيه ، وهي أمارة الشهامة وقوة
النفس ، عظيم المهابة يهابه كل من رآه ، سواء في ذلك من عرفه ومن لم يعرفه ، لا
يزور أحدا من الحكام ولا الأمراء ولا يرغب في أن يقابلهم ، وبعد جهد حتى قبل زيارة
جميل باشا والي حلب ، ولا يزور أحدا من الأغنياء ، بل كان الجميع يسعون لزيارته
والتبرك بتقبيل يده وحضور مجالسه المفيدة الخالية عن اللغط ولهو الحديث.
ولم يزل على
حرمته وحسن طريقته إلى أن توفي بعلة الصدر ليلة الجمعة تاسع عشر المحرم سنة ١٣٢٩
في الأيام التي حصلت فيها الثلوج العظيمة ودامت نحو أربعين يوما واشتد فيها البرد
إلى أن وصل إلى ٢٠ أو ٢٢ تحت الصفر ، وكثر الموت في تلك السنة خصوصا في القادمين
إلى حلب من الأطراف والخارجين منها إلى غيرها ، فقد مات أشخاص كثيرون
__________________
في البراري لشدة البرد من كثرة الثلج الذي بلغ أزيد من ذراع في كثير من
الأماكن ودام أياما ، وتعرف هذه السنة بسنة الثلج ، وصارت تاريخا لوفاة أناس
وولادة آخرين ، ولذا كان مشيعو جنازة الشيخ يوم وفاته قليلين ، ولو لا ذلك لكان له
جنازة حافلة نظرا لكثرة مريديه ومحبيه وعظيم اعتقاد الناس فيه ، ودفن في تربة
العبّارة خارج باب الفرج ، رحمهالله تعالى وأغدق عليه سحائب رضوانه.
ورثاه غير واحد
من شعراء عصره ، منهم الشاعر الفاضل السيد محمد أفندي الحريري مفتي حماة ، قال في
مطلع مرثيته :
لفقد كبّارنا
تجري مآقينا
|
|
دمعا يكاد
لظى مجراه يكوينا
|
وما البكاء
بمطف لوعة سكنت
|
|
منا القلوب
ولا السلوان ينسينا
|
ما حلية
العبد في الأمر المحتم
|
|
والإله جلّ
له ما شاءه فينا
|
وهي طويلة.
ومنهم الأديب الفاضل الشيخ كامل الكيّالي الإدلبي قال في مطلع مرثيته :
قفا نبك من
ذكرى حبيب نغادره
|
|
حيارى عليه
الدهر كنا نحاذره
|
قفا فقفارا
عن بعيد أرى الحمى
|
|
ولست بدار
كيف بادت حواضره
|
قفا أو قفا
دمعي على غير نعيه
|
|
ولا تطلبا
قلبي فقد طار طائره
|
قفا أرشداني
أين أغدو وأحسنا
|
|
فما (حسن)
بعد (ابن طه) أثابره
|
وهل بعده من
مرشد عن حقيقة
|
|
إلى الرشد
تهدي السالكين زواهره
|
وهي طويلة في
٨٢ بيتا ختمها بقوله :
عليه سلام
الله ما دام ذكره
|
|
وما جده (الهادي)
تحج حظائره
|
وما زال مخضل
الرياض ضريحه
|
|
بمزن الرضى
ما أفعم الكون عاطره
|
وما (كامل)
الأشجان يندبه المدى
|
|
قفا نبك من
ذكر حبيب نغادره
|
١٣١٢ ـ عبد الفتاح الطرابيشي
الشاعر المتوفى سنة ١٣٣٠
عبد الفتاح بن
محمد أمين بن عبد الفتاح بن محمد أمين بن عبد الكريم بن يوسف ابن محمد دخيل الله
المشهور بالطرابيشي ، الشاعر الأديب ، من سكان محلة السفّاحية.
ولد سنة ١٢٧٧.
ونشأ ملما بالقراءة والكتابة ، وفي العشرين من العمر حبب إليه حفظ القرآن العظيم ،
فباشر في ذلك ، ولفرط ذكائه وقوة حافظته حفظه في ستة أشهر ، ثم حفظ دلائل الخيرات.
وفي أثناء ذلك لازم شيخنا الشيخ محمد السراج في جامع الرومي وأخذ عنه بعض المقدمات
النحوية ، فصار له نوع معرفة فيه ، غير أنه صار يقرأ بعد ذلك بدون لحن إلا قليلا ،
وذلك لكثرة مطالعته في الكتب الأدبية والدواوين الشعرية ومشافهته العلماء والفضلاء
، خصوصا شيخنا العلامة الشيخ بشير الغزّي. ثم حفظ كثيرا من المقامات الحريرية ،
وعني بقرض الشعر. وما زال يعلو فيه شرفا ويهبط واديا إلى أن تحسن شعره وصار مقبولا
لدى الأدباء ، ثم جمعه في ديوان حافل استعرته من أبناء أخيه وبقي عندي أياما فإذا
هو قد استهله بقصيدتين طويلتين مدح بهما الشيخ علي اليشرطي شيخ الطريقة الشاذلية ،
مطلع الأولى :
غرام أقام
القلب مني وأقعدا
|
|
وصيرني فوق
التراب مسهّدا
|
ومطلع الثانية
:
لاحت بمظهركم
في الكون أسرار
|
|
فأشرقت في
قلوب الناس أنوار
|
ويغلب على شعره
التغزل والهجو ، وهو في هجوه أحسن منه في تغزله. وقد أكثر في شعره من التشطير
والتخميس والتطريز للأسماء ، فمن شعره متغزلا :
هذا الجمال
له في الذكر آيات
|
|
وفي الأنام
وما يحكى روايات
|
حسن بديع
أراد الله يظهره
|
|
فكنته وبدت
منك العلامات
|
غدوت سلطان
حسن في الملاح لذا
|
|
في خدك الخال
بانت منه رايات
|
محوت كل جمال
فيه حين بدا
|
|
للناظرين
وهذا المحو إثبات
|
لله درك من
ظبي خلقت كما
|
|
تهوى ولله في
هذا إرادات
|
أصبحت فتنة
هذا الكون منذ نصبت
|
|
سهام لحظك في
العشاق كسرات
|
تغدو القلوب
إذا ما مست منعطفا
|
|
لها من الوجد
كرّات وفرّات
|
حكيت بدرا
بنور قد زها وعلا
|
|
وفاته منك
لفتات وقمزات
|
يا يوسف
الحسن يا من عزّ عن شبه
|
|
كم في الهوى
لك قد حنّت زليخات
|
فتنت في طرفك
الماضي القلوب لذا
|
|
في صحن خدك
منها بان حبات
|
أفدي قواما
كرمح ظل معتدلا
|
|
له بكل قلوب
الناس طعنات
|
وخمر ثغر
تفوق الشهد ريقته
|
|
لذيذ طعم وكم
لي فيه سكرات
|
إني لأعجب من
ضدين قد جمعا
|
|
وذاك في الخد
نيران وجنات
|
نبي حسن أتى
يبدي الغرام لنا
|
|
من قام في
لحظه الفتان فترات
|
دعا القلوب
فلبته على عجل
|
|
وصححت ما
ادعى منه الإشارات
|
تلقى إذا ما
بدا الأبصار حاسرة
|
|
كالشمس تحفظه
منها أشعات
|
فيا رعى الله
من ذلت لسطوته
|
|
أسود غيد لها
في الحرب صولات
|
وله مورّيا
باسم رشيد :
بروحي غزالا
من بني الروم أهيفا
|
|
تسامى بحسن
ما عليه مزيد
|
إذا ضلت
العشاق في ليل وجهه
|
|
هداهم بصبح
الوجه منه رشيد
|
وله مورّيا :
بروحي غزالا
صاد قلبي بلفظه
|
|
وحاز كمال
اللطف والظرف والذوق
|
لقد ذبت شوقا
في الأنام بحبه
|
|
ولا عجب أن
ذبت في الحب من شوقي
|
وله مؤرخا بناء
منارة الساعة خارج باب الفرج ، وقد ذكرت ذلك في الجزء الثالث (ص ٣٩١) :
قد شيد
بالشهبا منارة ساعة
|
|
تزهو بإتقان
وحسن براعة
|
في دولة
الملك الحميد المرتجى
|
|
الثاني الذي
ساس الورى بدراية
|
وبهمة الوالي
الرؤوف أخي الحجا
|
|
وصنيع قوم من
أعاظم سادة
|
فهم رجال قد
روى تاريخهم
|
|
لعلائهم حتى
قيام الساعة
|
وقال مما يكتب
على فوطوغراف :
قد قلت لما
الشمس أبدت رسمكم
|
|
كيما يكون
لحسنكم أبهى أثر
|
لله در الشمس
لو لا نورها
|
|
ما أبصرت كل
الورى وجه القمر
|
وقال أيضا :
لما تزايد
وجد الشمس في قمر
|
|
كسته نورا
بديعا يدهش النظرا
|
وصورته على
بعد لرؤيته
|
|
والشمس لا
ينبغي أن تدرك القمرا
|
وله مشطّرا :
شكوت إلى
الحبيبة حين راحت
|
|
تماطلني
وقلبي ذو شجون
|
فألوت جيدها
عني وأمّت
|
|
إلى قاضي
المحبة تشتكيني
|
فقلت لها
ارحمي ضعفي فقالت
|
|
مقالك بات
ضربا من جنون
|
أتطلب رحمة
في العشق مني
|
|
وهل في العشق
يا أمي ارحميني
|
ومن بديع شعره
تخميسه لرائية أبي فراس الحمداني ، وأوله :
أرتني وجها
دونه الشمس والبدر
|
|
وثغرا به
تزهو اللآلىء والدرّ
|
وقالت وقلبي
لا يزعزعه الهجر
|
|
أراك عصيّ الدمع
شيمتك الصبر
|
أما
للهوى نهي عليك ولا أمر
|
فإن شؤون
الحب وجد وروعة
|
|
وسقم وتبريح
وشوق وفجعة
|
فقلت ولم
تعثر بعيني دمعة
|
|
بلى أنا
مشتاق وعندي لوعة
|
ولكن
مثلي لا يذاع له سرّ
|
فديتك قلبي
كم أضرّ به الجوى
|
|
وما ضل عن
نهج الغرام ولا غوى
|
ولست شديد
الحبل بالحب والقوى
|
|
إذا الليل
أضواني بسطت يد النوى
|
وأذللت
دمعا من خلائقه الكبر
|
فكم أذكرتني
من أحب نوائحي
|
|
وأجرت عيوني
من دموع سوافح
|
وللغيد إن
حنت وأنّت جوانحي
|
|
تكات تضيء
النار بين جوانحي
|
إذا
هي أذكتها الصبابة والفكر
|
ألا من لصب
قد أطالت ديونه
|
|
مهاة ولم
تصلح بوصل شؤونه
|
أقول لها
والسقم أبدى شجونه
|
|
معللتي
بالوصل والموت دونه
|
إذا
متّ ظمآنا فلا نزل القطر
|
جمالك يا ذات
المحاسن دلني
|
|
على حسن لطف
بعد عزي ذلني
|
ومن أجل حب
في هواك أعلّني
|
|
بدوت وأهلي
حاضرون لأنني
|
أرى
كل دار لست من أهله قفر
|
وقال في آخره :
وإني فتى قد
شاع في الناس فضله
|
|
وفاق على
الآفاق بالكون أصله
|
وأنى لهم
إبعاد مثلي وفصله
|
|
وقائم سيفي
فيهم دق نصله
|
وأعقاب
رمحي منهم حطم الصدر
|
تركت أهيل
الحي مذ بان صدهم
|
|
وقاطعتهم لما
تشاءم ودهم
|
فلا تفتكر
مهما تعاظم عدّهم
|
|
سيذكرني قومي
إذا جدّ جدّهم
|
وفي
الليلة الظلماء يفتقد البدر
|
وسوف يعض
الدهر صاح بنابه
|
|
عليهم
ويسقيهم كؤوس مصابه
|
وليس لهم
غيري لرد عذابه
|
|
ولو سدّ غيري
ما سددت اكتفوا به
|
وما
كان يغلو التبر لو نفق الصفر
|
فهيهات أن
يأتي الزمان بمثلنا
|
|
رجالا تخاف
الأسد من يوم حربنا
|
فنحن كرام
نلقي بالبشر بيننا
|
|
ونحن أناس لا
توسّط بيننا
|
لنا
الصدر دون العالمين أو القبر
|
فليس مدى
الأيام تلوى رؤوسنا
|
|
لنذل ولا
نرضى لئاما تسوسنا
|
وإن بالوغى
للفخر نادت عروسنا
|
|
تهون علينا
بالمعالي نفوسنا
|
ومن
يخطب الحسناء لم يغله المهر
|
لقد بان منا
الفضل في سائر الملا
|
|
وأصبح شمسا
للنواظر يجتلى
|
ولم لا وإنا
بالمفاخر والولا
|
|
أعزّ بني
الدنيا وأعلى ذوي العلا
|
وأكرم
من فوق التراب ولا فخر
|
وقال في باب
التزهد :
تأمل ليس غير
الله باقي
|
|
ولا حصن من
المقدور واقي
|
ولا مال يذبّ
ولا نوال
|
|
ولا جاه ولا
سمر الرقاق
|
لعمري إن عزّ
المال ذلّ
|
|
إذا ما كان
يجمع للمحاق
|
هي الدنيا
فكن يا صاح منها
|
|
على حذر
فحسبك ما تلاقي
|
حذار حذار لا
تركن إليها
|
|
فشيمتها
الخديعة بالنفاق
|
فدعها
والسلام عليها إني
|
|
رأيت رفاقها
بئس الرفاق
|
(هكذا)
فهل للمرء
فيها غير ثوب
|
|
ولقمة جائع
وشراب ساق
|
فقل للجاهل
المغرور مهلا
|
|
ستشرب مشربا
مر المذاق
|
وتندب حين لا
يجديك ندب
|
|
وتصبح بعد
عزك بالوثاق
|
ألا يا مالك
الأموال رفقا
|
|
فإنك ميت
والمال باقي
|
تأن أيها
الجاني تأن
|
|
فما لك دون
رزقك من تراق
|
فخير الناس
في الدنيا سرور
|
|
كثير الخير
محمود السباق
|
وأفضل سيرة
إن رمت تلقى
|
|
كتاب الله
أفضل ما تلاقي
|
مضى ذكر
الملوك فأين كسرى
|
|
وقيصر أين
هارون العراق
|
وأين من
ابتنى الهرمان
قدما
|
|
وأضرم نار
حادثة السباق
|
مضوا كل فلم
يبق سوى من
|
|
تفرد بالبقاء
بلا شقاق
|
وأضحوا بعدما
كانوا ملوكا
|
|
عبيدا يرتجو (هكذا)
فضل العتاق
|
فما يا صاح
في الدنيا صديق
|
|
صدوق صدقه
عقد النطاق
|
يريك الود إن
أبذلت مالا
|
|
ويلوي كشحه
وقت النفاق
|
فلا تأمن
لغير الله طرا
|
|
ولو آلوا
لودك بالطلاق
|
فعش فردا وثق
بالناس شرا
|
|
وحاذر في
اصطباحك واغتباق
|
وقال من طريق
الحماسة والفخر :
سواي جزوع من
أقل المصائب
|
|
فيهوى دنيّ
العيش بين المضارب
|
وإني لا أخشى
زماني وصرفه
|
|
ولا أبتغي
إلا قراع الكتائب
|
لي الهمة
العليا إلى الغاية التي
|
|
أنال بها في
المجد أعلى المراتب
|
لقد أدّبتني
يقظة الرأي والحجا
|
|
كما أدّبت
غيري ضروب التجارب
|
__________________
إذا النفس
ناجتني بمطلب راحة
|
|
أريها بعزمي
عكس ما في المطالب
|
فما عاقني عن
مطلب العز عائق
|
|
وما عابني
إلا كثير المعايب
|
ومن كان مثلي
كامل الحلم والوفا
|
|
قليل أعاديه
كثير المصاحب
|
وهل لي معاد
غير حاسد نعمة
|
|
وأحمق ذي جهل
رديء المشارب
|
قنوع من
الدنيا الدنية بالمنى
|
|
يرى السلم
فيها من أجلّ المكاسب
|
يعد ذنوبي
حجة حسب زعمه
|
|
وما لي ذنوب
غير بذل الرغائب
|
أحب الذي
يغدو محبا إلى العلا
|
|
وأكره من
يكفيه أخذ المواهب
|
وإن أطرب
الأقوام عود ومنشد
|
|
فإن التذاذي
صاهلات السلاهب
|
وإن حنّ غيري
للحسان فإنني
|
|
أحنّ إلى ضرب
السيوف القواضب
|
عجبت لمن
أمسى يشبب بالدمى
|
|
ويمدح ربات
الخدور الكواعب
|
فلو كان يدري
المجد والفخر والعلا
|
|
تخيّر لثم
الترب دون الترائب
|
فهيا بنا يا
دهر إن كنت تبتغي
|
|
قراعي وحارب
إن أردت تحاربي
|
لعمرك قد
خابت ظنونك إنما
|
|
أنا الصادح
المحكي بين الأعارب
|
رويدك لا
تدري لمن أنت طالب
|
|
فخل سبيل
الغي واتبع مآربي
|
فما كل مطلوب
يقدر للفتى
|
|
ولا كل ممنوع
يفوت لطالب
|
وإني من
القوم الذين بجدهم
|
|
تساموا على
كل الكرام النجائب
|
إذا سالموا
كان السلام بقولهم
|
|
وإن ضاربوا
كانوا أسود المضارب
|
تقول لي
العلياء وهي عليمة
|
|
بشدة حزمي
واشتهار مناقبي
|
بحقك ما هذا
التواني وإنني
|
|
أراك غفولا
عن منال المناصب
|
عهدتك ذا عزم
وحزم وهمة
|
|
وقلب جسور
عند وقع النوائب
|
فقلت لها إني
كما تعهدينه
|
|
ولكنما
الأيام ذات عجائب
|
ذريني فقد
حنّت قلوصي للسرى
|
|
وضاقت بذرعي
واسعات السباسب
|
فلا صاحب
إلّا سنان وصارم
|
|
ولا مؤنس إلا
حداة الركائب
|
جدير لمثلي
أن تراءى له العنا
|
|
بملعبه يعتاض
غير ملاعب
|
فلو لا
انتقال البدر ما كان كاملا
|
|
ولا راقبت
مرآه عين مراقب
|
وبالمكث يبقى
سائغ الماء آسنا
|
|
ويعذب إذ
يجري لدى كل شارب
|
يلومونني [ه]
الأعداء فيما أرومه
|
|
ولم تدر أن
اللوم شر العواقب
|
فيا ليت أمي
لم تلدني وليتني
|
|
خلقت كما
أهوى ونلت مطالبي
|
سلامي على
الدنيا إذا كان أهلها
|
|
يواسون فيها
كل كاس وكاسب
|
وقال مضمنا بيت
ابن الوردي :
(واهجر الخمرة إن كنت فتى)
|
|
ذا عفاف
يبتغي خير العمل
|
وإذا
استعملتها كنت كمن
|
|
ترك الأنس
وبالهم اشتغل
|
إنما الهم
جنون عجبي
|
|
من أناس قد
رضوا ذاك الخبل
|
هل سوى
المجنون يبغي شربها
|
|
(كيف يسعى في جنون من عقل)
|
وفي هذا
المقدار كفاية.
وكان مربوع
القامة ، نحيف الجسم ، أسمر اللون ، معروق الوجه ، أحول ، خفيف الروح ، له حانوت
في سوق العطارين يتعاطى بيع الطرابيش فيه. ولخفة روحه وحسن محاضرته وسرعة أجوبته
كان يؤم عشاق الأدب ومحبوه ويحاضرونه ، غير أنه كان يغلب عليه في محاضراته المجون
، ولا يلقي بالا لما يصدر منه ، ولذلك كثرت هفواته وسقطاته. ومن العجيب أنه لم
يعمل بمقتضى أبياته الأخيرة ، بل كان سامحه الله يتناول من أم الخبائث ، فأثرت في
جسمه تأثيرا بينا وزادت في نحافته ، ثم ساقته إلى مرض الفالج الذي يعتري الكثير
ممن يتعاطاها ، وذلك في سنة ١٣٢٩ ، فلزم الفراش وأضاع في مرضه حواسه.
ولم يزل يقاسي
آلام السقام إلى أن سقته المنية كاس الحمام ، وذلك ليلة الثلاثاء حادي عشر المحرم
سنة ١٣٢٠ ، ودفن في تربة باب المقام ، رحمهالله وعفا عنه. وعاش عزبا.
وقول الأديب
قسطاكي بك الحمصي في ترجمته في كتابه «أدباء حلب» إنه توفي سنة ١٣٣١ هو سهو ،
والصواب ما ذكرناه.
١٣١٣ ـ الشيخ محمد البدوي المتوفى سنة ١٣٣١
الشيخ محمد ابن
الشيخ أحمد بن محمد المشهور بالبدوي ، من عشيرة بني جرادة ، العالم الفاضل الزاهد
الورع.
ولد رحمه في
أراضي دابق ودويبق سنة ١٢٤٩. وتعلم القراءة والكتابة عند أبيه ،
وكان من حين نشأته محبا للعلم مجبولا على التقوى والزهد. وبعد وفاة أبيه
أتى إلى حلب وذلك في سنة ١٢٧٥ وأقبل على الاشتغال وتحصيل العلم ، فقرأ النحو
والصرف وفقه الشافعي وبعضا من تفسير البيضاوي على الشيخ الكبير الشيخ أحمد
الترمانيني ، ولازمه مدة طويلة ، وكان جل تحصيله عليه ، وكان للشيخ عناية خاصة فيه
لصلاحه وورعه ، وقرأ المغني والشفا والشمائل والبخاري ومعظم مختصر السعد على الشيخ
عبد السلام الترمانيني ، والدر المختار في الفقه الحنفي مع حاشية العلامة ابن
عابدين على الشيخ علي القلعجي ، والطريقة المحمدية على الشيخ أحمد الزويتيني مفتي
الحنفية. وقرأ على الشيخ إسماعيل اللبابيدي والشيخ مصطفى مدرس المدرسة العثمانية
والشيخ أحمد الحجار. ودرس بنفسه كتابين في فقه الإمام مالك وكتابا في فقه الإمام
أحمد بن حنبل.
وجاور في
السيافية والإسماعيلية والقرناصية ، وأخيرا جاور في العثمانية ، وبقي فيها مدة
طويلة يدرس فيها الفقه الشافعي والصبان على الأشموني في النحو وغير ذلك.
وكان قلّ أن
يخرج من هذه المدرسة ، ولا شغل له إلا إفادة الطلاب والتعبد ، قليل الاختلاط
بالناس ، ملازما لحجرته ، إذا رأيته من بعد تخال فيه سمة البساطة والغفلة وليس
كذلك ، بل كان ذكيا نبيها ، لكنه يتغافل ، يدلك على ذكائه أنه كان حفظ القرآن عن
ظهر قلب في شهر واحد في شهر رمضان ، كان يحفظ كل يوم جزءا مع الإتقان ، وكان يحفظ
متونا كثيرة. وكان كثير الترنم بتائية الإمام السبكي ومنظومة الوعيظي ، وكان كثير
التلاوة ولا يفتر كشيخه الشيخ أحمد الترمانيني عن قراءة فاتحة الكتاب وجعلها ورده
، قانعا من الدنيا بالكفاف ، لا يمسك ذهبا ولا فضة ، متوكلا ، معروفا بكرم النفس
وسماحة اليد ، يتحرى المال الحلال على قدر إمكانه ويصرفه على نفسه وإخوانه.
ولد له ولد
سماه باسم أبيه أحمد ، عاش تسع سنين ومات ، فاحتسبه ولم يعقب بعده ، وربما قصد
للرقيا والكتابة وتظهر بركة نفسه وكتابته بإذن الله تعالى.
وألف حاشية
حسنة مطولة على شرح العلامة السعد التفتازاني لمختصر الزنجاني في الصرف سماها «الفتح
الرباني على شرح العلامة التفتازاني» في ٢٨٠ صحيفة ، وعندي منها نسخة خطية ، ويوجد
منها في الشهباء عدة نسخ. وله مؤلف آخر في علم المنطق سماه «فتح الوهاب على مغني
الطلاب» في ١٧٠ صحيفة.
وكان مربوع
القامة إلى الطول أقرب ، بدينا ، وقورا ، ساكنا ، حسن الشيبة ، خشن الثياب ، يقتصر
أيام الصيف على ثوب أبيض مفتوح الجيب إلى أنصاف ساقيه على مقتضى السنة. وبالجملة
فإن سيما العلماء العاملين كانت بادية عليه يتراءى ذلك لرائيه لأول نظرة.
وكانت وفاته
سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وثلاثين ، ودفن في تربة الجبيلة ، رحمهالله تعالى.
١٣١٤ ـ الشيخ محمد الكلّاوي المتوفى سنة ١٣٣٤
الشيخ محمد بن
طالب بن سعيد بن أمين بن محمد الكلّاوي (بكسر الكاف وتشديد اللام) نسبة إلى كلّة :
قرية من أعمال حلب تابعة لقضاء إدلب.
ولد في قرية
كلّة وبها نشأ ، ثم لما ناهز الاحتلام أتى به والده إلى حلب وأدخله المدرسة
الشعبانية ، وأخذ في تحصيل العلم فقرأ على الشيخ شهيد الترمانيني ، والشيخ الزاهد
الشيخ إسماعيل اللبابيدي ، والشيخ أحمد الترمانيني ، والشيخ علي القلعجي ، والشيخ
حسين ناجي الكردي مدرس الأحمدية ، والشيخ عبد السلام الترمانيني ، وشيخنا الفقيه
الشيخ محمد الزرقا. ولما فضل وتنبّل أخذ في التدريس في المدرسة الشعبانية ، ودرس
في المدرسة الهاشمية كما سيأتي في ترجمة الشيخ محمد رضا الزعيم.
وكان شافعي
المذهب بارعا فيه ، قرأ فيه عدة كتب ، وله معرفة تامة في الفقه الحنفي أيضا.
ويتعاطى كتابة الصكوك واللوائح ويرتزق من ذلك. وعيّن مرتين أو ثلاثا في رئاسة
كتّاب المحكمة الشرعية ، إلا أنه كان ينازع في ذلك ولا يهنأ في البقاء فيها مدة
طويلة.
وله عدة تعاليق
على عدة كتب ، منها تعليقات على حاشية البناني على جمع الجوامع في أصول الفقه
الشافعي ، ومنها تقريرات على حاشية الشيخ سليمان الجمل على شرح المنهج لشيخ
الإسلام القاضي زكريا في الفقه الشافعي ، وتقريرات على حاشية الدر لابن عابدين في
الفقه الحنفي ، وتقريرات على حاشية بافضل في الفقه الشافعي ، وتقريرات على «مجلة
الأحكام العدلية» ، وتقريرات على حاشية الدسوقي على المختصر للسعد التفتازاني ،
وحواش لطيفة على حاشيتي القونوي والشهاب الخفاجي على تفسير القاضي البيضاوي.
وبالجملة فإن تعاليقه كانت كثيرة يفعل ذلك في كل كتاب يقرؤه.
وحصلت له كائنة
قضت أن تقبض عليه الحكومة العثمانية وعلى ولده الشيخ توفيق وتنفيهما إلى جزيرة
رودس. وخلاصة هذه الحادثة أن إمام مسجد الكيزواني في محلة العقبة ، ويقال له الشيخ
عبد العزيز العلاني ، كان لا يقوم بأمر المسجد كما يجب ، فتحرك أهل المحلة عليه
وأخذوا يسعون في رفعه من الإمامة وقطع علاقاته بوقف هذا الجامع ، فلاذ الإمام برجل
كان ساكنا في هذه المحلة منفيا من قبل السلطان عبد الحميد خان اسمه رضا بك ياقولي
، فتداخل هذا بالأمر مع أهل المحلة فلم يفد شيئا ، وعزله متولي الجامع بإصرار أهل
المحلة ، فعندئذ كلف رضا بك إمام المسجد أن يقيم دعوى على المتولي وأن مثله لا
يعزل إلا بموجب شرعي وبعزل القاضي. وترامى الإمام علي رضا بك أن يكلم الشيخ محمد
الكلّاوي المترجم حينما يزور رضا بك ، وكان صديقا له ، أن يوكل له شخصا يطمئن هو
له ليدافع عن قضيته ، فدعا رضا بك للشيخ محمد الكلّاوي وللشيخ محمد البيانوني
لمنزله وكلفهما مساعدة العلاني وأنه هو يقوم بما تحتاجه هذه الدعوى من نفقات
المرافعة ، ووضع أهل المحلة محاميا من قبلهم ، وأخذت هذه القضية دورا مهما وتحزب
للطرفين أناس ، وكان رضا بك كل يومين أو ثلاثة يستدعي المترجم لمنزله ويذاكره في
هذه القضية وسير المرافعة فيها ، فيوما كان عنده فتذاكرا في الشؤون العامة ، فجرهم
الحديث لأسباب قيام الأرنوؤط وقتئذ (ورضا بك هو من عظماء الأرنؤوط) وما يجريه
الاتحاديون في الآستانة وغيرها من الخروج عن حدود الشرع وتقبلهم للمدنية الغربية
بجميع حذافيرها وعملهم بقوانينها ونبذهم الشريعة الغراء بتاتا.
فقال له
المترجم : لو كان هؤلاء الثائرون قائمين لإعلاء كلمة الله وتأييد الشريعة المحمدية
لكان قيامهم مشروعا ، وحيث إن قيامهم ليس لهذه الغاية فإنهم لا ينجحون ولا
يتوفقون. فأجابه : إن قيامهم ليس إلا لانتهاك حرمات الشرع. وأشار عليه أن يكتب
ثلاث عرائض : الأولى تتضمن أن ترك العمل بالشريعة الغراء والاستعاضة بالقوانين
الأوربوية لا يجوز شرعا ، وعليه نطلب إبطال هذه القوانين والرجوع إلى ما أمر به الشرع
المبين ، إذ لا يوجد شيء لا يكون قد نص عليه في الفقه الإسلامي ، وإن كنتم غير
قادرين على هذا العمل فإن هناك من العلماء من يؤسس لكم قانونا على وفق الشرع ، وإن
لم تعملوا به فإنا سنقاتلكم إلى النهاية.
فحررت العريضة
بهذا المآل ، وأرسلت مع شخص مخصوص من قبل رضا بك لتسلم
إلى علماء وأشراف (ياقوه) بلدة رضا بك ليقدموها إلى الآستانة ويطلبوا العمل
بمقتضاها.
والعريضة
الثانية قدمت في البريد إلى علي بك ابن رضا بك المتقدم ، وكان وقتئذ مبعوثا في
مجلس المبعوثين عن أهالي (ياقوه) ليقدمها للمجلس ويقدم معها تقريرا له يقترح به
العمل بما فيها.
والثالثة قدمت
للمشيخة الإسلامية في الآستانة ، وهذه وقع عليها رضا بك والشيخ محمد الكلّاوي
المترجم وولده الشيخ توفيق والشيخ حمادة البيانوني والشيخ عبد العزيز العلاني إمام
المسجد وأحمد أفندي الحسبي وأحمد أفندي الخياط الكاتب في دائرة كتابة العدل الآن ،
وكلهم من أخصاء المترجم.
فالتي قدمت
لباب المشيخة أطلع شيخ الإسلام للصدر الأعظم عليها. وكان وقتئذ في الآستانة جمعية
دعيت الجمعية المحمدية وتوسعت وتشعبت هناك ، فاهتمت لها الحكومة العثمانية
الاتحادية وخشيت العاقبة ، فأوعزت إلى ناظر الداخلية أن يرسل إلى والي حلب يأمره
بالقبض على الموقعين على هذه المضبطة ويرسلهم مخفورين إلى الآستانة ، فكان ذلك
وقبض عليهم وعلى رضا بك ، وذلك في ربيع الأول وربيع الثاني من سنة ١٣٢٧ وسنة ١٣٢٥
رومية وسنة ١٩٠٩ ميلادية ، إلا الشيخ محمد البيانوني فإنه تمكن من التواري وصار
ينتقل من قرية إلى قرية ومن بيت إلى بيت ، والحكومة هنا لم تشدد في القبض عليه
لعلمها بعدم تداخله ، ولما كان عليه من البساطة ، وأرسل الباقون إلى الآستانة.
وقد ظن
بالآستانة أن لهؤلاء علاقة بالجمعية المحمدية ، لأن مآل مطالب الفريقين واحد ، وظن
أن ذلك من تحريكات السلطان عبد الحميد وأن رضا بك من أعوانه ومروجي فكرته ، وكان
الأرنؤوط من محبي السلطان عبد الحميد.
والرسول الذي
كان يحمل العريضة إلى بلاد الأرنؤوط ألقي عليه القبض في سلانيك لاشتباههم به ،
وأخذت منه العريضة مع كتاب رضا بك المرسل معه لكبراء بلاد الأرنؤوط الذي يحثهم فيه
على تقديم هذه العريضة وطلب تحقيق ما فيها. واستنطق هناك الرسول عما هو حادث في
حلب ، فحدثهم بالقصة واجتماع المترجم برضا بك وما جرى بينهما ، وأرسلت تلك
الإفادات إلى الآستانة وأودعت جميع الأوراق إلى ديوان الحرب هناك ، وكان يرأس
الديوان خورشيد باشا ناظر البحرية ، فأخذت إفادات المقبوض عليهم ، وأخيرا حكم
عليهم بالإعدام. وبتوسط علي بك ابن رضا بك المبعوث الأرنؤوطي وتوسله لدى
محمود شوكت باشا ناظر الحربية بدّل حكم الإعدام بالنفي المؤبد إلى جزيرة رودس ،
فأرسلوا إليها وبقوا هناك ثلاث سنوات وأربعة أشهر ، ثم بتوسط مبعوثي حلب وقتئذ
نافع باشا الجابري والشيخ بشير الغزي وبواسطة علي باشا المصري عم سعيد حليم باشا
الصدر الأعظم إذ ذاك صدر الأمر السلطاني بالعفو عنهم ، فأطلقوا عندئذ وعادوا إلى
حلب ، وكان ذلك سنة ١٣٣٠.
وكانت وفاة
المترجم في السابع والعشرين من ربيع الثاني سنة ١٣٣٤ ، ودفن في تربة الشيخ ثعلب
الملاصقة للمكتب السلطاني ظاهر حلب في غربيها ، رحمهالله تعالى.
١٣١٥ ـ الشيخ محمد رضا الشهير بالزعيم الدمشقي المتوفى سنة ١٣٣٤
الشيخ محمد رضا
بن محمد بن يوسف الدقّاق الشهير بالزعيم ، الدمشقي المولد والمنشأ.
ولد سنة ١٢٧٤ ،
ونشأ في طلب العلوم والتحلي بالكمالات. قرأ في الشام على الشيخ ملّاطه الكردي
والشيخ محمد الطنطاوي وملا ناصر الدين الجيلاني وملا عيسى الكردي نزيلي دمشق.
وتلقى فنون الأدب على العلامة الشهير الشيخ طاهر الجزائري ، والحديث وعلم الوضع
والبيان على الأستاذ بدر الدين المغربي المحدث الشهير وأجازه إجازة عامة.
ورحل إلى مصر
ودخل الأزهر فجاور فيه سبعة أشهر ، حضر فيه على الشيخ زين المرصفي والشيخ محمد
البيسوني والشيخ محمد الأنبابي. ثم عاد إلى دمشق وأتم تحصيله فيها. ثم أخذ في نشر
علمه في الشام وضواحيها.
ثم رحل إلى
الآستانة سنة ١٣٠٤ ودخل في امتحان مفتي آلاي وعيّن في هذه الوظيفة. وأرسل إلى
طرابلس الغرب مع حسن أديب باشا وأخذ في نشر العلم هناك ، وتلقى عنه عدة من
أهاليها. ثم عاد منها إلى دمشق. ثم عيّن لامتحان الطلبة للقرعة العسكرية في
قيسارية ، فتوجه إليها وبقي هناك سنتين.
ولما حصلت الثورة
الحورانية سنة ١٣١١ رافق الحملة التي أرسلت من طرف الحكومة العثمانية لتأديب
الخارجين عليها من أهالي الجبل. وفي سنة ١٣١٢ عادت الثورة إلى ما
كانت عليه ، فأرسل مع الجيش أيضا وذلك لمعرفته بعقائد الدروز وأحوالهم ،
فكان القواد يستفيدون من رأيه وخبرته بأهل تلك الأماكن ، وأصيب بعدة رصاصات جرحته
جروحا بليغة وشافاه الله منها ، ونال لما أبلاه في قمع هاتين الثورتين رتبة ووساما
من الرتبة الرابعة.
ثم عيّن إلى
حلب سنة ١٣١٣ فأتى إليها وتوطنها نحو عشر سنين وامتزج مع أهاليها تمام الامتزاج ،
وأخذ في إقراء الدروس في داره ، وهرع إليه كثيرون من الطلبة لهمته في قراءة الدروس
ومواظبته على ذلك بحيث لا ترى للملل أثرا في فؤاده. وكنت في عداد من أخذ عنه ،
لازمته نحو أربع سنين قرأت عليه شرح لامية الأفعال والشافية في علم الصرف وحصة
وافرة من حاشية الصبان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك وشرحي السلم للدمنهوري
والباجوري في علم المنطق وشرح آداب البحث العضدية مع حاشية الصبان عليها وشرح
العلامة الدمنهوري المسمى بالجوهر المكنون على منظومته في علم المعاني والبيان
والبديع والكافي في علمي العروض والقوافي ، وكتب لي إجازة حافلة بخطه مؤرخة في
ثالث عشر ذي القعدة سنة ١٣٢٣ وصدرها بقوله :
[الحمد لله
رافع رتب الراغبين إليه ومانع الراغبين عنه خير ما لديه].
وأقرأ مدة
إقامته في حلب حاشية البناني على المختصر وحاشية الخضري مرتين ، ومتن المنهج ومتن
جمع الجوامع في الأصول ومتن الشمسية في المنطق وغير ذلك. وبالجملة فقد انتفع به
غير واحد من الطلبة أثناء إقامته هنا.
وكان هاشم
أفندي الدلّال باشي من وجهاء الشهباء المتوفى سنة ١٣٢٨ عمر سنة ١٣٠٩ مدرسة في محلة
الفرافرة ملاصقة لجامع الزينبية وجعلها طابقين ، ولكنه لم يقف لها وقفا ، فأهملت
وظلت مغلقة الأبواب إلى سنة ١٣٢٠ ، ففيها اهتم بعض أرباب الخير بأمرها وندب
المترجم لفتحها والتدريس فيها ، وأعانه بشيء من المال ، فأجابه إلى ذلك ، وجمع لها
من أهل البر والإحسان ما تمم به نواقصها من أبواب وحديد وغير ذلك ، وشرع في
التدريس فيها حسبة ، فكان أول مدرس بها وعمرها بالطلبة. وفي سنة ١٣٢٢ أمر المترجم
بالتوجه لمرعش مع جنده ، فتوجه إليها ووكل في التدريس فيها الشيخ محمد الكلّاوي ،
فكان يدرس فيها إلى أن توفي سنة ١٣٣٤ ، وبوفاته أهملت ثم أغلقت أثناء الحرب العامة
، ثم صارت مسكنا للفقراء إلى سنة ١٣٤٢ ، ففيها اهتم بأمرها مدير الأوقاف
الحالي السيد يحيى الكيّالي ، فرممها وجعلها دارا للحفّاظ وعيّن لها ثلاثين
طفلا يحفظون فيها القرآن العظيم ، وعيّن لذلك الحافظ المتقن الصالح الشيخ محمد
بيازيد من خواص تلامذة الحافظ الشهير الشيخ شريف ، وهي إلى الآن على ذلك ولنعم
العمل.
عودا إلى
الترجمة :
ولما كان بمرعش
أقرأ شرح الجزرية للقاضي زكريا ومعظم الجامع الصغير في الحديث وغير ذلك. وتوجه
أثناء ذلك إلى الزيتونة فأقام فيها مدة خشية من تعديات الأرمن القاطنين في تلك
النواحي ، فكان يقرأ دروسا عامة للجنود المرابطة هناك. وحصل وهو هناك مرض الحمى (التيفوئيد)
وانتشر في الجيش وفتك فيه فتكا ذريعا ، فكتب القائد هناك إلى مقر قائد الغرفة في
حلب ، لأنه كان مرتبطا به بما حصل فطالت المدة ولم يأت الجواب ، فكتب المترجم
كتابا إلى عزة باشا العابد الكاتب الثاني للسلطان عبد الحميد شرح فيه الحالة ،
فأطلع عزة باشا السلطان على هذا الكتاب ، وحينئذ صدر الأمر بالمبادرة لتأسيس
مستشفى للجنود بمرعش ، وأنجز ذلك بمدة وجيزة ، وساعد أهل الخير في مرعش بإهداء هذا
المستشفى كثيرا من اللحف والفرش والثياب للجنود.
وفي سنة ١٣٢٤
عاد إلى حلب وسكن في محلة آقيول ، وصار يقرأ دروسا في مسجد العريان الكائن في هذه
المحلة. وصادف سقوط الجدار القبلي في هذا المسجد لتهاون المتولي عليه في أمر عمارة
المسجد ، فطلب منه أهل المجلة أن يسعى في عزله ونصب غيره ليقوم بأمر هذا المسجد
ووقفه ، وهكذا حصل. ولما لم تكن واردات وقف هذا المسجد كافية جمع من أهل البر
والإحسان مبلغا رمم فيه ذلك الجدار ، وعمر فيه حجرا جعلت مدرسة وحوض ماء إلى غير
ذلك ، وثابر على قراءة الدرس فيه .
ثم حصل في
أثناء ذلك الانقلاب العثماني ، وذلك في سنة ١٣٢٦ ، وصارت الفتن تنسل من كل حدب ،
فكان للمترجم اليد البيضاء في تهدئة الخواطر والحض على لزوم الألفة والاتحاد ،
وألقى خطبا كثيرة في هذا الموضوع في أنطاكية والإسكندرونة وإدلب والمعرة وغيرها من
معاملات حلب.
__________________
ومن آثاره
اهتمامه في هذه السنين بأمر المدرسة الخسروية وأمر خانها المشهور المعروف بخان
قورت بك ، وسعى إلى عزل متوليه السابق ، واسترجع بعد محاكمات طويلة الخان المذكور
إلى أوقاف المدرسة وصار هو متوليا. ولما اجتمع لديه مقدار من ريع الوقف شرع في
ترميم المدرسة وبناء حجر فيها ، وجدد الرواق الشمالي جميعه على هيئته التي تراها.
وكان ذلك سنة
١٣٣٠ ، وقد بينت ذلك في الكلام على هذه المدرسة في الجزء الثالث (ص ١٥٧). ثم نقل
المترجم إلى الشام لخلاف حصل بينه وبين والي حلب فخري باشا وواليها حسين كاظم بك ،
فلذا لم يتمكن من تتميم ما كان عزم عليه في أمر هذه المدرسة.
وفي أثناء ذلك
حصلت الحرب البلقانية ، فرافق الجيوش التي أرسلت إلى هناك ، وكان يحرض العساكر
التي تحت إمرته على الجهاد ويشجعهم ، وكان في طليعة الزاحفين نحو أدرنة وفي جملة
العساكر الذين دخلوها ، وصعد إلى منبر جامع السلطان سليم وألقى فيه خطبة هامة
حامدا شاكرا على هذا الفتح العظيم.
ولما وضعت
الحرب أوزارها رجع مع فرقته إلى الشام. وبعد أن أقام فيها مدة ذهب معها إلى
المدينة لحفظ الخط الحجازي من تعدي العربان عليه ، وبقي ثمة نحو أربعة أشهر ، ثم
عاد إلى الشام. وبعد أن أقام فيها مدة وجيزة أعلنت الحرب العامة ، وذلك في ١١
رمضان سنة ١٣٣٣ ، وأخذت الدولة العثمانية تجهز الجيوش الجرارة وتحشدها في أطراف
مملكتها ، فتوجه المترجم مع العساكر التي أرسلت نحو ترعة السويس ، وذلك تاسع عشر
صفر سنة ١٣٣٤ ، ولم يأل جهدا في التحريض على الجهاد والثبات في الحرب. وفي ليلة
الثلاثاء الموافق للثامن عشر من ربيع الأول سنة ١٣٣٤ زحفت تلك الجيوش نحو الترعة
والمترجم معها يحرضها ويدعوها إلى الثبات ، فوصلت إليها قبيل الفجر ، فأخذت
الرشاشات الإنكليزية تقذف بنيرانها على تلك الجيوش ، فلم تستطع العبور ، وعزمت على
الثبات في مواضعها ، وأخذت في حفر الحفر لتقيها من تلك القذائف النارية ، إلا أنها
لم تستطع البقاء لأن القذائف كانت تنهال عليهم كالمطر الغزير ، فأمرت تلك الكتائب
بالرجوع ، فشرعت في ذلك ، فمر المترجم من مكان كانت نيران الأعداء مسلطة عليه فأصيب
المترجم بشظية ذهب بها شهيد المعركة. وعند عصر ذلك اليوم بلغ ولده الشيخ صلاح
الدين ، وكان
مرافقا لهذا الجيش أيضا استشهاد أبيه ، فذهب إلى ذلك الموضع وواراه في حفرة
هناك ، رحمهالله تعالى وأجزل ثوابه.
وكان المترجم
أسمر اللون ، مستدير الوجه ، عظيم الرأس ، كث اللحية ، قصير القامة ، بدينا ، قوي
الجسم جدا. وكان مقداما جريئا كثير الحركة والمداخلة مع الحكام بقصد إصلاح ما فسد
من الأمور ، ولا تفتر له في ذلك عزيمة.
ومع ما كان له
من المساعي في حلب وغيرها فإنه لم يخل من ألسنة الناس ، وكانوا يعدون أقدامه جنونا
وجرأته تهورا ، وما أحراه بقول الشاعر :
حسدوا الفتى
إذ لم ينالوا سعيه
|
|
فالناس أعداء
له وخصوم
|
وإنما ترجمناه
في تاريخنا مع أنه ليس على شرطنا ، إذ ليس هو ممن ولد في حلب ولا ممن توفي فيها ،
لآثاره العمرانية العديدة التي قام بها في حلب ، ولأنه ممن تلقينا بعض العلوم عنه
واستفدنا منه كما تقدم.
١٣١٦ ـ محمد أسعد باشا الجابري المتوفى سنة ١٣٣٤
محمد أسعد باشا
ابن علي غالب أفندي ابن سعيد أفندي ابن محمد أسعد أفندي ابن عبد القادر أفندي ابن
مصطفى أفندي الجابري ، السريّ ابن السريّ والوجيه ابن الوجيه ، وقد تقدمت تراجم
آبائه في محالها.
ولد المترجم
سنة ١٢٧٠ ، ونشأ نشأة صالحة بعيدة عن الإلمام بالسفاسف ودنيئات الأمور. وأول ما
تولاه من الوظائف أن صار عضوا في محكمة البداية ، وذلك في سنة ١٢٩٨ ، ثم انتقل إلى
محكمة الاستئناف في سنة ١٣٠٤ وبقي فيها سنتين ، وفي سنة ١٣٠٦ عين عضوا في مجلس إدارة
الولاية ، بقي إلى سنة ١٣١٤ ، ففيها أعيد إلى عضوية محكمة الاستئناف فبقي أربع
سنوات ، ثم اعتزل ولزم بيته إلى سنة ١٣٢٠ ، ففيها أعيد لعضوية مجلس الإدارة ، بقي
فيها إلى سنة ١٣٢٤ ثم استقال ، ثم أعيد إليها في سنة ١٣٢٥ وبقي إلى نواحي سنة ١٣٣٠
، ففيها استعفى ولزم بيته إلى حين وفاته ، وتخلل ذلك أنه توجه وكيلا لمتصرفية
أورفة. وحينما ابتدأت الثورة الأرمنية في جهة الزيتون أرسل لإهماد نار
تلك الفتنة ثمة ، وذلك أيام الوالي حسن باشا أشقورده لي في سنة ١٣١٣.
وكان رحمهالله شهما غيورا ، لا يألو جهدا في قضاء حوائج الناس لدى
الحكام ، خصوصا في مجلس الإدارة الذي قضى فيه مدة طويلة ، مستقيما عفيفا حسن
الاعتقاد مواظبا على الصلاة محبا للعلم وأهله والأدب وذويه ، لذلك كان يغشى منزله
العلماء والأدباء فيرون منه مزيد الإقبال. ولمحبته للعلم ورغبته في إحيائه رمم
مسجد الدليواتي الكائن بالقرب من منزله في محلة الفرافرة ، وبنى فيه ست حجر للطلبة
وحجرة للمدرس ، وعيّن له مدرسا شيخنا العلامة الشيخ أحمد المكتبي الفقيه الشافعي
على أن يدرس فيه الفقه على مذهب الإمام الشافعي رضياللهعنه ، وقصد بذلك إحياء فقه الشافعية الذي كاد يدرس لقلة
علماء الشافعية بحيث لم يبق في الشهباء من يشار إليه فيه سوى شيخنا المتقدم ، وسبب
ذلك إقبال الطلاب على التفقه على مذهب الحنفية ، لأن الإفتاء والقضاء والمعاملات
على ذلك المذهب بمقتضى أوامر سلاطين الدولة العثمانية ، والناس على دين ملوكهم.
وكان افتتاح هذه المدرسة وابتداء التدريس فيها يوم السبت في عشر ربيع الثاني سنة
١٣٢٣ ، وقرىء يوم افتتاحها المولد النبوي حضره بعض العلماء والوجهاء.
وشرط المترجم
أن يكون الطلاب من الغرباء. وبقي شيخنا الشيخ أحمد المكتبي مدرسا فيها إلى حين
وفاته ، وذلك في سنة ١٣٤٢ ، وخلفه في التدريس فيها تلميذه الشيخ سعيد الإدلبي وهو
باق إلى الآن. وصرف المترجم على هذه الحجر وترميم هذا المسجد ٣٠٠ ليرة عثمانية
ذهبا ، ووقف له خانا في محلة باب النيرب في بوابة الشيخ جاكير وثلاثة دكاكين في
طرف الخان ، غير أن الوقفية لم تسجل بعد.
ومن آثاره مسجد
عمره في محلة الصفا ووقف له دكاكين عمرها في جانب المسجد.
وعمر مسجدا في
قرية حليصية وفي قرية فافين ، ومسجدا في قرية تل قراح ، والقريتان الأخيرتان
ملحقتان بقضاء عزاز.
ومن آثاره نشر
كتاب «بدائع الصنائع» ذلك الكتاب الجليل في الفقه الحنفي للإمام الكاساني الحلبي
المتوفى سنة ٥٨٧ ، فإنه طبع على نفقته ونفقة ابن عمه الحاج مراد أفندي الجابري في
سبع مجلدات في مصر في المطبعة الجمالية ، وقد قدمنا ذكر ذلك في ترجمة الإمام
الكاساني.
وكان له عناية
في اقتناء الكتب خصوصا الكتب الأدبية والتاريخية ، وله مطالعة فيها. واستنسخ «الدر
المنتخب في تاريخ حلب» المنسوب لابن الشحنة ، واقتنى نسخة من «در الحبب في تاريخ
حلب» لرضيّ الدين محمد الحنبلي.
ولما عولت على
وضع هذا التاريخ وأخذت في البحث عما هو موجود في الشهباء من تواريخها بلغني أن
عنده «در الحبب» ، فاستعرت النسخة منه وأخذت في استنساخها بخطي ، ولما بلغت نحو
النصف طلب النسخة ، فأحببت أن أطلعه على مقدار ما كتبته منها ، ولما رآها استحسن
خطي ورغب في أخذ نسختي بدل نسخته ، وهكذا كان ، وهي الآن محفوظة في خزانة ولده
نوري بك وهي في ٦٩٦ صحيفة أكملت كتابتها في خامس عشر ذي الحجة سنة ١٣٢٣ ، وقد
ألمعت إلى ذلك في المقدمة في الكلام على «در الحبب».
وعمر في محلة
الفرافرة في الزقاق المعروف بزقاق القنايات دارا عظيمة صرف عليها مبالغ طائلة ،
وزخرف إيوانها زخرفة بديعة بحيث كتب في صدره من قضبان المرمر الأسود بالخط الكوفي
ستة أسطر :
(١) البسملة
(٢) لا إله إلا
الله
(٣) محمد رسول
الله
(٤) صلى الله
عليه وعلى
(٥) آله وصحبه
وسلم
(٦) في سنة
١٣٢٤.
وطول تلك
الكتابة نحو سبعة أشبار وعرضها أربعة ، والحجارة التي بجانبها والقنطرة المتوجة
بها قد نقشت نقشا بديعا. وقد غدت تلك الكتابة وما احتف بها آية في البهاء وحسن
المنظر. ثم بدا له فباعها واشترى عرصة واسعة مساحتها ٢٥ ألف ذراع في الأرض المسماة
بجبل الغزالات شمالي حلب في شرقيها ، وبنى هناك دارا عظيمة بالقرب من الثكنة
العسكرية ليس هناك دار سواها ، قصد بذلك تنشيط النفس وصفاء الهواء ، غير أنه لم
يتم له ما أراد وفاجأته المنية قبل نوال هذه الأمنية ، فمرض أياما وتوفي يوم
الثلاثاء في السادس
والعشرين من رجب سنة ١٣٣٤ ، ودفن بين أقاربه وذويه في تربة مقام إبراهيم عليهالسلام المعروفة بالصالحين ، رحمهالله تعالى.
١٣١٧ ـ محمد صالح آغا كتخدا المتوفى سنة ١٣٣٥
محمد صالح آغا
ابن مصطفى آغا ابن الحاج بكّور آغا ، أحد أعيان الشهباء وسراتها.
وجده الحاج
بكّور آغا هو أول من سكن حلب ، وقد كان قاطنا في بلدة كفر تخاريم من أعمال حلب ،
وكان شيخها والمشار إليه فيها ، وكان مثريا سخي اليد ، فمر به يوما قائمقام
أنطاكية علي رضا باشا ، وكان يوما كثير الأمطار ، فأكرم الحاج بكور مثواه وقام به وبحاشيته
أحسن قيام. ثم عيّن علي رضا باشا واليا على حلب ، وذلك سنة ١٢٤٥. وفي ذلك الوقت
عصا داود باشا والي بغداد ، فأمر علي رضا باشا بالتوجه إلى بغداد لمحاربة داود
باشا ، وصارت تأتيه العساكر إلى حلب وتحتشد فيها ، وأخذ علي رضا باشا في جمع
الذخائر من هذه البلاد ليستصحبها معه ، فتوجه مع بعض العسكر إلى ما حول حلب من
البلاد وفرض على بلدة كفر تخاريم فريضة وحيث إن أهالي هذا القضاء كانوا فقراء
والمترجم غنيا ، فحينما بلغه ذلك قال لأهل بلدته : أنتم لا تدفعوا شيئا ، أنا أعطي
الجميع من مالي. فبلغ ذلك مسامع علي رضا باشا ، فسر لذلك وقدر له هذا الإحسان مع
إكرامه السابق له ، وحينئذ طلب منه أن يستصحبه معه إلى بغداد لفتحها ، وهكذا كان ،
وذهب معه نحو ١٥ شخصا من حواشيه وأقاربه. وبعد أن تم الفتح وانتصر على داود باشا
وأرسله إلى الآستانة توجه هو إليها واستصحب معه الحاج بكور آغا وأدخله على السلطان
محمود ، فأكرمه وأنعم عليه بهدايا ، وبقي هناك إلى حين وفاته بها سنة ١٢٥٨.
وأما المترجم
صالح آغا فقد كانت ولادته سنة ١٢٦٩. ولما ترعرع قرأ على الشيخ علي الكحيل أمين
الفتوى في مقدمات العلوم وعلى غيره من فضلاء عصره ، فحصل من النحو وغيره طرفا ، وحبب
إليه العلم وأهله والأدب وذووه ، ونظرا لثروته أخذ في شراء الكتب واقتنائها ، فصار
لديه مكتبة نفيسة كبيرة تزيد على عشر خزائن فيها عدة كتب من نفائس المخطوطات ،
منها شرح العلامة الزبيدي على القاموس المسمى «بتاج العروس» رأيته عنده ، في تسعة
مجلدات ، ولما طبع هذا الشرح الجليل أرسلت هذه النسخة بالأمر من السلطان عبد
الحميد خان العثماني إلى مصر ، ولما طبع هذا الكتاب أعيدت إلى هنا.

وكان المترجم
يضع في كل بيت من بيوت داره الواسعة خزانة من كتبه فيطالع فيها في الأدب والتاريخ
، وقد كان مولعا بهما ، ويحفظ قسما كبيرا من المعلقات وغيرها. وكان منزله الخارجي (القناق)
مجمعا للعلماء والأدباء أمثال شيخنا الشيخ بشير الغزي وأخيه الشيخ كامل والشاعر
يوسف الداده وغيرهم.
وتولى عدة
وظائف ، فصار عضوا في محكمة بداية الحقوق ، ثم في محكمة استئناف الجزاء ، ورئيسا
لغرفة التجارة في حلب ، وصار رئيسا للمجلس البلدي أولا وثانيا ، وولايته للمرة
الثانية كانت سنة ١٣٢٥ هجرية حينما كان والي الولاية محمد ناظم باشا.
وجرى له معه
حادثة وهي أنه في السنة المتقدمة والتي قبلها حصلت عمارة في الجامع الكبير ذكرناها
في أواخر الجزء الثالث (ص ٤٠١) ، وعيّن المترجم ناظرا للعمل ، وقد فاتنا أن نذكر
ذلك ثمة ، وصرف وقتئذ ألفا ليرة عثمانية ذهبا. ولما قدّم المترجم دفتر المصروف لم
يوافق المجلس على ختمه ، وكان المعارض في ذلك الشيخ محمد العبيسي مفتي حلب لأمر
كان بينهما ، فبلغ المترجم ذلك فحمل ألفي ليرة وذهب إلى المجلس ، ولما دخل قال :
إن ما صرفته على الجامع هو تبرع مني إليه ، وها هي الألفا ليرة. وحينئذ أدرك
الوالي ناظم باشا وبقية الأعضاء سر المسألة وأخذوا في تلطيف خاطره وختموا له
الدفتر وأعادوا له الدراهم.
ومن مزاياه أنه
كان صادق اللهجة مستقيما حسن الوفاء لما وعد به ، مبسوط اليد لا يألوا جهدا في بذل
المعروف لذوي الحاجة والفاقة ، مبذول الجاه لمن قصده بقدر الإمكان ، باش الوجه
متواضعا. وامتدحه عدة من شعراء الشهباء بعدة قصائد. ومع مداخلته في أمور الحكومة
وتوليه للوظائف المتقدمة وغيرها من اللجان (القومسيونات) التي عين فيها تارة رئيسا
وتارة عضوا لم يلبس الثياب الضيقة التي يلبسها الحكام المسماة (بالسترة والبنطلون)
بل بقي على لباسه العربي ، وهو الثوب المعروف بالقنباز ، وفوقه زنار من الشال
الهندي وجبّة طويلة من الجوخ كما تراه في رسمه.
وفي نواحي سنة
١٣٢٧ بعد أن انتهت مدة رئاسته للبلدية لزم بيته وعكف على المطالعة كما قدمنا وعلى
النظر في شؤون أملاكه وزراعته وزيتونه الذي في نواحي كفر تخاريم وسلقين ، إلى أن
وافاه الأجل المحتوم ، وذلك يوم الثلاثاء في العشرين من جمادى الأولى سنة ١٣٣٥ ،
ودفن في تربة الصالحين ، رحمهالله تعالى.
١٣١٨ ـ الشيخ عبد الرحمن الحجّار المتوفى سنة ١٣٣٦
الشيخ عبد
الرحمن ابن الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الحجّار المعروف بابن شنّون ، أحد من تزينت
الشهباء بعلمه ، وجرّت ذيل الفخار بفضله إلى أخلاق كريمة وشمائل حسنة.
ولد رحمهالله تعالى في محلة الفرافرة في حدود سنة ألف ومائتين وسبعين
، ولما بلغ من العمر ثماني سنين توفي والده وذلك في سنة ألف ومائتين وثمان وسبعين
كما تقدم في ترجمته.
وكان قد حفظ
القرآن وجوّده على المقرىء الشهير الشيخ شريف ، ثم خرج من المكتب وسنه إحدى عشرة
سنة وجاور في المدرسة العثمانية مشتغلا بتحصيل العلوم ، فأخذ عن العلامة الشيخ
أحمد الزويتيني مفتي حلب ، وتلقى الحديث عن تلميذ والده الشيخ عبد القادر الحبّال
وأجازه بمروياته عن شيخه والد المترجم ، ولذا كان المترجم بعد ذلك إذا حدّث يقول :
بسندي عن الشيخ عبد القادر عن شيخه والدي الشيخ أحمد عن شيخه فلان ، إلى أن يصل
إلى الإمام البخاري رضياللهعنه. وأخذ أيضا عن الشيخ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني
والشيخ أحمد الكواكبي وغيرهم من فضلاء عصره.
وقبيل
الثلاثمائة وألف توجه إلى مصر فجاور في أزهرها ثلاث سنين تقريبا ، وصادف وقتئذ
احتلال الدولة الإنكليزية للديار المصرية ، وكان رفيقه وقت المجاورة الشيخ عبد
الحميد الرافعي الذي تولى قضاء حلب سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف ، والشيخ محمد
العبيسي الحموي الذي تولى إفتاءها ، والعلامة الشيخ محمد الحسيني الطرابلسي صاحب
التفسير الذي طبع منه الآن جزء واحد.
وفي حدود
الثلاثماية سافر إلى الآستانة وحل ضيفا كريما في منزل الشيخ أبي الهدى أفندي
الصيادي الشهير ، فأكرم مثواه. واتفق له وهو هناك أنه كان يتجول يوما في شوارع
الآستانة ، فساقته التقادير إلى سراي السلطان مراد رحمهالله ، فرآه بعض الخفراء الواقفين هناك ، فمشى نحوه خطوات
وأخذ بيده وكلفه بالرجوع من الحرم إلى الحل ، وقال له : لو رآك غيري لكنت طعمة
للحيتان ، ولكني رأيت زيّك زيّ أهل العلم وعلمت أنك غريب الأوطان ولا تدري ما هو
هذا المكان ، فإياك أن تعود إلى هنا. فكرّ راجعا وقد
امتلأ قلبه فزعا وفرقا ، لأنه كان عالما بما كان عليه السلطان عبد الحميد
من السطوة والبطش.
ثم إن الشيخ
أبا الهدى شوّقه إلى السياحة والرحلة إلى البلاد الهندية بقصد نشر الطريقة
الرفاعية هناك ، وحسّن له ذلك ، فأجابه إلى ما طلب ، وأخذ عنه الطريقة ، وسافر
قاصدا تلك البلاد الشاسعة ، ولما وصلها حاول أن يتوصل إلى غرضه ويقوم بما عهد إليه
، فلم يتمكن من ذلك ، وذلك لشدة تمسك أهالي الهند بالطريقة القادرية واحترامهم
العظيم المجاوز للحد للشيخ عبد القادر الكيلاني ، فأخفقت مساعيه وخابت آمال مرسله
إلى هناك ، فعاد إلى وطنه حلب ، فألقى فيها عصا تسياره.
وكان قبل سفره
وجه إليه درس الحديث في الجامع الكبير وهو درس أبيه ، فأخذ في قراءته وعيّن خطيبا
وإماما في جامع المدرسة الشعبانية ومدرسا عاما في مسجد شاهين بك ، وصار شيخا في
مشيخة الزاوية الهلالية بعد وفاة شيخها الشيخ بكّور الهلالي رحمهالله وكالة عن الشيخ عبد القادر الهلالي ابن الشيخ بكور إذ
كان صغيرا وقتئذ. وصار يقرىء دروسا نحوية وفقهية وغير ذلك ، فتلقى عنه الشيخ عبد
الرحمن أبو قوس والشيخ مظهر أفندي الريحاوي الذي تولى القضاء في عدة أقضية من
معاملات حلب. وصار في أواخر حياته مستشارا في المحكمة الشرعية في حلب والشيخ زكي
أفندي الكاتب قاضي منبج الآن وغيرهم.
وفي سنة عشر
وثلاثمائة عيّن مفتيا للرقة من معاملات حلب ، فتوجه إليها ، ولما وصلها واستلم
زمام وظيفته وجد أهلها على غاية من الجهل في أمور دينهم ودنياهم ، فنشر العلم هناك
وصار يقرأ دروسا عامة ويعظ الناس ويحثهم على إقامة الصلاة ، إذ كان القليل فيهم من
يؤديها لفرط جهلهم ، فلم تمض مدة وجيزة إلا وصار غالب أهاليها يقيمون الصلاة حتى
النساء ، فصدق عليه حديث (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم).
وأقرأ هناك
كتاب «الموطأ» للإمام مالك. والخلاصة أن الأهالي هناك انتفعوا به مزيد النفع إذ قد
طالت مدته فيهم. وسعى في تلك المدة ببناء جامع واسع مشتمل على عدة حجرات ، وبني
بناء حسنا بحيث لا يوجد في البلدة بناء أجمل ولا أحكم منه. وسعى
ببناء مكتب رشدي وصار يحث الناس على تعليم أبنائهم وإخراجهم من هذا الجهل
الفاشي فيهم ، فصار الناس من ذلك الحين يرسلون بأبنائهم لهذا المكتب ، وفشت فيما
بينهم القراءة والكتابة بعد أن كانت الأمية غالبة فيهم.
وكان مع تلك
الهمة آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، وربما سعى وهو في الرقة في إزالة المنكر
بيده ، وذلك لما صار له هناك من الكلمة النافذة والقول المسموع ، ولما في قلوب
الأهالي من المحبة له لما وجدوه فيه من الاستقامة والزهد فيما في أيديهم.
وكان يتردد في
أثناء تلك المدة إلى حلب لزيارة أقاربه وأحبابه ، فكنت أزوره ويزورني لما بيني
وبينه من الصداقة المحكمة والمودة الخالصة من عهد الآباء والأجداد ، بل ولما بيننا
وبينه من نوع القرابة ، فإن أخاه الشيخ عارف الذي لا زال حيا إلى الآن كان متزوجا
ببنت عمتي الحاجّة عائشة. وأذكر أنه في إحدى قدماته صادف أن عقد عقدا لبعض أقاربنا
في قاعتنا الكبيرة في دارنا في محلة باب قنسرين ، وحضر هذا العقد الجم الغفير من
العلماء والفضلاء والوجهاء ، وكان المترجم فخطب خطبة النكاح وهي من إنشائه الحسن ،
فكان لها تأثير عظيم في النفوس ، وكان لها رنة استحسان والكثير من الناس يتذكرونها
إلى الآن.
ولم يزل على
طريقته الحسنة وحرمته وإجلاله عند أهالي الشهباء والرقة إلى أن توفي هناك ليلة
السبت سلخ شهر ذي الحجة سنة ١٣٣٦ ، وخرج لتشييع جنازته معظم أهل الرقة الرجال
والنساء والأطفال ، ودفن بالقرب من مقام أويس القرني ، رحمهالله تعالى. ولما جاء نبأ نعيه إلى حلب أسف عليه جميع عارفي
فضله وكريم أخلاقه.
وكان مربوع
القامة إلى الطول أقرب ، بدينا ، مستدير الوجه أبيضه ، كث اللحية نيّر الشيبة ،
دائم البشاشة يبدو البشر على أسارير وجهه ، محبوبا لدى الحكام والوجهاء مقبول
الشفاعة لديهم.
وله من
المؤلفات رسالة سماها «النافجة المسكية في الظباء الهندية» حقق فيها مسألة الروح
واختلاف العلماء فيها تحقيقا جميلا. ورسالة في التقاء الختانين سماها «الأكسال في
حديث الإنزال» وهو (إنما الماء من الماء) ، وعدة خطب منبرية ملتزما ذكر الفروع
الفقهية والمواعظ الحكمية ، وعدة خطب في عقود الأنكحة منها الخطبة التي ألمعنا
إليها ، ولو لا طولها لأتينا عليها برمتها.
وبالجملة فقد
كان من محاسن الشهباء ومن جملة مفاخرها ، رحمهالله تعالى.
١٣١٩ ـ الشيخ مصطفى الهلالي المتوفى سنة ١٣٣٧
الشيخ مصطفى
ابن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ إبراهيم الهلالي ، الحلبي مولدا
ومنشأ ، الشافعي مذهبا ، القادري الخلوتي طريقة.
ولد سنة ثمان
وستين ومائتين وألف. وكان جده كثير المحبة والعناية به ، ولما بلغ عشر سنين توفي جده
وأوصى به أباه. وفي تلك السنة خرج من المكتب متعلما القرآن والكتابة ، فدخل
المدرسة الشعبانية وأخذ في حفظ المتون وشرع في الحضور على الشيخ محمد شهيد
الترمانيني الفقيه الشافعي المشهور بالعلم والورع ، قرأ عليه كتبا كثيرة ، منها
شرح ابن عقيل على الألفية ، وشرح الأشموني عليها ، والباجوري على شرح ابن قاسم ،
وحاشية الشرقاوي ، والمنهج في الفقه الشافعي.
وتلقى النحو
على شيخنا العلامة الفقيه الكبير الشيخ محمد الزرقا ، وقرأ عليه ثانية حاشية
الخضري على شرح ابن عقيل وغير ذلك.
وقرأ الحديث
على الشيخ عبد القادر الحبّال وأجازه بمروياته وأسانيده.
وقرأ الفقه
الحنفي على شيخنا الشيخ محمد الجزماتي ، حضر عليه حاشية ابن عابدين على الدر
المختار. وقرأ على الشيخ حسين الكردي مدرس العثمانية في الأصول والتفسير ، وآخر ما
حضر عليه تفسير البيضاوي. وأخذ علم الفرائض على الشيخ عبد الرحمن عقيل المشهور في
معرفة هذا العلم.
وفي ٧ رمضان من
سنة ١٢٨٨ توفي والده الشيخ المرشد الشيخ إبراهيم ودفن في تربة الكليباتي خارج باب
قنسرين ، فجلس موضعه على السجادة وأخذ في الإرشاد. وكان قد سلّك على والده وصار
يختلي معه الخلوة الأربعينية مع مريديه ، وقبيل وفاته خلّفه وألبسه الخرقة
القادرية وأذن له بإقامة الذكر. وكان مع ذلك مشتغلا بتحصيل العلم على ما ذكرنا ،
وحفظ القرآن في أثناء ذلك ودلائل الخيرات عن ظهر قلب. وبعد وفاة والده كثر مريدوه
وإخوانه بحيث زاد عددهم على عدد مريدي والده كثيرا ، وصار له إقبال تام وخصوصا عند
أهل البر ، فقد كان لهم فيه اعتقاد عظيم وصار له فيهم خلفاء كثيرون.
وكان يختلي على
العادة في كل سنة أربعين يوما ، يبتدىء بذلك من عشرين شعبان ويخرج أول يوم من عيد
الفطر. وكان معظم أيامه صائما وخصوصا يوم الخميس والاثنين ، فقد كان ملازما
لصيامهما مع الإكثار من تلاوة القرآن ودلائل الخيرات والتهجد.
ومع اشتغاله في
ذلك كان له دروس يطالعها ويقرؤها لبعض الطلبة والمريدين. ومن جملة من أخذ عنه
الشيخ أحمد البدوي الجميلي الذي أقام في المدرسة الشعبانية مدة طويلة ، وكان يقرىء
فيها الطلبة مبادىء العلوم من فقه ونحو ، ومنهم الشيخ سعيد الإدلبي ، والشيخ عيسى
البيانوني وولده الشيخ إبراهيم الذي جلس بعده على السجادة.
وبالجملة فقد
كان رحمهالله شاغلا وقته في التعبد والتهجد وقراءة الأوراد وإقامة
الذكر بعد عصر الجمعة وقراءة الدروس.
وألف كتابا
سماه «إرشاد الخليقة لسلوك طريق أهل الحقيقة» وهو في بيان أركان الطريق ، ومستند
القوم في الرد على المنكرين ، ومقامات النفس ، وفي الفرق بين طريقتي السادة
القادرية والسادة الخلوتية.
ولما كثر
إخوانه بحيث كان تضيق بهم قبلية مسجد الأصفر الذي قدمنا أنه كان يقيم الذكر فيه
سعى في سنة ١٣١٥ في بناء زاوية له في الزقاق المعروف بزقاق أبي درجين في التربة
الخشابية التي قدمنا ذكرها والكلام عليها في الجزء الرابع ص (٣٩٨) ، وقد كانت خربة
مهجورة مغلقة الباب من سنين ، فتح لها بعض مستأجري الفرن الذي في غربيها بابا ،
وصار يضع فيها القش والحطب ، فاستلمها المترجم بإذن من الحاكم الشرعي وشرع في بناء
مكان واسع لإقامة الذكر ومسجد للصلاة وإقامة الجمعة وحجرة للجلوس لها مدخل إلى
مكان إقامة الذكر. وساعده أهل البر والإحسان في مصاريف ذلك ، وأتم هذه العمارة في
سنة ١٣١٧ وصار يقيم الذكر هناك ويجلس في تلك الحجرة لزيارة الإخوان والقراءة
للمرضى وكتابة التعاويذ والحجب لهم والتعبد وتلاوة القرآن وقراءة الدروس.
وما زال على
ذلك إلى أن توفي ضحوة يوم الاثنين رابع ربيع الثاني سنة ألف وثلاثماية وسبع
وثلاثين ، ودفن في تربة الكليباتي رحمهالله رحمة واسعة.
وخلف ذكورا
وإناثا. ووقف على بناته داره العظيمة في محلة الجلّوم في الزقاق المعروف
بزقاق الصليبة ، وهذه الدار هي دار جدي الشيخ هاشم استقل بها بعده عمي
الشيخ عبد السلام فباعها للمترجم سنة ١٣٠٨.
١٣٢٠ ـ الحاج محمد الضالع التاجر المتوفى سنة ١٣٣٧
الحاج محمد بن
محمود بن عثمان المعروف بالضالع ، التاجر الأديب.
كان والده من
القصيم من بلاد نجد ، فانتقل إلى بغداد واستوطنها وملك بها ، وولد له المترجم بها
سنة ١٢٥٩. وبعد أن قرأ القرآن وأحسن الخط وشب صار والده يرسله في تجارة المواشي
بين حلب وبغداد ، إلى أن توفي والده فأقام بحلب واستوطنها ، وذلك بعد سنة ١٢٨٠
تقريبا. وحج منها سنة ١٢٩٢ ، ولما عاد تزوج بها سنة ١٢٩٣. ولا زال دائبا على
التجارة في المواشي ، فوفق في تجارته وأثرى ، ومن ذلك الحين أخذ في عمل البر
والإحسان ، فأنشأ في سنة ثلاثمائة وألف مسجدا في المحلة المعروفة بالضوضو وخصص له
عقارات بجانبه تفي وارداتها لوظائف إقامة الشعائر فيه.
وحبب له وهو
شاب العلم وأهله والأدب والمتحلون به ، فأخذ شيئا من النحو على شيخنا العلامة
الشيخ بشير الغزّي ، وطالع الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضياللهعنه. وأخذ بعد أن صار لديه ملكة حسنة في النحو في مطالعة
كتب التفسير والحديث ، وأكثر من النظر في كتب الأدب والتاريخ ، وأكب على مطالعة
كتب ابن تيميّة وتلميذه ابن القيّم وغيرها من كتب السلف وأخذ في الانتصار لهم.
واجتمع لديه مكتبة نفيسة حوت كثيرا من الكتب المطبوعة لم تزل محفوظة عند أولاده
إلى الآن.
وكان مكثرا من
مطالعة الصحف والمجلات ، واقفا على أخبار العالم وسياسة الدول ، وقلما يخطىء له
رأي في مطالعاته السياسية. ولما نشبت الحرب الروسية اليابانية كان من رأيه من بدء
الحرب فوز اليابان فيها ، وأخذ يبرهن على ذلك خلافا لما كان عليه الأكثرون من
العارفين.
وكان من رأيه
أن لا تدخل الدولة العثمانية في حرب ما مع ولاياتها المنفصلة عنها لما كان يراه من
ضعفها وانصراف أولياء الأمور فيها والقابضين على زمامها إلى البذخ والترف
والانغماس في الملذات والشهوات وارتكاب الموبقات وعدم إقامة العدل وفشو الرشوة في
محاكمها من أكبر مأمور إلى أصغره إلا من رحم ربك ، وهذه الأمور منذرات
بالخراب سائقات إلى مهاوي الهلكة والدمار ، كما قال الله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها
تَدْمِيراً) تلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تبديلا.
ولما أعلنت النفير
العام حينما نشبت الحرب العالمية الكبرى جزم بتشتتها واضمحلالها. وكان لا يعبأ
بانتصارات الألمان ولا يقيم لها وزنا ، ويبرهن على انخذالها في هذه الحرب مهما طال
ثباتها وتوالت انتصاراتها.
وكان من
المنتحلين للمذهب الوهّابي (المنسوب لمحمد بن عبد الوهاب) ومن الدعاة إليه ، يناظر
فيه عن علم ممزوج بآداب المناظرة وحسن المجادلة ، ولا يمنعه عن المجاهرة بعقيدته
وأفكاره مخالفة الناس له في ذلك. ونبذه الناس لانتحاله هذا المذهب لمناظرته فيه
ومطالعته كتب الشيخين ابن تيميّة وابن القيّم وإنكاره الشديد على أهل البدع ،
ونسبوا كل من كان يحضر مجالسه إلى الوهّابية ، فكان يتحاماه أكثر عارفيه خصوصا في
عهد السلطان عبد الحميد ، ومع هذا فإنه لم يزل مصرا على عقيدته ومجاهرته بآرائه ،
لم يثن عزمه لوم لائم ولا وشاية واش.
وله رسالة
وجيزة في الرد على خطبة المسيو جبرائيل هانوتو التزم فيه السجع ، فمنها قوله :
إن مقالته
تقشعر منها الجلود ، وتتفطر منها الكبود ، أوقعت بعض الإسلام في حيرة. وصارت في
مجتمعاتهم سيرة ، وتغيرت منهم السريرة ، فغدوا يتساءلون عن جنايتهم ، فالإنجيل
شاهد ببراءتهم ، وكذلك الإلزاس واللورين ، وهم على ذلك من الشاهدين. وغير معلوم ما
الحادي للوزير على هذا الأمر سوى ما كان من مسألة الحلول بمصر ، وأقرب منه مسألة
فشوده. وما حصل فيها من الإهانة على جنوده ، فهي من أمل غير بعيد وتحمسه على غير
الفاعل ما يطفأ له لهيب.
أعلينا جناح
كندة إذ يغنم غازيهم ومنا الجزاء
__________________
ومنها قوله :
وقد كثر على هذه المقالة الإنكار ، وتجاذبت للاكتشاف على سرها العقول والأفكار.
وأكثر ما وقع في النفوس ، أن الموسيو غير بريء من جناية دريفوس. ولما شاع إعادة
محاكمته ، وطلبها من هو بريء من جنايته ، اضطربت أفكار الوزير ، حذار يوم شره
مستطير ، لعلمه ما بالقوم على وطنهم من الغيرة ، ولا مراعاة لمن خانه أمير كان أو
أميرة ، فاضطرته صروف الأحوال ، إلى أن قال ما قال ، أراد به التمويه على العيون ،
وإن كان عقلاؤهم يعدونه ضربا من الجنون ، ليصد عن دريفوس وإعادة محاكمته الأفكار ،
ويشغلها بخز عبلاته عن كشف الحقايق والأسرار ، فابتدأ قبل الرغاء بالهدير ، فإن
المسيو على نفسه بصير ، تهدد وتوعد ، وللمعاهدات الدولية بدّد ، ولصنعة الخالق
أفسد ، وجدّك لا محبة بالمسيح ولا بغضا بمحمد ، بل لأمر خامر قلبه ، فرام بذلك
قلبه. ا ه.
ومن نظمه قصيدة
رد بها على المصريين ، وسبب ذلك أن الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني
مدح الشيخ محمد بن عبد الوهّاب صاحب الدعوة ومؤسس المذهب الوهّابي في نجد بقصيدة
أولها :
سلامي على
نجد ومن كان في نجد
|
|
وإن كان
تسليمي على البعد لا يجدي
|
سرت نسمة من
أرض صنعا سقا الحيا
|
|
رباها
وحيّاها بقهقة الرعد
|
سرت من أسير
يسأل الريح إذ سرت
|
|
ألا يا صبا
نجد متى هجت من نجد
|
يذكرني مسراك
نجدا وأهلها
|
|
لقد زادني
مسراك وجدا على وجد
|
قفي واسألي
عن عالم حل سوحها
|
|
به يهتدي من
ضل عن منهج الرشد
|
محمد الهادي
لسنة أحمد
|
|
فيا حبذا
الهادي ويا حبذا المهدي
|
لقد أنكرت كل
الطوائف قوله
|
|
بلا صدر للحق
منهم ولا ورد
|
وهي طويلة في
ثمانية وستين بيتا ، فرد عليه الشيخ أبو بكر محمد بن غلبون المغربي الطرابلسي
بقصيدة طويلة أيضا في أربعين بيتا مطلعها :
سلامي على
أهل الإصابة والرشد
|
|
وليس على نجد
ومن حل في نجد
|
بلاد بها بحر
الجهالة مزبد
|
|
وأرض بها بحر
الضلالة مستبدي
|
فهم فرّطوا
في الدين جهلا وأبدعوا
|
|
مسائل عن نهج
الإصابة في بعد
|
فهب سموم
الزيغ من فيح أرضهم
|
|
وقوّاه من
صنعاء من ضل عن رشد
|
غدا ابن
الأمير في تقاريع سوحه
|
|
كعشواء في
الظلماء حيرانة القصد
|
تهوّر في شعر
أناخ رحاله
|
|
بمهمهة قفراء
ظمآنة الورد
|
شفاء غليلي
في خميس عرمرم
|
|
يشن عليهم
غارة البؤس والنكد
|
ورد عليه أيضا
الشيخ مصطفى البولاقي بقصيدة طويلة في مائة وستة وعشرين بيتا مطلعها :
بحمد ولي
الحمد لا الذم أستبدي
|
|
وبالحق لا
بالخلق للحق أستهدي
|
وأهدي صلاة
مع سلام ورحمة
|
|
إلى خير خلق
الله مع كل مستهد
|
وبعد فقد مرت
بسمعي قصيدة
|
|
هدية صنعاني
إلى شيخه النجدي
|
يشم بها ريح
الخنا من مقره
|
|
ويبصر منها
كل مستبشع وغد
|
ومنشؤها جهل
تركب فارتقى
|
|
بموصوفه أعلى
ذرى الزور والجحد
|
وغايتها
تحقيق ما هو باطل
|
|
ومحصولها مدح
بملتزم الضد
|
فرد عليها
الشيخ عبد اللطيف النجدي بقصيدة مطلعها :
تبسّم وجه
النصر في طالع السعد
|
|
وأشرق نور
الحق من موكب الرشد
|
وأيّد نظم
للأمير محمد
|
|
فأدبر نحس
للطوالع بالصد
|
وخر على
الأركان من صنع ماهر
|
|
بناء بناه
الناكبون عن القصد
|
وولى على
الأعقاب أفجر عائب
|
|
يرى نفسه
فردا أشد من الأسد
|
جهول ببولاق
المصرة (ه) جهله
|
|
صريح ينادي
بالتهافت في العقد
|
يحوم من
الغربان يطلب رشده
|
|
وقد ضل من
كان الغراب له يهدي
|
وقد حدت عن
رد عليه بمنطق
|
|
عميم فخذ
بالعلم عن كل مستهد
|
وألق سماعا
للجواب ولا تكن
|
|
جهولا يرود
الباب من جانب السد
|
فلما اطلع
المترجم على الأصل والرد نظم قصيدة في الرد عليهما أيضا أولها :
سلام على من
كان في قوله يهدي
|
|
بأي مكان حل
في الغور أو نجد
|
ولا شك أن
الأرض لم تخل من فتى
|
|
خلائقه ترضي
وأفعاله تجدي
|
ومنها :
ألا خبروني
أنتمو وهمو فمن
|
|
يداهن في
الدين الحنيفي على عمد
|
يرى كل أقوال
الذين تقدموا
|
|
صوابا وإن
كان الحلول بما يبدي
|
وتعظيمهم حتى
غدا الدين هزأة
|
|
لكل جحود
فاقد العقل والرشد
|
عزرتم وعزرتم
به كل مارق
|
|
من الدين حتى
قد تجاوز للحد
|
بتكذيب رسل
الله والكتب التي
|
|
نهتنا عن
الإشراك بالواحد الفرد
|
وهي طويلة
أيضا. وهذه القصائد الخمس قد لخصت آراء الفريقين وما يرمي كل الآخر وما ينتقده
عليه ، وإذا تأملت في ذلك ونظرت إليه بعين الإنصاف رأيت أن الطائفتين قد خرجتا من
حيز الاعتدال ، فالوهّابيون فرّطوا وبعض العوام من الطائفة الأخرى أفرطوا ، وهما
في حاجة إلى القصد في الأمر ونبذ رداء التغالي الذي يتردى به كلتاهما ، فهما
والشيعة إذا جنحوا إلى تلك النقطة والتفوا حولها [وما ذلك على همة علماء الجميع
بعظيم] نجوا جميعا من مخالب الغربي الذي تألب على الشرق ، وكان في ذلك حياتهم حياة
سعيدة وصلاح أمورهم في دينهم ودنياهم. وما أحوج الأمة الإسلامية إلى استبدال هذا
النزاع والشقاق بالوئام والوفاق. ولا سبيل إلى الوصول إلى هذه الضالة المنشودة ما
دامت مختلفة النزعات متباينة العقائد ، فإذا عالجت تلك الأمراض بحكمة وروية لا
تلبس عشية أو ضحاها إلا وتستعيد قوتها بعد الضعف وعزها بعد الهوان. وإني لا أيأس
من أن يطلع فجر ذلك اليوم السعيد وتنير شمسه على العالم الإسلامي فيصبح منيع
الجانب عظيم الشأن قوي السلطان.
ومن نظمه قصيدة
رثى بها أحد علماء وأعيان الموصل مطلعها :
أتى بلسان
البرق ما ضيّق الصدرا
|
|
وهيّج لي
حزنا وقد أقلق الفكرا
|
كأني أرى فيه
الصواعق أبرقت
|
|
وإني أرى من
لمعه البؤس والضرا
|
ومنها :
جليل مقام
نينوى تفتخر به
|
|
على جيله لو
أنه يرتضي الفخرا
|
سقى الله
أرضا حلها صيّب الرضى
|
|
وأبدل قبرا
حله روضة خضرا
|
لقد كان يرجى
منه خير دعائه
|
|
لنفع به في
هذه الدار والأخرى
|
فأصبح محتاجا
إليه ولم نكن
|
|
بأهل له أنى
ونجتلب الوزرا
|
لهونا بدار
اللهو في نحو من نرى
|
|
ونسعى فلا
جهرا سلكنا ولا سرا
|
ونمزج جهلا
بالرياء فعالنا
|
|
ونخلط في
أيماننا سفها نكرا
|
إلى الله
أشكو ظاهري وسريرتي
|
|
وأسأله أمنا
إذا بعثوا غبرا
|
وأسألك اللهم
غفرانك الذي
|
|
هو العيش في
الدنيا الهنّي وفي الأخرى
|
وله غير ذلك من
القصائد.
وكانت وفاته
ليلة الثلاثاء لأربع ليال خلت من شهر رمضان سنة ١٣٣٧ ، ودفن في تربة الشيخ جاكير.
وأوصى بعشرة آلاف ليرة عثمانية ذهبا ، وهي أكبر وصية أوصي بها ، ولم نسمع برجل في
هذا القرن أو الذي قبله أوصى بهذا المقدار ، وقد أنفق من هذه الوصية ألف ليرة يوم
وفاته والتسعة ينفقها أولاده تباعا في حلب وفي بلاد نجد.
وكان رحمهالله حسن الأخلاق رقيق الحاشية مستقيما في أحواله وأطواره
حسن المعاملة في تجارته. وكان يتعاطى مع التجارة بالمواشي والعطارة طبخ الصابون في
المصبنة الكائنة في محلة البياضة ، وكانت إقامته للتجارة بها ، واتخذها سوق عكاظ
يؤمه إليها العلماء والفضلاء ويتطارحون هناك المسائل العلمية والمحاورات الأدبية ،
وخصوصا شيخنا الشيخ بشير الغزّي ، فقد كان كثير التردد إليه والزيارة له ، ولوجود
شيخنا هناك بعد العصر في كثير من الأيام كان الناس يهرعون إليه للاقتباس من فوائده
والالتقاط من فرائده.
١٣٢١ ـ أحمد أفندي كتخدا المتوفى سنة ١٣٣٨
أحمد أفندي ابن
الحاج محمد أفندي ابن الحاج أبي بكر المشهور بكتخدا. وجيه أشرقت في سماء المعالي
أنواره ، وزهت في بروج المجد أقماره ، هو في الشهباء من خواص أعيانها ، ولهذه
الأسرة إنسان عينها ، مع كرم حسب وشرف نسب ، ونباهة فكر واستقامة أمر ، وكرم أخلاق
ينبيك بها عن طيب تلك الأعراق.
ولد رحمهالله سنة ١٢٥٤. ولما صار عمره سنة توفي والده في طريق الحجاز
وهو دون الأربعين ربيعا ، فتربى يتيما في حجر عمه مصطفى آغا. وظهرت عليه أمارات
النباهة والنجابة منذ نشأته. ولما بلغ رشده انتخب عضوا في مجلس الإدارة ، وكان في
سن الثلاثين ، وصار يتقلب في المناصب إلى أن عيّن عضوا في مجلس استئناف الحقوق في
حلب سنة ١٢٩٧ ، وأعيد انتخابه في سنة ١٢٩٩ ، ثم صار وكيلا عن الرئيس في هذا المجلس
،
وحمدت سيرته في أحكامه لتمسكه بالحق ومراعاته للوجدان ، وفي تلك السنين عين
عضوا في مجلس الإدارة أيضا.
ولما صار جميل
باشا واليا على حلب كان في أول الأمر على وئام تام معه ، إلى أن توفي مصطفى آغا
كتخدا ، فأراد جميل باشا أن يشارك الورثة في تركة أبيهم ويتناول منها بعض ما فيها
من المتاحف ، ورغب من المترجم معاضدته على ذلك ، فأبت شهامته موافقته ، وأخذ في
ذلك الحين في مناهضته. وكانت حلقات الخلاف قد استحكمت بين جميل باشا وبين بني
الجابري أيضا ، وعزم على نفي نافع باشا إلى مرعش وقصد إركابه على دابة وكان الوقت
في تموز أملا بالقضاء عليه في الطريق ، فعارضه المترجم أشد المعارضة واشتد الخصام
بينهما ، وصار جميل باشا يخابر الآستانة في شأن أحمد أفندي وأحمد أفندي يخابرها
كذلك ، وخشي الناس أن يوقع جميل باشا بالمترجم ، وصار أصدقاؤه يبتعدون عنه خشية من
بطش جميل باشا بهم لموالاتهم له.
وكان من جملة
أصدقائه رزق الله وكيل أحد أعضاء مجلس الإدارة وقتئذ ، ولما رأى ما حصل خشي من بطش
جميل باشا به لموالاته للمترجم ، فوجد من المناسب أن يذهب إلى الآستانة ويبقى فيها
إلى أن تنقشع تلك السحابة ، فلم يأذن له جميل باشا إلا إذا كان أثناء وجوده هناك
يشهد أمام الوزارة والسلطان أن أحمد أفندي من الموالين للدولة الإنكليزية ، وقصده
إدخالها إلى هذه البلاد ، وأن في إبقائه في حلب خطرا عليها وعلى البلاد ، ومن
الواجب قتله أو إبعاده. وكتب جميل باشا إلى المابين بذلك وطلب من حكومة الآستانة
استشهاد رزق الله وكيل ضيف الآستانة على ما بينه في كتاباته عنه.
أما رزق الله
وكيل فإنه لم يرض أن يخالف وجدانه ويتكلم بغير الحق. ولما مثل بين يدي السلطان
والوزراء جاهرهم بالحقيقة ونفى ما نسبه جميل باشا إلى المترجم بتاتا وبين لهم
حقيقة أخلاقه وما انطوى عليه. عندئذ أرسل السلطان عبد الحميد صاحب ملابك إلى حلب
مفتشا وكان رجلا موصوفا بالصدق والصلاح والاستقامة وللسلطان فيه تمام الثقة.
فلما وصل إلى
حلب نزل أولا ضيفا في التكية المولوية ، فهرع للسلام على وجوه الشهباء إلا المترجم
، فإنه لم يذهب علما منه أنما أتى لأجل قضيته والخلاف القائم بينه

وبين جميل باشا. وبعد أربعة أيام تجلت له الحقيقة وظهرت ظهور الشمس في
رابعة النهار ، عندئذ تحول إلى منزل المترجم. وبعد أيام عاد إلى الآستانة ، فلم
تمض أيام إلا وعزل جميل باشا من منصبه ، وقد أشرنا إلى ذلك في الجزء الثالث في
ترجمة جميل باشا ، وبقي المترجم سنين كثيرة عضوا في مجلس الإدارة ، فكان
يوالي من الولاة من كان واقفا مع الحق رؤوفا بالأهلين ، ومن كان على خلاف ذلك لا
يألو جهدا في مقاومته ومصارحته بالحق ، حتى إن رائف باشا لما تلقى أمرا بتحويله من
حلب وحضوره إلى الآستانة سئل المترجم عن خطيئاته أثناء ولايته في حلب فلم يتأخر عن
بيانها له ، وكان من جملتها مدّ يد معونته إلى دائرة الريجي التي أضرت بالأهلين
أضرارا فاحشة وفتكت بهم وخصوصا في قضية بني اليكن حينما أخرج من بيتهم رزم التتن
وما لحقهم بذلك من الضرر والإهانة.
وكان لا يتجدد
الانتخاب لأعضاء مجلس الإدارة إلا وينتخب عضوا له ، وطالت مدته فيه ، بل كان لا
تتشكل لجنة إلا ويعين رئيسا لها أو عضوا فيها ، وذلك لما عرف فيه من الاستقامة
والدراية.
وفي سنة ١٣١٧
عمر دارا عظيمة في محلة الفرافرة تجاه القلعة من الجهة الشمالية بينهما الجادة ،
وبعيد وفاته في التاريخ الآتي قسمت إلى دارين.
وفي ٦ صفر من
سنة ١٣٣٢ عين عضوا لمجلس الأعيان المؤلف في الآستانة من أعيان البلاد العثمانية ،
فذهب إليها غير راغب في ذلك نظرا لشيخوخته وعلمه بعدم انطباق أفكار معظم المعينين
فيه على أفكاره. وكان زميله في هذا المجلس رشيد عاكف باشا ورضا باشا وأمثالهما ،
فكانوا يثقون به ويعتمدون على آرائه وصائب فكره. وبقي في هذا المنصب سنتين. وكانت
قد وقعت الحرب العامة فاستأذن وكرّ راجعا إلى وطنه ، فلازم بيته الذي عمره حديثا
لا يخرج منه إلا قليلا ، إلى أن توفي رابع عشر جمادى الأولى سنة ١٣٣٨ ، ودفن في
تربة الصالحين شرقي مقام إبراهيم.
وكان رحمهالله تعالى نحيف الجسم مربوع القامة أسمر اللون ذا لحية
خفيفة كما تراه في رسمه. وتوفيت زوجته وهو في سن الخامسة والثلاثين ، وبقي بعد
وفاتها أربع سنوات يكاد لا يخرج من بيته حدادا عليها ، ولم يتزوج بعد ذلك.
__________________
وكان حسن
الاعتقاد ، محبا للعلم وأهله ، محترما لحملته ، مواظبا على الصلوات الخمس ، لا
يعرف الكذب ولا الخداع ، ناصحا لمن استنصحه ، حسن الصداقة ، وافيا بما يعد به ،
وقافا عند الحق. وبالجملة فقد كان من خيرة الوجهاء في الشهباء.
وأطلعني حفيده
الشاب النبيه السيد راغب أفندي كتخدا على نسب عائلتهم وهو محرر سنة ٨٤٦ وعليه
تواقيع كثير من القضاة والأشراف والنقباء ، من جملتهم توقيع السيد حسن الكواكبي
المتوفى سنة ١٢٢٩ ، وقد كتب عليه بخطه (نسب شريف ما عليه غبار قد حوى رجالا أخيار).
وأحمد أفندي
المترجم هو ابن الحاج محمد ابن الحاج أبي بكر المتوفى في القسطنطينية سنة ١٢٥٨ ،
وقد قدمنا شيئا من سيرته في ترجمة محمد صالح آغا كتخدا المتقدمة آنفا ، ابن محمد
المتوفى بحلب سنة ١٢٢٨ المدفون في تربة السنابلة ابن إبراهيم بن محرم بن ولي الله
السيد عبد الله المشهور بالذنب بن إدريس ابن السيد أحمد سيف بن محمد سيف بن محمد
فارس الجزيري الحنفي الكردي المنتقل من الجزيرة إلى قرية كفر تخاريم أوائل القرن
التاسع ، المتوفى بها سنة ٩٠٥ ، وهو صاحب النسب المحرر سنة ٨٤٦ ابن أحمد بن علي
سيف بن عمر بن حسام بن عبد الله بن عبد الرحمن بن داود خان بن منصور بن عبد الرحمن
محسن بن حسن بن موسى جهانكير بن يحيى بن ثابت بن حازم بن محمد المهدي ابن أبي
القاسم محمد بن أحمد حسين بن أحمد بن موسى الثاني ابن إبراهيم المرتضى بن موسى
الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن
أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه.
١٣٢٢ ـ الشيخ محمد المسوتي المتوفى سنة ١٣٣٨
الشيخ محمد بن
عبد الله الطرابيشي ، الشهير بالمسوتي ، العالم الورع الصوفي ، الحنفي مذهبا
الرشيدي طريقة.
ولد رحمهالله سنة ١٢٦٨. وقرأ مبادىء النحو على المقرىء الصالح الشيخ
محمد الدباغ ، ثم قرأ على الشيخ مصطفى طلس وعلى خاله العالم الشيخ سعيد السنكري ،
وعلى مفتي حلب الشيخ بكري الزبري ، والشيخ أحمد الزويتيني. ولما حضر الشيخ محمد
عودة
الدمشقي المعروف بالشيخ أبي خالد وتوطن حلب وأخذ في نشر الطريقة الرشيدية
في جامع البهرمية كان المترجم في مقدمة من تلقاها عنه ولازمه في قراءة أوراد
الطريقة صباحا ومساء مع إخوان الشيخ ، وكان يقوم مقام شيخه عند غيبته ، وبقي على
ذلك إلى حين وفاته.
كان رحمهالله صالحا ورعا منجمعا عن الناس ، فيه فضيلة وصفاء سريرة ،
ملما بالأدب. وكان لا يتعاطى شرب الدخان ويكره ذلك كرها شديدا ويذهب إلى حرمة تعاطيه
، ويندد بشاربيه في كثير من مجالسه ، وألف في ذلك رسالة في أربعين صحيفة سماها «تبصرة
الإخوان في بيان أضرار التبغ المشهور بالدخان» بيّن فيها أقوال الفقهاء وآراء
الحكماء ، وهي مطبوعة في مصر سنة ١٣٢٨. وله في ذلك منظومة سماها «عقود الجواهر
الحسان في بيان حرمة التبغ المشهور بالدخان» طبعت في مصر أيضا سنة ١٣٣١ ، وهي في
كراسة ، قال في أوائلها :
اعلم بأن
حرمة الدخان
|
|
قال بها جمع
من الأعيان
|
إليهم يهرع
في الأنام
|
|
عليهم
التعويل في الأحكام
|
حجتهم في تلك
أصل مقتدى
|
|
في الشرع
معلوما ضروريا غدا
|
وذاك كل ما
أضر يحرم
|
|
والتبغ ضرّار
كما ستعلم
|
كذاك من
حجتهم في الحرمة
|
|
تخديره
والنهي من خليفة
|
ومثله
الإيذاء للملائكة
|
|
وذا من اسوأ
الفعال المهلكه
|
فواحد من هذه
الأربعة
|
|
يكفي مع
انفراده في الحرمة
|
ومن نفاها
قال إن تحققا
|
|
ضرره حرم
حتما مطلقا
|
وهو محقق لدى
ذوي النظر
|
|
من أهل طب
وهو شرعا معتبر
|
إذ قرروا
جواز فطر الصائم
|
|
بخبر الطبيب
ذي المفاهم
|
بشرط كونه
خبيرا مسلما
|
|
لم يشتهر
بظاهر الفسق اعلما
|
فحيثما اعتبر
ذا الخبر في
|
|
نظير ذا
فعكسه غير خفي
|
وعن ذوي الطب
تواتر الخبر
|
|
بأن ذا
الدخان يوجب الضرر
|
وأنه من موجب
التخدير
|
|
مع اتفاقهم
بلا نكير
|
والخبر
المقبول إن تواترا
|
|
تعيّن الأخذ
به بلا مرا
|
وله منظومة
أخرى كبيرة في هذا الموضوع سماها «الإيضاح والتبيين في حرمة التدخين» لم تطبع بعد
، وقد أشار إليها في أول منظومته المتقدمة حيث قال :
وبعد لما تم
ما تفضّلا
|
|
به الإله ذو
الجلال والعلا
|
من جمعي
الإيضاح والتبيين في
|
|
ثبوت حرمة
الدخان المتلف
|
وقد أتى مشيد
الأركان
|
|
بواضح الدليل
والبرهان
|
ليس له في
الباب من نظير
|
|
يزهو بحسنه
على البدور
|
يرشد كل منصف
أو آب
|
|
لمنهج الحق
وللصواب
|
يوضح حرمة
الدخان الشائع
|
|
بكل برهان
جليّ ساطع
|
مع نقول
ونصوص زاهره
|
|
أفتى بها
أئمة معتبره
|
إليهم يلجأ
كل سائل
|
|
عليهم
التعويل في المسائل
|
أردت أن
أنظمه مختصرا
|
|
لكي يزيد
نفعه ويكثرا
|
فيسر الله
العظيم كل ما
|
|
أردته بفضله
وأنعما
|
فجاء نظما
بارعا باهي السنا
|
|
قطوفه دانية
لذي اجتنا
|
لا غرو أن
فاق السوى في سبكه
|
|
فكل بيت جوهر
في سلكه
|
وله غير ذلك من
الرسائل.
وكانت وفاته
ليلة الثلاثاء ثالث عشر رجب سنة ألف وثلاثمائة وثمان وثلاثين عن سبعين عاما ، ودفن
من الغد في تربة الشيخ السفيري ، رحمهالله تعالى.
١٣٢٣ ـ الشيخ عبد السميع الكردي المتوفى سنة ١٣٣٨
الشيخ عبد
السميع ابن الشيخ أحمد الكردي البرزنجي ، العالم الفاضل الورع التقي المتعبد ،
الحلبي الموطن والوفاة.
أصله من أكراد
ما وراء النهر من قرية جناره ، وهي قرية من قرى قضاء شهرزور التابع لقضاء (كل عمر)
وهي تبعد عن بغداد عشرة أيام في شماليها.
تلقى العلم على
الشيخ عبد القادر البياري الكردي وعلى الشيخ عبد الله الولري وعلى
الشيخ عبد الرحمن السجويني وعلى ملّاكجكه الأربلي ، وهو آخر شيوخه ، قرأ
عليه في علم الفلك.
ثم أتى حلب في
نواحي سنة ١٣١٥ وهو قد ناهز الأربعين ، فجاور في المدرسة الأحمدية. وبعد مدة ظهر
فضله وعرف علمه فسارع إليه بعض الطلاب للقراءة عليه في العلوم الآلية خصوصا المنطق
والمعاني والبيان وفي التوحيد والأصول ، فقد كان له في هذه العلوم اليد الطولى مع
التحقيق والتدقيق في العبارة مع التقرير باللغة العربية بدون حشو في تقريره ، غير
أنه رحمهالله لم يكن فصيح اللسان في اللغة العربية ، وإذا قرأ لأبناء
الأكراد قرر لهم الكتب العربية باللغة الكردية مع فصاحة وحسن بيان لأنها لغته
الأصلية. ولما سمعت بفضله بادرت إليه فقرأت عليه شرح الشمسية للقطب الرازي ، وذلك
في شوال من سنة ١٣١٩ ، وأتممت قراءته عليه في ذي الحجة سنة ١٣٢١. ثم قرأت عليه شرح
المقولات العشر للسجاعي وكتابا في علم الفلك. وفي أوائل سنة ١٣٢٢ ابتدأت بقراءة
شرح ابن ملك على متن المنار في علم الأصول مع مشارفة حواشيه الثلاث المطبوعة معه
في الآستانة ، وهي حاشية الرهاوي وحاشية عزمي زاده والحاشية المسماة أنوار الحلك
على ابن ملك للرضي الحنبلي الحلبي ، وكنت أول من استحضر هذه الحواشي من الآستانة ،
قرأت عليه معظم هذا الشرح مع حواشيه ، وبقي منه بقية قليلة ، بقيت في قراءة ذلك
إلى أواخر سنة ١٣٢٤ ، وحالت بعض المشاغل الدنيوية دون إتمامه.
ولازمته كما
ترى خمس سنين أو أزيد قليلا فلم أر فيه غير التقوى والصلاح والزهد في الدنيا. ولم
يكن زيه زي العلماء ، بل بقي على نسق علماء الأكراد في بلاده حيث كان يلبس الثوب
من الغزل وفوقه عباءة شقراء وقلنسوة من الكتان على رأسه فوقها عمامة صغيرة يلفها
كيفما اتفق ، لا يظن رائيه أنه من العلماء بل يظنه أنه بعض الفلاحين. وقد كان
قانعا بذلك الراتب اليسير الذي يتناوله من وقف المدرسة مع سخاء يد وصدقة سرا
وعلانية مع ضيق يده ، فكان ممن يصدق عليه قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ
كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).
وكان من عادته
أن يتناول القليل من طعام العشاء ، ثم يأخذ في شرب الشاي ، وكان
__________________
مغرما به ، فكان يشرب منه في اليوم والليلة نحو عشر كاسات أو أزيد أحيانا ،
ثم يأخذ في المطالعة في الليل وفي التلاوة ، ويظل ساهرا حتى مطلع الفجر ، فحينئذ
يصلي ثم ينام إلى ضحوة النهار ، ثم بعد قيامه يتوضأ فيصلي الضحى ويتلو ما تيسر من
القرآن ، ثم يأخذ في قراءة الدروس حتى المساء ، فيقرأ في النهار ثلاثة وأحيانا
أربعة من الدروس. بقي على هذا المنوال من حين مجاورته في هذه المدرسة إلى حين
وفاته لم يغير شيئا من حالته. وبالجملة فلم أر عليه رحمهالله شيئا يشينه ، بل كنت أجد فيه رجل الاستقامة والاقتداء
بالسلف الصالح.
وبعد وفاة مدرس
المدرسة الأحمدية الشيخ حسين الكردي وذلك في نواحي سنة ١٣٣٤ صار مدرسها ، وبقي على
ما هو عليه من قراءة الدروس كما أسلفنا إلى أن مرض أياما قلائل ثم توفي في شهر
محرم سنة ١٣٣٨ ، ودفن في تربة الشيخ ثعلب في طرفها تجاه المكتب السلطاني ، وعمر
نحو الستين من العمر ، ولم يتزوج قط. وأسف عليه كل من عرف فضله وتقواه ، رحمهالله تعالى.
هذا وقد علمت
مما تقدم أنني ظللت سنتين أقرأ في شرح الشمسية في علم المنطق للقطب الرازي ، وكنت
قبل ذلك قرأت في هذا العلم شرح إيساغوجي وشرح السلم على الشيخ علي رضا الزعيم كما
قدمته في ترجمته. والذي دعاني لعدم الاكتفاء بالكتابين الأخيرين وأغراني للتوسع
فيه وقراءة شرح الشمسية مع مشارفة حاشية السيد عليه قولهم : المنطق آلة قانونية
تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر. فأكبرت هذا العلم لعظم فائدته ، فوجهت
الهمة حينئذ لتحصيله ، وصرفت ذلك الوقت الثمين في قراءته وحدي على أستاذي المتقدم.
والحق يقال إنه لم يأل جهدا في قراءته لي قراءة تحقيق وتدقيق ، غير أني بعد
الانتهاء من الكتاب لم أجد في نفسي تلك الثمرة التي ذكروها ولم تعصمني تلك القواعد
في الذهن عن الخطأ في الفكر ، ووجدت نفسي أني لا أزال أخطىء وأصيب شأن الطبيعة
البشرية التي هي مفطورة على ذلك إلا من عصمه الله تعالى ، فتيقنت من ذلك الحين أن
لا فائدة في هذا العلم وأن من وهبه الله طبعا سليما وعقلا مستقيما لا حاجة له إلى
هذا الفن ، وأن إتقان كل علم يكون بالعكوف عليه وتوجيه الهمة إليه وترويض الفكر
فيه ، وذلك ما يدعونه الآن بالتخصص ، وأسفت غاية الأسف على وقتي الذي ذهب
سدى في قراءة هذا الكتاب وما يتعلق به من الحواشي ، وصرت أنادي من ذلك
اليوم أن المنطق علم لا ينفع والجهل به لا يضر.
وتأييدا لما
قلته وإزالة لما علق في بعض الأفكار كما كان علق بفكري أذكر لك أقوال العلماء فيه
في مدحه وذمه ، ليطمئن بذلك قلبك وتزداد إيقانا بما قدمته من نفي ثمرته وأنه لا
ينتظر من التوسع في تعلمه كبير فائدة.
أقوال العلماء الذين مدحوه وذهبوا إلى القول بثمرته :
قال في «كشف
الظنون» ناقلا عن «مفتاح السعادة» :
المنطق لكونه
حاكما على جميع العلوم في الصحة والسقم والقوة والضعف سماه أبو نصر الفارابي رئيس
العلوم ، ولكونه آلة في تحصيل العلوم الكسبية النظرية والعلمية لا مقصودا بالذات
سماه الشيخ الرئيس ابن سينا بخادم العلوم. وحكى أبو حيان في تفسيره البحر أن أهل
المنطق بجزيرة الأندلس كانوا يعبرون عن المنطق بالمفعل تحرزا عن صولة الفقهاء ،
حتى إن بعض الوزراء أراد أن يشتري لابنه كتابا في المنطق ، فاشتراه خفية خوفا منهم
، مع أنه أصل كل علم وتقويم كل ذهن. انتهى.
قال الغزالي :
من لم يعرف المنطق فلا ثقة له في العلوم أصلا ، حتى روي عن بعضهم أنه فرض كفاية ،
وعن بعضهم فرض عين.
قال الشيخ أبو
علي بن سينا : المنطق نعم العون على إدراك العلوم كلها.
وقد رفض هذا
العلم وجحد منفعته من لم يفهمه ولا اطلع عليه عداوة لما جهل ، وبعض الناس ربما
يتوهم أنه يشوش العقائد مع أنه موضوع للاعتبار والتحرير ، وسبب هذا التوهم أن من
الأغبياء الأغمار الذين لم تؤدبهم الشريعة من اشتغل بهذا العلم واستضعف حج بعض
العلوم فاستخف بها وبأهلها ظنا منه أنها برهانية لطيشه وجهله بحقائق العلوم
ومراتبها ، فالفساد منه لا من العلم.
قالوا :
ويستغني عنه المؤيد من الله تعالى ومن علمه ضروري ، ويحتاج إليه من عداهما. (فإن
قلت) : إذا كان الاحتياج بهذه المرتبة فما بال الأئمة المقتدى بهم كما لك والشافعي
وأبي حنيفة رحمهمالله تعالى لم ينقل عنهم الاشتغال به ، وإنما هو من العلوم
الفلسفية ،
وقد شنع العلماء على من عربها وأدخلها في علوم الإسلام ، ونقل عن ابن
تيميّة الحنبلي أنه كان يقول : ما أظن الله تعالى يغفل عن المأمون العباسي ولابد
أن يعاقبه بما أدخل على هذه الأمة (فجوابه) : أن ذلك مركوز في جبلاتهم السليمة
وفطرهم المستقيمة ، ولم يفتهم إلا العبارات والاصطلاحات كما ذكر في علم النحو. ا
ه.
أقوال من نفى ثمرته والرد على من ذهب إلى ذلك :
قال الإمام
الذهبي في «تاريخ الإسلام» في ترجمة الإمام الغزالي :
وقال أبو عمرو
بن الصلاح : فصل لبيان أشياء مهمة أنكرت على الغزالي ، منها قوله في المنطق وهو
مقدمة العلوم كلها ، ومن لا يحيط به فلا ثقة بعلومه أصلا. وهذا مردود ، فكل صحيح
الذهن منطقي بالطبع ، وكيف غفل الشيخ أبو حامد عن حال مشايخه ومشايخهم من الأئمة
وما رفعوا بالمنطق رأسا. ا ه.
وقال ابن القيم
في كتابه «مفتاح دار السعادة» بعد أن ذكر فوائد العلوم والحاجة إليها : وأما المنطق
فلو كان علما صحيحا كان غايته أن يكون كالمساحة والهندسة ونحوها ، فكيف وباطله
أضعاف حقه ، وفساده وتناقض أصوله واختلاف مبانيه توجب مراعاتها للذهن أن يزيغ في
فكره ولا يؤمن بهذا إلا من قد عرفه وعرف فساده وتناقضه ومناقضة كثير منه للعقل
الصريح. وأخبر بعض من كان قد قرأه وعني به أنه لم يزل متعجبا من فساد أصوله
وقواعده ، ومباينتها لصريح المعقول ، وتضمنها لدعاو محضة غير مدلول عليها ،
وتفريقه بين متساويين وجمعه بين مختلفين ، فيحكم على الشيء بحكم وعلى نظيره بضد
ذلك الحكم ، أو يحكم على الشيء بحكم ثم يحكم على مضاده أو مناقضه به. قال : إلى أن
سألت بعض رؤسائه وشيوخ أهله عن شيء من ذلك ، فأفكر فيه ثم قال : هذا علم قد صقلته
الأذهان ومرت عليه من عهد القرون الأوائل ، أو كما قال ، فينبغي أن نتسلمه من
أهله. وكان هذا من أفضل ما رأيت في المنطق. قال : إلى أن وقفت على رد متكلمي
الإسلام عليه وتبيين فساده وتناقضه ، فوقفت على مصنف لأبي سعيد السيرافي النحوي في
ذلك وعلى رد كثير من أهل الكلام والعربية عليهم كالقاضي أبي الطيب والقاضي عبد
__________________
الجبار والجبائي وابنه وأبي المعالي وأبي قاسم الأنصاري وخلق لا يحصون كثرة
، ورأيت استشكالات فضلائهم ورؤسائهم لمواضع الإشكال ومخالفتها ما كان ينقدح لي
كثير منه.
ورأيت آخر من
تجرد للرد عليهم شيخ الإسلام (يعني به ابن تيميّة) رضياللهعنه ، فإنه أتى في كتابيه الكبير والصغير بالعجب العجاب
وكشف أسرارهم وهتك أستارهم ، فقلت في ذلك :
واعجبا لمنطق
اليونان
|
|
كم فيه من
إفك ومن بهتان
|
مخبّط لجيّد
الأذهان
|
|
ومفسد لفطرة
الإنسان
|
مضطرب الأصول
والمباني
|
|
على شفا هار
بناه الباني
|
أحوج ما كان
إليه العاني
|
|
يخونه في
السر والإعلان
|
يمشي به
اللسان في الميدان
|
|
مشي مقيّد
على صفوان
|
متصل العثار
والتواني
|
|
كأنه السراب
بالقيعان
|
بدا لعين
الظامىء الحيران
|
|
فأمه بالظن
والحسبان
|
يرجو شفاء
علة الظمآن
|
|
فلم يجد ثم
سوى الحرمان
|
فعاد بالخيبة
والخسران
|
|
يقرع سن نادم
حيران
|
قد ضاع منه
العمر في الأماني
|
|
وعاين الخفة
في الميزان
|
وما كان من هوس
النفوس بهذه المنزلة فهو بأن يكون جهلا أولى منه بأن يكون علما تعلمه فرض كفاية أو
فرض عين. وهذا الشافعي وأحمد وسائر أئمة الإسلام وتصانيفهم وسائر أئمة العربية
وتصانيفهم وأئمة التفسير وتصانيفهم لمن نظر فيها هل راعوا فيها حدود المنطق
وأوضاعه ، وهل صح لهم علمهم بدونه ، أم لا بل كانوا أجلّ قدرا وأعظم عقولا من أن
يشغلوا أفكارهم بهذيان المنطقيين ، وما دخل المنطق على علم إلا أفسده وغير أوضاعه
وشوش قواعده. ا ه.
فعسى أن يكون
بما أوردناه لك من أقوال العلماء في نفي فائدته وثمرته والدلائل الواضحة على ذلك
مقنع كاف تهتدي به إلى الرشد وترجع إلى مهيع الصواب ولا تضيع وقتك الثمين في
العكوف عليه والتوسع فيه. لكن لما كانت كتب العلوم الدينية وسائلها ومقاصدها
مملوءة بعبارات المناطقة ، خصوصا كتب الأصول والتوحيد ، وكان المرور بهذه العبارات
بدون تفهمها مشكلا جدا أصبح لابد للمشتغل بها من الوقوف على هذا الفن ، غير
أنه ينبغي الاقتصار على كتاب صغير فيه أو كتابين والاستغناء عن الكتب الكبيرة فيه
وعن تلك الحواشي الطويلة الذيول ، وذلك لا يحتاج فيه إلى عناء كثير وصرف وقت طويل
، وحسب الطالب من هذا العلم هذا المقدار ، وفي ذلك بلاغ له إلى المقصود ، والله
الهادي إلى سواء السبيل.
١٣٢٤ ـ مريانا بنت فتح الله مرّاش المتوفاة سنة ١٣٣٨ ه و ١٩١٩
ترجمها صاحب «تاريخ
الصحافة العربية» فقال :
مريانا بنت فتح
الله مراش. ولدت في حلب في شهر آب سنة ١٨٤٨ وترعرت ترضع من لبان الأدب وتتغذى ثمار
العلم ، فنشأت أديبة عالمة تجيد الإنشاء وتحسن الشعر. وكان أبوها فتح الله بن نصر
الله بن بطرس مراش رجلا أديبا عني بالمطالعة واقتناء الكتب ، وجمع مكتبة نفيسة ،
ورغب في الكتابة وتمرن عليها ، وله كتابات عديدة مختلفة المواضيع لم تطبع.
وكانت أمها
زكية عاقلة من آل أنطاكي نسيبة مطران حلب يومئذ ديمتريوس ، وكلا الأسرتين معروفتين
بالوجاهة وجليل الصفات ، وأخوها فرنسيس وعبد الله مشهوران في عالم الأدب.
كان الأول شاعرا متفننا ومنشئا مجيدا ، والثاني كاتبا لوذعيا ، فتربت مريانا في
هذا البيت الكريم على مهاد الذكاء والمعرفة. وإذا اقتضت أشغال والدها في أثناء
حداثتها التغيب عن بيته والسفر إلى أوروبا قامت والدتها بتربيتها قياما حسنا لم
يكن يرجى من كثيرات من أمهات تلك الأيام. وكان من الفتاة أن دخلت المدرسة
المارونية في الخامسة من عمرها ، وانتقلت بعد ذلك إلى المدرسة الإنجيلية التي
أنشأها الدكتوران (إدي) و (ورتبات) فدرست فيهما مبادىء اللغة العربية والحساب وبعض
العلوم. وفي الخامسة عشرة أخذ أبوها يعلمها الصرف والنحو ثم العروض ، وعلمها بعض
لغة الفرنسيس التي أحسنتها فيما بعد على بعض المعلمين. ودرست فن الموسيقى وأتقنته
جيدا دون أستاذ ، فتفردت في حلب وامتازت على أترابها ، فنظر الناس إليها بغير
العين التي ينظرون بها إلى
__________________
غيرها ، وتهافت الشبان على طلب يدها ، فرضيت منهم زوجا لها حبيب الغضبان ،
ورزقا ولدا وبنتين جبرائيل وليّا وأسما.
بدأت بالكتابة
والشعر في صباها ، وأول مقالة رأيناها لها (شامة الجنان) نشرتها في مجلة الجنان في
الجزء الخامس عشر لعامها الأول سنة ١٨٧٠ وصدرتها بهذين البيتين لشاعر قديم :
بنفسي الخيال
الزائري بعد هجعة
|
|
وقولته لي
بعدنا الغمض تطعم
|
سلام فلو لا
البخل والجبن عنده
|
|
لقلت أبو حفص
علينا المسلّم
|
وعارضته
باستحسان قومه صفتي الجبن والبخل بالنساء ودعت قومها إلى بدلهما بالحرص والشجاعة
مميزة بين الاقتحام والجرأة. وانتقت بمقالاتها هذه عادات معاصراتها وحضتهن على
التزين بالعلم والتحلي بالأدب.
ونشرت بعض
مقالات على صفحات الجرائد كلسان الحال وغيره ، ونظمت قصائد عديدة في الغزل والمدح
والرثاء وعدة أغاني على أنغام مختلفة جمعت منها ديوانا صغيرا نشرته برخصة رسمية من
نظارة المعارف بعنوان (بنت فكر) مطبوعا سنة ١٨٩٣ في المطبعة الأدبية هنا.
وقد هنأت
بشعرها السلطان عبد الحميد عند ما صار سلطانا ، وعايدته في أحد أعياد جلوسه ،
وهنأت أمه بقصيدة ، ومدحت توفيق الأول خديو مصر وجميل باشا وأمين باشا والي حلب
وإيوانوف قنصل روسيا فيها ، ورثت أخاها فرنسيس وكثيرا من صديقاتها.
من ذلك قولها
لأم السلطان :
كما رعيت
صباه خوف نائبة
|
|
قد صار يرعى
زمام الملك للأمم
|
ومن منظوماتها
ما يأتي في مدح خديو مصر :
زهور الروض
تبسم عن ثغور
|
|
زهت فحكت
عقودا من جمان
|
نداها يبهج
الأرواح رشفا
|
|
به ماء
الحياة لكل دان
|
إذا هب
النسيم على رباها
|
|
تعطرت
المعاهد والمغاني
|
رعاه الله من
روض أرانا
|
|
من الأغصان
قامات الحسان
|
وحورا إن
سفرن وملن عجبا
|
|
سلبن عقول
أرباب المعاني
|
وقد قامت
طيور الأنس تشدو
|
|
بألحان أرق
من المثاني
|
هنا جنات بشر
قد تراءت
|
|
لدى الأبصار
في شبه الجنان
|
ومنها في مدح
جميل باشا والي حلب :
أفديه لا
أفدي سواه جميلا
|
|
أولى المحبّ
تعطفا وجميلا
|
بدر عنت دول
الجمال لحسنه
|
|
فأبى لذا
تمثاله التمثيلا
|
فإذا تجلّى
فوق عرش كماله
|
|
تجثو له زهر
النجوم مثولا
|
وإذا توارى
في حجاب سنائه
|
|
لا تبلغ
الجوزا إليه وصولا
|
كملت محاسنه
فبالإشراق وال
|
|
أنوار صار عن
الشموس بديلا
|
ومنها في مدح
إيوانوف قنصل روسيا :
بزغت شموس
السعد بالشهباء
|
|
فجلت لياليها
من الظلماء
|
قشعت غيوم
الضيم عنها فانجلت
|
|
كعروسة تزري
ببدر سماء
|
وغدت بها
السكان تمرح بالهنا
|
|
وتجر ذيل
مسرة وصفاء
|
تتمايل
الغادات مائسة بها
|
|
كتمايل
النشوان بالصهباء
|
من كل غانية
زهت بجمالها
|
|
ودلالها
كالروضة الغنّاء
|
ماست كغصن
فوقه بدر له
|
|
مرأى الثريا
في بديع بهاء
|
بحواجب
مقرونة قد أوترت
|
|
قوسا ترن بها
سهام فنائي
|
إن كلّمت
صبّا بنبل لحاظها
|
|
كان الشفاء
له بعذب الماء
|
حتى ترد إليه
ذاهب روحه
|
|
فيعود معدودا
من الأحياء
|
وقالت أيضا
مشطّرة بعض أبيات من نظمها :
للعاشقين
بأحكام الغرام رضا
|
|
يمسون صرعى
به لم يؤنفوا المرضا
|
لا يسمعون
لعذل العاذلين لهم
|
|
فلا تكن يا
فتى للجهل معترضا
|
روحي الفداء
لأحبابي وإن نقضوا
|
|
ذاك الذمام
وقد ظنوا الهوى عرضا
|
جاروا وما
عدلوا في الحب إذ تركوا
|
|
عهد الوفيّ
الذي للعهد ما نقضا
|
قف واستمع
سيرة الصب الذي قتلوا
|
|
وكان يزعم أن
الموت قد فرضا
|
أصابه سهم
لحظ لم يبال به
|
|
فمات في حبهم
لم يبلغ الغرضا
|
رأى فحب فرام
الوصل فامتنعوا
|
|
فما ابتغى
بدلا منهم ولا عوضا
|
تقطّع القلب
منه بانتظار عسى
|
|
فسام صبرا
فأعيا نيله فقضى
|
وقالت ترثي
صبية توفيت محترقة بالبترول :
عفافة نفس مع
بديع محاسن
|
|
ورقة أعطاف
فلله كم تسبي
|
لقد جمعت
ضدين في حدّ ذاتها
|
|
ففي اللحظ
إيجاب يشير إلى السلب
|
وقالت وقد اقترح
عليها ذلك :
بذكر المعاني
هام قلبي صبابة
|
|
فيا نور عيني
هل أكون على القرب
|
عسى الشمس من
مرآك للعين تنجلي
|
|
فتنقل
للأبصار ما حل بالقلب
|
ولها أيضا :
ذو العقل
يسمو بالحجى ويسود
|
|
وبحسن رأي
يمدح الصنديد
|
إن الفتى
المقدام من يوم الوغى
|
|
خاض المعامع
والعداة شهود
|
والندب من
نال الفخار وزانه
|
|
بالجد آباء
له وجدود
|
ومن منظوماتها
الحكمية قولها :
شرف الفتى
عقل له يسمو على
|
|
كل الورى
فينال غايات المنى
|
وكذاك حسن
الخلق فخر مسوّد
|
|
متسربل
باللطف نعم المقتنى
|
والمرء إن
شهدت له أفعاله
|
|
بالفضل
والآداب يكتسب الثنا
|
ما كل من طلب
الكرامة نالها
|
|
من رام صيد
الظبي حل به العنا
|
ذو المال
يذهب ذكره مع ماله
|
|
لكنّ ذكر
الفاضلين بلا فنا
|
وقالت ترثي
أخاها فرنسيس :
مالي أرى
أعين الأزهار قد ذبلت
|
|
ومال غصن
صباها من ذرى الشجر
|
مالي أرى
الروض مكمودا وفي كرب
|
|
والماء في
أنة والجو في كدر
|
مالي أرى
الورق تنعى وهي نادبة
|
|
فراق خل
وتشكو لوعة الغير
|
نعم لقد سابق
الأحياء أجمعها
|
|
وناب ذا
اليوم مطروحا على العفر
|
من فقّه
الناس في علم وفي أدب
|
|
ونوّر الكل
في شمس من الفكر
|
أبدى من
الفضل ضوءا لا خبوّ له
|
|
والشمس شمس
وإن غابت عن النظر
|
وإنه بحر علم
لا قرار له
|
|
وقد حوى كل
منظوم من الدرر
|
هذا الذي
جابت الأقطار شهرته
|
|
قد صار
مطّرحا في أضيق الحفر
|
خنساء صخر
بكته حينما نظرت
|
|
إليه ملقى
بلا سمع ولا بصر
|
أقلام أهل
النهى ترثيه وا أسفي
|
|
هل عاد من
عودة يا مفرد البشر
|
مذ غاب شخصك
هذا اليوم عن نظري
|
|
جادت عيوني
بدمع سال كالمطر
|
فيا لدهر
خؤون لا ذمام له
|
|
قد راش سهما
أصاب الفضل بالقدر
|
فحزن يعقوب
لا يكفي لندبك يا
|
|
ندبا تفرد
بالأجيال والعصر
|
ويلاه من حزن
قلب نال غايته
|
|
مذ واصل
القلب في غم مدى العمر
|
في لجة الحزن
نفسي ضاق مسكنها
|
|
من ذا يسلّي
فؤادي قلّ مصطبري
|
واشتهرت مريانا
بلطفها وخفة روحها وبحسن صوتها وجمال مغناها ، وقد جعلت بيتها ناديا لأهل الفضل
تجول معهم في مضامير العلم والأدب.
سافرت مرة إلى
أوروبا واطلعت على أخلاق الأوربيين وعاداتهم عن قرب ، فاستفادت منهم كثيرا ، ثم
عادت إلى وطنها تبث بين بنات جنسها روح التمدن الحديث. ا ه. ببعض اختصار.
وترجمها الأديب
قسطاكي بك الحمصي في تاريخه «أدباء حلب» ، فقال في ترجمتها :
سليلة بيت
العلم ، وشعلة الذكاء والفهم ، فصيحة الخطاب ، ألمعية الجواب ، تسبي ألباب ذوي
النهى بألطافها ، ويكاد يعصر الظرف من أعطافها ، تحن إلى الألحان والطرب ، حنينها
إلى الفضل والأدب. وكانت رخيمة الصوت عليمة بالأنغام ، تضرب على القانون فتنطقه
إنطاقها الأقلام. ثم ساق بقية ترجمتها وأورد بعض نظمها ، وذكر أن وفاتها سنة ١٩١٩
م وهي موافقة لسنة ١٣٣٨ ه.
١٣٢٥ ـ الشيخ كامل الموقّت الفلكي المتوفى سنة ١٣٣٨
الشيخ كامل ابن
الشيخ أحمد ابن الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله الحنبلي ، الشهير بالموقّت ،
العالم الفاضل الصالح الزاهد.
ولد بعد
السبعين ومائتين وألف بقليل ، وتلقى العلم على الشيخ الكبير أحمد الترمانيني
ولازمه إلى أن توفي. وتلقى العلوم اللسانية والفقهية والحديثية على الشيخ أحمد
الزويتيني مفتي حلب وبه تخرج. وتلقى علم الفلك عن والده الشيخ أحمد ، وجد في تحصيل
هذا الفن إلى أن برع فيه وصار له فيه اليد الطولى ، بل كان المنفرد في هذا العلم
لا يشاركه فيه مشارك كما كان أبوه من قبله. وسبب عنايته وعناية أبيه بهذا العلم أن
وظيفة التوقيت في الجامع الأعظم في حلب كانت في بيتهم من عهد جده الشيخ عبد الله
المتوفى سنة ١٢٢٣ ، فوالده تلقاه عن جده وهو عن أبيه ، والشيخ عبد الله تلقاه عن
الشيخ علي الميقاتي المعروف بالدبّاغ.
وحينما كان
الأستاذ الزويتيني مفتيا ، وأمينا الفتوى لديه شيخنا الشيخ محمد الزرقا وشيخنا
الشيخ محمد الجزماتي ، كان المترجم محررا للفتاوى ، فاستفاد بذلك ملكة تامة في هذا
الفن ، وخصوصا حينما كانت تجري المذاكرات الفقهية بين هؤلاء الأعلام في دار الفتوى
، وقد كانت وقتئذ في المدرسة الشعبانية. وكان مع وظيفته هذه يحدث أمام الحضرة في
أموي حلب ويقوم بوظيفة التوقيت فيه. وبقي على ذلك إلى وفاة مفتي حلب العلامة الشيخ
أحمد الزويتيني وذلك سنة ١٣١٦ ، فلزم بعد ذلك بيته وأخذ في رياضة النفس ومجاهدتها
، وأقبل على العبادة والذكر ، فاعتراه في أثناء ذلك شيء من مرض السوداء لكثرة
مجاهدته لنفسه وكثرة الذكر والتلاوة. ثم زال ذلك عنه وعاد لصحوه وكمال عقله. ولم
يزل ملازما لبيته لا يخرج منه إلا إلى صلاة الجمعة في جامع محلته (ساحة بزي) وهو
فيه مكب على العبادة والتلاوة والمطالعة ، ويزوره أهل العلم والفضل ويتبركون
بزيارته ، حتى إن شيخنا الكبير الشيخ محمد الزرقا زاره غير مرة طالبا منه خير
الدعاء. وكان بعض المرضى يؤمون منزله فيقرأ لهم ما تيسر من القرآن والأدعية
المأثورة فينال الكثير منهم الشفاء بإذن الله تعالى ، وشاهدوا بأم العين بركة يده
ودعائه.
وأصيب في حياته
بولدين له شابين أديبين أحمد ومحمد ، وليس له من الذكور غيرهما ، وكانا يطلبان
العلم ، وقد تلقيا عنه قسما من علم الميقات والفلك. توفي ثانيهما أثناء الحرب
العامة بالموصل ، وكان قد أخذ إليها جنديا كما أخذ الكثير من طلاب العلوم وقتئذ ،
وأسف عليه الناس إذ كان ينتظر أن يخلفه في علومه الميقاتية والفلكية ، ولم يخبر
بوفاة ولده إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى.
وكنت ممن حظي
بزيارته غير مرة متبركا به طالبا خير دعائه لما كان عليه من الصلاح والتقوى
والإخلاص في العمل ، ولحسن محاضرته ومذاكرته. وفي إحدى زياراتي له التمست منه أن
يجيزني إجازة عامة بجميع مروياته ، فأجاب ملتمسي بعد أن أعارني ثبت جده الشيخ عبد
الرحمن الحنبلي المسمى «بمنار الإسعاد في طرق الأسناد» وهو بخطه ، ونقلت منه مجمل
المؤلفات التي يرويها مع تراجم ما فيه من أشياخه الحلبيين ، وقد أشرت إلى ذلك في
ترجمة جده هذا ، وذيّل ذلك بإجازة حافلة بخطه مؤرخة في سنة ١٣٢٦. وأجازني أيضا
بحديث الرحمة المشهور عند المحدثين بالحديث المسلسل بالأولية ، لأن كل راو من
رواته لابد أن يقول فيه عن شيخه : وهو أول حديث سمعته منه أو قرأته عليه ، أو يقول
: وهو أول حديث أجازني به أو أرويه عنه أو رويته عنه.
ولم يكن له من
الواردات سوى ما يتناوله من وظيفة درس الحديث في الجامع الأموي والتوقيت فيه ،
فكان قانعا بهاتين الوظيفتين وبما يعطيه له المستشفون عنده بالقراءة بدون طلب منه
أو استشراف له ، يعيش بذلك عيش الكفاف.
ولم يزل على ما
ذكرنا من لزومه لبيته وانجماعه عن الناس وإعراضه عن هذه الدنيا الفانية وزهده فيها
وانقطاعه للعبادة والتلاوة إلى أن توفي ليلة الجمعة في الرابع والعشرين من رمضان
سنة ١٣٣٨ ، ودفن صبيحتها في تربة الصالحين عند قبور آبائه ، رحمهالله تعالى.
وخلت الشهباء
بعده من عالم بالفلك والميقات.
وله من
المؤلفات «كنوز الأخبار في أحاديث النبي المختار» المنتخب من «الجامع الصغير»
للحافظ السيوطي في مجلدين في ٦٧٠ صحيفة بخطه ، فرغ من تحريره سنة ١٣٣٥. وبيعت كتبه
بعد وفاته وفيها عدة من النفائس في علم الميقات والفلك من آثار آبائه وأجداده
وآثار غيرهم ، واشتريت من هذه الكتب منظومة جد المترجم الشيخ عبد
الله لمتن السراجية في علم الفرائض المسماة «باللوامع الضيائية» ، وقد
طبعتها في مطبعتي (العلمية) ، وشرح هذه المنظومة لجده الموما إليه وهي بخط شيخنا
المترجم نقلها عن نسخة بخط مؤلفها ، وقد صارت هذه النسخة إلى الصديق الفاضل الشيخ
أحمد الزرقا.
١٣٢٦ ـ العلامة الشيخ بشير الغزّي المتوفى سنة ١٣٣٩
قاضي القضاة ،
شيخنا العالم العلّامة والحبر الفهامة ، الشيخ محمد بشير ابن العالم الشيخ محمد
هلال ابن السيد محمد الآلاجاتي الحلبي.
ترجمه أخوه
لأمه رصيفنا الفاضل الشيخ كامل الغزّي ترجمة مسهبة ألقاها عند قبره في تربة الشيخ
جاكير ، حضر ذلك الجم الغفير من العلماء والوجهاء والطلاب والأهلين ، وإني آتي على
خلاصة هذه الترجمة بتصرف قليل ، ثم أتبعها بما أعلمه من أحوال شيخنا وترجمته. قال
:
ولد أخي سنة
١٢٧٤. ولما ترعرع حفظ القرآن العظيم في السنة السابعة من عمره عند ولي الله الشيخ
شريف الشهير بالأعرج ، وبقي عنده سنة واحدة. وبعد أن خرج لازم القراءة والكتابة
بسائق نفسه. وكنت وهو في التاسعة من عمره أعطيه الكتب المخطوطة السقيمة الخط
وأكلفه قراءتها ، فكان يقرأ فيها بكل سرعة وفصاحة مع قلة اللحن وغلبة الصواب على
ألفاظه. وتعلم وهو في هذا السن أيضا رسم الخاتم المخمّس المنسوب للإمام حجة
الإسلام الغزالي ، علّمه إياه الشيخ يوسف السرميني الشهير بالذكاء والفطنة في
عصره. وتردد مدة على رجل مشهور بتصليح الساعات كان مقيما في جامع العدلية يعرف
بالشيخ عبدو ، فتعلم منه هذه الصنعة في أشهر قليلة وصار ماهرا بها.
ولما بلغ
الثالثة عشرة من عمره جاور معي في المدرسة السيّافية وأخذ في حفظ المتون ، ولا
أبالغ إذا قلت إنه حفظ الألفية لابن مالك في أقل من عشرين يوما فكنت أعجب من سرعة
حفظه وقوة ذاكرته. ثم أخذ في حفظ كتب الأدب فلم يمض عليه مدة وجيزة حتى أصبح
يستوعب جملة وافرة من أشعار العرب ونبذا كثيرة من مختارات كتب الأدب والأخلاق ،
وحفظ حصة كثيرة من متن الكنز في الفقه الحنفي.
وفي سنة ١٢٩٥
انتقل إلى المدرسة الرضائية وجاور فيها ، ومن ذلك الحين بدأ يشتهر
فضله ، وأول شيء اشتهر فيه حسن الصوت والأداء في تلاوة القرآن العظيم ،
فكان الناس يقصدون المدرسة ليلة الجمعة وقبل صلاتها لسماع تلاوته في حرمها ، ثم
طلب منه أن يؤم الناس في صلاة الصبح في رمضان في محراب الحنفية من الجامع الكبير ،
فأجاب طلبهم ، فكان الناس يقصدون الائتمام به في هذا الوقت ويحضرون من أقصى
المدينة لسماع صوته ، وقد واظب على هذه الوظيفة أزيد من خمس وعشرين سنة.
أساتذته في العلوم والفنون :
قرأ رحمهالله على العلامة الشيخ شهيد الترمانيني النحو الصرف
والمعاني والبيان. ولما جاور في المدرسة الرضائية لازم الحضور على مدرسها الشيخ
مصطفى الكردي ، قرأ عليه المواقف وشرحه والتفسير والحديث وعقائد النسفي. وقرأ على
الأستاذ الشيخ محمد الزرقا معظم كتاب الدر المختار في الفقه الحنفي. وقرأ على
العالم الفاضل الشيخ محمد الصابوني علمي الفرائض والعروض. ولما آل التدريس في
المدرسة الرضائية إلى الشيخ المحقق الشيخ حسين الكردي لازمه فقرأ عليه علم المنطق
وآداب البحث والمناظرة وجملة من التفسير ومصطلح الحديث. وقرأ على الأستاذ إسحق
أفندي التركي علم الميقات والتنجيم.
وكان لا يحجم
عن الاشتغال في الفنون الحديثة أيضا ويقول : أحب أن أكون مطلعا على كل علم ، لأنني
أخاف إذا تصدرت للإفادة أن يطلب مني إقراء علم فأقول : هذا لا أعرفه. ولذا كان
يشتغل في كتب الطبيعيات والفلسفة الغربية ، وكان إذا أشكل عليه فهم شيء منها سأل
عنه متفوقي المتخرجين من المكاتب العالية.
ومع اشتغاله في
علوم كثيرة فقد وجه عنايته لحفظ اللغة والدواوين الشعرية والكتب الأدبية مع الفهم
التام لمعانيها ، إلى أن صار من المبرزين في ذلك بحيث فاق معاصريه ، وأقر له
بالسبق جهابذة علماء اللغة والأدب ونقادها في الأقطار العربية وجعلوه مرجعهم
وعمدتهم فيما صعب فهمه وبعد إدراكه. وطالما كنا نبحث عن اسم شيء نعرفه ولا نعرف له
اسما في اللغة العربية ، فبعد أن ننقب عنه في معاجم اللغة ونتتبعه في المواد التي
هي مظنة وجوده فلا نظفر بعد طول بحثنا بطائل فنسأله عنه فيجيبنا على الفور
والبديهة بحيث يقول اسمه كذا وهو مذكور في المادة الفلانية من المعجم الفلاني أو
في شعر فلان ، فنراجعه فنراه فيه صريحا كما أفاد.
والخلاصة أنه
قد كان الآية الكبرى في معرفة اللغة وأشعار العرب وأخبارهم. وكان إذا تكلم في
الأدب يخال سامعه أنه لم يشذ عنه نادرة منه وأنه يمكنه أن يملي من حفظه كتاب الأغاني
وشرح ديوان الحماسة وأمالي القالي وكامل المبرد ومختارات الشعراء الثلاثة الطائي
والبحتري والمتنبي وشعر أبي العلاء اللزوميات وسقط الزند وغير ذلك من محفوظاته
التي يستبعد العقل حفظها ووعيها في صدره.
نشأته وأخلاقه :
نشأ رحمهالله في طاعة الله ، فلم تعرف له صبوة في شيء سوى الانكباب
على العلم منذ حداثة سنه ونعومة أظفاره ، ملازما مدرسته بعيدا عن قرناء السوء ،
ولم يتزوج مطلقا ، ينفر من الزواج. وكنت إذا عرّضت له بالزواج ورغّبته فيه ينشدني
قول المتنبي :
وما الدهر
أهل أن يؤمل عنده
|
|
حياة وأن
يشتاق فيه إلى النسل
|
ثم يتبع هذا
البيت بأبيات كثيرة في هذا المعنى من اللزوميات وغيرها.
وكان لا يغفل
التدقيق في أحوال الدنيا ومراقبة شؤونها وتلاعبها بأهلها ، فكان يراها كما هي
حقيقتها دار محنة وشقاء ، نعيمها زائل وظل الحياة فيها متنقل باطل ، تعاقب على
أهلها السعادة والشقاء ، ولذا كان حب الدنيا الذي يعتري قلوب عشاقها المتهالكين في
طلبها وجمع حطامها بعيدا عن قلبه ، فكان لا يفرح بما أوتيه ولا يحزن على ما فاته ،
نقي الفؤاد من مرض الحقد والحسد ، نفورا من آفة الغيبة والنميمة ، حتى إنه كان لا
يقابل من بلغه عنه أنه حسده أو اغتابه بغير قوله : عفا الله عنه.
وكان مع هذه
الخلال الحميدة سخي الطبع يحب التفضل على الإخوان ولا يقصر في برهم وإكرامهم ، كما
أنه لا يقصر في التصديق على الفقراء والمعوزين.
وكان لا يتأخر
عن إجابة من طلب منه قرضا وإن علم أنه غير قادر على الوفاء. وكان لطيب سريرته لا
يظن السوء بأحد ، فكان عظيم الثقة بمن يأتمنه على ماله مكتفيا منه بقوله.
وظائفه وخدماته :
ناهز رحمهالله سن الخمسين ولم يكن له من الوظائف المقررة سوى نحو ٢٠٠
قرش
في الشهر ، مع أنه في ذلك السن كان قد اشتهر فضله وطار في العالم الإسلامي
صيته وقصده رواد العلم وطلابه يأخذون عنه بعض ما أشكل عليهم حله من المسائل
العلمية في فنون شتى.
وكان سبب قلة
رواتبه عدم تعرضه لشيء من الوظائف صونا لشرف العلم عن التبذل وقناعة بما يسر الله
له من كفاف العيش.
وأول وظيفة
حازها أمانة الفتوى حينما كان الشيخ محمد العبيسي الحموي مفتيا في حلب ، فكان هو
والشيخ بكري العنداني أميني الفتوى لديه. ثم عيّن مدرسا أصالة في مدرسة سعد الله
الملطي في جامع الصروي في البياضة وفي مدرسة القرناصية. ثم لما حصل الانقلاب
الدستوري العثماني انتخب رئيسا لجمعية الاتحاد والترقي في حلب. وفي هذه الإثناء
عرضت عليه فتوى حلب وألح عليه أولو الحل والعقد بقبولها ، فلم يفعل رعاية للمفتي
الموما إليه. ولما فتح مجلس النواب المعروف بمجلس المبعوثين في الآستانة انتخب أخي
نائبا عن حلب في جملة من انتخب من نوابها واستمر ينتخب لهذه الوظيفة كلما تجدد
الانتخاب غير منقطع عن هذا المجلس سوى سنة واحدة.
ولما كانت
الحرب العامة وأغلق مجلس النواب بقي أخي في حلب فانتخب عضوا في محكمة الحقوق ، ثم
عيّن رئيسا فيها. وبعد انقضاء الحرب ودخول العرب إلى حلب عيّن مدرسا في المدرسة
الرضائية ، ثم قاضيا في محكمتها الشرعية ، فاستمر في هذه الوظيفة نحو سنتين. ثم بعد
دخول الدولة الإفرنسية إلى حلب عيّن قاضي القضاة لدولة حلب ، وكان المرض قد ظهر في
جسمه واشتدت نكايته فيه ، فتردد إلى محل وظيفته مرة أو مرتين ، ثم عاقه المرض عن
وفائها إلى أن أدركته الوفاة.
الآخذون عنه من فضلاء الأتراك :
بعد أن جاور في
العثمانية كما تقدم شاع فضله ، فأقبل عليه كبار الطلبة يتلقون عنه العلوم الآلية
والفنون الأدبية ، ولازمه جماعة من أدباء الأتراك وأفاضلهم ، منهم الكاتب التركي
الشهير بعلي كمال بك ، أخذ عنه من مختارات النظم والنثر ما يملأ مجلدا ، ومنهم
مظهر بك ابن بدري بك رئيس إدارة البرق والبريد ، لازمه مدة طويلة وأخذ عنه كثيرا
من العلوم الآلية والآداب العربية وأعانه على ترجمة ألفية ابن مالك إلى اللغة
التركية ، وما
زال هذا الشاب يتدرج في الخدم العالية حتى صار واليا في حلب وفي عدة
ولايات.
وممن لازم أخي
من أفاضل الأتراك رفعت بك المناستري صاحب المؤلفات الشهيرة عند الأتراك ، وهو الذي
اقترح على أخي أن يعرّب المنظومة المعروفة «بترجيع بند» المنسوبة إلى ضيا باشا أحد
فضلاء الأتراك ، وقد سمى تعريبها «حدائق الرند» ونظمها نظما بديعا حريا أن يعد من
نوع السهل الممتنع ، مع محافظته على مقاصد الناظم دون زيادة ولا نقصان. وقد استعان
رفعت بك بأخي على تفسير القرآن الكريم باللغة التركية ، ففسر منه نحو الثلثين ثم
أدركته منيته.
صفته وصفاته المعنوية :
كان رحمهالله عظيم الهامة بعيد ما بين المنكبين واسع الجبين مشرق
الوجه خفيف العارضين لا يرى فيهما سوى شعرات قلائل ، وكاد الصلع يعم رأسه ، مائلا
إلى الطول ، بدينا قد ملأ جسمه ثيابه ، مفتول الساعدين عظيم الكفين والقدمين ،
يميل لون وجهه إلى الاصفرار ولون بشرته إلى البياض الناصع ، رقيق القلب يتأثر جدا
لرؤية الفقراء وأرباب البلايا ، ومع ما كان عليه من الشفقة والحنان كان على غاية ما
يكون من القوة والشجاعة وثبات الجأش ، لا يروعه حادث مهما كان عظيما ، محبوبا عند
الناس خاصتهم وعامتهم ، مسلمهم وغير مسلمهم.
وكان تلامذته
في الغاية القصوى من محبته واحترامه. وكان عذب المنطق حلو الحديث نادر الفكاهة
كثير الصمت حسن التفهيم ، وقلما يتحدث بنادرة أدبية يعرفها أحد من أهل مجلسه.
وكان يقرأ في
المدرسة الرضائية تفسير القرآن العظيم للقاضي البيضاوي ، فيرى منه كبار الطلبة
العجب العجاب في تقرير مسائله وكشف مخبآت إشاراته وحل ما في حواشيه من العبارات
الغامضة والتراكيب المستغربة.
وكان الشعر من
بعض محاسنه ، إذا نظم في موضوع جمع في نظامه البداعة والفصاحة وحسن البيان.

مؤلفاته :
له رحمهالله عدة مؤلفات ، غير أنه كان لا يعبأ بما يؤلفه. من ذلك
كتاب في اللغة ضمنه جميع ما في «مختار الصحاح» من الكلمات اللغوية وجعله على أسلوب
حكاية سائح يذكر في حكايته الكلمة ويعطف عليها مرادفها تفسيرا لها.
ومن ذلك كتاب
في الفقه الحنفي لخص فيه ما جاء في كتاب «الدر المختار» وحواشيه من الأحكام
والمسائل المفتى بها ، وهو في مجلد ضخم لكنه لم يكمل.
ومنها عدة
مجاميع في حادثات الفتوى لو جمعت لبلغت مجلدا كبيرا.
غير أن هذه
الكتب قد بقيت في مسوداتها ، ثم على تمادي الأيام تناثرت أوراقها ولعبت بها أيدي
الضياع ولم يبق لها من أثر.
أما مؤلفاته
التي طبعت فهي «رسالة في التجويد» و «ترجمة ترجيع بند» و «نظم الشمسية» في علم
المنطق ، وهو نظم رائق متين لا يظهر فيه أثر للتكلف كما يظهر ذلك في منظومات
المتون العلمية. وله من المؤلفات التي لم تطبع تفسير صغير مختصر مفيد يمكن طبعه
على حاشية المصحف ، وقد بقي في مسوداته.
هذه خلاصة
ترجمة أخيه له ، وهو حريّ بما قاله فيه ، فقد كان رحمهالله آية من آيات الله في حفظ اللغة ومعرفة معاني غريبها
وحفظ شواهدها ، وربما استشهد للكلمة الواحدة بالبيتين والثلاثة والأربعة من كلام
العرب فكان يأخذنا لذلك منتهى العجب ، وكاد يأتي على حفظ لزوم ما لا يلزم وسقط
الزند وديوان المتنبي وغير ذلك مع فهم معاني ذلك حق الفهم ، وكنا نرى أنه أجدر
الناس بوضع شرح للزوميات أبي العلاء يوضح به ما هو مغلق فيه ، وهذا ما كنا نتمناه
من شيخنا ، لكنه لم يتوفق لذلك. وله مع ذلك اليد الطولى في غير ذلك من العلوم مثل
المعاني والبيان والمنطق والتفسير والحديث. وقرأت عليه قسما كبيرا من صحيح البخاري
إلى كتاب الحج حينما قرأه في الجامع الأموي وفي المدرسة العثمانية.
نعم كنا كغيرنا
لا نود له قبوله النيابة عن أهالي حلب وذهابه إلى الآستانة مبعوثا عنها ، وكنا نرى
جميعا أن الأجدر به عدم قبوله لأمثال ذلك ، فإن السفر لذلك عدة سنين أضاع به وقتا
ثمينا لو صرفه في نشر العلم منه لأفاد كثيرا.
غير أنه استفيد
من سفره هذا نشر كتب «أحكام القرآن» للإمام أبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف
بالجصّاص المتوفى سنة ٣٧٠.
فقد وجد منه
شيخنا عدة نسخ في مكاتب الآستانة في تردده إليها أثناء وجوده ، فسعى لدي نظارة
الأوقاف ثمة وحسّن لها طبعه ، فوافقت على ذلك ، وطبع الكتاب في الآستانة في ثلاثة
مجلدات في مطبعة الأوقاف الإسلامية ، وهو كتاب جليل من كتب المتقدمين الجديرة
بالنشر ، وقد صحح معظمه بنفسه فجزاه الله خيرا.
وكان نظمه
متينا محكما لا حشو فيه ، حسن السبك منسجما ، غير أنه لم تكن عنايته به كثيرة ، لا
ينظم إلا عند الاقتضاء والطلب. ولم يعن بجمعه فذهب ما صاغه من عقوده كأن لم يكن.
والذي بقي محفوظا من آثاره الشعرية منظومته للشمسية في المنطق ومنظومته المسماة
حدائق الرند في ترجمة ترجيع بند ، وهي محتوية على كثير من الحكم والأمثال والمواعظ
والحقائق ، ويستشهد الآن بالكثير من أبياتها ، أولها :
ذا معمل
الصنع العجيب مكتب
|
|
نقوشه عن علم
غيب تعرب
|
وفلك طاحونة
المصائب
|
|
والناس فيها
مثل حب ذاهب
|
ملتقما
أفراخه كالعفريه
|
|
وهو كوكر
الطير واهي الأروية
|
ومن يحقق يجد
الأشياء
|
|
مناما او
خيالا او هباء
|
وكل شيء
للتناهي ينقلب
|
|
فانظر فصول
العام كيف تنقلب
|
والمرء عن
كسب اليقين عازب
|
|
والاعتقاد عن
حجاه غائب
|
يا رب ما هذا
العناء واللدد
|
|
وحاجة المرء
بكسرة تسدّ
|
لا عاصم من
قدر السماء
|
|
بل كل شيء
هدف القضاء
|
والأصل أن
يظهر مقدور الأزل
|
|
والخطء
والصواب في الناس علل
|
وكل تأثير من
الرحمن
|
|
لا حكم للأفلاك
والأزمان
|
سبحان من قد
حيّر العقولا
|
|
بصنعه وأعجز
الفحولا
|
وهذا هو الفصل
الأول ، وقال في الفصل الرابع :
__________________
للضعف صار
الظبي لقمة الأسد
|
|
والذئب أضحى
طعمة له النّقد
|
وبالذباب
تغتذي العناكب
|
|
والصقر أيضا
للحمام خالب
|
كذا العقاب
للبغاث تفترس
|
|
وللضفادع
الأفاعي تختلس
|
إلى أن قال :
ظلم القويّ
للضعيف جار
|
|
في الأرض
والهواء والبحار
|
وجاء في الفصل
السادس :
يفترّ ورد
والهزار ينتحب
|
|
يودي العليل
والطبيب يكتسب
|
وجيفة الميت
الغني مغتنم
|
|
ينتابها
العافون أمثال الرخم
|
نام الغريب
في تراب الذلّ
|
|
وارتفق
المثري وساد الدلّ
|
وازدهر الشمع
بمجلس الطرب
|
|
واحترق
الفراش من ذاك اللهب
|
كالنرجس
الثوم تبدّى والبصل
|
|
والطيب قد خص
بحبس ذي أزل
|
قد عز في
الدنيا الخسيس الجاهل
|
|
وعاش في الذل
الحسيب العاقل
|
ورب ذي جهل
لدولة ملك
|
|
ورب ذي عقل
للقمة هلك
|
قد قبل الناس
اللئيم المفسدا
|
|
ونابذوا
الشهم النصيح المرشدا
|
كم فاضل
لجاهل مسخّر
|
|
وكم أديب
عنده محقّر
|
العارفون
رزقهم في هبط
|
|
والظالمون
عيشهم في غبط
|
سبحان من قد
حيّر العقولا
|
|
بصنعه وأعجز
الفحولا
|
وجاء في الفصل
السابع :
يا رب ما بال
اللبيب في الزمن
|
|
معذب بعقله
وممتحن
|
يا رب إنك
ابتليت العارفا
|
|
بقدر ما
أوليته معارفا
|
وهي على هذا
النسق في اثني عشر فصلا ، وكلها درر وغرر ، ولو لم يكن له من النظم سواها لكفاه
فخرا ونبلا.
__________________
وكان حصل
اختلاف بين جماعة في مجلس المترجم في الأرض ، هل هي متحركة أو واقفة؟ فاستدعوا لحل
هذا الخلاف جلال بك من معلمي المكتب السلطاني في عهد الحكومة العثمانية ، فجاء وهو
سكران وأخذ في سرد الأدلة على حركة الأرض ، فقال لهم شيخنا : إن جميع ما أتى به
جلال بك من الأدلة هو ظني لا قطعي ، ونظم عند ذلك بيتين وهما :
زعموا بأن
الأرض تجري مثلما
|
|
تجري الكواكب
والدليل ظنون
|
جاؤوا بسكّير
يؤيّد زعمهم
|
|
يبدي فنونا
والفنون جنون
|
فعظم وقع هذين
البيتين في نفوس الحاضرين.
وكان يتردد على
شيخنا إبراهيم أفندي الكلزي حينما كان ناظرا لأوقاف حلب ، وقد عمر خانا في قرية
كفر أنطوان الواقعة في الطريق بين حلب والإسكندرونة ، ولما أتم بناءه دعا شيخنا مع
بعض أحبابه إلى هناك ، ولما أرادوا أن يناموا في الغرف التي فيه هجمت عليهم جيوش
من البعوض والبراغيث ، فأرق شيخنا ، فارتجل عدة أبيات أسمعها من كان معه أولها :
يا ليلة في
كفر أنطون بها
|
|
بتنا على أرض
بغير لحاف
|
إلى أن قال
شاكيا مما أصابهم من الهوام :
فتصرفت بدمائنا
ولحومنا
|
|
كتصرف
النظّار في الأوقاف
|
فكان لها أحسن
وقع في نفوس الحاضرين وتدوولت فيما بين الناس ، غير أني لم أجد بعد البحث الكثير
من يحفظ الأبيات بتمامها ، فأثبت ما وصل إليّ منها وهو المطلع والختام.
وخلاصة القول
في شيخنا أنه كان علما من الأعلام ، علّامة في فنونه ، لم يخلفه في الشهباء مثله ،
وفقدنا بفقده علما جما وأدبا كثيرا.
وكانت وفاته
ليلة الثلاثاء في العشرين من رجب سنة ١٣٣٩ ، رحمهالله وأغدق على جدثه سحائب رضوانه.
١٣٢٧ ـ الشيخ محمد بركات المتوفى سنة ١٣٤١
الشيخ محمد بن
محمود بن عبد الرحمن الشهير ببركات ، العالم الفاضل الشريف الحسيني. يتصل نسبه كما
رأيته في النسب المحفوظ عند ولده الطبيب عبد الوهاب بالشريف الفاضل والعالم العامل
محمد بن صادق المولود سنة ٩٩٢ ابن هاشم المولود سنة ٩٢٧ المتوفى سنة ٩٦٤ ، كما ذكره
الرضيّ الحنبلي في تاريخه ، ابن ناصر الدين عباس المتوفى سنة ٩٢٢ ابن بركات (وبه
أو بجده عرفت هذه الأسرة) ابن محمد بن بركات بن حسين ابن موسى بن عباس بن حيدر بن
حسن بن محمد بن حسين بن عباس بن إبراهيم بن علي ابن قاسم بن محمد بن حسن بن علي بن
محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن فاطمة الزهراء.
وعلى هذا النسب
توقيع حاكم السادة الأشراف السيد شمس الدين ابن الحنبلي ، وقد ذكر فيه أنه قد ثبت
بشهادة الشيخ عمر ابن الشيخ عبد الوهاب العرضي وولده أبي الوفا والشيخ أحمد بن
محمد الكواكبي والشيخ أحمد بن عثمان الحموي وغيرهم ، وهؤلاء من رجال القرن الحادي
عشر.
ولد المترجم رحمهالله سنة ١٢٨٣. ولما ترعرع أخذ في طلب العلم ، وبعد أن حصل
مباديه من نحو وصرف ومنطق وغير ذلك من العلوم الآلية اتصل بالأستاذ الكبير الشيخ
محمد الزرقا ، فحضر عليه شرح العلّامة القسطلاني على البخاري وحاشية ابن عابدين
على الدر المختار في الفقه الحنفي.
ولما كان ذا
علاقة بالأوقاف صرف عنايته إلى تعلم أحكام الأوقاف ، فمهر فيها وصارت نصب عينيه.
ولما كان ممن أغناه الله بما عنده من واردات الأوقاف لم تطمح نفسه إلى تقلد شيء من
الوظائف ، بل كان قانعا بما لديه منها ، غير أنه في أخريات حياته انتخب عضوا في
لجنة المحاسبة في دائرة الأوقاف ، فبقي فيها مدة. وكان له فضلة مال فأعطاها لبعض
التجار بطريق الشركة ، فصار يتجر له فيها ويرتزق أيضا منها.
__________________
ولما طبعت كتاب
«الفوائد السمية» وهو شرح العلامة محمد بن الحسن الكواكبي المتوفى سنة ١٠٩٦
لمنظومته في الفقه الحنفي ، كما أوضحته في ترجمته ، وانتهى من الطبع سنة ١٣٢٧ شرع
المترجم في وضع حاشية عليه في إحدى وعشرين كراسة بخط دقيق ، قال في أولها : لما
طالعت كتاب «الفوائد السمية شرح الفرائد السنية» كتبت عليه بعض عبارات لا تخلو من
تقييدات وإيضاحات وإصلاحات أخل بها قلم الناسخ ، وقد زدت مع ذلك بعض فروع يحتاج
إليها تتميما للفائدة ، وحيث لم أقف على نسخة خالية من السهو والغلط لأصلح على
منوالها نسختي فجمعت ذلك لأتنبه له في المآل لا لأباهي به الأقران والأمثال.
وله أيضا من
المؤلفات «منتهى الأرب في قواعد لغة العرب» وهو كتاب مفصل في النحو جعله فصولا ،
وهو في ٣٢٥ صحيفة.
وله كتاب «الفوائد
السنية في القواعد المنطقية» ، وهو في ٤ كراريس.
ورسالة سماها «الرد
التحقيقي على مدعي الإسلام الحقيقي» رد بها على كتاب لبعض المسيحيين سماه «الإسلام
الحقيقي» ، قال فيها المسيحي في كتابه : الإسلام هو الخضوع لله. والإيمان هو جوهر
الدين. ثم قال المسيحي : للإسلام خمسة أركان :
(الأول) : أن
يكون المعبود هو الإله الواحد وهو الله.
(الثاني) : أن
يعتقد الإنسان نفسه مخطئا أثيما محتاجا للقداسة.
(الثالث) : أن
الخلاص من عذاب الله لا ينال إلا بواسطة مخلص عظيم.
(الرابع) : أنه
لا خلاص بدون كفارة.
(الخامس) : أن
الخلاص بالإيمان.
وفي بيانه
الأركان الخمسة بما ذكره مقال ، وهو أنه تقرر لدى الناس أن ركن الشيء ما تتركب منه
حقيقته الظاهرة إلخ. وهي في كراسة.
وكان رحمهالله صالحا ساكنا ، لا يرغب في الاختلاط كثيرا ، مؤثرا
للعزلة في الجملة. ظل على ذلك إلى أن غربت شمسه في ربيع الآخر سنة ألف وثلاثمائة
وإحدى وأربعين ، ودفن في تربة الصالحين.
١٣٢٨ ـ الشيخ محمد العبيسي الحموي المتوفى سنة ١٣٤١
الشيخ محمد ابن
السيد مصطفى العبيسي ، الحموي أصلا ومولدا ومنشا ، الحلبي موطنا ووفاة.
كان والده
يتعاطى التجارة بحماة مع بيع الكتب ، وكان يتردد لمصر لذلك ، فاستصحب معه في إحدى
سفراته إليها ولده المترجم ، وذلك في حدود الثلاثمائة وألف ، وبقي ثمة نحو أربع
سنين يتلقى الدروس في الأزهر ، إلا أنه لم يكن من المنكبين على التحصيل المجدين
فيه.
ثم إنه توجه
إلى الآستانة وحل بساحة الشيخ محمد أبي الهدى الصيادي الشهير ، فأكرم مثواه وأقام
في منزله نحو خمس سنين ، وفي سنة ١٣٠٩ عينه وكيلا عنه في مشيخة تكيته التي عمرها
في حلب في محلة أغلبك (باب الأحمر) فوصل إلى حلب في جمادى الأولى أو الثانية منها
، وصار يقيم الذكر في ليالي الجمع ، وكان معظم من يؤمه ممن لهم انتساب إلى الشيخ
أبي الهدى. ثم أنيط به القيام على وقف أبشير باشا الشهير الواقع في محلة الجديدة
وكالة عن الشيخ أبي الهدى الذي هو متوليه بالأصالة ، وقد ذكرت ذلك في الكلام على
هذا الوقف في الجزء الثالث (ص ٢١٤) ، فأحسن المترجم القيام عليه ورممه وزاد في
ريعه.
وفي نواحي سنة
١٣١٥ انحلت نيابة قضاء جبل سمعان ، فعيّن لها بعض من يلوذ بالشيخ أبي الهدى ،
فوكّل المعيّن للمترجم في القضاء إلى حين حضوره ، إلا أنه لم يحضر وعيّن لجهة أخرى
، فعندئذ كتب والي حلب رائف باشا بالتماس من المترجم إلى الآستانة باستحسان تعيين
المترجم.
وفي هذه
الأثناء في سنة ١٣١٦ توفي العلامة الشيخ أحمد الزويتيني مفتي حلب ، فكتب الوالي
رائف باشا إلى الآستانة بلزوم تعيين شيخنا محمد الجزماتي لمنصب الإفتاء لأهليته
لذلك وشهرته في الفقه الحنفي ، فجاء الجواب بتعيين المترجم لهذا المنصب ، وذلك
أيضا بمساعي الشيخ أبي الهدى لدى باب المشيخة الإسلامية وإقناعه لها بترجيحه على
الشيخ محمد الجزماتي ، ومعلوم ما كان للشيخ أبي الهدى عند السلطان عبد الحميد من
المنزلة الرفيعة والكلمة المسموعة ، فوافق باب المشيخة على ذلك وكتب إلى رائف باشا
بتعيين المترجم
لمنصب الإفتاء ، وأن ذلك بناء على حسن شهادتكم في حقه وأن من صلح للقضاء
صلح للإفتاء بالأولى. في حين أنه والحق يقال لم يكن لديه من علم الفقه ولا غيره من
العلوم الآلية أو العقلية ما يؤهله أن يشغل هذا المنصب الجليل ، ولكن :
فكم في العرس
أبهى من عروس
|
|
ولكن للعروس
الحظ ساعد
|
و:
إن المقادير
إذا ساعدت
|
|
ألحقت العاجز
بالقادر
|
وحينما كان
شيخا للتكية حصل له بعض الإقبال من الذين يلوذون في حلب بالشيخ أبي الهدى وينتسبون
له ويشاركونه في الطريقة الرفاعية ، ولكن بعد أن صار مفتيا أقبل عليه الناس أيما
إقبال وسعوا إليه في أمورهم وكثر زواره وقصاده ، شأنهم عند إقبال الدنيا على أحد
كما قيل :
الناس في زمن
الإقبال كالشجره
|
|
والناس من
حولها ما دامت الثمره
|
وصار رئيسا
لكثير من اللجان التي تعين من قبل الحكومة ، وعضوا طبيعيا في مجلس الإدارة ،
ورئيسا للجان إدارة الأوقاف بمقتضى القوانين التركية. وربما عين نائبا عن القضاة
حينما تنقضي مدتهم إلى أن يأتي القاضي الجديد. ولا ريب أنه بذلك صار له الكلمة
المسموعة لدى الحكام ، ووسع دائرة ذلك انتسابه إلى الشيخ أبي الهدى ، ولا يخفى ما
كان له في الآستانة من الجاه الواسع والكلمة النافذة لتقريب السلطان عبد الحميد له
واتخاذه من خواصه.
ومع هذا فلم
يكن المترجم يبالغ في إطراء الشيخ أبي الهدى ولا يكثر من ذكره ولا ينسب له شيئا من
الكرامات التي كان يختلقها معتقدوه ومن يلوذ به ، ولا يزيد عند ذكره له عند
الاقتضاء كما سمعته منه غير مرة على قوله : صاحب السماحة حفظه الله ، ثم يمضي في
حديثه.
وكان المترجم
أبيض اللون مربوع القامة معتدل اللحية ليست بالكثة ولا الخفيفة ، نشيطا في القيام
في الأعمال التي تناط به ، ذا همة فيها.
ورمم الجامع
الذي في محلة باب الأحمر المعروف بجامع أغلبك أحسن ترميم ، وقد بسطت
ذلك في الكلام على هذا الجامع في ترجمة بانيه في الجزء الخامس (ص ٢٩٢) .
وقام على بعض
العمارات التي حصلت في المدرسة الخسروية وفي الجامع الكبير ، واسمه مذكور في
الأبيات التاريخية المنقوشة فوق باب القبلية المعروفة بالحجازية.
ثم إنه بأمر من
الشيخ أبي الهدى اشترى عدة دور مجاورة لأصل التكية وزاد في عمارتها على الصورة
التي نراها الآن ، غير أن من يرى هذه العمارة يعتقد أنه قصر لبعض أهل الغنى
والثراء لا تكية عمرت لمأوى الفقراء.
وكان رحمهالله حسن الملتقى ، متواضعا للكبير والصغير ، كثير المداراة
للحكام ملائما لأفكارهم وأفكار الوجهاء في حلب. ولعل ذلك كان سبب بقائه في هذا
المنصب حتى بعد وفاة الشيخ أبي الهدى إلى حين وفاته ، ولو لا ذلك لعزل من هذا
المنصب بعد إعلان الدستور لقلة بضاعته العلمية وكثرة المتصدين لهذا المنصب ، لكنه
بمداراته الحسنة امتلك القلوب فصار له نصراء من الوجهاء أوجب ذلك بقاءه في منصبه.
ولكنه لم يخل من الطمع في الوظائف التي لا ينبغي لمثله أن يمدّ يده إليها ، مثل
قراءة بعض الأجزاء التي ينبغي أن تكون للحفّاظ وخصوصا العميان منهم والعجزة ،
وإمامة بعض المساجد التي ينبغي أن تكون لطلبة العلم. وصار له على ما قيل نحو عشرين
وظيفة ، وأنّى له أن يقوم بها مع اشتغاله بأمر الإفتاء واللجان وغير ذلك من مهام
الأمور ، وكان ذلك موضع انتقاد الناس له.
وأثرى بعض
الإثراء من هذه الوظائف ومن زراعة اتخذها في بعض القرى ، فعمر تحت القلعة بجانب
الحمّام الناصري المعروفة بحمام اللبابيدية خانا ودارا واسعة ملاصقة للخان اتخذها
لسكناه ، وسعى في تعريض الجادة التي أمام داره فتحسن بذلك هذا المكان. وسيزيده
تقدما شروع الحكومة هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥ ببناء دار له عظيمة بين الحمّام
المتقدمة وبين المدرسة السلطانية الظاهرية التي هي تجاه باب القلعة ، وقد كان بوشر
بحفر الأساسات لهذه الغاية سنة ١٣٣٦ زمن مصطفى عبد الخالق بك آخر ولاة الدولة
العثمانية في حلب ، ثم أهمل بسبب الاحتلال الإنكليزي الغربي لحلب في محرم سنة ١٣٣٧
إلى هذه السنة.
__________________
وقبيل وفاة
المترجم بنحو سنتين ناهضه بعض من لهم علاقة في الأوقاف لمضادته لهم في أمور
أوقافهم وحرروا في حقه المضابط المرة بعد المرة مبينين فيها عدم لياقته لهذا
المنصب ، وأن الوظائف التي في عهدته لا يقوم بها ، فارتبك في أمره وتأثر من ذلك
أشد التأثر بحيث أدّاه إلى الإضرار في جسمه والاضطراب في فكره ، ثم ازداد به ذلك
إلى أن لزم الفراش ، ثم توفي في التاسع والعشرين من شهر صفر سنة ١٣٤١ ، ودفن في
تربة الجبيلة عن ستين عاما أو زاد عن ذلك قليلا ، رحمهالله تعالى.
١٣٢٩ ـ محمود كامل باشا العينتابي المتوفى سنة ١٣٤١
محمود كامل باشا
ابن محمد ناجي أفندي العينتابي. والده من العائلات المعروفة في عينتاب قديما ، حضر
لحلب في نواحي سنة ١٢٧٠ وتوطن بها وكان مديرا للأوراق في الولاية ، بقي في هذه
الوظيفة إلى أن توفي سنة ١٣١٣. وتزوج في حلب وولد له عدة أولاد ، وكان المترجم
رابع ولد من أولاده الذكور ، وكانت ولادته سنة ١٢٩٧.
ولما ترعرع ختم
القرآن الكريم في المدارس المحلية ، ثم دخل إلى المدرسة الرشدية العسكرية في حلب ،
وظهرت علي أمارات الذكاء من ذلك الحين بحيث كان يمتاز على أقرانه ورفقائه بسرعة
الانتقال مع أنه كان أصغر التلامذة في صنفه.
وخرج من هذه
المدرسة وهو في سن الثالث عشر من العمر ، وذهب إلى دمشق فدخل المكتب الإعدادي
العسكري ، وكان هناك موضع إعجاب معلميه لذكائه الفطري وحسن مداركه. وبعد أن أكمل
التحصيل فيه توجه إلى الآستانة ودخل المدرسة الحربية ووضع في صنف الأركان الحربية
، وهناك أيضا امتاز بين أقرانه في إتقان العلوم الحربية والحركات العسكرية ، وكان
هو وأنور باشا الشهير في صف واحد ، ومن ذلك العهد عقدت بينهما رابطة المودة
والمحبة.
ثم خرج من هذه
المدرسة برتبة (يوزباشي) وعين لمنطقة حلب العسكرية ليخدم في الصنوف الثلاثة (بياده.
سواري. طوبجي) حسب الأصول المتبعة ، فحضر لمسقط رأسه ، وكان القائد العام في ذلك
الوقت في منطقة حلب علي محسن باشا الفريق المشهور (دفين التكية المولوية) فقام
بمهام وظيفته أحسن قيام ، فأحبه الرجال العسكريون لذلك ،
ولدماثة أخلاقه. وفي أثناء ذلك وضع خريطة للحمرة (أرض واقعة بين المعرة وحماة)
وكانت محلا لتربية الخيول العسكرية ، وهي نقطة دفاع بين القرى المعمورة والصحراء
التي هناك ، وذلك بأمر من الحكومة ، فصارت تلك الخريطة دستور العمل في تقسيم تلك
الأراضي وتوزيعها على مناطق متعددة.
وفي سنة ١٣٢٣
حدثت الثورة العظيمة في البلاد اليمانية ، فأرسل هو وأربعة من رجال الأركان
الحربية إلى اليمن عن طريق الشام والعقبة مع عزة بك (الذي صار بعد ذلك مشيرا
وناظرا للحربية) فوصلوا إلى الحديدة وسافروا مع القائد العام المشير علي رضا باشا
إلى صنعاء ، وكانت محاصرة ، وحضر هؤلاء معركة مساجد التي قتل فيها أحدهم القائمقام
عزة بك. وبعد عدة معارك شديدة تمكنوا من إزالة الحصار عنها ودخلوا صنعاء. وبعد مدة
عاد الإمام حميد الدين بجيوشه الجرارة وحاصر صنعاء مرة ثانية ، وبعد المذاكرات
الطويلة مع الإمام سلمت صنعاء إلى الإمام المشار إليه بموجب معاهدة حفظت حقوق
الطرفين وحالت دون إهراق الدماء.
ولما بلغت هذه
الاتفاقية إلى السلطان عبد الحميد خان تأثر منها ولم ترق له ، فعيّن المشير الشهير
أحمد فيضي باشا الذي كان قائد الجيش السادس في بغداد ، وجهز له الجيوش الكثيرة من
المملكة العثمانية ، فذهب أحمد فيضي باشا إلى اليمن عن طريق نجد والمدينة المنورة
، ولما وصل الحديدة توجه منها إلى مناحة ، وهي معقل عظيم بين الحديدة وصنعاء ،
وهناك عسكر المشير بجيوشه والتحق به من كان هناك من العساكر العثمانية التي هي في
قيادة المشير علي رضا باشا ، وكان المترجم محمود كامل باشا في عداد هؤلاء ، وهم
الذين كانوا خرجوا من صنعاء حينما سلمت إلى الإمام كما مر. وعندئذ قام المشير أحمد
فيضي باشا بالأعمال العسكرية بتلك الجيوش الجرارة ، فاسترد صنعاء ، وقضت بتراجع
الإمام إلى مركزه القديم (صعدة) التي هي بجبال شهارة ، وتعقبه المشير إلى موضعه
هذا وحاصره أياما فلم يتمكن من الاستيلاء عليه لمناعة تلك الجبال وكثرة الجنود من
أهالي اليمن التي التفت حول الإمام.
وجرح المترجم
في إحدى الوقائع التي حصلت مع قبيلة حاشد برصاصة أصابت رجله ، وذلك بجوار قلعة
رمادي.
وحدث أنه بينما
كان ذات يوم يتجول في جبال (أنس) الذي هو تقريبا مبدأ منشأ الثورة في بلاد اليمن
صادفه رجل من مقدمي هذه الجبال يقال له المقداد ، ولعله الآن في قيد الحياة ، فقال
له المقداد : تعال امش معي لأريك مغارة كبيرة هامة ، فظن أنه يقصد أن يريه محلا
قديما من الآثار التاريخية ، فذهب معه ، ولما دخل المغارة لم يجد فيها ما يستلفت
النظر ، فعندئذ قال له : أرأيت سعة هذه المغارة يا حضرة البيك ، إن الليرات التي
يدفعها أهالي هذا القضاء ظلما وفضولا لتملأ هذه المغارة عدة مرات ، وإنا إلى الآن
لم نقدر أن نملأ بطن زكريا باشا الجركسي ، ولم يبق بين أيدي الأهالي سوى أحجار
أبنية هذا القضاء المخرب وأنقاضه ، فهل من الممكن بعد هذا كله ألّا نعصي ولا نثور
، فأنتم يا أرباب الحل والعقد ، إذا لم تتداركوا الأمر وترفعوا الظلم والعسف فمن
المستحيل أن يسود الأمن وترجع الطمأنينة إلى هذه الربوع. وكن على يقين أنا
اليمانيين نحب الترك أكثر من حبهم لأنفسهم. قال هذا وتنفس الصعداء.
وقيل إنه كان
لزكريا باشا هذا ثمانون ألف ليرة عثمانية ذهبا في المصرف الإنكليزي في عدن ، وشاع
إذ ذاك أن الإنكليز ضبطوها وصادروها.
وكان المترجم
من حين دخوله إلى اليمن إلى حين خروجه منها يدرس أحوالها وأخلاق أهليها ، ويختلط
بكبرائها وساداتها والمقدمين فيها وجميع طبقات الناس ، ويذاكر علماءها ومشايخها
ويطارحهم المسائل ويحاضرهم ، وذلك لمعرفته باللغة العربية وفصاحة لهجته ، ولوقوفه
على كثير من الأحاديث النبوية وحفظه قسما من الأشعار العربية مثل المعلقات
واللزوميات وديوان المتنبي ، ولذلك كان أينما حل يلقى من الحفاوة والإكرام ما لا
يلقاه غيره ، ويلقى من أهل البلاد محبة وركونا إليه ، وكانوا إذا أرادوا الاستسلام
لا يستسلمون على الأكثر إلا بواسطته ولا يثقون إلا به ويعتمدون عليه تمام الاعتماد
، وكان يعدهم بقرب انفراج الأزمة والتخلص من أوهام السلطان عبد الحميد التي بثها فيه
من كان مستوليا على أفكاره من الرجال الذين كانوا محيطين فيه من المنافقين
والدجالين ، حتى صارت منشأ تلك الفتن وحدوث هذه الثورات ، وكان يعني بذلك قرب
إعلان الدستور.
وكان يتألم
كثيرا لإراقة هذه الدماء البريئة وذهابها هدرا من الطرفين من غير ما جدوى ولا غاية
، وكل ذلك ناشىء من سوء الإدارة ومما يقع من أنواع الظلم والارتكابات.
وبعد أشهر عيّن
إلى نظارة الدروس في المدرسة الحربية الإعدادية في (أدرنة) ، فأحب أحمد فيضي باشا
أن يقنعه بالبقاء معه ووعده بترقيته بوقت قريب إلى رتبة عالية ، فاعتذر منه ورجاه
أن لا يكون حائلا دون نقله إلى (أدرنة) فغادر البلاد اليمانية ودخل القاهرة متنكرا
، وهناك اجتمع مع بعض العارفين. ثم أتى إلى حلب لزيارة أهله وإخوته ، فبقي شهرا ثم
سافر إلى أدرنة ، فبقي فيها مدة وجيزة ، وهناك رفّع إلى رتبة (قائمقام).
وكانت النار
تشتعل شيئا فشيئا في البلقان تحت الرماد ، والمذاكرات الدولية تجري في العواصم
الأوروبية بصورة خفية في أمر البلقان وتقسيم الدولة العثمانية ، وكان ضباط الأتراك
والأمراء في الجيوش العثمانية يراقبون تلك المذاكرات والمقابلات الدولية عن بعد
بأنواع الوسائل ويدركون نتائجها الوخيمة ، فبادروا لإعلان الدستور رغم إرادة
السلطان عبد الحميد وحواشيه.
فبعد إعلانه
بزمن قليل دعي المترجم إلى نظارة الحربية ، وكان الناظر إذ ذاك المشير علي رضا
باشا ورئيس الأركان الحربية عزة باشا اللذين كانا حوصرا في صنعاء معا ، فشرع مع
لجنة خاصة بتنظيم القوانين العسكرية وتجديدها حسبما تقضيه الترقيات العسكرية
وتتطلبه الأوقات الحاضرة وإرسالها إلى مجلس المبعوثين والأعيان للتصديق عليها.
وكانت الدسائس الأجنبية تلعب أدوارها ، وتنثر تلك الدول الذهب الوهاج إلى الجمعيات
السرية والعلنية المتشكلة في الآستانة والبلقان وكثير من البلدان من جهة ،
والسلطان عبد الحميد وحواشيه يوغرون صدور الأمراء والضباط الذين حرموا وظائفهم
وفقدوا نفوذهم وغطرستهم ، وقد كان أكثرهم من [الآلايجية] أي غير المأذونين من
المدارس العسكرية ، فكان نتيجة ذلك حصول فتنة ٣١ مارت سنة ١٣٢٥ ، وصارت بها
الآستانة شعلة نار. وقد بسطت هذه الحادثة الجرائد في حينها ودونت في الكتب.
وكانت في تلك
الأيام العصيبة جماعة مدفوعون من قبل الجمعيات المتشكلة ضد الحكومة الدستورية
يأتون إلى أبواب منازل الاتحاديين ويضعون إشارة عليها بالفحم أو بالتباشير ليرسل
إليهم ليلا أناس يغتالونهم. ففي بعض الأيام وجد المترجم تلك الإشارة على باب منزله
في (كدك باشا) فاستقصى الأمر فأدرك المغزى ، فغادر المنزل إلى أقسراي فاختفى في
دار امرأة عجوزة مدة إلى أن حضر محمود شوكت باشا إلى الآستانة بجيوشه
الجرارة ودخل الآستانة عنوة وخلع السلطان عبد الحميد وأجلس السلطان محمد
رشاد وسكنت تلك الفتن ، وعين لمنصب الصدارة حقي باشا ، وهذا أيضا اعتمد غاية
الاعتماد على المترجم لما رآه فيه من الجد والنشاط وفرط الغيرة والإقدام ، فكان
يوليه مهام الأمور ورقاه إلى رتبة (ميرالاي). وبعد مدة وجيزة أظهرت الدولة
الإيطالية نواياها تجاه طرابلس الغرب ، فساقت إليها جنودها وأساطيلها ، وعندئذ
أعلن الحرب بينها وبين الدولة العثمانية ودامت نحو سنة.
وكانت إيطاليا
في أثناء ذلك تسعى السعي الحثيث في إيقاد نيران الفتنة والعصيان في البلقان لتشغل
الدولة العثمانية عنها فتحول نظرها عن طرابلس الغرب إلى البلقان ، فظهرت فتنة
الأرنؤوط وأعقبتها طغيان الماليسور في ولاية أشقودرة ، وانتشرت شرارات الفتنة إلى
بلاد الأرنؤوط الجنوبية حتى حدود اليونان. فانتهزت عصابات البلغار والصرب واليونان
هذه الفرص الثمينة ، وطفقت تنسل من كل حدب ، وصارت تأتي بأنواع الفظائع ، والدول
الغربية تشجعها وتمدها مادة ومعنى ، فاضطرت عندئذ أن تقبل الدولة العثمانية مطاليب
الأرنؤوط الأربعة عشر ، وكان أولها إسقاط الوزارة وفسخ مجلس المبعوثين ، فسقطت
وزارة حقي باشا وأعقبتها وزارة سعيد باشا ، ثم ما لبثت أن سقطت وخلقتها وزارة
الغازي أحمد مختار باشا.
ظن هذا الشيخ
الهرم أنه يتمكن من حل تلك المشكلات العظيمة بالطرق الحكمية بالاتفاق مع الدول
الغربية وتوسطهم ، واغتر بمواعيدهم الخلابة ، فأمر بصرف الجيش النظامي المحتشد في
ولايات البلقان المجهز بأنواع الأسلحة من الطراز الأخير ، وكان يبلغ ١٥٠ ألفا ،
وعندئذ قام غير المسلمين من عناصر (الأسلاو) في قضاء برانة والتحقوا بعصاة
الماليسوريين في ولاية أشقودرة وأخذوا اعتبارا من ١٤ تموز سنة ١٣٢٨ رومية يحرقون
الحصون التي على الحدود ويتجاوزون على الأطراف ويسفكون دماء الأبرياء وينهبون
ويسلبون. فأرسلت حينئذ دولة النمسا قرارا إلى الدولة العثمانية يحتوي على مادتين
مصدقتين من قبل الدول العظمى ، وخلاصتهما إعطاء الحكم الاختياري إلى كل من مكدونيا
وبلاد الأرنؤوط ، فاستقالت عندئذ وزارة أحمد مختار باشا وخلفتها وزارة كامل باشا
الصدر المشهور.
وكان ناظم باشا
وزيرا للحربية في هذه الوزارة ، وكان شديد البغض والعداوة لمحمود شوكت باشا فاتح
الآستانة ولا يركن إلى حواشيه ومعتمديه. فصادف ذات يوم أن المترجم محمود كامل باشا
ذهب مع بعض أصدقائه وإخوانه إلى (حريت أبدية تبه) وهو موضع قتل فيه بعض ضباط
الاتحاديين يوم حادثة ٣١ مارت سنة ١٣٢٥ ، وتبعهم بعض جواسيس الوزارة ونفر من
مخابري الجرائد [الاتحاديين والائتلافيين] فأبّن هؤلاء القتلى بخطبة وجيزة خالية
عن كل مغزى سياسي ، فما مضى على ذلك بعض ساعات إلا وانتشرت تلك الخطبة في الجرائد
بحذافيرها ، وصارت جرائد الاتحاديين تحبذها وجرائد الائتلافيين تبني عليها القصور
والعلالي ، واتصل الخبر بالصدر كامل باشا ووزير الحربية ناظم باشا وقامت في
الوزارة ضجة أصبح كل واحد من المجتمعين يوجس خيفة في نفسه من هذا الاجتماع.
وعقب ذلك بلغ
ناظم باشا للمترجم أنه عينه قائدا إلى أشقودرة على جيوش القلاع والحصون ، وأنه
ينبغي أن يبارح الآستانة في الحال ، فلم يجد بدا من امتثال الأمر ، فلم يصل إليها
إلا بشق الأنفس ، وتعرض في طريقه لجلائل الأخطار. وقبل وصوله بأيام قلائل كانت
أكثر قرى أشقودرة ومعاملاتها سقطت في يد العدو وفي أيدي العصابات ، وكان قائد
الجيوش المرتبة أسعد باشا الطابطائي أحد كبار الأرنؤوط ذوي النفوذ ، وكان رئيس
عشيرة ومقدما زمن السلطان عبد الحميد ، والوالي وقائد الفرقة فيها حسن رضا باشا ،
وكان يسعى ضمنا وراء استقلال بلاده.
وفي ذلك الوقت
أعلن الحرب رسميا بين الدولة العثمانية وبين دول البلقان الأربع البلغار والصرب
وقره طاغ [الجبل الأسود] واليونان اعتبارا من ١٩ أيلول سنة ١٣٢٨ ، وتجاوزت عساكرها
حدود البلاد العثمانية. وكانت العصابات قبل ذلك منتشرة في أنحاء البلقان تقطع
الطرق وتنهب القوافل وتعيث فسادا في تلك الربوع ، فلم تكن عشية أوضحاها إلا وجيوش
الدولة العثمانية تبعثرت وتشتت ، منها من فر ومنها من أصبح أسيرا ومنها من قتل ،
وصارت أكثر بلاد الرومللي وما فيها من أنواع الأسلحة والذخائر الحربية في قبضة
الأعداء. ثم زحفت جيوش الدول الأربع نحو الآستانة وامتلكوا في طريقهم بلدتي (قرق
كليسا) و (لوله بور غاز) اللتين هما بمثابة مفتاحين للآستانة ، وأصبحت جيوش
الأعداء أمام جتالجة ، فتفاقم عندئذ الأمر وعظم الخطب وقامت قيامة الآستانة واضطرب
أهاليها أيما اضطراب ، وامتد ذلك الاضطراب إلى جميع البلاد العثمانية. فعقد حينئذ
في القصر
الهمايوني مجلس للمذاكرة في شروط الهدنة ، ثم عقد الصلح. حصل ذلك وكل من
أدرنة ويانية وأشقودرة لم تسقط ، وكانت هذا البلاد تذب عن حياضها وتدافع دفاع
الأبطال في سبيل الشرف العسكري وحب الأوطان.
وكان القائد في
أدرنة شكري باشا ، وفي يانية وهيب باشا ، وفي أشقودرة أسعد باشا وحسن رضا باشا ،
وكان هذان يقدمان الذخائر وسائر اللوازم ، وكانت القلاع والحصون هي التي تحارب
وتدافع ، وكان القائد فيها والمدافع عنها هو المترجم (محمود كامل باشا).
وفي أثناء ذلك
عقد الصدر الأعظم كامل باشا ووزير الحربية ناظم باشا الهدنة وشرعا في المذاكرة مع
قواد جيوش الأعداء ، وكاد يتم الصلح على أسوأ الشروط ، ففاجأهم حضور أنور باشا من
طرابلس الغرب ، وكان إذ ذاك برتبة (قائمقام) ، ولما حضر اجتمع بنبهاء الضباط
والأمراء ، وتجمهر قسم من الضباط والأهالي وذهبوا إلى الباب العالي وعلى رأسهم
أنور باشا ، وكان مجلس الوكلاء منعقدا ، فأراد أنور باشا الدخول فمنعته القوة
المحافظة الواقفة أمام الباب ، فدخله عنوة مع بعض من معه ، ولما صعدوا إلى فوق
ومشوا خطوات رأوا ناظم باشا ومعه مرافقه وفي أيديهما المسدسات ، فبادرهما أنور
باشا ومن معه وأطلقوا عليهما الرصاص ، فوقعا صريعين. ثم دخل أنور باشا إلى قاعة
المجلس فانهزم قسم من الوزراء وقسم اختبأ في بعض الغرف. وكان كامل باشا الصدر
يرتجف خوفا وجزعا ، فكلفه أن يستقيل ، فأجابه للحال. وعقب ذلك عين محمود شوكت باشا
لمنصبي الصدارة ونظارة الحربية وأعطي رتبة مشير.
ولما استلم
محمود شوكت باشا زمام الصدارة والنظارة ابتدأ بشروط الصلح من جهة ، وبتنظيم الجيش
وإصلاح ما طرأ عليه من الخلل وبحشد الجنود من جهة أخرى. ولما كانت الشروط المعروضة
من قبل الأعداء مجحفة ردت ولم تقبل ، وجيوش الأعداء واقفة في جتالجة أمام
الآستانة.
حصلت هذه
الحوادث الهامة في هذه المدة والبلاد الثلاثة أدرنة ويانية وأشقودرة تدافع ولم
تسكت فيها أصوات المدافع. وبعد أشهر سقطت أدرنة ، ثم تلتها يانية ، وظلت أشقودرة
تقاوم أحسن المقاومة. وكانت صحف العالم تتعجب من المقاومة التي أبدتها ، وكان
المهاجمون لقلاعها هم عساكر الصرب والجبل الأسود ، وتقدر عساكر الصرب
بثلاثين ألفا وعساكر الجبل بخمسة عشر وذلك ما عدا المتطوعين. وكان قواد هذه
الجيوش يراسلون محمود كامل باشا ويرجون منه أن يقلع عن المقاومة ويسلم بالشروط
التي يرتضيها ، وهم مع ذلك كانوا يرسلون له بالأراجيف من سقوط القلاع والبلاد
والآستانة وأن السلطان في الأسر ، فكان كل ذلك لا يؤثر على محمود كامل باشا ، وكان
تارة لا يرد لهم جوابا ، وتارة يجاوبهم أن لديه من المؤن والذخائر والعساكر ما
يكفيه سنين ، في حين أنه لم يكن لديه من كل ذلك إلا القليل ، بل وصلوا إلى التغذي
بلحوم الدواب الضعيفة والمريضة وبالكلاب والهررة.
ولما لم يقبل
محمود شوكت باشا بشروط الصلح ، وكان قد نظم ما لديه من الجيوش بعض التنظيم وأعد
لأعدائه ما استطاع من قوة ، استأنف القتال وقاتلت الجنود والضباط قتال المستميت ،
وحملت على جيوش الأعداء المتجمهرة أمام جتالجة حملات عنيفة وذادت عن حياض الآستانة
ذود الآساد عن عرينها ، فانكسرت جيوش الأعداء شر كسرة وولت الأدبار ، وطاردتها
الجيوش العثمانية إلى أدرنة ، وهناك حاصرتها مدة وجيزة ثم استردتها.
وبعد استرداد
أدرنة وقسم كبير من البلاد تداخلت الدول بالأمر ، فعقد هدنة أخرى وبوشر بمذاكرات
الصلح وأشقودرة لم تزل مثابرة على الدفاع.
وفي أثناء ذلك
كان مجلس الوكلاء في الآستانة يواصل الاجتماع ليلا ونهارا ويتذاكر بمهام أمور
الصلح ويتخابر مع سفراء الدول العظام ، وكانوا يستفيدون سياسة من بقاء أشقودرة على
المدافعة ، وكان كل من أعضاء مجلس الوكلاء يتساءلون عن محمود كامل باشا وعن أصله
ومنشئه.
وحدّث يوما
جلال بك أحد ولاة حلب أثناء الحرب العامة ، وكان وزيرا للداخلية في عهد وزارة
محمود شوكت باشا ، قال : كنا يوما جالسين في غرفة المجلس في الباب العالي نتذاكر
في مسائل الصلح مع دول البلقان ونتحدث عن أشقودرة ووضعيتها وحراجة الموقف بها ،
فالتفت إلينا محمود شوكت باشا وحملق عينيه وقالت بصوت جهوري : إن قائد القلاع في
أشقودرة محمود كامل باشا هو من خيرة القواد العسكريين لا في الدولة التركية فقط بل
لدى دول أوربا أيضا ، وسيصبح هذا رجلا عظيما يكون له شأن كبير ،

فليس ثمة من خوف على الدولة ما دام فيها رجال أمثال هذا البطل الباسل ،
فلنثبت ، ولا نرضى إلا بصلح شريف مهما كلفنا الأمر.
عقد الصلح وبلغ
بواسطة دولة الصرب إلى محمود باشا في أشقودرة ، وكانت ذخائره ومؤنه نفدت تقريبا ،
ولكن الأعداء لم يكونوا ليعلمون بذلك ، فكان يصدق الخبر تارة ويكذبه أخرى ظنا منه
أنها خدعة حربية دبرها له الأعداء ، فاحتياطا لكل طارىء عقد شروطا مباشرة مع قواد
الأعداء خلاصتها أن يخرج من القلعة هو وجنوده مستصحبين معهم جميع الأسلحة القابلة
للنقل من مدافع وغيرها ، وأن يجري لهم استقبال عسكري باهر مع أخذ سلام التعظيم من
الجنود المحاربة كافة ، وأن يوصلوها إلى الساحل بالاطمئنان ويتكفلوا بحمل أثقالهم
على دوابهم وعجلاتهم ، إلى غير ذلك من الشروط الملائمة للشرف العسكري ، فقبلت
جميعها منه ، فخرج بمن معه من بقية الجيوش ، وكانت البواخر بانتظارهم في الموانىء
، فركب فيها إلى الآستانة. وعند وصوله أرسل برقية إلى أهله في حلب يخبرهم بسلامته
وصحته وذلك سنة ١٣٢٨ رومية.
وحصل له يوم
وصوله إلى الآستانة استقبال حافل وطاروا فرحا عند رؤيتهم له لما أبرزه من البسالة
والشجاعة في أمر المدافعة ، لأن بهذا الثبات استفادت الدولة كثيرا من الأمور
السياسية والاقتصادية ، وأطنبت جرائد الآستانة في مدحه والثناء على ثباته وعظيم
دفاعه. وزار وقتئذ جلالة السلطان فأنعم عليه بالإحسانات والوسامات ، ومن قرأ
تواريخ الحروب في العالم قل أن يجد وربما لم يجد قوادا وجيوشا كانت محصورة خرجت من
حصارها وهي تحمل مدافعها وأسلحتها وسائر أعتادها الحربية.
وفي خلال
الحوادث السابقة ورد كتاب لأحد إخوته في حلب من حسين حلمي باشا جوابا عن كتاب
أرسله إليه مستفسرا عن صحة أخيه وسلامته ، وهذه ترجمته بالحرف :
بناء على
تحريركم المؤرخ في ١٣ كانون الأول سنة ١٣٢٨ راجعت بصورة خاصة سفير دولتي أوستريا
ومجارستان في جتيته مستفسرا عن صحة أخيكم محمود كامل بك قائد قلعة أشقودرة ، فورد
لي الجواب أخيرا أنه لا يمكن المخابرة مع أشقودرة ، حتى إن السفير نفسه لم يتمكن
من أخذ معلومات عن المعتمد الموجود
في أشقودرة. وجاء في الجواب أيضا أن الحوادث المستقاة من محافل حكومة الجبل
الأسود تفيد أن صحة المحصورين وعافيتهم جيدة سيدي.
(في ٧ شباط سنة ١٩١٣ سفير ويانة حسين حلمي)
وهنا نقتطف
جملا من أول كتاب ورد من المترجم إلى أهله بعد عوده من حصار أشقودرة إلى الآستانة
مؤرخ في ٤ حزيران سنة ١٣٢٩ رومية ، قال :
بعد غيبوبة عن
إستانبول دامت قدر تسعة أشهر وبعد حرب ومحاصرة في أشقودرة طالت ستة أشهر ونصفا عدت
إلى الآستانة يوم الجمعة الماضي. كنت في أشقودرة قائد طرابوش أول هجوم (بومبار
دمان) حصل كان متجها على منطقتي ، وكانت منطقتي دائما هي الأكثر تعرضا للهجوم.
تفادي عسكرنا وشجاعته قد حير العقول. لو كان عندنا أرزاق لما كان للعدو نصيب أن
يخطو خطوة نحو أشقودرة ، ولو لا نفاد الذخائر عندنا لما سلمت أشقودرة إلى الجبليين
حسب الشروط التي ترونها في جريدة طنين إلخ.
وبعد رجوعه إلى
الآستانة عيّن في نظارة الحربية بوظيفة مهمة ، ثم عيّن لمستشارية نظارة الحربية ،
وبعد زمن قليل رفعت رتبته إلى (مير لواء) وعين مستشارا في النظارة الموما إليها.
ولم يمض على
مجيئه أشهر إلا واكفهر وجه السياسة وأخذت علائم الحرب العالمية تبدو وتتراءى
أشباحها ، وكان وميض برقها يشتعل تحت الرماد ، ولا حاجة هنا لذكر ما كان يجري في
العالم الغربي والعواصم الأوربوية من ضروب السياسة وأنواع المخادعات ، ذلك العالم
الذي أصبح ديدنه بذر بذور الشقاق وإيجاد الشرور والفساد بين الدول والعباد ليستفيد
هو من ذلك ويكون بقية العالم فريسة له يزدردها ويسد بها جوعته وجشعه. وما كانت
دولة من الدول أو أحد من الناس ليظن بأن هذه الحرب ستشمل ثماني عشرة دولة من أعظم
وأنظم دول الأرض ، وأنها ستدوم أربع سنين يذهب بها كما ذكره أحد علماء الإحصاء من
الأمير كان أربعون مليونا من البشر هم زهرة أهل البلاد وشبانها بين قتيل وجريح
وغريق وغير ذلك ، وتذهب بها ثروة العالم وتنقلب إلى أوراق تلتهمها النيران بأسرع
من لمح
البصر ، وتنحصر تلك الثروة العظيمة التي لا تحصى في دولتين أو ثلاث ، وأن
تثل فيها عروش قياصرة الأرض وجبابرتها ، وتصبح فيها تيجان الملوك المرصعة بين
الأرجل وتقتل أصحابها شر قتلة ، ويضحي البعض منهم مقيدا بالسلاسل والأصفاد ، ويمثل
بالبعض منهم أشنع تمثيل في الكهوف والغابات ، ومن فر منهم وسلم من عائلاتهم
وذراريهم تشتت في أطراف البلاد ، فصار منهم من يتعاطى أحط الصنائع وأدناها مثل
المقاهي والمراقص ، ومنهم من لا يجد ما يسد به الجوع ولا مسكنا يأوي إليه. ولا تسل
بعد ذلك عن بقية طبقات العالم حيث أصبح أولادهم يتامى ونساؤهم أيامى ، وصاروا إلى
الدرك الأسفل من الفقر والفاقة ، ومات من الناس جوعا أمم لا تعد ولا تحصى.
كل ذلك لتسكين
جشع أشخاص معدودين لا يتجاوزون عد الأصابع ، وهؤلاءهم الذين يسمون أنفسهم أساطين
السياسة وقادة الآراء ، وينظرون إلى من دونهم وإلى جميع أصناف الجنس البشري بعين
الازدراء ، ويعتقدون أنهم أنعام فيسوقونهم إلى مجازر الأطماع الاستعمارية وإلى
نوال مقاصدهم الأشعبية ، لا تأخذهم بالناس رأفة ولا تجد الرحمة والشفقة إلى قلوبهم
سبيلا.
أعلنت الحرب
العالمية ، وذلك في غرة آب سنة ١٩١٤ وتاسع رمضان سنة ١٣٣٣ ، واشتركت فيها بعض
الدول إما طوعا وإما كرها ، ولسوء الحظ اشتركت فيها الدولة العثمانية ، وكان ناظر
الحربية أنور باشا ، كان هذا وجد في ألمانيا مدة غير قصيرة ، وكان معجبا في أمور
حربيتها ونظامها العسكري ووفرة معداتها وإتقانها للصنائع والفنون ، وذلك هو الواقع
، وكان أكثر الناس يظنون عند نشوب الحرب أنها لا تدوم أكثر من شهور ، وأن النصر
والظفر سيكون حليف الدولة الألمانية ومن اتفق معها. فاستشار أنور باشا القواد في
أمر الدخول في الحرب ، فصاروا يحبذون له الانضمام إلى الدولة الألمانية إما مجاراة
لفكرته وميله وإما بسائق الاجتهاد الذاتي ، ولعل الثاني أقرب إلى الحقيقة.
وكان محمود
كامل باشا يقول : إني رجل عسكري تابع للأمر ومنقاد إليه ، وأي دولة حاربتم فأني
مستعد لأن أبذل آخر نقطة من دمي في الذود عن حياض الوطن والدولة والدفاع عن الدين
والجامعة الإسلامية.
ولما أعلن
النفير العام في المملكة العثمانية عين قائدا للعسكر في (حوضه) لتجهيز
الجيوش وتعبئتها مع بقائه في وظيفته الأصلية وهي المستشارية ، ثم نقل إلى
قيادة المعسكر في أنقرة ، وصار يجهز الجيوش فيها ويدربها على النظام العسكري.
وكان الوالي
فيها إذ ذاك مظهر بك الذي كان واليا في حلب في زمن الدستور ، وكان هذا من أخص
أصحابه ، فكان يبذل له كل معاونة. ثم عين على الفيلق الخامس فيلق إزمير ، ثم أمر
بالعودة إلى الآستانة ليستلم وظيفته الأصلية ويدير شؤونها وينوب عن ناظر الحربية
أثناء غيبوبته وسفره إلى أنحاء المملكة لتفقده شؤون الجيوش والحركات الحربية.
وفي بداية
الأمر دارت رحى الحرب على أحسن وجه وأتم نظام ، وكانت الانتصارات للدولة الألمانية
ومن كان معها من الدولة العثمانية ، غير أنه لما طال أمد الحرب بدت علائم الضعف
والتشتت في الجيوش العثمانية بسبب قلة الذخائر والملابس وصعوبة نقل المهمات
والمعدات الحربية لعدم انتظام الطرقات وعدم وجود السكك الحديدية الكافية في البلاد
العثمانية ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى صارت الأصابع الأجنبية تلعب ببعض أركان
الجيش وضباطه القليلي الإدراك الفاقدي الشرف الضعيفي الدين والوطنية ، وبزوا
لبعضهم الأصفر الوهاج الذي تحنى أمامه الرؤوس وتصغر عند رؤيته صغار النفوس.
فكان هؤلاء في
ذلك كالباحثين عن حتفهم بظلفهم والساعين بأرجلهم عمدا نحو مصرعهم ليقضي الله أمرا
كان مفعولا.
وكانت أهم جبهة
من جبهات الحرب جبهة (جناق قلعة) وجبهة (القفقاس) ، أما الأولى فلقربها من العاصمة
كانت الذخائر الحربية والمؤن وسائر أسباب الدفاع متوفرة لديها. وأما الثانية فكانت
بعيدة عن العاصمة ومسالكها وعرة وبردها قارص والمواصلات فيها متعسرة جدا وغير
مأمونة القوافل بسبب مرورها على أقوام من الأرمن والأروام ، فكانت كثيرا ما تضرب
القوافل وتذبح محافظيها وتسلب منهم المؤن والمهمات الحربية. وتعدد وقوع هذه
الحوادث ووصلت إلى درجة لا تطاق ولا يمكن تحملها ، فكانت من جملة الأسباب التي دعت
الباب العالي أن يقرر على جلاء الأرمن والأروام من قلب الأناضول في ذلك الحين.
وصادف أن أنور
باشا ذهب إلى هذه الجبهة للتفتيش ، وكان القائد العام لها حسن عزة بن علي باشا
القائد العام الشهير في حلب. وعقب وصوله إليها أمر القائد بالزحف
على العدو ، وكان كل من الجيشين متحفزا للوثوب على الآخر ، فتردد القائد
فسيق في الحال إلى التقاعد. وابتدأ الزحف على جيش الروس ولكنه لم يفلح ، ووقعت
فرقتان أسرى بيد الروس ، فانكسر جيش الدولة العثمانية وارتد قليلا وأخذ في
المدافعة. ورجع أنور باشا إلى الآستانة وعين حقي باشا الداماد قائدا عاما ، لكنه
على إثر وصوله إلى الجبهة وقع في الحمّى التيفوئيدية التي كانت تفتك بالجيش ، وبعد
ساعات معدودات اغتالته يد المنون.
ففي الحال عين
مكانه محمود كامل باشا ، وبارح الآستانة على جناح السرعة فوصل إلى الجبهة في ٢٦
شباط سنة ١٣٣٠ رومية ، فرأى الجيش في حالة غير مرضية وقوته المعنوية خائرة ، فأخذ
في إصلاح خلله ، وسعى في جلب الكثير من المؤن والأطباء والأدوية اللازمة.
وكان مقدار
الباقي من الجيش العثماني لا يزيد عن عشرين ألفا ، وعدد جيش الروس ثمانين ألفا ،
فاتخذ خطة الدفاع وأخذ يخابر العاصمة ويشرح الحالة لنظارة الحربية ويطلب الإمدادات
الكافية ، ولكن كان لا يجاب على طلباته كما يرغب ويريد ، ولسان حال العاصمة يقول :
(لا ألهينّك إني عنك مشغول) .
والسبب في ذلك
ما كانت تلاقيه الآستانة من تزايد الضغط من جانب عساكر الدول المؤتلفة (وهي الدولة
الإنكليزية والإفرنسية والإيطالية واليونانية) في سائر المواقع الحربية خصوصا في
موقع (جناق قلعة) ، فكان معظم الإمدادات تساق إليها لأنها بمثابة القلب من جسم
الدولة العثمانية.
فلما رأى محمود
كامل باشا حراجة موقفه وأن المكاتبات لم تجده نفعا استأذن في العودة بنفسه ليوضح
للنظارة أمورا هامة ليست بالحسبان ، فأذن له في الحضور ، فوكل وقتئذ أحد القواد
الذين كانوا في معيته وذهب إلى الآستانة ، وبينما كان هناك إذ فر أحد من لا خلاق
لهم من الضباط المرابطين في الحدود والتجأ إلى جانب العدو ، وأخبر قواد الروس عن
حالة جيش الدولة العثمانية وأطلعهم على مقدار عدده وعدده وعن نقاط التعبئة وحالة
الاستحكامات ، وشرح لهم كل ما يقوي عزائمهم ويدعوهم إلى استعمال خطة الهجوم.
__________________
ولم يقف عند هذا الحد بل شرح لهم ما وصل إليه علمه ومعرفته عن سائر الجيوش
العثمانية. فما كان عشية أو ضحاها إلا وعساكر الروس بدأت بالزحف العنيف والهجوم
الشديد على (أرزن الروم) وسائر المواقع الهامة ، وقامت عندئذ الحرب على ساق وحمي
الوطيس ، وأخذت عساكر الدولة العثمانية تنسحب إلى الوراء ، فسقطت (أرزن الروم)
وكثير من المواقع بيد الأعداء.
وطار نبأ ذلك
إلى العاصمة ، فعاد محمود كامل باشا إلى المعسكر بأسرع من البرق ووصل إلى أرزنجان
فوجد الحالة تعيسة جدا ، فأخذ ينظم الوضعية ويصلح حالة الجيش ، وكانت الإمدادات
بدأت ترد إليه ، فأوقف زحف العدو مؤقتا ، واتخذت أرزنجان مدارا للحركات الحربية
بدلا من (أرزن الروم) وطلب من الآستانة أن تجهز إليه جيشا جرارا لينهض إلى استعادة
(أرزن الروم) والمواقع التي استولت عليها الجيوش الروسية ، فأجيب طلبه هذا وتحرك
قسم من الجيش الجديد نحو الفيلق الثالث أي فيلق القفقاس. وبينما كان هذا الجيش
يسير في الطريق وقد وصل إلى قيصرى ، وهي في منتصف الطريق ، وإذا بعساكر الدولة
المؤتلفة التي يبلغ مقدارها ١٧٠ ألفا عدا ما كان يتوارد إليها كل يوم من الإمدادات
العظيمة أخذت تضايق موقع جناق قلعة من البر والبحر بصورة هائلة تذهل لها العقول
وتشيب منها الأطفال ، وصارت بواخرها الحربية الضخمة التي يربو عددها على مائة تصلي
القلاع والحصون هناك نارا حامية ليلا ونهارا بلا انقطاع بحيث لم يشهد التاريخ
مثلها ، قاصدة بذلك خرق خليج الدردنيل والعبور إلى بحر مرمرة لتحتل الآستانة ،
فيكون في ذلك انتهاء الحرب.
وكانت تلك البواخر
الراسية هناك إنكليزية وإفرنسية ويونانية وإيطالية وأميركانية ، لكن لم يشترك
بالضرب إلا الثلاثة الأول ، فهناك أبلى مصطفى كمال بك (باشا) بلاء حسنا وأظهر
شجاعة وبسالة يشهد بذلك له التاريخ. وقد كان قائدا في معية (فون ساندروس باشا
الألماني) القائد العام لتلك المواقع. ولم تفلح الدول المؤتلفة بهجومها هذا ، بل
خسرت به ألوفا من الجند وفقدت غرقا أكثر من إحدى عشرة باخرة حربية ضخمة وغير ضخمة
في مدخل الدردنيل ، وهذه المواقع الهائلة مشهورة معلومة لدى جميع الناس.
وقبيل هذه
المهاجمات العنيفة أمر أنور باشا الجيوش التي كانت سائرة في الطريق مددا
للفيلق الثالث المقيم في أرزنجان بأن تعود إلى الآستانة ، وكتب إلى محمود
كامل باشا مخبرا له عن الحالة على وجه التفصيل ، وكلفه أن يتخذ خطة الدفاع لا غير
، وإذا تعرض جيش الروس لجيشه أن يقاوم على قدر الإمكان ، وإذا لم يستطع الوقوف والثبات
أن يرجع إلى الوراء بانتظام ويدافع بكل ما يمكنه من وسائل الدفاع ويعرقل تقدم
الجيش ومتابعته إلى أن يصل إلى جبال طوروس عند مرعش وعينتاب. فامتثل الأمر ، لكن
بعد احتلال الروس لأرزن الروم لم تحدث وقائع حربية تذكر ، بل حدثت مناوشات ليست
بذي بال.
ولكن لم يكن
سكوت الروس عبثا ، بل كانوا يجهزون عدة جيوش جرارة لترسل جيشا إلى أرزنجان وجيشا
إلى الأناضول لتحتل بهما سيواس فمرعش فالإسكندرون من جهة ، وخرت برت ويالو وديار
بكر من جهة أخرى.
وفي هذه
الأثناء اعترى محمود كامل باشا مرض لم يستطع معه البقاء هناك ، فطلب الاستقالة
فأجيب ، وعاد إلى الآستانة وعين مكانه وهيب باشا ، وعين أحمد عزة باشا المشير إلى
ديار بكر مركز الفيلق الثاني ، وكل منهما حضر إلى مركز قيادته واستلم القيادة.
وبعد مدة يسيرة
استؤنفت الحرب من جانب الروس في الجهتين ، فأخذت عساكر الدولة العثمانية ترجع إلى
الوراء ، وكان الضغط على جبهة المشير عزة باشا أشد ، فسقطت سيواس والبلدان التي في
طريقها ، وفي الشمال سقطت طربزون وتوابعها ، ووصلت جيوش الروس من الجنوب إلى جبال
يالو قاصدة احتلال ديار بكر ، وهناك جرت معارك عظيمة أريقت فيها الدماء من الطرفين
كالأنهار ، وكان النصر في الغالب في جانب عزة باشا ، وكان رئيس أركان حرب هذا
الجيش عصمت بك (باشا) الذي اشتهر أخيرا في الحروب اليونانية.
وعلى أثر ذلك
اعترى جيش الروس سكوت ولم يبد أقل حركة في جبهتي الحرب ، وصار ترد خفية مناشير من
جانب الروس إلى عساكر الدولة العثمانية في الجبهتين تحض على ترك السلاح وتظهر فيها
عبارات التودد وتقبح فيها الحرب وتشتم من كان سببا لإضرام نيرانها ، ولكن أمراء
الدولة كانوا لا يصدقون بذلك ولا يركنون إليها ويظنون أنها خدع حربية وأشراك
يقصدون وقوع العساكر العثمانية فيها.
ولم يمض بعد
ذلك أيام قلائل إلا وقامت القيامة في عاصمة الروس ، واختلط فيها
الحابل بالنابل ، وقامت الثورات على قدم وساق ، وصارت الرعية وأفراد الجند
يقتلون الأمراء وأهل الثراء ، وقتلت أسرة العائلة الأمبراطورية نفسها شر قتلة ومثل
بها أفظع تمثيل.
وأما الجيوش
التي كانت تحارب في الجبهات فصارت في هرج ومرج ، وصارت ترسل إلى قوادنا الأخبار
والرسل أن يجيئوا ليستلموا بلادهم ، وأخذت تترك مواضعها وحصونها وترجع زرافات
ووحدانا إلى بلادها تاركة ما لديها من المدافع والسلاح وبقية آلات الدفاع والذخائر
والمؤن ، وكان شيئا كثيرا لا يحصى ، وصارت تقتل قوادها وضباطها إلا من كان منهم
على فكرتهم وموافقا لغايتهم. فعلم عند ذلك أن تلك المناشير كانت حقيقية وأن روح
لزوم التساوي بين جميع الطبقات المسماة (بالبولوشفيكية) قد انبعثت فيهم وصارت تسري
بين الجنود رويدا رويدا إلى أن استحكمت حلقاتها فيهم وتأصلت تلك العقيدة في نفوسهم
، وما زالت تربو وتتعاظم إلى أن انفجرت في آن واحد في كل صقع وكأنها قنابل مرتبطة
ببعضها البعض بشرائط كهربائية تحت ضغط زر واحد.
حينئذ نهضت
الجيوش العثمانية وأخذت تمشي إلى الأمام مستردة بلدانها ومغتنمة جميع ما تركته
عساكر الروس من عدة جهات بلا معارض ولا مقاوم. فمن جهة وصلت إلى القارص فما فوقها
، ومن جهة بلغت باطوم واحتلتها وشكلت حكومة تركية فيها وعينت متصرفا لها جميل بك
النيّال الحلبي واستولت على تلك المناطق بأجمعها ، وهذا من أعجب الأمور في الحوادث
الكونية ، ولكن إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه وأزال كل عقبة تكون في طريقه.
أما محمود كامل
باشا فإنه بعد أن عاد إلى الآستانة قعد في بيته مدة إلى أن برىء من مرضه ، ثم عين
مستشارا لنظارة الحربية للمرة الثانية. وكانت صفحات الحرب في جهات الألمان وجهات
البلاد العثمانية ليست على ما يرام ، بل كانت الانكسارات والاندحارات تتوالى بأسوأ
الحالات ، وصار يلوح للناظر أن هذه الحرب العامة الطاحنة للبشر قد دخلت في دورها
الأخير وأنها ستضع أوزارها عما قريب.
وكان جمال باشا
قائدا عاما على جيوش سورية وفلسطين. وأخيرا لما رأى أن كل مساعيه التي بذلها في
هذه البلاد من قتل كبرائها ونفي الكثير منهم إلى بلاد الأناضول لم يجده نفعا ولم
يحسن بذلك صنعا ، حيث أدى إلى ما لم يكن له بالحسبان ، ومن إثارة
حفيظة أهالي البلاد وانضمام كثير من الجنود السوريين وضباطهم من أهالي
سورية والعراق إلى الأمير فيصل نجل الشريف حسين أمير مكة ، حيث كان قد أتى بمن معه
من عرب الحجاز إلى جهة معان والعقبة منضما إلى الجيوش الإنكليزية التي كانت تحارب
الدولة العثمانية في جهة ترعة السويس ، حينئذ قدم استقالته مرارا ، وأخيرا قبل منه
ذلك وعاد إلى الآستانة وكلف أنور باشا لمحمود كامل باشا المترجم عدة مرات مصرا
عليه أن ينوب مكان جمال باشا ، فلم يوافقه ويعتذر له علما منه بأن الخرق قد اتسع
على الراقع في هذه البلاد ولا يمكن سده مهما استعمل فيه الإنسان من ضروب المهارة
وأساليب السياسة ، فعين مصطفى كمال باشا صاحب الوقائع الشهيرة في البلاد
الأناضولية مع الدولة اليونانية ، فحضر لهذه البلاد بجنوده واستلم القيادة.
حينما حضر كانت
البلاد في جبهتي فلسطين والعراق تتساقط ، وجيوش الدول المؤتلفة تتقدم نحو الشمال ،
وحالة جيش الدولة العثمانية ليست على ما ينبغي ، وعم الخلل سائره ، وذلك لما لاقته
الجنود من الجوع والعري وعدم العناية في الأمور الصحية في طعامهم وشرابهم وكسوتهم
ومبيتهم ، في حين أن القواد والضباط كانوا يتناولون أطيب المآكل ويشربون أعذب
المشارب ويعطون أنفسهم ما تشتهيه من اللذائذ وامتلأت جيوبهم وجيوب من لاذ بهم
بالأصفر الوهاج الذي صب عليهم من البلاد الألمانية ، وكان يأتيهم بالشاحنات وبما
كانوا ينهبونه من أرزاق الجنود ويأخذونه من الرشوة من الأهالي في تعهدات المآكل
والذخائر وفي سبيل التخلص من التجند ، وذلك مما لا يمكن إحصاؤه ولا يدخل تحت حصر.
وإن جيشا هذه صفة قواده وأمرائه وتلك حالة جنوده لا ريب أن نصيبه الفشل ومصيره إلى
الخذلان والانكسار ، فللأسباب المتقدمة وهذه الأحوال التي لا تطاق ولا يمكن أن
تتحمل اضطر الكثير من الجنود السوريين والعراقيين الذين كانوا في صفوف عساكر
الجيوش العثمانية أن يفروا مع بعض ضباطهم السوريين والعراقيين وينضموا إلى الأمير
فيصل الذي هو ملك البلاد العراقية الآن ويقاتلوا معه جنبا إلى جنب.
وبينما كانت
الحالة العامة في هذه البلاد على هذه الصورة إذ بعساكر البلغار التي كانت تقاتل مع
الجيوش الألمانية والنمساوية والتركية للجيوش الإنكليزية والروسية والإفرنسية
والإيطالية واليونانية والصربية بدأت تترك أسلحتها في جهات الرومللي وتجاهر بعدم
دخولها في صفوف الحرب ، وعقدت في الحال محالفة مع دول الائتلاف ، وهي الدول
المتقدمة
الذكر ، فتنحت عن ساحات الحرب وخرجت من زمرة الدول المتفقة. وعندئذ دخلت
جيوش المؤتلفين في قلب الرومللي من غير ما معارض ولا مدافع واستولت على الجبال
والسهول ، فانقطعت بذلك المواصلات بين الآستانة والنمسا وألمانيا وحل البلاء
الأعظم في كل من الدول المذكورة وكادت الروح البولوشفيكية تنبث في أرواح جميع
الجنود. والجنود الألمانية تركت سلاحها ، وهجم قسم منها مع الأهالي على منازل ملك
الألمان وحطموا قسما من أبنيتها ونهبوا ما فيها من الأثاث والرياش وغير ذلك. وكان
عاهل الألمان قد فر هو وأفراد أسرته لئلا تكون عاقبته كعاقبة ملك الروس والتجأ إلى
مملكة هولاندا التي كانت على الحياد منذ بداية الحرب حتى نهايته ، وكذلك أسرة ملك
النمسا فعلت مثل جارتها.
أما الدولة
العثمانية فقد كان سلطانها محمد رشاد الخامس قد توفي قبل أن يتفاقم الأمر ويصل إلى
هذه الدرجة ، وتنصب مكانه السلطان محمد وحيد الدين ، وكان هذا معارضا لفكرة الحرب
من حين أن كان ولي العهد ، ولما نصب سلطانا أخذ في التملص من الحرب وشرع يتقرب من
دول الائتلاف بالوسائل الخفية. ولما فعلت دول البلغار ما فعلت من ترك سلاحها
ومعاهدتها لدول الائتلاف وأحست الدولة العثمانية بالعطب وحاق بها البلاء من كل صوب
وجدت من الضروري أن تعقد هدنة مع دول الائتلاف ، وتسمى هذه المعاهدة (معاهدة
موندروس) المشهورة ، فاضطر عندئذ أنور باشا وسائر أفراد الوزارة الاتحادية وطلعت
باشا وجمال باشا إلى الاستقالة ، ولما علموا أن في بقائهم في الآستانة خطرا على
نفوسهم لاذوا إلى الفرار وأصبح كل واحد منهم في جهة.
أما محمود كامل
باشا فإنه لزم بيته في الآستانة ، فأتاه بعض أصحابه وكلفوه أن يفر أسوة رفقائه ،
وأصروا عليه في ذلك ، وهيئوا له باخرة خاصة لهذه الغاية لتقله إلى حيث يشاء ،
فشكرهم وقال لهم : إنني لست من أفراد الوزارة ، وما أتيت شيئا يستوجب المسؤولية أو
الانتقام مني ، وإنني رجل عسكري ما قمت إلا بما توجبه الوظيفة علي ويأمرني به
الدين وحب الوطن ، وإني مستعد عند مسيس الحاجة أن أدخل في أي محكمة كانت وأخرج
منها ناصع الجبين بريئا من كل مسؤولية.
وبعض خواصه أصر
عليه في ذلك وتكفل له بكل ما يحتاج له من النفقات وأنه يوصله
متنكرا إلى طهران بغاية الراحة والطمأنينة ، وأن الطريق إليها مفتوحة الآن
وليس هناك ما يخيف أو ينذر بخطر ، وإنك لترى هناك أنواع الحفاوة والإجلال وأن القوم
هنا وهناك سيحتاجون إليك وإلى أمثالك من الرجال والقواد ، وربما كان ذلك في القريب
العاجل. فكرر له محمود كامل باشا الشكران له ولأصدقائه كافة ، واعتذر لهم ولم
يطاوعهم على تلك الفكرة.
وعلى أثر ذلك
عبرت أساطيل الدول المؤتلفة مضيق الدردنيل ذلك المضيق العظيم ، وصارت تحتل قلاعه
المنيعة ، وصار قوادها والجنود يحتلون الآستانة وتوابعها حسب المعاهدة المتقدمة ،
واستولوا على ما هناك من الثكنات وسائر المواقع العسكرية ، وسكر هؤلاء المحتلون
بخمرة النصر والظفر ، فصاروا يعاملون الأهالي أسوأ المعاملة ، ولقي سكان الآستانة
ضروبا من المهانة والاحتقار ، وصارت حالتهم كما قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا
قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) وصار لسان حالهم يتمثل بقول حرقة بنت النعمان :
فبينانسوس
الناس والأمر أمرنا
|
|
إذا نحن فيهم
سوقة نتنصّف
|
ولما ازداد هذا
الحال من هؤلاء وأصبح بحالة لا تطاق صار الناس وعساكر الدولة العثمانية وضباطها
وأمراؤها ووزراؤها ينقمون على الصدر الأعظم الداماد فريد باشا وعلى بعض الوزراء
الذين كانوا على شاكلته في الوزارة. وكان هذا الداماد يطمح بنظره من القديم لأن
يكون صدرا أو على الأقل أن يكون أحد أفراد الوزارة ، وكان لا يتيسر له ذلك ، فكان
شديد الانتقاد وعظيم البغض لأي وزارة تألفت في أي دور كان ، وكان حريصا على منافعه
الذاتية محبا للانتقام ولو كان في ذلك دمار الدولة. ولما صار وزيرا أعظم في عهد
السلطان وحيد الدين أدخل في وزارته علي كمال بك الكاتب التركي المشهور في عداد
الوزارة ومحمد علي بك للخارجية ومن كان على شاكلتهم لبقية الوزارات ، وكان هؤلاء
كلهم ناقمين على الوزراء السابقين وكل واحد منهم حريص على منافعه الخاصة ولا يفتكر
بأمر استقلال الدولة ، وكانوا يتمنون أن يجعلوا الدولة العثمانية تحت حماية إحدى
الدول العظام ، وصادفوا من نفس السلطان وحيد الدين ميلا إلى ذلك ، بل كان ذلك
بإقناعاتهم
__________________
المتوالية له من قبل أن يصير سلطانا ومن بعد ذلك. وطفقوا يسعون وراء هذه
الآمال الدنيئة المملوءة خسة وخيانة ، فقسم منهم كانوا يتزلفون للإنكليز والقسم
الآخر للإفرنسيين وذلك بأي وسيلة كانت ، وكان الوقت مساعدا لتحقيق آمالهم
ورغباتهم. ولما طفح الكيل وبلغ السيل الزبى صارت أفئدة أهالي الآستانة تتقد نارا
وقلوبهم تتلهب حميّة وغيرة على وطنهم وأهله ، خصوصا بعدما قاسوه ورأوه من تلك
المعاملات المشؤومة. وقد أحس الداماد فريد باشا وزملاؤه بنفرة الناس واضطراب
أفكارهم من هذه الأمور فأوجسوا في نفوسهم خيفة ، وأيضا فإن السلطان وحيد الدين
نفسه أحس بذلك ، فبعد المشورة والمذاكرة فيما بينهم قرروا أن يوعزوا إلى الإنكليز
بالقبض على أعاظم القوم والقواد المشهورين والوزراء وبعض المبعوثين ويضيق عليهم ،
وأرسلوا لهم خفية أسماء كثيرة من جملتهم شيخ الإسلام خيري أفندي والصدر الأعظم
السابق سعيد حليم باشا ومحمود كامل باشا المترجم ورئيس الأطباء سليمان لقمان باشا
ورؤوف بك بطل الباخرة حميدية وسليمان نظيف بك وحسين جاهد بك ، وهذان من مشاهير
كتاب الأتراك ، والمبعوث علي جناني بك وغيرهم من مشاهير رجال الدولة ، فأخذت
الإنكليز تلقي القبض على هؤلاء وتزجهم في السجون ، وكان المترجم في جملة هؤلاء ،
وقد أحدث هذا القبض ضجة عظيمة بين أهالي الآستانة وأثار ذلك حفيظتهم ، وما كان ذلك
ليخيفهم ويثبط عزائمهم ويقلل من إقدامهم ، وصاروا يعقدون الاجتماعات الخاصة
والعامة ويأتون بالمظاهرات السلمية ويوالون الاحتجاجات ، ولكن لا سامع هناك ولا
مجيب.
ثم قصدوا أن
يهجموا على السجن في نظارة الحربية ويطلقوا سراح المحبوسين بالقوة مهما كلفهم
الأمر ويفتكوا ويبطشوا بالوزراء الخونة الذين أرادوا أن يضحوا أعاظم رجال الدولة.
وقبل إبرازهم ما اتفقوا عليه لحيز الوجود أحس الداماد فريد باشا وزملاؤه بالأمر
فأوعز إلى الإنكليز أن يخرجوا هؤلاء المحبوسين من السجن ويبعدوهم. وما كادت تتلقى
الدولة الإنكليزية هذا التبليغ من الحكومة العثمانية وإذا بها أخذت تنقل هؤلاء
المسجونين إلى الباخرة ولم يعلم وقتئذ إلى أين يؤخذون ، وكان لسان حالهم يقول :
نسير ولا
ندري المصير كأننا
|
|
بهائم نوح
حين أبحر في الفلك
|
ثم تبين بعد
ذلك أن معظمهم أخرج إلى جزيرة مالطة ، ومنهم محمود كامل باشا ، وحبسوا في قلعتها (بول
وره ستا) وضيق عليهم أشد التضييق.
مبدأ الحركة الملّية في الآستانة :
لم يكتف فريد
باشا والسلطان وحيد الدين وزملاؤه بهذا المقدار ، بل أرادوا أن يأتوا على البقية
الباقية من خيرة القواد وأساطين الرجال ، ويضيقوا الخناق على كل ذي شهامة وحمية
وإباء ، وشرعوا يتحرون البيوت وكثيرا من الأماكن ويقبضون على بعض الرجال. فعندئذ
شعر القوم بعظم الخطب ودنو البلاء.
وحدّث بكر سامي
بك والي حلب الأسبق لواضع أساس هذه الترجمة السيد سامح أفندي العينتابي شقيق
المترجم حينما كان في الآستانة قبل سنيّات قال : هربت من الآستانة ليلا أنا وولدي
، وكنا نقطع الجبال والوديان مشيا على الأقدام ولا نلتفت إلى الوراء ، وكان كمال
باشا قد عين قبل ذلك مفتشا على فيلق أرزن الروم وبارح الآستانة وأخذ هناك يشكل
الجمعيات ويستنهض الهمم ، والتف حوله لفيف من الضباط ، وهناك ابتدأت التشكيلات
الملّية ، وكان قد التحق به من الآستانة وتوابعها الكثير.
وبعد أن تشكلت
الجمعية هناك ونظمت برنامجها وشكلت شعبا في أكثر بلدان الأناضول وحلفوا الأيمانات
المغلظة لإنقاذ الدولة والبلاد من مخالب المستعمرين وتطهير جسم المملكة من الخونة
لأوطانهم ، تركوا هناك القائد الشهير كاظم قره بكر باشا ليكون سدا منيعا من ورائهم
وعونا لهم عند مسيس الحاجة ، ثم انتقلوا إلى سيواس ، وهناك عقدوا اجتماعا هاما
وقرروا فيه قرارات متعددة دعوها (الميثاق الملّي) وأخذوا يطبقون مواده وينفذونها
بكل صرامة وحزم ، وأعلنوا ذلك للدولة وللملأ أجمع ، وبدؤوا يهددون السلطان ووزراءه
وأعلنوا الإدارة العرفية في الأناضول وصاروا يجازون كل من خالف مبدأهم وميثاقهم
وكان عثرة في سبيل مقصدهم ، وأخذوا ما قدروا أن يأخذوه أسرى من الإنكليز الذين
كانوا في طربزون وفي بعض جهات القفقاس وجعلوهم رهائن عندهم مقابل ما فعله الإنكليز
في إخوانهم الذين سيقوا سوق الأنعام إلى جزيرتي تنوس ومالطة ، ولم يبالوا في أي
تهديد وإرهاب من أي كان ، ولم يكترثوا بالإنكليز وسائر الدول المؤتلفة ولا بجيوشها
وأساطيلها وطياراتها ودبابابتها وقذائفها ، وقالوا : إما حياة عزيزة وإما موتا كريما
، وقالوا :
من يقدّم غير
الحسام نذيرا
|
|
يجد الناس
آثما وكفورا
|
من يجد حال
صحة وشباب
|
|
لم يكن في
مذلة معذورا
|
وهنا اضطربت
الآستانة والسلطان ورجال المابين والباب العالي ، وكانت الدول تهزأ بهم إلا القليل
، والقسم الأعظم من الناس يسخرون بهم ويقولون إنهم متهورون ومجانين ، وصارت الرسل
تأتيهم المرة بعد المرة ناصحة لهم على حركتهم هذه ومهددة لهم ومنذرة لهم بسوء
العاقبة والتنكيل بهم بالقوة تارة وباللين أخرى. وكان كل ذلك لا يثني من عزيمتهم
ولا يؤثر على إقدامهم ، عاملين بمقتضى قول الشاعر :
ما أدرك
الطلبات مثل مصمم
|
|
إن أقدمت
أعداؤه لم يحجم
|
وكان وزراء
الدول المتفقة بعد الهدنة تعقد الاجتماعات في لوندرة وباريس وتتذاكر في أمور الصلح
، فقرروا فيما بينهم شروط الصلح مع الدولة العثمانية ودعوا رجال الباب العالي
لإمضائها بلا قيد ولا شرط ، فذهب وفد تحت رئاسة فريد باشا الصدر الأعظم إلى باريس
وأمضوا تلك المعاهدة ، وتسمى معاهدة (سيفر).
وعلى ما تتضمنه
هذه المعاهدة ستكون الدولة مغلولة الأيدي وتحت سيطرة دولتي إنكلترة وفرانسة ولا
حول لها ولا طول.
فبلغ ذلك رجال
القوى الملّية فقاموا لذلك وقعدوا واضطربت في أفئدتهم نيران الحمية والإقدام ،
فصاروا يبلغون احتجاجاتهم المرة اللهجة إلى السلطان والوزراء وللدول جميعا.
وكانت هذه
الاحتجاجات تقع على السلطان ووزرائه أشد الوقع. وكان لوئيد جورج وكثير من وزراء
الإنكليز وقسم كبير من رجال السياسة الإفرنسية يسخرون ويهزؤون بأقوالهم وأفعالهم
ويسمونهم عصابة أشقياء وبغاة ، ويقولون إنه يمكن تأديبهم والتنكيل بهم بزمن قليل
وبقوة قليلة. وأوعزت دولة إنكلترة إلى السلطان وحيد الدين ووزرائه أن يجهزوا
للتنكيل بهم ، فجهز الجيش وسمي جيش الخليفة وأمّر عليه سليمان شفيق باشا الذي كان
ناظرا للحربية في تلك الآونة. ولما وصل جيش الخليفة إلى ساحة القتال وتقارب
الجيشان من بعضهما ما أخذ كثير من ضباط جيش سليمان شفيق باشا وقسم من الجند يفرون
ويلتجئون إلى الجيوش الملّية وصاروا في صفوفهم ، وهناك جرت محاربة كان النصر فيها
للقوى الملّية ، فانهزم شفيق باشا شر هزيمة ونجا بنفسه.
ولما رأت
الآستانة من هؤلاء الرجال هذا الإقدام وتلك الهمة الشماء أخذت تسلك معهم طريق
الملاينة والمسالمة ، ولكنهم لم يعيروا سمعا لأقوالهم الخلابة ، ولم يؤثر فيهم
خداعهم ، بل أنذروا السلطان بلهجة شديدة بأن يحل وزارة الداماد فريد باشا
حالا ، وإلا فإنهم زاحفون نحو الآستانة غير مكترثين بدولتي إنكلترة واليونان
ويحتلون ساحل الأناضول ، وأعلموا بذلك للدول.
فلم يسع
السلطان إلا إجابة مطلبهم ، وحل وزارة الداماد وتشكلت الوزارة تحت رئاسة توفيق
باشا الصدر الأسبق ، وعبثا حاول أن يقنعهم بالاعتدال والسكون والطاعة إلى السلطان
ورجال الوزارة.
ولما رأت الدول
هذا العناد والثبات ولم يجدهم التهديد والتهويل نفعا ، وكانت الإنكليز تريد أن
تسرع باستخلاص أسراها ، تساهلت نوعا في بعض الأمور ووعدت بأن تعدل قسما من معاهدة
سيفر المشؤومة ، وكلفت الدولة العثمانية أن ترسل وفدا ثانيا إلى لوندرة ، فانتخبت
الدولة الوفد تحت رئاسة توفيق باشا الصدر وخابرت بذلك القوى الملّية ، فلم ترض
بهذا الوفد وأصرت أن يكون الوفد من طرفها لا من طرف الدولة.
وهنا أشكل
الأمر على الدولة وعلى الدول العظام. وبعد الأخذ والرد تقرر أن يرسل وفدان وفد من
طرف الدولة ووفد من طرف القوى الملّية ، فذهب وفد الدولة تحت رئاسة توفيق باشا
ووفد القوى الملّية تحت رئاسة بكري سامي بك والي بيروت وحلب الأسبق. فذهب الوفدان
إلى لوندرة ، وهناك عقد الاجتماع ودعي كل من توفيق باشا ذلك الشيخ الكبير الهرم
وبكر سامي بك ، فأصبح توفيق باشا على ما قيل يرتجف ولا يكاد يسمع صوته حينما يتكلم
، وأما بكر سامي بك فكان يدخل قاعة المجلس الحاوية لأعظم ساسة الدنيا متأبطا
حقيبته بكل جرأة وعنفوان غير هياب ولا وجل ، وكان إذا تكلم يدوي صوته الجهوري في
قاعة المجلس ويسرد من الأدلة الساطعة والحجج الدامغة ما يستلفت الأنظار ويستوقف
الأفكار ويقضي بالعجاب.
وبعد اجتماعات
ومذاكرات دامت أياما لم يحصل المقصود تماما ، غير أنه قرر بادىء بدء أن يطلق سراح
نيف وستين مسجونا من مسجوني مالطة في الحال ، وأكثرهم من غير الأمراء العسكريين ،
لقاء أسرى الإنكليز الموجودين في الأناضول.
ولا ريب أن هذه
زلة من بكر سامي بك حيث وافق على إطلاق البعض دون البعض ، وكان الواجب عليه أن يصر
على إطلاق الجميع مهما كلفه الأمر. ثم عاد الوفدان إلى
الآستانة والأناضول للمذاكرة ودرس الشروط التي أمليت عليهم وطال الأمر.
أما بقية
المسجونين في مالطة فكانوا يراجعون مجالس الدولة بلهجات شديدة ويقدمون الاحتجاج
تلو الاحتجاج ، ولكن ما من منصف أو عادل ولا سامع ولا مجيب ، بيد أنه خفف التضييق
عليهم كثيرا بالنسبة للحالة الأولى.
وكان قد مضى
على نفيهم وتبعيدهم سنتان ونصف قاسوا فيها أنواع المشقات والأهوال ، فلما رأى
بعضهم هذا الإهمال والتغاضي من دولتهم وأمتهم ، وبعبارة أخرى لم يتمكنوا من
تخليصهم من الأسر ولم تجدهم مراجعات الدول نفعا ، أخذوا يفتكرون ويتذاكرون في
الهرب من مالطة ويعملون الحيلة فيه ولو كان في ذلك ارتكاب جلائل الأخطار ، فقسم
منهم وافق وآخر لم يوافق ورضي بالبقاء ليقضي الله أمرا كان مفعولا. فأجمع الذين
قرروا على الهرب على كيفية ذلك وخابروا بعض من كان يمكنه أن يهربهم ، وتم الأمر ،
ففي ذات ليلة ركبوا زورقا وابتعدوا عن الساحل ، وكانت بانتظارهم عن بعد باخرة
عادية لا تستلفت الأنظار ، فوصلوا إليها وكان عدد الفارين ثلاثة عشر رجلا من
جملتهم المترجم وعلي إحسان باشا وعلي جناني بك العينتابي ، فركبوا الباخرة وأخذت
تمخر بهم عباب البحر وهم يقولون : (بِسْمِ اللهِ
مَجْراها وَمُرْساها) ومذ ركبوا الباخرة لبسوا ثيابا رثة وغيروا هيآتهم
واختبؤوا في أطراف السفينة خشية من طارىء غير مأمول ، وبعد ساعات مضت رست بهم
الباخرة في بلدة في الساحل الغربي من إيطاليا قريبة من مالطة ، فنزلوا إليها ،
وحينئذ تنفسوا الصعداء وزال ما كان بهم من اضطراب وقلق واستراح بالهم.
أما الإنكليز
فإنهم لم ينتبهوا للأمر إلا بعد ساعات ، فقام بينهم الضجيج ، وفي الحال سيروا
البوارج والمدمرات وأخذت تفتش عليهم في عرض البحار ، فلم يعثروا لهم على أثر ،
وتبين للملأ أنه يوجد في العالم رجال دهاة ذوو رأي وتدبير لا يقلون عن رجال
الإنكليز.
أما الهاربون
فإنهم بعد نزولهم إلى تلك البلدة كانوا كلما ذهبوا إلى فندق لا يقبلهم صاحبه ولا
يكترث بهم لرثاثة ثيابهم ورعونة منظرهم ولما في وجوههم وأيديهم من سواد الفحم
والدخان ، ظلوا على ذلك إلى أن قيض الله لهم رجالا عرفوهم فاحتفلوا بهم وأكرموا
مثواهم وأخفوا أمرهم ، ولم يبقوا في هذه البلدة إلا زمنا قليلا ، وكانوا قد
استراحوا مما
عانوه من مشقة الهرب وغيروا ملابسهم ونظموا هيئتهم ثم استأنفوا السفر ،
فمنهم من سافر إلى إزمير ومنهم من سافر نحو الشمال إلى ألمانيا وهم متنكرون.
أما محمود كامل
باشا فإنه اختار السفر إلى ألمانيا ، فوصل إلى برلين واجتمع مع بعض أصحابه
وأصدقائه. ولم تطب له هناك الإقامة لأسباب سياسية فبارحها إلى مونيخ ، وهناك حصل
بينه وبين بعض الأطباء المصريين معرفة ، وصار هذا الطبيب لا يفارقه ليلا ونهارا
وأحبه حبا جما ولقي من حسن صنيعه ما يعجز القلم عن وصفه.
ثم سمع به طبيب
آخر ألماني الأصل حلبي المولد ، فسعى أياما إلى أن اجتمع به ودعاه إلى منزله وأصر
عليه إلى أن أجابه.
وكان محمود
كامل يخرج في بعض الأيام ويتجول متنكرا في بعض بلدان الألمان ويزور مكاتبها
المشهورة ومتاحفها ودور صنائعها ويروح النفس ثم يعود إلى مونيخ. وبينما هو على ذلك
إذ اعتراه مرض أدى به إلى الدخول إلى المستشفى في مونيخ ، وبقي مدة تزيد عن شهرين
يطببه هناك أشهر الأطباء ويعتنون به تمام الاعتناء ، وكان هذان الطبيبان لا
يفارقانه في المستشفى ويعتنيان به ويكرران الوصية لمن كان هناك من الأطباء في أمر
تطبيبه.
ندع محمود كامل
باشا في هذا المستشفى يقاسي أنواع الآلام والسقم ونرجع إلى المشكلة الأناضولية
فنقول : إن مصطفى كمال ومن التف حوله من القوى الملّية لما لم ينالوا تمام مطالبهم
، فكانوا يصرون كل الإصرار على تطبيق الميثاق الملّي بحذافيره ، ويكلفون السلطان
والوزراء بقبوله بلا قيد ولا شرط ، وينذرون الدول المؤتلفة بالجلاء عن الآستانة
وغيرها من الولايات التي احتلوها ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى كانت الحرب قائمة
على قدم وساق بينهم وبين الدولة الإفرنسية في كيليكيا ، وكان أشدها في جهات مرعش
وعينتاب وكلّس ، وكانت كيليكيا وهذه البلاد تحت الاحتلال الإفرنسي. ولم تكن هذه
المحاربات محاربات دولية منظمة ، بل كانت بالنسبة للقوى الملّية محاربة عصابات مع
جيوش منظمة وافرة الأعتاد والعدد ، وبقيت عينتاب في ذلك الحين محاصرة ثمانية أشهر
، وكان أهلوها يدافعون عنها دفاع المستميت ، إلى أن نفد ما عندهم من الزاد ولم يبق
عندهم شيء من الذخائر ، فاضطروا إلى الاستسلام تحت شروط ملائمة لمصلحتهم حسب
الإمكان ، وكان
عدد المحاصرين من الجيوش الإفرنسية ثمانية عشر طابورا مع العدد الكاملة ،
ولأجل ذلك سميت بلدة عينتاب أخيرا (بغازي عينتاب).
ولما رأت
الإنكليز تعنت القوى الملّية وتصلبهم في آرائهم ومقرراتهم وعدم الاكتراث بأي تكليف
عرض عليهم أشارت إلى اليونان بطرف خفي أن تنازل القوى الملّية وتحتل ولاية إزمير
وملحقاتها وتتقدم إلى الأمام وتتوغل في هذه البلاد ما شاءت ، وأمدتها بالذخائر
والمؤن والأسلحة الحربية.
وكان (وه نيز
يلوس) داهية اليونان يتردد بين لوندرة وباريس وينفخ في بوق الفتنة ويضرم في نار
الحرب إلى أن اشتعلت ، وجهزت الدولة اليونانية الجيوش وأركبتها إلى إزمير وحشدتها
أمامها ، ثم أخذت في ضرب المباني والجوامع والمساجد ، ثم أخرجت عساكرها إليها ،
وهناك حصل منها من الفظائع ما يسوّد له وجه الإنسانية من قتل الرجال والنساء
والأطفال والتمثيل بهم شر تمثيل ، وهرب وقتئذ من استطاع الهرب إلى القرى والجبال
والمغاير والوديان ، ثم أخذوا في التوسع في ولاية إزمير والتقدم إلى الأمام.
ولما اطلع
محمود كامل باشا على هذه الحوادث المؤلمة وأن الحرب قد أعلنت هناك هاجت فيه عواطف
الحمية والغيرة ، فلم يستطع معها الصبر والبقاء في المستشفى ، فطلب الخروج منه
والالتحاق بالأناضول ، فنصحه الأطباء على عدم الخروج ما دام في دور النقاهة ، فلم
يقبل وأصر على الذهاب ، فغادر بلاد الألمان وحضر إلى الآستانة متنكرا عن طريق
إيطاليا. وحيث إن الآستانة لم تزل تحت احتلال جيش الحلفاء فخشي أن تشعر به
الإنكليز فتقبض عليه ثانية ، فذهب إلى دار أصحابه إلى مكان لا يلتفت إليه ، وهناك
اختبأ وأخبر أخاه المقيم هناك وعائلته واجتمع بهم مدة أسبوع ، ثم جهز لوازم السفر
وسافر إلى (إينه بولي) ميناء أنقرة في البحر الأسود ، فوصلها وأقام بها مدة خمسة
أيام ، وبينما هو بها إذ بذلك المرض الفتاك وهو مرض القلب قد عاد إليه ، فلزم
الفراش واستدعى عائلته من الآستانة لتكون عنده وتعتني في أمر تمريضه. وفي أثناء
مرضه طلع من البحر رجل متنكر الاسم والهيئة ، فألقت الحكومة عليه القبض ، وبعد
التحقيق والاستنطاق تبين أنه فدائي من فدائيي الأرمن كان يتتبعه ويفتش عليه في
البلاد ، وبلغه أنه حضر (إلى إينه بولي) فتبعه إليها ليغتاله ، ولما انكشف أمره
وأجريت محاكمته أعدم.
وفي أثناء ذلك
حضر إلى (إينه بولي) القائد الشهير كاظم قره بكر باشا قادما من أرزن الروم ذاهبا
إلى أنقرة ، فعاد المترجم وتذاكرا في أمور شتى هامة ، وبعد خروجه من عنده بات يذرف
الدمع. وما مضى على ذلك مدة شهرين إلا وأنشبت المنية فيه أظفارها.
والموت نقّاد
على كفه
|
|
جواهر يختار
منها الجياد
|
ونقلت جثته إلى
الآستانة ، وحين وصولها إليها جرى لها استقبال فائق ، ودفن حسب وصيته في جامع
السليمانية ، فرحمهالله رحمة واسعة.
أما اليونانيون
فإنهم توغلوا في البلاد العثمانية حتى قاربوا أنقرة ، وكانت الجيوش التركية تفسح
لهم المجال خداعا منهم ، ثم كرت عليهم وضربتهم تلك الضربة الشديدة ، وفي مدة عشر
أيام فتكت بهم فتكا ذريعا وقتلت منهم مقتلة عظيمة وأرجعتهم إلى إزمير وزج الكثير
منهم في قعر البحر ، واستردت منهم إزمير وجميع بلادها المحتلة. والوقائع معلومة
مشهورة نشرتها صحف العالم في حينها بملء الإعجاب ودونت تفاصيلها في بطون الأسفار.
وكان رحمهالله على غاية من الشجاعة والإقدام ، لا يعرف الكلل في
أعماله ولا الملل في أشغاله ، ذا وقار وهيبة ورأي ثاقب ، مفرط الذكاء ، سريع
الانتقال ، حلو الحديث ، لطيف المحاضرة ، بعيدا عن الرذائل وسفاسف الأمور ، لا
يقبل التزلف ولا يحب الشهرة والفخفخة ، سخي اليد يصرف كثيرا في مساعدة أحبابه وفي
سبيل الخير.
وكان يجيد
اللغة التركية تمام الإجادة ، آخذا من العربية وآداب لغتها بحظ وافر ، ويتكلم
باللغة الإفرنسية والألمانية ويجيد الكتابة فيهما ، ويفهم الكلام بالفارسية لكن لا
يقدر أن يتكلم فيها. وفي منفاه في مالطة كان يدرس اللغة الإنكليزية.
وكان المنفيون
معه يعجبون بصبره وعظيم ثباته وعدم جزعه وتحمله للمشاق ودماثة أخلاقه وحسن طويته.
وكان كل من له به معرفة وله معه صلة يعرف فيه هذه المحاسن وتلك المزايا.
وإنما المرء
حديث بعده
|
|
فكن حديثا
حسنا لمن وعى
|
١٣٣٠ ـ الشيخ أحمد المكتبي المتوفى سنة ١٣٤٢
الشيخ أحمد ابن
الحاج مصطفى ابن الشيخ عبد الوهاب ابن الشيخ أحمد ابن الشيخ محمد الشهير بالمكتبي ، العالم العامل والجهبذ الكامل ،
المحدث النحوي الأصولي ، فقيه الشافعية في الديار الحلبية.
ولد كما أخبرني
في رجب سنة ١٢٦٣. وأول من تلقى عنهم العلم الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ،
قرأ عليه القطر والشذور وابن عقيل في النحو ، وقرأ على الشيخ شهيد الترمانيني
والشيخ إسماعيل اللبابيدي والشيخ عبد القادر الحبّال ، قرأ عليه حاشية الخضري على
ابن عقيل.
وفي أول سنة
١٢٨٠ توجه إلى مصر فدخل الأزهر وتلقى هناك عن أكابر علمائه ، منهم العلامة الشيخ
محمد الأنبابي والعلامة الشيخ محمد الخضري والشيخ أحمد الرفاعي والشيخ أحمد
الجيزاوي والشيخ أحمد الأجهوري والشيخ إبراهيم السقا ، أخذ عنهم النحو والصرف
والمعاني والبيان وفقه الشافعية والحديث والأصول إلى غير ذلك من العلوم ، وأجازه
الشيخ محمد الخضري والشيخ عبد اللطيف الخليلي وبقي إلى سنة ١٢٩٠ ، وصار يقرأ ثمة
بعض الدروس في أوقات البطالة. وفي هذه السنة عاد إلى حلب ودخل المدرسة العثمانية ،
فبقي أربع سنين ، ثم توجه إلى الشام فدخل المدرسة المرادية ، فبقي فيها خمس سنين
حضر فيها على فضلاء الشام وقتئذ. ومن رفقائه في الحضور محدث الشام الشيخ بدر الدين
الحسيني ، وانعقدت بينهما روابط المحبة والصداقة من يومئذ ، وكنت كلما توجهت إلى
الشام وزرت العلامة المذكور يسألني عن شيخنا المترجم ويكلفني التسليم عليه.
وتوجه منها سنة
١٢٩٩ إلى مصر ثانية فبقي فيها سبع سنين إلى سنة ١٣٠٥ ، وكان في تلك المدة يقرأ
دروسا في الأزهر ، وصحح كتبا كثيرة في المطبعة التي أسسها الشيخ أحمد البابي
الحلبي واعتنى بذلك حق الاعتناء.
وفي أواخر ١٣٠٥
عاد إلى حلب فألقى عصا التسيار فيها. وكان في تلك المدة قد
__________________
فضل وتنبل وامتلأ وعاؤه علما ، فتصدر حينئذ للتدريس وعين مدرسا للحديث في
الحجازية التي في الجامع الكبير ، ثم عين مدرسا للمدرسة الصاحبية تجاه خان الوزير.
وتهافتت عليه الطلاب لتلقي الحديث والفقه الشافعي والنحو غير ذلك من العلوم.
أما علم الحديث
فقد كان بارعا فيه إليه المنتهى فيه بلا مدافع. وأما الفقه الشافعي فقد تفرد في
الشهباء فيه وصار إليه المرجع. وأما النحو فقد كان فيه إماما. ومعظم العلماء
والطلاب الموجودون الآن ومن توفي قبل سنوات تلامذته ، قل فيهم من لم يأخذ عنه. وكان
يحضر درسه في الحجازية وأمام الحضرة في الجامع الأموي المئات من العوام ، وانتفعوا
بدروسه ووعظه كما انتفع به الطلاب.
ثم عين مدرسا
لمدرسة الشيخ موسى الريحاوي في محلة باب قنسرين ، ولما كانت الأوقاف التي وقفها
الشيخ موسى المذكور قد اندرست ، وبعبارة أخرى قد ضبطت وأصبحت ملكا للناس ، سعى
شيخنا رحمهالله في جمع دراهم من أهل البر والمعروف فبنى بها دارا
ومخزنين ملاصقات للمدرسة ، ووقف هذه العقارات على المدرسة بتاريخ ٤ شعبان سنة ١٣٢٦
فصار بذلك لها شيء من الريع.
ولما عمر محمد
أسعد باشا الجابري المدرسة الدليواتية في محلة الفرافرة عين شيخنا مدرسا للفقه
الشافعي فيها ، وقد قدمنا ذكر ذلك في ترجمة الباشا المشار إليه.
ولما فتحت
المدرسة الخسروية عين مدرسا للنحو وصار يقرأ شرح ابن عقيل على الألفية مع مشارفة
حاشية الخضري عليه.
كان رحمهالله ذا همة عالية في التدريس ، مواظبا على ذلك حق المواظبة
لا يعرف الكلل ولا الملل ، لا يقطع درسه إلا لمرض يعتريه. وكان رحمهالله قصير القامة بدينا مدوّر الوجه دري اللون ذا شيبة نيرة
مهابا وقورا صالحا ورعا متعبدا ، قليل الاختلاط بالناس بعيدا عن محافلهم
ومجتمعاتهم ، قل أن يحضرها ، لا يتطلب وظيفة ولا يتطلع لها ، عاش عيشة الكفاف ،
وربما ضاقت به الحال فيتحمل ذلك ويصبر. ولم يكن فيه ما ينتقد به عليه سوى حدة في
مزاجه ترى فيه بعض الأحيان سببها قلة معاشرته وانزواؤه عن الناس. وبالجملة فهو من
خيار العلماء العاملين ،
وللناس فيه خاصتهم وعامتهم اعتقاد عظيم ، ويحاولون تقبيل يده فلا يمكن أحدا
من ذلك بل يصافح مصافحة.
ولشيخنا من
المؤلفات «حاشية على حاشية الخضري على شرح ابن عقيل» وسبب وضعه لهذه الحاشية أنه
أقرأ شرح ابن عقيل وحاشية الخضري عليه نحو عشرين مرة ، فرأى أن يدون تقريراته على
تلك الحاشية ، وهي في (٦٠٠) صحيفة ، و «حاشية على السخاوية في الحساب» ، و «رسالتان
في الحيض» على مذهب الحنفية والشافعية ، و «رسالة في فضل عاشوراء» ، و «رسالة في
ذوي الأرحام» في عشرين ورقة ، و «رسالة في علم الخط» ، و «رسالة في الإخلاص» ، و «رسالة
في الرؤيا» ، و «رسالة في علم التجويد» ، و «في الآبار» ، و «في السلوك في الطريق».
مرض رحمهالله أياما نحو أسبوع ، وتوفي ليلة السبت سادس صفر سنة ١٣٤٢
، ودفن في الغد في تربة الشيخ السفيري ، وكانت جنازته مشهودة حضرها ألوف من الناس
، وكان الحزن عليه كثيرا ، وفقدت به الشهباء علما من الأعلام وركنا عظيما ، ولم
يخلفه في الفقه الشافعي والنحو والحديث مثله ، رحمهالله تعالى وأغدق عليه سحائب رضوانه.
وكتب على ضريحه
من نظم الشاعر الأديب الشيخ كامل الغزّي هذه الأبيات :
هذا ضريح ضم
أروع فاضلا
|
|
في صدره نور
التقى يتوقد
|
العالم العلم
الأجلّ المنتقى
|
|
السيد السند
الإمام المرشد
|
لما قضى ومضى
لجنات العلا
|
|
أرخت في
الرضوان أمسى أحمد
|
١٣٤٢
١٣٣١ ـ الشيخ محمد الحنيفي المتوفى سنة ١٣٤٢
الشيخ محمد ابن
السيد محمد خير الدين بن عبد الرحمن آغا ابن حنيف آغا ابن إسماعيل المشهور
بالحنيفي ، العالم الفاضل والألمعي الكامل ، أحد من تزينت الشهباء بحلي فضله ،
واستضاءت أرجاؤها بأنوار علمه ، وازدان جيدها بعقود كماله ، وتعطرت بطيب سيرته.
ولد رحمهالله سنة ١٢٩٢. ولما ترعرع دخل المكتب العسكري الواقع غربي
القلعة الذي صار الآن مدرسة للصنائع ، ثم انتظم في سلك طلاب العلوم الدينية ولازم
الحضور على مفتي حلب الشيخ بكري الزبري وعلى الشيخ إبراهيم اللبابيدي وعلى الشيخ
راجي مكناس الذي لا زال حيا ، لازمهما في مبادىء العلوم مقدار ثلاث سنوات.
ثم ذهب إلى مصر
أواخر سنة ١٣١٤ فدخل الأزهر ، وهناك قرأ على شيخ الديار المصرية الشيخ محمد بخيت
الذي لا زال في الأحياء أيضا ، قرأ عليه التوحيد والأصول ، وقرأ السراجية في علم
الفرائض على الشيخ عبد الرحمن البحراوي الفقيه الحنفي المشهور ، وقرأ بعضا من شرح
السعد وحواشيه في علم المعاني والبيان على الشيخ البولاقي ، وقرأ على الشيخ محمد
عبده مفتي الديار المصرية رسالته في التوحيد وشرح الملوي على السلم في المنطق. وعاد
إلى وطنه أواخر سنة ١٣١٨ ، فتكون مدة مجاورته في الأزهر أربع سنين كوامل.
وبعد رجوعه
جاور في المدرسة العثمانية ، وقرأ على شيخنا العلامة الكبير الشيخ محمد الزرقا مدة
يسيرة ، ورافقنا مدة في الحضور على شيخنا الشيخ بشير الغزّي في صحيح البخاري.
وظائفه :
لمعرفته باللغة
التركية ، وقد كان تعلمها من المكتب العسكري ، عين مترجما لجريدة (الفرات) الرسمية
التي تصدر باللغتين العربية والتركية. وفي أوائل الاحتلال العربي وذلك سنة ١٣٣٧
عين كاتبا للجنة التي تألفت من وجوه الشهباء لتعيين المأمورين. ثم عين كاتبا ثانيا
في المجلس الإداري. ثم عين معلما للعلوم العربية في دار المعلمين والمعلمات ، وذلك
حينما كان ابن عمته ساطع بك الحصري الذي كان وزيرا للمعارف في عهد الحكومة العربية
الفيصلية في دمشق والذي هو الآن معاون لوزير المعارف في حكومة العراق الفيصلية. ثم
عين في لجنة توجيه الجهات في دائرة الأوقاف. ولما فتحت المدرسة الخسروية وذلك سنة
١٣٤٠ عين مدرسا للتفسير والتوحيد وعلم المعاني والبيان. ثم عين مدرسا للمدرسة
العثمانية ، بقي على ذلك إلى شهر ذي القعدة من سنة ١٣٤٢ ، ففيه ذهب إلى الديار
الحجازية لأداء فريضة الحج ، فمر في طريقه على مصر وذهب لزيارة شيخه الشيخ محمد
بخيت فلقي منه كمال الحفاوة.
وفي أثناء
وجوده في مكة زار الشريف حسينا فلقي منه كذلك كمال الإقبال. وبعد أداء مناسك الحج
عاد في الخامس عشر من شهر ذي الحجة إلى جدة ، ولما كان في نحو منتصف الطرق لفحته
الرمضاء فتوعك جسمه وانحلت قواه وألمت به حمّى شديدة تسمى في تلك البلاد الحمّى
الخطّافة ، فوصل إلى جدة وقد ازداد به المرض ، فاستدعي له الطبيب فلم ينجع فيه
دواء ، وفاضت روحه الكريمة ليلة السادس عشر من شهر ذي الحجة ، ودفن من الغد في
تربة هناك. ولما جاء نبأ نعيه إلى حلب أسف الناس عليه أسفا لا مزيد عليه ، وبكى
الكثير لأفول نيّر شمسه الذي كان ساطعا في سماء الشهباء وغيبوبته تحت أطباق الثرى.
ولا ريب أن المصاب به كان جللا ، والخسارة بفقد ذاك العلم كانت عظيمة ، فقد كان
حسنة من حسنات هذه الديار ، ودرة يتيمة في تاج هذا العصر.
وكان رحمهالله حسن الخلق محمود السيرة صافي القلب شريف النفس سامي
المبدأ ناصحا في دينه ، لا يجد الغش مسلكا إلى قلبه ولا الخداع موطنا في فؤاده ،
رقيق الطبع حسن العشرة متأنيا في حركاته ساكنا مع أصالة رأي. وبالجملة فهو جدير
بقول من قال :
له صحائف
أخلاق مهذبة
|
|
منها الحجا
والعلا والفضل ينتسخ
|
وكان له في علم
التوحيد والتفسير والأصول والفقه والمعاني والبيان اليد الطولى ، مع حسن التقرير
والتفهيم. أجمع من قرأ عليه أن تقريره كان يدخل إلى الآذان بلا استئذان. وكان ذا
همة عالية في دروسه ، لا تجده إلا في مطالعة أو إلقاء لها ، لا يعرف الكلل ولا
الملل في ذلك.
وقد كان لي
الصديق المخلص والخل الوفي ، يفضي كل واحد منا إلى الآخر بمكنونات قلبه ويطلعه على
مخزونات سره. ولما فتحت المدرسة الخسروية وعينت لدرس التاريخ وغيره فيها كنت
أذاكره في شؤون المدرسة وما يعود بالصلاح عليها ، وما أسرع اتفاقنا على ما يلزم
عمله ، ولعلنا لم نختلف يوما قط ، وكأن الرأيين خرجا من قلب واحد. وكنا بعد
الاتفاق نسعى في إبراز ذلك إلى حيز العمل.
وكان عظيم
المحبة لرقي اللغة العربية ونشرها ، وترقي اللغة عنوان رقي الأمة ، ولذا لم يقصر
سعيه في تعليمها في المدارس الدينية ، بل كان يسعى في نشرها في دار المعلمات أيضا.
وكان شديد
الاهتمام في أمر الأمة الإسلامية وممن تشبعت أفكاره في لزوم إصلاح أحوالها العلمية
والأخلاقية والاجتماعية لتنهض من كبوتها وتستعيد سابق منزلتها ، ولو طال أجله لقام
بخدمات جلى نحو بلاده وأوطانه. ولعمري لو كان لدينا أشخاص بعدّ الأصابع على شاكلته
وفكرته وطريقته وهمته لعلا من الشهباء منارها ، وانتشر العلم في ربوعها ، وعادت
فيافيها القفراء رياضا غناء.
وكان يذهب إلى
ما أراه أيضا من لزوم تشكيل لجنة علمية من المتخصصين في العلوم الفقهية تضع كتابا
في الفقه على نسق مجلة الأحكام العدلية يكون واسعا وافيا بحاجة الناس ، تأخذ فيه
من بقية المذاهب ، تبنيه على الأقوى من الأدلة وعلى ما يكون فيه المصلحة العامة
للناس ، وتكون قد عملت بمقتضى قوله صلىاللهعليهوسلم (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن). ولا ريب أن الأمة الإسلامية في
حاجة كبرى إلى مثل هذا الكتاب تسير عليه وتعمل بمقتضاه ، وذلك من أعظم الوسائل للم
شعثها وجمع شملها وتوحيد كلمتها.
نعم يجب في
أعضاء هذه اللجنة فوق السعة في العلم والمدارك أن يكونوا من المتمسكين بدينهم
البعيدين عن الأغراض الشخصية والأهواء النفسية ، فإذا كانوا حائزين لهذه الشروط
متصفين بهذه الخلال فيا لسعادة الأمة وفلاحها وقتئذ. وإن كانوا على خلاف ذلك
فيالشقائها وتعاستها وخيبة مسعاها في دنياها وأخراها.
مؤلفاته :
وألف رحمهالله عدة مؤلفات مفيدة ، وهي :
(١) «مختصر
دلائل الإعجاز» للإمام الجرجاني في علم المعاني ، اختصر فيه هذا الكتاب اختصارا
حسنا ، وقد أحسن في ترتيبه وتنسيقه وذكر كل مسألة في البحث الذي تناسبه خلافا
للأصل الذي كثيرا ما يذكر مسائل استطرادية في غير موضعها ، فجاء كتابا مفيدا
للطلاب.
(٢) و «المنهاج
السديد في شرح منظومة جوهرة التوحيد» ، وهو شرح لطيف لهذه المنظومة خال من
الزيادات والحشو. وهذان الكتابان قرأهما في المدرسة الخسروية وطبعا في مطبعتي
العلمية ، وهما المطبوعان من مؤلفاته.
(٣) و «شرح على
شرح الطائي للكنز» في الفقه الحنفي ، لم يكمل.
(٤) وكتاب في «أسماء
أعضاء الإنسان» ، وهو كتاب مفيد فإنه قد جمع فيه ما تفرق في معاجم اللغة من أسماء
أعضاء الإنسان.
(٥) وكتاب «عجالة
الأديب وبلالة اللبيب» في فن البيان ، وقد أكثر فيه من إيراد الأمثلة والشواهد
لتوضيح القواعد وتسهيل فهمها على الطلاب.
(٦) وكتاب «أسوة
الأبرار بالنبي المختار».
(٧) وكتاب في
أصول الفقه يبلغ مائتي صحيفة سماه «المقاصد السنية شرح القواعد الكرخية».
(٨) ومنظومة
جمع فيها معاني الحروف العربية تبلغ مائة بيت سماها «الفيض الرؤوف في معاني الحروف».
(٩) و «رسالة
في الحروف» ضمنها كثيرا من الأبحاث الاجتماعية.
(١٠ و ١١) و «رسالتان
صغيرتان في الأخلاق».
(١٢) وترجمة
كتاب في اللغة التركية لأحد الأطباء بين فيه حكمة التشريع وما للتكاليف الشرعية من
الفوائد الاجتماعية والصحية ومطابقتها للقواعد الطبية.
(١٣) ورسالة في
«عادات العرب قبل الإسلام» بين فيها ما كانوا عليه من العادات الحسنة والسيئة وما
لهم من الاعتقادات الخرافية وأسباب تلك الاعتقادات.
(١٤) وكتاب
كبير في اللغة على نسق «مفردات الراغب» يبحث في أصول اللغة واشتقاقها ، وهو مفيد
جدا ، وهو مرتب على ترتيب المصباح ، ويبلغ حجمه حجم المصباح وقد أتم المسودة وشرع
في تبييضه فوصل إلى حرف السين ، ومن الأسف أن المسودة غير مرتبة فلا يمكن إكمال هذا
الكتاب منها.
(١٥) تقريرات
لطيفة على رسالة الشيخ محمد عبده في التوحيد حررها حين قراءته لها في المدرسة
الخسروية ، وقد أوضحت ما كان غامضا فيها.
وكان رحمهالله قصير القامة أسمر اللون قليلا مستدير الوجه نحيف الجسم
، يلوح من
أسارير وجهه أمارات الذكاء والفطنة كما تراه في رسمه في الصحيفة الآتية.
ولما جاء نبأ
نعيه أقامت له المدرسة الفاروقية التجهيزية مأتما وأبّن فيه نثرا ونظما ، فرثاه
نظما تلميذه الشاب النجيب الشيخ محمد الحكيم بقصيدة في ٤٨ بيتا ومطلعها :
ذهب الزمان
بنيّر العلماء
|
|
فاليوم نحن
نخوض في الظلماء
|
ذهب الحنيفي
راغبا في ربه
|
|
فهتكت درع
تصبري وعزائي
|
بكت المعارف
والعلوم لفقده
|
|
وبه تيتّم
مجمع الفضلاء
|
لبست مدارسنا
عليه حدادها
|
|
أو ما تراها
معهد البأساء
|
أفلت شموس
العلم عن شهبائنا
|
|
وغدت بجدة
مطلع الأضواء
|
فالجهل في
أجوائها متحكم
|
|
والبؤس
والبرحاء في الأنحاء
|
ركن العلوم
وهى رصين بنائه
|
|
واندك معهده
من العلياء
|
كان العفاف
شعاره ودثاره
|
|
والدين
والتقوى من القرناء
|
حقا فإن
مصابنا بمحمد
|
|
من أعظم
الأقدار والأرزاء
|
وتلميذه الشاب
النجيب الشيخ مصطفى الزرقا بقصيدة في أربعة وثلاثين بيتا مطلعها :
ما للعيون
نواظرا لم تجمد
|
|
ما للقلوب
نوابضا لم تخمد
|
ما للنفوس
خوافقا لم تكمد
|
|
جزعا على علم
العلوم محمد
|
لله فادحة
دهتنا بغتة
|
|
دكّت عروش
تصبري وتجلدي
|
قد كنت أحسب
قبل ذاك جهالة
|
|
أن الزمان
إذا رمى لم يقصد
|
حتى أتى الإسلام
يوما راميا
|
|
فيهم بسهم في
الصميم مسدّد
|
وعدا بأيديه
عليهم مغمدا
|
|
منهم حساما
لم يكن بالمغمد
|
قد كان في
عنق الزمان مجرّدا
|
|
ليديل منه
كلّ حظ أنكد
|
فشكا الزمان
إلى المنون فأقبلا
|
|
يتعاونان
ففلّ أيّ مهنّد
|
كان الثمال
لنا بكل مهمة
|
|
وبحزمه كنا
نروح ونغتدي
|
ومنها :
يا قلب مهلا
في التململ والأسى
|
|
رفقا فإن
الرفق أجمل مقصد
|

ما مات من
عاشت له من بعده
|
|
مشكاة علم
تستنار بمعهد
|
فاصبر لرزئك
في تفاقم أمره
|
|
فالصبر عند
الفادح المتلبّد
|
(وإذا ذكرت محمدا ومصابه
|
|
فاذكر مصابك
بالنبي محمد)
|
١٣٣٢ ـ الشيخ أحمد الصدّيق المتوفى
سنة ١٣٤٣
الشيخ أحمد بن
أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن محمد صالح بن سليمان بن محمد المشهور بالصدّيق ،
العالم الفاضل ، الصوفي النقشبندي الزاهد ، الأديب الشاعر.
ولد كما أخبرني
هلال شوال سنة ١٢٦٠. ويوم مولده توفي والده. وكان أحد أجداده يقيم في الشام مدة
وفي حلب مدة ، وتزوج بامرأة من الشام من بيت ناصر الدين وهي صدّيقية فاشتهر بها
وصارت تعرف أسرته ببيت الصدّيق.
ولما بلغ من
العمر ١٦ عاما تلقى مبادىء العلوم على الشيخ جوهر ، وقرأ عليه مقدار ثلاث سنوات
النحو والفقه الأزهرية والمراقي ، إلى أن توفي شيخه المذكور وأوصاه أن لا يفارق
درس شيخه الشيخ أحمد الترمانيني ليكون له نظر عليه ، فعمل بمقتضى ذلك وحضر على
الأستاذ الكبير تفسير الجلالين وبعض حواشيه وغير ذلك.
وفي أواخر سنة
١٢٨٠ جاور في المدرسة القرناصية ، بقي فيها سنتين ، وخرج منها إلى دمشق فجاور في
مدرسة الخيّاطين سنة كاملة ومدرسها يومئذ الشيخ عبد القادر الخطيب.
وفي سنة ١٢٨٣
رحل إلى مصر فبقي هناك أشهرا ، ومنها رحل إلى مكة فأدى فريضة الحج ، ثم رحل منها
إلى المدينة المنورة فجاور ثمة سنتين قرأ فيها على جماعة متعددين أشهرهم الشيخ عبد
القادر الحفّار الطرابلسي ، ومنهم الشيخ العذب المصري ، وكان من المتضلعين في علم
الحديث ، ومنهم الشيخ عبد الله الدرّاجي المغربي. وأخذ الطريقة النقشبندية على
الشيخ عبد الجبار ابن الشيخ علي البصري ، ومنها بأمر الشيخ المذكور توجه إلى
البصرة سنة ١٢٨٥ فأقام بها إلى سنة ١٢٩٠ وصار يقرأ دروسا فيها. وتزوج هناك ببنت
الحاج ناصر المسعود من أغنياء البصرة ، وكان ذا ثروة طائلة ، رغب في تزويجها منه
لما رآه من فضله وأدبه وصلاحه.
وفي سنة ١٢٩١
عاد إلى وطنه حلب وبقي هنا سنتين ، ثم توجه منها إلى الهند بتجارة هي ثياب حريرية
التي تسمى [بالجتارة] وغزلية وكتب ، فربح ربحا حسنا ، وبقي هناك أربعة أشهر ، وعاد
ببضاعة هندية إلى البصرة وبقي بها إلى سنة ١٢٩٦ ، فاقتضى الحال أن يأتي إلى حلب ،
فلم ترغب زوجته بالحضور معه ، فاضطر إلى مفارقتها وعاد إلى وطنه.
وفي سنة ١٢٩٨
أخذ بضاعة من حلب إلى البصرة والهند وعاد سنة ١٢٩٩.
وفي سنة ١٣٠١
توجه إلى الحجاز وكذا في سنة ١٣٠٢. ولازم بعد ذلك مدرسة المسجد الأحمدي في محلة
قارلق وصار يقرىء فيها الدروس للطلبة من أهل هذه المحلة وما حولها.
وكان رحمهالله طويل القامة أسمر اللون كث اللحية ، فصيح العبارة حسن
المعاشرة والملاقاة والمحاضرة ، قوي الحافظة يحفظ كثيرا من الشعر ومناقب الصالحين
وكلام السادة الصوفية ويحاضر بذلك فلا يمل منه جليسه لحلاوة حديثه وعذوبة منطقه ،
مع الصلاح والتقوى والزهد فيما في أيدي الناس والانجماع عنهم ، ملازما لمدرسته
الملاصقة لبيته ، يزوره فيها إخوانه ومريدوه والكثير من الناس ، ويغلب على مجالسه
الوعظ والإرشاد وإيراد مناقب الصلحاء ، ولوعظه تأثير حسن في القلوب لإخلاصه وعمله
بعلمه.
وله من
المؤلفات كتاب «العبقة الإلهية في الطريقة النقشبندية» ، و «المسك الندي في المشرب
النقشبندي» ، و «شكمجّة المسامر فيما يحتاج إليه المسافر» ، و «السبيكة العسجدية
في الرحلة من البصرة إلى الديار الهندية». وله «شرح قصيدة ابن دريد» ، و «نظم متن
دليل الطالب في مذهب الحنابلة» في ثلاثة آلاف بيت ، وكتاب «في المواعظ» وديوان شعر
كبير غزل وحكم ومواعظ وغير ذلك ، فمن غزله قوله :
جالت مياه
الحسن في وجه أغرّ
|
|
جمع المحاسن
والعقول لقد قمر
|
يعنو له
البدر المنير إذا بدا
|
|
وهو الذي من
حسنه خجل القمر
|
أحسن بقدّ
قوامه وعيونه
|
|
عن سحرها
روّت غدت تروي الخبر
|
وسنانة
بلحاظها فتاكة
|
|
بسهامها ترمي
فتوقع في الخطر
|
إني بليت بحسنه
العالي وذا
|
|
أمر به حكم
الإله فلا مفرّ
|
يا لائمي دع
عنك تعنيفي فذا
|
|
قدر الإله
رضيت إذ رضي القدر
|
جاء اسمه
جزئين خذ تصحيفه
|
|
تدري بما
ألغزته يا ذا النظر
|
وأنا الفداء
لمفرد في حسنه
|
|
قمر بديع
بالجمال لقد بهر
|
وقد خمّس هذه
الأبيات الشاعر الشيخ محمد الورّاق المتوفى سنة ١٣١٧ وهو في ديوانه. وللمترجم
مخمسا :
بادر إلى
بقعة فاللطف فيها خفي
|
|
فيها النشاوى
ومن من كل خلّ وفي
|
وإن ترم قهوة
من كف من تصطفي
|
|
لقد علا حبب
متن الصفاء وفي
|
كوب
الهنا تزدهي شمس لمن حضرا
|
صفراء فاقعة
شكلا كما الذهب
|
|
أيضا وياقوته
كالجمر في اللهب
|
وقتا وفي
راحتي يا راحتي اقتربي
|
|
مديرها قمر
بدر فواعجبي
|
والشمس
لا ينبغي أن تدرك القمرا
|
ومن نظمه
مشطّرا وهو مما سمعته من لفظه :
ما في زمانك
من ترجو مودته
|
|
ولا حليم إذا
ما قد جنيت عفا
|
ولا مجيب إذا
ما كنت منتدبا
|
|
ولا صديق إذا
جار الزمان وفى
|
فعش فريدا
ولا تركن إلى أحد
|
|
فتفتدى بالذي
قالت به الحنفا
|
نعم وتمشي
على فرش بطائنها
|
|
إني فضحتك
فيما قلته وكفى
|
وقوله :
بطائنها من باب الاكتفاء ، أي بطائنها من إستبرق.
ووقف رحمهالله جميع قطعة الأرض الكائنة بمحلة الدلّالين خارج باب حديد
بانقوسا الملاصقة للجامع الأحمدي ، وجعل الموما إليه من القطعة المذكورة ما سامت
منها للمسجد القديم جامعا وما زاد منها عن مسامتة الجامع الأحمدي زاوية لأذكار
السادة أهل الطريقة الخلوتية.
ووقف البناء
المرتفع الذي بناه فوق بعض الزاوية الخلوتية من جهة الشمال وجعله زاوية ومدرسة
لتدريس العلم ولقراءة وإجراء الختم الشريف الخوجكاني النقشبندي الخالدي.
ووقف على هذه
المدرسة مكتبة حافلة مخطوطة ومطبوعة ذكرها في كتاب وقفه المؤرخ في غرة رمضان سنة
١٢٩٤ ، وسوّغ الانتفاع بها لكل من قصد مطالعة شيء فيها في المحل المذكور وشرط عدم
إخراج شيء منها.
وكانت وفاته
ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الثاني سنة ١٣٤٣ ، ودفن من الغد في تربة ترب البيض
شمالي الصفا.
١٣٣٣ ـ الشيخ محمد الزرقا المتوفى سنة ١٣٤٣
الشيخ محمد ابن
السيد عثمان ابن الحاج محمد ابن الحاج عبد القادر الزرقا ، الحلبي الأصل والمنشأ ،
فقيه الديار الحلبية ، وعالم البلاد السورية.
كان في المذهب
النعماني عيلمه الزاخر وبحره الرائق وسراجه الوهاج ، وفي علم الحديث جامعه الكبير
وروضه النضير ، وفي غير ذلك من العلوم والفنون ينبوعا لا تكدره الدلاء ، ولا ينزحه
الاستقاء.
سطعت كواكب
نجابته منذ حداثته ، وتجلت شموس براعته قبل كهولته. سابق الأقران في حلبة الفضل
فكان السابق والمجلّي ، وكان غيره اللاحق والمصلّي ، مع فصاحة لسان تأخذ بمجامع
الألباب ، وعذوبة بيان تنسي المتيم الولهان حلاوة الرضاب.
مبدأ حياته :
ولد رحمه سنة
١٢٥٨. ولم تكن عائلة أبيه قبله من بيوت العلم ، بل كانت أمه من سلالة قوم علماء هم
بنو برهان ، فهو العصامي الذي أسس دعائم العلم في هذه العائلة وبه علت منابر
شهرتها. وكان طلبه للعلم في الخامسة عشرة من عمره ، ومبدأ ذلك كما تلقيناه أنه كان
أجيرا عند رجل عطّار في سوق بانقوسا من بني الناشد ، فعزم هذا على الحج ، وقبل أن
يسافر أراد أن يشاركه ويسلمه الدكان مضاربة لما رآه فيه من النباهة والاستقامة ،
ففعل. ثم سافر للحج ، فبعد سفره بدا للمترجم أن يطلب العلم ، وصار يذهب صباح كل
يوم إلى المدرسة القرناصية ويحضر فيها درسا ثم يعود إلى دكانه وقت الضحى. فلما حضر
شريكه من الحج رآه يتأخر في فتح الدكان في حين أنها كانت بجانب حمّام رقبان ، وكان
يقتضي أن تفتح بكرة ، فسأله عن السبب في تأخره فأخبره ، فلم يوافق شريكه ذلك ولم
يرض هو بترك الدرس ، فعرض القضية على والده السيد عثمان ، فأقبلا يتعاونان على
إقناعه ، ولكن عبثا حاولا ، وصار هو يقنع والده ويرجوه أن يسمح له في ذلك وأن يدعو
له بالتوفيق والنجاح.
ولما رأى والده
إصراره على ذلك لم يجد بدا من موافقته وتركه وشأنه ، وحينئذ قطع علائقه مع الشركة
ولزم المدرسة القرناصية وانقطع فيها لطلب العلم وأكمل حفظ القرآن بعد أن كان حفظ
جانبا منه ، وأخذ في الجد والاشتغال.
وكان في مدة
طلبه العلم في المدرسة خشن العيش متقشفا معتزلا عن الناس ، فحضر على الشيخ عبد
اللطيف النجّاري في المدرسة القرناصية مبادىء النحو والفقه وغيرهما ، حتى إذا اتسع
فهمه أخذ في الحضور على مدرس المدرسة إذ ذاك الشيخ مصطفى أفندي الريحاوي ، وعكف
على حفظ المتون ، فحفظ بعد الكتاب المبين الشاطبية والألفية لابن مالك ، ومعظم متن
التنوير في الفقه ، ومتن الجوهرة في التوحيد ، والسلم في المنطق وغير ذلك.
وتلقى عن الشيخ
الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ، وكان الشيخ يتوجه إليه في حلقة الدرس من بين
الحاضرين ويخصه بالنظر والخطاب لما يراه فيه من الثقافة والنباهة. وتلقى أيضا عن
العالم المدقق الشيخ علي القلعة جي وهو خاتمة أشياخه ، فإنه كان أيضا يخصه
بالمذاكرة والمحاورة ويعتمد عليه ، حتى إنه إذا عرض يوما لصاحب الترجمة مانع منعه
من حضور الدرس فالشيخ لا يقرأ الدرس في ذلك اليوم. فنما ذكره بين المشايخ والطلاب
وأخذت شهرته تنتشر آنا فآنا حتى أصبح المفرد العلم. ولم يبلغ الثلاثين من عمره حتى
برع في الفقه والأصول والفرائض والنحو والمنطق وسائر الفنون الآلية ، فشاع صيته وعرف
كل ذي فضل فضله ، وصار إليه مفزع الناس في معضلاتهم ، وعليه المعوّل في حل
مشكلاتهم.
أساتذته :
أما أساتذته
الذين تلقى عنهم فمنهم الشيخ مصطفى الريحاوي مدرس القرناصية ، قرأ عليه الفقه
الحنفي ، والشيخ مصطفى أفندي الكردي مدرس العثمانية ، قرأ عليه علم المنطق ، والشيخ
أحمد الترمانيني ، قرأ عليه علمي الصرف والنحو ، والشيخ عبد السلام الترمانيني ،
قرأ عليه صحيح البخاري وغير ذلك من كتب الحديث ، والشيخ إبراهيم اللبابيدي ، قرأ
عليه علم أصول الفقه ، والشيخ مصطفى الشربجي ، قرأ عليه علم الفرائض ، والشيخ علي
أفندي القلعه جي ، قرأ عليه في الفقه الحنفي الدر المختار وحاشيته رد
المحتار ، وكان آخر أساتذته الذين قرأ عليهم.
وفي برهة قليلة
برز على أقرانه وفاق أساتذته وجلّى في حلبات العلوم واشتغل بنفسه في فنون متنوعة
كاللغة والأدب.
وكان مع ذلك من
مشاهير القراء في مدينة حلب ، مجيدا للنطق وحسن الأداء فصيح اللسان ترتيلا وحدرا ،
بالغا في التلاوة غاية الإتقان مع البراعة في معرفة الوقوف بأنواعها.
وكان حافظا
لمتن الشاطبية في علم القراءات كما ذكرنا ، ولكن لم يجمع القراءات السبع لأنه لم
يجد أستاذا في حلب متلقيا بالسند ليأخذ عنه.
شهرته :
لم تكن شهرته
قاصرة على بلدته أو البلاد السورية ، بل عمت شهرته سائر البلاد الإسلامية وطبق
ذكره الآفاق ، وخصوصا في الفقه الحنفي الذي كاد يأتي على جميع نصوصه ، وكاد لا
يغادر صغيرة منه ولا كبيرة إلا أحصاها ، وكنا نرى أنه لو شاء إملاء مذهب أبي حنيفة
من حفظه لأملاه بنصوصه وحروفه ، وذلك لما أعطي من قوة الحافظة وفصاحة اللسان ، هذا
مع التحقيق والتدقيق ومعرفة المصحح والمرجح من الأقوال ، ومع سرعة الجواب وعدم
الاحتياج لمراجعة الكتاب ، فكان في ذلك يبهر العقول ، ويشهد له سائله ومذاكره بأنه
فريد العصر وعديم النظير. وكثيرا ما يستخرج النصوص الصريحة المنطبقة على الحادثة
المسؤول عنها من غير مظان وجودها إذ تكون مذكورة هناك استطرادا أو استشهادا أو
ليست مذكورة في أبوابها الموضوعة لها ، وهذا لا ريب يدلك على زاخرات علمه وسعة
إطلاعه.
دروسه وحاله فيها :
أول ما تولاه
تدريس المدرسة الشعبانية ، وذلك في سنة ١٢٩٩ ، وكان في دروسه رحمهالله جوادا مضمارا وبحرا ذخّارا ، طلق اللسان حسن التقرير في
المعقولات خزانة للمنقولات ، سليم الذوق في الفهم ، محققا مدققا ، يستوعب أطراف
الموضوع ويغوص فيه بحثا ، ثم يتمخض بحثه عن الحقائق الراهنة والصواب. وكانت حلقة دروسه
تمتلىء
بالعلماء والطلاب شيوخا وشبانا من حلبيين وغيرهم. وفي الشطر الثاني من
حياته كان غالب تدريسه في علم الفقه ، وكان سريع الكشف عن المسائل.
حدثني أحد
ملازمي درسه قال : حضرت دروسه اثنتين وثلاثين سنة فما رأيته مرة أراد المراجعة عن
مسألة فنظر في الفهرست مهما كان بعيد عهد بها ، بل كان يقلب قلبات يسيرة فيظفر
بها. ونظره في أثناء قلب الأوراق متجه إلى محل المسألة من الصحيفة ، وهذا ينبئك
بقوة حافظته وذاكرته.
وكان درسه
تعلوه الجلالة والمهابة كأن الطير على رؤوس حاضريه. وله مع ذلك أحيانا ملح وطرف
تنشيطا للأفكار ، في حين أنه قل أن تعتري السآمة والملل لأحد من حضار دروسه وذلك
لما يرونه من حسن تقريره وحلاوة منطقه ، فكانت حالته داعية للانتباه وتوجه النظر
لما يتدفق من درر كلماته وفائض علمه.
الكتب التي قرأها في مدارس عديدة :
ظل رحمهالله في التدريس نحو ستين سنة ، وقرأ إلى حين شيخوخته كثيرا
من الكتب في فنون مختلفة. فمن مشاهير الكتب التي قام بتدريسها شرح ألفية ابن مالك
في النحو للأشموني مع حاشية الصبان ، وشرح ابن عقيل عليها مع حاشية الخضري عليه ،
ومغني اللبيب لابن هشام في النحو ، وقطعة من صحيح مسلم ، وقطعة من جمع الجوامع في
أصول الفقه ، درس هذه الكتب في المدرسة السعيدية الواقعة في داخل جامع الصروي ،
وشرح القسطلاني على صحيح البخاري ، وحاشية العلامة ابن عابدين على الدر المختار ،
أكمل قراءتها ثلاث مرات كل مرة في نحو عشر سنوات ، وحضرت عليه من أواخرها إلى
الآخر في قراءته له للمرة الثالثة وذلك سنة ألف وثلاثمائة واثنتين وعشرين ، ثم قرأ
بعدها الأشباه والنظاير لابن نجيم مع استيعاب حاشية الحموي عليه في التقرير ،
حضرته عليه من الأول إلى الآخر. ثم قرأ بعده شرح الزيلعي على الكنز ، ابتدأ فيه في
شوال من سنة ألف وثلاثمائة وخمس وعشرين ، حضرت عليه الجزء الأول ونصف الجزء الثاني
، وكان إلى هنا خاتمة حضوري وقراءتي عليه ، وقد وصل في هذا الكتاب إلى كتاب الصلح.
ودرس الجامع
الصغير في الحديث في المدرسة الأحمدية لكنه لم يكمله ، وقد حضرت عليه معظم ما قرأه
، وقرأ غير ذلك في المدرسة العثمانية وفي جامع الحاج موسى. وبعد
أن وصل في شرح الزيلعي إلى كتاب الصلح أعاد قراءة حاشية ابن عابدين للمرة
الرابعة ، ولشيخوخته كان يقرؤها في بيته ، وحين وصل فيها إلى آخر كتاب الإقرار قرّ
في رمسه وأفل نيّر شمسه.
تلاميذه الذين تخرجوا عليه :
في هذه المدة
تخرج عليه كثير طبقة بعد طبقة فضلوا في حياته ، ومنهم من توفي قبله لعلو سنه ،
وليس في الوسع أن نحصي الجميع ، فمن الطبقة الأولى الشيخ محمد الكّلاوي ، والشيخ
بشير الغزّي ، والشيخ بكري العنداني ، والشيخ أسعد البانقوسي الفرضي ، والشيخ أبو
المواهب الباشا الريحاوي ، والشيخ أحمد مظهر أفندي شيخ ديب ، والشيخ كامل الغزّي ،
والشيخ محمد بركات ، والشيخ عبد القادر الحجّار ، والشيخ مصطفى الهلالي ، والشيخ
راجي مكناس ، والشيخ محمود الريحاوي ، والشيخ عبد القادر لبنية وغيرهم. ومن الطبقة
الثانية ولده الشيخ أحمد ، والشيخ نجيب سراج ، والشيخ محمود العلبي ، والشيخ صالح
الحصري ، والشيخ مصطفى باقو ، والشيخ عبد الرزاق الرفاعي واقف المكتبة في المدرسة
الشعبانية ، والشيخ عبد الكريم الترمانيني ، وأخوه الشيخ إبراهيم ، والشيخ محمد
الحنيفي ، وهذا العاجز وغيرهم.
ومن الطبقة
الثالثة الشيخ محمد الناشد ، والشيخ حامد هلال ، والشيخ أحمد الحجّار ، والشيخ عبد
الرحمن الدايم ، وغيرهم. وكل طبقة شاركت من قبلها في الحضور.
تقلده المناصب الشرعية :
أول ما تقلده
من الوظائف رئاسة كتاب المحكمة الشرعية في حلب في عهد القاضي العالم العادل حسين توفيق أفندي ،
وذلك سنة ١٣٠٠ ، وكان ذلك بإلزام من والي حلب جميل باشا ، وبقي في هذه الوظيفة إلى
سنة ١٣٠٣ ، ففيها استعفى منها حينما استعفى القاضي حسين توفيق.
__________________
وفي سنة ١٣٠٤
عين أمينا للفتوى لما عين الشيخ أحمد الزويتيني للإفتاء بإلحاح منه ، ثم أعيد
لرئاسة الكتاب في المحكمة الشرعية في زمن ولاية القاضي مصطفى رشدي أفندي ، ثم
استقال حينما انفصل القاضي الموما إليه ، ثم أعيد في أوائل عهد القاضي تحسين بك ،
ثم استقال حينما تحول تحسين بك قاضيا للآستانة سنة ١٣٠٨ ، ثم أعيد في أوائل عهد
القاضي محمد مكي بك سنة ١٣٠٩ ، وبقي إلى سنة ١٣١١ إلى أن انفصل القاضي محمد مكي بك
فاستقال هو أيضا ، ودعي بعد ذلك إلى هذه الوظيفة فلم يوافق.
سفره إلى القسطنطينية :
في سنة ١٣٣٢
دعته مشيخة الإسلام من الآستانة ليكون معاونا لأمانة الإفتاء فيها ، فأجاب بعد
إلحاح من جلال بك والي حلب وقتئذ ، فسافر إليها في جمادى الآخرة من هذه السنة ،
فبقي في الآستانة نحو خمسة أشهر. ورغما عما لاقاه هناك من الإعظام والتقدير وأسباب
الراحة لم يطب له المقام هناك أولا من جهة حنينه إلى أوطانه وعدم صبره على مفارقة
عائلته وهو في سن الشيخوخة ، وثانيا من انزعاجه من برد القسطنطينية ، فإنه رحمهالله كان شديد التأثر من البرد حتى كان يلبس الصوف في بيضة
الصيف. فلذلك استأذن بالعود إلى حلب ، فعاد إليها في ذي القعدة من السنة المذكورة
، وكان يوم عوده يوما مشهودا أيضا لخروج كثير من العلماء والوجهاء والناس
لاستقباله. ولما توجهت للسلام عليه في داره في المحلة المعروفة بابن يعقوب شرع
يحدثنا عن حسن المكان الذي كان ساكنا فيه وارتفاعه وما هناك من المناظر الطبيعية
البديعة ، ثم قال : ومع كل هذا فإني أفضّل داري هذه على كل ذلك. ومنشأ ذلك ما
قدمناه ، وقد منحته الدولة العثمانية حين عوده لحلب رتبة الحرمين المحترمين.
ولما احتلت
الجيوش العربية الفيصلية حلب وغادر حلب الحكام الأتراك ومن جملتهم القاضي سليمان
سرّي وتشكلت الحكومة العربية ، وذلك سنة ١٣٣٧ ، عين من قبل الأمير فيصل (ملك
العراق الآن) قاضيا لحلب ، فكان على شيخوخته يطالع أوراق الدعاوي ويدققها ويقول :
لا يمكنني التوقيع على ورقة يصححها غيري. وبعد بضعة أشهر عين لمجلس التمييز في
دمشق ، فلم يوافق على ذلك لعدم مساعدة سنه للسفر ، فاستعفى ولزم بيته مقتصرا على
تدريس الفقه والحديث فيه إلى حين وفاته.

ما يؤسف عليه منه :
أما ما يؤسف
عليه منه فهو أنه رحمهالله عمر طويلا وبلغ سنا عالية ولم يخط لبني قومه أثرا علميا
يتمتعون بفرائده ويقتبسون من فوائده ، فقد مضى ومضى معه ذلك العلم الواسع والضوء
الساطع. ولعمري لو كان ممن يميل إلى فكرة الأخذ من مذهب الشافعية والمالكية
والحنابلة وغيرهم من الأئمة المعتبرين مما يتراءى أنه أقوى دليلا أو أوفق لمصلحة
الناس أو أرفق بهم لكان وحده لما آتاه الله من سعة العلم ودقة النظر كفئا لأن يقوم
بوضع هذا الكتاب الذي نرى الأمة الإسلامية في حاجة شديدة إليه كما قدمناه آنفا في
ترجمة الشيخ محمد الحنيفي.
على أنه لم يكن
ممن يميل لوضع كتاب على هذه الطريقة فكان ينبغي على الأقل أن يعتني بتنقيح كتاب «الدر
المختار» وحاشيته للعلامة ابن عابدين اللذين سبرهما سبرا وقتلهما خبرا ، وذلك بأن
يدمجهما ككتاب واحد ويختصر ويحذف منه ما يتعلق بالانتقادات اللفظية ، ويلحق منه
المستطردات بأبوابها ، وينبه على ما فيه من المؤاخذات والأبحاث المعترضة ، ويقتصر
فيه على نتائج الأبحاث ، وبذلك يصغر حجمه ويسهل مراجعته ويقرب من يد المتناول
ويصلح لأن يدرس في المدارس العلمية الدينية بسهولة ويكون الأصل أمّا يرجع إليه وقت
اللزوم. ولا شك أن هذا أيضا أمر يحتاج إلى عناية شديدة ورسوخ في العلوم ، وكان رحمهالله سداد هذا الثغر وكفء هذا الأمر.
وقد تراءى لنا
أن السبب في عدم تصديه للتأليف هو أنه لما اشتد غاربه ولمعت بوارق براعته التفت
الناس إليه في أمورهم وتحرير معاملاتهم وصكوكهم ، إذ كانوا لا يركنون في مسائلهم
الهامة إلا إليه ولا يعولون إلا عليه ، ومعظم مسائل الحقوق والمعاملات كانت عائدة
إذ ذاك للشرع الشريف ، فلم يكن يجد فراغا أصلا ، بل كانت أوقاته مستغرقة في تدريسه
وفي أمور الناس. ولما كثرت المحاكم النظامية والمحامون والنظاميون وصارت أكثر
معاملات الناس نظامية قلت علائق الناس معه ، ولكن كان قد وهن العظم منه واشتعل
الرأس شيبا ، فلم تعد قواه تعينه على ذلك. وعلى كل فلا يخلو الحال من الأسف على
عمل كان جديرا به.
صفاته وأخلاقه :
كان رحمهالله ذا همة عالية ونفس أبية وعزيمة صادقة ، لا يشغله شاغل
عن الجد والعمل ، فلا تلقاه إلا في المطالعة لدروسه أو قراءة لها أو إملاء على
كاتب. وكان إذا أملى لا يحتاج أن يضرب على شيء مما كتبه إلا نادرا. وكان كثير
التعبد والتلاوة للقرآن.
وكان حصيفا
حازما يقظا وافر العقل مطلعا على مجريات الأحوال خبيرا بأحوال الناس عارفا بمقامهم
، ينزل كل إنسان منزلته. وكان له المقام الأعلى في المجامع ، وهو الصدر في المجالس
، وله الكلمة العليا إذا التفت المحافل ، لا تنعقد هيئة علمية للتداول في أمر هام
ويكون فيها فيجسر أحد على الكلام ، بل ينتظرون ما يصدر عن رأيه الصائب وفكره
الثاقب ، فيكون قوله فصل الخطاب.
وكثر لكثرة
فضله حاسدوه ، ولم يخل من انتقاد بعض الناس له ، شأنهم في كل رجل ألبسه الله ثوب
نعمة وفضل من مال وعلم. على أننا لا ندعي أن شيخنا كان من المعصومين ولا ممن لم
تبدر منهم هفوة في مدة حياتهم. وأي رجل يقارع الرجال وينازل الأبطال في معترك هذه
الحياة ولا تقع منه زلة ولا يعرف له خطأ ولا تبدو منه هفوة. وأظن أنا لو طلبنا هذا
الرجل لتطلبنا المستحيل من الأمور.
ولا ريب أنه
كان له هفوات بدرت منه فإنها لا تعد شيئا مذكورا بجانب كثرة صوابه وجليل محاسنه.
ولا بد للجواد من كبوة وللسيف الصقيل من نبوة ، وحسبنا أن نقول فيه :
ومن ذا الذي
ترضى سجاياه كلها
|
|
كفى المرء
نبلا أن تعد معايبه
|
وكان عظيم
التواضع يأنس بالعوام كثيرا ويحتمل منهم ، وكان سخي اليد له صدقات كثيرة.
وكان مربوع
القامة إلى الطول أقرب ، جميل الطلعة ، دري اللون ، عظيم المهابة والوقار كما تراه
في رسمه الذي أخذ حينما أزمع على السفر إلى الآستانة بالإلحاح الشديد من أبنائه
وعائلته من غير رغبة منه ، ولذا تراه فيه عابسا وكانت سنه ٧٥ سنة.
__________________
وكانت وفاته
ليلة السبت المصادف للثلاثين من المحرم سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وأربعين ، ودفن من
الغد في مدفن التكية المولوية ، وكان له مشهد عظيم لم يعهد له نظير ، شهد تشييعه
ألوف من الناس على اختلاف طبقاتهم.
وقد أرخ بعض
الأدباء وفاته بقوله (قمر غاب ١٣٤٣) (بأرض الشهباء ١٣٤٣).
ورثاه حفيده
الشاب النجيب الشيخ مصطفى بقصيدة طويلة في ٢٩ بيتا ومطلعها :
أفض على
مهجتي ما شئت يا دهر
|
|
واصبب صروفك
ما شاءت لك الغير
|
وختمها بقوله :
أيا إمام
النهى يا كعبة الفضلا
|
|
يا عمدة
الدين يا فاروق يا عمر
|
هلّا رحمت
علوما غار منبعها
|
|
فما لها في
سوى صدغيك مدّخر
|
لقد علمنا
بأن الناس مثكله
|
|
والعلم محتضر
مذ أنت محتضر
|
كم من أخي
حسد قد كنت مخمده
|
|
يناله من
علاك الخزي والكدر
|
يبيت مرتقبا
يوما تموت به
|
|
وهل تود بقاء
الضيغم الهرر
|
وقبلك
الأنبياء الرسل قد حسدوا
|
|
ونابهم من
بني أقوامهم ضرر
|
لئن أفلت عن
الدنيا ومظهرها
|
|
فذاك مجدك في
الأيام مستطر
|
١٣٣٤ ـ الشيخ أحمد شهيد المتوفى
سنة ١٣٤٥
الشيخ أحمد ابن
الشيخ شهيد ابن الشيخ محمد شلوح الدار عزاني ، العالم الفاضل ، الشاعر الأديب.
ولد سنة ١٢٦٣
في قرية دارة عزة من قرى حلب في غربيها ، واشتغل على والده في مبادىء العلوم
بالقرية المذكورة.
ثم حضر إلى حلب
سنة ١٢٧٨ فقرأ على الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني شرح التحرير في الفقه
الشافعي وكتبا في علم النحو ، وعلى الشيخ عبد السلام الترمانيني قرأ عليه في علم
النحو أيضا.
ثم رحل إلى مصر
سنة ١٢٨١ وجاور في الأزهر وقرأ ثمة في علوم متعددة على الشيخ حسين البريري والشيخ
حسين الطرابلسي الشهير بمنقاره وغيرهم.
وفي سنة ١٢٩٠
عاد إلى حلب وصار يدرّس في الجامع الأموي وفي المدرسة العثمانية ، وحضر عليه بعض
الطلبة.
ولما عين جميل
باشا واليا على حلب قدم له قصيدة في كل شطرة منها تاريخ ، فكانت سبب تعيينه مفتيا
لقضاء حارم سنة ١٢٩٨ ، ومطلعها :
بشراك في
منصب يكنوه آيات
|
|
إلى المعالي
وللشهبا مسرات
|
فاهنأ بفخر
جزيل جاد موقعه
|
|
عند الأنام
فوافته الولايات
|
ومن نظمه
مشطّرا :
ولو علموا في
مصر أوصاف خده
|
|
وما قد حواه
الثغر من أطيب الشهد
|
وتالله لو
شافوا نضارة وجهه
|
|
لما بذلوا في
حب يوسف من نقد
|
لويما زليخا
لو رأين جبينه
|
|
يلوح به نور
النبوة في المهد
|
وقد أنزل
الله الكتاب بمدحه
|
|
لآثرن بالقطع
القلوب على الأيدي
|
وقدمنا أبياته
التي أرخ فيها بناء منارة الساعة خارج باب الفرج في أواخر الجزء الثالث ، وأبياته التي أرخ فيها بناء جامع عبد الرحمن زكي باشا
المدرس في محلة الجميلية.
وله ديوان كبير
، غير أن شعره الذي التزم فيه التاريخ أو التطريز لم يخل من تكلف ، وهو في غير ذلك
أحسن.
وكان طويل
القامة أسمر اللون كث اللحية لطيف المعاشرة حسن المحاضرة ، يحفظ جملة وافرة من
الشعر والآداب العربية فيحاضر بها.
وله من
المؤلفات حاشية على مغني الطلاب في المنطق ، وزاد في منظومة ابن وهبان في الفقه
الحنفي ثلاثمائة بيت وشرحها ، وله منظومة في علم الفراسة في سبعمائة بيت وشرحها .
__________________
وكانت وفاته
يوم الثلاثاء في الثامن والعشرين من ربيع الأول في هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥ ، ودفن
في قرية دارة عزة ، رحمهالله تعالى وأسكنه دار كرامته.
وسبحان الله
وبحمده والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.
الخاتمة
تم بحمد الله
تعالى وحسن توفيقه طبع الجزء السابع من تاريخنا (إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء)
سابع شهر ذي الحجة سنة ألف وثلاثمائة وخمس وأربعين ، وبه كمل تاريخ هذه المدينة
العظيمة.
وقد حوت
الأجزاء الثلاثة الأول ذكر من ملكها من الملوك وحكمها من الأمراء من حين الفتح
الإسلامي إلى سنة ١٣٢٥ مع تراجم معظم هؤلاء ، والحوادث الهامة التي وقعت في هذه
السنين ، والعمران الذي حصل فيها ، وعدد نفوسها ، وعدد ما فيها الآن من الجوامع
والمدارس والكنائس والحمامات وغير ذلك ، والكلام على قلعتها العظيمة ، وما مدحت به
حلب نظما ونثرا ، وما كان فيها من الصناعات القديمة وما امتازت به من ذلك على
غيرها ، وبيان بعض عادات أهليها وأخلا قهم إلى غير ذلك من الفوائد والطرائف.
وحوت الأجزاء
الأربعة الباقية تراجم أعيانها من الأمراء والمحدّثين والفقهاء والأطباء والأدباء
والوجهاء وذوي المزايا من القرن الثاني للهجرة إلى سنة (١٣٤٥). وتخلل تلك التراجم
والتراجم التي ذكرت في الأجزاء السابقة ذكر ما فيها من الآثار القديمة من الجوامع
والمساجد والمدارس والخانقاهات والزوايا ، مع الكلام على حالتها التي كانت عليه
وبيان ما آلت إليه مع الإلمام بشروط واقفيها وحالة تلك الأوقاف. وتخلل ذلك ذكر دور
الكتب التي كانت فيها والموجودة الآن ، وذكر ما هو موجود من الآثار العلمية
لعلمائها في مكاتبها وفي غيرها من المكاتب الغربية والآستانة والديار المصرية ،
وذكر النهضة العلمية فيها في السنين الأخيرة.
ويمتاز الجزء
السابع باحتوائه على ذكر الأسر الشهيرة في هذه المدينة في هذا القرن والقرنين
اللذين قبله ، فقل أن يكون هنا عائلة ذات شهرة قديمة كانت أو حديثة إلا وقد ذكرنا
من اشتهر منها بعلم أو أدب أو وجاهة أو أثر علميّ أو خيري. وإذا كنا قد أهملنا
ترجمة ذي شهرة من أعيانها فذلك لأنا لم نجد له ترجمة نرجع إليها ولا آثارا
نستند إليها ، فنحن معذورون في ذلك.
ولا ريب أن
تاريخنا باشتماله على هذه الأبحاث أصبح معلمة واسعة جمعت فأوعت ، يجد فيه السياسي
بغيته ، والاجتماعي مقصده ، والعالم رغبته ، والأديب مطلبه ، والأثري مرامه وأربه.
وكان ابتداء
وضعي له سنة ١٣٢٣ واختتام تأليفه وطبعه في شهر ذي الحجة من هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥
، فتكون مدة بقائي في تأليف مبانيه ونظم عقوده اثنتين وعشرين سنة. ولا تسل عما
لاقيته في سبيل ذلك من المصاعب وما تكبدته من المشاق في البحث والتنقيب ، ولعمري
لا يعرف
الشوق إلا من يكابده
|
|
ولا الصبابة
إلا من يعانيها
|
غير أنه مما
أراح فؤادي وكان لي فيه بعض السلوان أنه ما كاد ينتشر الجزء الأول والثاني منه إلا
وأقبل عليه أبناء الشهباء وتلقوه بالقبول ، وطلب منه نسخ للبلاد السورية والأقطار
المصرية والمعاهد العلمية في الممالك الغربية والمقاطعات الهندية ، وقدره ذوو
العلم وأرباب الفضل ، وأثنت المجلات والصحف عليه في الشهباء وغيرها ، ولو أثبت هنا
تلك الكتابات لطال ذيل الكلام.
وقد اعتنيت في
تصحيحه مزيد الاعتناء بقدر الطاقة ، بحيث إن ما يوجد فيه من الخطأ يكاد لا يذكر ،
والغالب أنه مدرك عند من له شيء من الذوق ولديه قليل من الفهم. ولو رأى القارىء
الكتب المخطوطة التي نقلت عنها ورداءة خطها لعذرني كل المعذرة ، وتيقن أن ليس في
الإمكان أبدع مما كان.
وما كان بروزه
مكتسيا جمال الوضع متحليا بمحاسن الطبع إلا بتوفيق الكريم الوهّاب ذي الجود
والإفضال والإنعام والإحسان ، فله الحمد على جزيل آلائه والشكر على جلائل نعمائه.
هذا ولا ينبغي
أن تقف همة ذوي الهمم عند حد ما وضعناه ، فقد بينت في المقدمة وفي أثناء الكتاب أن
في الديار المصرية والغربية آثارا كثيرة تتعلق بتاريخ الشهباء ، وكذلك
يجد الباحث في غير المؤلفات الحلبية أمورا كثيرة ذات شأن وأخبارا جمة عن
هذه الديار ، فيجدر بالذين يأتون بعدنا أن يشدوا الرحال إلى الأماكن التي فيها
تواريخ بلدهم وآثار وطنهم ويسعوا في استخراج تلك الكنوز من دفائنها وينشروا ذلك ،
وكلما انتشر منها شيء يزدادون معرفة عن مدنية هذه المدينة العظيمة وما حولها قبل
الإسلام وبعده. وقد قلنا في المقدمة إنه كلما ازداد الإنسان معرفة بأحوال بلاده
وما كان لها من مجد باذخ وعز شامخ يدعوه ذلك إلى النهوض ويبعثه إلى استعادة تراث
آبائه ومفاخر أسلافه.
ومن أمانينا
وضع كتاب يذكر فيه أعمال الشهباء من البلاد والقرى وما هناك من الآثار القديمة
وبقاياها ، ويؤخذ ذلك بالمصور الشمسي ، مع الكلام على أحوالها الماضية والحاضرة.
وقد قلت في المقدمة إن هذا عمل عظيم لا يمكن للشخص الواحد أن يقوم به ، ويحتاج إلى
نفقات طائلة لا يقوم بها إلا الحكومة ، فعسى أن تنهض لتأليف لجنة لهذه الغاية
وترصد لها ما يلزم من النفقات ، فتكون بذلك قد أحسنت صنعا ، وبهذا تتم حلقات تاريخ
هذه الديار ، ويعلم ما فيها من قديم الآثار.
وليكون من تصح
عزيمته بعدنا للزيادة على ما دوناه أو التذييل عليه على بصيرة من أمره أحببت أن
أذكر هنا ما تصفحته من الكتب التاريخية والأدبية والمجاميع التي نقلت عنها ليتطلب
غيرها ويستحصل على سواها ، فعندئذ يرى ضالته وينال بغيته.
مآخذنا التاريخية
أ ـ [الكتب العربية المخطوطة] :
تاريخ ابن كثير
المسمى بالبداية والنهاية في (٩) مجلدات من الأول إلى الأخير.
من تاريخ
الإمام الذهبي (٥).
من مختصره لابن
الملا (٧).
من الوافي
بالوفيات للصفدي (٤).
العبر في أسماء
من غبر (١).
الإعلان
بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي (١).
جزء من ذيل
مرآة الزمان للقطب اليونيني (١).
من عيون
التواريخ لابن شاكر (٧).
طبقات الحنفية
للقرشي (١).
جزء في تراجم
الحنفية مقتضب من الضوء اللامع (١).
تراجم الحفاظ
لابن قدامة (١).
الدر المنضد في
تراجم رجال الإمام أحمد (١).
تاريخ ابن
خلكان (١).
تاريخ ابن إياس
المصري فيه زيادات عن النسخة المطبوعة في مصر (١).
طبقات الشافعية
للأسنوي (١).
الأنس الجليل
في تاريخ القدس والخليل (١).
الصبح المنبي
عن حيثية المتنبي (١).
بغية الوعاة
للجلال السيوطي (١).
__________________
عجائب المقدور
في تاريخ تيمور لابن عربشاه (١).
رحلة الشيخ
مصطفى اللطيفي (١).
المجموع
: (٤٧) مجلدا ، وهذه الكتب في مكتبة المدرسة الأحمدية بحلب.
تاريخ الحافظ
ابن عساكر (١٩) مجلدا.
الضوء اللامع
في أعيان القرن التاسع للحافظ السخاوي (٥).
الكواكب
السائرة للبدر الغزي (١).
ذيله المسمى
قطف السمر له (١).
وهؤلاء
في المكتبة الظاهرية بدمشق.
الدرر الكامنة
في أعيان المائة الثامنة ، كان عند الشيخ حمدي الحلبي قيّم الجامع الأموي بدمشق
أهداه أخيرا لمكتبة المجمع العلمي (١).
نفحة الريحانة
للعلامة المحبي الدمشقي (١).
تاريخ عبد الله
ميرو (١) وهذان عند الشيخ تاج الدين الحسيني بدمشق.
حلية البشر في
أعيان القرن الثالث عشر للشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي ، عند حفيده الشيخ بهجة
البيطار (٣).
روض البشر في
أعيان القرن الثالث عشر للشيخ جميل الشطي الدمشقي ، عند مؤلفه (١).
تعطير المشام
في تاريخ الشام للشيخ جمال القاسمي الدمشقي ، عند ولده بدمشق (١).
المورد الأنسي
في ترجمة الشيخ عبد الغني النابلسي للشيخ محمد كمال الدين الغزي ، عند رضا أفندي
النابلسي الدمشقي من أحفاد المترجم (١).
هذه
الكتب استنسخناها واستنسخ لنا ما فيها مما يتعلق بتاريخنا في رحلاتنا إلى دمشق
وآخرهن سنة ١٣٤٠.
المنهل الصافي
لابن تغري ويردي (٥).
كنوز الذهب في
تاريخ حلب لأبي ذر الحلبي بخط مؤلفه (٢).
رحلة القاضي
ابن آجا مع الأمير يشبك الدوادار (١).
هذه
الكتب أرسلها إلينا إعارة الوجيه المفضال أحمد تيمور باشا المصري.
مختصر تاريخ
حلب لعبد الله المراش الحلبي ، أرسله إلينا الموما إليه مأخوذا بالمصور الشمسي (١).
الإشارات في
معرفة الزيارات للهروي (١).
مختصر تاريخ
ابن خلكان لابن الأثير الحلبي (١). في المكتبة العثمانية بحلب.
در الحبب في
تاريخ حلب للرضيّ الحنبلي (١).
زبدة الحلب في
تاريخ حلب (١).
نبذة عن زبدة
الحلب في تاريخ حلب للكمال ابن العديم (١).
الدر المنتخب
المنسوب لابن الشحنة (١).
المختار من
الكواكب المضية (١).
الجزء الثالث
من الدر المنتخب لابن خطيب الناصرية (١).
رحلة الشيخ
مصطفى النسيمي الحلبي (١).
رسالة الهمة
القدسية للعطائي الصحّاف (١).
رسالة الشيخ
صالح المرتيني في حوادث إبراهيم باشا المصري (١).
الإنصاف
والتحري ودفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري (١).
منظومة الشيخ
أبي الوفا الرفاعي فيمن دفن في مقابر حلب من أعيانها (١).
دلالة الأثر
على طهارة الشعر للشيخ أحمد الملا الحلبي بخط مؤلفها (١).
هذه
الكتب عندي.
جزء من كتاب
السلوك في أخبار الملوك للمقريزي ، عند الخواجات بوخه بحلب (١).
الجزء الأول من
تاريخ ابن شداد المسمى بالأعلاق الخطيرة ، عند الشيخ ناجي الكردي خادم الجامع
الكبير بحلب (١).
الجزء الثاني
منه في المكتبة اليسوعية في بيروت (١).
روض المناظر
لابن الشحنة ، عند السيد حامد عجان الحديد الكتبي فيها زيادات عن النسخة المطبوعة (١).
__________________
النفائح
واللوائح لحسن أفندي الكواكبي ، عند السيد محمد الريحاوي حفيد الشيخ مصطفى
الريحاوي (١).
منهل الصفا في
ترجمة الشيخ أبي بكر ابن وفا للقاضي صلاح الدين الكوراني ، عند الشيخ مصطفى النحاس
(١).
مورد أهل الصفا
في مناقب الشيخ المذكور للشيخ يوسف الحسيني الحلبي ، عند محمود أفندي الوفائي (١).
أعذب المشارب
في السلوك والمناقب للشيخ أحمد الحمامي العلواني الحموي ثم الحلبي ، في المكتبة
المولوية وقد كان عندي منه نسخة (١).
نتيجة الحجا
والألغاز للشيخ قاسم البكرجي بخط تلميذه الشيخ محمد النهالي ، عند السيد أمين
الميسر (١).
كتب أوقاف حلب
في دائرة الأوقاف بحلب (٥).
تقرير طويل لوجيه
بك الجزار عن متصرفية دير الزور نشرنا منه في الجزء الثالث «ص ٣٥٧» (١).
ب ـ [المجاميع] :
مجموعة بخط بعض
بني الطرابلسي (١).
مجموعتان للشيخ
محمد أبي الوفا الرفاعي ، عند صادق أفندي الرفاعي حفيد أبي الوفا (٢).
مجموعة له أخرى
، عند إبراهيم أفندي المرعشي (١).
مجموعة الشيخ
محمد العرضي ، عند الشيخ يوسف الجمالي (١).
تراجم على نسق
الريحانة للشيخ محمد العرضي ، عند الشيخ يوسف المذكور وفي مكتبة الشيخ محمد سلطان (١).
مجموعة جميل
أفندي الجابري (١).
مجموعة الشيخ
عمر الطرابيشي ، عند ولده عبد القادر الطرابيشي القاطن في الباب (١).
مجموعة عند
بشير آغا كتخدا (١).
مجموعة عند
مصطفى أفندي اليكن (١).
مجموعة عند
الشيخ مواهب الحلوي (١).
مجموعة الشيخ
عبد الرحمن المشاطي إمام الشافعية في الجامع الأموي (١).
مجموعة للشيخ
بكري الكاتب ، عند بعض بني سلطان (١).
مجموعة عند
الشيخ عبد القادر الهلالي (١).
مجموعة الشيخ
فاتح الهبراوي ، عند أخيه الشيخ نبيه (١).
مجموعة المنشد
أحمد عقيل ، عند حفيده (١).
مجموعة عندي
منقولة عن تاريخ الشيخ عمر العرضي الحلبي (١).
مجموعة عند
الشيخ عبد القادر المغربي الطرابلسي نزيل دمشق (١).
مجموعة عند
الشيخ عبد الودود الكيالي (١).
مجموعة شيخنا
الشيخ عبد الله سلطان ، عند أخيه الشيخ محيي الدين (١).
مجموعة الشيخ
برهان الدين أفندي العيّاشي مفتي إدلب الآن (١).
مجموعة عند
الحاج أحمد القدسي (١).
مجموعة الشيخ
محمد المرتيني ، عند بعض أحفاده في إدلب (١).
مجموعة الشيخ
صالح سلطان ، عند بعض أحفاده (١).
ج ـ [الأثبات] :
ثبت الشيخ عبد
الرحمن الحنبلي المسمى «منار الإسعاد» ، عند الشيخ كامل الموقت (١).
ثبت الشيخ يوسف
الحسيني المسمى «كفاية الراوي والسامع» بخط مؤلفه ، عند الشيخ كامل أفندي الهبراوي
(١).
ثبت الشيخ
إسماعيل الجراحي العجلوني الدمشقي المسمى «عقد الجوهر الثمين في
أربعين حديثا من أحاديث سيد المرسلين» ، عند إبراهيم أفندي المرعشي فيه
إجازة لجده محمود أفندي (١).
ثبت الشيخ عبد
الكريم الشراباتي المسمى «إعانة الطالبين لعوالي المحدثين» ، عندي وفي المكتبة
الصديقية وغيرها (١).
د ـ [الدواوين المخطوطة] :
ديوان مصطفى
البابي ، عند السيد أسعد العينتابي (١).
ديوان الدواوين
للنابلسي ، عند السيد عزة عزيز آغا (١).
ديوان حسين
الجزري ، عندي (١).
قطعة من ديوان
القاضي صلاح الدين الكوراني ، عند بعض أحفاده (١).
قطعة من ديوان
الشيخ محمد الورّاق ، عندي (١).
ديوان الشيخ
حسين الوفائي ، في المكتبة المولوية (١).
ديوان الشيخ
صالح سلطان ، عند بعض أحفاده (١).
ه ـ [الفهارس المخطوطة] :
فهرست الشيخ
محمد الشنقيطي التي ذكر فيها نفائس المخطوطات التي في المكاتب الإسبانية ، عند
السيد حامد عجان الحديد الكتبي (١).
فهرست المكتبة الأحمدية
بحلب (١).
فهرست المكتبة
العثمانية بحلب (١).
فهرست مكتبة
محمود أفندي الجزار بحلب (١).
فهرست مكتبة
الحاج عبد القادر أفندي الجابري بحلب (١).
فهرست المكتبة
المولوية بحلب (١).
فهرست المكتبة
الحلوية بحلب (١).
فهرست المكتبة
البخشية في التكية الإخلاصية بحلب (١).
فهرست المكتبة
النورية في حماة (١).
المجموع
(١٦٥) مخطوطا.
و ـ [الكتب العربية المطبوعة] :
تاريخ الإمام
الطبري (٩) مجلدات.
الكامل لابن
الأثير (٦).
مروج الذهب
المسعودي (١).
أبو الفدا (٢).
الروضتين في
أخبار الدولتين (١).
القرماني (١).
ابن خلدون (٧).
ابن إياس
المصري (٤).
يتيمة الدهر
للثعالبي (٤).
خلاصة الأثر
للمحبي (٤).
سلك الدرر
للمرادي (٤).
وقائع السلطان
سليم (١).
معجم الأدباء
لياقوت (٥).
معجم البلدان
له (٨).
منجم العمران
ذيل المعجم (١).
الجبرتي (٤).
وفيات الأعيان
لابن خلكان (٣).
فوات الوفيات
لابن شاكر (٢).
الإصابة في
أسماء الصحابة (٨).
تحف الأنباء
لبيشوف (١).
الفتوحات
الإسلامية للدحلاني (٢).
النوادر
اليوسفية لابن شداد الحلبي (١).
صبح الأعشى
للقلقشندي (١٤).
روض المناظر
لابن الشحنة (١).
__________________
الدر المنتخب
المنسوب لابن الشحنة (١).
تاريخ سورية
لجرجي يني (١).
النخبة
الأزهرية (١).
الثمار الشهية (١).
طبقات الشافعية
للإمام السبكي (٦).
تجارب الأمم
لابن مسكويه (٣).
الطالع السعيد (١).
منتخبات من
تاريخ ابن العديم مع ترجمته بالإفرنسية (١).
مختصر الدول
لأبي الفرج الملطي (١).
تاريخ مكة
للقطبي (١).
تاريخ مكة
للدحلاني (١).
خطط مصر لعلي
باشا مبارك (٥).
خطط مصر
للمقريزي (٤).
تتمة المختصر
لابن الوردي (٢).
رحلة ابن جبير (١).
رحلة ابن بطوطة
(١).
الصلصلة في
الزلزلة للسيوطي (١).
النقود
الإسلامية للمقريزي (١).
تاريخ إبراهيم
باشا لمكاريوس (١).
آداب اللغة
العربية لجرجي زيدان (٤).
مشاهير الشرق
له (٢).
تاريخ الصحافة
لدي طرّازي (١).
الكامل للمبرد (١).
العقد الفريد (٣).
بغية الوعاة
للسيوطي (١).
أخبار العلماء
للقفطي (١).
طبقات الأطباء
لابن أبي أصيبعة (٢).
سراج الملوك
للطرطوشي (١).
الأغاني (٧).
فتوح البلدان
للبلاذري (١).
الملل
للشهرستاني (١).
خاص الخاص
للثعالبي (١).
المحاسن
والأضداد للجاحظ (١).
جريدة الفرات
الرسمية (١٥) من سنة ١٢٨٤ إلى سنة ١٣٣٣.
الأنس الجليل
في تاريخ القدس (١).
سلافة العصر
لابن معصوم (١).
اكتفاء القنوع
لفانديك (١).
رحلة الألوسي (١).
كشف الظنون عن
أسماء الكتب والفنون (٢).
ريحانة الألبا
للخفاجي (١).
طبقات الحنفية
لللكنوي الهندي (١).
تاريخ الخلفاء
للسيوطي (١).
ثمرات الأوراق
لابن حجة الحموي (١).
ذكرى أبي
العلاء لطه حسين المصري (١).
الشقايق
النعمانية (١).
العقد المنظوم في
أخبار علماء الروم (١).
عين الأدب
والسياسة (١).
تاريخ حماة
للشيخ أحمد الصابوني (١).
الآداب
السلطانية للماوردي (١).
نكت الهميان
للصلاح الصفدي (١).
وفاء الوفا
تاريخ المدينة المنورة للسمهودي (٢).
كنز العلوم
واللغة لفريد وجدي (١).
حل العقال لعبد
الله الحجازي الحلبي (١).
بديعية الشيخ
قاسم البكرجي (١).
تنوير الأبصار
في طبقات الرفاعية الأخيار للشيخ محمد أبي الهدى الصيادي (١).
قلادة الجواهر
له أيضا (١).
كتاب الأوحد له
أيضا (١).
بهجة الحضرتين
له أيضا (١).
ترجمة كلستان
سعدي (١).
تاريخ ابن أنجب
البغدادي (١).
عيون المرقصات
لنور الدين بن الوزير أبي عمران الأندلسي (١).
شرح لامية
العجم لابن أيبك الصفدي (٢).
الصبح المنبي
عن حيثية المتنبي للشيخ يوسف البديعي (١).
خزانة الأدب
لابن حجة الحموي (١).
أدباء القرن
التاسع عشر للأديب قسطاكي بك الحمصي (١).
لطائف السمر
للأديب ميخائيل الصقّال الحلبي (١).
تبصرة الإخوان
في بيان أضرار الدخان (١).
عقود الجواهر
الحسان في بيان حرمة الدخان (١) كلاهما للشيخ محمد المسوتي الطرابيشي.
الرسائل
الفاتحية للشيخ فاتح الهبراوي (١).
سكردان السلطان
لابن حجلة المغربي (١).
كتاب الكنايات
للجرجاني (١).
ثبت العلامة
ابن عابدين (١).
شرح ديوان
المتنبي للعكبري (٢).
خطب ابن نباتة
الحلبي (١).
حل العقال
للشيخ عبد الله الحجازي الحلبي (١).
ز ـ [المجلات] :
مجلة المقتبس
الدمشقية جلد (٦).
مجلة المشرق
البيروتية (١٠).
مجلة الشعلة
الحلبية (٢).
مجلة المجمع
العلمي العربي (٦).
مقالة العلامة
أحمد تيمور باشا في نوادر المخطوطات منشورة في مجلة الهلال (١).
السنة الأولى
من مجلة الزهراء المصرية (١).
ح ـ [الدواوين المطبوعة] :
ديوان البحتري (١).
ديوان ابن
الوردي (١).
ديوان ابن
مطروح (١).
ديوان مصطفى
البابي الحلبي المطبوع (١).
ديوان أبي فراس
الحمداني (١).
لزوم مالا يلزم
(١).
سقط الزند
كلاهما لأبي العلاء المعري (١).
مختارات محمود
باشا البارودي (٤).
المجموعة
النبهانية في المدائح المحمدية للشيخ يوسف النبهاني (٤).
ديوان الحقائق
للشيخ عبد الغني النابلسي (١).
ديوان الشيخ
أمين الجندي (١).
حدائق الرند في
ترجمة ترجيع بند لشيخنا الشيخ بشير الغزّي (١).
ط ـ [الفهارس المطبوعة] :
فهارس مكاتب
الآستانة في المكتبة الظاهرية بدمشق (٤٠).
فهرست المكتبة
السلطانية بمصر (١٠).
فهرست المكتبة
الظاهرية بدمشق (١).
فهرست المكتبة
الخالدية بالقدس (١).
فهرست المكتبة
اليسوعية في بيروت (١).
ي ـ [التواريخ التركية المطبوعة] :
تاريخ مصطفى
نعيما (٦).
تاريخ جودت
باشا (١٢).
قاموس الأعلام
لشمس الدين سامي (٦).
تاريخ راشد
وذيله (٦).
تصاوير رجال
لأحمد رفيق (١).
سالنامة ولاية
حلب (١).
ك ـ [الكتب الإفرنسية والإنكليزية والألمانية] :
مفكرات
شوفادييه الإفرنسي (١).
التاريخ
الطبيعي لحلب للطبيب روسسل الإنكليزي (٢).
الجزء الثاني
من آداب اللغة العربية لبروكلمن الألماني (١).
المجموع (٥١٠)
ما بين كتاب ومجموع وغير ذلك ، وهذا ما عدا الأوراق المبعثرة في الخزائن ، وغير ما
نقلناه من ظهور الكتب ، وما وصل إلينا بالمكاتبات ، وما التقطناه من الأفواه ، وما
دوناه بقلمنا مما علمناه وشاهدناه ، وذلك شيء كثير ، والحمد لله في المبدأ
والختام.
عدد
تراجم هذا الجزء : ٢٥١ ترجمة.
مجموع
التراجم في الأجزاء الأربعة الأخيرة : ١٣٩٨ ترجمة.
انتهى بعون الله الجزء السابع
ويليه الجزء الثامن المتضمن الفهارس العامة
الفهرس
تتمة أعيان القرن الثاني عاشر
الصفحة
|
الوفاة
|
الصفحة
|
الوفاة
|
٧
|
تنويه وشكر
|
|
٢٧
|
أبو بكر
الوزير والي حلب
|
١١٧٦
|
٩
|
محمد بن علي
الجمالي
|
١١٧٣
|
٢٨
|
عمر العزازي
الأدلبي الشاعر
|
١١٧٦
|
١٢
|
حسين بن
مصطفى الزيباري
|
١١٧٣
|
٢٨
|
الحاج موسى
آغا بن حسن الأمير صاحب الوقف المشهور
|
١١٧٧
|
١٣
|
عبد المعطي
بن معتوق
|
١١٧٤
|
٣٣
|
جامع الحاج
موسى الأميري (جامع الخير)
|
|
١٤
|
علي بن مصطفى
الميقاتي
|
١١٧٤
|
٣٥
|
أبو بكر بن
منصور بن فنصه
|
١١٧٧
|
١٩
|
الشيخ سعد بن
سعيد اليماني
|
١١٧٤
|
٣٥
|
حسين الدر
كزنلى
|
١١٧٧
|
١٩
|
جامع
المشاطية
|
|
٣٦
|
طه بن مهنا
|
١١٧٨
|
٢٠
|
حسين بن محمد
الديري
|
١١٧٤
|
٣٨
|
عبد الكريم
بن أحمد الشراباتي
|
١١٧٨
|
٢٠
|
عبد الوهاب
آغا بن محمد شريف
|
١١٧٥
|
٤١
|
محمد بن
مصطفى بن حجيج المعروف بالبصيري
|
١١٨٠
|
٢١
|
ناصر آغا بن
عبد القادر باقي زاده
|
١١٧٥
|
٤٢
|
نعمة بن عمر
اللبقي
|
١١٨٠
|
٢٣
|
غياث الدين
بن جمال الدين البلخي
|
١١٧٥
|
٤٣
|
أحمد بن محمد
الحافظ
|
١١٨٠
|
٢٣
|
حسين بن أحمد
الداديخي
|
١١٧٥
|
٤٣
|
يوسف بن أحمد
الجابري
|
١١٨٠
|
٢٦
|
محمد بن عبد
القادر شيخه صغيره
|
١١٧٥
|
٤٤
|
أبو بكر بن
أحمد الهلالي
|
١١٨٣
|
٢٦
|
محمد بن علي
المشهور بحاجي أفندي الكلزي
|
١١٧٦
|
٤٧
|
عمر بن شاهين
الرفاعي
|
١١٨٣
|
الصفحة
|
الوفاة
|
الصفحة
|
الوفاة
|
٥٣
|
السيد أحمد
بن عبد الرحمن العصائبي
|
١١٨٣
|
|
الكيالي
|
١١٩٢
|
٥٥
|
عبد الله آغا
بن حسن ميرو
|
١١٨٤
|
٩٦
|
الشيخ عبد
الرحمن بن عبد الله البعلي
|
١١٩٢
|
٥٨
|
عمر بن ياسين
الكيلاني
|
١١٨٥
|
٩٩
|
محمد بن كوجك
علي
|
١١٩٢
|
٥٩
|
محمد بن يوسف
النهالي
|
١١٨٥
|
١٠٠
|
الشيخ عثمان
بن عبد الرحمن العقيلي
|
١١٩٣
|
٦١
|
عبد الكافي
بن حسين
|
١١٨٦
|
١٠١
|
محمد بن يوسف
الأسبيري
|
١١٩٤
|
٦٢
|
مصطفى بن عمر
بن طه زاده
|
١١٨٦
|
١٠٣
|
عبد الله بن
يوسف اليوسفي الشاعر
|
١١٩٤
|
٦٢
|
عبد الله بن
محمد بن شهاب
|
١١٨٦
|
١٠٥
|
أحمد بن محمد
الحلوي
|
١١٩٥
|
٦٦
|
عبد القادر
بن أمير
|
١١٨٧
|
١٠٧
|
أحمد بن أبي
السعود الكواكبي
|
١١٩٧
|
٦٧
|
محمد بن صالح
المواهبي
|
١١٨٧
|
١١١
|
مصطفى بن أبي
بكر الكوراني
|
١١٩٨
|
٦٩
|
أحمد بن طه
زاده واقف الأحمدية
|
١١٨٧
|
١١٣
|
عبد القادر
بن محمد الديري
|
١١٩٨
|
٧٠
|
المدرسة
الأحمدية
|
|
١١٣
|
عبد القادر
بن صالح البانقوسي
|
١١٩٩
|
٧٨
|
عمر بن حسين
اللبقي
|
١١٨٩
|
١١٥
|
أحمد بن
إلياس الكردي
|
١١٩٩
|
٨٣
|
أحمد بن صالح
الوراق
|
١١٨٩
|
١١٧
|
عبد الله بن
محمود الأنطاكي المتوفى أواخر هذا القرن
|
|
٨٥
|
الشيخ حسن بن
عبد الله البخشي
|
١١٩٠
|
١١٧
|
مصطفى بن
إسماعيل الشهير بروحي الكلزي المتوفى حول سنة ١٢٠٠
|
|
٩١
|
عطاء الله بن
عبد الله الصحاف
|
١١٩٠
|
|
|
|
٩٢
|
إبراهيم بن
مصطفى المداري
|
١١٩٠
|
|
|
|
٩٤
|
محمد أبو
الصفا بن مصطفى الخوجكي
|
١١٩٢
|
|
|
|
٩٤
|
الشيخ عبد
الجواد بن أحمد
|
|
|
|
|
الصفحة
|
الوفاة
|
الصفحة
|
الوفاة
|
أعيان القرن الثالث عشر
١١٩
|
الشيخ محمد
بن عبد الله الميقاتي
|
١٢٠١
|
١٣٥
|
عبد الصمد بن
محمد الأرمنازي
|
١٢٠٥
|
١٢٠
|
الشيخ محمد
بن عبد الكريم الشراباتي
|
١٢٠٣
|
١٣٦
|
الشيخ عبد
الغني بن علي بن صلاح
|
١٢٠٥
|
١٢١
|
جامع عبيس
|
|
١٣٦
|
الشيخ عبد
الكريم بن محمد ابن عبد الجبار
|
١٢٠٥
|
١٢٢
|
الشيخ صادق
بن صالح البانقوسي
|
١٢٠٣
|
١٣٨
|
الشيخ عبد
اللطيف بن عبد السلام
|
١٢٠٥
|
١٢٥
|
الشيخ محمد بن
عثمان الشماع
|
١٢٠٤
|
١٣٨
|
الشيخ منصور
بن مصطفى السرميني
|
١٢٠٧
|
١٢٥
|
الشيخ محمد
بن محمد الريحاوي
|
١٢٠٤
|
١٤٢
|
الشيخ علي بن
عبد الجواد الكيالي
|
١٢٠٧
|
١٢٦
|
الشيخ محمد
هلال بن أبي بكر الهلالي
|
١٢٠٤
|
١٤٣
|
الشيخ محمد
بن فتيان
|
١٢١٠
|
١٢٦
|
الزاوية
الهلالية
|
|
١٤٤
|
الشيخ صالح
بن حسين الداديخي في حدود
|
١٢١٠
|
١٢٧
|
الشيخ محمد
بن إبراهيم العاري المتوفى بعد سنة
|
١٢٠٠
|
١٤٥
|
الشيخ عبد
الوهاب بن أحمد السعدي
|
١٢١٠
|
١٢٨
|
الشيخ عبد
الوهاب بن محمد الأزهري المتوفى بعد سنة
|
١٢٠٠
|
١٤٥
|
الشيخ علي بن
محمد الديركوشي
|
١٢١٠
|
١٢٩
|
محمد بن
حجازي المتوفى بعد سنة
|
١٢٠٥
|
١٤٦
|
الشيخ عبد
اللطيف بن مصطفى الحجازي
|
١٢١٠
|
١٣٠
|
الشيخ محمد
مكي بن موسى
|
١٢٠٥
|
١٤٧
|
الشيخ محمود
بن علي فنصه
|
١٢١٠
|
١٣١
|
الشيخ حسين
بن أبي بكر السعدي
|
١٢٠٥
|
١٤٧
|
الشيخ خليل
بن عبد الكريم ابن خلاص
|
١٢١٢
|
١٣٢
|
الشيخ داود
بن أحمد المعري
|
١٢٠٥
|
١٤٨
|
الشيخ مصطفى
بن حسين الوفائي
|
١٢١٣
|
١٣٤
|
الشيخ صادق
بن عبد الرحمن البخشي
|
١٢٠٥
|
١٥٠
|
الشيخ عمر
داده بن بيرام
|
١٢١٥
|
الصفحة
|
الوفاة
|
الصفحة
|
الوفاة
|
١٥٠
|
الشيخ ناصر
بن عيسى الادلبي المتوفى في حدود سنة
|
١٢١٥
|
|
القادر
|
١٢٢٨
|
١٥١
|
عبد الله بن
مصطفى الجابري المتوفى بعد سنة
|
١٢١٦
|
١٨١
|
حسن أفندي بن
أحمد الكواكبي
|
١٢٢٩
|
١٥٧
|
الشيخ
إسماعيل بن محمد المواهبي
|
١٢١٨
|
١٨٤
|
الشيخ عبد
الله بن محمد العقاد
|
١٢٢٩
|
١٥٨
|
الشيخ أحمد
بن عبد الله البابلي
|
١٢١٨
|
١٨٥
|
الشيخ طه بن
محمد العقاد
|
١٢٢٩
|
١٥٩
|
محمد بن عمر
بن شاهين الرفاعي
|
١٢١٩
|
١٨٦
|
أحمد بن طه
الأشرفي
|
١٢٢٩
|
١٦١
|
الشيخ عمر بن
عبد الله الخفاف المتوفى في حدود سنة
|
١٢٢٠
|
١٨٦
|
الشيخ هاشم
الكلاسي
|
١٢٢٩
|
١٦٤
|
الشيخ مصطفى
بن محمد الطرابلسي
|
١٢٢٠
|
١٨٧
|
الشيخ محمد
الصوراني
|
١٢٣١
|
١٦٦
|
الشيخ مريم
بنت الشيخ محمد العقاد المتوفاة في حدود
|
١٢٢٠
|
١٨٧
|
محمد أفندي
بن حسن العياشي الإدلبي
|
١٢٣٢
|
١٦٧
|
الشيخ محمد
بن حسن قدسي أفندي
|
١٢٢٢
|
١٨٩
|
الشيخ
إسماعيل بن الشيخ عبد الجواد الكيالي
|
١٢٣٢
|
١٦٩
|
الشيخ صالح
بن سلطان
|
١٢٢٢
|
١٩٣
|
الشيخ محمد
بن إسماعيل الكيالي
|
١٢٥٥
|
١٧٣
|
الشيخ أحمد
بن محمد المواهبي
|
١٢٢٢
|
١٩٣
|
الشيخ عبد
الله بن عطاء الله العطائي الصحاف
|
١٢٣٣
|
١٧٣
|
الشيخ عبد
الله بن عبد الرحمن الميقاتي
|
١٢٢٣
|
٢٠٢
|
الرسالة
الموسومة بالهمة القدسية ومن فيها من أدباء هذا العصر للعطائي المذكور
|
|
١٧٦
|
الشيخ أحمد
بن محمد الهبراوي
|
١٢٢٤
|
٢٢١
|
الشيخ
إبراهيم بن محمد الهلالي
|
١٢٣٨
|
١٧٨
|
الشيخ يحيى
بن محمد المسالخي
|
١٢٢٥
|
٢٢٦
|
أحمد بن محمد
الرفاعي
|
١٢٣٨
|
١٧٩
|
الشيخ حسن بن
أحمد المقري المتوفى في حدود سنة
|
١٢٢٥
|
٢٢٧
|
الشيخ مصطفى
الزويتيني
|
١٢٣٨
|
١٨٠
|
الشيخ عبد
القادر بن إسكندر
|
١٢٢٥
|
٢٢٧
|
الشيخ أبو
بكر بن مصطفى الكوراني
|
١٢٤١
|
١٨٠
|
الحاج
إبراهيم آغا أمير بن عبد
|
|
٢٢٨
|
الشيخ علي بن
جانم الإدلبي الشاعر
|
١٢٤٢
|
|
|
|
٢٣٠
|
إسماعيل بن
عبد الرحمن
|
|
الصفحة
|
الوفاة
|
الصفحة
|
الوفاة
|
|
شريّف
|
١٢٤٢
|
|
البادنجكي
|
١٢٦٠
|
٢٣١
|
أحمد بن
إبراهيم الخلاصي
|
١٢٤٤
|
٢٦٢
|
الشيخ عبد
الرحمن بن عبد الله الموقت
|
١٢٦٢
|
٢٣١
|
أحمد بن عبد
الله الجابري
|
١٢٤٤
|
٢٦٣
|
الشيخ محمد
الجندي المعري
|
١٢٦٤
|
٢٣٣
|
الشيخ محمد
بن عثمان العقيلي
|
١٢٤٥
|
٢٦٤
|
الشيخ محمد
أبو الوفا الرفاعي بن محمد
|
١٢٦٤
|
٢٣٤
|
الشيخ محمد
بن عبد الكريم الترمانيني
|
١٢٥٠
|
٢٦٥
|
الشيخ محمد
المعروف بالشيخ تراب
|
١٢٠٦
|
٢٤٢
|
الشيخ حسن بن
عبد الرحمن المدرس جد بني المدرس
|
١٢٥٠
|
٢٧٧
|
الشيخ محمد
بن أبي بكر المشاطي
|
١٢٦٥
|
٢٤٣
|
الشيخ سعيد
بن عبد الواحد البادنجكي
|
١٢٥٠
|
٢٧٧
|
الشيخ مصطفى
بن أبي بكر الكوراني
|
١٢٦٥
|
٢٤٤
|
الشيخ عبد
الله بن محمد الغرابيلي المتوفى حول سنة
|
١٢٥٠
|
٢٧٩
|
الشيخ محمد
بن أحمد الهبراوي
|
١٢٦٧
|
٢٤٧
|
الشيخ عبد
القادر أفندي الحسبي
|
١٢٥١
|
٢٨١
|
الشيخ حسين
بن محمد الغزي
|
١٢٧١
|
٢٥١
|
الشيخ محمود
بن أحمد أفندي المرعشي
|
١٢٥١
|
٢٨٥
|
الشيخ محمد
بن صالح الشهير بالجذبة
|
١٢٧٣
|
٢٥٤
|
الشيخ يوسف
بن خليل القارقلي
|
١٢٥١
|
٢٨٦
|
عبد الحميد
أفندي ابن عبد القادر أفندي الجابري
|
١٢٧٣
|
٢٥٥
|
الشيخ محمد
هلال بن أحمد السرميني
|
١٢٥٥
|
٢٨٧
|
الأديب عبد
الكريم البله المتوفى أواخر هذا القرن
|
|
٢٥٦
|
الشيخ محمد
الكيالي الإدلبي
|
١٢٥٥
|
٢٨٨
|
الشيخ عمر بن
أحمد المرتيني الإدلبي
|
١٢٧٥
|
٢٥٦
|
الشيخ عبد
الرحمن بن حسن المدرس
|
١٢٥٦
|
٢٨٩
|
أحمد آغا
الجزار
|
١٢٧٦
|
٢٥٧
|
الأديب نصر
الله بن فتح الله الطرابلسي المتوفى حول سنة
|
١٢٥٦
|
٢٩١
|
محمد أسعد
أفندي بن عبد القادر الجابري
|
١٢٧٧
|
٢٦١
|
الشيخ سعيد
بن حسن الحلبي
|
١٢٥٩
|
٢٩٣
|
يوسف باشا بن
نعمان شريّف سنة
|
١٢٧٨
|
٢٦٢
|
الشيخ محمد
بن سعيد
|
|
|
|
|
الصفحة
|
الوفاة
|
الصفحة
|
الوفاة
|
٢٩٥
|
العلامة
الشيخ أحمد بن قاسم شنون الحجار
|
١٢٧٨
|
٣٢٣
|
أحمد أفندي
بن عبد القادر باقي زاده
|
١٢٨٨
|
٢٩٩
|
الشيخ جوهر
الحافظ
|
١٢٧٨
|
٣٢٥
|
الحاج صالح
آغا بن قاسم الملاح
|
١٢٨٨
|
٢٩٩
|
الطبيب الشيخ
محمد الطيار الكيالي بن عبد الرؤوف
|
١٢٧٨
|
٣٢٧
|
الشيخ علي بن
خير الله الرفاعي
|
١٢٨٩
|
٣٠٥
|
الحاج أحمد
بن عبد الله الصابوني
|
١٢٧٩
|
٣٢٨
|
حسن وادي
الصيادي
|
١٣١١
|
٣٠٥
|
الشيخ مصطفى
بن هاشم الأصيل
|
١٢٧٩
|
٣٣١
|
الشيخ محمد
بهاء الدين بن محمد الرفاعي
|
١٢٩٠
|
٣٠٨
|
الشيخ عبد
القادر بن إسماعيل الكيال
|
١٢٨١
|
٣٣٥
|
الشيخ
إسماعيل بن صالح اللبابيدي
|
١٢٩٠
|
٣٠٩
|
الشيخ عبد
القادر بن محمد سلطان
|
١٢٨١
|
٣٣٨
|
الشيخ علي بن
أحمد اليشرطي
|
١٣١٦
|
٣١٠
|
الشيخ مصطفى
الريحاوي
|
١٢٨١
|
٣٤٠
|
الأديب
فرنسيس بن فتح الله مراش
|
١٢٩٠
|
٣١١
|
الشيخ محمد
الخياط الفرضي
|
١٢٨٢
|
٢٤٥
|
محمد خير بن
محفوظ الريحاوي
|
١٢٩٠
|
٣١٢
|
الشيخ صالح
بن أحمد المرتيني
|
١٢٨٢
|
٣٤٥
|
محمد أفندي
بن ياسين الكوراني
|
١٢٩١
|
٣١٦
|
سيدي الجد
الشيخ هاشم بن أحمد الطباخ
|
١٢٨٢
|
٣٤٦
|
الشيخ هاشم
بن حسين عيسى
|
١٢٩٢
|
٣١٨
|
تحقيق في نسب
عائلتنا
|
|
٣٤٧
|
الشيخ محمد
بن محمد اليماني دفين الجسر
|
١٢٩٣
|
٣١٩
|
حسن أفندي بن
محمد العياشي
|
١٢٨٤
|
٣٤٩
|
الأستاذ
الكبير الشيخ أحمد ابن عبد الكريم الترمانيني
|
١٢٩٣
|
٣٢٠
|
مؤيد بك بن
أحمد إبراهيم باشا زاده
|
١٢٨٤
|
٣٦١
|
علي أفندي بن
سعيد الجابري
|
١٢٩٤
|
٣٢٠
|
الشيخ عمر بن
محمد الطرابيشي
|
١٢٨٥
|
٣٦٢
|
الشيخ علي
القلعجي
|
١٢٩٥
|
٣٢٢
|
الشيخ عقيل
بن مصطفى الزويتيتي
|
١٢٨٧
|
٣٦٣
|
الشيخ عبد
المعطي بن عبد
|
|
الصفحة
|
الوفاة
|
الصفحة
|
الوفاة
|
|
القادر
النحيف
|
١٢٩٥
|
|
١٨٨٠ م
|
|
٣٦٤
|
الشيخ شهيد
الدارعزاني
|
١٢٩٨
|
٣٧٢
|
الشيخ عبد
القادر بن عمر الحبال
|
١٣٠٠
|
٣٦٥
|
الشيخ شريف
بن إبراهيم المحبّك المقري
|
١٢٩٨
|
٣٧٣
|
علي باشا ابن
سعيد شريّف
|
١٣٠٠
|
٣٦٦
|
الأديب رزق
الله بن نعمة الله حسون
|
١٢٩٨
|
٣٧٥
|
الشيخ أحمد
بن محمد الكواكبي
|
١٣٠٠
|
أعيان القرن الرابع عشر
٣٧٨
|
الشيخ مصطفى
بن محمد الشربجي
|
١٣٠١
|
|
عبد الكريم
الترمانيني
|
١٣٠٥
|
٣٧٩
|
الشيخ محمد
شهيد بن عبد العزيز الترمانيني
|
١٣٠٢
|
٣٩٤
|
المدرسة
الرحيمية
|
|
٣٨٠
|
محمد سعد
الدين بن سعيد الجابري
|
١٣٠٢
|
٣٩٥
|
أخي الشيخ
محمد بن محمود الطباخ
|
١٣٠٧
|
٣٨٠
|
الشيخ محمد
راغب الطرابيشي سنة
|
١٣٠٢
|
٣٩٧
|
القاضي أمين
أفندي ابن محمد المقيد
|
١٣٠٨
|
٣٨٢
|
الشيخ محمد
ابن الشيخ شريف الرزاز سنة
|
١٣٠٣
|
٣٩٨
|
عمي الشيخ
عبد السلام بن هاشم الطباخ
|
١٣٠٨
|
٣٨٣
|
الأديب
أنطوان بن ميخائيل الصقال
|
١٣٠٣
|
٤٠١
|
محمد آغا ابن
أحمد المكانسي
|
١٣٠٨
|
٣٨٦
|
الشيخ محمد
علي بن حسين الكحيل
|
١٣٠٤
|
٤٠٥
|
سيدي الوالد
الحاج محمود ابن هاشم الطباخ
|
١٣٠٩
|
٣٨٧
|
الشيخ عبد
الحميد ابن الشيخ حسن دده سنة
|
١٣٠٤
|
٤٠٨
|
حسام الدين
أفندي ابن تقي الدين القدسي
|
١٣٠٩
|
٣٨٨
|
تكية بابا
بيرم
|
|
٤٠٩
|
عبد القادر
أفندي ابن تقي الدين القدسي
|
١٣٠٩
|
٣٨٨
|
الشيخ عبد
السلام ابن الشيخ
|
|
٤١٢
|
بهاء الدين
أفندي ابن تقي الدين القدسي
|
١٣٠٩
|
|
|
|
٤١٣
|
تقي الدين
أفندي ابن عبد
|
|
الصفحة
|
الوفاة
|
الصفحة
|
الوفاة
|
|
الرحمن
المدرس
|
١٣١٠
|
|
الأدلبي
|
١٣١٨
|
٤١٤
|
الأديب
جبرائيل بن عبد الله الدلّال
|
١٣١٠
|
٤٦٧
|
الشاعر
الأديب عبد الله بن فتح الله المراش
|
١٣١٨
|
٤٢٢
|
الشاعر الحاج
مصطفى بن عبد الوهاب الأنطاكي المتوفى حول سنة
|
١٣١٠
|
٤٧٠
|
الشيخ مصطفى
بن محمد ياسين الحريري
|
١٣١٩
|
٤٢٦
|
الشيخ بكري
بن أحمد الزبري
|
١٣١٢
|
٤٧٢
|
صديق أفندي
بن عبد الحميد الجابري
|
١٣٢٠
|
٤٢٨
|
الشيخ سعيد
بن عمر السنكري
|
١٣١٢
|
٤٧٣
|
السيد عبد
الرحمن بن أحمد الكواكبي
|
١٣٢٠
|
٤٢٨
|
محمود أفندي
ابن أحمد الجزار
|
١٣١٤
|
٤٨٧
|
الشاعر
الأديب الشيخ محمد ابن عبد المجيد حميده
|
١٣٢١
|
٤٣١
|
الشيخ إبراهيم
بن محمد اللبابيدي
|
١٣١٤
|
٤٩٠
|
الشيخ محمد
بن علي العالم
|
١٣٢٢
|
٤٣٣
|
يحيى أفندي
مفتي أنطاكية
|
١٣١٤
|
٤٩٥
|
الحاج عبد
القادر بن عمر الميسر التاجر
|
١٣٢٣
|
٤٣٤
|
عمي الشيخ
علي بن هاشم الطباخ
|
١٣١٦
|
٤٩٦
|
محمد نصوحي
أفندي بن صدّيق الجابري
|
١٣٢٤
|
٤٣٤
|
الشيخ أحمد
بن عمر البابي الحلبي
|
١٣١٦
|
٤٩٩
|
محمد طاهر
أفندي بن حسن العياشي
|
١٣٢٤
|
٤٣٦
|
الشيخ أحمد
بن عقيل الزويتيني
|
١٣١٦
|
٥٠١
|
الشيخ عبد
الله بن عبد القادر سلطان
|
١٣٢٤
|
٤٣٨
|
الكلام على
المدرسة الشعبانية
|
|
٥٠٧
|
الحاج عبد
القادر بن مراد الجابري
|
١٣٢٥
|
٤٤١
|
الشيخ يوسف
بن حسن الداده الشاعر
|
١٣١٦
|
٥٠٩
|
حسني بك بن
أحمد باقي زاده
|
١٣٢٥
|
٤٤٧
|
الشيخ فاتح
بن خير الدين الهبراوي
|
١٣١٦
|
٥١٣
|
الشيخ محمد
بن عبد الله الجزماتي
|
١٣٢٦
|
٤٤٨
|
الشيخ محمد
بن أحمد الوراق الشاعر الموسيقي
|
١٣١٧
|
٥١٥
|
الشيخ محيي
الدين بن سعيد البادنجكي
|
١٣٢٧
|
٤٦٤
|
الشيخ أحمد
بن طه الحكيم
|
|
٥١٦
|
عبد الرحمن زكي
بك ابن
|
|
الصفحة
|
الوفاة
|
الصفحة
|
الوفاة
|
|
حسين المدرس
|
١٣٢٧
|
٥٦٧
|
الأديبة
مريانا بنت فتح الله مراش
|
١٣٣٨
|
٥١٧
|
جامع زكي
باشا
|
|
٥٧٢
|
الشيخ كامل
بن أحمد الموقت الفلكي
|
١٣٣٨
|
٥٢٠
|
الشيخ حسن بن
طه الكيال
|
١٣٢٩
|
٥٧٤
|
الشيخ بشير
بن محمد هلال الغزي
|
١٣٣٩
|
٥٢٣
|
عبد الفتاح
بن محمد أمين الطرابيشي
|
١٣٣٠
|
٥٨٤
|
الشيخ محمد
بن محمود بركات
|
١٣٤١
|
٥٣٠
|
الشيخ محمد
بن أحمد البدوي
|
١٣٣١
|
٥٨٦
|
الشيخ محمد
بن مصطفى العبيسي
|
١٣٤١
|
٥٣٢
|
الشيخ محمد
بن طالب الكلاوي
|
١٣٣٤
|
٥٨٩
|
محمود كامل
باشا ابن محمد ناجي بطل أشقودرة
|
١٣٤١
|
٥٣٥
|
الشيخ محمد
رضا بن محمد الزعيم الدمشقي مفي الألاي
|
١٣٣٤
|
٥٩٠
|
صفحة من
حوادث الحروب اليمانية والبلقانية والحرب العالمية الكبرى
|
|
٥٣٩
|
محمد أسعد
باشا ابن علي غالب الجابري
|
١٣٣٤
|
٦١٧
|
الشيخ أحمد
بن مصطفى المكتبي
|
١٣٤٢
|
٥٤٢
|
محمد صالح
آغا بن مصطفى كتخدا
|
١٣٣٥
|
٦١٩
|
الشيخ محمد
بن محمد خير الدين الحنيفي
|
١٣٤٢
|
٥٤٥
|
الشيخ عبد
الرحمن بن أحمد الحجار
|
١٣٣٦
|
٦٢٦
|
الشيخ أحمد
بن أحمد الصدّيق
|
١٣٤٣
|
٥٤٨
|
الشيخ مصطفى
بن إبراهيم الهلالي
|
١٣٣٧
|
٦٢٩
|
الشيخ محمد
بن عثمان الزرقا
|
١٣٤٣
|
٥٥٠
|
الحاج محمد
بن محمود الضالع التاجر
|
١٧٣٧
|
٦٣٨
|
الشيخ أحمد
بن الشهيد
|
١٣٤٥
|
٥٥٥
|
أحمد أفندي
ابن محمد كتخدا
|
١٣٣٨
|
٦٤١
|
الخاتمة
|
|
٥٥٩
|
الشيخ محمد
بن عبد الله الطرابيشي المسوتي
|
١٣٣٨
|
٦٤٤
|
مآخذنا التاريخية
|
|
٥٦١
|
الشيخ عبد
السميع بن أحمد الكردي
|
١٣٣٨
|
|
|
|
|