|


بسم
الله الرحمن الرحيم
مقدمة المركز
الحمدُ
لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، نبينا محمد المصطفى وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
وبعد
، إنّ من مهام الدين التي لا تنفصل عنه : تنظيم أنشطة الغرائز الفردية ، وتنظيم العلاقات الاجتماعية ، وأنشطة الغرائز لوحدها ذات بعدين: فردي تنعكس آثاره على الفرد ذاته ، واجتماعي تمتد آثاره إلى المجتمع لتظهر في
طبيعة علاقاته وفي صورته النهائية بالضرورة .. وهذا النظام المعني بتنظيم ذلك كلّه هو النظام الاخلاقي ، ببعديه ؛ الفردي والاجتماعي.
وهو
من النظم التي تميّزت بها الاديان عن النظريات الوضعية ، حتى عادت هذه الأخيرة تستعير من الاديان بعض جوانب نظم الاخلاق التي لا تستقيم الحياة بدونها.
إنّ
تركيز الإسلام على ثنائية الانسان ـ الروح والمادة ـ هو تجلية لواقع
الانسان ولضرورات الحياة معاً ، وكما أخفق الماديون في تعطيل حاجات الروح ، أخفق
الرهبانيون في تعطيل الحاجات الجسدية والمادية ، ودفع الاثنان ضريبة ذلك في فقدان التوازن ،
توازن حاجات الفرد وحاجات المجتمع ، وكما اضطر الفريق الاول الى اقتباس بعض
تعاليم الايان في اشباع حاجات الروح ، اضطر الفريق الثاني ولو متنكراً إلى اشباع
حاجات الجسد ، خضوعاً اضطرارياً إلى صرامة القانون الذي تفرضه الطبيعة البشرية
الثنائية ، والذي لا يمكن ضمان استقرار الانسان وتكامله من خلال التمرّد عليه ، ذلك القانون
الذي نلمس أكمل مصاديق صيانته في تعاليم الإسلام الحنيف ، فهو في الوقت الذي يحث فيه على اشباع حاجات الروح بالعبادات من فرائض ونوافل ، صلوات واذكار وصيام وحج
وزكاة وعطاء ، نراه يحث بالقوة نفسها على اشباع حاجات الجسد.
نعم
إن النظام الاخلاقي في بعديه ـ الفردي والاجتماعي ـ هو رسالة الاديان السماوية كافة ، ذلك أن مصدر هذه الاديان كلها واحد ، وهو الواحد ذاته المتفرّد بخلق الطبيعة البشرية والعالِم بسرّها وبما يصلحها ويقودها إلى الكمال
والتألّق ،
ولربما
أوجز خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم دعوته في بعض جوانبها بقوله
الشريف : وفي نص مماثل : .
وإذا
كان النظام الاخلاقي ذا بعدين ، فقد عني الإسلام برعايتهما معاً وبالدرجة نفسها دون ترجيح لاحدهما على الآخر ، فكما عني بصلاح الفرد ووضع له نظامه
الذي يصونه ، فقد عني بصلاح المجتمع ووضع له النظم والضوابط التي تحفظه وتصونه ، ومن تلك النظم والضوابط ما تمثله التعاليم التي تهدف إلى تنمية الروح
الاجتماعية لدى الأفراد ، ابتداءً بالتربية التي توفّرها صلاة الجماعة والجمعة ومواسم الاعياد الإسلامية وموسم
الحجّ وصلة الأرحام وعيادة المرضى والدعاء للمؤمنين سراً وعلانية وأداء التحية
وردّها وانتهاءً بقوانين التكافل الاجتماعي التي لا تقف عند حدود الزكاة والصدقات بل تتعدى
إلى الايثار والتضحية في سبيل المجتمع المؤمن.
وفوق
ذلك تميّز عمق النظام الاخلاقي في الإسلام بالتأكيد في تعاليم متعددة على أنّ صلاح أحد العنصرين ـ الفرد والمجتمع ـ ليس فقط مكملاً لصلاح الآخر
، بل قد يكون وقفاً عليه تماماً.
ومن
هذه الأهمية التي يمثلها النظام الاخلاقي في الإسلام فقد جعل مركز الرسالة للبحوث المعنية في التعريف بهذا النظام حظّها المناسب في سلسلة اصداراته الموسومة بسلسلة المعارف الإسلامية ، وهو في اصداره هذا يقدم لقرائه واحداً من الاسهامات
الموفقة في تجلية ركن من أركان النظام الاخلاقي ، وهو « الرفق ».
ذلك
الخُلق الذي وصفه الحديث الشريف بأنّه : وإنه :
، لنستفيء في ظلّه ساعة ، متنسمين عطر الآي العظيم وحديث النبي الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته الطاهرين : ومقتبسين شذرات من سير الاُسوة الحسنة ، علّها تكون لنا معالم هدى إلى الخلق الكريم.
مركز الرسالة
المقدِّمة
عندما اختفت شمس الهداية خلف غيوم
الحضارة المادية ، وحُرِم الانسان من دفئها وسناها الباعث روح الحياة في هذه النفوس ، قست القلوب وغادرت الرحمة أفق هذا الزمن وضعف الوجدان عن أداء دوره ، وغفا الضمير على نغمات عصره ، فلم يعد للرفق واللطف وما إلى ذلك من مفردات معنوية وجود فعلي ودور عملي على ساحة الواقع المادي.
نعم لم يبقَ منها لاِنسان القرن العشرين
إلاّ العناوين التي قد كبرت ، والشعارات التي قد تكثرت ، وقد استفاد من هذه وتلك قساة الصهاينة والشيوعيون وكل الطغاة والمستكبرين ، فأسسوا الجمعيات والاحزاب تحت تلك الشعارات وتلك العناوين لتحقيق أهدافهم الاستعلائية ونواياهم التسلطية ، ومارسوا الغلظة بدل اللطف ، والقسوة مكان الرأفة والشدة عوض الرفق.. وحرموا الإنسان من حرية الفكرة وحرية الإرادة وحرية الاختيار ، تحت شعارات تحمل هذه العناوين لفظاً لكنّها خالية من المضمون واقعاً.
إنّ رقي الاُمم إنّما هو بمقدار ما
تمتلكه من قيم أخلاقية تتفاضل من خلالها ، وتتنافس مع غيرها من أجل الحفاظ عليها وديمومتها منهجاً للأجيال. ومن هنا أدرك الكثير من الاُمم التي أوجدت لمجتمعاتها معايير مادية أخطار تلك المعايير في تفتيت وحدة المجتمع التي تضعها روح الاخاء بين أفراده ، فأوصدت أبواب الاُلفة والتعايش على مائدة القيم
الاخلاقية ، بعد أن
أنمت فيهم روح الأثَرة وحب الذات والتنافس على حطام زائل ، مما أدّى إلى تفكك مجتمعاتهم تبعاً لتمزق شمل الاُسرة وانفراط عقد المودة بين أفرادها ، فازدادت بذلك مشاكلهم ، واشتدت أزماتهم الاجتماعية والاخلاقية والنفسية.
ومن الواضح أنه لن تجد تلك الاُمم الحلّ
المناسب لجميع ما عصف بها من مشاكل على أثر مناهجها وسياساتها إلاّ في اقتباس خلق الإسلام وآدابه وتعاليمه التي هي في الواقع الاستقامة بعينها ، والاعتدال بنفسه ، والوسط المقبول بين الافراط والتفريط ؛ لاَن القطب الوحيد الذي تدور حوله رحى التوازن الفذة في كل شيء في السياسة والاجتماع والاخلاق لا يستقر إلاّ على محور الإسلام ، ذلك المحور الذي ينتهي بمريديه إلى أقصى درجات الكمال الممكن للانسان في سموه ورفعته وعزته وكرامته الحقيقية.
وتوضيحاً لمن غاب عنهم ما في دين
الإسلام العظيم من كمالات لا نظير لها في دساتير العالم أجمع ولا قرين لها في الاديان السماوية الاُخرى ، تنطلق من ضرورة تصميم الرحمة الهادية ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) تلك الرحمة التي بعث بها من هو على
خلق عظيم بشهادة السماء، لعلها تشق طريقها إلى النفوس الفاضلة فتروّي ضمأها من عذب نمير الإسلام ، جاء هذا البحث ..
ولما كان المسلمون اليوم هم أحوج من
غيرهم إلى التعرف على ذلك لذا كان الخطاب إلى غيرهم عرضاً وإليهم ذاتاً ، لعلهم يعرضوا تصرفاتهم وحركاتهم وسكناتهم على مرآة الإسلام ومفاهيمه في كلِّ وقت وحين
ليشاهدوا مدى
انطباقها أو افتراقها عن منهج الإسلام ؛ فيقوِّموا بذلك اعوجاجهم ويعمقوا استقامتهم على ضوء ما سيعرضه البحث من مفردات الرفق لما فيها من رسالة تكاملية هادفة إلى كلِّ خير وصلاح.
ونحن في هذا المقتضب من الحديث عن الرفق
ـ كفضيلة سامية ـ نحاول إعطاء فكرة مبسطة عن واقعه وأهميته في المنظور الإسلامي ، وذلك من خلال بيانات بعض الآيات المباركة والأحاديث الشريفة ، ليتضح بجلاء دور الإسلام العزيز في تربية الإنسان في كلِّ عصر وزمان على الشفقة والرحمة والتعايش المعنوي من أجل الحياة الحرّة الكريمة على وجه هذه الأرض والسعادة الاَبدية في عالم الخلود.
وليتبين البون الشاسع بين الحضارة
الماديّة الجافة القاسيّة التي لا تُذكي إلاّ الأنانيّة والجشع والغلظة والقسوة ، وبين الإسلام الذي ينمّي روح التراحم والتواصل والايثار ، ويُرَبي الإنسان على مكارم الأخلاق ، ويحمله على المحبّة والصلح والتفاهم وحرية الإرادة وحرية الاختيار ، هذا من جهةٍ ، ومن جهةٍ اُخرى ليتبين البون الشاسع بين الإسلام وبين غيره من الأديان السماوية كالمسيحية مثلاً التي يتظاهر أتباعها بالدعوة الى الصلح والصفاء بين أبناء البشرية في العالم .. مبتدئين أولاً ببيان معنى الرفق ..
مدخل في تعريف الرفق :
الرفق ضد العنف والشدّة ، ويُراد به
اليسر في الاَُمور والسهولة في التوصل إليها ، وأصل الرفق في اللغة هو النفع ، ومنه قولهم : أرفق فلان فلاناً إذا مكّنه مما يرتفق به ، ورفيق الرجل : من ينتفع بصحبته ، ومرافق البيت : المواضع التي ينتفع بها ، ونحو ذلك .
ويقال : رَفَقَ ـ به ، وله ، وعليه ـ رِفقاً
، ومَرْفِقاً : لانَ له جانبه وحَسُنَ صنيعه .
والذي يعنينا من الرفق هنا ، هو ما يحمل
لنا معاني اللين واللطف والسهولة واليسر ؛ لما لها من دور مهم في حياة المؤمن الرسالي ، وما يضطلع به من مهام وأدوار في حركته الواعية بين شرائح وعينات المجتمع بكل أشكالها ، وما لها من لبوس حسن جميل يدل على حسن وجمال سريرة المتلبس به ، واستقامة ذاته واعتدال تصرفاته ، إذ إن الرفق ليس مستهدفاً للغير في مهمته وتأثيراته فحسب ، بل هو يبدأ من الذات ليشمل غيرها من الأفراد والمجتمعات ، ويوصل إليها رسالة التكافل الاجتماعي بأبهى صُوَرِه.
وقد أكد الإسلام العزيز على هذه
السجية الفاضلة والخصلة النبيلة __________________
ببيانات كثيرة
ومتعددة الألفاظ ، داعياً أتباعه وحملة همومه وأهدافه إلى التحلي بها وتجسيدها في أرض الواقع العملي لتؤدي إلى الأهداف المطلوبة والغايات المرغوبة.
وجدير ذكره أن الذي صنعه الإسلام على
صعيد العنصر الأخلاقي بجميع أركانه ومظاهره ؛ كالصدق والأمانة والبرّ والإحسان والرفق والعفو والرحمة والسلام والحب وغير ذلك ، إنّما هو على نحو التقرير والتنظيم والإحياء والإنماء ، لا على نحو الفرض العلوي المتعالي على الطبيعة البشرية ، ذلك لأن العنصر الأخلاقي عنصر فطري ثابت في الفطرة التي فطر الله عليها عباده ، ولا تبديل لخلق الله ، فمهما احتالت الأفراد أو الشعوب في زمن من الازمان لأجل قلب القيم وتجاهل أصالتها فإنها لا تستطيع أن تدعو بوضوح إلى اشاعة الكذب والخيانة والخسّة والدناءة ، حتّى ولو كانت تمارس ذلك بالفعل ، وليس ذلك إلاّ لأن للمبدأ الأخلاقي أصالة في الفطرة.
الفصل الأول
الرفق في القرآن الكريم
حثَّ القرآن الكريم على اعتماد
الرفق خياراً مبدئياً في نهج الدعوة إلى الإسلام ، واعتبره ركناً وأساساً مهماً يقوم عليه صرح الهدى الرسالي للفكر والعقيدة الحقّة التي دعى إليها جميع الأنبياء والمرسلين : ، ولقد تعددت لغة الخطاب القرآني لتمتلىء بها كلّ الآفاق التي يمتد إليها الرفق في معانيه الواسعة وغاياته البعيدة.. وسوف نصنف هنا الآيات الواردة في الرفق بحسب مواردها ، على النحو الآتي.
الآية الاُولى
: ( اللين والعفو )
خاطب الله سبحانه نبيه الأكرم محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم قائلاً : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ
مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ على اللهِ
) .
اللين في المعاملة : الرفق.
__________________
أي أنّ لينك لهم مما يوجب دخولهم في
الدين ، لأنك تأتيهم مع سماحة أخلاقك وكرم سجيتك بالحجج والبراهين .
فلولا هذا الرفق الذي اعتمده الرسول مع
من أُرسل اليهم لما تمكن من استقطاب الناس حول رسالته ، إذ إن الفضاضة والغلظة المناقضة للرفق واللين إذا ما اعتُمدت خياراً منهجياً في التبليغ والدعوة إلى الحق فإنَّ مردودها سيكون عكسياً ، لا يثمر استقطاب الناس حول ذلك الحق وإن كان أبلجاً. بل على العكس من ذلك ، سيعمل على التنفير وانفضاض الناس من ساحة ذلك القطب الهادي والمنار الواضح. فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ودٍّ يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم .. في حاجة إلى قلبٍ كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، ويحمل همومهم ولا يعنّيهم بهمّه ، ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والودّ والرضا.
وتعميقاً لروح الرفق واللين التي يريدها
الله جل شأنه في الدعوة إلى الحق ، جاء التأكيد في نفس تلك الآية المباركة على ما يجسد حالة الرفق واللين العملي بين يدي المؤمنين ، في جملة مكارم الأخلاق التي اهتم الإسلام بتحقيقها على النحو الأكمل وإشاعتها بين الناس ، فهي تأمر بالعفو لمن يُسيء والغفران لمن يخطىء ، ليتجلى الرفق ويتمظهر اللين في حركة التغيير والاصلاح على منهجية المبلغ الرسالي (
فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ).
__________________
ولمزيد من الرفق أمرت هذه الآية الرسول
الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم
ـ ومن يقتدي به من باب أولى ـ أن يشاور أُولئك الذين صدر عنهم الفرار من الزحف وتركوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الميدان مع نفرٍ قلائل من أصحابه ، فقال عزَّ وجل ( وَشَاوِرْهُمْ
فِي الأمر )
وبعد ذلك يُمضي ما يراه الأصوب في ذلك ( فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
) والآية اذن
تضرب على وتر الرفق بكلِّ أبعاده ليُنشد أنغامه القدسية في هذه الحياة ، وليصنع الأثر الذي يريده الله تعالى في درب التكامل البشري من خلال رسالته السامية.
ويحضى الأمر باللين والرفق
والرحمة في هذا الموضع بالذات بوقع خاص يجلّي أهميّة هذه القيم على نحو قد يُظهره موضع آخر .. إذ جاء ذلك على أثر مخالفة المسلمين أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوم أُحد ، تلك المخالفة التي أدّت إلى أسوء النتائج إذ دهمهم العدو ، فلم يجدوا في أنفسهم ثباتاً ، فانقلبوا منهزمين يلوذون بالجبل ، وتركوا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مع نفرٍ يسير من أصحابه ، حتى أثخنته الجراح وكُسرت رباعيته وشُجّ وجهه ، وهو صامد يدعوهم فلم يفيئوا إليه حتى انكشف العدو ، فلمّا رجعوا لم يعنّفهم ولم يُسمعهم كلمة ملامة ولا ذكّرهم بأمره الذي خالفوه فتحمّلوا بخلافهم مسؤولية كلّ ما وقع .. « بل رحّب بهم وكأن شيئاً لم يكن ، وكلّمهم برفق ولين ، وما هذا الرفق واللين إلاّ رحمة من الله بنبيّه وعون له على رباطة الجأش .. وإذا مدح الله نبيّه بكظم الغيض والرفق بأصحابه على اساءتهم له، فبالأولى أن يعفو الله ويصفح عن عباده المسيئين .. ثمّ بيّن سبحانه الحكمة من لين جانب نبيّه الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بخطابه له : ( وَلَوْ
كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ
) وشمت العدوّ
بك وطمع فيك ولم يتمّ أمرك وتنتشر رسالتك ..
إنّ المقصود من بعثة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم هداية الخلق
إلى الحق ، وهم لا يستمعون إلاّ إلى قلب رحيم كبير كقلب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
الذي وسع الناس ، كلّ الناس ، وما ضاق بجهل جاهل أو ضعف ضعيف » .
الآية الثانية : ( خفض الجناح )
(
وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ )
وخفض الجناح كناية عن اللين والرفق والتواضع .
أي ألِن لهم جانبك وارفق بهم ، والعرب
تقول : فلان خافض الجناح إذا كان وقوراً حليماً .. والمعنى : تواضع للمؤمنين لكي يتبعك الناس في دينك . والتعبير
عن تلك المعاني بخفض الجناح تعبير تصويري يمثّل لطف الرعاية وحسن المعاملة ورقّة الجانب في صورة محسوسة على طريقة القرآن الفنية في التعبير.
وفي هذه الآية الكريمة تعبير آخر عن
الرفق واللين واللطف واليسر ، التي يحرص القرآن المجيد على أن يتخلق بها حملته ومبلّغوا تعاليمه ، وقد خوطب بها الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
ـ وهو الذي يشهد له القرآن بقوله تعالى : (
وَإِنَّكَ
لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
) وقوله سبحانه : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ
__________________
مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
) . وهو الذي يقول لأصحابه « إنّ أحبكم إليّ يوم القيامة وأقربكم مجلساً
أحسنكم أخلاقاً ، الموطّئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون »
ـ فإذا كان
الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد خوطب بمثل هذا الخطاب (
وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) فمن باب أولى ان يقتدي المؤمن
الرسالي بتلك الأخلاق العالية ويتحلى بها ، تجسيداً لقوله تعالى : (
لَّقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .
وخفض الجناح في الآية المباركة وان كان
كناية عن التواضع والرفق واللين ، إلاّ أنه ينطوي على معاني اُخرى رفيعة تتدفق بالمودة
والرأفة والتسامح ونظائر ذلك من مكارم الأخلاق التي لو وجدت طريقها في نفوس المؤمنين وغرست في قلوبهم لمارسوا عملية الانفتاح على الآخرين بأتم وجه ، واقتطفوا ثمار سعيهم في إعلاء كلمة الحق ، برد الفعل المناسب من الانفتاح عليهم وقبول طرحهم.
وفي السياق ذاته يتقدّم هذا الخطاب
الجميل خطابٌ آخر ، له جَرسٌ آخر ووقع آخر ، ذلك قوله تعالى : (
فَاصْفَحِ
الصَّفْحَ الجَمِيلَ ) .
وهو العفو من غير عتاب
!
__________________
وبعد .. فالقرآن الكريم أراد لنا عبور
كل ذلك مع المؤمنين إلى بلوغ صفة التذلل لهم (
أَذِلَّةٍ
عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
) ، ومن هنا يعلم أن خفض الجناح يستلزم تلك الصفة الراقية التي يستشعر المؤمن من خلالها كرامته ، وتقوى بذلك شخصيته ، ولا ريب أنّه لا يغفل المؤمن سر التذلل له ، ويدرك جيداً أنّه وليد التزام الطرف الآخر برسالته لا خوفاً ولا طمعاً ، وعندها سيندفع الطرف الآخر إلى نفس المبادرة ، فتتم المعادلة ، ويتحقق التوازن في بناء شخصية المؤمن الرسالي على أتم وجه.
لكنّ ذلك إنّما هو وقف على المؤمنين
المخلصين والطيبين المتواضعين ، فالتواضع لهؤلاء إنّما هو تواضع لله ، وعلى العكس من ذلك يكون الموقف إزاء الخونة والمفسدين والمنافقين والمتكبّرين ، فالتكبّر عليهم عبادة ، بل جهاد في سبيل الله .
الآية الثالثة : ( عباد
الرحمن )
(
وَعِبَادُ
الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ
الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا )
الرحمن ربنا سبحانه يعرّف عباده بجملة من الآيات المباركات في نهاية سورة الفرقان ، ويبتدىء ذلك بهاتين الصفتين المذكورتين في الآية المتقدمة.
الصفة الأولى :
هي السير على الأرض هوناً أي بسكينة ووقار ، __________________
بلا استعلاء وخيلاء.
الهون ، مصدر هان عليه الشيء يهون ، أي
: خفَّ ، وهذا يعني أنّ مشيهم على الأرض مشية مُرفِقٍ بها لا يثير غبارها ، لسهولة التعامل معها واللين في تماسها ، وخفّة الروح عليها. ومن كانت هذه صفته مع الأرض التي يطأها فهو مع ساكنيها ـ من بني جنسه ـ أهون في تعامله وأرقّ في معاشرته وأخفّ في روحه.
وبهذه الكلمات يرسم القرآن صورة المؤمن
الحقّ ظاهرةً وباطنةً فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية وعمّا يستكن فيها من مشاعر ، والنفس السوية المطمئنة الجادّة القاصدة تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها.
وليس معنى ( يَمْشُونَ عَلَى
الأرض هَوْنًا ) أنّهم يمشون متماوتين منكّسي الرؤوس متداعي الاَركان متهاوي البنيان ، كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح ! فهذا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان إذا مشى
تكفّأ تكفّئاً وكان أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها .. قال الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام
: «
كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذا مشى تكفّأ تكفُّؤاً كأنّما ينحطُّ من صبب »
وهي مشية أُولي العزم والهمّة والشجاعة.
وأما الصفة الثانية :
فهي ( إِذَا
خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا
) فهم لا يمارون الجاهل ولا يقارعونه بالحجة تلو الحجة التي لا يستطيع هضمها وفهمها ، بل يرفقون به ويقدّرون مبلغ علمه ومستوى جهله ويرأفون بحاله __________________
ولا يسمعونه ما يثقل
عليه من كلمات تجرح شعوره مما هي فيه وهو أهلها ويستحقها لغروره وتبلّد ذهنه إذ وضع نفسه الوضيعة في غير موضعها ، بل راح يتعالى عليهم بمخاطبتهم. وهذا يعني : أن الجاهل يبلغ به عجبه بنفسه وعلمه بأن يرى الآخرين ـ وإن كانوا علماء ـ هم دونه في
المستوى ، وعند ذلك تسمح له تصوراته المغرورة هذه في تنصيب نفسه خطيباً عليهم ، له أن يتكلّم وعليهم أن يسمعوا.
نعم ، فاذا كانت هذه حقيقة ماثلة في
أغلب النفوس ، وهي كذلك ، فلماذا لا يرفق العالم بالجاهل ، والأعلم بالمتعلم ، ويقول له : سلاماً ، في المواضع التي يتطاول فيها الجاهل ، ويترك للزمن إقناعه ، وللمراحل التي يلزم طيها حتى يبلغ الفهم ويبلغ التواضع للحقيقة التي يُراد له الوصول إلى
فهمها وبلوغها ؟
الرحمانيون
:
فمن لم يتلطف ويرأف بهذه النفوس المريضة
بداء الجهل والغرور ، ولم يداوها بدواء الرفق والسماحة فليس هو بالحكيم الذي يضع الاُمور في محلها ، كما هو ليس أهلاً بأن ينسب إلى الرحمن بالعبودية ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ
الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا )
.
والملاحظ في هذه الآية الكريمة أنها أتت
باسم وصفة الرحمن في هذا المجال ، هذا يعني أن المنسوبين إلى الله ( الرحمن ) بالعبودية يجب __________________
أن يتخلّقوا بأخلاقه
، فيكونون رحمانيين ورحماء ، وإلاّ فليس حرياً أن ينسبوا إليه مع تجافيهم وتباعدهم عن الرفق والرحمة.
والرحمانيون من النمط الأول تجلت وتجسدت
بهم الرحمة المطلوبة في حياتهم الرسالية بكلِّ وضوح ، وهم الأنبياء والأوصياء والصلحاء ، والآيات في ذلك كثيرة ، إذ إنهم مأمورون بمكارم الأخلاق.
الآية الرابعة : ( هجراً
جميلاً )
(
وَاصْبِرْ
عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً
) .
الهجر الجميل : أن لا تتعرّض لخصمك بشيء
، وإن تعرّض لك تجاهلت .
أُمِر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه
الآية المباركة بالصبر ـ الذي منه كظم الغيض ـ على ما يسمعه من الاَقوال البذيئة التي لا تليق ومقام النبوة الشامخ ،
صبراً لا عتاب فيه على أحد ، ولا اعتزاز بالشخصية ، أو دفاع عن الذات ، بل تركهم إلى الله سبحانه ، مع الهجر الجميل الذي لا يترك في نفوسهم شيئاً من وخز الضمير ما داموا لم يقابلوا بالمثل ، بل بالهجر الجميل الذي لم يترك في نفوسهم اشمئزازاً من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولم يزرع فيهم ما يحول بينهم وبينه صلىاللهعليهوآلهوسلم
مستقبلاً فلا يُقبلوا عليه ولا يسمعوا هديه ، بل كان هجراً جميلاً لم يقطع خيوط المودة ولم يهدم جسور التواصل التي تمر من خلالها رسالة السماء التي تنشد لاُولئك التكامل وسعادة الدارين.
__________________
والملاحظ في هذه الآية المباركة أن الله
سبحانه استخدم لفظة الهجر ولم يستخدم مكانها لفظة الترك ، ولعل الأمر يعود إلى أن الترك يعني التخلي تماماً عنهم ، بينما الهجر يحمل معه معنى امكانية الرجوع إليهم والتبليغ فيهم مرة ثانية ، ولأجل هذه الاحتمالية يلزم أن يكون الهجر جميلاً ؛ لأنهم في حاجة إلى المعاودة والنصح والارشاد الذي لا يتحقق مع تواصل الهجر المستمر بلا انقطاع. ومن هنا يعلم أنّ رحمة الله عزَّ وجل لا يمكن تصور حدودها ، فهي شملت حتى من يسيء إلى مقام الرسل والانبياء ، أملاً أن يصلُحوا في مستقبل أيامهم ويعودوا إلى حضيرة الإسلام لينهلوا من آدابه ويتخلقوا بمكارم أخلاقه.
ولا
يخفى ما في ذلك من عبرة عظيمة ، وموعظة جليلة ، إذ يمكن للمسلم الرسالي أن يستثمر الصبر على الاذى والهجر الجميل ؛ ليحصد ما يحمد عقباه.
الآية الخامسة : ( ادفع
بالَّتي هي أحسن )
(
وَلا
تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
) في هذه الآية المباركة يتبين لنا حكم
الله جلّ جلاله في المجالين : التكويني والتشريعي ، عند التفريق بين الحسن والحسنة من جهة ، والسيء والسيئة من جهة اُخرى ؛ إذ إنّ إرادته سبحانه شاءت أن تكون الطبيعة ويكون العقل شاهدين على التفاوت بين الاثنين ، وإلاّ كان الحسن والقبيح على حدٍ سواء ، والمحسن والمسيء بمنزلة واحدة ، وواقع الحال ليس كذلك ؛ إذ عدم التساوي بين الحسنة والسيئة __________________
مسلّم عند سائر
العقلاء ، ومقرر في جميع الشرائع بلا خلاف.
ولا
يخفى بأن الاساءة للآخرين لها آثارها السلبية في تحقيق التكافل والتعاون ، واثارة البغضاء والعداوة ؛ لذا كان الأمر بدفعها من أقصر الطرق وأوضحها فائدة ، وأكثرها عائدة ، وذلك بان تقابل بالاحسان ؛ إذ الانسان مجبول على حب وتقدير من أحسن إليه.
وقد حملت لنا هذه الآية التوجيه الفذّ
الذي يمكن من خلاله الوصول إلى هذه الغاية السامية ، وذلك بعقد مبدأ الرفق واللطف في عملية التدافع بين الحسن والأحسن فلا يُقدم الحسن على الأحسن ، ولا الفاضل على الأفضل ، أو المهم على الأهم. وهذه قاعدة عقلائية تستذوقها النفوس وترضاها الطبائع وتدعو إليها الفطرة ، وأمر بها الشرع ـ كما عرفت ـ بقوله : ( ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ).
الآية تقول : فرق بعيد بين عملك يا
محمّد وأنت تدعو إلى الله وتتحمل الاذى في سبيله صابراً محتسباً وبين عمل الذين أجابوا دعوتك بالإعراض والأذى والافتراء.. إن عملك صلوات وحسنات ، وعملهم سيئات ولعنات.. وعلى الرغم من ذلك فعليك ان ترفق بهم وتتسامح معهم وتصبر على سفاهتهم ، فإنّ منهم من لو قابلته بهذه السماحة لعاد إلى ربّه وعقله ، وانقلبت عداوته لك إلى محبّة ، وبغضه إلى مودّة
.
كأنه
وليٌّ حميم :
ثم أن الآية ـ من أجل إرساء هذه الدعامة
المهمة في آثارها __________________
والموضوعية في
واقعها ـ أسست بناءً مهذباً للنفوس يقوم على هذه الحقيقة المتينة في حكمتها ، اللطيفة في رقتها ، الرحيمة في هدفيتها فقالت : ( فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
) أي اصبر على الأذى ، واكظم الغيظ الذي تبتلى به ، واحلم عمن أساء إليك ، وتعامل
مع مصدر اتعابك وشانئيك تعامل الرؤوف الرحيم العطوف الكريم برفق ولطف يمس قلوبهم القاسية فيحولها من قسوتها وجفوتها عليك إلى تعاطفها وتجاذبها إليك ، ومن غفوتها ونومتها التي هي عليها ، إلى اليقظة والصحوة التي أنت فيها. فهي تأمرنا باعتماد منهجية الرفق مع أعداءنا إلى
الحد الذي يجلي
الفرد الواحد منا أمام اعداء دعوته (
كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) فيستقطب مجامع قلوبهم إليه حتى تصير اذان صاغية لهديه وارشاده فيستنقذها من ضلالها وجهالتها إلى الهدى والنور الذي هو عليه والدين
والفكر الذي يدعو إليه.
ثم أن الدفع بالتي هي أحسن والتحلي
بالرفق قبال الذي بينك وبينه عداوة حتى تبدو له كأنك وليٌّ حميم ، ليست قضية تخص البعد التبليغي فحسب دون المجالات الحياتية الاُخرى ، سياسية أو اجتماعية أو سلوكية عامة. فكل هذه المساحات وغيرها هي ليست في غنى عن هذا المبدأ الاخلاقي القويم الذي يبلور الشخصية الرصينة في حركتها الفردية والاجتماعية ، ويكشف عن سماحتها وعلو همتها وعظم قدرها.
وكم صدقت هذه القاعدة على حالات
كانت في منتهى التوتّر ، وشيكة أن تقود إلى سفك دماء كثيرة بغير حقّ ، فإذا الهياج ينقلب إلى سكون
، ويعود الزمام المنفلت إلى محلّه ، ذلك حين قوبل الغضب المجنون __________________
بنبرات هادئة من
نفسٍ مطمئنة ! وبالعكس تصنع الكلمة الاُخرى ، فينقلب السكون غضباً مجنوناً ، وينفلت الزمام ..
المؤرّخ الفيلسوف أبو علي مسكويه ينقل
في ( تجارب الاُمم ) بالتفصيل الحوار الخطير الذي أداره الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام مع الزبير بن العوام قبل نشوب معركة الجمل ، إذ دعاه فالتقيا بين الصَفّين فقال له : ( «
يا زبير ، أتذكر يوم مررتَ مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في بني غنم فنظر إليَّ وضحِك وضحكتُ إليه ، فقلتَ : لا يدع ابن أبي طالب زَهوه !
فقال
لك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: مَه !
إنه
ليس كذلك ، ولتقاتلنّه وأنت له ظالم »
؟
قال الزبير : اللهمّ نعم ، ولو ذكرت ما
سرت مسيري هذا ، والله لا أقاتلك أبداً.
فانصرف عليّ عليهالسلام وحكى ذلك لأصحابه ،
ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها : ما كنتُ في موطن مذ عقلت إلاّ وأنا أعرف فيه أمري ، غير موطني هذا !
قالت : ما تريد أن تصنع ؟
قال : اُريد أن أدَعَهم وأذهب.
قال له ابنه عبدالله : جمعتَ هذين الفئتين
حتى إذا جرّد بعضهم لبعض أردتَ أن تتركهم وتذهب ؟! أحسست رايات ابن أبي طالب وعلمت أنّها بأيدي فتية أنجاد !!
فغضب الزبير حتى اُرعِد ، ثم قال
: ويحك ، إني قد حلفتُ ألاّ اُقاتله !
قال : كفّر عن يمينك !!
فدعا غلاماً له يقال له مكحول فأعتقه.
فقال عبدالرحمن بن سليمان التميمي :
|
لم أرَ كاليوم أخا إخوان
|
|
اعجَبَ مِن مكفِّرِ الإيمان
|
|
|
بالعتقِ في معصية الرحمن
|
|
| |
|
|
|
|
قال مسكويه : وإنّما حكينا هذه الحكاية
لأنّ فيها تجربة تستفاد ، وإن ذهب ذلك عن قوم فإنّا ننبّه عليه ، وذلك أنّ المُحنق ربّما سُكِّن بالكلام الصحيح ، والساكن ربّما أحنق بالزور من الكلام ) .
غير أن تلك السماحة لا تؤتي أثرها إلاّ
وهي صادرة مع القدرة على الردّ ، وإلاّ انقلبت في نفس المسيء ضعفاً وذلاً ، فلا يبقى عندئذ للحسنة أثر على الإطلاق.
كما أن هذه السماحة لا تتعدى حالات
الاِساءة الشخصية ، أما العدوان على العقيدة أو على العرض والمال فلا يقابل إلاّ بمثله ، فالنبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
الذي كان يحسن إلى من أساء إليه فوضع الأذى في طريقه أو أسمعه غليظ الكلام ونحو ذلك ، ويعفو ويصفح ، هو نفسه القائل حين يكون العدوان على العقيدة : « والله ، لو وضعوا
الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك
دونه » .
__________________
ولا شكّ أن الوصول لمثل هذا أمر متعسر على
الجميع ولا يحلق في سماء فضيلته إلاّ الكمّل من الناس وبدرجات متفاوتة هي على قدر هِمّة الساعين إليه.
ذو
حظٍ عظيم :
ولأجل هذه الحقيقة القائمة بين الناس
نرى الآية القرآنية المباركة التي تلتها تصرّح بهذا الأمر. إذ تقول (
وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ )
فهي تعلن أن مبدأ الرفق والبلوغ من خلاله إلى درجة الدفع بالتي هي أحسن حتى يصير كأنه وليٌّ حميم ، أمر يليق بالعينات السائرة في درب التكامل ، وقد استحقت الدخول في زمرة الذين صبروا وطبيعي أن هذه الزمرة هي من ذوات « الحظ العظيم » أي من ذوات الرأي السديد ، والعقل الراجح ، والرعاية الخاصة ، والنصيب الأوفر في مجال الفيوضات الربانية بما يستحقونه على صبرهم وتحملهم في سبيل الله ، وبما لهم من حظٍّ وافر في مكارم الاخلاق وفواضل السجايا.
فهنيئاً للصابرين منّا في درب الإسلام العزيز
( الَّذِينَ
صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )
( ... وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ
إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
* أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ ) .
في حديث قدسي شريف ـ يسنده الإمام الصادق
عليهالسلام
إلى رسول __________________
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ قال الله
تعالى : «
إنّي جعلت الدنيا بين عبادي قرضاً ، فمن أقرضني منها قرضاً أعطيته بكلِّ واحدةٍ عشراً إلى سبع مئة ضعف وما شئتُ من ذلك ، فمن
لم يقرضني قرضاً فأخذتُ منه شيئاً قسراً فصبر أعطيته ثلاث خصال لو أعطيتُ واحدةً منهنّ ملائكتي لرضوا بها منّي ».
قال الإمام الصادق عليهالسلام : «
قوله تعالى : (
الَّذِينَ
إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
* أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ
) فهذه واحدة من ثلاث خصال ، (
وَرَحْمَةٌ
) اثنان
، (
وَأُولَئِكَ
هُمُ المُهْتَدُونَ ) ثلاث .. هذا لمن أخذ الله منه شيئاً قسراً فصبر »
.
هذه الصلوات والرحمة عليهم في الدنيا
تصنع فيهم الشخصية الفذة وتمنحهم العزيمة الصامدة (
وَلَمَن
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ
) فالغفران ـ وهو مفردة من المفردات التي يقوم عليها مبدأ الرفق ـ هو من أعلى الأعمال شرفاً وأكثرها ثباتاً ، وإنّه لكاشف قطعاً عن هممٍ عالية وعقولٍ راجحة ومروءة صادقة ، يلازمها على الدوام ترفّع على تتبع عثرات الآخرين ، وبهذا يكسب ودّهم ويسمو عليهم لسمو روحه عن دوافع الثأر للذات والتذبذب في حضيض ( الأنا ).
هذه بعض الآيات المحكمات التي يمكن
الاستفادة منها والاستضاءة بأنوارها والاهتداء بها في موضوع الرفق تفيّأنا تحت ظلالها الوارفة في وقفتنا القصيرة هذه ، والمتأمل في آيات الذكر الحكيم يجد غيرها من الآيات البينات التي تدعو إلى الرفق واللين واللطف والرأفة في حركة الفرد والمجتمع.
__________________
الفصل الثاني
الرفق في السُنّة المطهّرة
جاء في كثير من الأحاديث الشريفة الحث على
الرفق والدعوة إليه وبيان أهميته وتحديد أبعاده وتشخيص ثمراته ، ولا بأس بالوقوف على ضفاف شواطىء تلك الاحاديث ؛ لنغترف من عذب مائها الرقراق في زمن الضمأ ؛ حيثُ الافكار المادية العكرة وما نصبته لهذا الإنسان من كؤوس مرة المذاق لا تروي الغُلّة ولا تشفي العِلّة.
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يمدح الرفق :
لقد مدح النبي الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم الرفق
بأحاديث كثيرة نذكر بعضاً منها :
١ ـ الرفق يُمنٌ
والخُرق شُؤم :
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
الرفق يُمنٌ والخُرق شؤمٌ » .
وهذا الحديث يصف الرفق باليُمن ، أي :
البركة ؛ لمِا لَهُ من دور حيوي __________________
في شدّ أزر الناس
بعضهم إلى البعض الآخر من خلال ما يزرعه في نفوسهم من المحبة والصفاء ، حتى يعودوا مباركين في تصرفاتهم ، فيعمّ اليمن ساحتهم وتتغشاهم بركات السماء.
٢ ـ الرفق جمال :
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إنَّ الرفق لم يوضع على شيء إلاّ زانه ، ولا نُزع من شيء إلاّ شانه » .
وهذا الحديث يحكي جمالية الرفق في أنه
لبوس حسن ، يزين مرتديه ، فمن تخلّق بالرفق فإنّ الرفق سيزينه ويزيده جمالاً ووقاراً وهيبة ، فلا يلتفت الآخرون إلى ماهو عليه من عيوب ونقاط ضعف لا ينجو منها عادة إلاّ الكُمّل من الناس ، وعلى العكس من ذلك فلو أن إنساناً يستجمع من المزايا الحميدة الشيء الكثير غير أنّه لا يتخلق بالرفق في تصرفاته ، فإنّ مثل هذا الإنسان سرعان ما ينفر الناس منه لما للرفق من دورٍ مهم في الكشف عن الاخلاق العملية التي يتفاعل معها الآخرون.
٣ ـ جمال ماهية
الرفق وحسن جوهره :
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
لو كان الرفق خَلقاً يرى ما كان مما خلق الله عزّ وجل شيء أحسن منه » .
ويبين لنا هذا الحديث جمال ماهية الرفق
وحسن جوهره الباهر ، __________________
فهو صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «
لو كان الرفق خلقاً يرى »
، أي : لو أن لحقيقة الرفق صورة مجسدة تظهر للعيان وتتمثل للاِنسان « ما كان مما خلق الله
عز وجل شيء أحسن منه » فهو يفوقها حسناً
وجمالاً ، وبهذا الطرح الافتراضي والتصويري يبين لنا صلىاللهعليهوآلهوسلم
ما للرفق من جمالية في حقل الاخلاق وكيانها التكاملي الشامخ.
٤ ـ الرفق خير :
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
من أُعطي حظّه من الرفق أُعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة » .
وفي هذا الحديث إخبارٌ عن الصادق الامين
بأن من يرزق الرفق يرزق الخير كله. وهذا يعني أن الذي يزداد رفقاً ، يزداد من خير الدنيا والآخرة ، وعلى العكس سيكون حال الآخر الذي حُرم حظّه من العقل والوقار ، وصرعته الأنا ، فاستبدل أناةً بالحُمق ، وجهلاً بالحلم ، فزرع لدنياه وآخرته ما يسوءه حصاده ، وتُطيل ندامته عقباه ..
٥ ـ الرفق نصف
المعيشة :
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
التودد إلى الناس نصف العقل والرفق نصف المعيشة ، وما عال امرؤ في اقتصاد » .
وبهذا التشخيص الدقيق في بعده الاجتماعي
تتوضح أهمية الانفتاح __________________
على الآخرين ،
ومداراة عقولهم ، والانسجام معهم من خلال الرفق بهم دون الغلظة عليهم ، ويعتبر ذلك الرفق معادلاً لنصف الجهد الذي يبذله الإنسان في دائرة عمله الاقتصادي بين أفراد المجتمع ، وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم بهذا يعطي أهمية فائقة للاخلاق في المجال الاجتماعي والاقتصادي اللذين لا ينفكان عن تلازمهما في تسيير عجلة الحياة المعاشية للفرد والأُمة ، ولأجل هذه الحقيقة الحيوية جاء قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الفقرة الاَخيرة وما عال امرؤ في اقتصاد.
٦ ـ الرفق كرم :
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
الرفق كَرمٌ ، والحلم زَينٌ ، والصبر خيرُ مَركب »
.
بهذا الوصف النبوي الشريف يكون المتخلق
بالرفق كريماً موقعه بين الناس ، يلزمهم تبجيله وتعظيمه على سجيته هذه. وبهذا الاحترام تتوسع دائرة الرفق بينهم لما للقدوة من أثر في تعميق المفهوم ، واستحقاقه لهذا التجليل جاء من تكرّمه وترفّعه عن متابعة الآخرين في هفواتهم وزلاّتهم.
٧ ـ الرفق وزير
الحلم :
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
نِعمَ وزير الايمان العلم ، ونِعمَ وزير العلم الحلم ، ونِعمَ وزير الحلم الرفق ، ونِعمَ وزير الرفق اللين »
.
استوزر الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم العلم
للايمان ، الحلم للعلم ، الرفق للحلم __________________
واللين للرفق ،
وبهذه المنظومة المباركة بيّن لنا التماسك الحيوي بين الايمان والعلم والاخلاق ، فمن أراد الإيمان فعليه بالعلم ، ومن أراد العلم الذي يفضي إلى الإيمان فعليه أن يتزين بالحلم الذي يجعل من العلم علماً هادفاً نحو التكامل لا العلم الذي يرافقه الغرور والعجب والتكبر ، ومن أراد إيماناً يستند إلى العلم النافع والمستوزر بالحلم فما عليه إلاّ التخلق بالرفق الكاشف عن واقعية الحلم وحقيقته.
الرفق الذي يتضمن : السماحة واللطف
والانفتاح والتواضع وتكليم الناس على قدر عقولهم والتجاوز عن سيئاتهم والترفع من متابعة هفواتهم، رفقاً يتجلى فيه اللين وتمحى من ساحته الغلظة ، فلا خشونة عند التعامل ولا جفوة بعد التخاصم ، ولا طغيان عند البغي ، هكذا يريدنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في أبعادنا العلمية والايمانية والاخلاقية ، وهكذا كان هو ـ روحي له الفدى ـ مجسداً لأخلاق القرآن ، وسنته العملية هي التعبير الادق لكلِّ ذلك الخُلق النبوي العظيم ، ولاجل هذه الحقيقة الناصعة والمحجة البيضاء عرّفه ربه سبحانه وتعالى بقوله : ( وَإِنَّكَ
لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ).
٨ ـ الله رفيق يحب
الرفق :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «
إنّ الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه »
.
وفي حديث آخر قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
إنَّ الله عزَّ وجل رفيق يحب الرفق في الأمر
__________________
كلّه
» .
فالله جلَّ جلاله رفيق ، والرفق خلقه ،
إذ هو اللطيف بعباده والرحمن بخلقه والرحيم بالمؤمنين ، يرأف ويتحنن ويعفو ويسامح ويغفر ويتوب ، برٌّ كريم ، ودود حليم ، وهو ـ جلّ ثناؤه ـ يحب لنا أن نتخلق بأخلاقه حتى نغدوا ربانيين بأخلاقنا ؛ فربنا الصادق يحب لنا أن نكون صادقين ، وربنا المحسن يحب لنا أن نكون محسنين ، وربنا الرفيق يحب لنا أن نكون رفقاء. ولاشك أنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
٩ ـ الله يعين على
الرفق :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
إنّ الله يحب الرفق ويعين عليه »
.
في هذا الحديث المبارك يبين لنا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن الله مع
كونه يحب الرفق ، فهو سبحانه يعين عليه ، فمن أراد التخلق بالرفق وسعى لاكتساب هذه الفضيلة فإنّ المد الإلهي يُقبل عليه ويقوّي فيه هذه العزيمة ، وهذا كقوله تعالى : (
إِنَّهُمْ
فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
) فبعد أن أقبلوا على الايمان زادهم الله هدىً ، فكذا الحال في اكتساب سجية الرفق ، فإنّ الله يعين الساعين إليها بأن يسهل لهم سبل الوصول إلى بغيتهم التكاملية هذه.
فإذا وجدنا أنفسنا غير متخلقين بهذه
السجية الفاضلة فإنّ العيب فينا ، __________________
إذ لم نسع نحوها
حتى تُقْبِل هي إلينا.
١٠ ـ الرفق رأس
الحكمة :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
« الرفق رأس الحكمة ، اللّهم من وليَ شيئاً من أمور أُمتي فرفق بهم ، فارفق به ، ومن شقق عليهم فاشقق عليه »
.
الحكمة كما لا يخفى هي وضع الشيء
في محله ، ولما كان الرفق هو من محامد الصفات التي يتصف بها الخالق المتعال وأنبياءه الكرام وذوي الحجى والالباب ، وبه يعالجون سقم الناس ، فهو الدواء المحكمة مراهمه ، والبلسم الناجح شفاؤه ، ينفع مع الفرد في تطبيبه وتهذيبه ، ومع الاُمّة في تدبير أمرها وسَوْسها.
فالنبي الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن
يعرّف الرفق بأنه رأس الحكمة ، يتوجه إلى ربه بالدعاء بالرفق لمن يرفق بمن وُليَّ عليه ، وبالمشقة على من
يشق عليهم ، ولاشك أن دعوة المصطفى حبيب الله هي دعوة مستجابة حتماً ، وهي في الوقت نفسه كشف عن قانون وإرادة سماوية في المكافأة والمجازاة على الأفعال.
١١ ـ أفضل الصاحبين
:
الصحبة في الله عمل ممدوح ، باركه
الإسلام كثيراً ، وحثّ عليه ، وبشّر أهله بالثواب الجزيل والمنزلة الرفيعة ، لكن بين المتصاحبين في الله تفاضل ، فأحدهما أرفع منزلةً وأعظم أجراً من أخيه ، فبأيّ مزيّة نال هذا __________________
التفضيل ؟
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يكشف لنا عن سرِّ هذه المفاضلة ، فيقول : «
ما اصطحب اثنان إلاّ كان أعظمهما أجراً وأحبّهما إلى الله عزَّ وجل :
أرفقهما بصاحبه » .
الرفق إذن هو الذي رفع أحد الصاحبين على
أخيه درجةً ، وشرّفه بمنزلة من حبّ الله أعلى.
١٢ ـ الزيادة والبركة
:
إنّ الله تعالى ليجازي عباده على
مكارم الاخلاق في الدنيا فيريهم ثمراتها ، كما يدّخر لهم ليوم لقائه ما هو أنمى وأبقى ، فما الذي
يراه المتحلّي بالرفق في دنياه ؟
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إنّ في الرفق الزيادة والبركة ، ومن يُحرم الرفق يُحرم الخير »
.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
ما زوي الرفق عن أهل بيت إلاّ زويَ عنهم الخير »
.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس »
.
وقال الإمام الصادق عليهالسلام : «
أيّما أهل بيت اُعطوا حظّهم من الرفق فقد وسّع الله عليهم في الرزق ، والرفق في تقدير المعيشة خيرٌ من السعة في المال ،
__________________
والرفق لا يعجز عنه شيء والتبذير لا
يبقى معه شيء ، إنّ
الله عزّ وجلّ رفيق يحبّ الرفق » .
١٣ ـ الرفق سور
الايمان :
عن هشام بن أحمر ، قال : جرى
بيني وبين رجل من القوم كلام ، فقال لي أبو الحسن عليهالسلام
: «
ارفق بهم ، فإنّ كُفرَ أحدهم في غضبه ، ولا خير في من كان كفره في غضبه » .
وفي كلام بعض الصالحين : ما تكلّم الناس
بكلمة صعبة ، إلاّ وإلى جانبها كلمة ألين منها تجري مجراها .
١٤ ـ الرفق في حقوق
المؤمنين :
ركّز الإسلام كثيراً عنايته بحقوق
المؤمنين بعضهم على بعض ، حفظاً لكرامة الإنسان المؤمن ، وصيانة للمجتمع ورصّاً لصفوفه ، قال تعالى : ( وَالمُؤْمِنُونَ
وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
) .
والرفق واحد من تلك الحقوق التي ينبغي
حفظها ، وفي ( رسالة الحقوق ) التي أفاض بها الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهالسلام أكمل دستور يتناول شعب الحقوق وجوانبها وألوانها ، وفيها تجد للرفق حظّه المبرّز وهو يوزعه على أولى الفئات التي ينبغي أن يحفظ لها حقّها فيه ، __________________
ومنها :
المسلمون
عامّة :
قال عليهالسلام
: «
وحقّ أهل ملّتك : إضمار السلامة ، والرحمة لهم ، والرفق بمسيئهم ، وتألّفهم ، واستصلاحهم ، وشكر محسنهم ، وكفّ الاذى عنهم »
.
المستنصح
:
وقال عليهالسلام
: «
وحق المستنصح : أن تؤدّي إليه النصيحة ، وليكن مذهبك الرحمة له والرفق به » .
الزوجة
:
وقال عليهالسلام
: «
حقُّ الزوجة : أن تعلم أنّ الله عزّوجلّ جعلها لك سكناً وأُنساً وتعلم أنّ ذلك نعمةً من الله عليك ، فتكرمها ، وترفق بها ، وإن كان حقك عليها أوجب فإنّ لها عليك أن ترحمها لأنّها أسيرك ، وتطعمها وتسقيها وتكسوها ، وإذا جهلتْ عفوتَ عنها » .
وفي الزوجة جاءت وصية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
رفقاً بالقوارير » .
الصغير
:
وقال عليهالسلام
: «
وحق الصغير : رحمته في تعليمه ، والعفو عنه ، والستر عليه ، __________________
والرفق به ، والمعونة له »
.
وهكذا يزيّن الرفق أخلاق المرء وحياته ،
بل أخلاق المجتمع كلّه ، ليسهم مع إخوانه من مكارم الاخلاق في بناء انسان متكامل ومجتمع متين متجانس يسوده الائتلاف والوئام، وتتجذّر فيه كلّ عناصر الصحة والقوّة والصلاح.
١٥ ـ الرفق بالحيوان
:
الرفق مع الاقتدار ، مبدأ ، وليس وسيلة
لتحقيق غاية آنية أو مرحلية ، من هنا فليس هناك حدّ زمني بين الرفق وضدّه ، بل قد يكون هناك حدّ تفرضه طبيعة سلوك الطرف الآخر المقصود بالرفق ، طبيعة سلوكه وليس ذاته .. فالتحوّل مع الطفل من الرفق الظاهر إلى التأديب اللازم أمر يفرضه سلوك الطفل لا ذات الطفولة التي كنا قبل صدور هذا السلوك نتعامل معها بالرفق كلّه .. وكذا فالذات الاِنسانية أيضاً لا تحتكر الرفق لنفسها ، بل تشاركها فيه كلّ ذوات الأرواح ، وحتّى النبات ، وربما الجمادات الميتة أيضاً ، فلربما رأيتَ صبياً يعبث بالحصى بكلِّ عنف ، يهشم ويحطم ، فأخذتك على هذه الحصى شفقة ، أو أثار فيك المنظر اشمئزازاً. وهذا شأن الخُلق حين يكون متأصلاً في الفطرة ، فكيف بك وأنت ترى معتوهاً يبطش ببهيمة ضعيفة لا تملك الدفاع عن نفسها ولا حيلة لها بالفرار من بين يديه ، إلاّ أنها تصرخ وتجأر بكلِّ ما تحسبه يرقّق القلوب ويستدرّ العواطف عليها من صوت ؟
__________________
وكم استغلّ الشذوذ البشري ضعف الحيوان
وقلّة حيلته ليتخذه وسيلة للعبه وطيشه ، فيجري عليه تجارب طيش معتوه بفنون الحبس وفنون التعذيب ، وربما اتخذها مخبراً لقدراته في الصيد ، فيجندل منها حتى يروّي غروره فيعود منتفخ الصدر ومن ورائه عشرات الجثث الهامدة من أنواع الحيوان التي كانت تملأ الصحارى والحقول والاَنهار والخلجان روحاً وحركة وزينة وحياة ..
فإذا كان الإسلام دين الهداية الحقّة
الذي أخذ على عاتقه مسؤولية نظم الحياة واعمار الدنيا ، فلا تفوته العناية بالحيوان وحفظ حقّه ، بعد أن أعطى الإنسان ما يستحقه ، بل بعد أن تعدّت رعايته للنبات الذي جعل تعاهده ورعايته عبادةً جزاؤها الثواب العظيم ، وأعطى في الجنة شجرة تضلّه لمن غرس في الدنيا مثلها ، وزاد على ذلك أن نفخ في رُوع تابعه أن لو كانت بيدك فسيلة ، وليس بينك وبين قيام الساعة إلاّ أن تغرس هذه الفسيلة فاغرسها قبل قيام الساعة !
ترى كيف كانت رعايته للحيوان الذي يعيش
مع الإنسان ويساهم في اعمار دنياه ؟
صاحبة السفر :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
إنَّ الله يحب الرفق ويعين عليه ، فإذا ركبتم الدواب العجف فأنزلوها منازلها ، فإن كانت الارض مجدبة فانجوا عنها ، وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها » .
__________________
إنّها تحملكم وتحمل أثقالكم ، وكلّ
عزائها أن تمرّ بأرض مخصبة تنهش منها أو ترتع فيها فتقوى على أمرها وتخفّف العناء عن نفسها ، فلا تصنعوا معها صنع الحانق الناقم ، أو الغافل الذي همّه نفسه وقد هيّأ لها الماء والزاد والراحلة دون أن يشعر بأن راحلته لها روح مثله ، فهي تضمأ وتجوع وتجهد مثله ..
وفي المعنى ذاته قال أبو جعفر الباقر عليهالسلام : «
إذا سرت في أرض خصبة فارفق بالسير ، واذا سرت في أرض مجدبة فعجّل بالسير »
.
وذاك الذي همّه نفسه ، سيهرع إذا بلغ
مقصده إلى أدنى فراش طلباً للاسترخاء ، ويدعو عاجلاً بالماء والطعام فلقد أضناه السفر.. تاركاً وراءه ظهراً حمله الطريق كلّه ، لأنّه لا يملك نطقاً يفصح فيه عن عنائه وحاجته ، وربما لو نطقت أيضاً لما كان حظّها أحسن عند هؤلاء !! ولهؤلاء يقول رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
من سافر منكم بدابةٍ فليبدأ حين ينزل بعلفها وسقيها »
قبل ان ينشغل بطعام نفسه وسقيها ..
حقوق الحيوان :
إنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
أبصر ناقة معقولة وعليها جَهازها ، فقال: « أين صاحب هذه الراحلة ، ألا تتقي الله فيها ، إما أن تعلفها ، وإما أن ترسلها حتى تبتغي
لنفسها » .
هذه هي العدالة النموذجية.
__________________
النبي ينصب محكمة لمن يترك الحمل على
البعير في حالة توقفه عن السير ولا يدعه يستريح خلال هذا التوقف.
لا تتخذوها كراسي :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
اركبوا هذه الدواب سالمة ودعوها سالمة ، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق ، فربّ مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكراً لله تبارك وتعالى منه »
!.
فليس من حق المستخدم للدابة في الحمل
والتنقل أن يتخذ منها كرسياً لحديثه وتأمّله وتفرّجه ، فيوقفها وهو على ظهرها من أجل التأمل بمنظر أو الحديث مع شخص ، بل يلزمه النزول من على ظهرها حتى يقضي حاجته ثم يمتطيها لسفره.
ثم يلزمه أن لا يركبها إلاّ وهي سالمة
حتى لا يجهدها ويشق عليها ، ويضيف بذلك علة مرضية اُخرى إلى علتها الاولى كما هو ملزم
أيضاً أن ينزل من عليها وهي سالمة وهذا يعني مراعاتها في سفره في الاكل والشرب والراحة.
ضرب الدابة :
حج علي بن الحسين عليهماالسلام على ناقة
أربعين حجة فما قرعها بسوط .
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
اضربوها على النفار ولا تضربوها على العثار »
.
__________________
وضربها على النفار تأديب لها على
الوضع الطبيعي الذي لا يخرجها عن مهمتها التي شاءها الله لها في الطاعة عند التسفير من حيثُ كونها مسخرة للانسان ، وقد ذللها الله له ، أي جعلها سهلة الانقياد ، والضربُ حال ترويضها وتأديبها عندما تنفر لا يمنع منه الإسلام ويقبله العقل. أما في حالة عثارها فهذا أمر لا يتعمده الحيوان بل هو يجري عليه دون اختيار. كما يحصل للانسان ، أيضاً فمن المنطقي أن لا يؤاخذ عليه الحيوان ، وهذا ما جاءت به الشريعة الغراء.
هذه التعاليم المباركة قد لا يجد فيها
إنسان العصر الحديث شيئاً جديداً في الرفق واللطف ، أما في ذلك الزمن البعيد وقبل أربعة عشر قرن فهي تعاليم جديدة أوقدت مصباح الرفق في دنيا الغلظة وحنادس الجهل .
ست خصال
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
للدابة على صاحبها ست خصال : يعلفها إذا نزل ، ويعرض عليها الماء إذا مرّ به ، ولا يضربها إلاّ على حقّ ، ولا يُحمّلها ما
لا تطيق ، ولا يكلفّها من السير إلاّ طاقتها ، ولا يقف عليها أفواقاً »
.
داجن البيت :
وفي حديث وفاة أمير المؤمنين عليهالسلام قالت أم كلثوم : «
ثم نزل إلى الدار __________________
وكان في الدار وز قد
أُهديَ إلى أخي الحسن عليهالسلام
فلما نزل خرجن وراءه وصحن في وجهه وكنّ قبل تلك الليلة لم يصحن ، ثم قال : «
يابنية بحقي عليك إلاّ ما اطلقتيه فقد حبستِ ما ليس له لسان ولا يقدر على الكلام إذا
جاع أو عطش ، فأطعميه واسقيه ، وإلاّ خلّي سبيله يأكل من خشاش الأرض »
» .
عُذبت امرأةٌ في
هرّة :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
رأيت في النار صاحبة الهرة تنهشها مقبلةً ومدبرة ، كانت أوثقتها ، فلم تكن تطعمها ولم تُرسلها تأكل من خشاش الأرض »
. فالعدل الالهي إذن بالمرصاد لمن لا يرفق بالحيوان.
غُفر لامرأة في كلب
:
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
غفر الله لامرأة مومسة مرّت بكلب على رأس رَكِيٍّ ، يلهث كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك » .
فاللطف والرحمة والعفو والمغفرة اذن تشمل المومسة إذا صدر عنها مثل هذا الرفق بالحيوان ، فما بال من يدرك ذي لهفة من بني الإنسان ويرفق بالضعيف والمحتاج واليتيم والارملة وما شاكل ذلك ؟
قتل الحيوان بغير حق
:
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
ما من دابة ، طائرٍ ولا غيره ، يُقتل بغير الحق إلاّ
__________________
ستخاصمه يوم القيامة »
. نعم ، ( وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ )
وحشر الناس لربِّ العالمين ستظهر العدالة الكاملة في يوم التغابن فلا مظلومية يعفو عليها الزمان حتى مظلومية الحيوانات.. « ما من إنسان يقتل
عصفوراً فما فوقها بغير حقّها إلاّ سأله الله عنها يوم القيامة »
.
أحسنوا الذبح :
إذا كان الله تعالى قد كرّم
الإنسان وسخّر له ما في السموات وما في الأرض ، بما في ذلك أصناف من الحيوان يتقوّت بلحومها ، يضع حدّاً لحياتها من أجل أن يقيم حياته ، فإنّه تعالى برٌّ رؤوف رحيم بهذه المخلوقات التي أدّت رسالة خُلقت لأجلها ، فلا يرضى استغلال اباحتها بما يتنافى مع الرحمة والرأفة والرفق بها ، فأمر عباده على لسان نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، صاحب الخُلق العظيم ، الذي لا ينطق عن الهوى ، إذ قال : «
إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، ليحدّ أحدكم شفرته ، ليريح ذبيحته »
.
قتل العصفور :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
من قتل عصفوراً عبثاً عج إلى الله يوم القيامة منه يقول : ياربِّ إن فلاناً قتلني عبثاً ولم يقتلني لمنفعة »
.
__________________
قتل المؤذي :
وعن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
نهى عن قتل كل ذي روح إلاّ ان يؤذي »
.
وبهذه التعاليم المسالمة والرحيمة
بالحيوان يربي الإسلام أتباعه على الهدفية النافعة غير العبثية ، ويصنع من أحدهم مخلوقاً وديعاً رؤوفاً رحيماً يرفق بالضعيف ولا يطغى عليه .. فهنيئاً لمن صاغ الإسلام شخصيتهم على فضائله ومكارم أخلاقه حتى صاروا وجوداً نافعاً لا ضرر فيه.
حضارة الغرب والرفق
بالحيوان :
لعلّ الحضارة الغربية التي تتبجح
بتأسيسها جمعيات الرفق بالحيوان وإنفاقها الكثير في توفير الخدمات الصحية للحيوان وحمايته وتحسين أحواله المعيشية .. لكنّها ..
أولاً :
هل تملك مثل هذا الرصيد في عمق التأريخ ، تستند إليه في طروحاتها المعاصرة... ؟!
وثانياً :
هل تستطيع أن تفتح للاِنسان اُفق السماء ، وتعِده بالعفو والمغفرة الإلهية والنعيم الأبدي بغير الرجوع إلى الإسلام ؟!
وثالثاً :
أليس الأجدر بدعاة الرفق بالحيوان الاعتزاز بمن دعا إلى ذلك في عمق الزمان ، والانتساب إليه في المبدأ والطروح ، والاخذ عنه بما هو أهم من ذلك فيما يعود للانسان ؟!
ورابعاً :
وأخيراً ، هل يخفى على الضمير
الحيّ هذا التناقض البشع __________________
المريع بين
مايدّعونه وينفقونه في خدمة الحيوان عامة ، والكلاب خاصّة ، وبين واقعهم الوحشي الذي قام وتنامى على دماء الشعوب البريئة وطاقاتها ؟
إنّ اللبنة الاولى التي أنشأت
عليها الحضارة الغربية المعاصرة كانت تجارة الرقيق ! العمل الوحشي المشين ! الذي ما كان يجري ـ مع بشاعته ـ إلاّ بأبشع الأساليب وأكثرها همجيّةً وعدواناً ، إذ يباغتون أبناء القرى الضعيفة في افريقيا ، فيقتطعون منهم من شاءوا من الشباب والنساء ، غير مبالين بأطفال يفصلون بهذه الطريقة عن اُمّهاتهم ، ولا بالاُمهات يُسَقن قسراً تحت وقع السياط بعيداً عن أطفالهن وازواجهن وبيوتهن !
لقد عرفت هذه الحضارة لكلاب اُوربا من
الحقوق ما لا تعرفه لجميع شعوب العالم ! ولم تنته سياسة امتهان الشعوب وسحق الاطفال والنساء في عالم يدّعي مناصرة الطفل والمرأة ويعلن حروباً تحت هذا الستار ، لم تنته هذه السياسة بانتهاء زمن تجارة الرقيق ، بل هي السياسة القائمة اليوم في ظل ما يسمى ب ( النظام الأمني الجديد )
! إنّه التناقض المفضوح ، ولكنه تناقض الأقوياء الذين يغلّفون سوءاتهم بما يمتلكون من قوّة وبطش وقدرة على إلجام الضعفاء.
الفصل الثالث
الرفق
آفاقه وفلسفته
أ
ـ إرفق يرفق بك :
لما كان الله جل شأنه رفيق ويحب الرفق
فلا شك أنّه سبحانه سيقابل رفق الإنسان بأخيه الإنسان ، ورفق الإنسان بالحيوان بالرفق واللطف والسماحة والتجاوز. فيما يخص تعامل الخالق مع مخلوقه في الدنيا أو ما يعود لمحاسبته في الاخرى قال تعالى : (
هَلْ
جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) .
فعن زين العابدين علي بن الحسين عليهماالسلام إنه قال : «
من وصايا الخضر لموسى عليهالسلام
، ... ما رفق أحد في الدنيا إلاّ رفق الله عزَّ وجل به يوم القيمة »
.
__________________
فمن أراد أن يرفق الله به فما عليه إلاّ
ان يرفق بغيره.
ب ـ قد يكون الرفق
خرقاً :
إذا ادلهمت النفوس بآثامها واُطفىء
مصباح فطرتها وعمت بصيرتها عن معرفة الصواب وضلت عن درب رشدها وسبيل تكاملها لما تجمع من صدأ الذنوب على أفئدتها (
كَلاَّ
بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ
) . فعند ذلك لا تستذوق تلك النفوس الفاسقة المنحرفة حلاوة الرفق الذي يستعمل معها ويستخدم من أجل خيرها وصلاحها ، فهي تقابل الرفق واللين واللطف والرحمة والسماحة والتجاوز أو العطف والرأفة بما يضاد ذلك من الخرق والشدة والغلظة والقسوة وتتبع العثرات والمحاسبة على الزلات والنقمة واللؤم.
والحكمة تقتضي التعامل مع هذه النوعية
من النفوس الخائبة الخاسرة بما يناسب ذلك مما يؤدي إلى تأديب نزقها وتعديل مسارها ، وتقويم اعوجاجها فقد ورد عن أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
وإذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً » .
وعليه فان من لا يصلحه الرفق أصلحته
الشدّة ، ومن لم يتقوّم بالمسامحة تَقوّم بالمحاسبة ، ومن إذا ما رفقت به اندفع في غيّه وعناده وغروره وغطرسته ولم ينتفع بما تقدّمه له من علاج ناجح ودواء نافع فما عليك إلاّ تركه في مستنقع مرضه الاخلاقي وسقمه السلوكي ودائه الذي __________________
هو فيه حتى يتحول
هذا الداء إلى موقظ له من غفلته ، فيصحوا بعد مصارعته طويلاً ومعاناته كثيراً بما سيجرّه عليه من بلاء وخيم حتى يتحسس ويدرك ما ينفعه مما يضرّه ، فإن استقام فهو المطلوب وإلاّ فدع ما به يقضي عليه وهو حسبه.
وفي الشعر الحكمي :
|
ووضع الندى في موضع السيف بالعُلا
|
|
|
|
مضرٌّ ، كوضع السيف في موضع الندى
|
| |
|
|
وعن أمير المؤمنين عليهالسلام أيضاً : «
من لم يصلحه حسن المداراة يصلحه حُسن المكافأة » .
ومن كتاب لأمير المؤمنين عليهالسلام إلى بعض
عماله «
واخلط الشدة بضغث من اللين وارفق ما كان الرفق أرفق »
.
وفي غرر الحكم : «
اخلط الشدّة برفق ، وارفق ما كان الرفق أرفق ».
فالمحمود عند اعتدال الاصول هو التوسط
بين اللين والعنف ، كما في سائر الأخلاق.. يقول الغزالي : لمّا كانت الطباع إلى العنف والحدّة أميل ، كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر ، فلذلك أكّد الشرع على
جانب الرفق دون العنف ، وإن كان العنف في محلّه حسناً ، كما أن الرفق __________________
في محلّه حسن.. فإذا
كان الواجب هو العنف فقد وافق الحقُّ الهوى ، وهو ألذّ من الزبد بالشهد !..
والحاجة إلى العنف قد تقع ولكن على
الندور ، وإنّما الكامل من يميّز مواقع العنف فيعطي كلّ أمرٍ حقّه ، فإنْ كان قاصر البصيرة ، أو أشكل عليه حكم واقعةٍ من الوقائع فليكن ميله إلى الرفق فإنّ النجاح معه في الأكثر
فالرفق هو وسيلة التعامل الفضلى
ما أدى الغرض وأصاب الهدف الاصلاحي وحقق الغاية المنشودة ، إلاّ اذا كانت النتيجة خلافاً لذلك المبتغى ولم يكن الرفق أوفق فيتوسل بالشدة من أجل الردع المقوِّم والهادي إلى سواء الصراط.
ج ـ الرفق في
العبادة :
معلوم أمر العبادة أنها على نمطين
اثنين : واجبة ومستحبة.
فالاُولى :
فرض يلزم الاتيان بها بحدودها وكيفياتها وتوقيفاتها..
والثانية :
لك فيها الخيار في إثباتها وعدمه ، إلاّ أنّ الاتيان فيه ثواب مضاعف وأجر جزيل ومردودات ايجابية على شخصيتك وبنائها التكاملي.
وما قد فرضه الله الحكيم سبحانه هو على
قدر طاقة الانسان فلم يكلفه ما لا يقدر عليه :
__________________
(
لا
يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا
) .
(
لا
يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا
) .
(
فَمَن
كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) .
(
وَللهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً
) .
(
وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ )
(
وَلا
عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ ) .
(
يُرِيدُ
اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
) .
(
وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
) .
هذهِ الآيات المباركات وغيرها تخص
العبادات الواجبات وليس المستحبات ، وكلّها تتحدث عن مراعاة الله ، فيها طاقة الإنسان ومقدوره وترفع عنه الاصر ولا تثقل عليه بما يشق عليه وبما يسبب له حرجاً أو __________________
عسراً في أمر من
الامور العبادية ، وتفصيل ذلك والوقوف عند كل آية لايتسع له هذا البحث.
فالله جلَّ جلاله يرفق بهذا العبد
ويلزمه بالتكاليف الممكنة والسهلة ويرضى منه باليسير اذا ما جاء وفق الضوابط الشرعية.
ويؤكد هذا ما جاء في كتاب أمير المؤمنين
عليهالسلام
إلى الحارث الهمداني «
خادع نفسك في العبادة ، وارفق بها ولا تقهرها ، وخذ عفوها ونشاطها ، إلاّ ماكان مكتوباً عليك من الفريضة ، فإنّه لابدّ من قضائها وتعاهدها عند محلها »
.
المخاطب بالتكاليف والوعظ والنصح هو
الإنسان ، والإنسان إنسان بعقله إذ لا يحاسب إلاّ على قدر ذلك العقل الذي آتاه الله.
ولهذا نجد أمير المؤمنين عليهالسلام قد خاطب في كتابه
الشريف العقلَ وحمّله مسؤولية مخادعة النفس وعدم تفويت الفرصة على مخادعتها والمكر بها قبل أن تمكر هي به ، فخداع العقل ومكره يعني التخطيط السليم للهدف السليم ، وخداع النفس ومكرها هو على العكس من ذلك ، فمن أراد كبح جماح نفسه وتحرير إرادته وعقله من أسر هواها ، فما عليه إلاّ أن يجعل المبادرة بيد عقله حتى يسجّل في ميدان الصراع سبقاً وغلبة على نفسه الأمّارة بالسوء.
ولما كانت النفس تميل إلى التحلل
من التكاليف ومنها العبادة ، فما على العقل إلاّ أن يمكر بها ويخدعها بخطة خفية يبرمج فيها أوقات هذه النفس على ما ليس فيه الملل من العبادة التي لابدّ من الالتزام بها لإسعاف وجودها العاقل حتى تنمو وتسمو وتتقدم في مدارج الكمال.
__________________
والرفق بها في هذا المجال يعني عدم
تحميلها ما لا تطيق من المسنونات المستحبة ككل ما جاء من الاوراد والاذكار والادعية والصلوات ، إذ إن قهرها على ذلك يولّد ردة فعل معاكسة ـ والعياذ بالله ـ تسأم فيه الإسلام كله ، فلابدّ إذن من الرفق بها وأخذها بالتدريج وبما تتسع له حركتها ونشاطها ، بل وعدم أخذها بما يوقف حركتها أو يحدّ من نشاطها وينفّرها من المستحبات ، بل عليه أن يقهرها في الواجبات على وفق الشروط والحدود والأوقات ، لأنها تكاليف من الحكيم الرحيم على قدر الطاقة والسعة. وما تَعلّلُ النفس وتسويفها إزاء تلك الواجبات إلاّ طغيان منها يجب قمعه من أجل إصلاحها.
|
والنفسُ كالطفل إن تُهمله شب على
|
|
حبّ الرضاعِ ، وإن تفطمه ينفطمِ
|
فالرفق بالنفس وترويضها على العبادة
المستحبة التي تطيقها هو السبيل الأمثل في منهجية التكامل ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
خذوا من العبادة ما تطيقون ، فإنّ الله لا يسأم حتى تسأموا »
.
وعن حفيده الإمام الصادق عليهالسلام : «
لا تُكرِّهوا إلى أنفسكم العبادة »
.
فمن أكره نفسه على العبادات
المستحبة بما تملّ منه فقد كرّه العبادة إلى نفسه.
د
ـ الرفق والتعمق في الدين :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
إياكم والتعمّق في الدين ، فإنّ الله قد جعله سهلاً
__________________
فخذوا منه ما تُطيقون ، فإنّ الله يحبّ مادامَ
من عملٍ صالحٍ وإن كان يسيراً »
.
وهذا أمير المؤمنين عليهالسلام يعنّف أحد أصحابه
حين كلّف نفسه مالا يأمر به الله ولا سُنّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وهو يظنّ أنّه متعمّق في العبادة ! ذلك أنّ أمير المؤمنين عليهالسلام
قد زار العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه... ، فقال له العلاء ، يا أمير المؤمنين ، أشكو اليك أخي عاصم بن زياد. قال عليهالسلام : «
وماله » ؟ قال : لبس العباءة وتخلى عن
الدنيا. قال عليهالسلام
: «
عليَّ به ». فلما جاء قال عليهالسلام
: «
يا عَدُي نَفسِهِ ! لقد استهامَ بِكَ الخبيثُ ! أما رحمت أهلك وولدَكَ ! أترى الله أحلَّ لكَ الطيَّباتِ ، وهو يكرهُ أن تأخذها ! أنت أهونُ على
الله من ذلكَ » !
قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في
خشونة ملبسك وجُشوبة مأكلك ! قال عليهالسلام
: «
ويحكَ ، إنِّي لستُ كأنتَ ، إنَّ اللهَ تعالى فرضَ على أئمة العدل (
الحق ) أن يُقَدِّروا أنفسهم بضعفةِ النَّاس ، كيلا يتبيغ بالفقير فقرُهُ »
.
التحذير من التعمّق في الدين يخص الجهلة
به والذين يغورون في بحره بجهلهم دون علم ودراية وتدبّر ، حتى يختنقوا بأوهامهم وتصوراتهم التي لا تقوم على اُسس موضوعية ، وعندها يخيّل إليهم أن الدين شاقّ في تكاليفه ، عسير في عباداته ، والحال هو العكس تماماً إلاّ أنهم أخذوا بالمستحبات مأخذ الواجبات ، فشقَّ عليهم الأمر وخرجوا بالنتيجة المغلوطة. أو أنّهم وسوسوا في الغسل والوضوء والطهارة والنجاسة وألفاظ الصلاة فملّوه. ولو أنّهم أخذوا بما يطيقون لوجدوه سهلاً يسيراً ، __________________
ولو لم يوسوسوا فيه
لما ملَّوه.
ه ـ الوغول في
الدين برفق :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، ولا تُكرِّهوا عبادة الله إلى عباد الله فتكونوا كالراكب المُنْبَتِّ الذي لا سفراً قطع
ولا ظهراً أبقى » .
نعم إنّ هذا الدين متين ، لأنّه دين
لكلِّ زمان ولكلِّ مكان ، وكتابه تبيان لكلِّ شيء.. فمن لم يدخل إلى حريمه برفق ، وفق منهجية حكيمة ، ينبهر بجماله ، أو يصطدم بجلاله ، ومن يتكلّف العبادة دفعة واحدة دون التدرج المرحلي المناسب للداخل في هذا الدين يصعب عليه تحمل هذا الدين ، فيتركه ، وبتركه والعياذ بالله يترك سعادته الدنيوية والاخروية. وعلى المسلم الرسالي أن يتصرف بحكمة متناهية في الدقة مع من يكسبه إلى الإسلام ، ولا يحمله ما لا يطيق فيكره الإسلام والدين وعبادة ربِّ العالمين والله يقبل اليسير.
عن أبي عبدالله عليهالسلام قال: «
اجتهدت في العبادة وأنا شاب فقال لي أبي : يا بني دون ما أراك تصنع ، فأنّ الله عزّ وجلّ إذا أحب عبداً رضي عنه باليسير »
.
وعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «
إنَّ النفس ملولة وإنّ أحدكم لا يدري ما قدر المدة ، فلينظر من العبادة ما يطيق ، ثم ليداوم عليه ، فإنّ أحبَّ الأعمال إلى
الله ما
__________________
دِيم عليه وإن قلّ »
.
فالنبي الأكرم في هذا الحديث وغيره يؤكد
لنا حقيقة أنّ النفوس تملُّ ، وعلينا أن نرفق بها في أن لا نكلفها ما لا تطيق ، وأن نستديم على اليسير من المسنونات التي لا تنفر منها نفوسنا ، وذاك أحبّ عند الله.
و ـ الرفيق من يرفقك
على صلاح دينك :
عن الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام : «
إنّما سمّي الرفيق رفيقاً لأنّه يرفقك على صلاح دينك فمن أعانك على صلاح دينك فهو الرفيق »
.
فاختر لنفسك رفيقاً يرفق بك على صلاح
دينك ويعينك على تكامل سبيلك.
الرفق والإيمان :
عن الإمام الباقر عليهالسلام : «
من قسم له الرفق قسم له الايمان »
، هذا يعني أن الرفق يفضي إلى الإيمان.
وعن الإمام الباقر عليهالسلام : «
لكلِّ شيء قفل ، وقفل الإيمان الرفق »
فمن كان رفيقاً بنفسه وبالناس وبالحيوان كان قلبه منفتحاً للإيمان.
__________________
نتائج عدم الرفق
بالنفس :
إنَّ قصة البقرة في القرآن قصة طريفة
تحكي سهولة التشريع الإلهي ، وتشديد الإنسان على نفسه فيما يضعه من قيود وضوابط لم يكن ملزم بها من قبل ربه ، فبنو إسرائيل بعد أن ضيّقوا على أنفسهم ضيّق الله عليهم ، أذ لم يطلب منهم إلاّ ذبح بقرة نكرة. غير معرّفة بوصف معين كما هو منطوق الآية الشريفة (
وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً )
فهو سبحانه
لم يعرّفها بالالف واللام ليسهل عليهم التكليف وليتحقق مراده بذبح أي بقرة أرادوا ذبحها ، وتحل مشكلتهم تلك بمعرفة الجاني الذي قتل أحد مشايخهم الاثرياء بضربه ببعضها ليحيا ويشخّص لهم القاتل وينتهي الخلاف المتأزم بينهم.
إلاّ أنهم مارسوا اللجاجة وماطلوا
كثيراً في أداء التكليف ، متّهمين موسى عليهالسلام
بالهزو فيهم ، إذ قالوا : (
أَتَتَّخِذُنَا
هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ )
؛ لأن الهزو يناسب الجُهّال وهو كليم الله (
قَالُوا
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ )
ظناً منهم أنها ذات خصوصية فريدة في أوصافها قال : ( إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ
) أي ليست مسنة ولا صغيرة وإنّما هي ( عَوَانٌ
بَيْنَ ذَلِكَ ) أي متوسطة ( فَافْعَلُوا مَا
تُؤْمَرُونَ )
في ذبح هكذا بقرة ولا تماطلوا (
قَالُوا
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا
) متكلفين __________________
البحث فيما ليس
مطلوباً منهم ومشددين على أنفسهم بما لم يشدد به عليهم ( قَالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ )
غير أنّهم لم يقفوا عند هذا الحد من اللجاجة والمماطلة فيذبحوا بقرة صفراء متوسطة العمر ، وما أكثر البقر الذي يتمتع بهذه المواصفات ، فلم يريحوا أنفسهم ولا نبيهم من عناء البحث والتدقيق بل نراهم اندفعوا في أسئلتهم التي تعقّد عليهم الأمر (
قَالُوا
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا )
؟!! ( وَإِنَّا
إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ
) يالهم من حمقى لا يرفقون بأنفسهم ولا يتأدبون مع نبيهم ، إذ لم يسكتوا عما سكت عنه ، ويالهم من متكبرين في نفوسهم والفاظهم إذ لم يقولوا ادعُ لنا ربنا وإنّما قالوا ادعُ لنا ربك ؟!!
ومثل هذا الطرح يدلل على ضعف
الإيمان وغلظة الجَنان ، ولعل المقصود من قولهم (
وَإِنَّا
إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ
) يعني إلى
التصديق العملي بأوامرك وتنفيذها ، قال : (
إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ
) بين يدي مالكها ، طبعها النفور وعدم الانصياع ، صعبة لا تنقاد. فهي متمردة على العمل لا ( تُثِيرُ
الأَرْضَ )
أي لا
تستخدم في حراثة الأرض كغيرها من البقر الذلول الذي ذُلّل بين يدي صاحبه (
وَلا
تَسْقِي الحَرْثَ ) إذ هي ترفض العمل كغيرها في إدارة الناعور (
مُسَلَّمَةٌ
) من العيوب
الجسدية ( لاَّ
شِيَةَ فِيهَا ) لونها أصفر بالكامل حتى قرنها
وظلفها. وهكذا شدّد الله عليهم بتشديدهم على أنفسهم (
قَالُوا
الآنَ جِئْتَ بِالحَقِّ ) أي بالوصف __________________
الشامل الكامل ( فَذَبَحُوهَا وَمَا
كَادُوا يَفْعَلُونَ )
للجاجتهم وقد أتعبتهم هذه المواصفات وأبهضهم ثمنها ، إذ لم تكن هناك إلاّ بقرة واحدة تتمتع بهذه الأوصاف النادرة ، ولم يعثروا عليها إلاّ بشق الأنفس ، فلو رفقوا بأنفسهم لرفق الله بهم ، ولكنّهم ضيقوا على أنفسهم فضيق الله عليهم.
روي عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّه قال : «
لولا أنّ بني إسرائيل قالوا : (
وَإِنَّا
إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ
) ما
اُعطوا أبداً ، ولو
أنّهم اعترضوا بقرةً من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكنّهم
شدّدوا فشدّد الله عليهم » .
وعن الإمام علي عليهالسلام : «
لكلِّ دين خلق وخلق الإيمان الرفق »
.
فالرفق إذن خلق الإيمان وهذا يعني أنّك
لا تجد مؤمناً حقاً إلاّ وتجده رفيقاً وسهلاً ليّناً عطوفاً رؤوفاً ، ولا تجد متمتعاً بهذه الخصال إلاّ ووجدته سهل الانقياد إلى الإيمان.
اللّهم أعنا على أن نرفق بأنفسنا
وبمن حولنا ولا تحرمنا رفقك ولطفك يا أرحم الراحمين.
__________________
الخاتمة
إنَّ نظرية الإسلام في الأخلاق الاجتماعية
تقوم على الرفق واللطف والتسامح والتجاوز ، من غير ضعف ولا مداهنة بل من أجل الهداية للرشد والتكامل.
إنّ القرآن المجيد يعتبر التخلّق باللين
ومجانبة الفظاظة والغلظة من أهم عوامل استقطاب الناس في درب الحق ، ويدعو إلى العفو عن المسيء والاستغفار للمذنب ومشاورتهم في الامور العامة ، والعزيمةُ بعد ذلك من حصة القيادة الشرعية.
إنّ القرآن يأمر بخفض الجناح للمؤمنين
رفقاً بهم وتواضعاً لهم وإعزازاً لشخصيتهم.
إنّ القرآن يصف عباد الله المتواضعين
بقوله : ( وَعِبَادُ
الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا
) أي من غير
استعلاء ( وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا )
أي لا يمارون بل يرفقون بالآخرين ولا يحمّلونهم فوق ما يطيقون.
ويعتبر المتواضعين في سيرهم الرسالي هم
الرحمانيون ما داموا متخلقين بالرحمة.
__________________
إنّ القرآن يرى الهجر الجميل هو
النموذج الرسالي الواعي في عملية الدعوة ، ويرفض ترك الآثار السلبية في نفوس المعاندين مادام هناك أمل للعودة للتبليغ في وسطهم.
إنّ القرآن يلزم أتباعه بأن يدفعوا
السيئة بالحسنة وبالطريقة الحسنى ويريد منهم أن يتعاملوا مع الآخرين تعامل الولي الحميم رفقاً بهم من أجل خيرهم وصلاحهم.
إنّ القرآن يعتبر المتخلقين بذلك هم من
اُولي الحظ العظيم في السجايا الفاضلة. ومن أهل الكرامة والنعيم الأبدي.
إنّ أحاديث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تأكد على
الرفق وتنعته بأفضل النعوت ، فهو اليمن والبركة والجمال في الجوهر والمظهر ، وهو الخير والكرم ونصف المعيشة ووزير الحلم.
إنّ الاحاديث الشريفة تؤكد أنّ الله
رفيق ويحب الرفق في الأمر كله ، وأنّ الله سبحانه يعين على الرفق.
إنّ الإسلام يأمر بالرفق بالحيوان
ويحاسب على ذلك دنيا وآخرة.
إنّ أحاديث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والعترة
الطاهرة المطهرة عليهمالسلام
تقول : إرفق بالآخرين يُرفق بك.
إنّ الرفق رأس الحكمة.
إنَّ من لا يستحق الرفق يكون الرفق معه
خرقاً.
إنَّ من لم يصلحه الرفق تصلحه الشدة.
إنَّ من الرفق الرفق بالنفس ، وعدم تحميلها
ما لا تطيق تحت شعار العبادة.
إنَّ من يضيّق على نفسه يضيّق
الله عليه.
على العقل أن يمكر ويخطط لمواجهة
مكر النفس وخداعها.
نهي الجهّال عن التعمّق في الدين من غير
وعي.
إنَّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق.
إنَّ الرفيق من أعانك على صلاح
دينك.
إنَّ الإيمان يفضي إلى الرفق
وإنَّ الرفق يفضي إلى الاِيمان.
والحمدُ
لله ربِّ العالمين
المحتويات
مقدمة المركز .......................................................................... ٥
المقدِّمة ................................................................................ ٧
مدخل في تعريف الرفق ............................................................... ١١
الفصل
الأول
الرفق في القرآن الكريم ............................................................. ١٣
الآية الاولى (
اللين والعفو ) ....................................................... ١٣
الآية الثانية ( خفض
الجناح ) ..................................................... ١٦
الآية الثالثة ( عباد
الرحمن ) ....................................................... ١٨
الآية الرابعة ( هجراً
جميلاً ) ....................................................... ٢١
الآية الخامسة ( ادفع
بالتي هي أحسن ) ............................................ ٢٢
الفصل
الثاني
الرفق في السُنّة المطهّرة ............................................................. ٢٩
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يمدح الرفق .............................................................. ٢٩
١ ـ الرفق يُمنٌ
والخُرق شُؤم ..................................................... ٢٩
٢ ـ الرفق جمال .................................................................. ٣٠
٣ ـ جمال ماهية الرفق
وحسن جوهره ........................................... ٣٠
٤ ـ الرفق خير ................................................................... ٣١
٥ ـ الرفق نصف المعيشة
......................................................... ٣١
٦ ـ الرفق كرم .................................................................. ٣٢
٧ ـ الرفق وزير الحلم ............................................................ ٣٢
٨ ـ الله رفيق يحب
الرفق ......................................................... ٣٣
٩ ـ الله يعين على
الرفق ......................................................... ٣٤
١٠ ـ الرفق رأس الحكمة
......................................................... ٣٥
١١ ـ أفضل الصاحبين ........................................................... ٣٥
١٢ ـ الزيادة والبركة ............................................................ ٣٦
١٣ ـ الرفق سور
الايمان ......................................................... ٣٧
١٤ ـ الرفق في حقوق
المؤمنين ................................................... ٣٧
١٥ ـ الرفق بالحيوان ............................................................. ٣٩
صاحبة السفر ..................................................................... ٤٠
حقوق الحيوان .................................................................... ٤١
لا تتخذوها كراسي ............................................................... ٤٢
ضرب الدابة ...................................................................... ٤٢
ست خصال ...................................................................... ٤٣
داجن البيت ....................................................................... ٤٣
عُذبت امرأةٌ في هرّة ............................................................... ٤٤
غُفر لامرأة في كلب ............................................................... ٤٤
قتل الحيوان بغير حق .............................................................. ٤٤
أحسنوا الذبح ..................................................................... ٤٥
قتل العصفور ...................................................................... ٤٥
قتل المؤذي ........................................................................ ٤٦
حضارة الغرب والرفق
بالحيوان .................................................... ٤٦
الفصل
الثالث
الرفق آفاقه وفلسفته ............................................................... ٤٩
أ ـ ارفق يرفق بك ............................................................... ٤٩
ب ـ قد يكون الرفق
خرقاً ....................................................... ٥٠
ج ـ الرفق في العبادة
............................................................. ٥٢
د ـ الرفق والتعمق في
الدين ...................................................... ٥٥
ه ـ الوغول في الدين
برفق ....................................................... ٥٧
و ـ الرفيق من يرفقك على
صلاح دينك ......................................... ٥٨
الرفق والإيمان ..................................................................... ٥٨
نتائج عدم الرفق
بالنفس .......................................................... ٥٩
الخاتمة ............................................................................... ٦٣
المحتويات ............................................................................ ٦٧
|