

بسم الله الرّحمن
الرّحيم
الحمد لله رب
العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، والصلاة والسّلام على أشرف المرسلين
، الذي بعثه الله بالحنيفية الواضحة والدين القويم ، فهدى الناس من الضلالة
وبصّرهم من العمى وأخرجهم من الظلمات إلى النور ، وعلى آله مصابيح الظلام وهداة
الأنام ، وصحبه القادة المغاوير أولي الآراء الراجحة والحجج الواضحة والمنهاج
المستقيم ، وعلى من سلك طريقه واقتفى أثره وتبع سنّته إلى يوم الدين.
وأما بعد ؛
فإني منذ أكثر من خمسة عشر عاما كنت قد عنيت بتخريج كتاب «الإنصاف ، في مسائل
الخلاف ، بين النحويين البصريين والكوفيين» الذي صنفه الإمام الحجة والعالم الثبت
كمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد ، الأنباري ، النحوي ،
المولود في سنة ٥١٣ ، والمتوفى في سنة ٥٧٧ من الهجرة ، بعد أن قرأت بعض مسائله
لأبنائي من طلبة الدراسات العليا في كلية اللغة العربية إحدى كليات الجامع الأزهر
، وعلّقت عليه تعليقات ذات شأن ، ثم رأيت أن أذيع الكتاب مع شرحي عليه الذي أسميته
«الإنتصاف ، من الإنصاف» ليكون بين يدي قراء العربية «كتاب لطيف ، يشتمل على
مشاهير المسائل الخلافية بين نحويّي البصرة والكوفة ، على ترتيب المسائل الخلافية
بين الشافعي وأبي حنيفة» ، وكان أن قدّمت الكتاب للنّشر ، ولكن أزمة الورق في
أعقاب الحرب العالمية الثانية وقفت حائلا منيعا بين نشر الكتاب مع شرحي عليه ،
وكنت بين اثنتين : إما أن أنشر الكتاب وحده وأترك شرحي الذي كابدت فيه ما لا يعلمه
إلا الله من الجهد والعناء ، وإما أن أتركهما جميعا حتى يأذن الله بنشرهما معا ،
وترددت كثيرا فيما عسى أن أختار من هاتين الخلتين ، وصحّ العزم آخر الأمر على أن
أرضى بنشر كتاب «الإنصاف» غفلا مما كتبته عليه ؛ رغبة في أن يعرفه قراء العربية
ويروا أنه من أفضل ما صنف علماؤنا في فنون العربية ، فيقبلوا عليه ويرتاحوا له.
وظهر الكتاب كما
__________________
أراد الناشرون ، فإذا أماثل العلماء يرضون عنه ويجدون فيه طلبة طالما تاقت
إليها أنفسهم ، وإذا هم يقبلون على قراءته ويستنجزون الوعد بإخراج «الإنتصاف» معه.
وهأنذا أعود
إلى أوراقي التي كنت كتبتها يومئذ فأختار منها ما لا أجد مناصا من إذاعته مما يؤيد
رأيا أو يدفع رأيا ، ومما يشرح شاهدا أو يذكر شاهدا من أشباه ما ذكره المؤلف
وأمثاله ، أو مما يقوّي حجّته ويؤيدها ، أو مما يقع حجة للخصم الآخر عليه ، أو مما
يوجّه الشاهد على غير ما رآه ، ونحو ذلك مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى ، وقد
تركت كثيرا مما كنت أعددته وقت القراءة الأولى مخافة الملال والسّأم ، ولعلّي عائد
إلى هذا الذي تركته اليوم فباسط فيه القول وناشره ، والله المسؤول أن يوفق إلى ذلك
ويهيىء له أسبابه ، ويدفع عنه موانعه ، إنه وليّ الإجابة ، بيده الخير وهو على كل
شيء قدير.
وقد وضعت لكل
مسألة عنوانا وجعلته بين قوسين معقوفين هكذا [].
اللهم إنك تعلم
ما نخفي وما نعلن ، وما يخفى عليك شيء في الأرض ولا في السماء ، ربّ اجعلني ممن
يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، ربّ اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ،
ربّ تقبل مني واقبلني ، وتجاوز عني ، إنك أنت البرّ الرؤوف الرحيم؟
|
كتبه المعتز بالله
محمد محيي الدين
عبد الحميد
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
قال الشيخ
الإمام ، العالم ، الزاهد ، كمال الدين عبد الرحمن بن أبي سعيد الأنباري وفّقه
الله :
الحمد لله
الملك الحق المبين ، والصلاة [والسّلام] على صفوته النبيّ العربي المبعوث بالدين
المتين ، وعلى آله وأصحابه وعترته البررة المتقين.
وبعد ؛ فإن
جماعة من الفقهاء المتأدّبين ، والأدباء المتفقّهين ، المشتغلين عليّ بعلم العربية
، بالمدرسة النّظامية ـ عمر الله مبانيها! ورحم الله بانيها! ـ سألوني أن ألخّص
لهم كتابا لطيفا ، يشتمل على مشاهير المسائل الخلافية بين نحويّي البصرة والكوفة ،
على ترتيب المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة ؛ ليكون أول كتاب صنّف في علم العربية على هذا الترتيب ، وألّف على هذا
الأسلوب ؛ لأنه ترتيب لم يصنّف عليه أحد من السّلف ، ولا ألف عليه أحد من الخلف. فتوخّيت
إجابتهم على وفق مسألتهم ، وتحرّيت إسعافهم لتحقيق طلبتهم ؛ وفتحت في ذلك
الطريق ، وذكرت من مذهب كل فريق ما اعتمد عليه أهل التحقيق ، واعتمدت في النصرة
على ما أذهب إليه من مذهب أهل الكوفة أو البصرة على سبيل الإنصاف ، لا التّعصّب
والإسراف ، مستجيرا بالله ، مستخيرا له فيما قصدت إليه ؛ فالله تعالى ينفع به ؛
إنه قريب مجيب.
__________________
١
مسألة
[الاختلاف في أصل
اشتقاق الاسم]
ذهب الكوفيون
إلى أن الاسم مشتق من الوسم ـ وهو العلامة ـ وذهب البصريون إلى أنه مشتق من
السّموّ ـ وهو العلوّ ـ.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن [٢] قالوا : إنما قلنا إنه مشتق من الوسم لأن الوسم في اللغة هو
العلامة ، والاسم وسم على المسمّى ، فصار كالوسم عليه؟ فلهذا قلنا : إنه مشتق من
الوسم ، ولذلك قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب : الاسم سمة توضع على الشيء يعرف
بها. والأصل في اسم وسم ، إلا أنه حذفت منه الفاء التي هي الواو في وسم ، وزيدت
الهمزة في أوله عوضا عن المحذوف ، ووزنه إعل ؛ لحذف الفاء منه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه مشتق من السّموّ لأن السّموّ في اللغة هو
العلوّ ، يقال : سما يسمو سموّا ، إذا علا ، ومنه سمّيت السماء سماء لعلوّها ،
والاسم يعلو على المسمّى ، ويدل على ما تحته من المعنى ، ولذلك قال أبو العباس
محمد بن يزيد المبرّد : الاسم ما دلّ على مسمّى تحته ، وهذا القول كاف في الاشتقاق
، لا في التّحديد ، فلما سما الاسم على مسمّاه وعلا على ما تحته من معناه دلّ على
أنه مشتق من السّموّ ، لا من الوسم.
ومنهم من تمسك
بأن قال : إنما قلنا إنه مشتق من السّموّ وذلك لأن هذه الثلاثة الأقسام ـ التي هي الاسم والفعل والحرف ـ لها ثلاث مراتب ؛
فمنها ما
__________________
يخبر به ويخبر عنه وهو الاسم ، نحو «الله ربّنا ، ومحمّد نبيّنا» وما أشبه
ذلك ، فأخبرت بالاسم وعنه ، ومنها ما يخبر به ولا يخبر عنه ، وهو الفعل ، نحو «ذهب
زيد ، وانطلق عمرو» وما أشبه ذلك ، فأخبرت بالفعل ، ولو أخبرت عنه فقلت «ذهب ضرب ،
وانطلق كتب» لم يكن كلاما ؛ ومنها ما لا يخبر به ولا يخبر عنه ، وهو الحرف ، نحو «من
، ولن ، ولم ، وبل» وما أشبه ذلك ؛ فلما كان الاسم يخبر به ويخبر عنه ، والفعل
يخبر به ولا يخبر عنه ، والحرف لا يخبر به ولا يخبر عنه ، فقد سما [الاسم] على
الفعل والحرف : أي علا ، فدلّ على أنه من السّموّ. والأصل فيه سمو على وزن فعل ـ بكسر الفاء وسكون العين ـ فحذفت اللام التي هي الواو
وجعلت الهمزة عوضا عنها ، ووزنه إفع ؛ لحذف اللام منه.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : قولهم «إنما قلنا إنه مشتق من الوسم لأن الوسم في اللغة العلامة
، والاسم وسم على المسمّى وعلامة عليه يعرف به» قلنا : هذا وإن كان صحيحا من جهة
المعنى إلا أنه فاسد من جهة اللفظ [٣] ، وهذه الصناعة لفظية ، فلا بدّ فيها من
مراعاة اللفظ. ووجه فساده من جهة اللفظ من خمسة أوجه :
الوجه
الأول : أنّا أجمعنا
على أن الهمزة في أوله همزة التعويض ، وهمزة التعويض إنما تقع تعويضا عن حذف اللام
، لا عن حذف الفاء ، ألا ترى أنهم
__________________
لما حذفوا اللام التي هي الواو من بنو عوّضوا عنها الهمزة في أوله فقالوا :
ابن ، ولما حذفوا الفاء التي هي الواو من وعد لم يعوّضوا عنها الهمزة في أوله فلم
يقولوا إعد ، وإنما عوّضوا عنها الهاء في آخره فقالوا : عدّة ؛ لأن القياس فيما
حذف منه لامه أن يعوّض بالهمزة في أوله ، وفيما حذف منه فاؤه أن يعوّض بالهاء في
آخره ، والذي يدل على صحة ذلك أنه لا يوجد في كلامهم ما حذف فاؤه وعوّض بالهمزة في
أوله ، كما لا يوجد في كلامهم ما حذف لامه وعوّض بالهاء في آخره ، فلما وجدنا في أول «اسم» همزة التعويض علمنا أنه
محذوف اللام ، لا محذوف الفاء ؛ لأن حمله على ما له نظير أولى من حمله على ما ليس
له نظير ؛ فدلّ على أنه مشتق من السّموّ لا من الوسم.
__________________
والوجه
الثاني : أنك تقول «أسميته»
ولو كان مشتقا من الوسم لوجب أن تقول «وسمته» فلما لم تقل إلا «أسميت» دلّ على أنه
من السّموّ ، وكان الأصل فيه «أسموت» ، إلا أن الواو التي هي اللام لما وقعت رابعة قلبت ياء
، كما قالوا : أعليت ، وأدعيت ، والأصل : أعلوت ، وأدعوت ، إلا أنه لما وقعت الواو
رابعة قلبت ياء ، فكذلك هاهنا.
وإنما وجب أن
تقلب الواو ياء رابعة من هذا النحو حملا للماضي على المضارع ، والمضارع يجب قلب
الواو فيه ياء نحو «يعلي ، ويدعي ، ويسمي» والأصل فيه «يعلو ، ويدعو ، ويسمو»
وإنما وجب قلبها ياء في المضارع لوقوعها ساكنة مكسورا ما قبلها ؛ لأن الواو متى وقعت ساكنة مكسورا ما قبلها
وجب قلبها ياء ، ألا ترى أنهم قالوا : ميقات ، وميعاد ، وميزان ، والأصل : موقات ،
وموعاد ، وموزان ؛ لأنه من الوقت ، والوعد ، والوزن ؛ إلا أنه لما وقعت الواو
ساكنة مكسورا ما قبلها وجب قلبها ياء ؛ فكذلك هاهنا. وإنما حملوا الماضي على
المضارع مراعاة لما بنوا عليه كلامهم من اعتبار حكم المشاكلة ، والمحافظة على أن
تجري الأبواب على سنن واحد ، ألا ترى أنهم حملوا المضارع [٤] على الماضي إذا اتصل
به ضمير جماعة النسوة نحو
__________________
«تضربن» وحذفوا الهمزة من أخوات «أكرم» نحو «نكرم ، وتكرم ، ويكرم» والأصل
فيه «نؤكرم ، وتؤكرم ، ويؤكرم» كما قال :
[١]* فإنّه أهل
لأن يؤكرما*
حملا على أكرم.
وإنما حذفت إحدى الهمزتين من «أكرم» لأن الأصل فيه «أأكرم» فلما اجتمع فيه همزتان
كرهوا اجتماعهما ؛ فحذفوا إحداهما تخفيفا ، ثم حملوا سائر أخواتها عليها في الحذف
، وكذلك حذفوا الواو من أخوات يعد ، نحو «أعد ، ونعد ، وتعد» والأصل فيها : أوعد ،
ونوعد ، وتوعد ، حملا على يعد ، وإنما حذفت الواو من «يعد» لوقوعها بين ياء وكسرة ، ثم حملوا سائر أخواتها عليها
______________________________________________________
[١] هذا البيت
من الرجز المشطور ، وهو لأبي حيان الفقعسي ، ومع كثرة ترديد النحاة وأهل اللغة
لهذا الشاهد فإني لم أقف له على سوابق أو لواحق ، وقد استشهد به ابن هشام في أوضحه
(رقم ٥٨٠) والأشموني (رقم ١٢٥٢) وانظره في اللسان أيضا (ك ر م) وقوله «أهل» معناه
مستحق وذو أهلية ، و «يؤكرم» بالبناء للمجهول ، وأراد يكرم. والشاهد فيه قوله «يؤكرم»
فإن هذه الكلمة قد جاءت على الأصل الأصيل ، لكنها مخالفة للاستعمال المتلئب ،
لأنهم يحذفون الهمزة من مضارع أفعل كأكرم وأورد وأوفى وذلك لأنهم استثقلوا وجود
همزتين متواليتين في أول الكلمة في قولهم «أأكرم» وحملوا «نؤكرم» و «تؤكرم» و «يؤكرم»
على المبدوء بهمزة المضارعة قصدا إلى التجانس ومعاملة للأشباه معاملة واحدة ، وإن
لم يكن في المبدوء بالنون والياء والتاء من الثقل مثل ما في المبدوء بالهمزة ، وقد
عاود هذا الراجز الأصل المهجور حين اضطر لإقامة الوزن ، ونظيره قول خطام المجاشعي
، وانظره في اللسان (ث ف ى) :
لم يبق من أي
بها يحلّين»
|
|
غير خطام
ورماد كنفين
|
* وصاليات ككما يؤثفين*
|
__________________
في الحذف ، كلّ ذلك لتحصيل التشاكل والفرار من نفرة الاختلاف ، فكذلك هاهنا
حملوا الماضي على المضارع ، وبل أولى ، وذلك لأن مراعاة المشاكلة بالقلب أقيس من
مراعاة المشاكلة بالحذف ؛ لأن القلب تغيير يعرض في نفس الحرف ، والحذف إسقاط لأصل
الحرف ، والإسقاط في باب التغيير أتمّ من القلب ، فإذا جاز أن يراعوا المشاكلة
بالحذف فبالقلب أولى.
وأما قلب الواو
ياء في الماضي في نحو «تغازيت ، وترجّيت» وإن لم تقلب ياء في المضارع لأن الأصل في
تغازيت : غازيت ، وفي ترجيت : رجّيت ، فزيدت التاء فيهما لتدلّ على المطاوعة ،
وغازيت ورجّيت يجب قلب الواو فيهما ياء في المضارع ، ألا ترى أنك تقول في المضارع
: أغازي ، وأرجّي ، فكذلك في الماضي ، وإذا لزم هذا القلب قبل الزيادة في «غازيت
أغازي ، ورجّيت أرجّي» فكذلك بعد الزيادة في تغازيت وترجّيت ، حملا لتغازيت على
غازيت ، وترجّيت على رجّيت ، مراعاة للتشاكل ، وفرارا من نفرة الاختلاف.
والوجه
الثالث : أنك تقول في
تصغيره «سميّ» ولو كان مشتقا من الوسم لكان يجب أن تقول في تصغيره «وسيم» كما يجب
أن تقول في تصغير زنة : وزينة ، وفي تصغير عدة : وعيدة ؛ لأن التصغير يردّ الأشياء
إلى أصولها ، فلما لم يجز أن يقال إلا سميّ دلّ على أنه مشتق من السّموّ ، لا من
الوسم.
والأصل في سميّ
: سميو ، إلا أنه لما اجتمعت [٥] الياء والواو والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء
، وجعلوهما ياء مشددة ، كما قالوا : سيّد وجيّد وهيّن وميّت. والأصل فيه : سيود
وجيود وهيون وميوت ؛ لأنه من السودد والجودة والهوان والموت ، إلا أنه لما اجتمعت
الياء والواو والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء ، وجعلوهما ياء مشددة ، وكذلك
أيضا قالوا : طويت طيّا ، ولويت ليّا ، وشويت شيّا ، والأصل فيه : طويا ولويا
وشويا ، إلا أنه لما اجتمعت الواو والياء والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء ،
وجعلوهما ياء مشددة ، وإنما وجب قلب الواو إلى الياء دون قلب الياء إلى الواو لأن
الياء أخفّ من الواو ؛ فلما وجب قلب أحدهما إلى الآخر كان قلب الأثقل إلى الأخفّ
أولى من قلب الأخف إلى الأثقل.
والوجه
الرابع : أنك تقول في
تكسيره «أسماء» ولو كان مشتقا من الوسم
__________________
لوجب أن تقول : أوسام ، وأواسيم ؛ فلما لم يجز أن يقال إلا أسماء دل على
أنه مشتق من السمو ، لا من الوسم.
والأصل في
أسماء أسماو ، إلا أنه لما وقعت الواو طرفا وقبلها ألف زائدة قلبت همزة كما قالوا
: سماء ، وكساء ، ورجاء ، ونجاء. والأصل فيه : سماو ، وكساو ، ورجاو ، ونجاو ؛
لقولهم : سموت وكسوت ورجوت ونجوت ، إلا أنه لما وقعت الواو طرفا وقبلها ألف زائدة
قلبت همزة.
ومنهم من قال : إنما قلبت ألفا لأن الألف التي قبلها لما كانت ساكنة
خفية زائدة ـ والحرف الساكن حاجز غير حصين ـ لم يعتدّوا بها ، فقدّروا أن الفتحة
التي قبل الألف قد وليت الواو وهي متحركة ، والواو متى تحركت وانفتح ما قبلها وجب أن
تقلب ألفا ، ألا ترى أنهم قالوا : سما ، وعلا ، ودعا ، وغزا ، والأصل فيها سمو
وعلو ودعو وغزو ؛ لقولهم : سموت وعلوت ودعوت وغزوت ، إلا أنه لمّا تحركت الواو
وانفتح ما قبلها قلبت ألفا ، فكذلك هاهنا قلبوا الواو في أسماو ألفا ، فاجتمع فيه
ألفان : ألف زائدة ، وألف منقلبة عن لام الكلمة ، والألفان ساكنان ، وهما لا
يجتمعان ، فقلبت الألف الثانية المنقلبة عن لام الكلمة همزة لالتقاء الساكنين ،
وإنما قلبت إلى الهمزة دون غيرها من الحروف لأنها أقرب الحروف إليها ؛ لأن الهمزة
هوائية ، كما أن الألف هوائية ، فلما كانت أقرب الحروف إليها ؛ كان قلبها إليها
أولى من قلبها إلى غيرها
[٦] والوجه الخامس : أنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا في اسم : سمى ، على
مثال على ، والأصل فيه سموّ ، إلا أنهم قلبوا الواو منه ألفا لتحرّكها وانفتاح ما
قبلها ، فصار سمّى ، قال الشاعر :
[٢]والله
أسماك سمّى مباركا
|
|
آثرك الله به
إيثاركا
|
______________________________________________________
[٢] هذا بيت من
الرجز المشطور يقوله ابن خالد القناني ـ نسبة إلى القنان بفتح القاف وهو جبل لبني
أسد فيه ماء يسمى العسيلة ـ وقد أنشده في اللسان (س م و) وأنشده ابن يعيش ، وابن
هشام في أوضح المسالك (رقم ٥ بتحقيقنا) و «أسماك» أراد ألهم آلك أن يسموك ، و «سما»
ـ
__________________
وفيه خمس لغات
: اسم بكسر الهمزة ، واسم بضمها ، وسم بكسر السّين ، وسم بضمها. قال الشاعر :
[٣] وعامنا
أعجبنا مقدّمه
|
|
يدعى أبا
السّمح وقرضاب سمه
|
* مبتركا لكلّ عظم يلحمه*
|
وقال :
[٤] باسم
الذي في كلّ سورة سمه
|
|
قد وردت على
طريق تعلمه
|
______________________________________________________
أي اسما «مباركا» أي ذا بركة «آثرك»
ميزك واختصك ، و «إيثارك» هو مصدر مضاف إلى ضمير المخاطب ، ويجوز أن يكون هذا
الضمير فاعل المصدر ، كما يجوز أن يكون مفعوله ؛ فعلى الأول يكون المعنى : آثرك
الله بهذا الاسم المبارك إيثارا مثل إيثارك أنت الناس بالمعروف والعطاء ، وعلى
الوجه الثاني يكون المعنى : آثرك الله بالاسم المبارك إيثارا مثل إيثاره إياك
بالفضل ومكارم الأخلاق. والاستشهاد به في قوله «سما» فقد زعم المؤلف أن هذه الكلمة
مقصورة مثل هدى وتقى وضحى ، وعلى هذا يكون نصبها بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة
لالتقاء الساكنين ، كما تقول : استيقظت ضحى ، واتقيت تقى ، واتبعت هدى ، ولكن هذا
الذي ذكره المؤلف ليس بمتعين ، فإنه يجوز أن تكون كلمة «سما» في هذا البيت قد جاءت
على لغة من يقول «سم» بكسر السين أو ضمها وآخره صحيح مثل غد ويد ودم وأب وأخ ،
ويكون منصوبا منونا كما تقول : أزورك غدا ، واتخذت عندك يدا ، وقد أرقت دما ، وما
أشبه ذلك ، ومتى جاز في هذا الشاهد هذان الوجهان لم يصلح أن يكون دليلا على إحدى
اللغتين بعينها ؛ لأن الدليل متى تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ، كما
يقولون ، ونظير هذا البيت في احتمال اللغتين ما أنشده أبو العباس :
فدع عنك ذكر
اللهو ، واعمد بمدحة
|
|
لخير معد
كلها حيثما انتمى
|
لأعظمها قدرا
، وأكرمها أبا ،
|
|
وأحسنها وجها
، وأعلنها سما
|
والذي يتعين أن يكون مقصورا ما حكاه
صاحب الإفصاح من قول بعضهم «ما سماك» فإنه قد أثبت الألف مع الإضافة ، وذلك يفيد
كونه مقصورا ؛ إذ لو كان عنده صحيح الآخر كيد وغد لقال «ما سمك» بضم الميم ، فتأمل
ذلك.
[٣] هذه ثلاثة أبيات من الرجز المشطور
أنشدها كلها صاحب اللسان (ق ر ض ب ـ برك ـ س م و) من غير عزو ، وأنشد موفق الدين
بن يعيش أولها وثانيها من غير عزو أيضا ، وأنشدهما ابن جني في شرح تصريف المازني (١
/ ٦٠) وتقول «قرضب الرجل فهو قرضاب» إذا أكل شيئا يابسا ، وتقول «رجل مبترك» إذا
كان معتمدا على الشيء ملحا فيه ، يريد أنهم ظنوا في مقدم العام أنه سيكون عام رخاء
، فإذا هو يكون عام شدة وجدب ، يلح على أموالهم بالإفناء حتى يأتي عليها ،
والاستشهاد فيه بقوله «سمه» وهو يروى بكسر السين وضمها ، فيكون دليلا على أن من
العرب من يقول في الاسم «سم» بحذف لامه من غير تعويض ومعاملته معاملة الصحيح الآخر
كغد ويد ودم وأخ وأب ، وذلك ظاهر.
[٤] هذان بيتان من الرجز المشطور
أنشدهما ابن منظور في اللسان (س م و) ، وأنشدهما موفق
ويروى سمه بضم
السّين ، وسمى على وزن على ، على ما بيّنا. والله أعلم.
______________________________________________________
الدين بن يعيش من غير عزو ، وأنشدهما
ابن جني في شرح تصريف المازني (١ / ٦٠) وحكي في اللسان روايتهما عن ابن برى عن أبي
زيد ، وقال : إنهما لرجل من كلب ، لكن الرواية هناك هكذا :
والاستشهاد به في قوله «سمه» وهو نظير
ما ذكرناه في الشاهد السابق.
٢
مسألة
[الاختلاف في إعراب الأسماء الستة]
ذهب الكوفيّون
إلى أن الأسماء الستة المعتلّة ـ وهي : أبوك ، وأخوك ، وحموك ، وهنوك ، وفوك ، وذو
مال ـ معربة من مكانين. وذهب البصريون إلى أنها معربة من مكان واحد ، والواو
والألف والياء هي حروف الإعراب. وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش في أحد القولين. وذهب
في القول الثاني إلى أنها ليست بحروف إعراب ، ولكنها دلائل الإعراب ، كالواو
والألف والياء في التثنية والجمع ، وليست بلام الفعل. وذهب علي بن عيسى الرّبعيّ
إلى أنها إذا كانت مرفوعة ففيها نقل بلا قلب ، وإذا كانت منصوبة ففيها قلب بلا نقل
، وإذا كانت مجرورة ففيها نقل وقلب. وذهب أبو عثمان المازنيّ إلى أن الباء حرف الإعراب ، وإنما الواو والألف والياء نشأت عن إشباع
الحركات.
وقد يحكى عن
بعض العرب أنهم يقولون : هذا أبك ، ورأيت أبك ، ومررت بأبك ـ من غير واو ولا ألف
ولا ياء ـ كما يقولون في حالة الإفراد من غير إضافة .
وقد يحكى أيضا
عن بعض العرب أنهم يقولون : هذا أباك ، ورأيت [٧]
__________________
أباك ، ومررت بأباك ـ بالألف في حالة الرفع والنصب والجر ـ فيجعلونه اسما
مقصورا ، قال الشاعر :
[٥]إنّ أباها
وأبا أباها
|
|
قد بلغا في
المجد غايتاها
|
ويحكى عن
الإمام أبي حنيفة أنه سئل عن إنسان رمى إنسانا بحجر فقتله : هل يجب عليه القود؟
فقال : لا ، ولو رماه بأبا قبيس ـ بالألف ، على هذه اللغة ـ لأن أصله أبو ، فلما
تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبوها ألفا بعد إسكانها إضعافا لها ، كما قالوا :
عصا ، وقفا ، وأصله عصو وقفو ، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبوها ألفا ،
فكذلك هاهنا.
والذي يعتمد
عليه في النّصرة أهل الكوفة والبصرة القولان الأولان ؛ فهذا منتهى القول في تفصيل
المذاهب واللغات ؛ فلنبدأ بذكر الحجج والاستدلالات :
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : أجمعنا على أن هذه الحركات ـ التي هي الضمة والفتحة والكسرة ـ
تكون إعرابا لهذه الأسماء في حال الإفراد ، نحو قولك : هذا أب لك ، ورأيت أبا لك ،
ومررت بأب لك ، وما أشبه ذلك ، والأصل فيه أبو ، فاستثقلوا الإعراب على الواو ،
فأوقعوه على الباء وأسقطوا الواو ؛ فكانت الضمة علامة للرفع ، والفتحة علامة للنصب
، والكسرة علامة للجر ، فإذا قلت في الإضافة : هذا أبوك ، وفي النصب : رأيت أباك ،
وفي الجر : مررت بأبيك ، والإضافة طارئة على الإفراد ـ كانت الضمة والفتحة والكسرة
باقية على ما كانت عليه في حال الإفراد ؛ لأن الحركة التي تكون إعرابا للمفرد في
حال الإفراد هي بعينها تكون إعرابا له في حال الإضافة ، ألا ترى أنك تقول : هذا غلام
، ورأيت غلاما ، ومررت بغلام ، فإذا أضفته قلت : هذا غلامك ، ورأيت غلامك ، ومررت
______________________________________________________
[٥] هذان بيتان من الرجز المشطور
ينسبهما قوم إلى أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي ، وينسبهما قوم آخرون إلى رؤبة
بن العجاج ، وهما من شواهد الأشموني (رقم ١٦) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٩)
وابن عقيل (رقم ٦) وابن يعيش (ص ٦٢) والشاهد فيه قوله «أباها» وأنت ترى أنه قد ذكر
الأب بالألف ثلاث مرات في البيت الأول فأما في المرتين الأولى والثانية فلا تتعين
في واحدة منهما لغة من يجيء بالأسماء الستة بالألف في الأحوال كلها ، بل يجوز أن يكون
الراجز قد جاء بالكلمتين على هذه اللغة ، ويجوز أن يكون قد جاء بهما على اللغة
المشهورة عند جمهرة العرب ، وذلك لأن الكلمتين في موضع النصب لكون الأولى اسم إن
والثانية معطوفة على اسم إن ، وفي حالة النصب تستوي لغة التمام ولغة القصر ، أما
الكلمة الثالثة فتتعين فيها لغة القصر بسبب كونها في موضع الجر وقد أتي بها بالألف
، والأولى أن تحمل الأولى والثانية على لغة القصر بقرينة الكلمة الثالثة ؛ ليكون
الكلام جاريا على مهيع واحد.
بغلامك ؛ فتكون الضمة والفتحة والكسرة التي كانت إعرابا له في حال الإفراد
هي بعينها إعرابا له في حال الإضافة ، فكذلك هاهنا ، والذي يدلّ على صحة هذا تغيّر
الحركات على الباء في حال الرفع والنصب والجر ، وكذلك الواو والألف والياء بعد هذه
الحركات تجري مجرى الحركات في كونها إعرابا ؛ بدليل أنها تتغير في حال الرفع
والنصب والجر ؛ فدل على أن الضمة والواو علامة للرفع ، والفتحة والألف علامة للنصب
، والكسرة [٨] والياء علامة للجر ، فدل على أنه معرب من مكانين .
ومنهم من تمسك
بأن قال : إنما أعربت هذه الأسماء الستة من مكانين لقلة حروفها ، تكثيرا لها ،
وليزيدوا بالإعراب في الإيضاح والبيان ؛ فوجب أن تكون معربة من مكانين على ما
ذهبنا إليه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا «إنه معرب من مكان واحد» لأن الاعراب إنما دخل
الكلام في الأصل لمعنى ـ وهو الفصل ، وإزالة اللّبس ، والفرق بين المعاني المختلفة
بعضها من بعض ، من الفاعلية والمفعولية إلى غير ذلك ـ وهذا المعنى يحصل بإعراب
واحد ؛ فلا حاجة إلى أن يجمعوا بين إعرابين ؛ لأن أحد الإعرابين يقوم مقام الآخر ،
فلا حاجة إلى أن يجمع بينهما في كلمة واحدة.
ألا ترى أنهم
لا يجمعون بين علامتي تأنيث في كلمة واحدة نحو مسلمات وصالحات ، وإن كان الأصل فيه
مسلمتات وصالحتات ؛ لأن كل واحدة من التاءين تدلّ على ما تدل عليه الأخرى من
التأنيث ، وتقوم مقامها ، فلم يجمعوا بينهما ؛ فكذلك هاهنا.
والذي يدلّ على
صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهبوا إليه أن ما ذهبنا إليه له نظير في كلام العرب ؛
فإن كل معرب في كلامهم ليس له إلا إعراب واحد ، وما ذهبوا إليه لا نظير له في
كلامهم ؛ فإنه ليس في كلامهم معرب له إعرابان ، فبان
__________________
أن ما ذهبنا إليه له نظير في كلامهم ، وما ذهبوا إليه لا نظير له في كلامهم
، والمصير إلى ما له نظير أولى من المصير إلى ما ليس له نظير.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : لو جاز أن يجتمع في اسم واحد إعرابان متفقان لجاز أن يجتمع فيه إعرابان
مختلفان ؛ فكما يمتنع أن يجتمع فيه إعرابان مختلفان فكذلك يمتنع أن يجتمع فيه
إعرابان متفقان ؛ لامتناع اجتماع إعرابين في كلمة واحدة.
والاعتماد على
الاستدلال الأول ، وهذا الاستدلال عندي فاسد ؛ لأن الإعراب في الأصل إنما دخل
للفصل بين المعاني بعضها من بعض من الفاعلية والمفعولية على ما بيّنّا ؛ فلو جوزنا
أن يجمع في اسم واحد إعرابان مختلفان لأدّى ذلك إلى التناقض ؛ لأن كل واحد من
الإعرابين يدل على نقيض ما يدل عليه الآخر ؛ ألا ترى أنا لو قدرنا الرفع والنصب في
اسم واحد لدل الرفع على الفاعلية [٩] والنصب على المفعولية ، وكل واحد منهما نقيض
الآخر ، بخلاف ما لو قدرنا إعرابين متفقين فإنه لا يدل أحد الإعرابين على نقيض ما
يدل عليه الآخر ؛ فبان الفرق بينهما ، وأن الاعتماد على الاستدلال الأول.
وأما من ذهب
إلى أنها ليست بحروف إعراب ، ولكنها دلائل الإعراب ، فقال : لأنها لو كانت حروف
إعراب كالدال من «زيد» والراء من «عمرو» لما كان فيها دلالة على الإعراب ، ألا ترى
أنك إذا قلت : «ذهب زيد ، وانطلق عمرو» لم يكن في نفس الدال والراء دلالة على
الإعراب ، فلما كان هاهنا هذه الأحرف تدلّ على الإعراب دل على أنها دلائل الإعراب
، وليست بحروف إعراب.
وهذا القول
فاسد ؛ لأنّا نقول : لا يخلو أن تكون هذه الأحرف دلائل الإعراب في الكلمة أو في
غيرها ؛ فإن كانت تدل على الإعراب في الكلمة فوجب أن يكون الإعراب فيها ؛ لأنها
آخر الكلمة ، فيؤول هذا القول إلى قول الأكثرين ، وإن كانت تدل على إعراب في غير
الكلمة فيؤدي إلى أن تكون الكلمة مبنية ، وليس من مذهب هذا القائل أنها مبنية ،
فسنبين فساد مذهبه أن الواو والألف والياء في التثنية والجمع ليست بحروف إعراب ،
ولكنها دلائل الإعراب ، مستقصّى في موضعه ، إن شاء الله تعالى.
__________________
فأما من ذهب
إلى أنها إذا كانت مرفوعة ففيها نقل بلا قلب ، وإذا كانت منصوبة ففيها قلب بلا نقل
، وإذا كانت مجرورة ففيها نقل وقلب ؛ فقال : لأن الأصل في قولك هذا أبوه «هذا أبوه»
فاستثقلت الضمة على الواو ، فنقلت إلى ما قبلها ، وبقيت الواو على حالها ، فكان فيه نقل بلا قلب ،
والأصل في قولك رأيت أباه «رأيت أبوه» فتحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا
؛ فكان فيه قلب بلا نقل ، والأصل في قولك مررت بأبيك «مررت بأبوك ، فاستثقلت
الكسرة على الواو ، فنقلت إلى ما قبلها ، فقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، فكان فيه نقل وقلب.
وأما من ذهب
إلى أن الباء حرف الإعراب ، وإنما الواو والألف والياء نشأت عن إشباع الحركات ؛
فقال : لأن الباء تختلف عليها الحركات في حالة الرفع والنصب والجر كما تختلف حركات
الإعراب على سائر حروف الإعراب ؛ فدل على أن الباء حرف الإعراب [١٠] ، وأن هذه
الحركات ـ التي هي الضمة والفتحة والكسرة ـ حركات إعراب ، وإنما أشبعت فنشأت عنها
هذه الحروف ـ التي هي الواو والألف والياء ـ فالواو عن إشباع الضمة ، والألف عن
إشباع الفتحة ، والياء عن إشباع الكسرة ، وقد جاء ذلك كثيرا في استعمالهم ، قال
الشاعر في إشباع الضمة :
[٦] لله يعلم
أنّا في تلفّتنا
|
|
يوم الفراق
إلى إخواننا صور
|
______________________________________________________
[٦] أنشد ابن منظور هذين البيتين في
اللسان (ش ر ى) وأنشد أولهما في (ص ور) من غير عزو ، وأنشدهما ابن جني في سر
الصناعة (١ / ٢٩) من غير عزو أيضا ، وأنشدهما الرضي ، وقد شرحهما البغدادي في
الخزانة (١ / ٥٨ بولاق) ولم يعزهما ، وكلهم يروي البيتين ببعض اختلاف في بعض
ألفاظهما ، وسننبه عليه ، وصور : جمع أصور ، وهو وصف فعله صور يصور صورا ـ على
مثال فرح يفرح فرحا ـ ومعناه المائل العين ، وروى ابن منظور «وأنني حوثما يشرى
الهوى بصرى» وحوثما : لغة في حيثما ، و «يشرى» مضارع أشراه إلى ناحية كذا بمعنى
أماله ، وهو بمعنى «يثنى» في رواية المؤلف ، يريد أنه كان دائم التلفت إلى أحبابه
يوم الفراق ، وأنه كان يتجه في التفاته إلى الجهة التي يسلكها أحبته ، ومحل
الاستشهاد قوله «فأنظور» فإنه أراد «فأنظر» لكنه لما كان محتاجا إلى الواو في
القافية أشبع الضمة التي على الظاء فنشأت الواو.
وأقول : قال أبو الطيب المتنبي :
ويطعمه
التوراب قبل فطامه
|
|
ويأكله قبل
البلوغ إلى الأكل ـ
|
__________________
وأنّني حيثما
يثني الهوى بصري
|
|
من حيثما
سلكوا أدنو فأنظور
|
أراد «فأنظر»
فأشبع الضمّ ، فنشأت الواو ، وقال الآخر :
[٧] هجوت
زبّان ثمّ جئت معتذرا
|
|
من هجو زبّان
لم تهجو ولم تدع
|
أراد «لم تهج»
، وقال الآخر :
[٨] * كأنّ في أنيابها القرنفول*
______________________________________________________
وضبط الشراح قوله «التوراب» بفتح التاء
وسكون الواو ، ثم راحوا ينددون بها ويقولون : إنه يخترع لكلام العرب أوزانا لم
يقولوها ، ولو أنهم ضبطوا الكلمة بضم التاء لوجدوا لها مساغا ونظائر في كلام من
يحتجون بكلامه ويخرجونه ، فإن العرب يقولون «التراب» بضم التاء بزنة الغراب ، ثم
إذا أشبعت التاء نشأت واو مثل واو «أنظور».
[٧] نسب جماعة هذا البيت إلى أبي عمرو
بن العلاء ، يقوله للفرزدق الشاعر ، وكان الفرزدق قد هجاه ثم اعتذر له ، والبيت من
شواهد الأشموني (رقم ٤٤) و «زبان» بفتح الزاي وتشديد الباء اسم رجل ، وقد ذكر
المجد في القاموس جماعة ممن تسموا بهذا الاسم منهم أبو عمرو بن العلاء المازني
النحوي اللغوي المقرىء قيل : هذا اسمه ، وقيل : بل لقبه واسمه العريان أو يحيى ،
والاستشهاد به في قوله «لم تهجو» فإن حق العربية عليه أن يقول «لم تهج» بحذف الواو
التي هي لام الفعل ، لأن الفعل المضارع المعتل اللام يجزم بحذف لامه ، وللعلماء في
تخريج مثل ذلك رأيان : أولهما أن هذه الواو هي لام الفعل التي يحذفها جمهرة العرب
من المضارع في حالة الجزم ، ولم يحذفها هذا الشاعر اكتفاء بحذف الحركة كما يصنع في
الفعل الصحيح الآخر ، والرأي الثاني هو الذي ذكره المؤلف هنا ، وتلخيصه أن الواو
التي هي لام الكلمة قد حذفت ، وأما هذه الواو فإنها واو أخرى نشأت عن إشباع ضمة
الجيم ، نظير الواو في «أنظور» في الشاهد السابق ، وانظر الشاهدين ١١ و ١٧.
[٨] ـ هذا بيت من الرجز المشطور ، وقد
أنشد ابن منظور في اللسان (ق ر ن ف ل) رجزين كل واحد منهما يشتمل على هذا البيت مع
مغايرة طفيفة ، أما أول الرجزين فقول الراجز :
وا ، بأبي
ثغرك ذاك المعسول
|
|
كأن في
أنيابه القرنفول
|
وأما الثاني فقول الآخر :
خود أناة
كالمهاة عطبول
|
|
كأن في
أنيابها القرنفول
|
و «القرنفول» هو القرنفل الذي ورد في
قول امرىء القيس :
يريد الراجز أن يصف ثغر هذه الجارية
الناعمة التي يتغزل فيها بأنه طيب الريح جميل النكهة ، ومحل الاستشهاد فيه قوله «القرنفول»
فإن أصل الكلمة «القرنفل» فلما اضطر إلى الواو لإقامة الوزن الذي بنى عليه رجزه
أشبع ضمة الفاء فنشأت الواو عن هذا الإشباع.
أراد «القرنفل»
وقال الشاعر في إشباع الفتحة :
[٩] وأنت من
الغوائل حين ترمى
|
|
ومن ذمّ
الرّجال بمنتزاح
|
أراد «بمنتزح»
فأشبع الفتحة فنشأت الألف ، وقال الآخر :
[١٠] أقول إذ
خرّت على الكلكال
|
|
يا ناقتا ما
جلت من مجال
|
أراد «الكلكل»
، وقال الآخر :
[١١] إذا
العجوز غضبت فطلّق
|
|
ولا ترضّاها
ولا تملّق
|
______________________________________________________
[٩] هذا البيت من كلام ابن هرمة ، واسمه
إبراهيم بن علي ، شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية ، وهو من كلمة يرثي
فيها ابنه ، وقد أنشده ابن منظور (ن ز ح) ونسبه إليه ، وأنشده ابن جني في سر
الصناعة (١ / ٢٩) وقال قبل إنشاده «وأنشدنا أبو علي لابن هرمة يرثي ابنه» اه ، و «منتزاح»
مصدر ميمي فعله «انتزح ينتزح» أي بعد ، وتقول «أنت بمنتزح من كذا» تريد أنت ببعد
منه ، أو أنت في مكان بعيد منه ، والاستشهاد بالبيت في قوله «بمنتزاح» فإن أصله «بمنتزح»
لكنه لما اضطر لإقامة وزن البيت أشبع فتحة الزاي فنشأت من هذا الإشباع ألف.
[١٠] هذان بيتان من الرجز المشطور ، وقد
أنشدهما ابن منظور (ك ل ل) من غير عزو. و «الكلكال» والكلكل : الصدر من كل شيء ،
وقيل : هو باطن الزور ، وقيل : هو ما بين الترقوتين ، وقوله «يا ناقتا» هو ناقة
مضاف لياء المتكلم ، وقد قلب الكسرة التي قبل الياء فتحة ثم قلب الياء ألفا ، وقد
جاء في لسان العرب «يا ناقتي» على الأصل ، والاستشهاد بالبيت في قوله «الكلكال»
فإن أصله «الكلكل» كما هو الوارد في قول امرىء القيس :
فقلت له لما
تمطى بصلبه
|
|
وأردف أعجازا
وناء بكلكل
|
لكن الراجز لما اضطر أشبع فتحة الكاف
الثانية فنشأت عن هذا الإشباع ألف ، كما أن راجزا آخر ـ وهو منظور بن مرثد الأسدي
ـ اضطر إلى تضعيف اللام الأخيرة فقال :
كأن مهواها
على الكلكلّ
|
|
موضع كفي راهب
يصلي
|
[١١] هذان بيتان من الرجز المشطور ، وقد أنشدهما ابن منظور (ر ض ى)
من غير عزو ، وقوله «لا ترضاها» معناه لا تتطلب رضاها ، وقوله «لا تملق» أصله لا
تتملق ، فحذف إحدى التاءين ، ومعناه لا تتكلف الملق لها ، والاستشهاد به في قوله «ولا
ترضاها» فقد كان من حق العربية عليه أن يقول «ولا ترضها» فيكون الفعل المضارع
مجزوما بلا الناهية ، وعلامة جزمه حذف الألف ، وللعلماء في هذه الألف قولان :
أحدهما : أن هذه الألف هي لام الكلمة التي كان يجب عليه حذفها للجازم ، لكنه اكتفى
بحذف الحركة كما يكتفي بحذف الحركة في الفعل الصحيح الآخر ، والقول الثاني : أن
لام الفعل قد حذفت كما هو مقتضى الجزم ، وهذه الألف ناشئة عن إشباع فتحة الضاد ،
فالفعل مجزوم بحذف الألف والفتحة قبلها دليل عليها ، وقد ذكرنا هذين الرأيين في
شرح الشاهد (رقم ٧) وانظر أيضا الشاهد ١٧.
ونظير هذين البيتين قول عبد يغوث بن
وقاص الحارثي :
وتضحك مني
شيخة عبشمية
|
|
كأن لم تري
قبلي أسيرا يمانيا ـ
|
أراد «ولا
ترضّها» ، وقال عنترة :
[١٢] ينباع
من ذفرى غضوب جسرة
|
|
زيّافة مثل
الفنيق المكدم
|
أراد «ينبع».
وقال الشاعر في إشباع الكسرة :
[١٣] تنفي
يداها الحصى في كلّ هاجرة
|
|
نفي
الدّراهيم تنقاد الصّياريف
|
______________________________________________________
فإن قوله «كأن لم تري» يجري فيه الرأيان
اللذان ذكرناهما ، ويزيد هذا البيت وجها ثالثا ، وحاصله أن قوله «تري» بفتح التاء
والراء وسكون الياء ، وهذه الياء هي ياء المؤنثة المخاطبة ، وليست لام الكلمة ولا
ألف إشباع ، وكأنه بعد أن ذكر ضحكها منه التفت إليها فقال مخاطبا لها : كأنك لم
تري قبل هذه المرة أسيرا يمانيا.
[١٢] هذا البيت ـ كما قال المؤلف ـ لعنترة
بن شداد العبسي ، من قصيدته المعلقة المشهورة ، وهو من شواهد الرضي ، وقد شرحه
البغدادي في الخزانة (١ / ٥٩) وقوله «ينباع» معناه ينبع ، تقول «نبع الماء ،
والعرق ، ونحوهما ، ينبع» من باب فتح يفتح ، ويأتي أيضا من بابي نصر وضرب ـ إذا
خرج ، والذفرى ـ بكسر الذال وسكون الفاء ـ العظم الذي خلف الأذن ، و «غضوب» هي
الناقة و «جسرة» الطويلة العظيمة الجسم ، و «زيافة» هي السريعة السير ، و «الفنيق»
الفحل المكرم الذي لا يؤذي لكرامته على أهله ، و «المكدم» الفحل القوي ، وقالوا «بعير
مكدم» يريدون أنه غليظ شديد ، وقالوا أيضا «قدح مكدم» يريدون أن زجاجه غليظ ،
والاستشهاد به في قوله «ينباع» فإن أصله ـ على ما قال المؤلف ـ ينبع ، مثل يقطع
ويفتح ، فلما اضطر لإقامة الوزن أشبع فتحة الباء فنشأت عن هذا الإشباع ألف ، وعلى
هذا يكون وزن ينباع يفعال ، وهذا أحد وجهين للنحاة في هذه الكلمة ، والثاني أن
الياء ياء المضارعة كما في الرأي الأول ، لكن النون التي بعدها ليست أصلا ، ولكنها
زائدة ، والحروف الأصلية هي الباء وما بعدها ، وأصل هذه الألف ياء ، فقلبت ألفا
لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فوزن ينباع على هذا ينفعل ، مثل ينقاد وينداح ، وهذا
بعيد لا يقره الاشتقاق ولا المعنى المراد.
ونظير هذه الشواهد التي أثرها المؤلف
لإشباع الفتحة حتى تنشأ ألف قول الراجز :
أعوذ بالله
من العقراب
|
|
الشائلات عقد
الأذناب
|
أراد «العقرب» فأشبع فتحة الراء فنشأت
ألف ، ومثله قول الراجز الآخر وأنشده ابن منظور (د ر ه م).
لو أن عندي
مائتي درهام
|
|
لجاز في
آفاقها خاتامي
|
أراد «مائتي درهم» فأشبع فتحة الهاء
فنشأت ألف ، ومثل ذلك في قوله «خاتامي» فإنه أراد «خاتمي» فأشبع فتحة التاء فتولدت
ألف ، ونظيره قول الراجز الآخر ، وأنشده ابن منظور أيضا (خ ت م) لبعض بني عقيل :
لئن كان ما
حدثته اليوم صادقا
|
|
أصم في نهار
القيظ للشمس باديا
|
وأركب حمارا
بين سرج وفروة
|
|
وأعر من
الخاتام صغرى شماليا
|
أراد أن يقول «وأعر من الخاتم» فأشبع
فتحة التاء فتولدت من ذلك الإشباع ألف.
[١٣] هذا البيت من كلام الفرزدق همام بن
غالب ، وقد أنشده ابن منظور (ص ر ف ـ د ر ه م)
أراد «الدراهم»
و «الصيارف» فأشبع الكسرة فنشأت الياء ، ويحتمل أن يكون الدراهيم جمع درهام ، ولا
يحتمل الصياريف هذا الاحتمال ، وقال الآخر :
[١٤]كأنّي
بفتخاء الجناحين لقوة
|
|
على عجل منّي
أطأطىء شيمالي
|
أراد «شمالي» ،
وقال الآخر :
[١٥]لمّا
نزلنا نصبنا ظلّ أخبية
|
|
وفار للقوم
باللّحم المراجيل
|
______________________________________________________
منسوبا له ، وأنشده ابن جني في سر
الصناعة (١ / ٢٨) وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٠) وهو من شواهد ابن هشام في أوضح
المسالك (رقم ٥٦٧ بتحقيقنا) والأشموني (رقم ٦٨٩ بتحقيقنا) وابن عقيل (رقم ٢٥٣
بتحقيقنا) وقوله «تنفي» معناه تطرد وتبعد ، و «يداها» أي يدا الناقة التي يصفها ، و
«هاجرة» هي الوقت حين ينتصف النهار ويشتد الحر ، و «تنقاد» أحد مصادر نقد الدراهم
ينقدها نقدا ؛ إذا ميز رديئها من جيدها ، و «الصياريف» جمع صيرف ـ بوزن جعفر ـ وهو
الخبير بالنقد الذي يبادل على بعضه ببعض. والاستشهاد به في قوله «الدراهيم» و «الصياريف»
فإن الأصل الدراهم والصيارف ، فأشبع كسرة الهاء في الدراهم وكسرة الراء في الصيارف
فتولدت عن كل إشباع منهما ياء ، وهذا تام الدلالة في الصياريف ، أما في الدراهيم
فقد يقال : إنه جمع درهام لا درهم ـ كما نبه إليه المؤلف ـ فالإشباع والتوليد في
المفرد ، والخطب في ذلك سهل ، ونظير ذلك قول ابن مقبل :
قد كنت أحجو
أبا عمرو أخا ثقة
|
|
حتى ألمت بنا
يوما ملمات
|
فقلت والمرء
تخطيه عطيته
|
|
أوفى عطيته
إياي ميئات
|
أراد أن يقول «مئات» فأشبع كسرة الميم
فتولدت ياء ، وقد استباح الشعراء المحدثون لأنفسهم أن يرتكبوا مثل هذه الضرورات
فقال أحد الخالديين شاعري سيف الدولة الحمداني :
خولتنا شمسا
وبدرا أشرقت
|
|
بهما لدينا
الظلمة الحنديس
|
فإنه أراد أن يقول «الحندس» فأشبع كسرة
الدال فتولدت ياء ، والحندس : الشديد الظلام.
[١٤] هذا البيت لامرىء القيس بن حجر
الكندي ، وقد أنشده ابن منظور (ش م ل). وقوله «فتخاء الجناحين» هي العقاب اللينة
الجناح ، وذلك أسهل لطيرانها ، و «لقوة» بفتح اللام أو كسرها ، مع سكون القاف
فيهما ـ هي الخفيفة السريعة. يصف ناقته التي ارتحلها بالسرعة ، فشبهها بالعقاب.
والاستشهاد بالبيت في قوله «شيمالي» فإن أصلها شمالي ، فلما اضطر لإقامة الوزن
أشبع كسرة الشين فتولدت ياء ، وهذه إحدى روايتين في هذه الكلمة في هذا البيت ،
والرواية الأخرى «أطأطىء شملالي» والشملال لغة في الشمال ، ومن العلماء من يجعل
الشيمال بالياء لغة أخرى في الشمال ، ومن العلماء من ينكر أنها لغة ويذهب إلى ما
ذهب المؤلف إليه من أن الشاعر اضطر فأشبع الكسرة ، والخطب في ذلك سهل ؛ فإن الذي
أثبتها لغة اعتمد على قول هذا الشاعر أو مثله ممن يستشهد بقوله.
[١٥] هذا البيت لعبدة بن الطبيب ، من
قصيدة له ثابتة في المفضليات (المفضلية ٢٦) وقد أنشد هذا البيت ابن عبد ربه في
العقد الفريد (١ / ١٩٢) وله عنده قصة ، والأخبية : جمع خباء
أراد «المراجل»
، وقال الآخر :
[١٦]لا عهد
لي بنيضال
|
|
أصبحت
كالشّنّ البال
|
أراد «بنضال» ،
وقال الآخر :
[١٧]ألم
يأتيك والأنباء تنمي
|
|
بما لاقت
لبون بني زياد
|
______________________________________________________
بوزن كساء وأكسية ، ورداء وأردية ـ والمراجيل
: جمع مرجل ، وهو القدر التي يطبخ فيها الطعام ، يقول : إنهم حين حطوا رحالهم
أسرعوا فنحروا الذبائح وأوقدوا عليها ففارت قدورهم باللحم ، يصف أنفسهم بالكرم ،
والاستشهاد بالبيت في قوله «المراجيل» فإنّ أصله المراجل ؛ لأنه جمع مرجل على وزن
منبر ، ولكنه لما اضطر أشبع كسرة الجيم فتولدت عنها ياء.
[١٦] هذان بيتان من الرجز ، وقد أنشدهما
ابن منظور (ن ض ل) غير معزو ، والنيضال : مصدر «ناضلة يناضله» إذا باراه في الرمي
، و «الشن» القربة الصغيرة ، والبال : أي البالي.
ومحل الاستشهاد بهذا الشاهد قوله «بنيضال»
فإنه مصدر ناضله كما بيّنا لك ، والأصل أن يقول «بنضال» كما تقول : قاتل قتالا ومقاتلة
، ولكنه لما اضطر أشبع كسرة النون فتولدت ياء ، وهذا الذي حكاه المؤلف في هذه
الكلمة هو رأي أبي العباس ثعلب ، وأما سيبويه فإنه ذهب إلى أن مصدر الفعل الذي على
فاعل كقاتل وشارك يأتي على فعال بكسر الفاء غالبا ، وربما جاء على فيعال بزيادة
ياء بعد الفاء تقابل الألف الزائدة في الفعل لئلا يكونوا قد تركوا من حروف الفعل
شيئا.
[١٧] هذا البيت من كلام قيس بن زهير بن
جذيمة العبسي ، وقد أنشده ابن منظور (أ ت ى) منسوبا إليه ، وهو من شواهد الأشموني (رقم
٤٣) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٢٠) وفي مغني اللبيب (رقم ١٥٦ بتحقيقنا)
والأنباء : جمع نبأ ، وهو كالخبر وزنا ومعنى ، وقيل : النبأ خاص بذي الشأن من
الأخبار ، وتنمى : تزيد وتكثر ، وهو من بابي ضرب ونصر ، واللبون : الإبل ذوات
اللبن ، وبنو زياد : هم الكملة من الرجال الربيع وعمارة وقيس وأنس ، بنو زياد بن
سفيان بن عبد الله العبسي ، وأمهم فاطمة بنت الخرشب الأنمارية ، وكان قيس بن زهير
قد طرد إبلا للربيع بن زياد في قصة مشهورة. والاستشهاد بالبيت في قوله «ألم يأتيك»
فإن «يأتي» فعل مضارع معتل الآخر ، وقد دخل عليه الجازم ، وجمهرة العرب يجزمونه
بحذف حرف العلة ـ وهو هنا الياء ـ فيقولون «ألم يأتك» وللعلماء في هذه الياء رأيان
أحدهما : أنها لام الفعل ، وأن الشاعر اكتفى بحذف الحركة كما يفعل مع الفعل الصحيح
الآخر ؛ فيكون «يأتي» مجزوما وعلامة جزمه السكون ، والرأي الثاني : أن الشاعر جزم «يأتي»
بحذف حرف العلة كما يصنع جمهرة العرب ، إلا أنه اضطر لإقامة الوزن فأشبع كسرة
التاء فتولدت عنها ياء ، فهذه الياء ياء الإشباع وليست لام الكلمة ، وهذا الرأي
الأخير هو الذي ذهب إليه المؤلف ، قال ابن منظور «وأما قول قيس بن زهير العبسي ألم
يأتيك ... فإنّما أثبت الياء ولم يحذفها للجزم ضرورة ، ورده إلى أصله ، قال المازني
: ويجوز في الشعر أن تقول : زيد يرميك برفع الياء ، ويغزوك برفع الواو ، وهذا قاضي
أراد «ألم يأتك»
فأشبع الكسرة فنشأت الياء.
وإشباع الحركات
حتى تنشأ عنها هذه الحروف كثير في كلامهم ، فكذلك هاهنا.
وهذا القول
ظاهر الفساد ؛ لأن إشباع الحركات إنما يكون في ضرورة الشعر كما أنشدوه من الأبيات
، وأما في حال اختيار الكلام فلا يجوز ذلك بالإجماع ، وهاهنا بالإجماع تقول في حال
الاختيار : هذا أبوك ، ورأيت أباك ، ومررت بأبيك ؛ وكذلك سائرها ، فدلّ على أنها
ليست للإشباع عن الحركات ، وأن الحركات ليست للإعراب ، على ما سنبين في الجواب عن
كلمات الكوفيين.
أما الجواب عن
كلمات الكوفيّين : أما قولهم «إن هذه الحركات تكون حركات إعراب في حال الإفراد
فكذلك في حال الإضافة» قلنا : هذا فاسد ؛ لأن حرف الإعراب في حال الإفراد هو الباء
؛ لأن اللام التي هي الواو من «أبو» لما حذفت من آخر الكلمة صارت العين التي هي
الباء بمنزلة اللام في كونها آخر الكلمة ؛ فكانت الحركات عليها حركات إعراب ، فأما
في حال الإضافة فحرف الإعراب هو حرف العلة ؛ لأنهم لما أرادوا أن يجعلوا اختلاف
الحروف بمنزلة اختلاف الحركات ردّوا اللام في الإضافة ؛ ليدلوا على أن من شأنهم
الإعراب بالحروف توطئة لما يأتي من باب التثنية والجمع ، وإذا كان حرف الإعراب هو
حرف العلّة لم تكن هذه الحركات على الباء في حال الإضافة حركات إعراب ؛ لأن حركات
الإعراب لا تكون في حشو الكلمة ، وصار هذا بمنزلة تاء التأنيث إذا
______________________________________________________
بالتنوين ، فتجري الحرف المعتل مجرى
الحرف الصحيح من جميع الوجوه في الأسماء والأفعال جميعا لأنه الأصل» اه. وكلام
المازني هو الرأي الأول الذي ذكرناه لك ، وقد ذكرنا مثلهما في شرح الشاهدين ٧ و ١١
فتأمل والله يرشدك.
__________________
اتصلت ببناء الاسم نحو قائم وقائمة فإنها تصير حرف الإعراب ؛ لأنها صارت
آخر الكلمة وتخرج [١٢] ما قبلها عن تلك الصفة ؛ لأنه قد صار بمنزلة حشو الكلمة ؛
فكذلك هاهنا ، وبل أولى ؛ فإن تاء التأنيث زائدة على بناء الاسم وليست أصلية ، وحرف
العلة هاهنا أصليّ في بناء الاسم وليس زائدا ، وإذا ترك ما قبل الزائد حشوا فلأن
يترك ما قبل الأصليّ حشوا كان ذلك من طريق الأولى.
وأما قولهم «إن
الحركة التي تكون إعرابا للمفرد في حال الإفراد هي بعينها تكون إعرابا له في حال
الإضافة نحو : هذا غلام ، وهذا غلامك» قلنا : إنما تكون الحركة فيهما واحدة إذا
كان حرف الإعراب فيهما واحدا ، نحو «هذا غلام ، وهذا غلامك» وقد بيّنا اختلاف حرف
الإعراب فيهما ؛ فلا يقاس أحدهما على الآخر ، وإن ادّعوا أن حرف الإعراب فيهما
واحد ـ على خلاف التحقيق من مذهبهم ـ وزعموا أن الحرف للإعراب وليس بلام الكلمة ،
وأنه والحركة مزيدان للإعراب ، فقد بيّنا أن ذلك لا نظير له في كلامهم ، وأن
أحدهما زيادة بغير فائدة ، وأوضحنا فساده بما يغني عن الإعادة.
وأما قولهم «تغيّر
الحركات على الباء في حال الرفع والنصب والجر يدلّ على أنها حركات إعراب» قلنا : هذا
لا يدل على أنها حركات إعراب ؛ لأنها إنما تغيرت توطئة للحروف التي بعدها ؛ لأنها
من جنسها ، كما قلنا في الجمع السالم نحو «مسلمون ومسلمين» فإن ضمة الميم في الرفع
تتغير إلى الكسرة في حال الجر والنصب ، وليس ذلك بإعراب ، وإنما جعلت الضمة توطئة
للواو ، والكسرة توطئة للياء ، فكذلك هاهنا ، وإذا بطل أن تكون هذه الحركات حركات
إعراب ، وأجمعنا على أن هذه الحروف ـ التي في الواو والألف والياء ـ تدل على الرفع
والنصب والجر الذي هو جملة الإعراب ؛ فلا حاجة إلى أن يكون معربا من مكان آخر.
وأما قولهم «إنما
أعربت هذه الأسماء الستة من مكانين لقلة حروفها» قلنا : هذا ينتقض بغد ويد ودم ؛
فإنها قليلة الحروف [و] لا تعرب في حال الإضافة إلا من مكان واحد.
وأما قولهم «ليزيدوا
بالإعراب في الإيضاح والبيان» قلنا : الإيضاح والبيان قد حصل بإعراب واحد ، فصار
الإعراب الزائد لغير فائدة ، والحكم لا يزيد شيئا لغير فائدة ؛ فوجب أن تكون معربة
من مكان واحد كسائر ما أعرب من الكلام ، والله أعلم.
[١٣] ٣
مسألة
[القول في إعراب
المثنى والجمع على حدّه]
ذهب الكوفيّون
إلى أن الألف والواو والياء في التثنية والجمع بمنزلة الفتحة والضمة والكسرة في
أنها إعراب ، وإليه ذهب أبو علي قطرب بن المستنير ، وزعم قوم أنه مذهب سيبويه ،
وليس بصحيح. وذهب البصريون إلى أنها حروف إعراب. وذهب أبو الحسن الأخفش وأبو
العباس المبرد وأبو عثمان المازني إلى أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب ، ولكنها
تدل على الإعراب. وذهب أبو عمر الجرمي إلى أن انقلابها هو الإعراب ، وحكى عن أبي
إسحاق الزّجّاج أن التثنية والجمع مبنيان ، وهو خلاف الإجماع.
أما الكوفيّون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنها إعراب كالحركات أنها تتغير كتغير الحركات ،
ألا ترى أنك تقول : قام الزّيدان ، ورأيت الزيدين ، ومررت بالزيدين. وذهب الزيدون
، ورأيت الزيدين ، ومررت بالزيدين ، فتتغير كتغير الحركات ، نحو «قام زيد ، ورأيت
زيدا ، ومررت بزيد» وما أشبه ذلك ، فلما تغيرت كتغير الحركات دل على أنها إعراب
بمنزلة الحركات ، ولو كانت حروف إعراب لما جاز أن تتغير ذواتها عن حالها ؛ لأن
حروف الإعراب لا تتغير ذواتها عن حالها ، فلما تغيرت تغير الحركات دلّ على أنها
بمنزلتها ؛ ولهذا سماها سيبويه حروف الإعراب ؛ لأنها الحروف التي أعرب الاسم بها ،
كما يقال : حركات الإعراب ـ أي الحركات التي أعرب الاسم بها ـ والذي يدلّ على ذلك
أنه جعل الألف في التثنية رفعا فقال : يكون في الرفع ألفا ، وجعل الياء فيها جرا
فقال : يكون في الجر ياء مفتوحا ما قبلها ، وجعل الياء أيضا نصبا حملا على الجر
فقال :
__________________
ويكون في النصب كذلك ، وهكذا جعل الواو والياء في الجمع رفعا وجرا ونصبا ،
والرفع والجر والنصب لا يكون إلا إعرابا ؛ فدلّ على أنها إعراب.
قالوا : ولا
يجوز أن يقال «إن هذا يؤدي إلى أن يكون معربا لا حرف إعراب له وهذا لا نظير له ،
وذلك لا يجوز» لأنا نقول هنا : إنما لا يجوز فيما يكون إعرابه بالحركة لا بالحرف ؛
لأن الحركة تدخل في الحرف ، بخلاف ما إذا كان معربا بالحرف ، لأن [١٤] الحرف لا
يدخل في الحرف ، والذي يدل على ذلك الخمسة الأمثلة ـ وهي : يفعلان ، وتفعلان ،
ويفعلون ، وتفعلون ، وتفعلين يا امرأة ـ فإنها لما كانت معربة بالحرف لم يكن لها
حرف إعراب ، ألا ترى أن النون علامة الرفع كالضمة في تضرب؟ وإذا جاز أن تكون هذه
الخمسة الأمثلة معربة ولا حرف إعراب لها لأن إعرابها بالحرف فكذلك هاهنا يجوز أن
يكون الاسم في التثنية والجمع معربا ولا حرف إعراب له ؛ لأن إعرابه بالحرف.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنها حروف إعراب وليست بإعراب لأن هذه الحروف إنما
زيدت للدلالة على التثنية والجمع؟ ألا ترى أن الواحد يدل على مفرد ؛ فإذا زيدت هذه
الحروف دلت على التثنية والجمع؟ فلما زيدت بمعنى التثنية والجمع صارت من تمام صيغة
الكلمة التي وضعت لذلك المعنى ؛ فصارت بمنزلة التاء في قائمة والألف في حبلى ،
وكما أن التاء والألف حرفا إعراب فكذلك هذه الحروف هاهنا.
وأما من ذهب
إلى أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب ولكنها تدل على الإعراب فقال : لأنها لو كانت
إعرابا لما اختلّ معنى الكلمة بإسقاطها كإسقاط الضمة من دال زيد في قولك «قام زيد»
وما أشبه ذلك ، ولو أنها حروف إعراب كالدال من «زيد» لما كان فيها دلالة على
الإعراب ، كما لو قلت «قام زيد» من غير حركة ، وهي تدل على الإعراب ؛ لأنك إذا قلت
«رجلان» علم أنه رفع ؛ فدل على أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب ، ولكنها تدل على
الإعراب.
وهذا القول
فاسد ، وذلك لأن قولهم «إن هذه الحروف تدل على الإعراب لا يخلو : إما أن تدل على
إعراب في الكلمة ، أو في غيرها ؛ فإن كانت تدل على إعراب في الكلمة فوجب أن تقدر
في هذه الحروف ، لأنها أواخر الكلمة ، فيؤول هذا القول إلى أنها حروف الإعراب كقول
أكثر البصريين ، وإن كانت تدل على إعراب في غير الكلمة فوجب أن تكون الكلمة مبنيّة
، وليس من مذهب أبي الحسن الأخفش وأبي العباس المبرد وأبي عثمان المازني أن
التثنية والجمع مبنيّان.
وأما من ذهب
إلى أن انقلابها هو الإعراب فقد أفسده بعض النحويين من وجهين ؛ أحدهما : أن هذا
يؤدي إلى أن يكون الإعراب بغير [١٥] حركة ولا حرف ، وهذا لا نظير له في كلامهم.
والوجه الثاني : أن هذا يؤدي إلى أن يكون التثنية والجمع في حال الرفع مبنيين ؛
لأن أول أحوال الاسم الرفع ولا انقلاب له ، وأن يكونا في حال النصب والجر معربين ؛
لانقلابهما. وليس من مذهب أبي عمر الجرمي أن التثنية والجمع مبنيان في حال من
الأحوال.
وأما من ذهب
إلى أنهما مبنيان فقال : إنما قلت ذلك لأن هذه الحروف زيدت على بناء المفرد في
التثنية والجمع ، فنزّلا منزلة ما ركب من الاسمين نحو «خمسة عشر» وما أشبهه.
وهذا القول
أيضا يفسد من وجهين ؛ أحدهما : أن التثنية والجمع وضعا على هذه الصيغة لأن يدلّا
على معنييهما من التثنية والجمع ، وإنما يفرد المفرد في الحكم لوجود لفظه ، وإذا
كان كذلك لم يجر أن يشبّها بما ركب من شيئين منفصلين كخمسة عشر وما أشبهه ، والوجه
الثاني : أنهما لو كانا مبنيين لكان يجب أن لا يختلف آخرهما باختلاف العوامل فيهما
؛ لأن المبني ما لا يختلف آخره باختلاف العوامل فيه ، فلما اختلف هاهنا آخر التثنية
والجمع باختلاف العوامل فيهما دل على أنهما معربان لا مبنيان.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنها هي الإعراب كالحركات بدليل أنها تتغير تغيّر
الحركات» فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن القياس كان يقتضي أن لا تتغير كقراءة من قرأ : (إنَّ
هذان لساحران) على لغة بنى الحارث بن كعب ، إلا أنهم عدلوا عن هذا القياس لإزالة
اللّبس ، ألا ترى أنك لو قلت «ضرب الزيدان العمران» لوقع الالتباس ، وليس هذا
بمنزلة المقصور في نحو «ضرب موسى عيسى» ؛ لأن المقصور يزول عنه اللبس بالوصف
والتوكيد ؛ لأنه ليس من شرط وصف المقصور أن يكون مقصورا ، وكذلك التوكيد ؛ بخلاف
المثنى والمجموع ؛ لأنه من شرط وصف المثنى أن يكون مثنى ، ومن شرط وصف المجموع أن
يكون مجموعا ، وكذلك التوكيد ، فبان الفرق بينهما ؛ والذي يدل على
أن هذه الأحرف ليست إعرابا كالحركات أنها لو كانت هي الإعراب كالحركات لكان يجب أن
لا يخلّ سقوطها بمعنى الكلمة كما لو
__________________
سقطت الحركات ؛ لأن سقوط الإعراب لا يخلّ بمعنى الكلمة ، ألا ترى أنك لو
أسقطت الضمة والفتحة والكسرة من [١٦] الاسم نحو «قام زيد ، ورأيت زيد ، ومررت بزيد»
لم يخلّ بمعنى الاسم ، ولو أسقطت الألف والواو والياء من التثنية والجمع لأخلّ
بمعنى التثنية والجمع؟ فلما أخلّ سقوط هذه الحروف بمعنى التثنية والجمع بخلاف
الحركات دلّ على أنها ليست بإعراب كالحركات.
والوجه
الثاني : أن هذه
الحروف إنما تغيرت في التثنية والجمع ؛ لأن لهما خاصية لا تكون في غيرهما استحقّا
من أجلها التغيير ، وذلك أن كل اسم معتل لا تدخله الحركات ـ نحو «رحى ، وعصا ، وحبلى
، وبشرى» ـ له نظير من الصحيح يدل على مثل إعرابه ، فنظير رحى وعصا : جمل وجبل ،
ونظير حبلى وبشرى : حمراء وصحراء ، وأما التثنية وهذا الجمع الذي على حدها ، فلا
نظير لواحد منهما إلا بتثنية أو جمع ، فعوضا من فقد النظير الدالّ على مثل إعرابها
تغيّر هذه الحروف فيهما.
والوجه
الثالث : أن هذا
ينتقض بالضمائر المتصلة والمنفصلة ؛ فإنها تتغير في حال الرفع والنصب والجر ، وليس
تغيرها إعرابا ، ألا ترى أنك تقول في المنفصلة «أنا ، وأنت» في حال الرفع ، و «إياي
، وإياك» في حال النصب ، وتقول في المتصلة «مررت بك» فتكون الكاف في موضع جر وهي
اسم مخاطب ، و «رأيتك» فتكون في موضع نصب ، وتقول «قمت ، وقعدت» فتكون التاء في
موضع رفع ، فتتغير هذه الضمائر في هذه الأحوال وإن لم يكن تغيرها إعرابا.
وأما قولهم «إن
سيبويه سماها حروف الإعراب» قلنا : هذا حجة عليكم ؛ لأن حروف الإعراب هي أواخر الكلم
، وهذه الحروف هي أواخر الكلم ؛ فكانت حروف الإعراب ، قولهم «إنما سماها حروف
الإعراب ، لأنها التي أعرب الاسم بها ، كما تقول : حركات الإعراب» قلنا : هذا خلاف
الظاهر ؛ فإن الظاهر في اصطلاح النحويين أنه إذا أطلق حرف الإعراب إنما يطلق على
آخر حرف من الكلمة ، نحو الدال من «زيد» والراء من «عمرو» لا على الحرف الذي يكون
إعرابا للكلمة ، ألا ترى أن الخمسة الأمثلة أعربت بالحرف ، ولا حرف إعراب لها؟
وأما قولهم «إنه
جعل الألف والواو والياء في التثنية والجمع رفعا وجرا ونصبا إلى آخر ما ذكروه»
قلنا : معنى قوله «يكون في الرفع ألفا ، ويكون في الجر ياء ، وفي النصب كذلك» أي
أنه يقع موقع المرفوع ، وإن لم يكن مرفوعا ، [١٧] ويقع موقع المجرور وإن لم يكن
مجرورا ، ويقع موقع المنصوب وإن لم يكن منصوبا ، كما يقال : ضمير المرفوع ، وضمير
المنصوب ، وضمير المجرور ، وإن لم يكن
شيء منها مرفوعا ولا منصوبا ولا مجرورا ، وإنما المرفوع والمنصوب والمجرور
ما يقع موقعها من الأسماء المعربة ؛ فكذلك هذه الحروف تقع موقع ما يحلّ فيه
الإعراب وإن لم يكن فيها إعراب لوقوعها موقع ما يحل فيه الإعراب إذا وجد ، وصار
هذا كقول علماء العربية «حروف الزوائد عشرة يجمعها لا أنسيتموه» وإن كانت هذه
الحروف قد تقع زائدة وأصلية ، ألا ترى أن اللام أصلية في «جبل ، وجمل» كما هي
زائدة في «زيدل ، وعبدل» وكذلك سائرها ، ثم سمّيت بذلك لأن الحروف الزوائد لا تخرج
عنها ، فكذلك هاهنا ؛ فدلّ على أنها حروف الإعراب ، والذي يدل على أنها ليست هي
الإعراب أنا لو قلنا إنها هي الإعراب لأدّى إلى أن يكون معرب لا حرف إعراب له ،
وهذا لا نظير له.
قولهم : «هذا
إنما لا يجوز فيما يكون إعرابه بالحركة لا بالحرف» قلنا : لا نسلم ، بل الأصل في
كل معرب أن يكون له حرف إعراب ، سواء كان معربا بالحركة أو معربا بالحرف ، فأما
الخمسة أمثلة فمنهم من ذهب إلى أن لها حرف إعراب وهي الألف في «يفعلان»
والواو في «يفعلون» والياء في «تفعلين» فعلى هذا لا نسلم ، ولئن سلمنا على المذهب
المشهور فإنما أعربت ولا حرف إعراب لها على خلاف الأصل ، وذلك لأنا لو قدّرنا لها
حرف إعراب لم يخل : إما أن يكون اللام ، أو الضمير ، أو النون ؛ بطل أن يكون حرف
الإعراب اللام ؛ لأن من الإعراب الجزم ؛ فلو جعلناه اللام لوجب أن يسكن في حالة
الجزم ؛ فكان يؤدي إلى أن يحذف ضمير الفاعل ، وذلك لا يجوز ، وبطل أيضا أن يكون الضمير حرف الإعراب
؛ لأن الضمير في الحقيقة ليس جزءا من الفعل ، وإنما هو اسم قائم بنفسه في موضع رفع
؛ لأنه فاعل ؛ فلا يجوز أن يكون إعرابا لكلمة أخرى ، وعلى هذا تخرج الألف والواو
والياء في تثنية الأسماء وجمعها ؛ فإنها حروف لا تقوم بنفسها ولا موضع لها من
الإعراب ؛ فجاز أن تكون حروف الإعراب ، وبطل أن تكون النون حرف الإعراب ؛ لأنها
ليست كحرف من الفعل ، وإنما هي بمنزلة [١٨] الحركة التي هي الضمة ، ولهذا تحذف في
الجزم والنصب ، ولا يخلّ حذفها بمعنى الفعل ، ولو كانت حرف الإعراب لما حذفت مع
تحركها ، ولأخلّ حذفها بمعنى الفعل ، ولكان الإعراب جاريا عليها ؛ فلذلك لم يجز أن
تكون حرف الإعراب ، وعلى هذا تخرج الألف والواو والياء في التثنية والجمع ؛ فإنها
بمنزلة حروفها ، ويختلّ معناهما بحذفها ؛ فلذلك جاز أن تكون حروف الإعراب على ما
بينّا ، والله أعلم.
__________________
٤
مسألة
[هل يجوز جمع العلم المؤنث بالتاء جمع المذكر السالم؟]
ذهب الكوفيون
إلى أن الاسم الذي آخره تاء التأنيث إذا سميت به رجلا يجوز أن يجمع بالواو والنون
، وذلك نحو طلحة وطلحون ، وإليه ذهب أبو الحسن ابن كيسان ، إلّا أنه يفتح اللام
فيقول الطّلحون ـ بالفتح ـ كما قالوا «أرضون» حملا على أرضات ، وذهب البصريون إلى
أن ذلك لا يجوز.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا : إنه يجوز جمعه بالواو والنون وذلك لأنه في
التقدير جمع طلح ؛ لأن الجمع قد تستعمله العرب على تقدير حذف حرف من الكلمة ، قال
الشاعر :
[١٨]* وعقبة
الأعقاب في الشّهر الأصم*
فكسّره على ما
لا هاء فيه ، وإذا كانت الهاء في تقدير الإسقاط جاز جمعه بالواو والنون كسائر
الأسماء المجموعة بالواو والنون ؛ والذي يدل على صحة مذهبنا أنا أجمعنا على أنك لو
سميت رجلا بحمراء أو حبلى لجمعته بالواو والنون فقلت «حمراؤون ، وحبلون» ولا خلاف
أن ما في آخره ألف التأنيث أشد تمكنا في التأنيث مما في آخره تاء التأنيث ؛ لأن
ألف التأنيث صيغت الكلمة عليها ، ولم تخرج الكلمة من تذكير إلى تأنيث ، وتاء
التأنيث ما صيغت الكلمة عليها وأخرجت الكلمة من التذكير إلى التأنيث ، ولهذا
المعنى قام التأنيث بالألف في منع الصرف مقام شيئين ، بخلاف التأنيث بالتاء ، وإذا
[١٩] جاز أن يجمع بالواو والنون ما في
______________________________________________________
[١٨] لم أقف لهذا البيت ـ مع طويل البحث
ـ على نسبة ، ولا تكملة ، ولا وجدت أحدا أثر غيره المؤلف ، والاستشهاد به في قوله «الأعقاب»
فإنه جمع عقبة بعد تقدير سقوط التاء فيصير مثل قفل ، وهو يجمع على أقفال.
__________________
آخره ألف التأنيث ـ وهي أوكد من التاء ـ فلأن يجوز ذلك فيما آخره التاء كان
ذلك من طريق الأولى.
وأما ابن كيسان
فاحتج على ذلك بأن قال : إنما جوّزنا جمعه بالواو والنون وذلك لأن التاء تسقط في
الطّلحات ، فإذا سقطت التاء وبقي الاسم بغير تاء جاز جمعه بالواو والنون ، كقولهم «أرض
وأرضون» وكما حركت العين من أرضون بالفتح حملا على أرضات فكذلك حركات العين من «الطّلحون»
حملا على الطّلحات ؛ لأنهم يجمعون ما كان على «فعلة» من الأسماء دون الصفات على «فعلات».
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على امتناع جواز هذا الجمع بالواو والنون وذلك لأن في
الواحد علامة التأنيث ، والواو والنون علامة التذكير ، فلو قلنا إنه يجوز أن يجمع
بالواو والنون لأدّى ذلك إلى أن يجمع في اسم واحد علامتان متضادتان ، وذلك لا يجوز
، ولهذا إذا وصفوا المذكر بالمؤنث فقالوا «رجل ربعة» جمعوه بلا خلاف فقالوا «ربعات»
ولم يقولوا : ربعون ، والذي يدل على صحة هذا القياس أنه لم يسمع من العرب في جمع
هذا الاسم أو نحوه إلا بزيادة الألف والتاء ، كقولهم في جمع طلحة «طلحات» وفي جمع
هبيرة «هبيرات» قال الشاعر :
[١٩] رحم الله
أعظما دفنوها
|
|
بسجستان طلحة
الطّلحات
|
ولم يسمع عن
أحد العرب أنهم قالوا الطلحون ولا الهبيرون ، ولا في شيء من هذا النحو بالواو
والنون ، فإذا كان هذا الجمع مدفوعا من جهة القياس معدوما من جهة النقل فوجب أن لا
يجوز.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنه في التقدير جمع طلح» قلنا : هذا فاسد ؛ لأن الجمع
إنما وقع على جميع حروف الاسم ، لأنا إيّاه نجمع ، وإليه نقصد ، وتاء التأنيث من
جملة حروف هذا الاسم ؛ فلم ننزعها عنه قبل الجمع وإن كان اسما لمذكر ؛ لئلا يكون
بمنزلة ما سمّي به ولا علامة فيه ، فالتاء في جمعه مكان التاء في واحده.
______________________________________________________
[١٩] هذا البيت من كلام عبيد الله بن
قيس الرقيات ، من كلمة له يقولها في طلحة بن عبد الله ابن خلف الخزاعي ، وقد أنشده
ابن منظور (ط ل ح) وقد اختلف في سبب تسميته «طلحة الطلحات» فقيل : كان كريما وإنه
زوج مائة عربي بمائة عربية وأمهرهن من ماله ، فولد لكل واحد ولد فسماه طلحة ،
فأضيف إليهم ؛ لأن يده كانت السبب فيهم ، وقيل : بل لأن أمه صفية بنت الحارث بن
طلحة ، واسم عمها طلحة ، واسم أخيها طلحة ، فلما اكتنفه هؤلاء الطلحات أضافوه
إليهم.
وأما ما
استشهدوا به من قوله :
* وعقبة الأعقاب في الشهر الأصم* [١٨]
فهو مع شذوذه
وقلته فلا تعلق له بما وقع الخلاف فيه ؛ لأن جمع التصحيح ليس على قياس جمع التكسير
ليحمل عليه.
وأما قولهم «إنا
أجمعنا على أنك لو سميت [٢٠] رجلا بحمراء وحبلى لقلت في جمعه : حمراؤون وحبلون ـ إلى
آخر ما قدّروا» قلنا : إنما جمع ما في آخره ألف التأنيث بالواو والنون لأنها يجب
قلبها إلى بدل ، لأنها صيغت عليها الكلمة ، فنزلت منزلة بعضها ، فلم تفتقر إلى أن
تعوّض بعلامة تأنيث الجمع ، بخلاف التاء ، فإنها يجب حذفها إلى غير بدل ، لأنها ما
صيغت عليها الكلمة ، وإنما هي بمنزلة اسم ضمّ إلى اسم ، فجعلت علامة تأنيث الجمع
عوضا منها.
وأما قول ابن
كيسان «إن التاء تسقط في الطّلحات ، فإذا سقطت التاء جاز أن تجمع بالواو والنون»
قلنا : هذا فاسد ؛ لأن التاء وإن كانت محذوفة لفظا إلا أنها ثابتة تقديرا ؛ لأن
الأصل فيها أن تكون ثابتة ، ألا ترى أن الأصل أن تقول في جمع مسلمة «مسلمتات»
وصالحة «صالحتات» إلا أنهم لما أدخلوا تاء التأنيث في الجمع حذفوا هذه التاء التي
كانت في الواحد ؛ لأنهم كرهوا أن يجمعوا بينهما ، لأن كل واحدة منهما علامة تأنيث
، ولا يجمع في اسم واحد علامتا تأنيث ، فحذفوا الأولى فقالوا «مسلمات ، وصالحات»
وكان حذف الأولى أولى لأن في الثانية زيادة معنى ، ألا ترى أن الأولى تدلّ على
التأنيث فقط ، والثانية تدل على التأنيث والجمع ، وهي حرف الإعراب ، فلما كان في
الثانية زيادة معنى كان تبقيتها وحذف الأولى أولى ، فهي وإن كانت محذوفة لفظا إلا
أنها ثابتة تقديرا ؛ فصار هذا بمنزلة ما حذف لالتقاء الساكنين ؛ فإنه وإن كان
محذوفا لفظا إلا أنه ثابت تقديرا ، فكذلك هاهنا. وإذا كانت التاء المحذوفة هاهنا
في حكم الثابت فينبغي أن لا يجوز أن تجمع بالواو والنون كما لو كانت ثابتة.
والذي يدلّ على
فساد ما ذهب إليه فتح العين من قوله «الطّلحون» لأن الأصل في الجمع بالواو والنون
أن يسلم فيه لفظ الواحد في حروفه وحركاته ، والفتح قد أدخل في جمع التصحيح تكسيرا.
فأما قوله «إن
العين حركت من أرضون بالفتح حملا على أرضات» قلنا : لا نسلم ، وإنما غير فيه لفظ
الواحد ؛ لأنه جمع على خلاف الأصل ؛ لأن الأصل في الجمع بالواو والنون أن يكون لمن
يعقل ، ولكنهم لما جمعوه بالواو والنون غيّروا
فيه لفظ الواحد تعويضا عن حذف تاء التأنيث [٢١] منه تخصيصا له بشيء لا يكون
في سائر أخواته ، مع أن هذا التعويض تعويض جواز ، لا تعويض وجوب ، ألا ترى أنهم لا
يقولون في جمع شمس شمسون ولا في جمع قدر قدرون ، فلما كان هذا الجمع في أرض على
خلاف الأصل أدخل فيه ضرب من التغيير ؛ ففتحت العين منه إشعارا بأنه جمع بالواو
والنون على خلاف الأصل ، فأما إذا جمع من يعقل بالواو والنون فلا يجوز أن يجعل
بهذه المثابة ؛ لأن جمعه بالواو والنون بحكم الأصل لا بحكم التعويض ؛ فلا يجوز أن
يدخله ضرب من التغيير كما كان ذلك في أرضون ، ويخرّج على هذا حذف التاء وفتح العين
من طلحات : أما حذف التاء فلأنّ التاء الثانية صارت عوضا عنها لأنها للتأنيث كما
أنها للتأنيث ، وأما أنتم فحذفتم من غير عوض ، فبان الفرق ؛ وأما فتح العين فلأجل
الفصل بين الاسم والصفة ، فإن ما كان على فعلة من الأسماء فإنه يفتح منه العين نحو
قصعات وجفنات ، وما كان صفة فإنه لا تحرك منه العين نحو خدلات وصعبات. وأما جمع
التصحيح بالواو والنون فلا يدخله شيء من هذا التغيير ، ألا ترى أنه لا يفرق فيه
بين الاسم والصفة ؛ فلا يقال في الاسم بالفتح نحو عمرون وبكرون. وإنما يقال
بالسكون نحو عمرون وبكرون ، كما يقال في الصفة نحو خدلون وصعبون ؛ فبان الفرق
بينهما ، والله أعلم.
٥
مسألة
[القول في رافع المبتدأ ورافع الخبر]
ذهب الكوفيون
إلى أن المبتدأ يرفع الخبر ، والخبر يرفع المبتدأ ؛ فهما يترافعان ، وذلك نحو «زيد
أخوك ، وعمرو غلامك». وذهب البصريون إلى أن المبتدأ يرتفع بالابتداء ، وأما الخبر
فاختلفوا فيه : فذهب قوم إلى أنه يرتفع بالابتداء وحده ، وذهب آخرون إلى أنه يرتفع
بالابتداء والمبتدأ معا ، وذهب آخرون إلى أنه يرتفع بالمبتدأ والمبتدأ يرتفع
بالابتداء.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن المبتدأ يرتفع بالخبر والخبر يرتفع بالمبتدأ
لأنّا وجدنا [٢٢] المبتدأ لا بدّ له من خبر ، والخبر لا بدّ له من مبتدأ ، ولا
ينفك أحدهما من صاحبه ، ولا يتم الكلام إلا بهما ، ألا ترى أنك إذا قلت «زيد أخوك»
لا يكون أحدهما كلاما إلا بانضمام الآخر إليه؟ فلما كان كل واحد منهما لا ينفك عن
الآخر ويقتضي صاحبه اقتضاء واحدا عمل كل واحد منهما في صاحبه مثل ما عمل صاحبه فيه
؛ فلهذا قلنا : إنهما يترافعان ، كل واحد منهما يرفع صاحبه. ولا يمتنع أن يكون كل
واحد منهما عاملا ومعمولا ، وقد جاء لذلك نظائر كثيرة ، قال الله تعالى : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ
الْحُسْنى) [الإسراء : ١١٠] فنصب أيّاما بتدعوا ، وجزم تدعوا بأيّاما ، فكان كل واحد
منهما عاملا ومعمولا ، وقال تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨] فأينما منصوب بتكونوا وتكونوا مجزوم بأينما ، وقال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللهِ) [البقرة : ١١٥] إلى غير ذلك من المواضع ، فكذلك هاهنا.
__________________
قالوا : ولا
يجوز أن يقال إن المبتدأ يرتفع بالابتداء ، لأنّا نقول : الابتداء لا يخلو : إما
أن يكون شيئا من كلام العرب عند إظهاره ، أو غير شيء ؛ فإن كان شيئا فلا يخلو من
أن يكون اسما أو فعلا أو أداة من حروف المعاني ؛ فإن كان اسما فينبغي أن يكون قبله
اسم يرفعه ، وكذلك ما قبله إلى ما لا غاية له ، وذلك محال ، وإن كان فعلا فينبغي
أن يقال زيد قائما كما يقال «حضر زيد قائما» وإن كان أداة فالأدوات لا ترفع
الأسماء على هذا الحد. وإن كان غير شيء فالاسم لا يرفعه إلا رافع موجود غير معدوم
، ومتى كان غير هذه الأقسام الثلاثة التي قدمناها فهو غير معروف.
قالوا : ولا
يجوز أن يقال إنّا نعني بالابتداء التّعرّي من العوامل اللفظية ، لأنّا نقول : إذا
كان معنى الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية فهو إذا عبارة عن عدم العوامل ،
وعدم العوامل لا يكون عاملا. والذي يدل على أن الابتداء لا يوجب الرفع أنّا نجدهم
يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف ، ولو كان ذلك موجبا للرفع لوجب أن تكون
مرفوعة ، فلما لم يجب ذلك دلّ على أن الابتداء لا يكون موجبا للرفع.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن العامل هو الابتداء وإن كان الابتداء هو التعري
من العوامل اللفظية [٢٣] لأن العوامل في هذه الصناعة ليست مؤثرة حسية كالإحراق
للنار والإغراق للماء والقطع للسيف ، وإنما هي أمارات ودلالات ، وإذا كانت العوامل
في محل الإجماع إنما هي أمارات ودلالات فالأمارة والدلالة تكون بعدم شيء كما تكون
بوجود شيء ، ألا ترى أنه لو كان معك ثوبان وأردت أن تميز أحدهما من الآخر فصبغت
أحدهما وتركت صبغ الآخر لكان ترك صبغ أحدهما في التمييز بمنزلة صبغ الآخر؟ فكذلك
هاهنا. وإذا ثبت أنه عامل في المبتدأ وجب أن يعمل في خبره ، قياسا على غيره من
العوامل ، نحو «كان» وأخواتها و «إنّ» وأخواتها و «ظننت» وأخواتها ، فإنها لما
عملت في المبتدأ عملت في خبره ، فكذلك هاهنا.
وأما من ذهب
إلى أن الابتداء والمبتدأ جميعا يعملان في الخبر فقالوا : لأنا وجدنا الخبر لا يقع
إلا بعد الابتداء والمبتدإ ؛ فوجب أن يكونا هما العاملين فيه ، غير أن هذا القول
وإن كان عليه كثير من البصريين إلا أنه لا يخلو من ضعف ، وذلك لأن المبتدأ اسم ،
والأصل في الأسماء أن لا تعمل ، وإذا لم يكن له تأثير في العمل ، والابتداء له
تأثير ، فإضافة ما لا تأثير له إلى ما له تأثير لا تأثير له.
والتحقيق فيه
عندي أن يقال : إن الابتداء هو العامل في الخبر بواسطة
المبتدأ ؛ لأنه لا ينفكّ عنه ، ورتبته أن لا يقع إلا بعده ، فالابتداء يعمل
في الخبر عند وجود المبتدأ ، لا به ، كما أن النار تسخّن الماء بواسطة القدر
والحطب ، فالتسخين إنما حصل عند وجودهما ، لا بهما ؛ لأن التسخين إنما حصل بالنار
وحدها ، فكذلك هاهنا ، الابتداء وحده هو العامل في الخبر عند وجود المبتدإ ، إلا
أنه عامل معه ؛ لأنه اسم ، والأصل في الأسماء أن لا تعمل.
وأما من ذهب
إلى أن الابتداء يعمل في المبتدإ ، والمبتدأ يعمل في الخبر ، فقالوا : إنما قلنا
إن الابتداء يعمل في المبتدإ ، والمبتدأ يعمل في الخبر دون الابتداء ؛ لأن
الابتداء عامل معنوي ، والعامل المعنوي ضعيف ؛ فلا يعمل في شيئين كالعامل اللفظي.
وهذا أيضا ضعيف
؛ لأنه متى وجب كونه عاملا في المبتدإ وجب أن يعمل في خبره ؛ لأن خبر المبتدأ
يتنزل منزلة الوصف ، ألا ترى أن الخبر هو المبتدأ في المعنى ، كقوله [٢٤] «زيد
قائم ، وعمرو ذاهب» أو منزّل منزلته ، كقوله «زيد الشمس حسنا ، وعمرو الأسد شدة»
أي يتنزل منزلته ، وكقولهم «أبو يوسف أبو حنيفة» أي يتنزّل منزلته في الفقه ، قال
الله تعالى : (وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ) أي تتنزّل منزلتهن في الحرمة والتحريم ؛ فلما كان الخبر
هو المبتدأ في المعنى ، أو منزلا منزلته تنزل منزلة الوصف ؛ لأن الوصف في المعنى
هو الموصوف. ألا ترى أنك إذا قلت «قام زيد العاقل ، وذهب عمرو الظريف» أن العاقل
في المعنى هو زيد ، والظريف في المعنى هو عمرو؟ ولهذا لما تنزل الخبر منزلة الوصف
كان تابعا للمبتدإ في الرفع ؛ كما تتبع الصفة الموصوف ، وكما أن العامل في الوصف
هو العامل في الموصوف ، سواء كان العامل قويّا أو ضعيفا ، فكذلك هاهنا.
وأما قولهم «إن
المبتدأ يعمل في الخبر» فسنذكر فساده في الجواب عن كلمات الكوفيين.
أما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنهما يترافعان ؛ لأن كل واحد منهما لا بدّ له من
الآخر ولا ينفكّ عنه» قلنا : الجواب عن هذا من وجهين :
أحدهما : أن ما ذكرتموه يؤدّي إلى محال ، وذلك لأن العامل
سبيله أن يقدّر قبل المعمول ، وإذا قلنا إنهما يترافعان وجب أن يكون كل واحد منهما
قبل الآخر ، وذلك محال ، وما يؤدي إلى المحال محال.
والوجه
الثاني : أن العامل
في الشيء ما دام موجودا لا يدخل عليه عامل غيره ؛ لأن عاملا لا يدخل على عامل ،
فلما جاز أن يقال : «كان زيد أخاك ، وإن
زيدا أخوك ، وظننت زيدا أخاك» بطل أن يكون أحدهما عاملا في الآخر.
وأما ما
استشهدوا به من الآيات فلا حجة لهم [فيه] من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنا لا نسلم أن الفعل بعد أيّاما وأينما مجزوم
بأيّاما وأينما ، وإنما هو مجزوم بأن ، وأيّاما وأينما نابا عن إن لفظا ، وإن لم
يعملا شيئا.
والوجه
الثاني : أنا نسلم
أنها نابت عن إن لفظا وعملا ، ولكن جاز أن يعمل كل واحد منهما في صاحبه لاختلاف
عملهما ، ولم يعملا من وجه واحد ؛ فجاز أن يجتمعا ويعمل كل واحد منهما في صاحبه ،
بخلاف ما هنا.
والوجه
الثالث : إنما عمل كل
واحد منهما في صاحبه لأنه عامل ؛ فاستحق أن يعمل ، وأما هاهنا فلا خلاف أن المبتدأ
والخبر نحو [٢٥] : «زيد أخوك» اسمان باقيان على أصلهما في الاسمية ، والأصل في
الأسماء أن لا تعمل ؛ فبان الفرق بينهما.
وأما قولهم «إن
الابتداء لا يخلو من أن يكون اسما أو فعلا أو أداة ـ إلى آخر ما قرروا» قلنا : قد
بيّنا أن الابتداء عبارة [عن التعري] عن العوامل اللفظية.
وقولهم «فإذا
كان معنى الابتداء هو التعرّي عن العوامل اللفظية فهو إذا عبارة عن عدم العوامل ،
وعدم العوامل لا يكون عاملا» قلنا : قد بيّنا وجه كونه عاملا في دليلنا بما يغني
عن الإعادة هاهنا ، على أن هذا يلزمكم في الفعل المضارع ؛ فإنكم تقولون «يرتفع
بتعرّيه من العوامل الناصبة والجازمة» ، وإذا جاز لكم أن تجعلوا التعرّي عاملا في
الفعل المضارع جاز لنا أيضا أن نجعل التعرّي عاملا في الاسم المبتدإ.
وحكي أنه اجتمع
أبو عمر الجرميّ وأبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء ، فقال الفراء للجرمي : أخبرني
عن قولهم «زيد منطلق» لم رفعوا زيدا ؟ فقال له الجرمي : بالابتداء ، قال له الفراء : ما معنى
الابتداء؟ قال : تعريته من العوامل ، قال له الفراء : فأظهره ، قال له الجرمي :
هذا معنى لا يظهر ، قال له الفراء : فمثله إذا ، فقال الجرمي : لا يتمثل ، فقال
الفراء : ما رأيت كاليوم عاملا لا يظهر ولا يتمثل! فقال له الجرمي : أخبرني عن
قولهم : «زيد ضربته» لم رفعتم زيدا؟ فقال : بالهاء العائدة على زيد ، فقال الجرمي :
الهاء اسم فكيف يرفع الاسم؟ فقال الفراء : نحن لا نبالي من هذا ؛ فإنا نجعل كل
واحد من الاسمين إذا قلت «زيد منطلق» رافعا
__________________
لصاحبه ، فقال الجرمي : يجوز أن يكون كذلك في «زيد منطلق» لأن كل اسم منهما
مرفوع في نفسه فجاز أن يرفع الآخر ، وأما الهاء في «ضربته» ففي محل النصب ، فكيف
ترفع الاسم؟ فقال الفراء : لا نرفعه بالهاء ، وإنما رفعناه بالعائد على زيد ، قال
الجرمي : ما معنى العائد؟ قال الفراء : معنى لا يظهر ، قال الجرمي : أظهره ، قال
الفراء ؛ لا يمكن إظهاره ، قال الجرمي : فمثله ، قال : لا يتمثل ، قال الجرمي : لقد
وقعت فيما فررت منه. فحكي أنه سئل الفراء بعد ذلك فقيل له : كيف وجدت الجرمي؟ فقال
: وجدته آية ، وسئل الجرمي ، فقيل له : كيف وجدت الفراء؟ فقال : وجدته شيطانا.
وأما قولهم «إنا
نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف ولو كان ذلك [٢٦] موجبا للرفع لوجب أن
تكون مرفوعة» قلنا : أما المنصوبات فإنها لا يتصور أن تكون مبتدأة ؛ لأنها وإن
كانت متقدمة في اللفظ إلا أنها متأخرة في التقدير ؛ لأن كل منصوب لا يخلو إما أن
يكون مفعولا أو مشبها بالمفعول ، والمفعول لا بد أن يتقدمه عامل لفظا أو تقديرا ،
فلا تصح له رتبة الابتداء ، وإذا كانت هذه المنصوبات متقدمة في اللفظ متأخرة
التقدير لم يصح أن تكون مبتدأة ؛ لأنه لا اعتبار بالتقديم إذا كان في تقدير
التأخير ، وأما المسكنات إذا ابتدىء بها فلا يخلو إما أن تقع مقدّمة في اللفظ دون
التقدير أو تقع مقدمة في اللفظ والتقدير : فإن وقعت متقدمة في اللفظ دون التقدير
كان حكمها حكم المنصوبات ؛ لأنها في تقدير التأخير.
وإن وقعت
متقدمة في اللفظ والتقدير فلا تخلو : إما أن تستحق الإعراب في أول وضعها ، أو لا
تستحق الإعراب في أول وضعها :
فإن كانت تستحق
الإعراب في أول وضعها نحو «من ، وكم» وما أشبه ذلك من الأسماء المبنية على السكون
فإنا نحكم على موضعها بالرفع بالابتداء ، وإنما لم يظهر في اللفظ لعلة عارضة منعت
من ظهوره ، وهي شبه الحرف أو تضمّن معنى الحرف.
وإن كانت لا
تستحق الإعراب في أول وضعها ـ نحو الأفعال والحروف المبنية على السكون ـ فإنا لا
نحكم على موضعها بالرفع بالابتداء ؛ لأنها لا تستحق شيئا من الإعراب في أول الوضع
، فلم يكن الابتداء موجبا لها الرّفع ؛ لأنه نوع منه.
وهذا هو الجواب
عن قولهم : «إنهم يبتدئون بالحروف ، فلو كان ذلك موجبا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة»
وعدم عمله في محل لا يقبل العمل لا يدل على عدم عمله في محل يقبل العمل ، ألا ترى
أن السّيف يقطع في محلّ ولا يقطع في
__________________
محلّ آخر؟! وعدم قطعه في محل لا يقبل القطع لا يدل على عدم قطعه في محل يقبل
القطع ؛ لأن عدم القطع في محل لا يقبل القطع إنما كان لنبوّه في المحل ، لا لأن
السيف غير قاطع ، فكذلك هاهنا : عدم عمل الابتداء في محل لا يقبل العمل إنما كان
لعدم استحقاق المعمول ذلك العمل ، لا لأن الابتداء غير صالح أن يعمل ذلك العمل ،
والله أعلم.
[٢٧] ٦
مسألة
[في رافع الاسم
الواقع بعد الظرف والجار والمجرور]
ذهب الكوفيون
إلى أن الظرف يرفع الاسم إذا تقدم عليه ، ويسمون الظرف المحلّ ، ومنهم من يسميه
الصفة ، وذلك نحو قولك «أمامك زيد ، وفي الدار عمرو» وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش
في أحد قوليه وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد من البصريين ، وذهب البصريون إلى أن
الظرف لا يرفع الاسم إذا تقدم عليه ، وإنما يرتفع بالابتداء.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأن الأصل في قولك «أمامك زيد ، وفي الدار عمرو»
حلّ أمامك زيد ، وحلّ في الدار عمرو ، فحذف الفعل واكتفى بالظرف منه ، وهو غير
مطلوب ، فارتفع الاسم به كما يرتفع بالفعل. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن
سيبويه يساعدنا على أن الظرف يرفع إذا وقع خبرا لمبتدأ ، أو صفة لموصوف ، أو حالا
لذي حال ، أو صلة لموصول ، أو معتمدا على همزة الاستفهام أو حرف النفي ، أو كان الواقع
بعده «أنّ» التي في تقدير المصدر ؛ فالخبر كقوله تعالى : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) [سبأ : ٣٧] فجزاء مرفوع بالظرف ، والصفة كقولك «مررت برجل صالح في الدار
أبوه» ، والحال كقولك «مررت بزيد في الدار أبوه» وعلى ذلك قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً
وَنُورٌ) [فهدى ونور] مرفوعان بالظرف لأنه حال من الإنجيل ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [المائدة : ٤٦] فعطف (مُصَدِّقاً) على حال قبله ، وما ذاك إلا الظرف ، والصلة كقوله تعالى
: (وَمَنْ عِنْدَهُ
عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد : ٤٣] والمعتمد
__________________
على الهمزة كقوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌ) [إبراهيم : ١٠] ، وحرف النفي كقولك : «ما في الدار أحد» ، وأنّ كقوله تعالى
: (وَمِنْ آياتِهِ
أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ) [فصلت : ٣٩] فأنّ وما عملت فيه في موضع رفع بالظرف ، وإذا عمل الظرف في هذه
المواضع كلها فكذلك فيما وقع الخلاف فيه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن الاسم بعده يرتفع بالابتداء لأنه قد تعرّى من
العوامل اللفظية ، وهو معنى الابتداء ، فلو قدّر هاهنا عامل لم يكن إلا الظرف ،
وهو لا يصلح هاهنا أن يكون عاملا لوجهين :
أحدهما : أن الأصل في الظرف أن لا [٢٨] يعمل ، وإنما يعمل
لقيامه مقام الفعل ، ولو كان هاهنا عاملا لقيامه مقام الفعل لما جاز أن تدخل عليه
العوامل فتقول «إن أمامك زيدا ، وظننت خلفك عمرا» ، وما أشبه ذلك ؛ لأن عاملا لا
يدخل على عامل ؛ فلو كان الظرف رافعا لزيد لما جاز ذلك ، ولما كان العامل يتعداه
إلى الاسم ويبطل عمله ، كما لا يجوز أن تقول «إنّ يقوم عمرا ، وظننت ينطلق بكرا»
فلما تعداه العامل إلى الاسم كما قال تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا
أَنْكالاً وَجَحِيماً) [المزمل : ١٢] ولم يرو عن أحد من القراء أنه كان يذهب إلى خلاف النصب دل
على ما قلناه.
والثاني : أنه لو كان عاملا لوجب أن يرفع به الاسم في قولك «بك
زيد مأخوذ» وبالإجماع أنه لا يجوز ذلك.
اعترضوا على
هذين الوجهين من وجهين :
أما الوجه
الأول فاعترضوا عليه بأن قالوا : قولكم «إن العامل يتعدّاه إلى الاسم بعده» ليس
بصحيح ؛ لأن المحل عندنا اجتمع فيه نصبان : نصب المحل في نفسه ، ونصب العامل ،
ففاض أحدهما إلى «زيد» فنصبه.
وأما الوجه
الثاني فاعترضوا عليه بأن قالوا : قولكم «إنه لو كان عاملا لوجب أن يرفع الاسم في
قولك : بك زيد مأخوذ» ليس بصحيح ، وذلك لأن «بك» مع الإضافة إلى الاسم لا يفيد ،
بخلاف قولنا «في الدار زيد» إذا أضيف إليه الاسم فإنه يفيد ويكون كلاما.
وما اعترضوا به
على الوجهين باطل :
أما اعتراضهم
على الوجه الأول : قولهم «إنه اجتمع في المحل نصبان : نصب المحل في نفسه ، ونصب
العامل» قلنا : هذا باطل من وجهين :
أحدهما : أن
هذا يؤدي إلى أنه يجوز أن يكون الاسم منصوبا من وجهين ،
وذلك لا يجوز ، ألا ترى أنك لو قلت «أكرمت زيدا وأعطيت عمرا العاقلين» لم
يجز أن تنصبه على الوصف ؛ لأنك تجعله منصوبا من وجهين ، وذلك لا يجوز ، فكذلك
هاهنا.
والوجه
الثاني : أن النصب
الذي فاض من المحل إلى الاسم لا يخلو : إما أن يكون نصب المحل ، أو نصب العامل ؛
فإن قلتم نصب الظرف فقولوا إنه منصوب بالظرف ، وهذا ما لا يقول به أحد ؛ لأنه لا
دليل عليه ، وإن قلتم إنه نصب العامل فقد صح قولنا : إن العامل يتعدّاه إلى ما
بعده ويبطل عمله.
وأما اعتراضهم
على الوجه الثاني : قولهم «إن بك مع [٢٩] الإضافة إلى الاسم لا يفيد ، بخلاف قولك
في الدار إذا أضيف إليه الاسم فإنه يفيد» فباطل أيضا ؛ وذلك لأنه لو كان عاملا لما
وقع الفرق بينهما في هذا المعنى ، ألا ترى أن قولك «ضارب زيد» لا يفيد ، و «سار
زيد» يفيد ، ومع هذا فكل منهما عامل كالآخر ، فكذلك كان ينبغي أن يكون هاهنا.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن الأصل في قولك أمامك زيد وفي الدار عمرو : حلّ
أمامك زيد ، وحلّ في الدار عمرو ؛ فحذف الفعل ، واكتفى بالظرف منه» قلنا : لا نسلم
؛ أنّ التقدير في الفعل التقديم ، بل الفعل وما عمل فيه في تقدير التأخير ؛ وتقديم
الظرف لا يدل على تقديم الفعل ؛ لأن الظرف معمول الفعل ، والفعل هو الخبر ، وتقديم
معمول الخبر لا يدل على أن الأصل في الخبر التقديم ، ولأن المبتدأ يخرج عن كونه
مبتدأ بتقديمه ، ألا ترى أنك تقول «عمرا زيد ضارب» ولا يدل ذلك على أن الأصل في
الخبر التقديم وإن كان يجوز تقديمه على المعمول ، فكذلك هاهنا ، والذي يدل على أن
الفعل هاهنا في تقدير التأخير والاسم في تقدير التقديم مسألتان ؛ إحداهما : أنك
تقول «في داره زيد» ولو كان كما زعمتم لأدّى ذلك إلى الإضمار قبل الذكر ، وذلك لا
يجوز ، والثانية : أنا أجمعنا على أنه إذا قال «في داره زيد قائم» فإن زيدا لا
يرتفع بالظرف ، وإنما يرتفع عندكم بقائم ، وعندنا يرتفع بالابتداء ، ولو كان
مقدّما على زيد لوجب أن لا يلغى.
وأما قولهم «إنّ
الفعل غير مطلوب» قلنا : لو كان الفعل غير مطلوب ولا مقدر لأدّى ذلك إلى أن يبقى
الظرف منصوبا بغير ناصب ، وذلك لا يجوز ، وسنبين فساد ذلك في موضعه.
وأما قولهم «إن
سيبويه يساعدنا على أن الظرف يرفع إذا وقع خبرا لمبتدأ ، أو صفة لموصوف ، أو حالا
لذي حال ، أو صلة لموصول ، أو معتمدا على همزة
الاستفهام ـ إلى غير ذلك» فإنما كان كذلك لأن هذه المواضع أولى بالفعل من
غيره ، فرجح جانبه على الابتداء ، كما قلنا في اسم الفاعل إذا جرى خبرا لمبتدأ ،
أو صفة لموصوف ، أو حالا لذي حال ، أو صلة لموصول ، أو معتمدا على همزة الاستفهام
أو حرف النفي ، فالخبر كقولك «زيد قائم أبوه» والصفة كقولك «مررت [٣٠] برجل كريم
أخوه» والحال كقولك «جاءني زيد ضاحكا وجهه» والصلة كقولك «رأيت الذاهب غلامه»
والمعتمد على الهمزة نحو «أذاهب أخواك» وحرف النفي نحو «ما قائم غلامك» وإنما كان
ذلك لأن هذه الأشياء أولى بالفعل من غيره ؛ فلهذا غلب جانب تقديره ، بخلاف ما وقع
الخلاف فيه ، والله أعلم.
٧
مسألة
[القول في تحمّل الخبر الجامد ضمير المبتدأ]
ذهب الكوفيون
إلى أن خبر المبتدأ إذا كان اسما محضا يتضمن ضميرا يرجع إلى المبتدأ ، نحو «زيد أخوك ، وعمرو
غلامك» وإليه ذهب علي بن عيسى الرّمّانيّ من البصريين. وذهب البصريون إلى أنه لا
يتضمن ضميرا.
وأجمعوا على
أنه إذا كان صفة أنه يتضمن الضمير ، نحو «زيد قائم ، وعمرو حسن» وما أشبه ذلك.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه يتضمن ضميرا ـ وإن كان اسما غير صفة ـ لأنه في
معنى ما هو صفة ، ألا ترى أن قولك «زيد أخوك» في معنى زيد قريبك ، و «عمرو غلامك»
في معنى عمرو خادمك ، وقريبك وخادمك يتضمن كل واحد منهما الضمير ، فلما كان خبر
المبتدأ هاهنا في معنى ما يتحمل الضمير وجب أن يكون فيه ضمير يرجع إلى المبتدأ.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يتضمن ضميرا ، وذلك لأنه اسم محض غير صفة ،
وإذا كان عاريا عن الوصفية فينبغي أن يكون خاليا عن الضمير ؛ لأن الأصل في تضمن
الضمير أن يكون للفعل ، وإنما يتضمن الضمير من
__________________
الأسماء ما كان مشابها له ومتضمنا معناه كاسم الفاعل والصفة المشبهة به نحو
«ضارب ، وقاتل ، وحسن ، وكريم» وما أشبه ذلك ، وما وقع الخلاف فيه ليس بينه وبين
الفعل مشابهة بحال ، ألا ترى أنك إذا قلت «زيد أخوك» كان أخوك دليلا على الشخص
الذي دل عليه زيد ، وليس فيه دلالة على الفعل ، فكذلك إذا قلت «عمرو غلامك» كان
غلامك دليلا على الشخص الذي دلّ عليه عمرو ، وليس فيه دلالة على الفعل ؛ فوجب أن
لا يجوز الإضمار فيه [٣١] ، كما لا يجوز في زيد وعمرو.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : قولهم «إنما قلنا إنه يتضمن الضمير وإن كان اسما محضا لأنه في
معنى ما يتضمن الضمير لأن أخوك في معنى قريبك ، وغلامك في معنى خادمك» قلنا : هذا
فاسد ؛ لأنه إنما جاز أن يكون قريبك وخادمك متحملا للضمير لأنه يشابه الفعل لفظا
ويتضمنه معنى ، وهو الأصل في تحمل الضمائر ، ولا شبهة في مشابهة اسم الفاعل والصفة
المشبهة به للفعل ، ألا ترى أن «خادم» على وزن «يخدم» في حركته وسكونه وأن فيه
حروف خدم الذي هو الفعل ، وكذلك «قريب» فيه حروف قرب الذي هو الفعل ؛ فجاز أن
يتضمن الضمير ، فأما أخوك وغلامك فلا شبهة في أنه لا مشابهة بينه وبين الفعل بحال
، فينبغي أن لا يتحمل الضمير ، وكونه في معنى ما يشبه الفعل لا يوجب شبها بالفعل ،
ألا ترى أن حروف «أخوك ، وغلامك» عارية من حروف الفعل الذي هو قرب وخدم ؛ فينبغي
أن لا يتحمل الضمير ، ألا ترى أن المصدر إنما عمل عمل الفعل نحو «ضربي زيدا حسن»
لتضمنه حروفه ، فلو أقمت ضمير المصدر مقامه فقلت «ضربي زيدا حسن وهو عمرا قبيح» لم
يجز وإن كان ضمير المصدر في معناه ؛ لأن المصدر إنما عمل الفعل لتضمنه حروفه ، وليس في
ضمير المصدر لفظ الفعل ؛ فلا يجوز أن يعمل عمله ، فكذلك هاهنا : إنما جاز أن يتحمل
نحو «قريبك ، وخادمك» الضمير لمشابهته للفعل وتضمنه لفظه ، ولم يجز ذلك في نحو «أخوك»
و «غلامك» لأنه لم يشابه الفعل ولم يتضمن لفظه ، والله أعلم.
__________________
٨
مسألة
[القول في إبراز الضمير إذا جرى الوصف على غير صاحبه]
ذهب الكوفيون
إلى أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له نحو قولك «هند زيد ضاربته
هي» لا يجب إبرازه. وذهب البصريون إلى أنه يجب إبرازه. وأجمعوا على أن الضمير في
اسم الفاعل إذا جرى على من هو له لا يجب إبرازه.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه لا يجب [٣٢] إبرازه في اسم الفاعل إذا جرى على
غير من هو له أنه قد جاء عن العرب أنهم قد استعملوه بترك إبرازه فيه إذا جرى على
غير من هو له ، قال الشاعر :
[٢٠] وإنّ
امرأ أسرى إليك ودونه
|
|
من الأرض
موماة وبيداء سملق
|
______________________________________________________
[٢٠] هذان
البيتان من كلام الأعشى ميمون بن قيس ، وقد أنشد أولهما رضي الدين في باب الحال ،
وأنشدهما معا في باب الضمير ، وانظر الخزانة (١ / ٥٥١) وقد أنشدهما ابن منظور (ح ق
ق) منسوبين إليه. و «أسرى» سار ليلا ، وموماة : أي صحراء واسعة ، والبيداء : هي
الصحراء أيضا ، سموها بذلك لأن سالكها يبيد فيها ، أي يهلك ، وسموها أيضا مفازة من
الفوز تفاؤلا لسالكها بأن ينجو من الهلكة ، وسملق : أي قفر لا نبات فيها ، ويقال
للرجل : أنت حقيق أن تفعل كذا ، وأنت محقوق أن تفعله ، ويقال للمرأة : أنت حقيقة
لذلك ، وأنت محقوقة أن تفعلي ذلك ، ومعنى ذلك أنت جديرة وخليقة وحرية ، والمراد
أنه يلزمك فعله لأن فعله حق من الحقوق التي لزمتك. والاستشهاد به في قوله «لمحقوقة»
فإن هذه الكلمة وقعت خبرا لإن في أول البيتين ، وهذا الخبر جار على غير مبتدئه ،
نعني أنه وصف لغير المبتدأ الذي وقع هو خبرا عنه ، ومع ذلك لم يبرز الضمير معه ،
ولو أبرزه لقال : لمحقوقة أنت ، وما أشبه ذلك ، فلما لم يبرزه دل على أن إبرازه
ليس بضربة لازب ، وسيأتي للمؤلف فيما يلي إخراج هذا الشاهد عن أصل المسألة فيجعل
قوله لمحقوقة مبتدأ خبره المصدر المؤول من «أن تستجيبي» أو مبتدأ و «أن تستجيبي»
فاعل أغنى عن خبر المبتدأ وسننبه على ذلك هناك.
__________________
لمحقوقة أن
تستجيبي دعاءه
|
|
وأن تعلمي
أنّ المعان موفّق
|
فترك إبراز
الضمير ، ولو أبرزه لقال «محقوقة أنت» وقال الآخر :
[٢١] يرى
أرباقهم متقلّديها
|
|
كما صدىء
الحديد على الكماة
|
فترك إبرازه ،
ولو أبرزه لقال «متقلديها هم» فلما أضمره ولم يبرزه دلّ على جوازه ، ولأن الإضمار
في اسم الفاعل إنما جاز إذا جرى على من هو له لشبه الفعل ، وهو مشابه له إذا جرى
على غير من هو له ، كما إذا جرى على من هو له ؛ فكما جاز الإضمار فيه إذا جرى على
من هو له فكذلك يجوز إذا جرى على غير من هو له.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه يجب إبرازه فيه إذا جرى على غير من هو له أنا
أجمعنا على أن اسم الفاعل فرع على الفعل في تحمل الضمير ؛ إذ كانت الأسماء لا أصل
لها في تحمل الضمير ، وإنما يضمر فيما شابه منها الفعل كاسم الفاعل نحو «ضارب ،
وقاتل» والصفة المشبهة به نحو «حسن ، وشديد» وما أشبه ذلك ؛ فإذا ثبت أن اسم
الفاعل فرع على الفعل فلا شك أن المشبه بالشيء يكون أضعف منه في ذلك الشيء ، فلو
قلنا إنه يتحمل الضمير في كل حالة ـ إذا جرى على من هو له ، وإذا جرى على غير من
هو له ـ لأدّى ذلك إلى التسوية بين الأصل والفرع ، وذلك لا يجوز ؛ لأن الفروع أبدا
تنحطّ عن درجة الأصول ، فقلنا : إنه إذا جرى على غير من هو له يجب إبراز الضمير ؛
ليقع الفرق بين الأصل والفرع.
ومنهم من تمسك
بأن قال : إنما قلنا يجب إبراز الضمير فيه إذا جرى على غير من هو له لأنا لو لم
نبرزه لأدى ذلك إلى الالتباس ، ألا ترى أنك لو قلت «زيد أخوه ضارب» وجعلت الفعل
لزيد ولم تبرز الضمير لأدى ذلك إلى أن يسبق إلى فهم السامع أن الفعل للأخ دون زيد
، ويلتبس عليه ذلك؟ ولو أبرزت الضمير لزال هذا الالتباس ؛
______________________________________________________
[٢١] لم أقف
لهذا الشاهد على نسبة ولا تكملة ، ولا وجدت من أنشده غير المؤلف. والأرباق : جمع
ربق ـ بكسر الراء وقد تفتح ، والباء ساكنة ـ وأصله الحبل والحلقة التي تشد بها
الغنم الصغار لئلا ترضع ، ومتقلديها : أي جاعليها في أعناقهم في موضع القلادة ،
والكماة : جمع كمي ، وهو الشجاع المتكمي ، أي المستتر الذي غطى وجهه ، وكانوا
يفعلون ذلك إذا كان عليهم ثارات ، مخافة أن يتلمس أحد أعدائهم غفلتهم فيفتك بهم ،
والاستشهاد في البيت بقوله «متقلديها» فإن هذه الكلمة قد وقعت في هذا البيت مفعولا
ثانيا لترى ، وأنت خبير أن أصل المفعول الثاني لأرى خبر مبتدأ ، وأن المفعول الأول
هو مبتدأ ذلك الخبر ، وأنت ترى أن الخبر جار على غير مبتدئه ، لأن «متقلديها» وصف
للابسي ما عبر عنه بالأرباق ، لا للأرباق نفسها ، ومع ذلك لم يبرز معه الضمير ،
ولو أبرزه لقال «متقلديها هم» فدل ذلك على أن إبراز الضمير إذا جرى الوصف على غير
من هو له ليس واجبا لا معدى عنه.
فوجب إبرازه ؛ لأنه به يحصل إفهام السامع ورفع الالتباس ؛ ويخرج [٣٣] على
هذا إذا جرى على من هو له ؛ فإنه إنما لم يلزمه إبراز الضمير لأنه لا التباس فيه ،
ألا ترى أنك لو قلت «زيد ضارب غلامه» لم يسبق إلى فهم السامع إلا أن الفعل لزيد ؛
إذ كان واقعا بعده فلا شيء أولى به منه ، فبان بما ذكرنا صحة ما صرنا إليه.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما البيت الأول وهو قوله :
* لمحقوقة أن تستجيبي دعاءه* [٢٠]
فلا حجّة لهم
فيه ؛ لأنه محمول عندنا على الاتّساع والحذف ، والتقدير فيه : لمحقوقة بك أن
تستجيبي دعاءه ، وإذا جاز أن يحمل البيت على وجه سائغ في العربية فقد
سقط الاحتجاج به.
وأما البيت
الثاني ، وهو قول الآخر :
* ترى أرباقهم متقلّديها* [٢١]
فلا حجّة لهم
فيه أيضا ؛ لأن التقدير فيه ترى أصحاب أرباقهم ، إلا أنه حذف المضاف وأقام المضاف
إليه مقامه ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي : أهل القرية ، وقال تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ومنه قولهم «الليلة الهلال» أي : طلوع الهلال ؛ لأن ظروف
الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث.
قال الشاعر :
[٢٢] وشرّ
المنايا ميّت وسط أهله
|
|
كهلك الفتى
قد أسلم الحيّ حاضره
|
______________________________________________________
[٢٢] هذا البيت
من كلام الحطيئة ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٠٩). والمنايا : جمع منية ، وهي
الموت ، وأصلها فعيلة بمعنى مفعولة ، وفعلها «منى الله الأمر يمنيه» على مثال قضاه
يقضيه ، ومعناه قدره وهيأ له الأسباب ، سمى الموت بذلك لأنه من تقدير الله تعالى ،
والحاضر : الحي العظيم أو القوم ، وقال ابن سيده : هو الحي إذا حضروا الدار التي
بها مجتمعهم ، ومنه قول الشاعر :
في حاضر لجب
بالليل سامره
|
|
فيه الصواهل
والرايات والعكر
|
__________________
أي منية ميت.
وقال الآخر :
[٢٣] وكيف
تواصل من أصبحت
|
|
خلالته كأبي
مرحب؟
|
أي : كخلالة
أبي مرحب ، وقال الآخر :
[٢٤]أكلّ عام
نعم تحوونه
|
|
يلحقه قوم
وتنتجونه؟
|
______________________________________________________
والاستشهاد
بالبيت في قوله «ميت وسط أهله» فإن هذه الكلمة خبر عن قوله «شر المنايا» وأنت تعلم
أن الخبر يجب أن يكون عين مبتدئه ، وهذا الخبر ليس عين مبتدئه ، فوجب أن يكون
الكلام على تقدير مضاف يصح معه الكلام ويتم به للخبر ما وجب فيه ، والتقدير : وشر
المنايا منية ميت وسط أهله ، هذا أصل الكلام ، فحذف المبتدأ وأقيم المضاف إليه
مقامه فارتفع ارتفاعه.
[٢٣] هذا البيت
من كلام النابغة الجعدي ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١١٠) وقد أنشده ابن منظور (خ ل
ل) ثالث ثلاثة أبيات ونسبها إليه ، والبيتان قبله هما :
أدوم على
العهد ما دام لي
|
|
إذا كذبت خلة
المخلب
|
وبعض الأخلاء
عند البلاء
|
|
والرزء أروغ
من ثعلب
|
والخلة ـ بضم
الخاء ـ والخلالة ـ بفتح الخاء أو كسرها أو ضمها ـ والخلولة ، كل ذلك يقال على
الصداقة المختصة التي ليس فيها خلل ، تكون في عفاف الحب ودعارته ، والمخلب : من
الخلابة ـ بكسر الخاء ـ وهي الخديعة باللسان ، والأخلاء : جمع خليل ، وهو الصديق ،
وأبو مرحب : كنية الظل ، وهو سريع التحول ، وقيل : هي كنية عرقوب الذي يضرب به
المثل في خلف الوعد ، والذي قيل فيه : مواعيد عرقوب.
والاستشهاد
بالبيت في قوله «كأبي مرحب» فإن هذا الجار والمجرور خبر لأصبح ، واسمها هو قوله
خلالته ، وأصل معمولي أصبح مبتدأ وخبر ، ولا يصلح أن يكون «كأبي مرحب» خبرا عن
الخلالة التي هي الصداقة ؛ لأن هذا الخبر ليس هو عين المبتدأ ، فلزم أن يكون ثمة
مضاف محذوف وأن أصل الكلام : أصبحت خلالته كخلالة أبي مرحب ، على نحو ما بيّناه في
البيت السابق.
[٢٤] هذا البيت
من شواهد سيبويه (١ / ٦٥) ولم ينسب في أصل الكتاب ولا في شرح شواهده للأعلم ، وهو
أيضا من شواهد الرضي (١ / ٨٤) وقد شرحه البغدادي في الخزانة (١ / ١٩٦) والأشموني (رقم
١٤٥) وقد نسبه قوم إلى رجل من ضبة ، ولم يعينوه ، وقال البغدادي : هو لقيس بن حصين
بن يزيد الحارثي ، والنعم ـ بفتح النون والعين جميعا ـ اسم جنس لفظه مفرد ومعناه
جمع ، ونظيره غنم وبقر ، قال الفراء : هو مفرد لا يؤنث ، يقال : هذا نعم وارد ،
وقال الهروي : النعم والأنعام يذكران ويؤنثان ، وقال الراغب : النعم مختص بالإبل ،
والأنعام يقال للإبل والبقر والغنم ، ويلقحه : مضارع ألقح الفحل الناقة ؛ إذا
أحبلها ، وتنتجونه : أي تستولدونه ، يريد أنهم يكثرون من شن الغارات فيأخذون ممن
يغيرون عليه النوق الحوامل فتلد عندهم. والاستشهاد بالبيت في قوله «أكل عام نعم»
فإن قوله «كل عام» ظرف زمان متعلق بمحذوف يقع خبرا مقدما ، وقوله «نعم» مبتدأ مؤخر
، والنعم : اسم
أي : إحراز
نعم. وقال الآخر :
[٢٥] كأنّ
عذيرهم بجنوب سلّى
|
|
نعام قاق في
بلد قفار
|
أي : كأن
عذيرهم عذير نعام. والعذير : الحال ، والحال لا يشبّه بالنعام ـ وقال الآخر :
[٢٦] قليل
عيبه ، والعيب جمّ
|
|
ولكنّ الغنى
ربّ غفور
|
______________________________________________________
من الأسماء
الدالة على الذات ، ومن المقرر عند النحاة أن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن اسم
الذات ، وللتخلص من ذلك قدر المؤلف مضافا هو اسم معنى يكون هو المبتدأ وأصل الكلام
عنده : أكل عام إحراز نعم ، وقد تبعه في هذا التقدير ابن صاحب الألفية ، وقدره
الرضي : أكل عام حواية نعم ، وقوم يقدرونه : أكل عام نهب نعم ، والخطب في ذلك سهل
؛ فإنّ هؤلاء جميعا يسيرون في فلك واحد ، وخلاصته أنه لا بدّ من تقدير مضاف يكون
اسم معنى ، وهذا أحد وجهين في هذا البيت ، والوجه الثاني لأبي العباس المبرد ،
وخلاصته أنه يتعين تقدير المضاف إذا كان اسم الذات الواقع مبتدأ مخبرا عنه بظرف
زمان ليس له تجدد وحدوث مرة بعد مرة ، أما إذا كان له تجدد وحدوث مرة بعد مرة فلا
يلزم تقدير مضاف يكون اسم معنى ، والكلام هنا من هذا القبيل ، وانظر إلى قول ابن
مالك في التسهيل «ولا يغني ظرف زمان غالبا عن خبر اسم عين ، ما لم يشبه اسم المعنى
بالحدوث وقتا دون وقت ، أو تنو إضافة اسم معنى إليه ، أو يعم واسم الزمان خاص أو
مسؤول به عن خاص ، ويغني عن خبر اسم معنى مطلقا» اه.
[٢٥] أنشد ابن
منظور هذا البيت (س ل ل) ولم ينسبه ، وأنشده في (ق وق) ونسبه إلى النابغة ، وحكى
عن ابن بري نسبته إلى شقيق بن جزء بن رباح الباهلي. وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٠٩)
والغدير : القطعة من الماء يغادرها السيل ، أي يتركها ، فهو فعيل بمعنى مفعول مشتق
من المغادرة على تقدير طرح الحروف الزائدة ، والعذير ـ بالعين المهملة والذال
المعجمة ـ الحال ، وسلى ـ بكسر السين وتشديد اللام ـ اسم موضع بالأهواز كثير التمر
، وقاق : أي صوت ، وبلد قفار : أي خالية موحشة ، وأصل القفار جمع قفر ـ بالفتح ـ لكنه
توهم سعة البلد وجعل كل جزء منها بلدا فوصف البلد ـ وهو في الأصل مفرد ـ بالجمع
على هذا. والاستشهاد بالبيت في قوله «كأن عذيرهم نعام» فإن الخبر في هذه الجملة
ليس هو عين المبتدأ ، ولهذا كان الكلام على تقدير مضاف يتم به كون الخبر هو
المبتدأ ، وأصل الكلام : كأن عذيرهم عذير نعام ، قال ابن منظور بعد أن أنشد البيت «أراد
عذير نعام ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، ومعناه أي كأن حالهم في
الهزيمة حال نعام تغدو مذعورة» اه.
[٢٦] لم أعثر
لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، ولا وقفت له على سوابق أو لواحق تتصل به.
والجم ـ بفتح الجيم وتشديد الميم ـ الكثير. وقد زعم المؤلف أن قول الشاعر «ولكن
الغنى رب» على تقدير مضاف ، وأصل الكلام : ولكن الغنى غنى رب ، وهذا كلام فاسد من
وجهين : الأول أن كلمة «رب» ههنا معناها المصلح ، فإنك تقول «رب فلان الشيء
[٣٤] أي : ولكن
الغنى غنى رب غفور ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
والشواهد على
هذا النحو أكثر من أن تحصى ؛ فعلى هذا يكون قد أجرى قوله «متقلديها» ـ وهو اسم
الفاعل ـ على ذلك المحذوف ، فلا يفتقر إلى إبراز الضمير.
وأما قولهم «إن
الإضمار في اسم الفاعل إنما كان لشبه الفعل وهو يشابه الفعل إذا جرى على غير من هو
له» قلنا : فلكونه فرعا على الفعل وجب فيه إبراز الضمير هاهنا ؛ لئلا يؤدي إلى التسوية
بين الأصل والفرع ، ولما يؤدي إليه ترك الإبراز من اللّبس على ما بيّنا ، والله
أعلم
______________________________________________________
يربه» تعني أنه
أصلحه ، ومن ذلك قول الشاعر :
يرب الذي
يأتي من العرف أنه
|
|
إذا سئل
المعروف زاد وتمما
|
ومعنى قول
الشاعر «ولكن الغنى رب غفور» ولكن الغنى مصلح لفساد أموره ساتر لمساويه ، وهذا
معنى مستقيم من غير تقدير ، والوجه الثاني : أنا نسلم جدلا أن كلمة الرب على
المعنى الذي تبادر إلى ذهن المؤلف ، لكن لا نسلم مع ذلك أن الكلام يحتاج إلى تقدير
المضاف ، بل تقدير المضاف يفسد المعنى ، وذلك لأن الشاعر يريد تشبيه الغنى بالرب
الغفور ، والمعنى على هذا أن الناس يرون عيوب الرجل الغني قليلة ولو كانت أكثر من
زبد البحر ، وذلك لأن غناه يغطي عليها ويسترها ، وتأمل ذلك جيدا ، ولا تكن أسير
التقليد.
٩
مسألة
[القول في تقديم الخبر على المبتدأ]
ذهب الكوفيون
إلى أنه لا يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه ، مفردا كان أو جملة ؛ [فالمفرد] نحو «قائم
زيد ، وذاهب عمرو» والجملة نحو «أبوه قائم زيد ، وأخوه ذاهب عمرو». وذهب البصريون
إلى أنه يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه المفرد والجملة.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه مفردا كان أو
جملة لأنه يؤدي إلى أن تقدّم ضمير الاسم على ظاهره ، ألا ترى أنك إذا قلت «قائم
زيد» كان في قائم ضمير زيد؟ وكذلك إذا قلت «أبوه قائم زيد» كانت الهاء في أبوه
ضمير زيد ؛ فقد تقدم ضمير الاسم على ظاهره ، ولا خلاف أن رتبة ضمير الاسم بعد
ظاهره ؛ فوجب أن لا يجوز تقديمه عليه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما جوّزنا ذلك لأنه قد جاء كثيرا في كلام العرب وأشعارهم ؛
فأما ما جاء من ذلك في كلامهم فقولهم في المثل «في بيته يؤتى الحكم» وقولهم «في
أكفانه لفّ الميت» و «مشنوء من يشنؤك» وحكى سيبويه «تميميّ أنا» فقد تقدم الضمير
في هذه المواضع كلها على الظاهر ؛ لأن التقدير فيها : الحكم يؤتى في بيته ، والميت
لف في أكفانه ، ومن يشنؤك مشنوء ، وأنا تميميّ ، وأما ما جاء من ذلك في أشعارهم
فنحو ما قال الشاعر :
[٢٧] بنونا
بنو أبنائنا ، وبناتنا
|
|
بنوهنّ أبناء
الرّجال الأباعد
|
______________________________________________________
[٢٧] ينسب قوم
هذا البيت للفرزدق همام بن غالب ، والأكثرون على أنه لا يعرف قائله مع كثرة
استشهاد العلماء به في كتب النحو والبلاغة والفرائض ، وألفاظه ومعناه في غاية
الوضوح. وقد استشهد به الرضي في شرح الكافية (١ / ٨٧) والأشموني في شرح الألفية (رقم
١٥٣)
__________________
[٣٥] ويروى «الأكارم»
وتقديره : بنو أبنائنا بنونا. وقال الآخر :
[٢٨]فتى ما
ابن الأغرّ إذا شتونا
|
|
وحبّ الزّاد
في شهري قماح
|
وتقديره : ابن
الأغر فتى ما إذا شتونا ، وقال الشّمّاخ :
[٢٩] كلا
يومي طوالة وصل أروى
|
|
ظنون ، آن
مطّرح الظّنون
|
______________________________________________________
وابن هشام في
أوضح المسالك (رقم ٧١ بتحقيقنا) وفي مغني اللبيب (رقم ٧٠٢ بتحقيقنا) والاستشهاد به
في قوله «بنونا بنو أبنائنا» فإن هذه الجملة اشتملت على مبتدأ وخبر ، وقد تقدم
الخبر ـ وهو قوله بنونا ـ على المبتدأ ـ وهو قوله بنو أبنائنا ـ وقد استساغ الشاعر
تقديم الخبر على المبتدأ مع كونهما في رتبة واحدة من التعريف وكل واحد منهما صالح
للابتداء به لوجود قرينة معنوية مرشدة إلى المبتدأ وإلى الخبر ، معينة أحدهما
للابتداء به والآخر للإخبار به ، وذلك أنه يريد تشبيه أبناء الأبناء بالأبناء ، في
المحبة والعطف عليهم ، ولا يمكن أن يتسرب إلى فهم أحد أن غرضه تشبيه الأبناء
بأبناء الأبناء ، فإن أصل المحبة والحنان والعطف للأبناء والغرض إثبات أن أبناء
الأبناء مثلهم في هذه الخلال ، لا العكس.
[٢٨] هذا البيت
من كلام مالك بن خالد الهذلي ، وقد أنشده ابن منظور (ق م ح) ونسبه إليه. وقوله «فتى
ما» معناه فتى أي فتى ، فما هذه صفة لفتى ، والشتاء عندهم زمن الجدب والقحط ،
ولهذا يكون الكرم فيه نادرا ، ومن يطعم قليلا ، وهو ممدوح أشد المدح ، وقوله «حب»
هو بضم الحاء ـ مثل نعم في المدح ، وشهرا قماح ـ بضم القاف بزنة غراب أو بكسرها
بزنة كتاب ـ هما كانون الأول وكانون الثاني ، سموهما بذلك لأنهما يكره فيهما شرب
الماء ، وقد قالوا «قمح البعير ، وقامح» إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب ،
والاستشهاد به في قوله «فتى ما ابن الأغر» فإن هذه جملة من مبتدأ وخبر ، وقد تقدم
فيها الخبر على مبتدئه ، ولا يجوز لك أن تجعل المتقدم ـ وهو قوله فتى ما ـ مبتدأ ،
والمتأخر ـ وهو قوله ابن الأغر ـ خبرا عنه ، وذلك لأن المتقدم نكرة والمتأخر معرفة
، والأصل في المبتدأ أن يكون معرفة ولا يكون نكرة إلا بمسوغ ، والأصل في الخبر أن
يكون نكرة ؛ لأنه يكون مجهولا للمخاطب حتى يفيده الكلام فائدة جديدة لم تكن عنده
قبل الكلام.
[٢٩] هذا البيت
للشماخ بن ضرار الغطفاني ـ كما قال المؤلف ـ وقد أنشده ابن منظور (ط ول) وأنشده
ياقوت في معجم البلدان (طوالة). وطوالة ـ بضم الطاء وفتح الواو مخففة ـ قال ياقوت
: موضع ببرقان فيه بئر ، وقال نصر : بئر في ديار فزارة لبني مرة وغطفان ، وأروى : من
أسماء النساء ، وظنون : مظنون غير مقطوع به ، ومطرح ـ بضم الميم وتشديد الطاء
مفتوحة ـ مصدر ميمي بمعنى الإطراح. والاستشهاد به في قوله «كلا يومي طوالة وصل
أروى ظنون» فإن قوله «وصل أروى» مبتدأ ، وقوله «ظنون» خبر المبتدأ ، وقد تقدم المبتدأ
وتأخر الخبر على ما هو الأصل فيهما ، ولكن قوله «كلا يومي طوالة» ظرف متعلق يظنون
الذي هو الخبر ، وقد تقدم هذا الظرف على المبتدأ كما هو ظاهر ، وقد استقر عند
النحاة أن تقديم المعمول يدل على أن العامل فيه يجوز أن يتقدم فيكون في موضع هذا
المعمول ،
ووجه الدلالة
من هذا البيت هو أن قوله «وصل أروى» مبتدأ ، و «ظنون» خبره ، و «كلا يومي طوالة»
ظرف يتعلق ب «ظنون» الذي هو خبر المبتدأ ، وقد تقدم معموله على المبتدأ ؛ فلو لم
يجز تقديم خبر المبتدأ عليه وإلا لما جاز تقديم معمول خبره عليه ؛ لأن المعمول لا
يقع إلا حيث يقع العامل ، ألا ترى أنك لو قلت «القتال زيدا حين تأتي» فنصبت زيدا
بتأتي لم يجز ، لأنه لا يجوز أن تقدم تأتي على «حين» فتقول : القتال تأتي حين ؛
فلو كان تقديم خبر المبتدأ ممتنعا كما امتنع هاهنا تقديم الفعل لامتنع تقديم
معموله على المبتدأ ؛ لأن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل ؛ لأن المعمول تبع
للعامل ، فلا يفوقه في التصرف ، بل أجمل أحواله أن يقع موقعه ؛ إذ لو قلنا إنه يقع
حيث لا يقع العامل لقدّمنا التابع على المتبوع ؛ ومثال ذلك أن يجلس الغلام حيث لا
يجلس السيد ، فتجعل مرتبته فوق مرتبة السيد ، وذلك عدول عن الحكمة ، وخروج عن قضية
المعدلة ، وإذا ثبت بهذا جواز تقديم معمول خبر المبتدأ فلأن يجوز تقديم خبر
المبتدأ عليه أولى ؛ لأن رتبة العامل قبل رتبة المعمول ، وهذا لا إشكال فيه.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : قولهم «لو جوّزنا تقديمه لأدّى ذلك إلى أن تقدّم ضمير الاسم على
ظاهره» قلنا : هذا فاسد ، وذلك لأن الخبر وإن كان مقدما في اللفظ إلا أنه متأخر في
التقدير ، وإذا كان مقدما لفظا متأخرا تقديرا ، فلا اعتبار بهذا التقديم في منع
الإضمار ؛ ولهذا جاز بالإجماع «ضرب غلامه زيد» إذا جعلت زيدا فاعلا وغلامه مفعولا
؛ لأن غلامه وإن كان متقدما عليه في اللفظ إلا أنه في تقدير التأخير ؛ فلم يمنع
ذلك من تقديم الضمير ، قال الله تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧] فالهاء عائدة إلى موسى وإن كان متأخرا [٣٦] لفظا ؛ لأن موسى في
تقدير التقديم ، والضمير في تقدير التأخير ، قال زهير :
[٣٠] من يلق
يوما على علّاته هرما
|
|
يلق السّماحة
منه والنّدى خلقا
|
______________________________________________________
فلما تقدم
الظرف وهو معمول للخبر دل على أن الخبر العامل في هذا الظرف يجوز أن يقع في الموضع
الذي وقع فيه الظرف.
[٣٠] هذا البيت
لزهير بن أبي سلمى المزني ـ كما قال المؤلف ـ من قصيدة يمدح فيها هرم بن سنان
المري. وقوله «على علاته» المراد منه على كل حال ، ومن ذلك قول زهير أيضا :
إن البخيل
ملوم حيث كان ول
|
|
كن الجواد
على علاته هرم
|
و «السماحة»
الجود والعطاء ، تقول : سمح ـ بوزن كرم ـ سماحا ، وسماحة وسموحة وهو رجل سمح : أي
جواد كريم. والندى : الكرم ، والخلق : الطبيعة والسجية. والاستشهاد بالبيت في قوله
«علاته» فإن هذه الهاء ضمير غيبة يعود إلى هرم ، وهو متأخر في اللفظ عن الضمير ،
ونظير ذلك في البيت الآخر الذي أنشدناه ، وذلك يدل على أن العرب ما كانوا يرون
بأسا في الإتيان بضمير ـ
وقال الأعشى :
[٣١] أصاب
الملوك فأفناهم
|
|
وأخرج من
بيته ذا جدن
|
ويروى «ذا يزن».
وكذلك أجمعنا
على جواز تقديم خبر «كان» على اسمها ، نحو «كان قائما زيد» وإن كان قد قدّم فيه
ضمير الاسم على ظاهره ، إلا أنه لما كان في تقدير التأخير لم يمنع ذلك من تقديم
الضمير ، ولهذا لو فقد هذا التقدير من التقديم والتأخير لما جاز تقديم الضمير ،
ألا ترى أنه لا يجوز «ضرب غلامه زيدا» إذا جعلت غلامه فاعلا وزيدا مفعولا ؛ لأن
التقدير إنما يخالف اللفظ إذا عدل بالشيء عن الموضع الذي يستحقه ؛ فأما إذا وقع في
الموضع الذي يستحقه فمحال أن يقال إن النيّة به غير ذلك. وهاهنا قد وقع الفاعل في
رتبته والمفعول في رتبته ، فلم يمكن أن تجعل الضمير في تقدير التأخير ، بخلاف ما
إذا قلت : «ضرب غلامه زيد» فجعلت غلامه مفعولا وزيدا فاعلا ، فأما قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِماتٍ) [البقرة : ١٢٤] فإنه وإن كان بتقدير التأخير يصير إلى قولك وإذ ابتلى ربّه
إبراهيم ، فيكون إضمارا قبل الذكر كقولك : «ضرب غلامه زيدا» إلا أن بينهما فرقا ،
وذلك لأن قولك «ضرب غلامه زيدا» تقدّم فيه ضمير الاسم على ظاهره لفظا وتقديرا ،
وقوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤] تقدم فيه ضمير الاسم على ظاهره تقديرا لا لفظا ، والضمير
متى تقدم تقديرا لا لفظا أو تقدم لفظا لا تقديرا فإنه يجوز ، بخلاف ما إذا تقدم
عليه لفظا وتقديرا ، والله أعلم.
______________________________________________________
الغيبة قبل
مرجعه في بعض المواضع ، وقد جاءوا بذلك في النثر أيضا ، ومنه قولهم في مثل «في
بيته يؤتى الحكم» وقولهم «في أكفانه لف الميت» وقد ذكرهما المؤلف.
[٣١] هذا البيت
من كلام أبي بصير صناجة العرب الأعشى ميمون بن قيس ـ كما قال المؤلف ـ من كلمة له
ثابتة في ديوانه (ص ١٣ ط فينا) وذو يزن ـ بفتح الياء والزاي جميعا ـ ملك من ملوك
حمير ، وإليه تنسب الرماح اليزنية ، ويقال : يزن اسم موضع في اليمن ، أضيف إليه ذو
، فصار معناه صاحب يزن ، وأطلق على هذا الملك ، ونظيره : ذو رعين ـ بزنة المصغر ـ وذوجدن
، أي صاحب رعين وصاحب جدن ، وهما قصران. والاستشهاد بالبيت في قوله «بيته» فإن هذه
الهاء ضمير غيبة يعود إلى ذي يزن ، وهو متأخر عن الضمير ، وذلك يدل على أن العرب
كانوا يرون أنه يجوز في بعض المواضع أن يكون مرجع ضمير الغائب متأخرا عن ذلك
الضمير ، ومتى كانوا يرون ذلك جائزا بطل قول الكوفيين إن تقديم الخبر يشتمل على
محظور وهو تقدم ضمير الغائب على مرجعه ؛ لأن الخبر يشتمل على ضمير يعود إلى
المبتدأ ، وهذا واضح إن شاء الله.
١٠
مسألة
[القول في العامل في الاسم المرفوع بعد لو لا]
ذهب الكوفيون
إلى أن «لو لا» ترفع الاسم بعدها ، نحو «لو لا زيد لأكرمتك» ، وذهب البصريون إلى
أنه يرتفع بالابتداء.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : [٣٧] إنما قلنا إنها ترفع الاسم بعدها لأنها نائبة عن الفعل
الذي لو ظهر لرفع الاسم ؛ لأن التقدير في قولك «لو لا زيد لأكرمتك» لو لم يمنعني
زيد من إكرامك لأكرمتك ، إلا أنهم حذفوا الفعل تخفيفا ، وزادوا «لا» على «لو» فصار
بمنزلة حرف واحد ، وصار هذا بمنزلة قولهم «أمّا أنت منطلقا انطلقت معك» والتقدير
فيه : أن كنت منطلقا انطلقت معك ، قال الشاعر :
[٣٢] أبا
خراشة أمّا أنت ذا نفر
|
|
فإنّ قومي لم
تأكلهم الضّبع
|
والتقدير فيه :
أن كنت ذا نفر ، فحذف الفعل ، وزاد «ما» على أن عوضا عن
______________________________________________________
[٣٢] هذا البيت
للعباس بن مرداس السلمي ، وقد أنشده سيبويه (١ / ١٤٨) وابن منظور (ض ب ع) ونسبه له
، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٢٠٧) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٩٧) وابن عقيل (رقم
٧٤) وأبو خراشة : كنية خفاف بن ندبة أحد أغربة العرب ، وقد أسلم وشهد مع رسول الله
صلىاللهعليهوسلم حنينا ، وقيل : شهد فتح مكة. وذا نفر : يريد به ذا رهط
كثير العدد ، وأصل الضبع الحيوان المعروف ثم استعير للسنة المجدبة ، يقول : إن كنت
تفخر علينا بكثرة عدد قومك ، فإن لا فخر لك في ذلك ؛ لأن قومي لم تكن قلتهم بسبب
موتهم في القحط والجماعة ، والاستشهاد بالبيت في قوله «أما أنت» فإن أصل هذه
العبارة «أن كنت» فحذفت كان ثم عوض عنها «ما» وأدغمت ميم ما في نون أن ، فتاب هذا
الحرف الذي هو ما مناب فعل هو كان ، قالوا : وإذا ناب منابه أدى ما كان الفعل
يؤديه ، وقد كان هذا الفعل يرفع الاسم الذي بعده ، فما رافعة له ، وقد أوضح المؤلف
هذا الكلام.
__________________
الفعل ، كما كانت الألف في اليماني عوضا عن إحدى ياءي النسب ، والذي يدل على أنها عوض عن
الفعل أنه لا يجوز ذكر الفعل معها ؛ لئلا يجمع بين العوض والمعوض ، ونحن وإن
اختلفنا في أنّ «أن» هاهنا هل هي بمعنى إن الشرطية أو أنها في تقدير لأن فما
اختلفنا في أن «ما» عوض عن الفعل ، وكذلك أيضا قولهم «إمّا لا فافعل هذا» تقديره :
إن لم تفعل ما يلزمك فافعل هذا ؛ لأن الأصل في هذا أن الرجل تلزمه أشياء ، فيطالب
بها ، فيمتنع منها ، فيقنع منه ببعضها ، فيقال له «إمّا لا فافعل هذا» أي : إن لم
تفعل ما يلزمك فأفعل هذا ، ثم حذف الفعل لكثرة الاستعمال وزيدت «ما» على «إن» عوضا
عنه فصارا بمنزلة حرف واحد ، والذي يدل على أنها صارت عوضا عن الفعل أنه يجوز
إمالتها فيقال «إما لا» بالإمالة كما أمالوا «بلى» و «يا» في النداء ، فلو لم تكن
كافية من الفعل وإلا لما جازت إمالتها ؛ لأن الأصل في الحروف أن لا تدخلها الإمالة
، فلما جاز إمالتها هاهنا دل على أنها كافية من الفعل ، كما كانت «بلى» و «يا»
كذلك ، وكذلك أيضا قالوا «من سلّم عليك فسلّم عليه ومن لا فلا تعبأ به» وتقديره : ومن
لا يسلم عليك فلا تعبأ به ، وقال الشاعر :
[٣٣] فطلّقها
فلست لها بندّ
|
|
وإلّا يعل
مفرقك الحسام
|
أراد : وإلّا
تطلقها يعل ، وكذلك قالوا «حينئذ الآن» تقديره : واسمع الآن ، ومعناه أن ذاكرا ذكر
شيئا فيما مضى يستدعي في الحال مثله فقال له المخاطب «حينئذ الآن» أي : كان الذي
تذكره حينئذ ، واسمع الآن ، أو دع الآن ذكره أو [٣٨] نحو ذلك من التقدير ، وكذلك
قالوا «ما أغفله عنك شيئا» وتقديره : انظر شيئا ، كأن قائلا قال «ليس بغافل عني»
فقال المجيب : ما أغفله عنك شيئا ، أي انظر شيئا ، فحذف. والحذف في كلامهم لدلالة
الحال وكثرة الاستعمال أكثر من أن يحصى ؛
______________________________________________________
[٣٣] هذا البيت
من كلام الأحوص ، واسمه محمد بن عبد الله الأنصاري ، وهو من شواهد الأشموني (رقم
١٠٩٠) وأوضح المسالك (رقم ٥١٦) ومغني اللبيب (رقم ٩٠٥) وابن عقيل (رقم ٣٤٥) وقوله «طلقها»
أمر من التطليق وهو فصم عروة الزواج وحل العصمة «ند» أي مكافىء ، ويروى «بكفء» وهو
بضم الكاف وسكون الفاء وآخره همزة ـ المساوي في نسب وغيره مما تعتبره الشريعة صفات
لازمة للتكافؤ بين الزوجين «مفرقك» المفرق ـ بزنة المجلس والمقعد ـ وسط الرأس «الحسام»
السيف ، والاستشهاد به في قوله «وإلا» فإن هذه الكلمة مؤلفة من حرفين أولهما إن
الشرطية ، والثاني لا النافية ، وقد حذف فعل الشرط ، وأصل الكلام : وإن لا تطلقها
يعل ـ الخ.
__________________
فدل على أنّ الفعل محذوف هاهنا بعد «لو لا» وأنه اكتفى بلولا ، على ما
بيّنا ؛ فوجب أن يكون مرفوعا بها.
والذي يدل على
أن الاسم يرتفع بها دون الابتداء أن «أنّ» إذا وقعت بعدها كانت مفتوحة نحو قولك «لو
لا أن زيدا ذاهب لأكرمتك» ولو كانت في موضع الابتداء لوجب أن تكون مكسورة ؛ فلما
وجب الفتح دل على صحة ما ذهبنا إليه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه يرتفع بالابتداء دون «لو لا» وذلك لأن الحرف
إنما يعمل إذا كان مختصّا ، ولو لا لا تختصّ بالاسم دون الفعل ، بل قد تدخل على
الفعل كما تدخل على الاسم ، قال الشاعر :
[٣٤] قالت
أمامة لمّا جئت زائرها :
|
|
هلّا رميت
ببعض الأسهم السّود
|
لا درّ درّك
؛ إنّي قد رميتهم
|
|
لو لا حددت
ولا عذري لمحدود
|
______________________________________________________
[٣٤] أنشد ابن
يعيش هذين البيتين ، ونسبهما إلى الجموح ، وأنشدهما الرضي من غير عزو ، وشرحهما
البغدادي في الخزانة ١ / ٢٢١ ، وأنشدهما ابن منظور (ع ذ ر) ونسبهما للجموح الظفري
، ثم قال : «يقال : هذا الشعر لراشد بن عبد ربه ، وكان اسمه غاويا ، فسماه النبي صلىاللهعليهوسلم راشدا» اه ، وأمامة : اسم امرأة ، والأسهم السود : يقال
هي كناية عن الأسطر المكتوبة ، يعني هلا كتبت لي كتابا ، ويقال : الأسهم السود نظر
مقلتيه ، وكلا هذين التفسيرين مما لا أستسيغه ، ولا هو مما يلتئم مع البيت التالي
، وحددت : معناه حرمت ومنعت وفارقني الجد والحظ ، والعذرى ـ بضم العين وسكون الذال
ـ المعذرة ، واستشهاد المؤلف بهذا البيت للبصريين في قوله «لو لا حددت» حيث دخلت
لو لا على الفعل ، وقد دخلت على الاسم في شواهد كثيرة ، وذلك يدل على أنها ليست
مختصة بالاسم ولا هي مختصة بالدخول على الفعل ، بل تدخل على كل واحد من القبيلين ،
ومتى سلم أنها ليست مختصة بأحد القبيلين لم تكن عاملة ؛ لأن من المقرر عندهم أن كل
حرف مشترك لا يعمل في أحد القبيلين ، وهذا الكلام منقوض من ثلاثة أوجه : الأول :
أنا لا نسلم أن «لو لا» في هذا الشاهد هي لو لا التي نقول نحن يا معشر الكوفيين
إنها ترفع الاسم الذي يليها ، بل هي مؤلفة من حرفين الأول لو التي هي حرف امتناع
لامتناع. والثاني لا النافية ، وهذا هو الوجه الذي ذكره المؤلف ، وسيأتي في شرح
الشاهد ٣٧ كلام على هذا الوجه ، والوجه الثاني : نسلم أن «لو لا» التي في هذا
الشاهد هي لو لا التي وقع الخلاف بيننا وبينكم بشأنها ، لكن لا نسلم أنها داخلة
على الفعل في اللفظ والتقدير جميعا ، بل هي داخلة على الاسم عند التحقيق ، وذلك أن
الكلام على تقدير أن المصدرية التي تنسبك مع هذا الفعل بالاسم ، وأصل الكلام لو لا
أن حددت ، فحذف الشاعر أن وهو ينويها ، والتقدير : لو لا الحد ، أي لو لا المنع
والحرمان ، وحذف أن المصدرية مع نيتها واقع في كلام العرب ، والوجه الثالث : أنا
لا نسلم ما أصلتموه من القاعدة القائلة إن الحرف المشترك لا يعمل في أحد القبيلين
، فكم من الحروف المشتركة وهو عامل ، مثل ما ولا النافيتين ، وبعض الحروف المختصة
لا يعمل شيئا مثل أل ، فالقاعدة غير مطردة ولا منعكسة.
فقال «لو لا
حددت» فأدخلها على الفعل ؛ فدلّ على أنها لا تختصّ ؛ فوجب أن لا تكون عاملة ، وإذا
لم تكن عاملة وجب أن يكون الاسم مرفوعا بالابتداء.
والذي يدل على
أنه ليس مرفوعا بلولا بتقدير لو لم يمنعني زيد لأكرمتك أنه لو كان كذلك لكان ينبغي
أن يعطف عليها بولا ؛ لأن الجحد يعطف عليه بولا ، قال الله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ
، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ، وَما
يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) [فاطر : ١٩ ـ ٢٢] ثم قال الشاعر :
[٣٥] فما
الدّنيا بباقاة لحيّ
|
|
ولا حيّ على
الدّنيا بباق
|
قوله «بباقاة»
أراد بباقية ، فأبدل من الكسرة فتحة ، فانقلبت الياء ألفا ، وهي لغة طيّىء ، وقال
الآخر :
[٣٦] وما
الدّنيا بباقية بحزن
|
|
أجل ، لا ،
لا ، ولا برخاء بال
|
فلما لم يجز أن
يقال «لو لا أخوك ولا أبوك» دلّ على فساد ما ذهبوا إليه.
والصحيح ما ذهب
إليه الكوفيون.
وأما الجواب عن
كلمات البصريين : أما [٣٩] قولهم «إن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصّا ، ولو لا حرف
غير مختصّ» قلنا : نسلم أن الحرف لا يعمل إلا إذا
______________________________________________________
[٣٥] قول
الشاعر «بباقاة» أراد بباقية ، اسم فاعل من البقاء ، ولغة جمهرة العرب تقتضي بقاء
هذه الياء على حالها مثل راغية وثاغية وراضية وحامية ؛ لأنهم لا يقلبون الواو
والياء المتحركتين ألفا إلا أن يكون ما قبلهما مفتوحا نحو سما وعدا وغدا وبدا ونحو
الندى والهدى والتقى ؛ فإن انكسر ما قبلهما أو انضم سلمتا نحو العوض والحيل والسور
، وإنما يقلبها لمجرد تحركها طيّىء وحدهم ، وقد ورد عنهم في كل فعل واوي اللام أو
يائي اللام وهو مكسور العين قلب واوه أو يائه ألفا فيقولون : رضا وبقى وحيا بفتح
العين وقلب اللام ألفا ، وجمهور العرب يقولون : رضي وبقي وحيي بكسر العين وبقاء
الياء إن كانت اللام ياء أو قلب الواو ياء لتطرفها وانكسار ما قبلها كما في نحو
رضي. والاستشهاد بالبيت في قوله «ولا حي ـ الخ» فإن هذه الكلمة معطوفة على قوله «فما
الدنيا ـ الخ» والمعطوف عليه منفي بما ؛ فلزم إدخال حرف النفي الذي هو لا على
المعطوف بعد واو العطف.
[٣٦] أصل الرخاء
سعة العيش ، وفعله من أبواب كرم ودعا وسعى ورضى ، وهو راخ ورخى ، ويقولون «فلان
رخي البال» يريدون أنه في نعمة وأنه واسع الحال ، والاستشهاد بهذا البيت في قوله «ولا
برخاء بال» فإن هذه الكلمة معطوفة على قوله «بحزن» وقد قرن بواو العطف حرف النفي
كما نرى.
كان مختصّا ، ولكن لا نسلم أن لو لا غير مختص. قولهم «إنه يدخل على الفعل
كما يدخل على الاسم ، كما قال الشاعر :
* لولا حددت ولا عذرى لمحدود* [٣٤]
فأدخلها على
الفعل» قلنا : لو التي في هذا البيت ليست مركبة مع «لا» كما هي مركبة مع لا في
قولك «لو لا زيد لأكرمتك» وإنما لو حرف باق على أصله من الدلالة على امتناع الشيء
لامتناع غيره ، و «لا» معها بمعنى لم ؛ لأن لا مع الماضي بمنزلة لم مع المستقبل ،
فكأنه قال : قد رميتهم لو لم أحد ، وهذا كقوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد : ١١] أي : لم يقتحم العقبة ، وكقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : ٣١] أي : لم يصدّق ولم يصلّ ، وكقول الشاعر :
[٣٧] إن تغفر
اللهمّ تغفر جمّا
|
|
وأيّ عبد لك
لا ألمّا
|
______________________________________________________
[٣٧] أنشد هذا
البيت ابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٤٠٦) وقال قبل إنشاده «وقال أبو خراش الهذلي
وهو يطوف بالبيت» وأنشده ابن منظور (ل م م) ونسبه إلى أمية بن أبي الصلت ، ثم قال «قال
ابن بري : الشعر لأمية بن أبي الصلت ، قال : وذكر عبد الرحمن عن عمه (الأصمعي) عن
يعقوب عن مسلم بن أبي طرفة الهذلي ، قال : مرّ أبو خراش يسعى بين الصفا والمروة
وهو يقول :
لا هم هذا
خامس إن تما
|
|
أتمه الله ،
وقد أتما
|
إن تغفر
اللهم تغفر جما
|
|
وأي عبد لك
لا ألما» اه
|
وتقول «ألم
الرجل» إذا أتى بصغار الذنوب ، مأخوذ من اللمم وهو صغار الذنوب ، والاستشهاد
بالبيت في قوله «لا ألما» فإن المؤلف زعم أن لا في هذا البيت بمعنى لم ، والماضي
بمعنى المضارع ، وكأن الشاعر قد قال «وأي عبد لك لم يأت بصغار الذنوب» ، والسر في
ذلك هو أن النحاة يرون أن النافية إذا دخلت على فعل ماض لفظا ومعنى وجب تكرارها ،
مثل ما في قوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا
صَلَّى) ومثل ما جاء في الحديث «فإن المنبت لا أرضا قطع ولا
ظهرا أبقى» ومثل قول الهذلي «كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ، ولا نطق ولا استهل» :
فإن كان الفعل
ماضي اللفظ دون المعنى لم يجب التكرار ، نحو قول الشاعر :
حسب المحبين
في الدنيا عذابهم
|
|
تالله
لاعذبتهم بعدها سقر
|
فإن عذاب سقر
مستقبل لا سابق ، ومن هذا الباب فعل الدعاء نحو قولهم «لا فض الله فاك» وقول
الشاعر :
لا بارك الله
في الغواني! هل
|
|
يبتن إلا لهن
مطلب؟
|
فلما ورد على
النحاة بيت الشاهد والبيت الذي يليه (رقم ٣٨) وقول السفاح ابن بكير اليربوعي :
من يك لاساء
فقد ساءني
|
|
ترك أبينيك
إلى غير راع
|
وكقول الآخر :
[٣٨]* وأيّ أمر سيّىء لا فعله*
أي : لم يفعله
، فكذلك هاهنا قوله «لو لا حددت» أي لو لم أحدّ ؛ فدلّ على أن «لو لا» هذه ليست لو
لا التي وقع فيها الخلاف ، فدلّ على أنها مختصة بالأسماء دون الأفعال ، فوجب أن
تكون عاملة على ما بيّنا.
وأما قولهم «لو
كانت لو لا هي العاملة لأن التقدير لو لم يمنعني زيد لكان فيها معنى الجحد ، فكان
ينبغي أن يعطف عليها بولا : لأن الجحد يعطف عليه بولا إلى آخر ما قرّروه» قلنا :
إنما لم يجز ذلك لأن «لو لا» مركبة من لو ولا ، فلما ركبتا خرجت لو من حدها ولا من
الجحد ؛ إذ ركبتا فصيّرتا حرفا واحدا ؛ فإن الحروف إذا ركب بعضها مع بعض تغيّر
حكمها الأول ، وحدث لها بالتركيب حكم آخر ، كما قلنا في «لو لا» بمعنى التّحضيض ،
ولو ما وألّا وما أشبهه ، وكذلك هاهنا ؛ فلهذا لم يجز العطف عليها بولا ، والله
أعلم.
______________________________________________________
وذلك من قبل أن
لا النافية في قول الشاعر «لا ألما» وقول الآخر «لا فعله» وقول الثالث «لا ساء» قد
دخلت على أفعال ماضية في اللفظ والمعنى ـ لما رأى النحاة ذلك انطلقوا يلتمسون
لأنفسهم مخرجا ، فأما المؤلف فقد سمعت كلامه ، وأما قوم آخرون فقد زعموا في بعض
ذلك أن «لا» مكررة في المعنى وإن لم تتكرر في اللفظ ، ومن أمثلة ذلك ما قاله
الزمخشري في قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ) قال «فإن قلت : قلما تقع لا الداخلة على الماضي إلا
مكررة ؛ فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟ قلت : هي متكررة في المعنى ؛ لأن
المعنى : فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا ، ألا ترى أنه فسر العقبة بذلك» اه ، وتفسير
العقبة هو قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا
الْعَقَبَةُ؟ فَكُّ رَقَبَةٍ ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) وذهب قوم في الشواهد التي ذكرناها إلى أنها شاذة لا
يقاس عليها ولا تنبني عليها قاعدة.
[٣٨] هذا بيت
من الرجز المشطور ، وقد أنشده ابن منظور (ز ن ى) ولم يعزه ، وقد استشهد به رضي
الدين في شرح الكافية في باب حروف الجر ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٢٢٨)
ونسبه لشهاب بن العيف ، وهو أيضا من شواهد الكشاف في تفسير سورة البلد ، ومن شواهد
مغني اللبيب (رقم ٤٠٥) وقبله قول الراجز :
لا هم إن
الحارث بن جبله
|
|
زنى على أبيه
ثم قتله
|
* وكان في جاراته لا عهد له*
|
وقوله «زنى على
أبيه» يروى بتخفيف النون ويروى بتشديدها ، ومعناها ضيق على أبيه ، وقال ابن هشام «أصله
زنى بامرأة أبيه ، فحذف المضاف ، وأناب على عن الباء» اه ، وهو تكلف لا مبرر له ،
والاستشهاد بالبيت في قوله «لا فعله» حيث دخلت لا النافية على الفعل الماضي لفظا
ومعنى ولم تتكرر ، والمؤلف يذكر أن لا بمعنى لم والماضي بمعنى المضارع ، على نحو
ما أسلفناه لك في شرح الشاهد السابق.
[٤٠] ١١
مسألة
[القول في عامل
النّصب في المفعول]
ذهب الكوفيون
إلى أن العامل في المفعول النصب الفعل والفاعل جميعا ، نحو «ضرب زيد عمرا». وذهب
بعضهم إلى أن العامل هو الفاعل ، ونصّ هشام بن معاوية صاحب الكسائي على أنك إذا
قلت «ظننت زيدا قائما» تنصب زيدا بالتاء وقائما بالظن. وذهب خلف الأحمر من
الكوفيين إلى أن العامل في المفعول معنى المفعولية ، والعامل في الفاعل معنى
الفاعلية.
وذهب البصريون
إلى أن الفعل وحده عمل في الفاعل والمفعول جميعا.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن العامل في المفعول النصب الفعل والفاعل وذلك
لأنه لا يكون مفعول إلا بعد فعل وفاعل ، لفظا أو تقديرا ، إلا أن الفعل والفاعل
بمنزلة الشيء الواحد ، والدليل على ذلك من سبعة أوجه :
الأول : أن إعراب الفعل في الخمسة الأمثلة يقع بعده نحو «يفعلان
، وتفعلان ، ويفعلون ، وتفعلون ، وتفعلين يا امرأة» ولو لا أن الفاعل بمنزلة حرف
من نفس الفعل وإلا لما جاز أن يقع إعرابه بعده.
والوجه
الثاني : أنه يسكّن
لام الفعل إذا اتصل به ضمير الفاعل ، نحو «ضربت ، وذهبت» لئلا يجتمع في كلامهم
أربع حركات متواليات في كلمة واحدة ، ولو لا أن ضمير الفاعل بمنزلة حرف من نفس
الفعل وإلا لما سكنت لام الفعل لأجله.
والوجه
الثالث : أنه يلحق
الفعل علامة التأنيث إذا كان الفاعل مؤنثا ، فلولا أنه يتنزل منزلة بعضه وإلا لما
ألحق علامة التأنيث ؛ لأن الفعل لا يؤنّث ، وإنما يؤنث الاسم.
__________________
والوجه
الرابع : أنهم قالوا «حبّذا»
فركبوا حبّ وهو فعل مع ذا وهو اسم ؛ فصارا بمنزلة شيء واحد ، وحكم على موضعه
بالرفع على الابتداء.
والوجه
الخامس : أنهم قالوا
في النسب إلى كنت «كنتيّ» فأثبتوا التاء ولو لم يتنزل ضمير الفاعل منزلة حرف من نفس الفعل وإلا
لما جاز إثباتها.
والوجه
السادس : أنهم قالوا «زيد
ظننت منطلق» فألغوا ظننت ، ولو لا أن الجملة من الفعل [٤١] والفاعل بمنزلة المفرد
وإلا لما جاز إلغاؤها ؛ لأن العمل إنما يكون للمفردات لا للجمل.
والوجه
السابع : أنهم قالوا
للواحد «قفا» على التثنية ؛ لأن المعنى قف قف ، قال الله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) [ق : ٢٤] فثنى وإن كان الخطاب لملك واحد وهو مالك خازن النار ؛ لأن المعنى
: ألق ألق ، والتثنية إنما تكون للأسماء لا للأفعال ؛ فدل على أن الفاعل مع الفعل
بمنزلة الشيء الواحد.
وإذا كان الفعل
والفاعل بمنزلة الشيء الواحد ، وكان المفعول لا يقع إلا بعدهما ؛ دلّ على أنه
منصوب بهما ، وصار هذا كما قلتم في الابتداء والمبتدأ إنهما يعملان في الخبر ؛
لأنه لا يقع إلا بعدهما. والذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون الناصب للمفعول هو
الفعل وحده أنه لو كان هو الناصب للمفعول لكان يجب أن يليه ، ولا يجوز أن يفصل
بينه وبينه ؛ فلما جاز الفصل بينهما دل على أنه ليس هو العامل فيه وحده ، وإنما
العامل فيه الفعل والفاعل.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن الناصب للمفعول هو الفعل دون الفاعل وذلك لأنا
أجمعنا على أن الفعل له تأثير في العمل ، أما الفاعل فلا تأثير له في العمل ؛ لأنه
اسم ، والأصل في الأسماء أن لا تعمل ، وهو باق على أصله في الاسمية ؛ فوجب أن لا
يكون له تأثير في العمل ، وإضافة ما لا تأثير له في العمل إلى ما له تأثير ينبغي
أن يكون لا تأثير له.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن الناصب للمفعول الفعل والفاعل لأنه لا يكون إلا
بعدهما ـ إلى آخر ما قرروا» قلنا : هذا لا يدل على أنهما العاملان فيه ؛ لما بيّنا
أن الفاعل اسم ، والأصل في الأسماء أن لا تعمل ، وبهذا يبطل قول من ذهب منهم إلى
أن الفاعل وحده هو العامل ، والكلام عليه كالكلام على من ذهب من البصريين إلى أن
الابتداء والمبتدأ يعملان في الخبر لهذا المعنى ،
__________________
وقد بيّنا فساد ذلك مستقصى في مسألة المبتدأ والخبر ؛ فلا نعيده هاهنا.
وأما قولهم «لو
كان الفعل هو العامل في المفعول لكان يجب أن يليه ولا يفصل بينه وبينه» قلنا : هذا
يبطل بإنّ ؛ فإنا أجمعنا على أنه يجوز أن يقال «إن في الدار لزيدا ، وإن عندك
لعمرا» قال الله سبحانه : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً) [البقرة : ٢٤٨] وقال [٤٢] تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا
أَنْكالاً) [المزمل : ١٢] فنصب الاسم بإنّ وإن لم تله فكذلك هاهنا ؛ وإذا لم يلزم ذلك
في الحرف ـ وهو أضعف من الفعل ؛ لأنه فرع عليه في العمل ـ فلأن لا يلزم ذلك في
الفعل وهو أقوى كان ذلك من طريق الأولى ، على أنا نقول : إن الفعل قد ولي المفعول
؛ لأن الفعل لما كان أقوى من حرف المعاني صار يعمل عملين ؛ فهذا بذاته رافع للفاعل
وناصب للمفعول ؛ لزيادته على حروف المعاني ؛ فتقديره تقدير ما عمل وليس بينه وبين
معموله فاصل ، وإذا لم يكن بينه وبين معموله فاصل بان أنه قد وليه العامل ، فدل على أن العامل هو الفعل وحده.
وأما ما ذهب
إليه الأحمر من إعمال معنى المفعولية والفاعلية فظاهر الفساد ؛ لأنه لو كان الأمر
كما زعم لوجب أن لا يرتفع ما لم يسمّ فاعله نحو «ضرب زيد» لعدم معنى الفاعلية ،
وأن ينصب الاسم في نحو «مات زيد» لوجود معنى المفعولية ، فلما ارتفع ما لم يسمّ
فاعله مع وجود معنى المفعولية وارتفع الاسم في نحو «مات زيد» مع عدم معنى الفاعلية
؛ دل على فساد ما ذهب إليه. والله أعلم.
__________________
١٢
مسألة
[القول في ناصب الاسم المشغول عنه]
ذهب الكوفيون
إلى أن قولهم «زيدا ضربته» منصوب بالفعل الواقع على الهاء ، وذهب البصريون إلى أنه
منصوب بفعل مقدر ، والتقدير فيه : ضربت زيدا ضربته.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه منصوب بالفعل الواقع على الهاء ، وذلك لأن
المكنيّ ـ الذي هو الهاء العائد ـ هو الأول في المعنى ؛ فينبغي أن يكون منصوبا به
، كما قالوا «أكرمت أباك زيدا ، وضربت أخاك عمرا».
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه منصوب بفعل مقدر وذلك لأن في الذي ظهر دلالة
عليه ، فجاز إضماره استغناء بالفعل الظاهر عنه ، كما لو كان متأخرا وقبله ما يدل
عليه.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : قولهم «إنما قلنا إنه منصوب بالفعل الواقع على الهاء لأن المكنيّ
هو الأول [٤٣] في المعنى ، فينبغي أن يكون منصوبا به كقولهم : «أكرمت أباك زيدا»
على البدل ، وجاز أن يكون بدلا لأنه تأخر عن المبدل عنه ؛ إذ لا يجوز أن يكون
البدل إلا متأخرا عن المبدل منه ، وأما هاهنا فقد تقدم زيد على الهاء ؛ فلا يجوز
أن يكون بدلا منها ؛ لأنه لا يجوز أن يتقدم البدل على المبدل منه ، على أنّا نقول
: إن العامل في البدل عندنا غير العامل في المبدل منه ، وإن العامل في المبدل منه
على تقدير التكرير في البدل ، والذي يدل على ذلك إظهاره في البدل كما أظهر في
المبدل منه ، قال الله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ) [الأعراف : ٧٥] فقوله : (لِمَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ) بدل من قوله : (لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا) فأظهر العامل في البدل كما
__________________
أظهره في المبدل منه ، وقال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) [الزخرف : ٣٣] فقوله : (لِبُيُوتِهِمْ) بدل من قوله : (لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمنِ) فأظهر العامل في البدل كما أظهره في المبدل منه ، فدلّ
على أنه في تقدير التكرير ، وأن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه ، والله
أعلم.
١٣
مسألة
[القول في أولى العاملين بالعمل في التنازع]
ذهب الكوفيون
في إعمال الفعلين ، نحو «أكرمني وأكرمت زيدا ، وأكرمت وأكرمني زيد» إلى أن إعمال
الفعل الأول أولى ، وذهب البصريون إلى أن إعمال الفعل الثاني أولى.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن إعمال الفعل الأول أولى النقل ، والقياس.
أما النقل فقد
جاء ذلك عنهم كثيرا ، قال امرؤ القيس :
[٣٩] فلو أنّ
ما أسعى لأدنى معيشة
|
|
كفاني ، ولم
أطلب ، قليل من المال
|
______________________________________________________
[٣٩] ـ البيت
كما قال المؤلف من قصيدة لامرىء القيس بن حجر الكندي ؛ مطلعها قوله :
ألا عم صباحا
أيها الطلل البالي
|
|
وهل يعمن من
كان في العصر الخالي؟
|
وقد استشهد
بالبيت رضي الدين في باب التنازع ، وشرحه البغدادي (١ / ١٥٨) وابن هشام في مغني
اللبيب (رقم ٤١٧ بتحقيقنا) وفي شرح قطر الندى (رقم ٨١) والأشموني (رقم ٤٠٧)
وسيبويه (١ / ٤١) وابن يعيش (ص ٩٥) وسيذكر المؤلف فيما يلي البيت التالي لهذا
البيت من القصيدة ، و «لو» حرف شرط يدل على امتناع الشرط ، وفهم الامتناع منه
كالبديهي ، فإن كل من سمع قائلا يقول «لو كان كذا» أو «لو فعل فلان كذا» فهم عدم
وقوع الفعل من غير تردد ، ولهذا يصح في كل موضع استعملت فيه لو أن تعقبه بحرف
الاستدراك داخلا على فعل الشرط منفيا لفظا أو معنى ، تقول «لو جاءني أكرمته ، لكنه
لم يجىء» ومنه قول الشاعر :
فلو كان حمد
يخلد الناس لم تمت
|
|
ولكن حمد
الناس ليس بمخلد
|
وقول الحماسي :
ولو طار ذو
حافر قبلها
|
|
لطارت ،
ولكنه لم يطر ـ
|
__________________
فأعمل الفعل
الأول ، ولو أعمل الثاني لنصب «قليلا» وذلك لم يروه أحد ، وقال رجل من بني أسد :
[٤٠] [٤٤]فردّ على الفؤاد هوى عميدا
|
|
وسوئل لو
يبين لنا السّؤالا
|
______________________________________________________
ومثلهما قول الحماسي أيضا ، وهو قريط بن
أنيف أحد بني العنبر :
لو كنت من
مازن لم تستبح إبلي
|
|
بنو اللقيطة
من ذهل بن شيبانا
|
ثم قال بعد ذلك
:
لكن قومي وإن
كانوا ذوي عدد
|
|
ليسوا من
الشر في شيء وإن هاهنا
|
وذلك أن معنى
هذا البيت الأخير : لكنني لست من مازن ، ونظير هذا قول الله تعالى : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً
لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ، وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) ومن هنا تعلم أن قول الشلوبين وابن هشام الخضراوي : إن «لو»
لا يدل على امتناع شرط ولا جوابه ولكنه يدل على التعليق في الماضي ـ كلام غير
مستقيم ، والاستشهاد بالبيت في قوله «كفاني ولم أطلب قليل من المال» فإن المؤلف
نقل عن الكوفيين أنهم زعموا أن هذا البيت من باب التنازع لتقدم فعلين على اسم واحد
، وقد أعمل الشاعر أول الفعلين ـ وهو قوله «كفاني» ـ في الاسم المتأخر فرفعه به ،
والدليل على ذلك أنه لو أعمل الثاني وهو أطلب لنصب الاسم به ؛ لأنه يطلب مفعولا ،
وهذا الكلام غير صحيح ؛ لأن شرط التنازع أن يكون كل واحد من العاملين المتقدمين
طالبا للمعمول مع صحة المعنى على فرض عمل أيهما فيه ، وفي هذا البيت لا يتم ذلك ؛
فإنك لو قلت : لو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب ذلك
القليل ، لكان كلاما متناقضا لا محصول له ، وإنما يتم معنى بيت امرىء القيس إذا
قدرت لقوله «ولم أطلب» مفعولا يدل عليه البيت بعده ، وتقديره «ولم أطلب الملك»
وإذا انحل البيت إلى قولك : ولو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم
أطلب الملك ، كان كلاما صحيحا مقبولا ، ولم أجد من المؤلفين من بين ذلك بيانا
شافيا كافيا كابن هشام في كتابه شرح قطر الندى ، فارجع إليه إن شئت.
[٤٠] هذان
البيتان من كلام المرار الأسدي ، وهما من شواهد سيبويه (١ / ٤٠) والهوى : العشق ،
وعميد : أي فادح يبهظ صاحبه ويدنفه ويسقمه ، فعيل بمعنى فاعل ، وأصله قولهم «عمده
المرض» أي أضناه وأوجعه ، و «نغنى» مضارع «غنى بالمكان» من مثال رضي ؛ أي أقام فيه
وتوطنه ، ومنه سمي منزل القوم ومحل إقامتهم المغنى ، والخرد ـ بضم الخاء والراء
جميعا ـ جمع خريدة ، وهي المرأة الحيية الطويلة السكوت ، أو هي البكر التي لم تمسس
، والخدال ـ بكسر الخاء ـ جمع خدلة ـ بفتح فسكون ـ وهي الغليظة الساق المستديرتها
، والاستشهاد بالبيتين في قوله «ونرى يقتدننا الخرد الخدالا» حيث كانت هذه العبارة
من باب التنازع لتقدم فعلين هما نرى ويقتاد ، وتأخر معمول هو الخرد الخدال ، وقد
أعمل الشاعر الفعل الأول في هذا المعمول بدليل أنه نصبه وأتى بضميره معمولا للفعل
الثاني وهو نون النسوة ، ولو أنه أعمل الفعل الثاني لقال : نرى يقتادنا الخرد
الخدال ، فيرفع المعمول على أنه فاعل ليقتاد ويحذف ضميره لكون الأول يطلب معمولا
فضلة ، وهذا يدل على أن إعمال العامل الأول أولى ، وهو مذهب الكوفيين ، والحق أن
هذه الشواهد كلها لا تدل على أكثر من أن إعمال العامل الأول جائز ، وهو ما لا
يختلف فيه أحد ، فأما أولويته فلا.
وقد نغنى بها
ونرى عصورا
|
|
بها يقتدننا
الخرد الخدالا
|
فأعمل الأول ،
ولذلك نصب «الخرد الخدالا» ولو أعمل الفعل الثاني لقال : «تقتادنا الخرد الخدال»
بالرفع ، وقال الآخر :
[٤١] ولمّا
أن تحمّل آل ليلى
|
|
سمعت بينهم
نعب الغرابا
|
فأعمل الأول ،
ولذلك نصب الغراب ، ولو أعمل الثاني لوجب أن يرفع.
وأما القياس
فهو أن الفعل الأول سابق الفعل الثاني ، وهو صالح للعمل كالفعل الثاني ، إلا أنه
لما كان مبدوءا به كان إعماله أولى ؛ لقوة الابتداء والعناية به ؛ ولهذا لا يجوز
إلغاء «ظننت» إذا وقعت مبتدأة ، نحو «ظننت زيدا قائما» بخلاف ما إذا وقعت متوسطة
أو متأخرة ، نحو «زيد ظننت قائم ، وزيد قائم ظننت» وكذلك لا يجوز إلغاء «كان» إذا
وقعت مبتدأة نحو «كان زيد قائما» بخلاف ما إذا كانت متوسطة ، نحو «زيد كان قائم»
فدل على أن الابتداء له أثر في تقوية عمل الفعل.
والذي يؤيد أن
إعمال الفعل الأول أولى من الثاني أنك إذا أعملت الثاني أدّى إلى الإضمار قبل
الذّكر ، والإضمار قبل الذّكر لا يجوز في كلامهم.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن الاختيار إعمال الفعل الثاني النقل ، والقياس.
أما النقل فقد
جاء كثيرا ، قال الله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ
عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف :
______________________________________________________
[٤١] ـ تحمل آل
ليلى : وضعوا حمولهم وهموا بالارتحال ، والبين ـ بالفتح ـ البعد والفراق. والاستشهاد
بالبيت في قوله «سمعت ببينهم نعب الغرابا» فإن هذه العبارة من باب الاشتغال ، حيث
تقدم عاملان ـ وهما سمعت ، ونعب ـ وتأخر عنهما معمول واحد وهو قوله الغراب ـ والأول
يطلبه مفعولا لأنه استوفى فاعله ، والثاني يطلبه فاعلا لأنه فعل لازم ولم يستوف
فاعله ظاهرا ، وقد أعمل الشاعر العامل الأول في هذا المعمول فنصبه به ، ولو أنه
أعمل العامل الثاني لرفعه ، فكان يقول «سمعت ببينهم نعب الغراب» وقد زعم الكوفيون
أن هذا يدل على أن إعمال العامل الأول أولى من إعمال العامل الثاني ، ولكن الحقيقة
أن هذا الشاهد ونحوه يدل على جواز إعمال العامل الأول ، فأما الدلالة على أولوية
ذلك فلا دلالة للبيت ولا لغيره عليه ، وورود شواهد أخرى فيها إعمال العامل الثاني
دون الأول يدل على جواز إعمال الثاني ، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنها تدل على
أولويته ، فليكن المقرر أن إعمال الأول جائز وإعمال الثاني جائز أيضا. وليس إعمال
أحدهما بأولى من إعمال الآخر ، وستأتي لهذا الكلام بقية مع الشواهد ٤٢ و ٤٤ و ٤٨.
ونظير هذا قول
رياح الزنجي :
إن الفرزدق
صخرة عادية
|
|
طالت ، فليس
تنالها الأجبالا
|
يريد طالت
الأجبال ، أي غلبتها في الطول ، فليس تنالها الأجبال.
فأعمل الفعل الثاني ، وهو أفرغ ، ولو أعمل الفعل الأول لقال : أفرغه عليه ،
وقال تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا
كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] فأعمل الثاني وهو اقرءوا ، ولو أعمل الأول لقال : اقرءوه ،
وجاء في الحديث «ونخلع ونترك من يفجرك» فأعمل الثاني ، ولو أعمل الأول لأظهر
الضمير بدّا ، وقال الشاعر وهو الفرزدق :
[٤٢] ولكنّ
نصفا لو سببت وسبّني
|
|
بنو عبد شمس
من مناف وهاشم
|
فأعمل الثاني ،
ولو أعمل الأول لقال «سببت وسبوني بني عبد شمس» بنصب «بني» وإظهار الضمير في سبني
، وقال طفيل الغنوي :
[٤٣] وكمتا
مدمّاة كأنّ متونها
|
|
جرى فوقها
واستشعرت لون مذهب
|
______________________________________________________
[٤٢] ـ هذا
البيت كما قال المؤلف للفرزدق همام بن غالب ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٩) وابن
يعيش (ص ٩٤) وهو في ديوان الفرزدق (ص ٨٤٤) ثاني بيتين ، والبيت الذي قبله هو قوله
:
وليس بعدل أن
سببت مجاشعا
|
|
بآبائي الشم
الكرام الخضارم
|
وقوله فيما روى
المؤلف «ولكن نصفا» أي إنصافا وعدلا ، وفي الديوان «ولكن عدلا» وقوله «بنو عبد شمس
من مناف وهاشم» ليس بمستقيم ؛ فإن هاشما ليس بابن عبد شمس ، وإنما هو ابن عبد مناف
، وقد جاء الفرزدق بهذه العبارة على وجهها الصحيح مرارا ، من ذلك قوله من قصيدة
يمدح فيها يزيد بن عبد الملك :
وإن لكم عيصا
ألف غصونه
|
|
له ظل بيتي
عبد شمس وهاشم
|
ومن ذلك قوله
من قصيدة يهجو فيها أحد بني باهلة :
وهل في معد
من كفاء نعده
|
|
لنا غير بيتي
عبد شمس وهاشم
|
ومن ذلك قوله
من قصيدة يهجو فيها باهلة وبني عامر بن صعصعة وجريرا :
ولو سئلت من
كفؤ الشّمس أومأت
|
|
إلى ابني
مناف عبد شمس وهاشم
|
والاستشهاد
بالبيت في قوله «سببت وسبني بنو عبد شمس» فإن هذه العبارة من باب الاشتغال حيث
تقدم فيها عاملان ـ وهما قوله سببت وقوله سبني ـ وتأخر عنهما معمول واحد هو قوله «بنو
عبد شمس» والأول يطلبه مفعولا والثاني يطلبه فاعلا ، وقد أعمل فيه الثاني ، ولو
أنه أعمل الأول لقال «سببت وسبوني بني عبد شمس» وهذا يدل على أن إعمال العامل
الثاني في باب التنازع جائز ، ولكنه كما قلنا من قبل لا يدل على أنه أولى من إعمال
العامل الأول ؛ وإذا كانت الشواهد الواردة عن العرب المحتج بكلامهم قد أعمل العامل
الأول في بعضها وأعمل العامل الثاني في بعضها الآخر ، فقد تكافأ العاملان في جواز
الإعمال ، ولم يبق أحدهما أولى من أخيه ، فأما سبق الأول صاحبه وقرب الآخر من
المعمول فلا يفيد ، فإنا نعلم أن الأفعال تعمل متقدمة على المعمول ومتأخرة عنه ،
وتعمل متصلة بمعمولها ومنفصلة منه ، وذلك كله واقع في أفصح كلام ، ولهذا نرى أن
الخلاف في هذه المسألة مما لا طائل له.
[٤٣] هذا البيت
ـ كما قال المؤلف ـ من قصيدة لطفيل بن كعب الغنوي ، وهو من شعراء
[٤٥] وقال
الآخر ، وهو رجل من بأهلة :
[٤٤] ولقد
أرى تغنى به سيفانة
|
|
تصبي الحليم
ومثلها أصباه
|
______________________________________________________
الجاهلية ، وقد
اشتهر بوصف الخيل ، حتى قال عبد الملك بن مروان : من أراد أن يتعلم ركوب الخيل فليرو
شعر طفيل ، والبيت الشاهد في وصف الخيل أيضا ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٩) وشرح
المفصل (ص ٩٤) والأشموني (رقم ٤١٦) والمكمت : جمع أكمت وإن لم يكن هذا المفرد
مستعملا ، وإنما المستعمل «كميت» بزنة المصغر ـ قال شارح الجمل : الكميت من
الأسماء المصغرة التي لا تكبير لها ، وهو مصغر أكمت تصغير الترخيم بمنزلة حميد من
أحمد غير أن أكمت لم يستعمل ، والكميت : الذي لونه الحمرة يخالطها سواد ، ومدماة :
شديدة الحمرة حتى كأنها قد طليت بالدم ، والمتون : جمع متن ، وهو الظهر ، وجرى :
سال ، واستشعرت لون مذهب : جعلت هذا اللون شعارها ، وأصل الشعار ـ بزنة الكتاب ـ العلامة
يتخذها المحارب ليعرف بها ، أو هو ما يلي الجسد من الثياب ، والمذهب ـ بزنة المكرم
ـ المموه بالذهب. والاستشهاد به في قوله «جرى فوقها واستشعرت لون مذهب» فإن هذا
الكلام من باب التنازع ؛ فقد تقدم عاملان ـ وهما قوله جرى وقوله استشعرت ـ وتأخر
عنهما معمول واحد ـ وهو قوله لون مذهب ـ وكل واحد من هذين العاملين يطلب هذا
المعمول ، وقد أعمل الشاعر العامل الثاني منهما في لفظ المعمول ، ولو أعمل الأول
منهما لرفع «لون مذهب» لأن الأول يطلبه فاعلا ، ولأني بضمير المعمول بارزا مع
العامل الثاني ، فكان يقول : جرى فوقها واستشعرته لون مذهب.
[٤٤] هذا البيت
من شواهد سيبويه أيضا (١ / ٣٩) ولم يزد في نسبته عما نقله المؤلف ، وتغنى به :
مضارع «غني بالمكان يغنى ـ على مثال رضي يرضى» أي أقام ، وتصبي الحليم : تورثه
الصبوة ، وهي الميل إلى شهوات الصبا وملذاته. والاستشهاد به في قوله «أرى تغنى به
سيفانة» فإن هذه العبارة من باب التنازع لتقدم عاملين ـ وهما قوله أرى وقوله تغنى
به ـ وتأخر عنهما معمول واحد ـ وهو قوله سيفانة ـ وأول العاملين يطلب هذا المعمول
مفعولا ، وثانيهما يطلبه فاعلا ، وقد أعمل الشاعر العامل الثاني في هذا المعمول ؛
بدليل مجيئه مرفوعا ، ونظير هذه الشواهد في إعمال العامل الثاني قول الشاعر :
إذا كنت
ترضيه ويرضيك صاحب
|
|
جهارا فكن في
الغيب أحفظ للود
|
وقول الآخر :
هوينني وهويت
الغانيات إلى
|
|
أن شبت
فانصرفت عنهن آمالي
|
وقول الآخر :
جفوني ولم أجف
الأخلاء ؛ إنني
|
|
لغير جميل من
خليلي مهمل
|
ثم نقول : قد
تبين لك أن كلام العرب قد جاء بإعمال أول العاملين في لفظ المعمول المتأخر عنهما ،
وبإعمال العامل الثاني في لفظه أيضا ، ومن إعمال العامل الأول الشواهد التي استدل
بها الكوفيون ، ومن إعمال الثاني الشواهد التي استدل بها البصريون ؛ فليس لواحد من
الفريقين أن يدعي أن الاستعمال العربي يؤيده وحده ؛ لأن الاستعمال العربي يؤيد كل
واحد منهما ، وكل ما هناك أنه يبقى سؤال ، وهو هل العامل الأول أولى بالعمل
وقال الآخر :
[٤٥] قضى كلّ
ذي دين فوفّى غريمه
|
|
وعزّة ممطول
معنّى غريمها
|
______________________________________________________
لكونه متقدما
وقد طلب المعمول قبل أن يطلبه الثاني ، أم العامل الثاني أولى لكونه أقرب إلى
المعمول ومجاورا له ، وأما العامل الأول فهو مفصول من المعمول بالعامل الثاني على
الأقل؟ ولا نرى لك أن تحاول ترجيح إحدى هاتين القضيتين ؛ فإن لكل منهما مستندا من
التعليل والقياس ، لا من الاستعمال العربي.
[٤٥] هذا البيت
لكثير بن عبد الرحمن المشهور بكثير عزة ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٤١١) وأوضح
المسالك (رقم ٢٤١) وممطول : اسم المفعول من قولك «مطل المدين دائنه يمطله ـ من باب
نصر ـ» وذلك إذا لواه بدينه وسوّف في قضائه ولم يؤده ، و «معنى» اسم المفعول من
قولك «عنى الأمر الفلاني فلانا ـ بتضعيف عين الفعل وهي النون هنا ـ» وذلك إذا شق
عليه الأمر وكان سببا في عنائه وشقوته ، والاستشهاد في هذا البيت في موضعين : الأول
في قوله «قضى كل ذي دين فوفّى غريمه» فإن هذه العبارة من باب التنازع ، فقد تقدم
عاملان ـ وهما قوله «قضى» وقوله «وفّى» ـ وتأخر عنهما معمول واحد ـ وهو قوله «غريمه»
ـ وكل واحد من العاملين المتقدمين يطلب المعمول المتأخر مفعولا ، وقد أعمل الشاعر
المعمول الثاني منهما في لفظ المعمول ، والدليل على أنه أعمل الثاني هنا أنه لم
يصل ضمير المعمول بالعامل الثاني ، لأنه لو كان قد أعمل الأول لوجب أن يقول «قضى
كل ذي دين فوفاه غريمه» على أن يكون تقدير الكلام : قضى كل ذي دين غريمه فوفاه ،
والموضع الثاني من موضعي استشهاد المؤلف بالبيت قوله «ممطول معنى غريمها» فإن ظاهر
هذه العبارة أنها من باب التنازع ؛ لتقدم عاملين ـ وهما قوله «ممطول» وقوله «معنى»
ـ وتأخر عنهما معمول واحد ـ وهو قوله «غريمها» ـ وكل واحد من هذين العاملين يطلبه
نائب فاعل ؛ لأن كل واحد منهما اسم مفعول على ما بيّنا ، وأنت تعلم أن اسم المفعول
يعمل عمل الفعل المبني للمجهول. وقد اغتر المؤلف بهذا الظاهر ؛ فخيل إليه أن
العبارة من باب التنازع ، وأن الشاعر قد أعمل العامل الثاني ، لأنه لو كان قد أعمل
العامل الأول لوجب عليه أن يقول : وعزة ممطول معنى هو غريمها ؛ فيكون «هو» نائب
فاعل معنى ، وغريمها : نائب فاعل ممطول ، فإن قلت : فلماذا لا يكون في «معنى» ضمير
مستتر جوازا تقديره هو ويكون هذا الضمير نائب فاعل معنى على تقدير إعمال ممطول في
لفظ المعمول المتأخر؟ فالجواب على هذا أن نقول : إن قوله «وعزة» مبتدأ ، وخبره
قوله «ممطول» والممطول وصف الغريم لا وصف عزة ، فقد جرى ضمير الخبر على غير مبتدئه
، وإذا جرى ضمير الخبر على غير المبتدأ وجب إبراز ذلك الضمير ، هكذا خيل للمؤلف ،
وهو كلام منقوض من ثلاثة أوجه ؛ الوجه الأول : أن وجوب إبراز الضمير من الخبر إذا
جرى هذا الضمير على غير مبتدئه هو مذهب البصريين ، ومذهب الكوفيين أنه لا يجب
إبراز الضمير من الوصف إذا جرى على غير موصوفه ، كما بينه المؤلف نفسه في المسألة
رقم ٨ السابقة ، وإذا كان الأمر كذلك لم يجز أن يحتج على مذهب قوم بمذهب قوم آخرين
كما هو مقرر في علم الجدل ، والوجه الثاني : أن الشاعر لو كان قد أعمل العامل
الثاني لوجب
فأعمل الثاني
في هذا البيت في مكانين : أحدهما «وفّى» ولو أعمل الأول لقال : وفّاه ، والثاني «معنّى»
ولو أعمل الأول لوجب إظهار الضمير بعد معنّى ؛ فيقول «وعزة ممطول معنى هو غريمها»
وتقديره : وعزة ممطول غريمها معنّى هو ؛ لأنه قد جرى على عزة ، وهو فعل الغريم ؛
فقد جرى على غير من هو له ، واسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له وجب إظهار
الضمير فيه ، فلما لم يظهر الضمير دلّ على أنه قد أعمل الثاني ، إلا أنهم يقولون
على هذا : يجوز أن يكون قد أعمل الأول ولم يظهر الضمير وذلك جائز عندنا ، وقد
بيّنا فساد ذلك في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له مستقصى في موضعه.
وأما القياس
فهو أن الفعل الثاني أقرب إلى الاسم من الفعل الأول ، وليس في إعماله دون الأول
نقض معنى ، فكان إعماله أولى ، ألا ترى أنهم قالوا : «خشنت بصدره وصدر زيد»
فيختارون إعمال الباء في المعطوف ، ولا يختارون إعمال الفعل فيه ؛ لأنها أقرب إليه
منه ؛ وليس في إعمالها نقض معنى ؛ فكان إعمالها أولى.
والذي يدل على
أن للقرب أثرا أنه قد حملهم القرب والجوار حتى قالوا : «جحر ضبّ خرب» فأجروا خرب
على ضبّ ، وهو في الحقيقة صفة للجحر ؛ لأن الضبّ لا يوصف بالخراب ؛ فها هنا أولى.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قول امرىء القيس :
فلو أنّ ما
أسعى لأدنى معيشة
|
|
كفاني ، ولم
أطلب ، قليل من المال [٣٩]
|
______________________________________________________
عليه أن يقول :
وعزة ممطول هو معنى غريمها ، فيبرز الضمير المستكن في الخبر الأول لنفس السبب الذي
احتج به على الكوفيين ، وهو أن الضمير المستكن في الخبر جار على غير مبتدئه ، وهذا
الاحتجاج ملزم للبصريين لأنه مذهبهم وغير ملزم للكوفيين لأنهم لا يذهبون إليه كما
قدمنا ، والوجه الثالث : ـ وهو مترتب على الوجهين السابقين ـ أن النحارير من
العلماء كابن مالك رحمهالله ذهبوا إلى أن هذه العبارة ليست من باب التنازع أصلا ؛
لأنه لا يصح أن يكون الشاعر قد أعمل العامل الأول كما لا يصح أن يكون قد أعمل
العامل الثاني ؛ لأنه لو أعمل أحدهما أيا كان لوجب على مذهب البصريين أن يبرز ضمير
المعمول مع العامل الذي لم يعمله في لفظ المعمول لكونه جاريا على غير من هو له ،
وعلى هذا يكون قوله «عزة» مبتدأ أول وقوله «غريمها» مبتدأ ثانيا ، وقوله «ممطول»
خبر المبتدأ الثاني تقدم عليه ، وقوله «معنى» خبرا ثانيا للمبتدأ الثاني ، وجملة
المبتدأ الثاني وخبريه في محل رفع خبر المبتدأ الأول ، ومن هذا تعلم أن الاسمين
المتقدمين ـ وهما قوله «ممطول» وقوله «معنى» ـ ليسا عاملين لأنهما خبران ، والاسم
المتأخر ـ وهو قوله «غريمها» ـ ليس معمولا ؛ لأنه مبتدأ ، والمبتدأ ليس معمولا
لخبره إلا على قول ضعيف ، وكأن الشاعر قد قال : وعزة غريمها ممطول معنى.
فنقول : إنما
أعمل الأول منهما مراعاة للمعنى ؛ لأنه لو أعمل الثاني لكان الكلام متناقضا ، وذلك
من وجهين ؛ أحدهما : أنه لو أعمل الثاني لكان التقدير فيه : كفاني قليل ولم أطلب
قليلا من المال ، وهذا متناقض ؛ لأنه يخبر تارة بأن سعيه [٤٦] ليس لأدنى معيشة ،
وتارة يخبر بأنه يطلب القليل ، وذلك متناقض ؛ والثاني : أنه قال في البيت الذي
بعده :
ولكنّما أسعى
لمجد مؤثّل
|
|
وقد يدرك
المجد المؤثّل أمثالي
|
فلهذا أعمل
الأول ولم يعمل الثاني. وأما قول الآخر :
وقد نغنى بها
ونرى عصورا
|
|
بها يقتدننا
الخرد الخدالا [٤٠]
|
فنقول : إنما
أعمل الأول مراعاة لحركة الرويّ ؛ فإن القصيدة منصوبة ، وإعمال الأول جائز ،
فاستعمل الجائز ليخلص من عيب القافية ، ولا خلاف في الجواز ، وإنما الخلاف في
الأولى ، وكذلك أيضا قول الآخر :
[ولمّا أن تحمّل آل ليلى]
|
|
سمعت ببينهم
نعب الغرابا [٤١]
|
يدل على الجواز
، وهو معارض بأمثاله.
وأما قولهم «إن
الفعل الأول سابق فوجب إعماله للعناية به» قلنا : هم وإن كانوا يعنون بالابتداء
إلا أنهم يعنون بالمقاربة والجوار أكثر ، على ما بيّنا في دليلنا.
وأما قولهم «لو
أعملنا الثاني لأدّى إلى الإضمار قبل الذكر» قلنا : إنما جوزنا ها هنا الإضمار قبل
الذكر لأن ما بعده يفسّره ؛ لأنهم قد يستغنون ببعض الألفاظ عن بعض إذا كان في
الملفوظ دلالة على المحذوف لعلم المخاطب ، قال الله تعالى : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ
وَالْحافِظاتِ ، وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) [الأحزاب : ٣٥] فلم يعمل الآخر فيما أعمل فيه الأول استغناء عنه بما ذكره
قبل ، ولعلم المخاطب أن الثاني قد دخل في حكم الأول ، وقال الله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣] فاستغنى بذكر خبر الأول عن ذكر خبر الثاني ؛ لعلم المخاطب أن
الثاني قد دخل في ذلك ، قال ضابىء البرجميّ :
[٤٦] فمن يك
أمسى بالمدينة رحله
|
|
فإنّي وقيّار
بها لغريب
|
______________________________________________________
[٤٦] هذا البيت
ـ كما قال المؤلف ـ لضابىء بن الحارث البرجمي ، وقد استشهد به سيبويه (١ / ٣٨)
وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٧٣٥) وفي أوضح المسالك (رقم ١٤٢) والأشموني (رقم
٢٧٤) وقوله «رحله» هو هنا بمعنى منزله ، ويروى في مكانه «رهطه» ورهط الرجل : أهله
وقومه الأقربون ، و «قيار» ذكر أبو زيد في نوادره أنه اسم جمل الشاعر ، ونقل عن
الخليل بن أحمد أنه اسم فرس الشاعر ، والاستشهاد بالبيت في قوله «إني وقيار لغريب»
فاستغنى بذكر
خبر الآخر عن خبر الأول ، وقال درهم بن زيد الأنصاريّ :
[٤٧] نحن بما
عندنا ، وأنت بما
|
|
عندك راض ،
والرّأي مختلف
|
______________________________________________________
حيث ذكر الشاعر
إن واسمها ، ثم ذكر مبتدأ مرفوعا ، وهو قوله «وقيار» وذكر بعد ذلك خبر إن وهو قوله
«لغريب» وحذف خبر المبتدأ ـ وهو قوله «وقيار» ـ لأن معرفة هذا الخبر المحذوف لا
تعسر على سامع هذا الكلام ، بل هو متبادر إلى ذهنه من غير تكلف ولا مشقة ، وأصل
الكلام : فإني لغريب وقيار كذلك ، أو غريب ، أو مثلي ، أو ما أشبه هذا ، ولا يجوز
في هذا البيت أن يكون قوله «لغريب» خبرا لقوله «وقيار» لوجود لام الابتداء في هذا
الخبر ، ولام الابتداء تدخل في خبر إن ، ولا تدخل في خبر المبتدأ إلا شذوذا ، كما
لا يجوز أن يكون قوله «وقيار» معطوفا على اسم إن ، وذلك من ثلاثة أوجه : الأول :
أن اسم إن منصوب ، وهذا مرفوع ، ومن شرط صحة العطف اتفاق المتعاطفين في الإعراب ،
والوجه الثاني : أن الذين صح رأيهم ممن جوزوا عطف الاسم المرفوع على اسم إن
المنصوب لكون اسم إن مبتدأ في الأصل والمبتدأ مرفوع ، إنما جوزوا ذلك إذا وقع
الاسم المرفوع بعد استكمال إن معموليها الاسم والخبر كما في قول الشاعر :
فمن يك لم
ينجب أبوه وأمه
|
|
فإن لنا الأم
النجيبة والأب
|
فقد جاء بالاسم
المرفوع ـ وهو قوله «والأب» ـ بعد أن أوفى جملة إن حقها ، والوجه الثالث : أنا لو
جرينا على القول المرجوح الذي يجوز مجيء الاسم المرفوع معطوفا على اسم إن باعتبار
أصله ولو لم تستوف إن معموليها ؛ لم يجز لنا في هذا البيت أن نعطف قوله «وقيار»
على اسم إن ؛ لأنه لو عطف على اسم إن لوجب أن يقال : فإني وقيار بها لغريبان ،
لأنه حينئذ يكون خبرا عن اثنين.
[٤٧] هذا البيت
من شواهد سيبويه (١ / ٣٨) ومغني اللبيب لابن هشام (رقم ٨٧٣) وشواهد إيضاح القزويني
(رقم ٩٥ بتحقيقنا) وليس هو لدرهم بن زيد الأنصاري كما ذكر المؤلف ، ولكنه من كلام
قيس بن الخطيم ، والاستشهاد به في قوله «نحن وأنت راض» فإن قوله «نحن» مبتدأ ،
وخبره محذوف ، وقوله «وأنت» مبتدأ آخر ، وخبره هو قوله «راض» وقد حذف الشاعر خبر
المبتدأ المتقدم لدلالة خبر المبتدأ الذي بعده عليه ، وتقدير الكلام : نحن راضون
بما عندنا وأنت راض بما عندك ، ولا يجوز أن يكون قوله «راض» خبرا عن المبتدأ
المتقدم وحده ، ولا أن يكون خبرا عن «نحن» و «أنت» جميعا ، لكون هذا الخبر مفردا ،
ولا يخبر بالمفرد عن الجمع ، ونظير هذا البيت في حذف خبر السابق وذكر خبر الثاني
قول الشاعر :
خليلي هل طب
فإني وأنتما
|
|
ـ وإن لم تبوحا بالهوى ـ
دنفان؟
|
فإن قوله «دنفان»
يتعين أن يكون خبرا عن «أنتما» ولا يجوز أن يكون خبرا لإن وحدها ، ولا أن يكون
خبرا لإن والاسم المرفوع بعدها معا ، وذلك لأن «دنفان» مثنى واسم إن مفرد ، وهو مع
الاسم المرفوع بعده جمع ، ولا يجوز أن يخبر بالمثنى عن المفرد ولا عن الجمع.
[٤٧] واستغنى
بذكر خبر الآخر عن ذكر خبر الأول ، وقال الفرزدق :
[٤٨] إنّي
ضمنت لمن أتاني ما جنى
|
|
وأبى ، فكنت
وكان غير غدور
|
فاستغنى بخبر
الثاني عن الأول ، والشواهد على هذا النحو كثيرة ؛ فدلّ على جواز الإضمار هاهنا
قبل الذكر ؛ لأن ما بعده يفسره ، وإذا جاز الإضمار مع عدم تقدم ذكر المظهر لدلالة
الحال عليه كما قال تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ
بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] يعني الشّمس وإن لم يجر لها ذكر ، وكما قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] يعني الأرض ، وكما قال الشاعر :
[٤٩] على
مثلها أمضي إذا قال صاحبي :
|
|
ألا ليتني
أفديك منها وأفتدي
|
يعني الفلاة
وإن لم يجر لها ذكر ؛ لدلالة الحال ، فلأن يجوز هاهنا الإضمار قبل الذكر لشريطة
التفسير ودلالة اللفظ كان ذلك من طريق الأولى ، ثم إن كان هذا ممتنعا فينبغي أن لا
يجوز عندكم ، ولا خلاف بين جميع النحويين أنه جائز ، إلا فيما لا يعدّ خلافا ،
فدلّ على فساد ما ذكرتموه ، والله أعلم.
______________________________________________________
[٤٨] ـ لم أجد
هذا البيت في نسخ ديوان الفرزدق المطبوعة ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٨) ومفرداته
ومعناه مما لا يحتاج إلى شرح ، والاستشهاد به في قوله «فكنت وكان غير غدور» فإن
المؤلف قد زعم أن قوله «غير غدور» خبر لكان الثانية ، وأن الشاعر قد حذف خبر كان
الأولى ارتكانا على انفهام المعنى وأن السامع سيفهم أن أصل الكلام فكنت غير غدور
وكان غير غدور ، فحذف خبر كان الأولى لدلالة خبر كان الثانية عليه ، فصار كما جاء
في كلام الشاعر ، لكن الذي ذكره المؤلف ليس بلازم ، بل يجوز أن يكون المذكور هو
خبر كان الأولى ، وأن الشاعر قد حذف خبر كان الثانية لدلالة خبر الأولى عليه ، بل
هذا ـ وهو أن يكون المذكور خبر كان الأولى والمحذوف هو خبر كان الثانية ـ هو
الأولى ؛ لأنه هو الأكثر دورانا على ألسنة العرب وهذا في المواضع التي يحتمل
الكلام فيها الوجهين جميعا كما في هذا البيت ، أما المكان الذي يتعين فيه أحد
الأمرين كالشواهد السابقة فإن الكلام يحمل على ما يتعين فيه ، وهذه اللفتة ترجح
مذهب الكوفيين في كون العامل المتقدم أولى بالإعمال في لفظ المعمول ، نعني فيما لو
احتمل الكلام إعمال كل منهما ، فتنبه لذلك.
[٤٩] هذا البيت
هو البيت التاسع والثلاثون من معلقة طرفة بن العبد البكري ، وهو من أبيات في وصف
ناقته. وقوله «على مثلها» يريد على مثل هذه الناقة الموصوفة ، وأمضي : أي أسير ،
وقوله «ألا ليتني أفديك منها» الضمير عائد إلى الفلاة أي الصحراء وقد أتي بضمير
الفلاة وإن لم يجر لها ذكر في الكلام قبل هذا ؛ لأن المراد يفهم من سياق الكلام ،
ونظيره كما قال المؤلف قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ
بِالْحِجابِ) فإن المراد ـ والله أعلم ـ حتى توارت الشمس وراء الأفق
، فأضمر في الفعل ضميرا يعود إلى الشمس وإن لم يجر لها ذكر في الكلام ارتكانا على
أن السامع سيفهم المقصود ويعرف المراد من سياق الكلام ، وقول طرفة «ألا ليتني ـ الخ»
واقع موقع قوله : إنا هالكون لأن السير في هذه الصحراء شاق عسير لا يتيسر لأحد أن
يمضي فيه ويستمر عليه.
١٤
مسألة
[القول في نعم وبئس ، أفعلان هما أم اسمان]؟
ذهب الكوفيون
إلى أن «نعم ، وبئس» اسمان مبتدآن. وذهب البصريون إلى أنهما فعلان ماضيان لا
يتصرّفان ، وإليه ذهب علي بن حمزة الكسائي من الكوفيين.
أما الكوفيون
فاحتجّوا بأن قالوا : الدليل على أنهما اسمان دخول حرف الخفض عليهما ؛ فإنه قد جاء
عن العرب أنها تقول «ما زيد بنعم الرجل» قال حسّان بن ثابت :
[٥٠] ألست
بنعم الجار يؤلف بيته
|
|
أخا قلّة أو
معدم المال مصرما
|
______________________________________________________
[٥٠] هذا البيت
كما قال المؤلف ـ لحسان بن ثابت الأنصاري ، والجار : أراد به ههنا الذي يستجير به
الناس من الفقر والحاجة فينزلون في حماه ويستظلون بظله ويجعلون عليه قضاء حاجاتهم
، ويؤلف بيته ـ ببناء الفعل للمعلوم : أي يجعل المقل يألف بيته ، وذلك ببسط الكف
وبذل العرف وبشاشة الوجه ونحو ذلك ، وأخو القلة : الفقير الذي لا يجد كفايته ،
والمصرم : أراد به المعدم الذي لا يجد شيئا ، وأصله من الصرم الذي هو القطع ، ومنه
قالوا : ناقة صرماء ، وناقة مصرمة ، للتي انقطع لبنها وجف ، وذلك أن يصيب الضرع
شيء فيكوى بالنار فلا يخرج منه لبن أبدا. والاستشهاد بالبيت في قوله «بنعم الجار»
فإن الكوفيين استندوا إلى ظاهر هذه العبارة فزعموا أن «نعم» اسم بمعنى الممدوح
بدليل دخول حرف الجر عليه ، وقد علمنا أن حرف الجر لا يدخل إلا على الأسماء ،
وربما استدلوا بقول الراجز :
صبحك الله
بخير باكر
|
|
بنعم طير
وشباب فاخر
|
والبصريون
يقولون : إن نعم وبئس فعلان جامدان ، بدليل دخول تاء التأنيث عليهما ، في
__________________
وحكي عن بعض
فصحاء العرب أنه قال «نعم السّير على بئس العير» وحكى أبو بكر بن الأنباري عن أبي
العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن سلمة عن الفراء أن أعرابيا بشّر بمولودة فقيل له :
نعم المولودة مولودتك! فقال «والله ما هي بنعم المولودة : نصرتها بكاء ، وبرّها
سرقة» فأدخلوا عليهما حرف [٤٨] الخفض ، ودخول حرف الخفض يدل على أنهما اسمان ؛
لأنه من خصائص الأسماء.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : الدليل على أنهما اسمان أن العرب تقول : «يا نعم المولى ويا نعم النصير»
فنداؤهم نعم يدلّ على الاسمية ؛ لأن النداء من خصائص الأسماء ، ولو كان فعلا لما
توجّه نحوه النداء. قالوا : ولا يجوز أن يقال : إن المقصود بالنداء محذوف للعلم به
ـ والتقدير فيه : يا الله نعم المولى ونعم النصير أنت ـ فحذف المنادى لدلالة حرف
النداء عليه كما حذف حرف النداء لدلالة المنادى عليه ؛ لأنا نقول : الجواب عن هذا
أن المنادى إنما يقدر محذوفا إذا ولي حرف النداء فعل أمر وما جرى مجراه ، كقراءة
الكسائي وأبي جعفر المدني ويعقوب الحضرمي وأبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وحميد
الأعرج :
______________________________________________________
نحو قوله صلىاللهعليهوسلم «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت» وأنت تقول : بئست المرأة حمالة الحطب ،
وبدليل اقتران ضمائر الرفع المتصلة بهما ، تقول : نعما ، ونعموا ، وضمائر الرفع
المتصلة لا تقترن بغير الأفعال ، وأما حرف الجر فقد يدخل في اللفظ على الفعل وعلى
الحرف أيضا ، لكنه في التقدير داخل على الاسم ، فمثال دخوله على الفعل المتفق على
فعليته قول الراجز (انظر الشاهد رقم ٦٤ الآتي) :
والله ما
ليلي بنام صاحبه
|
|
ولا مخالط
الليان جانبه
|
ومثال دخوله
على الحرف قولك «عجبت من أن تلعب» والفريقان متفقان على مجيء مثل ذلك عن العرب ،
وهما أيضا متفقان على أن هذا الظاهر غير مرضي ، وأن الباء في قول الراجز «بنام
صاحبه» لا بدّ أن تكون داخلة في التقدير على اسم محذوف ، وتقدير الكلام والله ما
ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه ، فمدخول الباء في البيت جملة تقع مقول قول محذوف ،
وهذا القول المحذوف صفة لموصوف محذوف أيضا ، وهذا الموصوف المحذوف هو مدخول الباء
عند التحقيق ، فإذا كان هذا تأويل الفريقين في قول الراجز «بنام صاحبه» فليكن هو
تأويل قول حسان «بنعم الجار» أي بجار مقول فيه نعم الجار ، وليكن هو تأويل قول
الآخر «بنعم طير» إن سلمنا صحة هذه الرواية ، أي بطير مقول فيه نعم طير ، لكن هذه
الرواية غير صحيحة ، والرواية الصحيحة «بنعم طير» بضم النون وسكون العين ـ وهي
رواية الكسائي ، وإذا كان دخول حرف الجر في ظاهر اللفظ على كلمة لا يدل دلالة
قاطعة على كونها اسما ، وكذلك غير حرف الجر من الحروف التي قلنا : إنها من خصائص
الأسماء كحروف النداء ، وقد رأينا الاستعمال العربي الذائع يصل تاء التأنيث وضمائر
الرفع الساكنة بكلمتي نعم وبئس من غير ضرورة ولا حاجة إلى تأويل ؛ فليكن الصحيح في
هذه المسألة هو مذهب البصريين ، فاعرف ذلك.
(ألا يا اسجدوا لله) أراد يا هؤلاء اسجدوا ، وكما قال الأخطل :
[٥١] ألا يا
اسلمي يا هند هند بني بدر
|
|
وإن كان
حيّانا عدّى آخر الدّهر
|
وقال الآخر ،
وهو ذو الرّمّة :
[٥٢] ألا يا
اسلمي يا دارميّ على البلى
|
|
ولا زال
منهلّا بجرعائك القطر
|
______________________________________________________
[٥١] هذا البيت
كما قال المؤلف من كلام الأخطل التغلبي ، واسمه غياث بن الغوث ، وقد أنشده ابن
منظور (ع د ى) ونسبه إليه ، وقوله «عدى» أراد به متباعدين لا أرحام بينهم ولا حلف
، وقد روي في بيت الأخطل هذا اللفظ بكسر العين وبضمها ، وأنكر الأصمعي الضم إلا أن
تقول «عداة» بالتاء في آخره ، وقوله «آخر الدهر» منصوب على تقدير نزع الخافض ،
وأصله إلى آخر الدهر ، فحذف الحرف وأوصل الاسم الذي يشبه الفعل إلى المجرور فنصبه
، والاستشهاد بالبيت في قوله «ألا يا اسلمي» فإن الفريقين الكوفيين والبصريين
متفقون على أن «يا» حرف نداء ، وعلى أن حرف النداء مما يختص بالدخول على الاسم ،
وقد دخل في هذا البيت على ما هو فعل أمر بالاتفاق ، فوجب أن يكون التقدير دخوله
على اسم محذوف ، وكأنه قد قال : ألا يا هند ، اسلمي ، يا هند هند بني بكر ، ونظير
ذلك مما لم ينشده المؤلف قول الآخر :
ألا يا اسلمي
ذات الدماليج والعقد
|
|
وذات الثنايا
الغر والفاحم الجعد
|
وقول الكوفيين «إن
هذا خاص بما إذا وقع بعد حرف النداء فعل أمر» غير صحيح فقد دخلت «يا» في اللفظ على
أفعال غير فعل الأمر ، وعلى الحرف أيضا ، نحو قول الراجز :
يا ليتني
وأنت يا لميس
|
|
في بلدة ليس
بها أنيس
|
وقول الآخر :
يا ليت زوجك قد
غدا
|
|
متقلدا سيفا
ورمحا
|
وقول الآخر :
يا ليت أنا
ضمنا سفينه
|
|
حتى يعود
الوصل كينونه
|
وقول الآخر :
يا رب مثلك
في النساء غريرة
|
|
بيضاء قد
متعتها بطلاق
|
وقد ورد مثل
ذلك في أفصح الكلام ، فمن دخول «يا» على فعل الأمر قول الله تعالى : ألا يا اسجدوا
لله ومن دخول «يا» على الحرف قوله سبحانه : (يا لَيْتَنِي مِتُّ
قَبْلَ هذا) وقوله : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ
وَلا نُكَذِّبَ) وقوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ
مَعَهُمْ) وقوله : (يا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ).
[٥٢] هذا البيت
من كلام ذي الرمة ، واسمه غيلان بن عقبة ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ١١) وابن
هشام في المغني (رقم ٤٠٢) وفي أوضح المسالك (رقم ٨٢) وابن عقيل (رقم ٦٢) والبلى ـ بكسر
الباء مقصورا ـ مصدر بلي الثوب ونحوه يبلى بلاء وبلى ؛ إذا رث وقدم ، ومنهلا : اسم
الفاعل من قولك انهل المطر ، أي انسكب وانصب ، والجرعاء : رملة مستوية لا تنبت
شيئا ، والقطر : المطر ، والاستشهاد به في قوله «يا اسلمي» حيث دخل
وقال الآخر ،
وهو المرقّش :
[٥٣] ألا يا
اسلمي لا صرم لي اليوم فاطما
|
|
ولا أبدا ما
دام وصلك دائما
|
وقال الآخر :
[٥٤] ألا يا
اسلمي قبل الفراق ظعينا
|
|
تحيّة من
أمسى إليك حزينا
|
وقال الآخر ،
وهو الكميت :
[٥٥] ألا يا
اسلمي يا ترب أسماء من ترب
|
|
ألا يا اسلمي
حيّيت عنّي وعن صحبي
|
______________________________________________________
حرف النداء في
اللفظ على الفعل المتفق على فعليته ، ولم يخرجه ذلك عن الفعلية ؛ لأن الكلام على
تقدير اسم يدخل يا عليه ، وأصل الكلام : ألا يا دار مية اسلمي دارمي ـ الخ ، وهو
نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق.
[٥٣] هذا البيت
كما قال المؤلف للمرقش ، والصرم ـ بالفتح وبالضم أيضا ـ الهجران والقطيعة وبت
أواصر المحبة والألفة ، و «فاطما» أراد يا فاطمة ، فحذف حرف النداء ورخم المنادى
بحذف التاء ، والاستشهاد به في قوله «ألا يا اسلمي» حيث دخل حرف النداء ـ وهو «يا»
ـ في اللفظ على فعل متفق على فعليته ، وقد اتفق الفريقان على أن حرف النداء مما
يختص به الاسم. فلزمهم أن يقدروا اسما يكون حرف النداء داخلا عليه ، وأصل الكلام :
ألا يا فاطمة اسلمي لا صرم لي ـ الخ ، وهذا مما يؤنس بأن يكون قول حسان بن ثابت «ألست
بنعم الجار» الذي استدل به الكوفيون على أن نعم اسم ـ ليس مما يصح التمسك به ؛ لأن
الباء داخلة على اسم مقدر ، وأصل الكلام : ألست بجار مقول فيه نعم الجار ، على ما
قررناه سابقا.
[٥٤] لم أقف
لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وظعين : أراد يا ظعينة ، فحذف حرف النداء
ورخم الاسم المنادى بحذف التاء ، وجاء به على لغة من ينتظر الحرف المحذوف فأبقى
فتحة النون التي كانت لها قبل الحذف ، وهذه الألف للإطلاق ، والظعينة : المرأة ما
دامت في الهودج ، وقد تطلق على المرأة مطلقا ، وتحية : يجوز فيه النصب على أن يكون
مفعولا مطلقا عامله محذوف يدل عليه سابق الكلام ، وكأنه قال : أحييك تحية ، ويجوز
فيه الرفع على أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، وكأنه قال : هذه تحية ـ الخ ، والاستشهاد
به في قوله «يا اسلمي» حيث اقترن حرف النداء ـ وهو «يا» ـ بكلمة وقع الإجماع على
أنها فعل ؛ فدل على أن اقتران حرف النداء في اللفظ بكلمة ما لا يقطع بأنها اسم ،
ويكون نظير ذلك أن اقتران حرف الجر بالكلمة لا يدل دلالة قاطعة على أن هذه الكلمة
اسم ؛ لجواز أن يكون مدخول حرف الجر محذوفا من اللفظ ، كما أن مدخول حرف النداء في
هذا البيت محذوف.
[٥٥] هذا البيت
ـ كما قال المؤلف ـ من كلام الكميت بن زيد الأسدي ، والترب ـ بكسر التاء وسكون
الراء ـ الذي يساويك في سنك. والاستشهاد بالبيت في قوله «يا اسلمي» والقول فيه
كالقول في الأبيات السابقة.
وقال الآخر ،
وهو العجّاج :
[٥٦] يا دار
سلمى يا اسلمي ثمّ اسلمي
|
|
بسمسم وعن
يمين سمسم
|
وقال الآخر :
[٥٧] أمسلم
يا اسمع يا بن كلّ خليفة
|
|
ويا سائس
الدّنيا ويا جبل الأرض
|
[٤٩] أراد «يا هذا اسمع». وقال
الآخر :
[٥٨] وقالت :
ألا يا اسمع نعظك بخطّة
|
|
فقلت : سميعا
فأنطقي وأصيبي
|
______________________________________________________
[٥٦] هذان بيتان
من الرجز المشطور للعجاج بن رؤبة ، الراجز المشهور ، وقد أنشدهما ابن منظور (س م م)
ونسبهما إليه ، ووقع عنده «بسمسم أو عن يمين سمسم» وسمسم : اسم موضع بعينه ، وقال
ابن السكيت : هو رملة معروفة ، وفيها يقول طفيل الغنوي :
أسف على
الأفلاج أيمن صوبه
|
|
وأيسره يعلو
مخارم سمسم
|
وموطن
الاستشهاد قوله «يا اسلمي» حيث اقترن حرف النداء بكلمة اتفق الفريقان على أنها فعل
، فكان مما لا بدّ منه تقدير اسم يقترن به حرف النداء ليصح قولهم : إن حرف النداء
مما يختص بالأسماء ، وقد أرشد العجاج نفسه إلى هذا الاسم المقدر ، فأنت تراه قد
قال في صدر الشاهد «يا دار سلمى» ثم قال «يا اسلمي» فكأنه قال : يا دار سلمى يا
دار سلمى اسلمي ثم اسلمي» والكلام فيه كالكلام فيما مر من الأبيات.
[٥٧] ورد هذا
البيت في اللسان (ن ف ض) منسوبا إلى أبي نخيلة ، وقوله «أمسلم» الهمزة فيه لنداء
القريب ، ومسلم ـ بفتح الميم الأولى ـ مرخم مسلمة ، وقوله «يا جبل الأرض» أراد به
أن الذي يحفظ توازن هذه الأرض من أن ترجف بها الراجفة وتزعزعها أعاصير الاضطرابات
، أخذه من قوله تعالى : (وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ). والاستشهاد بالبيت في قوله «يا اسمع» فإن حرف النداء ـ وهو
«يا» ـ قد اقترن في هذه العبارة بكلمة اتفق الطرفان جميعا على أنها فعل ـ وهي قوله
«اسمع» ـ والكلام فيه نظير ما قلناه فيما قبله ، ورواية اللسان «أمسلم إني يا ابن
ـ الخ» ولا شاهد فيها.
[٥٨] وهذا
البيت مما لم نعثر له على نسبة إلى قائل معين ، وقوله «نعظك» مجزوم في جواب الأمر
السابق عليه ، وكأنه قال : إن تسمع نعظك ، والخطة ـ بضم الخاء وتشديد الطاء ـ شبه
القصة ، وهو أيضا الأمر ، ويقال : سمته خطة سوء ، وقال تأبط شرا :
هما خطتا إما
إسار ومنة
|
|
وإما دم ،
والقتل بالحر أجدر
|
وقوله «فقلت
سميعا» ينتصب على أنه مفعول ثان لفعل محذوف أو على أنه حال حذف عامله ، وتقدير
الكلام : وجدتني سميعا ، أو لقيتني سميعا ، ونحو ذلك. والاستشهاد بالبيت في قوله «ألا
يا اسمع» والقول فيه كالقول في نظائره من الأبيات السابقة ونحوها. وكلها يدل على
أن اقتران علامة من العلامات الدالة على اسمية الكلمة في اللفظ لا يدل دلالة قاطعة
على اسميتها في اللفظ وفي التقدير جميعا ، فالاقتران في اللفظ وحده غير كاف في
القطع باسمية الكلمة ؛ لجواز أن يكون قد حذف من الكلام شيء يكون هو المقترن بهذه
أراد «وقالت يا
هذا اسمع» فحذف المنادى لدلالة حرف النداء عليه.
وإنما اختصّ
هذا التقدير بفعل الأمر دون الخبر لأن المنادى مخاطب ، والمأمور مخاطب ، فحذفوا
الأول من المخاطبين اكتفاء بالثاني عنه ، وإذا كان هذا المنادى إنما يقدر محذوفا
فيما إذا ولي حرف النداء فعل أمر فلا خلاف أن «نعم المولى» خبر ؛ فيجب أن لا يقدّر
المنادى فيه محذوفا ، يدل عليه أن النداء لا يكاد ينفكّ عن الأمر أو ما جرى مجراه
من الطلب والنهي ، ولذلك لا يكاد يوجد في كتاب الله تعالى نداء ينفك عن أمر أو نهي
، ولهذا لما جاء بعده الخبر في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ) [الحج : ٧٣] شفعه الأمر في قوله : (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) فلما كان النداء لا يكاد ينفكّ عن الأمر وهما جملتا
خطاب جاز أن يحذف المنادى من الجملة الأولى ، وليس كذلك «يا نعم المولى ونعم
النصير» لأن نعم خبر ؛ فلا يجوز أن يقدّر المنادى فيه محذوفا.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنه لا يحسن اقتران الزمان بهما كسائر
الأفعال ، ألا ترى أنك لا تقول «نعم الرجل أمس» ولا «نعم الرجل غدا» وكذلك أيضا لا
تقول «بئس الرجل أمس» ولا «بئس الرجل غدا» فلما لم يحسن اقتران الزمان بهما علم
أنهما ليسا بفعلين.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنهما غير متصرفين ، لأن التصرف من خصائص
الأفعال ؛ فلما لم يتصرّفا دل على أنهما ليسا بفعلين.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنه قد جاء عن العرب «نعيم الرجل زيد»
وليس في أمثلة الأفعال فعيل ألبتة ، فدلّ على أنهما اسمان ، وليسا بفعلين.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنهما فعلان اتصال الضمير المرفوع بهما على حدّ
اتصاله بالفعل المتصرف ؛ فإنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا «نعما رجلين ، ونعموا
رجالا» وحكى ذلك الكسائي ، وقد رفعا مع ذلك المظهر في نحو «نعم الرجل ، وبئس
الغلام» والمضمر في نحو «نعم رجلا زيد ، وبئس غلاما [٥٠] عمرو» فدلّ على أنهما
فعلان.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : الدليل على أنهما فعلان اتصالهما بتاء التأنيث
______________________________________________________
العلامة ، كما
كان اقتران حرف النداء في هذه الشواهد واقتران حرف الجر في بيت حسان غير دليل على
اسمية ما دخل عليه حرف النداء وحرف الجر ؛ لأن الكلام على تقدير محذوف ألبتة.
الساكنة التي لا يقلبها أحد من العرب في الوقف هاء كما قلبوها في نحو رحمة
وسنة وشجرة ، وذلك قولهم «نعمت المرأة ، وبئست الجارية» لأن هذه التاء يختصّ بها
الفعل الماضي لا تتعدّاه ، فلا يجوز الحكم باسمية ما اتصلت به.
اعترضوا على
هذا بأن قالوا : قولكم «إن هذه التاء يختصّ بها الفعل» ليس بصحيح ؛ لأنها قد اتصلت
بالحرف في قولهم «ربّت ، وثمّت ، ولات» في قوله تعالى : (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص : ٣] قال الشاعر :
[٥٩] ماويّ
بل ربّتما غارة
|
|
شعواء
كاللّذعة بالميسم
|
______________________________________________________
[٥٩] هذا البيت
لضمرة بن ضمرة النهشلي ، ويروى صدره :
* ماوي يا ربتما غارة*
وهو من شواهد
ابن عقيل (رقم ٢١٦) وأنشده ابن منظور (ر ب ب). والغارة : الاسم من قولك «أغار
القوم» أي أسرعوا السير إلى الحرب ، وقوله «شعواء» يريد متفرقة منتشرة ، و «اللذعة»
مأخوذ من قولك «لذعته النار تلذعه» من باب قطع ـ أي أحرقته ، وـ «الميسم» بكسر
الميم أوله : اسم الآلة من الوسم ، وبها توسم الإبل ، توضع في النار ثم تمس بها
الإبل لتكون علامة على أصحابها ، وكان لكل قبيلة ميسم على هيئة وشكل مخصوص يعلمون
بها إبلهم حتى يعرفها الناس ويفسحوا لها المجال لتشرب الماء. وموطن الاستشهاد بهذا
البيت هنا قوله «ربتما» حيث اقترنت تاء التأنيث برب ، وقد علم أن تاء التأنيث لا
تقترن إلا بالأفعال ، وقد اتفق الفريقان على أن رب ليس فعلا ، فيكون اقتران رب
بتاء التأنيث كاقتران حرف النداء بالفعل وبالحرف فيما مضى من الشواهد ، ونظير
اقتران تاء التأنيث برب في هذا البيت اقترانها بها في قول الآخر وأنشده ابن منظور
:
وربت سائل
عني حفي
|
|
أعارت عينه
أم لم تعارا
|
وبعض الكوفيين
ينشد هذه الأبيات ونحوها لنقض دليل البصريين الذي استدلوا به على أن نعم وبئس
فعلان ، فيقولون : أنتم تستدلون على أن نعم وبئس فعلان باقتران كل واحدة من هاتين
الكلمتين بتاء التأنيث ، وتزعمون أن تاء التأنيث مختصة بالدخول على الأفعال ،
ولكنا لا نسلم أن كل ما تدخل عليه تاء التأنيث يكون فعلا ، بدليل أن هذه التاء قد دخلت
على «ثم» وهو حرف عطف بالإجماع ، كما دخلت على «لا» وهو حرف نفي بالإجماع ، ودخلت
على «رب» ونحن وأنتم متفقون على أنه ليس فعلا ، فيكون هذا نظير ما نقضتم به مذهبنا
حيث قلتم : إن دخول حرف الجر على الكلمة لا يكون دليلا قاطعا على اسمية الكلمة ؛
لأن حرف الجر قد دخل في اللفظ على الفعل وعلى الحرف وإن حرف النداء الذي هو من
خصائص الأسماء قد دخل في اللفظ على الفعل المتفق على فعليته وعلى الحرف المتفق على
حرفيته ، وإذن فلم يتم دليلكم كما لم يتم دليلنا ، فما المرجح لمذهبكم على مذهبنا؟.
وهذا كلام ظاهره صحيح ، ولكنه عند البحث والتحقيق لا ينهض ولا يستقيم ، وبيان ذلك
من ثلاثة أوجه : الوجه الأول : أن تاء التأنيث التي تلحق الفعل والتي هي خاصة من
خصائصه ساكنة ، تقول : قامت ، وقعدت ، وأقامت ، وسافرت ، فتجد تاء
وقال الآخر :
[٦٠] ثمّت
قمنا إلى جرد مسوّمة
|
|
أعرافهنّ
لأيدينا مناديل
|
فلحاقها بالحرف
يبطل ما ادّعيتموه من اختصاص الفعل بها ، وإذا بطل الاختصاص جاز أن تكون نعم وبئس
اسمين لحقتهما هذه التاء كما لحقت ربّت وثمّت. هذا على أن نعم وبئس لا تلزمهما
التاء بوقوع المؤنث بعدهما كما تلزم الأفعال ، ألا ترى أن قولك «قام المرأة ، وقعد
الجارية» لا يجوز في سعة الكلام ،
______________________________________________________
التأنيث
اللاحقة لهذه الأفعال ساكنة ، بخلاف تاء التأنيث في ثمت وفي ربت وفي لات ، فإنها
متحركة مفتوحة ، فلما اختلفت التاء في هذه الكلمات عن التاء اللاحقة للأفعال دل
على أنها ليست هي التاء التي نجعلها خاصة من خصائص الأفعال ، بدليل أننا نقول : إن
تاء التأنيث المختصة بالأفعال هي تاء التأنيث الساكنة ، والوجه الثاني : أن تاء
التأنيث اللاحقة للأفعال والتي هي خاصة من خصائص الفعل الماضي إنما تلحق الفعل
لتدل على أن فاعله مؤنث ؛ فأنت تقول : قامت هند ، وقعدت فاطمة ، وأقامت سلمى ، وسافرت
سعدى ، فتأتي بهذه التاء ألبتة مع الفاعل المؤنث للفرق بين الفعل المذكر وفعل
المؤنث ؛ لأن بعض الأسماء يشترك في التسمية بها المذكر والمؤنث فلا يكفي ذكر هذه
الأسماء من غير تأنيث الفعل للدلالة على أن المراد بها مؤنث ، أما التاء اللاحقة
لرب وثم ولا فليست بهذه المنزلة ، بل المراد بها تأنيث اللفظ ، فلتكن التاء التي
هي من خصائص الأفعال هي التاء الدالة على تأنيث الفاعل الذي يسند الفعل المقترن
بها إليه ، والوجه الثالث : أنا نقول : إن لحاق هذه التاء لهذه الحروف شاذ عن
القياس بالإجماع منا ومنكم ، والحكم فيما عدا هذه الكلمات المحفوظة المعروفة باق
على أصله لا ينقضه شيء.
[٦٠] هذا البيت
من قصيدة مستجادة لعبدة بن الطبيب ، وهو شاعر مخضرم ، وقصيدته التي منها بيت
الشاهد هي المفضلية رقم ٢٦ ، والجرد : جمع أجرد أو جرداء ، والأجرد من الخيل : القصير
الشعر ، والمسومة : المعلمة ، والأعراف : جمع عرف ـ بالضم ـ وهو الشعر الذي في عنق
الفرس ، والمناديل : جمع منديل ، وهو الذي تمسح به يديك من وضر الطعام ونحوه ،
يقول : إنهم بعد أن طعموا ركبوا الخيل الجرداء المعلمة ومسحوا أيديهم من آثار
الطعام بأعرافها ، والاستشهاد بالبيت في قوله «ثمت» حيث اتصلت تاء التأنيث بثم ،
ومن المتفق عليه بين الفريقين أن ثم حرف من حروف العطف ، وقد بينا وجه الاستشهاد
بذلك في شرح البيت السابق ، ونظير بيت عبدة هذا في اقتران ثم بتاء التأنيث قول شمر
بن عمرو الحنفي ، وهو من شعر الأصمعيات :
ولقد مررت
على اللئيم يسبني
|
|
فمضيت ثمت
قلت : لا يعنيني
|
وقول الآخر
وأنشده ابن منظور (ب ى ع ـ ث م م) :
* ثمت ينباع انبياع الشجاع*
وقول عمر بن
أبي ربيعة (د ٢٥٨ بتحقيقنا) :
اسأليه ثمت
استمعي
|
|
أينا أحق
بالظلم؟
|
بخلاف قولك «نعم المرأة ، وبئس الجارية» فإنه حسن في سعة الكلام؟ فبان الفرق
بينهما.
وهذا الاعتراض
الذي ذكروه ساقط ، وأما التاء التي اتصلت بربت وثمّت وإن كانت للتأنيث إلا أنها
ليست التاء التي في نعمت وبئست ، والدليل على ذلك من وجهين ؛ أحدهما : أن التاء في
«نعمت المرأة ، وبئست الجارية» لحقت الفعل لتأنيث الاسم الذي أسند إليه الفعل ،
كما لحقت في قولهم «قامت المرأة» لتأنيث الاسم الذي أسند إليه الفعل ، والتاء في «ربت
، وثمت» لحقت لتأنيث الحرف ؛ لا لتأنيث شيء آخر ، ألا ترى أنك تقول «ربّت رجل أهنت»
كما تقول «ربّت امرأة أكرمت» ولو كانت كالتاء في نعمت وبئست لما جاز أن تثبت مع
المذكر كما لا يجوز أن تثبت مع المذكر في قولك «نعمت الرجل ، وبئست الغلام» فلما
جاز أن تثبت التاء في ربّت [٥١] مع المذكر دل على الفرق بينهما ، والوجه الآخر :
أن التاء اللاحقة للفعل تكون ساكنة ، وهذه التاء التي تلحق هذين الحرفين تكون
متحركة ، فبان الفرق بينهما ، وأما «لات» فلا نسلم أن التاء مزيدة فيها ، بل هي
كلمة على حيالها ، وإن سلمنا أن التاء مزيدة فيها فالجواب من أربعة أوجه : وجهان
ذكرناهما في ربت وثمت ، ووجهان نذكرهما الآن ؛ أحدهما : أن الكسائي كان يقف عليها
بالهاء ؛ فاحتجّ بأنه سأل أبا فقعس الأسديّ عنها فقال : «ولاه» فإذا لا تكون
بمنزلة التاء في ربّت وثمت ، ولا بمنزلة التاء في نعمت وبئست ، والوجه الثاني : أن
تكون التاء في (لاتَ حِينَ) متصلة بحين ، لا بلا ، كذلك ذكره أبو عبيد القاسم بن
سلّام ، وحكى أنهم يزيدون التاء على حين وأوان والآن ؛ فيقولون : «فعلت هذا تحين
كذا ، وتأوان كذا ، وتألآن» أي : حين كذا ، وأوان كذا ، والآن. وقال الشاعر وهو
أبو وجزة السعدي :
[٦١] العاطفون
تحين ما من عاطف
|
|
والمطعمون
زمان أين المطعم
|
______________________________________________________
[٦١] هذا البيت
لأبي وجزة كما قال المؤلف ، وقد أنشده ابن منظور (ح ى ن) عن ابن سيده وعن الجوهري
، ونسبه في المرتين لأبي وجزة ، وقد لفق كل واحد من هؤلاء الأئمة البيت من بيتين ،
وصواب الإنشاد هكذا :
العاطفون
تحين ما من عاطف
|
|
والمسبغون
يدا إذا ما أنعموا
|
والمانعون من
الهضيمة جارهم
|
|
والحاملون
إذا العشيرة تغرم
|
واللاحقون
جفانهم قمع الذرى
|
|
والمطعمون
زمان أين المطعم
|
والاستشهاد
بالبيت في قوله «العاطفون تحين» وللعلماء في هذه العبارة رأيان : أحدهما : وهو
الذي ذكره المؤلف ههنا ـ أن هذه التاء زائدة في أول كلمة «حين» وأصل هذا الرأي
لأبي زيد ، زعم أنه سمع من بعض العرب زيادة التاء في أوائل بعض الظروف مثل الحين
وقال أبو زبيد
الطّائي :
[٦٢] طلبوا
صلحنا ولا تأوان
|
|
فأجبنا أن
ليس حين بقاء
|
______________________________________________________
والآن ، قال
أبو زيد «سمعت من يقول : حسبك تلان ، يريد الآن ، فزاد التاء» اه. والرأي الثاني :
أن هذه التاء زائدة في قوله «العاطفون» وأصلها هاء الوقف ، ثم أجرى الكلمة في حال
الوصل مجراها في حال الوقف ، ثم قلب الهاء تاء مبسوطة ، وعلى ذلك ينبغي أن تكتب «العاطفونت
حين ـ الخ» وقد ذكر هذا الرأي ابن سيده بعد أن ذكر الرأي الأول عن أبي زيد ، قال :
«وقيل : أراد العاطفونه ، فأجراه في الوصل على حد ما يكون عليه في الوقف ، وذلك
أنه يقال في الوقف : هؤلاء مسلمونه ، وضاربونه ، فتلحق الهاء لبيان حركة النون كما
أنشدوا :
أهكذا يا طيب
تفعلونه
|
|
أعللا ونحن
منهلونه
|
فصار التقدير :
العاطفونه ، ثم إنه شبه هاء الوقف بهاء التأنيث ، فلما احتاج لإقامة الوزن إلى
حركة الهاء قلبها تاء ، كما تقول : هذا طلحة ، فإذا وصلت صارت الهاء تاء فقلت :
هذا طلحتنا ، فعلى هذا قال : العاطفونة ، وفتحت التاء كما فتحت في آخر ربت وثمت
وذيت وكيت» اه. وقال ابن بري في بيت أبي وجزة : «هذه الهاء هي هاء السكت اضطر إلى
تحركها ، قال : ومثله :
هم القائلون
الخير والآمرونه
|
|
إذا ما خشوا
من محدث الأمر معظما» اه
|
ونريد أن نبين
لك أن هذه الهاء في قول أبي وجزة «العاطفونه» وفي تمثيل ابن سيده بقوله «هؤلاء
مسلمونه» و «ضاربونه» ليست هاء ضمير الغائب على ما قد يتسرب إلى ذهنك ، وذلك أن
هذه الهاءات لو كانت ضمائر لكان الاسم مضافا إليها ، فكان يجب أن تحذف النون التي
تلي علامة الإعراب وهي الواو في كل هذه الأمثلة ، لما تعرف من أنه يحذف للإضافة
تنوين الاسم المفرد ونون المثنى وجمع المذكر السالم ، فتنبه لهذا ، على أن من هذه
الأمثلة ما لا يتعدى بنفسه مثل «الآمرونه» في البيت الذي أنشده ابن بري ، وإنما
يتعدى بالباء إلى المأمور به ، فتقول : أمرته بكذا ، ولا تقول : أمرته كذا ، إلا
على التوسع كما جاء في قول الشاعر :
أمرتك الخير
، فافعل ما أمرت به
|
|
فقد تركتك ذا
مال وذا نشب
|
[٦٢] هذا البيت من قصيدة لأبي زبيد
الطائي ، كما قال المؤلف ، وهو من شواهد مغني اللبيب (رقم ٤١٦) وشواهد الأشموني (رقم
٢٢٩) والاستشهاد بهذا البيت في قوله «ولات أوان» وفي هذه التاء رأيان للنحاة ؛
أحدهما : أنها مزيدة على لا النافية ، وأنها نظير التاء في ربت وثمت ، وقد مضى
بيان ذلك ، والرأي الثاني : أن هذه التاء مزيدة في أول كلمة «أوان» كما زيدت في
أول الآن فقيل : تالآن ، وقيل : تلان ، على ما رواه أبو زيد ، وقد ذكرنا ذلك في
شرح الشاهد السابق (رقم ٦١) وهذا هو الوجه الذي روى المؤلف البيت في هذا الموضع
لتقريره. ثم إن في جر «أوان» أربعة آراء للعلماء ، الأول : أن «لات» في هذا ونحوه
عاملة الجر ، وكلمة «أوان» مجرورة بالكسرة الظاهرة ، وتنوينها تنوين التمكين الذي
يلحق الأسماء المعربة ، وهذا رأي الفراء ، ولا يجري إلا على أن التاء متصلة بلا ،
والرأي الثاني : أن
وقال الآخر :
[٦٣] نوّلي
قبل يوم نأيي جمانا
|
|
وصلينا كما
زعمت تلانا
|
واحتجّ بحديث
ابن عمر حين ذكر لرجل مناقب عثمان فقال له «اذهب بها تالآن إلى أصحابك» واحتجّ
بأنه وجدها مكتوبة في المصحف الذي يقال له الإمام (تحين) فدلّ على ما قلناه.
وقولهم «إن
التاء لا تلزم نعم وبئس إذا وقع المؤنث بعدهما» فليس بصحيح ، لأن التاء تلزمهما في
لغة شطر العرب ، كما تلزم في قام ، ولا فرق عندهم بين «نعمت المرأة» ، و «قامت
المرأة» وإنما جاز عند الذين قالوا «نعم المرأة» ولم يجز عندهم «قام المرأة» لأن
المرأة في قولهم «نعم المرأة هند» واقعة على الجنس كقولهم «الرجل أفضل من المرأة»
أي جنس الرجال أفضل من جنس النساء ، وكقولهم «أهلك الناس الدينار والدرهم» أي [٥٢]
الدراهم والدنانير ، وكوقوع الإنسان على الناس ، قال الله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] أراد الناس ، وإذا كان المراد بالمرأة استغراق الجنس فلا خلاف
أن أسماء الأجناس والجموع يجوز تذكير أفعالها وتأنيثها ؛ فلهذا المعنى حذف تاء
التأنيث من حذفها من «نعم المرأة» وإذا كانوا قد حذفوها في حال السعة من فعل
المؤنث الحقيقي من قولهم «حضر القاضي اليوم امرأة» فلا يبعد أن يحذفوها من فعل
المؤنث الواقع
______________________________________________________
«لات» ههنا حرف
نفي يعمل عمل إن ويدل على نفي الجنس ، و «أوان» في هذا البيت مبني لا معرب ،
وبناؤه على السكون الذي هو الأصل في المبنيات ، ولكنه لما اجتمع ساكنان : سكون
البناء ، وسكون الألف السابقة ، كسر آخره على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين
، ثم نون للضرورة ، والرأي الثالث : أن «لات» حرف نفي ، و «أوان» مبني على الكسر
تشبيها له بنزال ونحوه لأنه على وزنه ، وتنوينه للضرورة أيضا ، وهذان الرأيان
يجريان على أن التاء مزيدة على «لات» ويجريان أيضا على أن التاء مزيدة على أوان ،
وعليه يكون العامل هو «لا» النافية للجنس ، والرأي الرابع : أن تكون «لا» نافية ،
والتاء مزيدة على «أوان» وتأوان : مجرور بحرف جر محذوف ، وحرف الجر هو من
الاستغراقية ، وكأنه قال : لا من أوان صلح لهم ، وفي هذا القدر كفاية ومقنع.
[٦٣] لم أقف
لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين. وقد أنشده ابن منظور (ح ى ن) ولم يعزه لقائل
معين ، و «نولي» أصل معناه أعطي وامنحي ، وأراد هنا صليني وكفي عن الهجر ، وما
يؤدي هذا المعنى ، والنأي : البعد والفراق ، و «جمانا» اسم امرأة ، وهو منادى بحرف
نداء محذوف ، وأصله «جمانة» فرخمه الشاعر بحذف التاء ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت
قوله «تلانا» حيث زاد على «الآن» تاء في أوله وفي حديث ابن عمر «اذهب بها تالآن
معك» قال أبو زيد : سمعت من يقول «حسبك تلان» يريد الآن ، فزاد التاء ، وقال ابن
سيده في بيت الشاهد : أراد الآن ، فزاد التاء ، وألقى حركة الهمزة على ما قبلها.
اه.
على الجنس. وقد قالوا «ما قعد إلا المرأة ، وما قام إلا الجارية» فحذفوا
تاء التأنيث ألبتة ، ولم تأت مثبتة إلا في ضرورة.
فإن قالوا :
إنما حذفت تاء التأنيث هاهنا تنبيها على المعنى ؛ لأن التقدير : ما قعد أحد إلا
المرأة ، وما قام أحد إلا الجارية.
قلنا : هذا
مسلّم ، ولكن اللفظ يدل على أن المرأة والجارية غير بدل من أحد ، وإن كان المعنى
يدلّ على أنهما بدل ، كما أن اللفظ يدل على أن «شحما» في قولك «تفقّأ الكبش شحما»
غير فاعل ، وإن كان المعنى يدلّ على أنه فاعل ، فكما أنهم حذفوا تاء التأنيث من
قولهم «ما قعد إلا المرأة» تنبيها على المعنى فكذلك حذفوها من قولهم «نعم المرأة»
تنبيها على أن الاسم يراد به الجنس.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : الدليل على أنهما فعلان ماضيان أنهما مبنيان على الفتح ، ولو كانا اسمين
لما كان لبنائهما وجه ؛ إذ لا علة هاهنا توجب بناءهما. وهذا تمسّك باستصحاب الحال
، وهو من أضعف الأدلة ، والمعتمد عليه ما قدمناه.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «الدليل على أنهما اسمان دخول حرف الجر عليهما في قوله
:
* ألست بنعم الجار يؤلف بيته* [٥٠]
وقول بعض العرب
: نعم السير على بئس العير ، وقول الآخر : والله ما هي بنعم المولودة» فنقول :
دخول حرف الجر عليهما ليس لهم فيه حجة ؛ لأن الحكاية فيه مقدّرة ، وحرف الجر يدخل
مع تقدير الحكاية على ما لا شبهة في فعليته ، قال الراجز :
[٦٤] والله
ما ليلي بنام صاحبه
|
|
ولا مخالط
اللّيان جانبه
|
______________________________________________________
[٦٤] لم أقف
لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، وقد أنشده ابن منظور (ن وم) ولم يعزه ، وهو
من شواهد الأشموني في باب نعم وبئس (رقم ٧٤٤) وابن هشام في شرح قطر الندى (رقم ٨)
والرضي في باب أفعال المدح ، وانظر الخزانة (٤ / ١٠٦) ويروى صدره :
* والله ما زيد بنام صاحبه*
والليان ـ بفتح
اللام والياء جميعا ـ أحد مصادر «لان» تقول : لان فلان يلين لينا وليانا ؛ إذا
سهل. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «بنام» حيث دخل حرف الجر ـ وهو الباء ـ على الفعل
، في اللفظ ، وقد علم أن حرف الجر مختص بالدخول على الأسماء فلزم تقدير اسم يكون
معمولا لحرف الجر ، وتقدير الكلام : ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه ، وقد روى
البصريون هذا البيت لإبطال حجة الكوفيين القائلين إن نعم وبئس اسمان بدليل دخول
[٥٣] ولو كان
الأمر كما زعمتم لوجب أن يحكم لنام بالاسمية ؛ لدخول الباء عليه ، وإذا لم يجز أن
يحكم له بالأسمية لتقدير الحكاية فكذلك هاهنا لا يجوز أن يحكم لنعم وبئس بالاسمية
لدخول حرف الجر عليهما لتقدير الحكاية ، والتقدير في قولك :
* ألست بنعم الجار يؤلف بيته* [٥٠]
ألست بجار مقول
فيه نعم الجار ، وكذلك التقدير في قول بعض العرب «نعم السير على بئس العير» [نعم
السير على عير مقول فيه بئس العير] وكذلك التقدير في قول الآخر «والله ما هي بنعم
المولودة» والله ما هي بمولودة مقول فيها نعم المولودة ، وكذلك أيضا التقدير في
البيت الذي ذكرناه «والله ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه» إلا أنهم حذفوا منها
الموصوف وأقاموا الصفة مقامه. كقوله تعالى : (أَنِ اعْمَلْ
سابِغاتٍ) [سبأ : ١١] أي دروعا سابغات ، وكقوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ) [البينة : ٥] أي الملّة القيمة ؛ فصار التقدير فيها ألست بمقول فيه نعم
الجار ، ونعم السير على مقول فيه بئس العير ، وما هي بمقول فيها نعم المولودة ،
وما ليلي بمقول فيه نام صاحبه ، ثم حذفوا الصفة التي هي «مقول» وأقاموا المحكيّ
بها مقامها ؛ لأن القول يحذف كثيرا كما يذكر كثيرا ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] أي
______________________________________________________
حرف الجر
عليهما ، ووجه الإبطال أنه لا يلزم من دخول حرف الجر في اللفظ على كلمة ما أن تكون
هذه الكلمة اسما ؛ لأن حرف الجر قد يدخل في اللفظ على كلمة قد اتفقنا على أنها فعل
مثل نام في هذا البيت. وهذا الذي ذكرناه وذكره مؤلف الكتاب في هذا البيت أحد رأيين
للعلماء في هذا الشاهد ، والرأي الآخر حكاه ابن منظور ، وخلاصته أن «نام» ليس فعلا
باقيا على فعليته ، ولكنه صار مع ما بعده علما ، فهو من باب الأعلام المحكية عن
الجمل ، وأنت خبير أن الأعلام المحكية عن الجمل تدخل عليها عوامل الأسماء ، ويجوز
أن تضاف إليها الأسماء كما قال الشاعر :
كذبتم وبيت
الله لا تنكحونها
|
|
بني شاب
قرناها تصر وتحلب
|
فقول الشاعر
هنا «نام صاحبه» مثل قول الشاعر «شاب قرناها» وهذا التخريج إنما ذهب إليه من روى
في بيت الشاهد :
* والله ما زيد بنام صاحبه*
فكأنه قال : ما
زيد بهذا الرجل المسمى نام صاحبه ، إلا أن قوله بعد ذلك «ولا مخالط الليان» لا
يلتئم مع الكلام السابق ، على هذا التخريج ، فإنه يسأل : على م يعطف قوله «ولا
مخالط الليان»؟ فإنه لا يجوز حينئذ أن يعطف على «نام صاحبه» لكونه في هذا الحالة
ليس صفة ، إلا إذا لحظت معناه الأول قبل أن يصير علما ، ولهذا استبعد جماعة من
العلماء أن يكون «نام صاحبه» في هذا البيت علما.
يقولون : ما نعبدهم ، وقال تعالى : (الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر : ٧] أي : يقولون ربّنا ، وقال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] أي يقولون : سلام عليكم ، وقال تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ
الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة : ١٢٧] أي يقولون : ربنا ؛ وقال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ
وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [آل عمران : ١٠٦] أي يقال لهم : أكفرتم ، وقال تعالى : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا
لَمُغْرَمُونَ) [الواقعة : ٦٥ ، ٦٦] أي تقولون : إنا لمغرمون.
وهذا في كلام
الله تعالى وكلام العرب كثير جدا ، فلما كثر حذفه كثرة ذكره حذفوا الصّفة التي هي
مقول ؛ فدخل حرف الجر على الفعل لفظا وإن كان داخلا على غيره تقديرا ، كما دخلت
الإضافة على الفعل لفظا وإن كانت [٥٤] داخلة على غيره تقديرا في قوله :
[٦٥] ما لك
عندي غير سهم وحجر ،
|
|
وغير كبداء
شديدة الوتر
|
* جادت بكفّي كان من أرمى البشر*
|
أي : بكفّي رجل
كان من أرمى البشر ، فحذف الموصوف الذي هو «رجل» وأقام الجملة مقامه ، فوقعت
الإضافة إلى الفعل لفظا وإن كانت داخلة على غيره تقديرا ، فكذلك هاهنا : دخل حرف
الجر على الفعل لفظا ، وإن كان داخلا على غيره تقديرا.
______________________________________________________
[٦٥] لم أعثر
لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وهو من شواهد مغني اللبيب (رقم ٢٦٦)
والأشموني (رقم ٧٩١ بتحقيقنا) وشواهد الرضي ، وقال البغدادي (٢ / ٣١٢) «لم يعرف له
قائل» والسهم : واحد السهام ، وهي النبال ، وهو أيضا حجر يوضع فوق باب بيت يبنى
لاصطياد الأسد فإذا دخل الأسد هذا البيت وقع الحجر فسد الباب عليه ، والكبداء ـ بفتح
فسكون ـ القوس إذا كانت واسعة المقبض ، والوتر : مجرى السهم من القوس ، والضمير
المستتر في «ترمي» راجع على الكبداء التي هي القوس ، وأرمى البشر : أشدهم رميا وأكثرهم
إصابة للهدف ، والاستشهاد بالبيت في قوله «بكفي كان من أرمى البشر» حيث حذف
الموصوف وأبقى صفته ، وأصل الكلام : بكفي رجل كان من أرمى البشر» أما الموصف فهو «رجل»
الذي يضاف قوله «بكفي» إليه ، وأما الصفة فهي جملة «كان من أرمى البشر» ويجوز لك
أن تعتبر «كان» زائدة لا تعمل شيئا ؛ لوقوعها بين شيئين متلازمين ليسا جارا
ومجرورا وهما النعت ومنعوته ، وعلى هذا يكون قوله «من أرمى البشر» جارا ومجرورا
متعلقا بمحذوف نعت للمنعوت المحذوف.
ونحو هذا من
الاتّساع مجيء الجملة الاستفهامية وصفا في نحو قوله :
[٦٦]* جاءوا بضيح هل رأيت الذّئب قطّ*
فقوله «هل رأيت
الذّئب قط» جملة استفهامية في موضع وصف لضيح ، وإن كانت لا تحتمل صدقا ولا كذبا ،
ولكنه كأنه قال : جاءوا بضيح يقول من رآه هل رأيت الذئب قطّ ، فإنه يشبهه.
ونحو ذلك أيضا
من الاتساع مجيء الجملة الأمرية حالا في قوله :
[٦٧] بئس
مقام الشّيخ أمرس أمرس
|
|
إمّا على قعو
، وإمّا اقعنسس
|
______________________________________________________
[٦٦] ينسب بعض
الناس هذا الرجز إلى العجاج بن رؤبة الراجز المشهور ، ولكن الأكثرين على أنه لراجز
لا يعلم ، وكان قد نزل بقوم وانتظر طويلا عساهم أن يجيئوه بقراه ، ثم جاءوه بلبن
مشوب بكثير من الماء ، فقال فيهم :
بتنا بحسّان
ومعزاه تئط
|
|
تلحس أذنيه ،
وحينا تمتخط
|
ما زلت أسعى
بينهم وألتبط
|
|
حتى إذا جن
الظلام واختلط
|
* جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط*
|
وقد أنشده ابن
منظور (ض ى ح) ولم يعزه إلى معين ، والبيت من شواهد الأشموني (رقم ٨٧٤) وابن عقيل (رقم
٢٨٧) وأوضح المسالك (رقم ٢٩٤) ومغني اللبيب (رقم ٤٠٨) والرضي في باب المبتدأ
والخبر وفي باب النعت ، وشرحه البغدادي (١ / ٢٧٥). وحسان : جعله البغدادي اسم رجل
، وقيل : هو موضع بين دير العاقول وواسط ، والصواب ما قاله البغدادي ؛ لقوله فيما
بعد «تلحس أذنيه» وتئط : تصوّت ، وجن الظلام : ستر كل شيء ، والمذق : اللبن إذا
كثر خلطه بالماء ، ويروى «بضيح» وهي الرواية التي حكاها المؤلف ، والضيح ـ بفتح
الضاد وسكون الياء ـ هو اللبن الرقيق الذي خلط كثيرا بالماء ، ومحل الاستشهاد
بالبيت في قوله «بضيح هل رأيت ـ الخ» فإن ظاهر هذه العبارة يفيد أن الجملة
الإنشائية ـ وهي جملة الاستفهام التي هي قوله «هل رأيت الذئب قط» ـ قد وقعت نعتا
للنكرة التي هي قوله «مذق» أو «ضيح» ولما كان العلماء جميعا متفقين على أن الجملة
الإنشائية لا يجوز أن تقع نعتا للنكرة فإنهم اتفقوا جميعا على أن هذا الظاهر في
هذا البيت ونحوه غير مراد ، ومن أجل ذلك اتفقوا على أن جملة الاستفهام معمولة
لعامل مقدر هو الذي يقع نعتا لهذه النكرة ، وأصل الكلام : جاءوا بضيح مقول عند
رؤيته هل رأيت الذئب قط.
[٦٧] أنشد ابن
منظور هذين البيتين (ق ع س ـ م ر س) ولم يعزهما إلى معين والمقام : اسم مكان الإقامة
، و «أمرس» فعل أمر أصله المرس ، والمرس : مصدر «مرس الحبل يمرس مرسا» وهو أن يقع
الحبل في أحد جانبي البكرة بين الخطاف والبكرة ، وتقول «أمرس الحبل يمرسه ، مثل
أكرمه يكرمه» إذا أعاده إلى موضعه وتأمر من ذلك فتقول «أمرس حبلك ، على مثال أكرم
ضيفك» أي أعده إلى مجراه ، والقعو ـ بفتح القاف وسكون العين
أراد بئس مقام
الشيخ مقولا فيه أمرس ، أمرس ، ذمّ مقاما يقال له ذلك فيه ، و «أمرس» أعد الحبل
إلى موضعه من البكرة.
وإنما جاءت هذه
الأشياء في غير أماكنها لسعة اللغة ؛ وحسّن ذلك ما ذكرناه من إضمار القول ؛ فدلّ
على أن ما تمسّكوا به من دخول حرف الجر عليهما ليس بحجة يستند إليها ، ولا يعتمد
عليها.
وأما قولهم «إن
العرب تقول : يا نعم المولى ويا نعم النصير» فنقول : المقصود بالنداء محذوف للعلم
به ، والتقدير فيه : يا الله نعم المولى ونعم النصير أنت.
وأما قولهم : «إن
المنادى إنما يقدر محذوفا إذا ولي حرف النداء فعل أمر» فليس بصحيح ؛ لأنه لا فرق
بين الفعل الأمريّ والخبريّ في امتناع مجيء كل واحد منهما بعد حرف النداء ، إلا أن
يقدّر بينهما اسم يتوجه النداء إليه ، والذي يدلّ على أنه لا فرق بينهما مجيء
الجملة الخبرية بعد حرف النداء بتقدير حذف المنادى كما
______________________________________________________
المهملة ـ هو
أحد خشبتين يكتنفان البكرة وفيهما المحور ، وهما قعوان ، وقيل : القعوان الحديدتان
اللتان تجري البكرة بينهما ، وقال الأصمعي : إذا كان ما تجري البكرة وتدور فيه من
حديد فهو خطاف ، وإن كان من خشب فهو القعو ، واقعنسس : تأخر وارجع إلى خلف ، ومعنى
قوله «إما على قعو وإما اقعنسس» قال ابن منظور : إن استقى المستقي ببكرة فوق حبلها
في غير موضعه قيل له : أمرس ، أي أعد حبلك إلى موضعه ، وإن كان يستقي بغير البكرة
ومتح حتى أوجعه ظهره فيقال له : اقعنسس واجذب الدلو ، والاستشهاد بالبيت في قوله «بئس
مقام الشيخ أمرس أمرس» فإن قوله «أمرس» جملة إنشائية لكونها مؤلفة من فعل أمر
وفاعله وهو الضمير المستتر فيه وجوبا ، وقد وقعت هذه الجملة حالا في ظاهر الأمر ،
ولما كان العلماء لا يجيزون مجيء الجملة الإنشائية حالا ، إلا من لا يعتد بقوله ،
فقد جعلوا هذه الجملة معمولة لعامل محذوف هو الذي يقع حالا ، وتقدير الكلام : بئس
مقام الشيخ مقولا فيه : أمرس أمرس ، وصاحب الحال هو قوله «الشيخ» المضاف إليه ،
وفي كلام ابن منظور ما يفيد أن هذه الجملة الإنشائية معمولة لعامل محذوف يقع نعتا
لمخصوص بالذم ، وكأنه قال : بئس مقام الشيخ مقام مقول له فيه أمرس أمرس ، وهو كلام
مستقيم ؛ فإن مجيء بئس وقائلها في أول الكلام يرشح لمجيء المخصوص بالذم ؛ لأنه هو
الذي جرت عادتهم في هذا الأسلوب أن يأتوا به ، ولو قلت : إن هذه الجملة معمولة
لقول محذوف يقع تمييزا ، وإن التقدير : بئس مقام الشيخ مقاما مقولا فيه أمرس أمرس
، لم تكن قد أبعدت ، والاستشهاد على أية هذه الأحوال الثلاثة جار مؤد للغرض الذي
يريده المؤلف ، فإنه يقصد إلى أن يقول : إن من سنن العرب في كلامهم أن يحذفوا
الكلمة من الكلام ـ وخاصة ما كان من مادة القول ـ وهم يريدونها ، وإن ذلك واقع في
أساليب كثيرة من أساليبهم.
تجيء الجملة الأمرية بعد حرف النداء [٥٥] بتقدير حذف المنادى ، قال الشاعر
:
[٦٨] يا لعنة
الله والأقوام كلّهم
|
|
والصّالحين
على سمعان من جار
|
أراد : يا
هؤلاء لعنة الله على سمعان ، وقال الآخر :
[٦٩] يا لعنة
الله على أهل الرّقم
|
|
أهل الحمير
والوقير والخزم
|
وقال الآخر :
[٧٠] يا لعن
الله بني السّعلات
|
|
عمرو بن
ميمون شرار النّات
|
______________________________________________________
[٦٨] هذا البيت
من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٦٢٠) وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٢٠) وابن
يعيش (ص ١١٧٣). والاستشهاد به في قوله «يا لعنة الله» فقد وقع بعد حرف النداء جملة
مؤلفة من مبتدأ هو قوله «لعنة الله» وخبر وهو الجار والمجرور الذي هو قوله «على
سمعان» وذلك مبني على أن الرواية برفع «لعنة الله» فلو رويته بنصب اللعنة كان
الكلام على تقدير عامل يعمل النصب وعلى تقدير المنادى بيا أيضا ، وتقدير الكلام
على هذا : يا هؤلاء أستدعي لعنة الله ، ويكون الجار والمجرور متعلقا باللعنة ،
وهذا أحد تخريجات ثلاثة في البيت ، والتخريج الثاني : أن تعتبر «يا» لمجرد التنبيه
، والثالث : ولا يتم إلا على رواية النصب ـ أن تكون اللعنة نفسها هي المنادى ،
وكأنه قال : يا لعنة الله انصبي على سمعان ، كما نودي الأسف في قوله تعالى : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) وكما نوديت الحسرة في قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) وفي قوله سبحانه (يا حَسْرَتى عَلى ما
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ).
[٦٩] هذا البيت
لابن دارة ، واسمه سالم بن مسافع ، ودارة أمه ، وقد أنشده ابن منظور (خ ز م) ونسبه
إليه. والرقم ـ بفتح الراء والقاف جميعا ـ جمع رقمة ، والرقمة : نبات يقال إنه
الخبازي ، وقيل : الرقمة من العشب العظام تنبت متسطحة وهي من أول العشب خروجا ،
تنبت في السهل ، ولا يكاد المرء يأكلها إلا من حاجة ، والحمير : جمع حمار ، وهو
معروف ، والوقير : صغار الشاء ، وقال أبو النجم :
* نبح كلاب الشاء عن وقيرها*
والخزم ـ بضم
الخاء والزاي جميعا ـ جمع خزومة ، وهي البقرة ، والاستشهاد به في قوله «يا لعنة
الله» وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق.
[٧٠] هذان
بيتان من الرجز المشطور ، وهما لعلباء بن أرقم اليشكري أحد شعراء الجاهلية ، وهما
من شواهد شرح الرضي على شافية ابن الحاجب (رقم ٢٢٣) وشرح المفصل لموفق الدين ابن
يعيش (ص ١٣٨٠ أوربة) وقد أنشدهما مع ثالث ابن منظور تبعا للجوهري (ن وت ـ س ى ن)
ونسبهما في المرتين لعلباء بن أرقم ، والرواية عنده ـ وهي المشهورة في كتب الصرف ـ
هكذا :
يا قبح الله
بني السعلات
|
|
عمرو بن
يربوع شرار النات
|
* غير أعفاء ولا أكيات*
|
أراد بالنّات
الناس فحول السين تاء ، وقال الآخر :
[٧١] يا قاتل
الله صبيانا تجيء بهم
|
|
أمّ الهنيبر
من زند لها واري
|
وهي جملة خبرية
، فدلّ على أنه لا فرق في ذلك بين الجملة الأمرية والخبرية ؛ فوجب أن يكون المنادى
محذوفا في قولهم «يا نعم المولى ويا نعم النّصير».
والذي يدلّ على
فساد ما ذهبوا إليه أنا أجمعنا على أن الجمل لا تنادى ؛ وأجمعنا على أن «نعم
الرّجل» جملة ، وإن وقع الخلاف في نعم هل هي اسم أو فعل ، وإذا امتنع للإجماع
قولنا «يا زيد منطلق» فكذلك يجب أن يمتنع «يا نعم الرجل» إلا على تقدير حذف
المنادى على ما بينّا.
وأما قولهم «إن
النداء لا يكاد ينفك عن الأمر أو ما جرى مجراه ، ولذلك لا
______________________________________________________
و «قبح الله
فلانا» أي نحاه وأبعده عن الخير ، ويروى «يا قاتل الله» وهو دعاء بالهلكة ، و «السعلاة»
بكسر السين وسكون العين المهملة ـ أنثى الغول ، ويقال : هي ساحرة الجن ، وقد زعموا
أن عمرو بن يربوع تزوج سعلاة فأقامت دهرا في بني تميم وأولدها عمرو أولادا ، و «عمرو
بن يربوع» قالوا : هو بدل من السعلاة ، ولو جعلته معطوفا عليه بعاطف محذوف لم تكن
قد أبعدت ، و «النات» أراد به الناس ، و «أكيات» أراد به الأكياس : جمع كيس ، وهو
الحاذق الفطن. ومحل الاستشهاد به ههنا قوله «يا قبح الله» حيث اقترن حرف النداء
بجملة فعلية دعائية ، وقد اتفق الفريقان على أن المنادى لا يكون جملة ؛ فلزمهما
جميعا أن يقدرا اسما مفردا ليكون هو المنادى بهذا الحرف ، وأصل الكلام عندهم : يا
قوم قبح الله ، أو يا هؤلاء قبح الله ، وما أشبه ذلك. وهذا أحد توجيهين في هذا
البيت ونحوه ، والثاني : أن «يا» ههنا حرف تنبيه ، لا حرف نداء ، وحرف التنبيه
يدخل على الجمل الفعلية والاسمية ، ونظير هذا البيت قول جرير :
يا حبذا جبل
الريان من بلد
|
|
وحبذا ساكن
الريان من كانا
|
وقول الفرزدق :
يا أرغم الله
أنفا أنت حامله
|
|
يا ذا الخنى
ومقال الزور والخطل
|
[٧١] هذا البيت للقتال الكلابي ،
واسمه عبيد بن المضرجي ، وقد أنشده ابن منظور (ه ن ب ر) ونسبه إليه ، وأنشد بعده :
من كل أعلم
مشقوق وتيرته
|
|
لم يوف خمسة
أشبار بشبار
|
وقال بعد إنشاد
البيتين «ويروى يا قبح الله ضبعانا ، وفي شعره : من زند لها حاري ، والحاري :
الناقص ، والواري : السمين ، والأعلم : المشقوق الشفة العليا ، والوتيرة : إطار
الشفة ، وأبو الهنبر : الضبعان ، ثم قال : وأم الهنبر : الضبع ، وقيل : هي الحمارة
الأهلية ، والهنبر ـ بوزن الخنصر ، بكسر أوله وثالثه ـ ولد الضبع ، ويقال الهنبر
الجحش» اه. ومحل الاستشهاد قوله «يا قاتل الله ـ الخ» والقول فيه كالقول في الشاهد
السابق.
يكاد يوجد في كتاب الله تعالى نداء ينفك عن أمر أو نهي» قلنا : لا نسلم ،
بل يكثر مجيء الخبر والاستفهام مع النداء كثرة الأمر والنهي ، أما الخبر فقد قال
الله تعالى : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [الزخرف : ٦٨] ، وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَبَتِ إِنِّي
أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) [مريم : ٤٥] ، وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَبَتِ إِنِّي
رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) [يوسف : ٤] ، وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَبَتِ هذا
تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ١٠٠] وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [يونس : ٢٣] وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) [فاطر : ١٥] إلى غير ذلك من المواضع ، وأما الاستفهام فقد قال الله تعالى :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ؟) [التحريم : ١] ، وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟) [الصف : ٢] ، وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَبَتِ لِمَ
تَعْبُدُ ما لا [٥٦] يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) [مريم : ٤٢] ، وقال تعالى في موضع آخر : (وَيا قَوْمِ ما لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) [غافر : ٤١] إلى غير ذلك من المواضع ؛ فإذا كثر مجيء الخبر والاستفهام كثرة
الأمر والنهي فقد تكافا في الكثرة ؛ فلا مزية لأحدهما عن الآخر.
وأما قولهم «إنه
لا يحسن اقتران الزمان بهما ؛ فلا يقال : نعم الرجل أمس ، ولا بئس الغلام غدا ،
ولا يجوز تصرفهما» فنقول : إنما امتنعا من اقترانهما بالزمان الماضي ، وما جاء
التصرف لأن «نعم» موضوع لغاية المدح و «بئس» موضوع لغاية الذم ؛ فجعل دلالتهما
مقصورة على الآن ؛ لأنك إنما تمدح وتذم بما هو موجود في الممدوح أو المذموم ، لا
بما كان فزال ، ولا بما سيكون ولم يقع.
وأما قولهم «إنه
قد جاء عن العرب نعيم الرّجل» فهذا مما ينفرد بروايته أبو علي قطرب ، وهي رواية
شاذة ، ولئن صحت فليس فيها حجة ؛ لأن نعم أصله نعم على وزن فعل ـ بكسر العين ـ فأشبع
الكسرة فنشأت الياء كما قال الشاعر :
تنفي يداها
الحصى في كلّ هاجرة
|
|
نفي
الدّراهيم تنقاد الصّياريف [١٣]
|
أراد الدراهم
والصيارف ، والذي يدلّ على أن أصل نعم نعم أنه يجوز فيها أربع لغات : نعم ـ بفتح
النون وكسر العين ـ على الأصل ، ونعم ـ بفتح النون وسكون العين ـ ونعم ـ بكسر
النون والعين ـ ونعم ـ بكسر النون وسكون العين.
فمن قال نعم ـ بفتح
النون وكسر العين ـ أتى بها على الأصل كقراءة ابن
عامر وحمزة والكسائي والأعمش وخلف (فَنَعِمّا) ـ بفتح النون وكسر العين ـ وكما
قال طرفة :
[٧٢] ما
أقلّت قدم ناعلها
|
|
نعم السّاعون
في الأمر المبرّ
|
______________________________________________________
[٧٢] هذا البيت
من كلام طرفة بن العبد البكري (د ٧٣) وقد أنشده الرضي في شرح الكافية (٢ / ٢٩٠)
وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ١٠١) وابن منظور في اللسان (ن ع م) وقد اختلفت
الرواية في صدر هذا البيت اختلافا كثيرا ؛ فيروى :
* ما أقلت قدم ناعلها*
وهي رواية
المؤلف هنا ، ويروى :
* ما أقلت قدماي إنهم*
وهي رواية ابن
منظور ، ويروى :
* ما أقلت قدمي إنهم*
وعلى الروايتين
الأخيرتين يكون مفعول أقلت محذوفا ، والتقدير ، ما أقلتني قدماي ، أو ما أقلتني
قدمي ، و «ما» مصدرية ظرفية ، وأقلت : معناه حملت أو رفعت ، والقدم ـ بالتحريك ـ الرجل
، والناعل : لابس النعل ، وجملة «إنهم نعم الساعون ـ الخ» للتعليل ، والساعون : جمع
ساع ، والأمر المبر : الذي يعجز الناس عن دفعه ؛ لأنه يفوق طاقتهم ويزيد على قدر
ما يحتملونه ، ويروى :
* نعم الساعون في القوم الشطر*
والشطر ـ بضم
الشين والطاء جميعا ـ جمع شطير ، ويراد به هنا الغرباء ، وأصل الشطير الناحية ،
وسمي الغريب به لأن كل من بعد عن أهله يأخذ في ناحية من نواحي الأرض ، والاستشهاد
به في قوله «نعم الساعون» حيث استعمل هذا الفعل على ما هو الأصل فيه بفتح النون
وكسر العين ، على مثال علم وفهم وضحك ، وإنما قالوا فيه «نعم» بكسر النون وسكون
العين للتخفيف ، وذلك أن حرف الحلق في ذاته ثقيل ، والكسرة ثقيلة أيضا ، ولهذا يفر
العرب في كل كلمة ثلاثية مفتوحة الأول مكسورة الثاني إذا كان الحرف الثاني من حروف
الحلق ـ وهي الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء ـ إلى تغيير هذه الزنة إلى
واحد من ثلاثة أوزان : الأول : أن يسكنوا الحرف المكسور ويبقوا ما عداه على حاله ،
فيقولون : نعم ، وضحك ، وفهم ، وبأس ـ بفتح أوائل هذه الأفعال وسكون ثانيها ،
والثاني : أن يسكنوا الحرف المكسور بعد أن ينقلوا كسرته إلى الحرف الأول ، فيقولون
: نعم ، وضحك ، وفهم ، وبئس ـ بكسر أوائل هذه الكلمات وسكون ثانيها ـ والثالث : أن
يبقوا الثاني مكسورا على حاله ، ويكسروا الأول إتباعا لثانية ، فيقولون : نعم ،
وضحك ، وفهم ، وبئس ـ بكسر أوائل هذه الكلمات وكسر ثانيها أيضا ، فإن قلت : فقد
ذكرت أن الكسرة ثقيلة ، وهم إنما خرجوا بهذا النوع من الكلمات عن أوزانها الأصلية
إلى أوزان أخرى غير أصلية قصدا إلى التخفيف ، وفرارا من الثقل الذي جلبه أمران :
كون ثاني الكلمة من حروف الحلق المستفلة التي يشبه النطق بها التهوع ، وكون هذا
الحرف مكسورا ، فكيف يجيئون بكسرة أخرى وهي ثقيلة فيزيدوا الكلمة ثقلا؟ فالجواب عن
هذا أن من أسباب
ومن قال نعم ـ بفتح
النون وسكون العين ـ حذف كسرة العين ، كقراءة يحيى بن وثّاب (فَنَعْمَ عقبى الدار)
بفتح النون وسكون العين ، وكما قال الشاعر :
[٧٣] فإن
أهجه يضجر كما ضجر بازل
|
|
من الأدم
دبرت صفحتاه وغاربه
|
أراد «ضجر ،
ودبرت» فحذف ، وقال الآخر :
[٧٤] إذا
هدرت شقاشقه ونشبت
|
|
له الأظفار
ترك له المدار
|
______________________________________________________
الثقل الخروج
من الشيء إلى ما يخالفه ؛ ففي «نعم» بكسر النون والعين جميعا نوع من الثقل ونوع من
التخفيف ، أما الثقل فناجم عن الكسر ، وأما التخفيف فمنشؤه أن اللسان حين ينطق
بالنون مكسورة ثم يأتي بالعين مكسورة أيضا قد خرج من شيء إلى ما يشبهه ويوائمه
فليس بحاجة إلى تغيير ضغطه وحركته ، أما حين ينتقل من النون المفتوحة إلى العين
المكسورة فإنه ينتقل من الشيء إلى ما يغايره ويخالفه فهو مضطر إلى أن يغير ضغطه
وحركته ؛ فلهذا كان نعم بكسر أوله وثانيه أخف من نعم بفتح أوله وكسر ثانيه ، فاعرف
ذلك وتنبه له والله يرشدك.
[٧٣] هذا البيت
للأخطل التغلبي ، من قصيدة يهجو فيها كعب بن جعيل ، وقد أنشده صاحب اللسان (ض ج ر)
وصاحب الكشاف في تفسير سورة النساء (١ / ١٨٣ بولاق) وضجر ـ بوزن علم في الأصل ،
وخفف هنا بإسكان ثانيه ـ أي قلق وتبرم وضاقت نفسه ، والبازل : من الجمال الذي
انشقت نابه وذلك إذا بلغ سنه التاسعة ، والأدم : جمع آدم أو أدماء ، والآدم :
الأسمر اللون ، ودبرت : أصله بوزن فرح ، وخفف هنا بإسكان ثانيه ، ومعناه جربت ،
والدبر والجرب واحد في الوزن وفي المعنى ، وصفحتاه : جانباه ، وغاربه : أعلاه ،
والاستشهاد به في قوله «ضجر» وقوله «دبرت» فإن أصل كل واحد من هذين الفعلين مفتوح
الأول مكسور الثاني ، وقد خففه الشاعر بإسكان ثانيه ؛ لأن الكسرة كما قلنا ثقيلة
وهم يطلبون التخفيف ما أمكن ، ولهذا لو كان ثاني الكلمة الثلاثية مفتوحا مثل كتب
وضرب ونصر لم يلجأوا إلى تخفيفها بإسكان ثانيها ؛ لأن الفتحة في نفسها خفيفة وأول
الفعل مفتوح فالخفة حاصلة ، فلا يرون أن بهم حاجة إلى تغير زنة الكلمة.
[٧٤] لم أقف
لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، وهدرت : أصله قولهم «هدر البعير» إذا ردد
صوته في حنجرته ، والشقاشق : جمع شقشقة ـ بكسر الشينين جميعا ـ وأصله شيء كالرئة
يخرجه البعير من فيه إذا هاج ، ويقولون للفصيح البليغ الذي يخطب فيجيد : هدرت
شقشقته ، هدرت شقاشقه ، وخطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خطبة مشتملة على كثير
من الحكم ، فقال له ابن عباس : لو اضطردت خطبتك من حيث أفضيت ، فقال له : هيهات ،
تلك شقشقة هدرت ثم قرت ، وسموا هذه الخطبة «الشقشقية» بسبب هذه العبارة ، وقالوا «فلان
شقشقة قومه» يريدون أنه شريفهم وفصيحهم ، ونشبت : أصله بفتح النون وكسر الشين ـ ومعناه
علقت ، وقد خففه ههنا بإسكان شينه ، والمدار : أراد مدار الأمر ، وهو ما يجري عليه
غالبا. والاستشهاد بالبيت في قوله «ونشبت» وقوله «ترك» فإن أصل الفعل الأول مكسور
الشين مبنيا للمعلوم فسكن الشاعر شينه قصدا إلى التخفيف ، وأصل الفعل الثاني «ترك»
بضم أوله وكسر ثانيه مبنيا للمجهول ، فسكن الراء للتخفيف أيضا.
أراد «نشبت ،
وترك» ، وقال الآخر وهو أبو النجم :
[٧٥] * هيّجها نضح من الطّلّ سحر*
[٥٧]وهزّت الرّيح النّدى حين قطر
|
|
لو عصر منها
البان والمسك انعصر
|
أراد «عصر»
وقال الآخر :
[٧٦]* رجم به الشّيطان من هوائه*
أراد «رجم»
وقال الآخر :
[٧٧]* ونفخوا في مدائنهم فطاروا*
أراد «ونفخوا».
ومن قال نعم ـ بكسر
النون والعين ـ كسر النون إتباعا لكسرة العين ، كقراءة زيد بن علي والحسن البصري
ورؤبة الحمدِ لله بكسر الدّال إتباعا لكسرة اللام ، وكقراءة إبراهيم بن أبي عبلة
الحمد لُله بضم اللام إتباعا لضمة الدّال ، وكقولهم «منتن» بكسر الميم إتباعا
لكسرة التاء ، وكقولهم أيضا «منتن» بضم التاء إتباعا لضمة الميم.
______________________________________________________
[٧٥] هذه ثلاثة
أبيات من الرجز المشطور قائلها أبو النجم العجلي كما قال المؤلف وقد أنشد ثالثها ـ
وفيه محل الاستشهاد ـ ابن منظور (ع ص ر) ونسبه إلى أبي النجم ، والنضح ـ بالفتح ـ أصله
رشاش الماء ، والطل : المطر الضعيف ، والندى ـ بفتح النون مقصورا ـ المطر ، والبان
: شجر سبط القوام لين الورق يشبه به قدود الحسان ، له زهرة طيبة الريح ، والمسك
معروف ، والاستشهاد بالبيت في قوله «عصر» فإن أصله بضم العين وكسر الصاد ، ولكن
الشاعر خففه بإسكان الصاد.
[٧٦] لم أقف
لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، ورجم : فعل ماض مبني للمجهول ، وأصله بضم
الراء وكسر الجيم ، ولكن الشاعر خففه بتسكين الجيم ، على نحو ما ذكرنا في شرح
الشواهد السابقة ، ومعنى الرجم الرمي بالحجارة ، وكانوا في جاهليتهم إذا أرادوا أن
يقتلوا رجلا رموه بالحجارة حتى يقتلوه ، ثم قيل لكل قتل رجم ، وقد ورد في القرآن
الكريم الرجم بمعنى القتل في مواضع كثيرة ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله «رجم»
وقد بيّنا وجهه.
[٧٧] هذا عجز
بيت من كلام القطامي ، وصدره قوله :
* ألم يخز التفرق جند كسرى*
وقد أنشده ابن
منظور (ن ف خ) ونسبه للقطامي ، والمدائن : جمع مدينة ، ومحل الاستشهاد في هذا
البيت قوله «ونفخوا» فإن أصله فعل ماض مبني للمجهول بضم النون وكسر الفاء ، ولكن
الشاعر خففه بإسكان الفاء.
ومن قال نعم ـ بكسر
النون وسكون العين ـ نقل كسرة العين من نعم ـ بفتح النون وكسر العين ـ إلى النون ،
وعليها أكثر القراء ؛ فلما جاز فيها هذه الأربع اللغات دلّ على أن أصلها نعم على
وزن فعل ؛ لأن كل ما كان على وزن فعل من الاسم والفعل وعينه حرف من حروف الحلق
فإنه يجوز فيه أربع لغات ، فالاسم نحو : فخذ وفخذ وفخذ وفخذ ، والفعل نحو : قد شهد
وشهد وشهد وشهد ، على ما بيّنا في نعم ، وإذا ثبت أن الأصل في نعم نعم كانت الياء
في «نعيم الرجل» إشباعا ؛ فلا يكون فيه دليل على الاسمية ؛ فدلّ على أنهما فعلان
لا اسمان ، والله أعلم.
١٥
مسألة
[القول في «أفعل» في التعجب ، اسم هو أو فعل؟]
ذهب الكوفيون
إلى أن أفعل في التعجب نحو «ما أحسن زيدا» اسم. وذهب البصريون إلى أنه فعل ماض ،
وإليه ذهب أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي من الكوفيين.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه اسم أنه جامد لا يتصرف ، ولو كان فعلا لوجب أن
يتصرف ؛ لأن التصرف من خصائص الأفعال ، فلما لم يتصرف وكان جامدا وجب أن يلحق
بالأسماء.
[٥٨] ومنهم من
تمسّك بأن قال : الدليل على أنه اسم أنه يدخله التصغير ، والتصغير من خصائص
الأسماء ، قال الشاعر :
[٧٨] ياما
أميلح غزلانا شدنّ لنا
|
|
من
هاؤليّائكنّ الضّال والسّمر
|
______________________________________________________
[٧٨] استشهد
بهذا البيت كثير من النحاة وأهل اللغة منهم ابن منظور (م ل ح) وابن يعيش (ص ١٠٤٢)
والأشموني (رقم ٧٣٥) وابن هشام في المغني (رقم ٩٣٧) والرضي ، وشرحه البغدادي في
الخزانة (١ / ٤٥ و ٤ / ٩٥) ، وقد عثرت به ثاني ثلاثة أبيات في دمية القصر للباخرزي
(ص ٢٩ ط حلب) وقد نسبها إلى بدوي اسمه كاهل الثقفي. والغزلان : جمع غزال ، وأصله
ولد الظبية ، ويشبه العرب به حسان النساء ، وشدن : أصله قولهم «شدن الظبي يشدن
شدونا ـ من باب قعد» إذا قوي وترعرع واستغنى عن أمه ، وهؤلياء : تصغير هؤلاء على
غير قياس ، والضال : السدر البري ، واحدته ضالة ، والسمر ـ بفتح السين وضم الميم ـ
شجر الطلح ، واحدته سمرة ، والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله «أميلح» فإنه تصغير
أملح ، وأصل التصغير من خصائص الأسماء ، ولهذا قال الكوفيون إن صيغة أفعل في
التعجب اسم بدليل ـ
__________________
فأميلح : تصغير
أملح ، وقد جاء ذلك كثيرا في الشعر وسعة الكلام.
قالوا : ولا
يجوز أن يقال «إن فعل التعجب لزم طريقة واحدة ، وضارع الاسم ، فلحقه التصغير» لأنا
نقول : هذا ينتقض بليس وعسى فإنهما لزما طريقة واحدة ، ومع هذا لا يجوز تصغيرهما ،
وأبلغ من هذا النقض وأوكد مثال «أفعل به» في التعجب فإنه فعل لزم طريقة واحدة ،
ومع هذا فإنه لا يجوز تصغيره.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : الدليل على أنه اسم أنه تصحّ عينه نحو «ما أقومه ، ولا أبيعه» كما تصح
العين في الاسم في نحو «هذا أقوم منك ، وأبيع منك» ولو أنه فعل كما زعمتم لوجب أن
تعلّ عينه بقلبها ألفا ، كما قلبت من الفعل في نحو : قام وباع وأقام وأباع في
قولهم «أبعت الشيء» إذا عرّضته للبيع ، وإذا كان قد أجري مجرى الأسماء في التصحيح
مع ما دخله من الجمود والتصغير وجب أن يكون اسما.
والذي يدلّ على
أنه ليس بفعل وأنه ليس التقدير فيه : شيء أحسن زيدا قولهم «ما أعظم الله» ولو كان
التقدير فيه ما زعمتم لوجب أن يكون التقدير : شيء أعظم الله ، والله تعالى عظيم لا
بجعل جاعل ، وقال الشاعر :
[٧٩] ما أقدر
الله أن يدني على شحط
|
|
من داره
الحزن ممّن داره صول
|
______________________________________________________
مجيئها مصغرة
في هذا البيت ، والبصريون لا يرتضون ذلك ، ويقولون إن تصغير «أملح» في هذا البيت
شاذ ، ألا ترى هذا الشاعر قد صغر هؤلاء في نفس البيت مع أننا متفقون على أن
التصغير من خصائص الأسماء المعربة ؛ فهذا وجه ، ومنهم من يسلك في الرد مسلكا آخر ،
فيقول : إن صيغة التعجب لما أشبهت صيغة التفضيل في الوزن وكان فعل التعجب ـ مع ذلك
ـ جامدا أعطوا فعل التعجب حكم اسم التفضيل ؛ فأجازوا تصغيره ، وقد ذكر ذلك ابن
منظور في اللسان وابن هشام في المغني ـ قال ابن هشام في المغني ، «الثالث ـ مما
أعطي حكم الشيء لمشابهته له لفظا ومعنى ـ نحو اسم التفضيل وأفعل في التعجب ؛ فإنهم
منعوا التفضيل أن يرفع الظاهر لشبهه بأفعل في التعجب وزنا وأصلا وإفادة للمبالغة ،
وأجازوا تصغير أفعل في التعجب لشبهه بأفعل التفضيل فيما ذكرنا ، وقال :
* يا ما أميلح غزلانا ...*
ولم يسمع ذلك
إلا في أحسن وأملح ، ذكره الجوهري ، ولكن النحويين مع هذا قاسوه» اه.
[٧٩] هذا البيت
من كلمة لحندج بن حندج المري يصف فيها طول ليله وما يقاسيه من فرقة أحبابه ، وهي
من شعر حماسة أبي تمام (انظر شرح المرزقي ص ١٨٢٨) ، والبيت من شواهد الأشموني (رقم
٤١) والشحط ـ بفتح السين والحاء جميعا ـ هو البعد ، و «الحزن» بفتح الحاء وسكون
الزاي ـ موضع بعينه ، وفي بلاد العرب موضعان بهذا الاسم : أحدهما : حزن بني يربوع
، والثاني : ما بين زبالة فما فوق ذلك مصعدا في بلاد نجد ، وصول :
ولو كان الأمر
كما زعمتم لوجب أن يكون التقدير فيه : شيء أقدر الله ، والله تعالى قادر لا بجعل
جاعل.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدّليل على أنه فعل أنه إذا وصل بياء الضمير دخلت عليه نون
الوقاية ، نحو «ما أحسنني عندك ، وما أظرفني في عينك ، وما أعلمني في ظنك» ونون
الوقاية إنما تدخل على الفعل لا على الاسم ، ألا ترى أنك تقول في الفعل «أرشدني ،
وأسعدني ، وأبعدني» ولا تقول في الاسم «مرشدني» ولا «مسعدني» فأما قوله :
[٨٠] * وليس حاملني إلّا ابن حمّال*
______________________________________________________
مدينة من بلاد
الخزر في نواحي باب الأبواب ، والاستشهاد به هنا في قوله «ما أقدر الله» فإن بعض
الكوفيين زعم أن مثل هذه العبارة تدل على أن أفعل في التعجب ليس فعلا ؛ إذ لو كان
فعلا لكان فيه ضمير مستتر يكون هو فاعله ، ويكون لفظ الجلالة منصوبا بهذا الفعل ،
فيكون المعنى : شيء أقدر (هو ، أي ذلك الشيء) الله تعالى ، أي جعله قادرا وقد قام الدليل
العقلي والنقلي على أن الله تعالى قادر من غير جعل جاعل ؛ فيكون هذا المعنى باطلا
، وإنما أدى إلى هذا المعنى الباطل ذهابكم إلى أن أفعل في باب التعجب فعل ، فوجب
ألا نصير إليه.
[٨٠] هذا عجز
بيت من البسيط ، وصدره قوله :
* ألا فتى من بني ذبيان يحملني*
وقد استشهد
بهذا البيت رضي الدين في شرح الكافية ، في باب الإضافة ، وفي باب المضمرات ، وشرحه
البغدادي في خزانة الأدب (٢ / ١٨٥ بولاق) وأنشده أبو العباس المبرد في الكامل ثالث
خمسة أبيات ، وقال قبل إنشادها «أنشدنا أبو محلم السعدي». و «ألا» في أول البيت
حرف دال على العرض ، و «فتى» منصوب بفعل محذوف ، والتقدير : ألا ترونني فتى ، و «بني
ذبيان» أراد بني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر ، و «يحملني»
أراد يعطيني دابة تحملني إلى المكان الذي أقصده ، و «حمال» صيغة مبالغة لحامل.
ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله : «حاملني» حيث لحقت نون الوقاية الاسم عند إضافته
إلى ياء المتكلم ، وذلك شاذ ، والقياس أن يقترن الاسم بياء المتكلم من غير توسط
النون بينهما ، سواء أكان هذا الاسم جامدا نحو : غلامي وكتابي وداري ، أم كان
مشتقا نحو : حاملي وضاربي ومكتوبي ومضروبي وما أشبه ذلك ؛ لأن النون إنما توسطت
بين الفعل وياء المتكلم لأن ياء المتكلم تستوجب كسر ما قبلها ، ولما كان الفعل لا
يدخله الجر ، وكان الكسر أخا الجر ؛ تحاموا أن يقرنوا الفعل بياء المتكلم ؛ لئلا
ينكسر آخره فيدخلوا عليه ما ليس منه في شيء ، لكن الجر يدخل على الأسماء بغير نكير
، فلم يجدوا أنفسهم محتاجين إلى نون الوقاية معه حين يضيفونه إلى ياء المتكلم ،
هذا ، والرواية عند أبي العباس المبرد «وليس يحملني ...» وعلى ذلك يكون البيت
مستقيما لا شذوذ فيه ؛ لأن نون الوقاية حينئذ متوسطة بين الفعل والياء كما هو
الأصل.
فمن الشّاذ الذي
لا يلتفت إليه ولا يقاس عليه ، وإنما دخلت هذه النون على [٥٩] الفعل لتقي آخره من
الكسر ؛ لأن ياء المتكلم لا يكون ما قبلها إلا مكسورا ، وإذا كانوا قد منعوه من
كسرة الإعراب لثقلها وهي غير لازمة فلأن يمنعوه من كسرة البناء وهي لازمة كان ذلك
من طريق الأولى ، فلما منعوه من الكسر أدخلوا هذه النون لتكون الكسرة عليها ؛ فلو
لم يكن أفعل في التعجب فعلا وإلا لما دخلت عليه نون الوقاية كدخولها على سائر
الأفعال.
اعترضوا على
هذا بأن قالوا : نون الوقاية قد دخلت على الاسم في نحو «قدني وقطني» أي حسبي ، قال
الشاعر :
[٨١] امتلأ
الحوض وقال : قطني
|
|
مهلا ، رويدا
، قد ملأت بطني
|
ولا يدلّ ذلك
على الفعلية ، فكذلك هاهنا.
وما اعترضوا
فيه ليس بصحيح ؛ لأن «قدني ، وقطني» من الشّاذ الذي لا يعرج عليه ؛ فهو في الشذوذ
بمنزلة مني وعني ، وإنما حسن دخول هذه النون على قد وقط لأنك تقول «قدك من كذا ،
وقطك من كذا» أي اكتف به ، فتأمر بهما كما تأمر بالفعل ؛ فلذلك حسن دخول هذه النون
عليهما ، على أنهم قالوا «قطي وقدي» من غير نون كما قالوا «قطني وقدني» بالنون ،
قال الشاعر :
[٨٢] قدني من
نصر الخبيبين قدي
|
|
ليس الإمام
بالشّحيح الملحد
|
______________________________________________________
[٨١] هذان
بيتان من الرجز المشطور ، ولم أجد أحدا نسبهما إلى قائل معين ، وقد استشهد به ابن
منظور وشارح القاموس (ق ط ط) ، ومن النحاة : الأشموني (رقم ٦٣) وابن الناظم ، وابن
يعيش (ص ٣١٨ و ٤٤٣). وقوله «امتلأ الحوض وقال» أطلق القول ههنا على ما يشهد به
الحال وتدل عليه الطبيعة ، و «قطني» هو اسم بمعنى حسب ، أو اسم فعل بمعنى يكفي ، و
«مهلا» هو مصدر نائب عن الفعل ، تقول : مهلا يا رجل ، ومهلا يا رجلان ، ومهلا يا
رجال ، وتقول في التأنيث كذلك ، بلفظ واحد ، والمراد أمهل وتريث ولا تعجل و «رويدا»
يأتي على واحد من أربعة أوجه : الأول : أن يكون اسم فعل بمعنى أرود ، أي أمهل ،
والثاني : أن يكون مصدرا نائبا عن فعله كالذي قلناه في مهلا ، والثالث : أن يقع
صفة كما تقول : ساروا سيرا رويدا ، والرابع : أن يقع حالا كما تقول : ساروا رويدا
بحذف المصدر الذي نصبته على المفعولية المطلقة في الاستعمال الثالث. ومحل
الاستشهاد بالبيت ههنا قوله «قطني» حيث وصل نون الوقاية بقط عند ما أراد أن يضيفه
إلى ياء المتكلم وليس «قط» فعلا ؛ فيدل ذلك على أن نون الوقاية قد تلحق بعض
الأسماء لغرض من الأغراض ، والغرض ههنا المحافظة على سكون «قط» حتى لا يذهب ما بني
عليه اللفظ وهو السكون ، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن لحاق نون الوقاية لكلمة من
الكلمات دالا على أن هذه الكلمة فعل ، وهذا ظاهر إن شاء الله.
[٨٢] هذان
بيتان من الرجز المشطور ، وقد رواهما الجوهري في الصحاح (ل ح د) ونسبهما
ولا خلاف أنه
لا يجوز أن يقال «ما أكرمي» بحذف النون كما يقال «ما أكرمني» كما يقال «قدني ،
وقدي» فلما لم يجز ذلك بان الفرق بينهما.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : الدليل على أن أفعل في التعجب فعل أنه ينصب المعارف والنكرات ، وأفعل
إذا كان اسما لا ينصب إلا النكرات خاصة على التمييز ، نحو قولك «زيد أكبر منك سنا
، وأكثر منك علما» ولو قلت «زيد أكبر منك السنّ ، أو أكثر منك العلم» لم يجز ،
ولما جاز أن يقال «ما أكبر السن له ، وما أكثر العلم له» دل على أنه فعل.
اعترضوا على
هذا بأن قالوا : قد ادعيتم أن أفعل إذا كان اسما لا ينصب إلا
______________________________________________________
لحميد بن ثور
الهلالي ، وقال ابن منظور (ل ح د) بعد أن رواهما عن الجوهري : «قال ابن بري :
البيت المذكور لحميد بن ثور هو لحميد الأرقط ، وليس هو لحميد بن ثور كما زعم
الجوهري» اه. ورواهما ابن منظور (خ ب ب ـ ق د د) منسوبين لحميد الأرقط ، وأنشدهما
ابن يعيش في شرح المفصل (ص ٤٤٢) ونسبهما لأبي بحدلة ، وهما من شواهد سيبويه (١ /
٣٨٧) وشواهد رضي الدين في شرح الكافية ، والأشموني (رقم ٦٢) وقد قال البغدادي في
خزانة الأدب (٢ / ٤٥٣) : «قال ابن المستوفي : ولم أر البيت الأول في ديوانه (يريد
ديوان حميد الأرقط) وكذلك أورد الأبيات القالي في أماليه ، ولم يورد بيت :
* قدني من نصر الخبيبين قدي*»
اه. المقصود من
كلام البغدادي ، وقد : تأتي اسما بمعنى حسب ، وتأتي اسم فعل بمعنى يكفي ، مثل قط
في الوجهين ، و «الخبيبين» يروى بصورة المثنى وبصورة جمع المذكر السالم ، فأما
روايته بصورة المثنى فقيل : عنى عبد الله بن الزبير بن العوام الذي كان قد خرج على
دولة مروان بن الحكم وتملك الحجازين وابنه خبيب بن عبد الله بن الزبير ، وقيل :
عنى عبد الله وأخاه مصعب بن الزبير ، وأما روايته بصورة جمع المذكر السالم فالمعنى
به عبد الله وشيعته كلهم ، وقوله :
* ليس الإمام بالشحيح الملحد*
يروى في مكانه
:
* ليس أميري بالشحيح الملحد*
والشحيح :
البخيل ، وكان عبد الله بن الزبير متهما بالبخل ، والملحد : مأخوذ من قولهم : «ألحد
فلان في الحرم» إذا استحل حرمته وانتهكها. والاستشهاد بالبيت في قوله «قدني» وقوله
: «قدي» فقد وصل الشاعر «قد» بنون الوقاية في المرة الأولى عند ما أضاف الكلمة إلى
ياء المتكلم ، ولم يأت بهذه النون في المرة الثانية ، وهذا يدل على أن الوجهين
جائزان في هذه الكلمة ، أما اقترانها بالنون فلقصد المحافظة على ما بنيت عليه
الكلمة وهو السكون ، وأما حذف النون فلكون الكلمة اسما ، وفي هذا الكلام مقال لنا
ذكرناه في شرحنا المطول على شرح أبي الحسن الأشموني (١ / ١١٢ وما بعدها) فارجع
إليه هناك.
النكرة ، وقد وجدنا العرب قد أعملته في المعرفة ، قال الحارث بن ظالم :
[٨٣] فما
قومي بثعلبة بن بكر
|
|
ولا بفزارة
الشّعر الرّقابا
|
[٦٠] فنصب الرّقاب بالشّعر ، وهو
جمع أشعر ، ولا خلاف أن الجمع في باب العمل أضعف من واحده ؛ لأن الجمع يباعده عن
مشابهة الفعل ؛ لأن الفعل لا يجمع ، وإذا بعد عن مشابهة الفعل بعد عن العمل ، وإذا
عمل جمع أفعل مع بعده عن العمل ؛ فالواحد أولى أن يعمل ، وقال الآخر :
[٨٤] ونأخذ
بعده بذناب عيش
|
|
أجبّ الظّهر
ليس له سنام
|
______________________________________________________
[٨٣] هذا البيت
من قصيدة للحارث بن ظالم المري ، وكان قد فتك بخالد بن جعفر بن كلاب وهو في جوار
النعمان بن المنذر ثم هرب يستجير القبائل ، والبيت من شواهد سيبويه (١ / ١٠٣) وابن
يعيش (ص ٨٤٣) والأشموني (رقم ٧٢٩) وقوله «بثعلبة بن بكر» المحفوظ «بثعلبة بن سعد»
وكذلك هو في رواية سيبويه وابن يعيش ، وكذلك هو في نسب ثعلبة ؛ فإنه ثعلبة بن سعد
بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ، وفزارة هو فزارة بن ذبيان أخو سعد بن ذبيان
أبي ثعلبة ، والشاعر في هذا البيت ينتفي من بني سعد بن ذبيان ، والشعر ـ بضم الشين
وسكون العين ـ جمع أشعر ، والأشعر : الكثير الشعر ، والرقاب : جمع رقبة ، والعرب
ترى من علامات الغباء أن يكون الرجل كثير شعر القفا ، ويسمون ذلك الغمم ، وقال في
ذلك شاعرهم :
ولا تنكحي إن
فرق الدهر بيننا
|
|
أغم القفا
والوجه ليس بأنزعا
|
ومحل الاستشهاد
بالبيت قوله «الشعر الرقابا» حيث نصب قوله «الرقابا» بقوله «الشعر» والشعر جمع
أشعر وهو هنا صفة مشبهة ، واتفق الفريقان الكوفيون والبصريون على أنه يجوز أن يكون
انتصابه على التشبيه بالمفعول به ، وزاد الكوفيون أنه يجوز أيضا أن يكون انتصابه
على التمييز ، وذلك لأن الكوفيين يجوزون أن يجيء التمييز معرفة ، فأما علماء
البصرة فلكونهم يوجبون كون التمييز نكرة لم يجيزوا انتصاب «الرقاب» في هذا البيت
على التمييز ، فاعرف هذا ، ويروى في هذه العبارة «الشعرى رقابا» بتجريد المعمول من
أل ، والبصريون لا يرون بأسا في نصبه حينئذ على التمييز ، وقد روى سيبويه البيت بالروايتين
جميعا.
[٨٤] هذا البيت
من كلام النابغة الذبياني ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٠٠) وابن يعيش (ص ٨٤١)
والأشموني (رقم ٧٢٢) والرضي ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٩٥) وقبل بيت الشاهد
قوله :
فإن يهلك أبو
قابوس يهلك
|
|
ربيع الناس والبلد
الحرام
|
وقوله «ربيع
الناس» شبه الملك النعمان بالربيع الذي تترادف فيه الخيرات لكثرة عطائه ووفرة بره
، و «البلد الحرام» شبهه أيضا بالبلد الحرام لأن رحابه موضع الأمن من كل مخافة وفي
كنفه يلجأ اللاجئون فلا تجسر يد على أن تمتد إليهم بسوء ، وقوله «بذناب
فنصب الظّهر
بأجبّ ، وقال الآخر :
[٨٥] ولقد
أغتدي وما صقع
|
|
الدّيك على
أدهم أجشّ الصّهيلا
|
فنصب الصّهيل
بأجشّ ، فبطل ما ادّعيتموه.
وما اعترضوا به
ليس بصحيح : أما بيت الحارث بن ظالم :
* ولا بفزارة الشّعر الرّقابا* [٨٣]
______________________________________________________
عيش» ذناب كل
شيء ـ بكسر الذال المعجمة ـ عقبة وما يأتي في أواخره ، و «أجب الظهر» مقطوع الظهر
كأنه جمل قد قطع سنامه ، ويقال : بعير أجب ، وناقة جباء ؛ إذا كان قد قطع سنامهما.
والاستشهاد بالبيت في قوله «أجبّ الظهر» وهذه العبارة تروى على ثلاثة أوجه : برفع
الظهر ، وتخريج هذه الرواية أن تجعل الظهر فاعلا لأجبّ ، وبنصب الظهر ، وتخريج هذه
الرواية أن تجعل فاعل الصفة التي هي أجبّ ضميرا مستترا وتنصب الظهر على أنه مشبه
بالمفعول به ، وهذه الرواية هي محل الخلاف بين الكوفيين والبصريين ، ويجرّ الظهر ،
وتخريج هذه الرواية أن يكون أجب مضافا والظهر مضافا إليه. والوجه الأول : قبيح ،
والثاني : ضعيف ، والثالث : حسن.
[٨٥] لم أعثر
على نسبة هذا البيت إلى قائل معين ، وقوله «أغتدي» معناه أخرج في وقت الغداة ،
والغداة ـ بفتح الغين ـ ما بين انبثاق الفجر وطلوع الشمس ، ويقال «غدية» بوزن قضية
، و «غدوة» بضم فسكون ، وربما قيل «غدية» بضم الغين وفتح الدال ، وهو تصغير الغدوة
أو الغداة ، ومراد الشاعر أنه يخرج من داره مبكرا ، وقوله «وما صقع الديك» معناه
صاح ، وهذا تأكيد لما استفيد من معنى «أغتدي» وقوله «على أدهم» أراد على فرس أدهم
، وهو الذي لونه الدهمة ، والدهمة ـ بضم الدال وسكون الهاء ـ لون قريب من الأسود ،
و «أجش» الغليظ الصوت من الإنسان والخيل ، وقال النجاشي :
ونجى ابن حرب
سابح ذو علالة
|
|
أجش هزيم ،
والرماح دواني
|
ومحل الاستشهاد
بالبيت قوله «أجش الصهيلا» حيث نصب الصهيل بقوله أجش ، وأجش هذا صفة مشبهة ،
ومعمولها مقترن بالألف واللام ، وبه استدل الكوفيون على أنه يجوز أن ينتصب بعد «أفعل»
كل من المعرفة والنكرة ، وقد سوى المؤلف في التمثيل والاستشهاد بين أفعل الذي هو
اسم تفضيل وأفعل الذي هو صفة مشبهة ؛ فهو يمثل أولا بقوله «زيد أكبر منك سنا ،
وأكثر منك علما» ثم يستشهد بأجب الظهر ، والشعر الرقابا ، وأجش الصهيلا ، ثم يلزم
الكوفيين الحجة بأن المنصوب في هذه الشواهد منصوب على التشبيه بالمفعول به ، لا
على التمييز ، وكأنه ينكر أن يكون التمييز مقترنا بأل ، وقد ورد التمييز مقترنا
بأل من غير أن يكون العامل أفعل التفضيل ولا أفعل الصفة المشبهة ، وذلك في قول
الشاعر :
رأيتك لما أن
عرفت وجوهنا
|
|
صددت وطبت
النفس يا قيس عن عمرو
|
ولكن البصريين
لم يرقهم أن يجيء هذا البيت ونحوه على غير ما أصلوا من القواعد ، فذهبوا إلى أن «ال»
في «طبت النفس» زائدة ، وليست معرفة ؛ فيكون على ما ذهبوا إليه مدخول أل نكرة
كالمجرد منها ، وهذا هو المسلك الذي سلكوه في هذه الشواهد.
فقد روي «الشّعرى
رقابا» حكى ذلك سيبويه عن أبي الخطاب عن بعض العرب أنهم ينشدون البيت كذلك ، على
أنا وإن لم ننكر صحة ما رويتموه ، فلا حجة لكم فيه ؛ لأنه من باب «الحسن الوجه ،
والحسان الوجوه» وقد قالوا «الحسن الوجه» بنصب الوجه تشبيها بالضارب الرجل ، كما
قالوا «الضارب الرجل» بالجر تشبيها ب «الحسن الوجه» وقد ذهب بعض البصريين إلى
زيادة الألف واللام فيه ، فلما كان في تقدير التنكير جاز نصبه على التمييز ، فبان
أن ما عارضتم به ليس بشيء.
وأما قول
النابغة :
* أجبّ الظّهر ليس له سنام* [٨٤]
بفتحهما قد روي
«أجبّ الظّهر» بجرهما ، وروي «أجبّ الظّهر» برفع الظهر لأنه فاعل والتقدير فيه
عندنا : أجبّ الظهر منه ، وعندكم الألف واللام قامتا مقام الضمير العائد ؛ فلا حجة
لكم في هذا البيت ، والجرّ فيهما هو القياس ، وإن صحت رواية النصب ؛ فيكون على
التشبيه بالمفعول على ما بيّنا في البيت الأول ، لا على تقدير زيادة الألف واللام
ونصبه على التمييز على ما ذهبتم إليه ، ولئن سلمنا على قول بعض البصريين ، وهو
الجواب عن جميع ما احتججتم به ؛ لأنكم إذا قدرتم أن الألف واللام فيه زائدة فهو عندكم
نكرة ، فإذن ما عمل [٦١] في معرفة ، وإنما عمل في نكرة ، والخلاف ما وقع في أنّ «أفعل»
تعمل في النكرة ، وإنما وقع الخلاف في أنها تعمل في المعرفة.
وأما قول الآخر
:
* على أدهم أجشّ الصّهيلا* [٨٥]
فالوجه جرّ «الصهيلا»
إلا أنه نصبه على التشبيه بالمفعول ، أو على زيادة الألف واللام على ما قدّمنا.
ثم لو سلمنا
لكم صحة ما ادّعيتموه في هذه الأبيات ، وأجريناها في ذلك مجرى «ما أحسن الرجل» فهل
يمكنكم أن توجدونا أفعل وصفا نصب اسما مضمرا أو علما أو اسما من أسماء الإشارة؟
وإذا لم يمكن ذلك ووجدنا أفعل في التعجب تعمل في جميع أنواع المعارف النّصب دلّ
على بطلان ما ذهبتم إليه من دعوى الإسمية.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : الدّليل على أنه فعل ماض أنّا وجدناه مفتوح الآخر ، ولو لا أنه فعل ماض
لم يكن لبنائه على الفتح وجه ؛ لأنه لو كان اسما لارتفع لكونه خبرا ل «ما» على كلا
المذهبين ، فلما لزم الفتح آخره دل على أنه فعل ماض.
اعترضوا على
هذا من وجهين ؛ أحدهما : أنهم قالوا : ما احتججتم به من فتح آخره ليس فيه حجة ؛
لأن التعجب أصله الاستفهام ، ففتحوا آخر أفعل في التعجب ونصبوا زيدا فرقا بين
الاستفهام والتعجب. والثاني : أنهم قالوا : إنما فتح آخر أفعل في التعجب لأنه مبني
لتضمنه معنى حرف التعجب ؛ لأن التعجب كان يجب أن يكون له حرف كغيره من الاستفهام
والشرط والنفي والنهي والتّمني والتّرجي والتّعريف والنّداء والعطف والتّشبيه
والاستثناء ، إلى غير ذلك ، إلا أنهم لما لم ينطقوا بحرف التّعجّب وضمّنوا معناه هذا
الكلام استحقّ البناء ، ونظير هذا أسماء الإشارة ؛ فإنها بنيت لتضمنها معنى حرف
الإشارة ، وإن لم ينطق به فكذلك هاهنا.
وما اعترضوا به
ليس بصحيح : أما قولهم «إن التّعجّب أصله الاستفهام ففتحوا آخر أفعل في التعجب
للفرق بين الاستفهام والتعجب» فمجرد دعوى لا يقوم عليها دليل ، إلا بوحي وتنزيل ،
وليس ذلك سبيل ، مع أنه ظاهر الفساد والتعليل ؛ لأن التفريق بين المعاني لا توجب
إزالة الإعراب عن وجهه في موضع ما ، فكذلك هاهنا ولأن التعجب إخبار يحتمل الصدق
والكذب ، [٦٢] والاستفهام استخبار لا يحتمل الصدق والكذب ؛ فلا يصح أن يكون أصلا
له.
وأما قولهم «إنه
بني لتضمنه معنى حرف التعجب وإن لم ينطق به» ؛ فكذلك نقول : كان يجب أن يوضع له
حرف كما وضع لغيره من المعاني ، ولكن لما لم يفعلوا ذلك ضمّنوا «ما» معنى حرفه
فبنوها ، كما ضمنوا «ما» الاستفهامية معنى الهمزة ، وضمّنوا «ما» الشرطية معنى إن
التي وضعت للشرط ، وبنوهما وإن لم يكن للكلمة التي بعدهما تعلق بالبناء ؛ فكذلك ما
بعد «ما» التعجبية لا يكون له تعلق بالبناء ، فبان بذلك فساد اعتراضهم ، وأنه إنما
فتح لأنه فعل ماض على ما بيّنا.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «الدليل على أنه اسم أنه لا يتصرف» قلنا : عدم تصرفه
لا يدل على أنه اسم ؛ فإنا أجمعنا على أن «ليس ، وعسى» فعلان ، ومع هذا فإنهما لا
يتصرفان ، وإنما لم يتصرف فعل التعجب لوجهين ؛ أحدهما : أنهم لما لم يضعوا للتعجب
حرفا يدل عليه جعلوا له صيغة لا تختلف ؛ لتكون أمارة للمعنى الذي أرادوه ، وأنه
مضمن معنى ليس في أصله ، والثاني ـ وهو الصحيح ـ إنما لم يتصرف لأن المضارع يحتمل
زمانين الحال والاستقبال ، والتعجب إنما يكون مما هو موجود مشاهد ، وقد يتعجب من
الماضي ، ولا يكون التعجب مما لم يكن ، فكرهوا أن يستعملوا لفظا يحتمل الاستقبال ؛
لئلا يصير اليقين شكا ، وأما قولهم «ما أملح ما يخرج هذا الغلام ، وما أطول ما
يكون هذا» فلا يقال ذلك حتى يرى فيه مخيلة ذلك ، فدلّك ما رأيت في
وقتك على ما يكون بعد ذلك ، فكأنك قد شاهدته موجودا ، ولما كرهوا استعمال
المضارع كانوا لاستعمال اسم الفاعل أكره لأنه لا يختص زمانا بعينه ؛ فلهذا منعوه
من التصرف ، وعدم التصرف لا يدل على أنه اسم كما قلنا في «ليس ، وعسى».
وأما قولهم «إنه
يصغر ، والتصغير من خصائص الأسماء» فنقول : الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن
التصغير في هذا الفعل ليس على حد التصغير في الأسماء ؛ فإن التصغير على اختلاف
ضروبه : من التحقير كقولك رجيل ، والتقليل كقولك دريهمات ، والتقريب كقولك قبيل
المغرب ، والتعطف كقوله صلىاللهعليهوسلم «أصيحابي أصيحابي» والتعظيم [٦٣] كقول الشاعر :
[٨٦] وكلّ
أناس سوف تدخل بينهم
|
|
دويهية تصفرّ
منها الأنامل
|
يريد الموت ،
ولا داهية أعظم من الموت ، والتمدّح كقول الحباب بن المنذر يوم السّقيفة : «أنا
جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب» فإنه يتناول الاسم لفظا ومعنى ، والتصغير
اللاحق فعل التعجب إنما يتناوله لفظا لا معنى ، من حيث كان متوجّها إلى المصدر ،
وإنما رفضوا ذكر المصدر هاهنا لأن الفعل إذا أزيل عن التصرف لا يؤكّد بذكر المصدر
؛ لأنه خرج عن مذهب الأفعال ، فلما رفضوا المصدر وآثروا تصغيره صغّروا الفعل لفظا
، ووجّهوا التصغير إلى المصدر ، وجاز تصغير المصدر بتصغير فعله ؛ لأن الفعل يقوم
في الذكر مقام مصدره ؛ لأنه يدل عليه بلفظه ، ولهذا يعود الضمير إلى المصدر بذكر
فعله ، وإن لم يجر له ذكر ، قال الله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) [آل عمران : ١٨٠]
______________________________________________________
[٨٦] هذا البيت
من كلام لبيد بن ربيعة العامري ، وقد استشهد به ابن يعيش في شرح المفصل (ص ٧٠٩)
والمحقق رضي الدين في شرح شافية ابن الحاجب (رقم ٣٨). والأناس : هو أصل الناس ،
وحذفت الهمزة من الأناس للتخفيف ، وهذا عند من يرى أن الناس مأخوذ من الأنس ، ومن
العلماء من يذهب إلى أن الناس مأخوذ من النوس ومعناه الحركة ، ومنهم من يذهب إلى
أن الناس مأخوذ من النسيان ، و «سوف» في هذا الموضع للتحقيق والتأكيد ، و «دويهية»
تصغير داهية ، وأصل الداهية المصيبة من مصائب الدهر ، وأراد بها ههنا الموت ،
ويروى في مكانه «خويخية» وهو مصغر الخوخة ـ بفتح الخاءين وسكون الواو بينهما ـ والمراد
بالمصغر الداهية أيضا ، وقوله «تصفر منها الأنامل» أراد بالأنامل ههنا الأظفار ؛
لأنها هي التي تصفر بالموت ، والاستشهاد بالبيت في قوله «دويهية» فإن تصغير هذه
الكلمة عند علماء الكوفة للتعظيم ، لا للتحقير ، وقد حقق العلامة رضي الدين أن
تصغير هذه الكلمة للتحقير ، لا للتعظيم كما زعمه الكوفيون ، وكذلك قال ابن يعيش
وفسره بقوله «فالمراد أن أصغر الأشياء قد يفسد الأصول العظام» اه.
قوله (هُوَ) ضمير للبخل وإن لم يكن مذكورا ؛ لدلالة (يَبْخَلُونَ) عليه ، ومنه قولهم «من كذب كان شرا له» أي كان الكذب
شرا له ، ومنه قول الشاعر :
[٨٧] إذا نهي
السّفيه جرى إليه
|
|
وخالف ،
والسّفيه إلى خلاف
|
يريد جرى إلى
السّفه ، وهذا كثير في كلامهم ؛ فكما أنه يجوز أن يعود الضمير إلى المصدر وإن لم
يجر له ذكر استغناء بذكر فعله ، فكذلك يجوز أن يتوجّه التصغير اللاحق لفظ الفعل
إلى مصدره وإن لم يجر له ذكر ، ونظير هذا إضافتهم أسماء الزمان إلى الفعل نحو قوله
تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩] وإن كانت الإضافة إلى الأفعال غير جائزة ، وإنما جاز ذلك
لأن المقصود بالإضافة إلى الفعل مصدره من حيث كان ذكر الفعل يقوم مقام ذكر مصدره ؛
فالتقدير فيه : هذا يوم نفع الصادقين صدقهم ، وإنما خصّوا أسماء الزمان بهذه الإضافة لما بين
______________________________________________________
[٨٧] هذا البيت
من الشواهد التي لم أقف لها على نسبة إلى قائل معين ، وقد أنشده رضي الدين في شرح
الكافية (٢ / ٤) وذكر البغدادي في الخزانة (٢ / ٣٨٤) أن جماعة من النحاة أنشدوه
منهم ابن جني في إعراب الحماسة والفراء في معاني القرآن وثعلب في أماليه ، ولم
يعزه واحد منهم ، وزجر ـ بالبناء للمجهول ـ ويروى «إذا نهي السفيه» ومتعلق الزجر
أو النهي عام ، والتقدير : إذا زجر عن شيء ما ، أو إذا نهي عن شيء ما ، والسفيه :
وصف من السفه ، وهو الطيش والحمق ورقة العقل ، وجرى : سارع ، ومفعول «خالف» محذوف
للعلم به ، وتقدير الكلام : خالف زاجره أو خالف ناهيه ، وجملة «والسفيه إلى خلاف»
للتذييل ، والمعنى : ومن شأن السفيه وديدنه وطبعه مخالفة ناصحه. والاستشهاد بالبيت
في قوله «جرى إليه» فإن مرجع الضمير المجرور محلا بإلى لم يتقدم صريحا في الكلام ،
ولكن تقدم الوصف الدال عليه وهو قوله «السفيه» فإن هذه الكلمة دالة على الذات
والحدث الذي تتصف به وهو السفه ، فاكتفى الشاعر بتقدم المرجع في ضمن الوصف ،
ونظيره قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) فإن «هو» في هذه الآية راجع إلى البخل المستفاد من «يبخلون»
ولم يتقدم ذكر البخل صراحة ، وقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) فإن «هو» راجع إلى العدل ، ولم يتقدم ذكر العدل صراحة
ولكنه تقدم في ضمن قوله (اعْدِلُوا) لأن الفعل يدل على الحدث والزمان كما هو معلوم ،
ونظيرهما قوله جلت كلمته : (الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، فَزادَهُمْ
إِيماناً) فإن فاعل «زادهم» ضمير مستتر جوازا تقديره هو يعود إلى
قول الناس ولم يتقدم صراحة ، وإنما تقدم في ضمن الفعل الذي هو قوله (قالَ لَهُمُ النَّاسُ) ونظير ذلك أيضا قوله تباركت أسماؤه : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) أي يرض الشكر ، ولم يتقدم ذكر الشكر صراحة ، ولكنه تقدم
في ضمن قوله سبحانه (وَإِنْ تَشْكُرُوا).
__________________
الزمان والفعل من المناسبة ، من حيث اتفقا في كونهما عرضين ، وأن الزمان
حركات الفلك كما أن الفعل حركة الفاعل ، وكما أن هذه الإضافة لفظية ، فكذلك
التصغير اللاحق فعل التعجب لفظيّ ؛ وكما أن هذه الإضافة لا اعتداد [٦٤] بها ،
فكذلك هذا التصغير لا اعتداد به.
والوجه
الثاني : إنما دخله
التصغير حملا على باب أفعل الذي للمفاضلة ؛ لاشتراك اللفظين في التفضيل والمبالغة
، ألا ترى أنك تقول «ما أحسن زيدا» لمن بلغ الغاية في الحسن ، كما تقول «زيد أحسن
القوم» فتجمع بينه وبينهم في أصل الحسن وتفضّله عليهم ؛ فلوجود هذه المشابهة
بينهما جاز «ما أحيسن زيدا ، وما أميلح غزلانا» كما تقول : «غلمانك أحيسن الغلمان
، وغزلانك أميلح الغزلان» ولهذه المشابهة حملوا «أفعل منك» و «هو أفعل القوم» على
قولهم «ما أفعله» فجاز فيهما ما جاز فيه ، وامتنع منهما ما امتنع منه ، ألا ترى
أنك لا تقول «هو أعرج منك» ولا «أعرج القوم» لأنك لا تقول «ما أعرجه» وتقول «هو
أقبح عرجا منك» و «هو أقبح القوم عرجا» كما تقول «ما أقبح عرجه» وكذلك لا تقول «هو
أحسن منك حسنا» فتؤكده بذكر المصدر ؛ لأنك لا تقول «ما أحسن زيدا حسنا» فأما قولهم
«ألجّ لجاجة من الخنفساء» وما أشبهه فمنصوب على التمييز.
والوجه
الثالث : إنما دخله
التصغير لأنه ألزم طريقة واحدة ، فأشبه بذلك الأسماء ، فدخله بعض أحكامها ، وحمل
الشيء على الشيء في بعض أحكامه لا يخرجه عن أصله ، ألا ترى أنّ اسم الفاعل محمول
على الفعل في العمل ، ولم يخرج بذلك عن كونه اسما ، وكذلك الفعل المضارع محمول على
الاسم في الإعراب ، ولم يخرج بذلك عن كونه فعلا ؛ فكذلك تصغيرهم فعل التعجب تشبيها
بالاسم لا يخرجه عن كونه فعلا.
وأما ما ذكروه
من «ليس ، وعسى» فالكلام عليه من أربعة أوجه :
أحدها : أن «ليس
، وعسى» وإن كانا قد أشبها فعل التعجب في سلب التصرف فإنهما قد فارقاه من وجهين ؛
أحدهما : أنهما يرفعان الظاهر والمضمر ، كما ترفعهما الأفعال المتصرفة ، فبعدا عن
شبه الاسم ، وأفعل في التعجب إنما يرفع المضمر دون الظاهر ، فقرب من الاسم الجامد
؛ فلهذا دخله التصغير دونهما.
والثاني : أنّ «ليس ، وعسى» وصلا بضمائر المتكلمين والمخاطبين
والغائبين ، نحو : لست ولستم وليسوا ، وعسيت وعسيتم وعسوا ، كما تتصل بالأفعال
المتصرفة ، وأفعل في التعجب ألزم ضمير الغيبة لا غير ، فلما تصرف ليس وعسى
في الاتصال بضمائر الأفعال الماضية هذا التصرف وألزم [٦٥] هذا الفعل في
الإضمار وجها واحدا جاز أن يدخله التصغير دونهما.
والثالث
: أن «ليس ،
وعسى» لا مصدر لهما من لفظهما ، فتنزل اللفظ بهما منزلة اللفظ به ، والتصغير هاهنا
في الحقيقة للمصدر ، فإذا لم يكن لهما مصدر من لفظهما بطل تصغيرهما ، بخلاف فعل
التعجب ؛ فإن له مصدرا من لفظه نحو الحسن والملاحة وإن لم يكن جاريا عليه على ما
يقتضيه القياس ، فقام تصغيره مقام تصغير مصدره ، فبان الفرق بينهما.
والرابع
: أن «ليس ،
وعسى» لا نظير لهما من الأسماء يحملان عليه كما حمل ما أفعله على أفعل الذي
للمفاضلة ؛ فيحمل «ما أحسنهم» على قولهم «هو أحسنهم» فبان الفرق بينهما.
فإن قالوا :
هذا يبطل بنعم وبئس ؛ فإنهما للمبالغة في المدح والذم ، كما أن التعجب موضوع
للمبالغة ، وإنهما لا يتصرفان ، ومع هذا فلا يجوز تصغيرهما.
قلنا : هذا
الإلزام على مذهبكم ألزم ؛ لأنهما عندكم اسمان كأفعل في التعجب فهلا جاز فيهما
التصغير كما جاز فيه؟ فإن قلتم «إن ذلك لم يسمع من العرب» قلنا : كما قلتم ، ثم
فرقنا بينهما ، وذلك أنهما وإن كانا لا يتصرفان فهما أشبه منه بالأفعال المتصرفة ،
وذلك من ثلاثة أوجه ؛ أحدها : اتصال الضمير بهما على حد اتصاله بالفعل المتصرف نحو
قولهم «نعما رجلين ، ونعموا رجالا» والثاني : اتصال تاء التأنيث الساكنة بهما نحو «نعمت
المرأة ، وبئست الجارية» والثالث : أنهما يرفعان الظاهر والمضمر كالفعل المتصرف ،
فلما قربا من الفعل المتصرف هذا القرب بعدا من الاسم ؛ فلهذا لم يجز تصغيرهما ،
بخلاف فعل التعجب على ما بيّنا ، وأما مثال «أفعل به» فإنما لم يجز تصغيره لأنه لا
نظير له في الأسماء إلا أصبع ؛ وهي لغة رديئة في إصبع ـ وفيها سبع لغات : فصحاهن
إصبع ـ بكسر الهمزة وفتح الباء ـ ثم أصبع ـ بضم الهمزة وفتح الباء ـ ثم أصبع ـ بفتح
الهمزة والباء ـ ثم أصبع ـ بضم الهمزة والباء ـ ثم إصبع ـ بكسر الهمزة والباء ـ ثم
أصبع ـ بفتح الهمزة وكسر الباء ـ ثم أصبوع ـ وإذا لم يكن له في كلامهم نظير سوى
هذا الحرف في لغة رديئة باعده ذلك من الاسم ، فلم يجز فيه التصغير. ألا ترى أن وزن
الفعل الذي يغلب عليه أو يخصّه أحد الأسباب المانعة من الصرف ، فإذا كان الاسم
يقرب من الفعل [٦٦] لمجيئه على بعض أبنيته حتى يكون ذلك علة مانعة له من الصرف
فكذلك الفعل يبعد من الاسم لمخالفته له في البناء ، هذا مع أن لفظه لفظ الأمر ،
والأمر يختص به الفعل ، فأما ما جاء من الأسماء مضمنا معنى
الأمر نحو «صه ، ومه» وما أشبه ذلك فإنه أقيم مقام الأفعال وهي الأصل في
الأمر ، وإنما فعلوا ذلك توخّيا للاختصار لئلا يفتقر إلى إظهار ضمير التثنية
والجمع والتأنيث الذي يظهر في الفعل نحو «اسكتا ، واسكتوا ، واسكتن» وما أشبه ذلك.
وأما قولهم «الدليل
على أنه اسم تصحيح عينه في «ما أقومه ، وما أبيعه» قلنا : التصحيح حصل له من حيث
حصل له التصغير ، وذلك بحمله على باب أفعل الذي للمفاضلة ، فصحح كما صحح من حيث
إنه غلب عليه شبه الأسماء بأن ألزم طريقة واحدة ، والشبه الغالب على الشيء لا
يخرجه عن أصله ، ألا ترى أن الأسماء التي لا تنصرف لما غلب عليها شبه الفعل منعت
الجر والتنوين كما منعهما الفعل ، ولم تخرج بشبهها للفعل عن أن تكون أسماء ؛ فكذلك
هاهنا : تصحيح العين في نحو : «ما أقومه ، وما أبيعه» لا يخرجه عن أن يكون فعلا ،
على أن تصحيحه غير مستنكر في كلامهم ؛ فإنه قد جاءت أفعال متصرفة مصححة في نحو
قولهم : أغيلت المرأة ، وأغيمت السماء ، واستنوق الجمل ، واستتيست الشاة ، واستحوذ
يستحوذ. قال الله تعالى : (اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) [المجادلة : ١٩] وقال تعالى : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤١] وقد قرأ الحسن البصري : (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها
وأزْيَنَت) على وزن أفعلت ، ونحو قولهم : استصوبت ، وأجودت ، وأطيبت ، وأطولت ،
قال الشاعر :
[٨٨] صددت
وأطولت الصّدود ، وقلّما
|
|
وصال على طول
الصّدود يدوم
|
______________________________________________________
[٨٨] هذا البيت
للمرار الفقعسي ، وقد أنشده ابن منظور في اللسان (ط ول) ولم يعزه ، وقد استشهد به
سيبويه (١ / ١٢ و ٤٥٩) وقد نسب في صدر الكتاب إلى عمر بن أبي ربيعة ، ونسب في
شواهد الأعلم إلى المرار الفقعسي كما ذكرنا ، وممن استشهد به ابن هشام في مغني
اللبيب (رقم ٥١٤) ورضي الدين في شرح الكافية (٢ / ٣٢٠) وانظر خزانة البغدادي (٤ /
٢٨٧) وابن يعيش (ص ١٤١٧) وقوله «صددت» معناه أعرضت ، و «أطولت» كان قياسه أن يقول «أطلت»
بحذف العين التي هي الواو ؛ لأن هذه الواو تنقلب ألفا في الفعل ، تقول : أطال ،
وأقام ، وأفاء ، وأقاد ، وأنال ، وأمال ، وما أشبه ذلك ، فإذا وصلت تاء الضمير
بالفعل حذفت هذه الألفات فقلت : أطلت ، وأقمت ، وأفأت ، وأقدت ، وأنلت ، وأملت ،
وذلك لأن آخر الفعل يسكن عند اتصال الضمائر المتحركة به ، فيلتقي ساكنان : الألف
المنقلبة عن الواو أو الياء ، وآخر الفعل ، فتحذف الألف للتخلص من التقاء الساكنين
، هذه لغة جمهرة العرب ، ومن العرب من لا يقلب حرف العلة ألفا ، بل يبقيه على أصله
في صيغة أفعل وصيغة استفعل ، فيقول : أغيمت السماء ، وأغيل الصبي ، واستتيست الشاة
، واستنوق الجمل ، فإذا اتصل الفعل بالضمير المتحرك على هذه اللغة لم يلتق ساكنان
فيبقى الفعل على حاله ، وعلى هذه اللغة جاءت هذه الكلمة ، وانظر كتابنا «دروس
التصريف
وإذا جاء
التصحيح في هذه الأفعال المتصرفة تنبيها على الأصل مع بعدها عن الاسم فما ظنك
بالفعل الجامد الذي لا يتصرف؟
فإن قالوا : التصحيح
في هذه الأفعال إنما جاء عن طريق الشّذوذ ، وتصحيح أفعل في التعجب قياس مطرد.
قلنا : قد جاء
التصحيح في الفعل المتصرف على غير طريق الشّذوذ ، وذلك نحو تصحيح «حول ، وعور ،
وصيد» حملا على «احولّ ، واعورّ ، واصيدّ» وكذلك جاء [٦٧] التصحيح أيضا في قولهم «اجتوروا
، واعتونوا» حملا على «تجاوروا ، وتعاونوا» فكذلك أيضا هاهنا : حمل «ما أقومه وما
أبيعه» على «هذا أقوم منك ، وأبيع منك» ومع هذا فلا ينبغي أن تحكموا له بالاسمية
لتصحيحه ؛ لأن أفعل به قد جاء مصححا وهو فعل ، كما أن التصحيح في قولهم «أقوم به ،
وأبيع به» لا يخرجه عن كونه فعلا ، فكذلك التصحيح في ما أفعله لا يخرجه عن كونه
فعلا.
وأما قولهم «لو
كان التقدير فيه شيء أحسن زيدا لوجب أن يكون التقدير في قولنا ما أعظم الله شيء
أعظم الله ، والله تعالى عظيم لا بجعل جاعل» قلنا : معنى
______________________________________________________
ص ١٦٤».
والاستشهاد بالبيت هنا في قوله «أطولت» حيث صحت عين الفعل مع أن قياس نظائرها أن
تعتل بقلبها ألفا ثم تحذف الألف عند الاتصال بالضمائر المتحركة ، في لغة جمهرة
العرب ، على ما بيّنّا ، وقد أتى الشاعر بهذا الفعل على أصله من غير أن يقلب أو
يحذف ، والعلماء يختلفون في هذا وأشباهه ؛ فمنهم من يقول : هو شاذ يحفظ ما سمع منه
ولا يقاس عليه ، ومنهم من يقول : هو لغة لجماعة من العرب ، يجوز القياس عليها ،
وفي قول الشاعر «وقلما وصال ـ الخ» شاهد آخر للنحاة ، وذلك حيث اتصلت «ما» بقل ،
واعلم أولا أن «ما» هذه تتصل بثلاثة أفعال ـ وهي : قل ، وطال ، وكثر ـ تقول : قلما
كان ذلك ، وطالما نهيتك عن الشر ، وكثر ما أرشدتك ، هذا هو الأصل ، نعني أنه إذا
اتصلت «ما» بواحد من هذه الأفعال الثلاثة كفّته عن طلب الفاعل ووليه الفعل ، وربما
وليه الاسم المرفوع كما في هذا البيت ، وللعلماء في ذلك الأسلوب أربعة أقوال :
الأول : أن «ما» كافة على أصلها ولا يحتاج الفعل المقترن بها إلى فاعل ، والاسم
المرفوع بعدها مبتدأ خبره ما بعده ، وهذا هو ما ذهب إليه سيبويه ، وجعل ذلك من
ضرورات الشعر ، والثاني : أن «ما» هذه زائدة لا كافة ، والاسم المرفوع بعدها فاعل
، وكأن الشاعر قد قال : وقل وصال يدوم على طول الصدود ، والثالث : أن «ما» كافة
أيضا ، والاسم المرفوع بعدها فاعل لفعل محذوف يفسره الفعل الآخر ، وكأنه قد قال :
قلما يدوم وصال على طول الصدود ، وهو مذهب ذهب إليه الأعلم الشنتمري ، والرابع :
أن «ما» حينئذ كافة أيضا ، والاسم المرفوع بعدها فاعل بنفس الفعل المتأخر ، وهذا
مذهب كوفي ؛ لأنهم هم الذين يجوزون تقدم الفاعل على ما هو معلوم.
قولهم شيء أعظم الله أي وصفه بالعظمة ، كما يقول الرجل إذا سمع الأذان :
كبّرت كبيرا ، وعظّمت عظيما ، أي وصفته بالكبرياء والعظمة ، لا صيّرته كبيرا عظيما
، فكذلك هاهنا ، ولذلك الشيء ثلاثة معان : أحدها : أن يعنى بالشيء من يعظمه من
عباده ، والثاني : أن يعنى بالشيء ما يدل على عظمة الله تعالى وقدرته من مصنوعاته
: والثالث : أن يعنى به نفسه ، أي أنه عظيم لنفسه لا لشيء جعله عظيما ، فرقا بينه
وبين خلقه.
وحكي أنّ بعض
أصحاب أبي العباس محمد بن يزيد المبرد قدم من البصرة إلى بغداد قبل قدوم المبرد
إليها ، فحضر في حلقة أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب ، فسئل عن هذه المسألة ، فأجاب
بجواب أهل البصرة ، وقال : التقدير في قولهم «ما أحسن زيدا» شيء أحسن زيدا ، فقيل
له : ما تقول في قولنا «ما أعظم الله»؟ فقال : شيء أعظم الله ، فأنكروا عليه ،
وقالوا : هذا لا يجوز ؛ لأن الله تعالى عظيم لا بجعل جاعل ، ثم سحبوه من الحلقة
وأخرجوه ، فلما قدم المبرد إلى بغداد أوردوا عليه هذا الإشكال ، فأجاب بما قدمنا
من الجواب ، فبان بذلك قبح إنكارهم عليه ، وفساد ما ذهبوا إليه.
وقيل : يحتمل
أن يكون قولنا «شيء أعظم الله» بمنزلة الإخبار أنه عظيم ، لا على معنى شيء أعظمه ؛
فإن الألفاظ الجارية عليه سبحانه يجب حملها على ما يليق بصفاته ، ألا ترى أن «عسى
، ولعل» فيها طرف من الشك ، ولا يحمل في حقه سبحانه على الشك ، وكذلك الامتحان
يحمل منا على معان تستحيل في حقه سبحانه ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ، فكذلك
هاهنا : يكون المراد بقولهم «ما أعظم الله» الإخبار أنه [٦٨] عظيم ، لا شيء جعله
عظيما لاستحالته ؛ وإن كان ذلك يقدّر في غيره لجوازه وعدم استحالته.
وأما قول
الشاعر :
ما أقدر الله
أن يدني على شحط
|
|
من داره
الحزن ممّن داره صول [٧٩]
|
فإنه وإن كان
لفظه لفظ تعجب فالمراد به المبالغة في وصف الله تعالى بالقدرة ، كقوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] فجاء بصيغة الأمر ، وإن لم يكن في الحقيقة أمرا ؛ لامتناع ذلك
في حق الله تعالى ، وإن شئت قدّرته تقدير : «ما أعظم الله» على ما بيّنا ، والله
أعلم.
١٦
مسألة
[القول في جواز التعجب من البياض والسواد ، دون غيرهما من الألوان]
ذهب الكوفيون
إلى أنه يجوز أن يستعمل «ما أفعله» في التعجّب من البياض والسّواد خاصة من بين
سائر الألوان ، نحو أن تقول : هذا الثوب ما أبيضه ، وهذا الشّعر ما أسوده. وذهب
البصريون إلى أن ذلك لا يجوز فيهما كغيرهما من سائر الألوان.
أما الكوفيون
فاحتجّوا بأن قالوا : إنما جوّزنا ذلك للنقل ، والقياس :
أما النقل فقد
قال الشاعر :
[٨٩] إذا
الرّجال شتوا واشتدّ أكلهم
|
|
فأنت أبيضهم
سربال طبّاخ
|
______________________________________________________
[٨٩] روى صاحب
اللسان (ب ى ض) هذا البيت كما رواه المؤلف ، ولم يعزه لقائل معين ، ورواه ابن يعيش
(ص ٨٤٧ و ١٠٤٦) كذلك من غير عزو ، ورواه في مجمع الأمثال (١ / ٨١ بتحقيقنا) ونسب
قوم هذا البيت إلى طرفة بن العبد البكري من أبيات يهجو فيها عمرو بن هند الملك ،
لكنني رجعت إلى ديوان طرفة فوجدت فيه (ص ١٥) أبياتا يهجو فيها عمرو بن هند فيها
كلمته التي يستشهد بها المؤلف ، لكن رواية هذا البيت على غير ما جاء في اللسان وفي
كلام المؤلف ، وهي هكذا :
أنت ابن هند
فأخبر من أبوك إذا
|
|
لا يصلح
الملك إلا كل بذاخ
|
إن قلت نصر
فنصر كان شرفتى
|
|
قدما ،
وأبيضهم سربال طباخ
|
__________________
وجه الاحتجاج
أنه قال «أبيضهم» وإذا جاز ذلك في «أفعلهم» جاز في «ما أفعله وأفعل به» لأنهما
بمنزلة واحدة في هذا الباب ، وقد قال الشاعر :
[٩٠] جارية
في درعها الفضفاض
|
|
تقطّع الحديث
بالإيماض
|
* أبيض من أخت بني أباض*
|
فقال «أبيض»
وهو أفعل من البياض ، وإذا جاز ذلك في أفعل من كذا جاز في ما أفعله وأفعل به ؛
لأنهما بمنزلة واحدة في هذا الباب ، ألا ترى أن ما لا يجوز فيه
______________________________________________________
وقوله «إذا
الرجال شتوا» أي صاروا في زمان الشتاء ، والشتاء عندهم هو زمان القحط والجدب ،
وفيه يظهر كرم الكرام وبخل البخلاء ، وقوله «واشتد أكلهم» أراد أنه تعسر على
أكثرهم الحصول على ما يأكلون ، وقوله «فأنت أبيضهم سربال طباخ» معناه أن ثياب
طباخك تكون في هذا الوقت بيضاء شديدة البياض نقية من الوضر ودهن اللحم وغيره ،
يريد أنه لا يطبخ فلا تتدنس ثيابه ، وهذه العبارة كناية عن شدة البخل. والاستشهاد
بالبيت في قوله «أبيضهم» حيث اشتق أفعل التفضيل من البياض ، وهذا مما يجيزه
الكوفيون ، ويأباه البصريون ، وقد اختلفوا في التعليل للمنع ؛ فمنهم من ذهب إلى أن
السر في منع صوغ أفعل التفضيل وصيغتي التعجب من الألوان أن الألوان من المعاني
اللازمة التي تشبه أن تكون خلقة كاليد والرجل ، ومنهم من ذهب إلى أن سبب المنع هو كون
أفعال الألوان ليست ثلاثية مجردة. وإنما تأتي أفعال الألوان على أحد مثالين :
أولهما أفعل ـ بتشديد اللام ـ نحو أبيض وأسود ، والثاني أفعال ـ بزيادة ألف بعد
العين وبتشديد اللام ـ نحو ادهام وابياض واسواد وما أشبه ذلك.
[٩٠] نسب
البغدادي نقلا عن ابن هشام اللخمي (٣ / ٤٨٣) هذا الرجز إلى رؤبة بن العجاج ، وقد
أنشده رضي الدين في شرح الكافية (٢ / ١٩٩) وابن يعيش (٨٤٧ و ١٠٤٦) وابن منظور (ب ى
ض) والميداني في مجمع الأمثال (١ / ٨١ بتحقيقنا) ولم يعزه أحد منهم إلى قائل معين
، والدرع ـ بكسر فسكون ـ القميص ، والفضفاض : الواسع ، ويروى بدل البيت الأول :
* جارية في رمضان الماضي*
ومعنى قوله «تقطع
الحديث بالإيماض» أن القوم إذا كانوا يتحدثون فأومضت تركوا الحديث واشتغلوا بالنظر
إليها لبراعة جمالها ، وبنو أباض ـ بفتح الهمزة ـ قوم اشتهروا ببياض ألوانهم.
والاستشهاد بالبيت في قوله «أبيض» حيث جاء بأفعل التفضيل من البياض ، وهو يشهد
للكوفيين الذين يجيزون مجيء أفعل التفضيل وصيغتي التعجب من خصوص البياض والسواد
دون سائر الألوان لكونهما أصلي الألوان كلها ، والبصريون يمنعون ذلك ، ويحكمون على
ما جاء من كلام العرب مما ظاهره ذلك بأنه شاذ ، أو يكون «أفعل» في مثل قول هذا
الراجز صفة مشبهة لا أفعل تفضيل ، وقد ذكر ذلك المؤلف وابن يعيش في الموضعين
اللذين أرشدناك إليهما من شرحه على المفصل.
ونظير ذلك قول
أبي الطيب المتنبي يذم الشيب :
أبعد بعدت
بياضا لا بياض له
|
|
لأنت أسود في
عيني من الظلم
|
ما أفعله لا يجوز فيه أفعل من كذا ، وكذلك بالعكس منه : ما جاز فيه ما
أفعله جاز فيه أفعل من كذا ، فإذا ثبت أنه يمتنع في كل واحد منهما ما يمتنع في
الآخر ، ويجوز فيه ما يجوز في الآخر ، دلّ على أنهما بمنزلة واحدة ، [٦٩] وكذلك
القول في «أفعل به» في الجواز والامتناع ، فإذا ثبت هذا فوجب أن يجوز استعمال ما
أفعله من البياض.
وأما القياس
فقالوا : إنما جوزنا ذلك من السواد والبياض دون سائر الألوان لأنهما أصلا الألوان
، ومنهما يتركب سائرها من الحمرة والصفرة والخضرة والصّهبة والشّهبة والكهبة إلى
غير ذلك ، فإذا كانا هما الأصلين للألوان كلها جاز أن يثبت لهما ما لا يثبت لسائر
الألوان ؛ إذ كانا أصلين لها ومتقدمين عليها.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه لا يجوز استعمال «ما أفعله» من البياض والسواد
أنا أجمعنا على أنه لا يجوز أن يستعمل مما كان لونا غيرهما من سائر الألوان ؛ فكذلك
لا يجوز منهما ، وإنما قلنا ذلك لأنه لا يخلو امتناع ذلك : إما أن يكون لأن باب
الفعل منهما أن يأتي على افعلّ نحو احمرّ واصفرّ واخضرّ وما أشبه ذلك ، أو لأن هذه
الأشياء مستقرة في الشخص لا تكاد تزول فجرت مجرى أعضائه ، وأي العلتين قدرنا وجدنا
المساواة بين البياض والسواد وبين سائر الألوان في علة الامتناع ؛ فينبغي أن لا
يجوز فيهما كسائر الألوان.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقول الشاعر :
* فأنت أبيضهم سربال طباخ* [٨٩]
فلا حجّة فيه
من وجهين ؛ أحدهما : أنه شاذ فلا يؤخذ به ، كما أنشد أبو زيد :
[٩١] يقول
الخنا وأبغض العجم ناطقا
|
|
إلى ربّنا
صوت الحمار اليجدّع
|
______________________________________________________
[٩١] هذان
البيتان من كلام ذي الخرق الطهوي ، وليسا متتاليين في كلامه كما قد يظن من صنيع
المؤلف. بل بين أولهما وثانيهما بيتان ، وقد استشهد بالبيت الأول رضي الدين في شرح
الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (١ / ١٥ و ٢ / ٤٨٨) وأنشده ابن منظور (ج د ع)
مع بيت سابق عليه ونسبهما لذي الخرق ، وأنشده مرة أخرى (ل وم) وذكر له نظائر كثيرة
، وأنشده الأشموني (١ / ١٧١ بتحقيقنا) واستشهد به ابن هشام في المغني (رقم ٦٨) وقد
روى أبو زيد في نوادره (ص ٦٦ و ٦٧) سبعة أبيات يقع أول هذين البيتين ثانيها ، ويقع
ثاني البيتين خامسها ، والخنى : الفاحش من الكلام ، وأبغض : أفعل تفضيل من البغض ،
وفعله بغض فلان إلي ، وتقول : ما أبغضني إلى فلان ؛ إذا كان هو المبغض لك ، وقالوا
: ما أبغضني لفلان ؛ إذا كنت المبغض له ، والعجم : جمع أعجم أو عجماء ، والأعجم :
ويستخرج
اليربوع من نافقائه
|
|
ومن جحره
بالشّيخة اليتقصّع
|
فأدخل الألف
واللام على الفعل ، وأجمعنا على أن استعمال مثل هذا خطأ لشذوذة قياسا واستعمالا ،
فكذلك هاهنا ، وإنما جاء هذا لضرورة الشعر ، والضرورة لا يقاس عليها ، كما لو اضطر
إلى قصر الممدود على أصلنا وأصلكم أو إلى مدّ المقصور على أصلكم ، وعلى ذلك سائر
الضرورات ، ولا يدل جوازه في الضرورة على جوازه في غير الضرورة ، فكذلك هاهنا ،
فسقط الاحتجاج به. وهذا هو الجواب عن قول الآخر :
* أبيض من أخت بني أباض* [٩٠]
[٧٠] والوجه
الثاني : أن يكون قوله «فأنت أبيضهم» أفعل الذي مؤنثه فعلاء كقولك أبيض وبيضاء ،
ولم يقع الكلام فيه ، وإنما وقع الكلام في أفعل الذي يراد به المفاضلة نحو «هذا
أحسن منه وجها ، وهو أحسن القوم وجها» فكأنه قال مبيضّهم ، فلما أضافه انتصب ما
بعده عن تمام الاسم ، وهذا هو الجواب عن قول الآخر :
* أبيض من أخت بني أباض* [٩٠]
ومعناه : في
درعها جسد مبيض من أخت بني أباض ، ويكون «من أخت» ها هنا في موضع رفع ؛ لأنها صفة
لأبيض ، كأنه قال أبيض كائن من أخت ، كقولهم «أنت كريم من بني فلان» ونحوه قول
الشاعر :
[٩٢] وأبيض
من ماء الحديد كأنّه
|
|
شهاب بدا
والليل داج عساكره
|
______________________________________________________
الحيوان الذي
لا ينطق ، والأعجم من الإنسان الذي في كلامه عجمة ، شبهوه بالحيوان الأعجم ،
واليجدّع : الذي يقطع أنفه ، أو أذنه ، أو يده ، أو شفته ، كل ذلك يقال ، واليربوع
: دويبة تحفر الأرض ، والنافقاء : جحر يكتمه اليربوع ويستره ويظهر جحرا آخر غيره ،
وقوله «بالشيخة» هو بالخاء المعجمة رملة بيضاء في بلاد بني أسد وحنظلة ، واليتقصع
: أراد الذي يتقصع ، وتقول «تقصع اليربوع» إذا دخل في قاصعائه ، والقاصعاء : جحر
آخر من جحرة اليربوع. والاستشهاد بالبيت الأول في قوله «اليجدع» والاستشهاد بالبيت
الثاني في قوله «اليتقصع» فإنه أراد الذي يجدع والذي يتقصع ، فوصل أل الموصولة
بالفعل المضارع ، وقد اتفق الفريقان على أن وصل أل الموصولة بالفعل المضارع شاذ ،
هكذا قال المؤلف ، لكن الذي نعرفه أن من الكوفيين قوما يجيزون ذلك في الاختيار ،
وقد ذهب ابن مالك إلى مذهب وسط بين المذهبين ، فقال : إن ذلك قليل لا شاذ ، وانظر
التصريح للشيخ خالد الأزهري (١ / ١٦٩) وشرح الأشموني بتحقيقنا (١ / ١٧١) فقد ذكرنا
ثمة كثيرا من الشواهد ، وحاشية الصبان (١ / ١٦١ بولاق).
[٩٢] أنشد
البغدادي هذا البيت في الخزانة (٣ / ٤٨٥ بولاق) والشريف المرتضى في أماليه (٢ /
٣١٧) وذكر أن ابن جني استشهد به ، ولم يعزه أحدهما إلى معين ، والشهاب : النجم ،
______________________________________________________
وبدا : أي ظهر
، والليل داج : أي مظلم. والاستشهاد بالبيت في قوله «وأبيض من ماء الحديد» فإن «أبيض»
في هذه العبارة ليس أفعل تفضيل ، لكنه صفة مشبهة ، و «من» التالية له ليست من التي
تدخل على المفضول في نحو قولك : فلان أكرم خلقا من فلان ، وأشرف نفسا منه ، وأطهر
قلبا منه ، وما أشبه ذلك ، وعلى ذلك لا تكون «من» هذه متعلقة بأبيض ، بل هي متعلقة
بمحذوف يقع صفة لأبيض ، وكأنه قد قال : وأبيض كائن من ماء الحديد ، أي مأخوذ
ومصنوع من ماء الحديد ، والكلام في وصف سيف ، وإذا كان لفظ «أبيض» يأتي صفة مشبهة
كما في هذا البيت وفي الشاهد الذي يليه فإنه لا يمتنع أن يكون أبيض في قول الراجز
:
* أبيض من أخت بني أباض*
وفي البيت
المنسوب إلى طرفة :
* ... أبيضهم سربال طباخ*
وأسود في قول
المتنبي الذي أنشدناه لك :
* ... أسود في عيني من الظلم*
صفة مشبهة أيضا
، وكأن المتنبي قد قال : لأنت مسود في عيني ، ولأنت من الظلم ؛ وكأن طرفة قد قال :
أنت مبيضهم سربال طباخ ، وكأن الراجز قد قال : جسد مبيض كائن من أخت بني أباض ،
وقد اتفق مع المؤلف على هذا التخريج ابن يعيش والشريف المرتضى والحريري في درة
الغواص ، وكلهم تابعون لابن جني. ويقول أبو رجاء : إنه ليس من المنكر أن يجيء وزن
أفعل من البياض والسواد وغيرهما من الألوان ومن غير الألوان صفة مشبهة ، نقول :
فلان أبيض اللون ، وفلان أسود ، أو أخضر ، أو أصفر ، وتقول : فلان أهيف البطن.
وفلان أجب الظهر ، وفلان أوحد دهره ، وما لا يحصى من المثل ، ومن ذلك قول أبي
الطيب المتنبي أيضا :
يلقاك مرتديا
بأحمر من دم
|
|
ذهبت بخضرته
الطلى والأكبد
|
ومن ذلك قول
أبي تمام :
له منظر في
العين أبيض ناصع
|
|
ولكنه في
القلب أسود أسفع
|
وقد قال
المفسرون في قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ :) إن «أهون» في هذه الآية بمعنى هين ، كما قالوا في قول
معن بن أوس :
لعمرك ما
أدري وإني لأوجل
|
|
على أينا
تغدو المنية أول
|
إن «أوجل» هنا
صفة مشبهة وليست أفعل تفضيل ، أقول : نحن لا ننكر أن هذا الوزن يأتي صفة مشبهة
خالية من معنى تفضيل شيء على شيء ، كما لا ننكر أن من هذه البابة قول الشاعر :
* وأبيض من ماء الحديد كأنه*
وما معه من
الأبيات ، لكنا لا نستطيع أن نستسيغ أن يكون من هذه البابة قول الراجز :
* أبيض من أخت بني أباض*
مع قول الرواة
الموثوق بهم : إن نساء بني أباض مشهورات ببياض ألوانهن ؛ وعلى هذا يكون هذا الجواب
غير مستقيم ، ولو كان القائل به ابن جني ومن تبعه من فحولة النحاة.
فقوله «من ماء
الحديد» في موضع رفع ؛ لأنه صفة أبيض ، وتقديره وأبيض كائن من ماء الحديد ، ونحوه
أيضا قول الآخر :
[٩٣] لمّا
دعاني السّمهريّ أجبته
|
|
بأبيض من ماء
الحديد صقيل
|
وأما قولهم «إنما
جوّزنا ذلك لأنهما أصلان للألوان ويجوز أن يثبت للأصل ما لا يثبت للفرع» قلنا :
هذا لا يستقيم ، وذلك لأن سائر الألوان إنما لم يجز أن يستعمل منها «ما أفعله ،
وأفعل منه» لأنها لازمت محالها ، فصارت كعضو من الأعضاء ، فإذا كان هذا هو العلة
فنقول : هذا على أصلكم ألزم ، وذلك لأنكم تقولون : إن هذه الألوان ليست بأصل في
الوجود ، على ما تزعمون ، بل هي مركبة من البياض والسواد ؛ فإذا لم يجز مما كان
متركبا منها لملازمته المحل فلأن لا يجوز مما كان أصلا في الوجود وهو ملازم للمحل
كان ذلك من طريق الأولى ، والله أعلم.
______________________________________________________
[٩٣] أنشد ابن
يعيش (ص ١٠٤٦) عجز هذا البيت ، ولم يعزه إلى قائل ، والظاهر أن «السمهري» هنا اسم
رجل ، وأصل السمهري الرمح ، منسوب إلى رجل كان يبيع الرماح بالخط ، واسم امرأته
ردينة ، فأحيانا ينسبون الرماح إليه فيقولون : رمح سمهري ، ورماح سمهرية ، وأحيانا
يضيفونها إلى امرأته فيقولون : رديني ، أو رماح ردينية ، وأحيانا ينسبونه إلى
مكانهم فيقولون : خطي ، والقول في الاستشهاد بهذا البيت كالذي ذكرناه في الشاهد
السابق.
١٧
مسألة
[القول في تقديم خبر «ما زال» وأخواتها عليهن]
ذهب الكوفيون
إلى أنه يجوز تقديم خبر «ما زال» عليها ، وما كان في معناها من أخواتها ، وإليه
ذهب أبو الحسن بن كيسان ، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك ، وإليه ذهب أبو
زكريا يحيى بن زياد الفراء من [٧١] الكوفيين ، وأجمعوا على أنه لا يجوز تقديم خبر «ما
دام» عليها.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأن «ما زال» ليس بنفي للفعل ، وإنما هو نفي
لمفارقة الفعل ، وبيان أن الفاعل حاله في الفعل متطاولة ، والذي يدل على أنه ليس
بنفي أنّ «زال» فيه معنى النفي ، و «ما» للنفي ، فلما دخل النفي على النفي صار
إيجابا ، والذي يدل على أن النفي إذا دخل على النفي صار إيجابا أنك إذا قلت «انتفى
الشيء» كان ضدا للإثبات ، فإذا أدخلت عليه النفي نحو «ما انتفى» صار موجبا ؛ فدل
على أن نفي النفي إيجاب ، وإذا كان كذلك صار «ما زال» بمنزلة «كان» في أنه إيجاب ،
وكما أن «كان» يجوز تقديم خبرها عليها نفسها ، فكذلك «ما زال» ينبغي أن يجوز تقديم
خبرها عليها ، ولذلك لم يقولوا «ما زال زيد إلا قائما» كما لم يقولوا «كان زيد إلا
قائما» لأن «إلا» إنما يؤتى بها لنقض النفي ، كقولك «ما مررت إلا بزيد ، وما ضربت
إلا زيدا» نفيت المرور والضرب أولا ، وأدخلت «إلا» فأثبتهما لزيد ، وأبطلت النفي
ونقضته ، ولهذا إذا قلتم إنها إذا دخلت على «ما» التي ترفع الاسم وتنصب الخبر
أبطلت عملها ؛ لأنها إنما عملت لشبهها بليس في أنها تنفي الحال ، كما أن ليس تنفي
الحال ؛ فإذا دخلت «إلا» عليها أبطلت معنى النفي ، فزال شبهها بليس ، فبطل عملها ؛
فإذا كان الكلام ثابتا فلا يفتقر إلى إثباته ؛ ألا ترى أنك لو قلت «مررت إلا بأحد»
لم يجز ؛ لأن إثبات الثابت
__________________
ونقض النفي مع تعرّي الكلام منه محال ، فدلّ على أن «ما زال» في الإثبات
بمنزلة «كان» فكما لا يقال «كان زيد إلا قائما» فكذلك لا يقال «ما زال زيد إلا
قائما» فأما قول الشاعر :
[٩٤] حراجيج
ما تنفكّ إلّا مناخة
|
|
على الخسف أو
نرمي بها بلدا قفرا
|
______________________________________________________
[٩٤] هذا البيت
من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة ، وقد استشهد به سيبويه (١ / ٤٢٨) والزمخشري وابن
يعيش (١٠١٠) والرضي (٢ / ٢٧٥) والأشموني (رقم ٢١٠٠) وانظر خزانة الأدب (٤ / ٤٩
بولاق) والحراجيج : جمع حرجوج ، أو حرجيج وهي هنا الناقة الضامرة الهزيلة ، ومناخة
: اسم المفعول المؤنث من قولك «أناخ الرجل بعيره أو ناقته» إذا أبركها ، والخسف ـ بالفتح
ـ الجوع ، وذلك أن يبيت على غير علف ، وكان الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء يخطئان ذا
الرمة في هذا البيت ؛ لأنه أدخل حرف الاستثناء ـ وهو إلا ـ على خبر تنفك ، وقد خلص
العلماء ذا الرمة من هذا الخطأ ، ولهم في ذلك التخلص خمسة أوجه ؛ الأول أن الرواية
ليست كما زعم أبو عمرو والأصمعي ، وليس التالي لقوله «ما تنفك» هو إلا التي هي حرف
استثناء ، بل هو «آلا» بمد الألف ، والآل : الشخص ، وذلك نظير قول ذي الرمة نفسه
في كلمة أخرى :
فلم نهبط على
سفوان حتى
|
|
طرحن سخالهن
وصرن آلا
|
ويروى أن ذا
الرمة لما نبه إلى الخطأ فطن له وقال : أنا لم أقل «إلا مناخة» وإنما قلت «ما تنفك
آلا مناخة» وعلى هذا الوجه يكون قوله «آلا» خبر تنفك ، ومناخة صفة ، وحينئذ يسأل
عن وجه تأنيث الصفة مع أن الموصوف مذكر ، والجواب عن ذلك أن الآل ـ وهو الشخص ـ يطلق
على المذكر والمؤنث كالشخص الذي هو بمعناه ، ولما كان المراد هنا النوق أنث الصفة
، وهذا التخريج قد ذكره كثير من العلماء ، وقد سمعت أنه يروى عن ذي الرمة نفسه ،
والتخريج الثاني : أن «تنفك» ههنا تامة ، وليست ناقصة ، والتي يمنع دخول إلا عليها
هي الناقصة ، وهذا تخريج ذكره الفراء في معاني القرآن ، ونسبه المؤلف إلى الكسائي
، وذكره الأعلم في شرح شواهد سيبويه ، والتخريج الثالث : أن تجعل تنفك ناقصة لكن
لا يكون «مناخة» خبرها ، بل خبرها هو متعلق الجار والمجرور الذي هو قوله «على
الخسف» وعلى هذا الوجه يكون قوله «مناخة» حالا ، وكأنه قد قال : ما تنفك كائنة على
الخسف إلا في حال كونها مناخة ، وقد ذكر هذا التخريج الأعلم أيضا ، والتخريج
الرابع : أن تكون تنفك ناقصة أيضا ، ولكن يكون خبرها محذوفا ، و «مناخة» حال ، و «على
الخسف» يتعلق بمناخة ، وتقدير الكلام على هذا الوجه : ما تنفك مقيمة في أوطانها
إلا في إحدى حالتين : الأولى : أن تكون مناخة على الخسف والثانية : أن نرمي بها
بلدا قفرا ، وهذا التوجيه قد ذكره الزمخشري ، والتخريج الخامس : أن تجعل «تنفك»
ناقصة ، و «مناخة» خبرها ، ولكن «إلا» ليست للاستثناء ، بل هي حرف زائد لا يدل على
معنى ، والممتنع إنما هو دخول إلا الدالة على الاستثناء على خبر «تنفك» وهذا
التخريج ـ كما قال ابن يعيش ـ للمازني ، وتبعه أبو علي الفارسي في بعض كتبه ،
ونسبه ابن هشام في مغني اللبيب إلى الأصمعي وابن جني ، وفي هذا القدر غناء أي
غناء.
فالكلام عليه
من أربعة أوجه ؛ فالوجه الأول : أنه يروى «ما تنفك آلا مناخة» والآل : الشخص ؛
يقال «هذا آل قد بدا» أي شخص ؛ وبه سمي الآل ؛ لأنه يرفع الشخوص أول النهار وآخره
؛ قال الشاعر :
[٩٥]* كأنّنا رعن قفّ يرفع الآلا*
أي يرفعه الآل
؛ وهو من المقلوب. والوجه الثاني : أنه يروى «ما تنفكّ إلا مناخة» [٧٢] بالرفع ،
فلا يكون فيه حجة. والوجه الثالث : أنه قد روي بالنصب ، ولكن ليس هو منصوبا لأنه
خبر «ما تنفك» وإنما خبرها «على الخسف» فكأنه قال : ما تنفك على الخسف ، أي تظلم
إلا أن تناخ. والوجه الرابع : أنه جعل «ما تنفك»
______________________________________________________
[٩٥] هذا عجز
بيت من كلام النابغة الجعدي ، وصدره قوله :
* حتى لحقنا بهم تعدى فوارسنا*
وتعدى فوارسنا
: أي تحمل أفراسها على العدو ، وهو السير السريع ، والرعن ـ بفتح الراء وسكون
العين ـ أنف الجبل ، والقف ـ بضم القاف وتشديد الفاء ـ الجبل ، غير أنه ليس بطويل
في السماء ، والآل : الذي تراه في أول النهار وآخره كأنه يرفع الشخوص ، وليس هو
السراب ، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «الآل» ومعناه ما ذكرنا يريد المؤلف أن الذي
في بيت ذي الرمة هو «الآل» كالذي في هذا البيت ، وقد تقدم بيانه ، وقد تبين لك من
تفسيرنا للآل وجه قول المؤلف «وهو من المقلوب» يعني أن المعروف أن الآل هو الذي
يرفع الشخوص ، وقد جاء في هذا البيت أن رعن القف يرفع الآل ، فرعن القف في ظاهر
هذا البيت رافع ، والآل مرفوع ، والجاري على ألسنة العرب أن تجعل الآل رافعا
والشخوص التي منها رعن القف مرفوعة ، قال ابن منظور بعد أن أنشد البيت «أراد يرفعه
الآل ، فقلبه» وقد أنكر ابن سيده القلب في هذا البيت ، وزعم أن كل واحد من رعن
القف والآل يصلح أن يكون رافعا ويصلح كذلك أن يكون مرفوعا ، قال : «وجه كون الفاعل
فيه مرفوعا والمفعول منصوبا باسم صحيح مقول به ، وذلك أن رعن هذا القف لما رفعه
الآل فرؤي فيه ظهر به الآل إلى مرآة العين ظهورا لو لا هذا الرعن لم يبن للعين
بيانه إذا كان فيه ، ألا ترى أن الآل إذا برق للبصر رافعا شخصه كان أبدى للناظر
إليه منه لو لم يلاق شخصا يزهاه فيزداد بالصورة التي حملها سفورا ، وفي مسرح الطرف
تجليا وظهورا؟ فإن قلت : فقد قال الأعشى :
* إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا*
فجعل الآل هو
الفاعل والشخص هو المفعول ، قيل : ليس في هذا أكثر من أن هذا جائز ، وليس فيه دليل
على أن غيره ليس بجائز ، ألا ترى أنك إذا قلت : «ما جاءني غير زيد ، فإنما في هذا
دليل على أن الذي هو غيره لم يأتك ، فأما زيد نفسه فلم يعرض للأخبار بإثبات مجيء
له أو نفيه عنه ؛ فقد يجوز أن يكون قد جاء وأن يكون أيضا لم يجئ» اه كلامه بحروفه.
كلمة تامة ؛ لأنك تقول «انفكت يده» فتوهم فيها التمام ، ثم استثنى ، وهذا
الوجه رواه هشام عن الكسائي.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر «ما زال» عليها لأن «ما»
للنفي ، والنفي له صدر الكلام ؛ فجرى مجرى حرف الاستفهام في أن له صدر الكلام ،
والسّرّ فيه هو أن الحرف إنما جاء لإفادة المعنى في الاسم والفعل ؛ فينبغي أن يأتي
قبلهما ، لا بعدهما ، وكما أن حرف الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله فكذلك
هاهنا ، ألا ترى أنك لو قلت في الاستفهام «زيدا أضربت» لم يجز ؛ لأنك تقدم ما هو
متعلق بما بعد حرف الاستفهام عليه ؛ فكذلك هاهنا ؛ إذا قلت «قائما ما زال زيد»
ينبغي أن لا يجوز لأنك تقدم ما هو متعلق بما بعد حرف النفي عليه.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن ما زال ليس بنفي للفعل ، وإنما هو نفي لمفارقة
الفعل ، والنفي إذا دخل على النفي صار إيجابا» قلنا : هذا حجّة عليكم ، فإنا كما
أجمعنا على أن «ما زال» ليس بنفي للفعل أجمعنا على أن «ما» للنفي ، ثم لو لم تكن «ما»
للنفي لما صار الكلام بدخولها إيجابا ، فالكلام إيجابء و «ما» نفي ؛ بدليل أنا لو
قدرنا زوال النفي عنها لما كان الكلام إيجابا ، وإذا كانت للنفي فينبغي أن لا
يتقدم ما هو متعلق بما بعدها عليها ؛ لأنها تستحق صدر الكلام كالاستفهام.
وأما «ما دام»
فلم يجز تقديم خبرها عليها نفسها لأن «ما» فيها مصدرية لا نافية ، وذلك المصدر
بمعنى ظرف الزمان ؛ ألا ترى أنك إذا قلت «لا أفعل هذا ما دام زيد قائما» كان
التقدير فيه : زمن دوام زيد قائما ، كقولك «جئتك مقدم الحاجّ ، وخفوق النجم» أي
زمن مقدم الحاجّ وزمن خفوق النّجم ، إلا أنه حذف المضاف الذي هو الزمن ، وأقيم
المصدر الذي هو المضاف إليه مقامه ، وإذا كانت «ما» في «ما دام» بمنزلة المصدر فما
كان من صلة المصدر لا يتقدم عليه ، والله أعلم.
[٧٣] ١٨
مسألة
[القول في تقديم خبر «ليس»
عليها]
ذهب الكوفيون
إلى أنه لا يجوز تقديم خبر «ليس» عليها ، وإليه ذهب أبو العباس المبرد من البصريين
، وزعم بعضهم أنه مذهب سيبويه ، وليس بصحيح ، والصحيح أنه ليس له في ذلك نص . وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم خبر «ليس» عليها كما
يجوز تقديم خبر كان عليها .
أما الكوفيّون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر ليس عليها وذلك لأن «ليس»
فعل غير متصرّف ؛ فلا يجري مجرى الفعل المتصرّف كما أجريت «كان» مجراه لأنها
متصرّفة ، ألا ترى أنك تقول : كان يكون فهو كائن وكن ، كما تقول : ضرب يضرب فهو
ضارب ومضروب واضرب ، ولا يكون ذلك في ليس ، وإذا كان كذلك فوجب أن لا يجري مجرى ما
كان فعلا متصرّفا ، فوجب أن لا يجوز تقديم خبره عليه كما كان ذلك في الفعل
المتصرّف ؛ لأن الفعل إنما يتصرّف عمله إذا كان متصرّفا في نفسه. فأما إذا كان غير
متصرّف في نفسه فينبغي أن لا يتصرّف عمله ؛ فلهذا قلنا : لا يجوز تقديم خبره عليه
، والذي يدل على هذا أن «ليس» في معنى ما ؛ لأن ليس تنفي الحال كما أن ما تنفي
الحال ، وكما أن ما لا تتصرّف ولا يتقدم معمولها عليها فكذلك ليس ، على أن من
النحويين من يغلّب
__________________
عليها الحرفية ، ويحتج بما حكي عن بعض العرب أنه قال : «ليس الطّيب إلا
المسك» فرفع الطّيب والمسك جميعا ، وبما حكي أن بعض العرب قيل له : فلان يتهدّدك ،
فقال : «عليه رجلا ليسي» فأتى بالياء وحدها من غير نون الوقاية ، ولو كان فعلا
لوجب أن يأتي بها كسائر الأفعال ، ولأنها لو كانت فعلا لكان ينبغي أن يرد إلى
الأصل إذا اتصلت بالتاء فيقال في لست «ليست» ألا ترى أنك تقول في صيد البعير «صيد
البعير» فلو أدخلت عليه التاء لقلت «صيدت» فرددته إلى الأصل وهو الكسر ، فلما لم
يردّ هاهنا إلى الأصل ـ وهو الكسر ـ دل على أن المغلّب عليه الحرفية ، لا الفعلية
، وقد حكى سيبويه في كتابه أن بعضهم يجعل ليس بمنزلة ما في اللغة التي لا يعملون
فيها «ما» ؛ فلا [٧٤] يعملون ليس في شيء ، وتكون كحرف من حروف النفي ؛ فيقولون :
ليس زيد منطلق ، وعلى كل حال فهذه الأشياء وإن تكن كافية في الدلالة على أنها حرف
فهي كافية في الدلالة على إيغالها في شبه الحرف ، وهذا ما لا إشكال فيه ، وإذا ثبت
أنها لا تتصرف وأنها موغلة في شبه الحرف فينبغي أن لا يجوز تقديم خبرها عليها ،
ولأن الخبر مجحود فلا يتقدم على الفعل الذي جحده على ما بيّنا.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على جواز تقديم خبرها عليها قوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ
مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] وجه الدليل من هذه الآية أنه قدّم معمول خبر ليس على ليس ، فإن
قوله (يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) يتعلق بمصروف ، وقد قدّمه على ليس ، ولو لم يجز تقديم
خبر ليس على ليس وإلا لما جاز تقديم معمول خبرها عليها ؛ لأن المعمول لا يقع إلا
حيث يقع العامل ، ألا ترى أنه لم يجز أن تقول «زيدا أكرمت» إلا بعد أن جاز «أكرمت
زيدا» فلو لم يجز تقديم «مصروف» الذي هو خبر ليس على ليس ، وإلا لما جاز تقديم
معموله عليها ، والذي يدل على ذلك أن الأصل في العمل للأفعال ، وهي فعل ، بدليل
إلحاق الضمائر وتاء التأنيث الساكنة بها ، وهي تعمل في الأسماء المعرفة والنكرة
والظاهرة والمضمرة كالأفعال المتصرفة ، فوجب أن يجوز تقديم معمولها عليها ، وعلى
هذا تخرج «نعم ، وبئس ، وفعل التعجب وعسى» حيث لا يجوز تقديم معمولها عليها ، أما «نعم
، وبئس» فإنهما لا يعملان في المعارف الأعلام ، بخلاف «ليس» فنقصتا عن رتبتها ،
وأما فعل التعجب فأجروه مجرى الأسماء لجواز تصغيره فبعد عن الأفعال ، ومع هذا فلا
يتصل به ضمير الفاعل ، وإنما يضمر فيه ، ولا تلحقه أيضا تاء التأنيث ، بخلاف «ليس»
فنقص عن رتبتها ، وأما «عسى» وإن كانت تلحقها الضمائر وتاء التأنيث
كليس ، إلا أنها لا تعمل في جميع الأسماء ، ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون
معمولها إلا «أن» مع الفعل نحو «عسى زيد أن يقوم» ولو قلت «عسى زيد القيام» لم يجز
؛ فأما قولهم في المثل «عسى الغوير أبؤسا» فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه ، فلما
كان مفعولها مختصا بخلاف «ليس» نقصت عن رتبة ليس ؛ فجاز أن يمنع من تقديم معمولها
عليها ، ولا يجوز أن تقاس «ليس» على [٧٥] ما في امتناع تقديم خبرها عليها ؛ لأن
ليس تخالف ما ، بدليل أنه يجوز تقديم خبر ليس على اسمها نحو «ليس قائما زيد» ولا
يجوز تقديم خبر ما على اسمها ؛ فلا يقال : «ما قائما زيد» وإذا جاز أن تخالف ليس «ما»
في جواز تقديم خبرها على اسمها جاز أن تخالفه في جواز تقديم خبرها عليها ، وتلحق
بأخواتها.
والصحيح عندي
ما ذهب إليه الكوفيّون.
وأما الجواب عن
كلمات البصريين : أما قوله تعالى : (أَلا يَوْمَ
يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] فلا حجة لهم فيه ؛ لأنا لا نسلم أن (يَوْمَ) متعلق بمصروف ، ولا أنه منصوب ، وإنما هو مرفوع
بالابتداء ، وإنما بني على الفتح لإضافته إلى الفعل ، كما قرأ نافع والأعرج قوله
تعالى : (هذا يومَ ينفع الصادقين صدقهم) فإن يومُ في موضع رفع ، وبني على الفتح
لإضافته إلى الفعل ، فكذلك ها هنا. وإن سلمنا أنه منصوب إلا أنه منصوب بفعل مقدر
دل عليه قوله تعالى : (لَيْسَ مَصْرُوفاً
عَنْهُمْ) [هود : ٨] وتقديره : يلازمهم يوم يأتيهم العذاب ؛ لقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ
إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) [هود : ٨].
وأما قولهم «إن
الأصل في العمل للأفعال ، وهي فعل يعمل في الأسماء المعرفة والنكرة والمظهرة
والمضمرة» قلنا : هذا يدل على جواز إعمالها ؛ لأنها فعل ، والأصل في الأفعال أن
تعمل ، ولا يدل على جواز تقديم معمولها ؛ لأن تقديم المعمول على الفعل يقتضي تصرف
الفعل في نفسه ، و «ليس» فعل غير متصرف ، فلا يجوز تقديم معموله عليه ؛ فنحن عملنا
بمقتضى الدليلين : فأثبتنا لها أصل العمل لوجود أصل الفعلية ، وسلبناها وصف العمل
لعدم وصف الفعلية وهو التصرف ؛ فاعتبرنا الأصل بالأصل ؛ والوصف بالوصف. والذي يشهد
لصحة ذلك الأفعال المتصرفة نحو ضرب وقتل وشتم ، فإنها لما كانت أفعالا متصرفة أثبت
لها أصل العمل ووصفه ؛ فجاز إعمالها ، وجاز تقديم معمولها عليها نحو «عمرا ضرب زيد»
وكذلك سائرها ، والأفعال غير المتصرفة نحو عسى ونعم وبئس وفعل التعجب خصوصا على
مذهب البصريين ؛ فإنها لما كانت أفعالا غير متصرفة أثبت لها أصل العمل فجاز
إعمالها ، وسلبت وصف العمل ؛ فلم يجز تقديم معمولها عليها فكذلك هاهنا.
وأما قولهم «إنه
لا يجوز أن تقاس ليس على ما» قلنا : قد [٧٦] بيّنا وجه المناسبة بينهما واتفاقهما
في المعنى ؛ لأن كل واحد منهما لنفي الحال كالآخر.
وقولهم «إن ليس
تخالف ما ؛ لأنه يجوز تقديم خبر ليس على اسمها ، بخلاف ما» قلنا : ليس من شرط
القياس أن يكون المقيس مساويا للمقيس عليه في جميع أحكامه ، بل لا بد أن يكون
بينهما مغايرة في بعض أحكامه.
قولهم «فإذا
جاز أن تخالفها في تقديم خبرها على اسمها جاز أن تخالفها في تقديم خبرها عليها»
قلنا : هذا لا يلزم ؛ لأن «ليس» أخذت شبها من كان ؛ لأنها فعل كما أنها فعل ،
وشبها من ما لأنها تنفي الحال كما أنها تنفي الحال ، وكان يجوز تقديم خبرها عليها
، وما لا يجوز تقديم خبرها على اسمها ، فلما أخذت شبها من كان وشبها من ما صار لها
منزلة بين المنزلتين ، فجاز تقديم خبرها على اسمها ؛ لأنها أقوى من ما ؛ لأنها فعل
وما حرف ، والفعل أقوى من الحرف ، ولم يجز تقديم خبرها عليها ؛ لأنها أضعف من كان
؛ لأنها لا تتصرف وكان تتصرف ، وهذا في غاية الوضوح والتحقيق ، والله أعلم.
١٩
مسألة
[القول في العامل في الخبر بعد «ما» النافية النّصب]
ذهب الكوفيون
إلى أن «ما» في لغة أهل الحجاز لا تعمل في الخبر ، وهو منصوب بحذف حرف الخفض. وذهب
البصريون إلى أنها تعمل في الخبر ، وهو منصوب بها.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنها لا تعمل في الخبر ، وذلك لأن القياس في «ما»
أن لا تكون عاملة ألبتة ؛ لأن الحرف إنما يكون عاملا إذا كان مختصا ، كحرف الخفض
لما اختص بالأسماء عمل فيها ، وحرف الجزم لما اختص بالأفعال عمل فيها ، وإذا كان
غير مختص فوجب أن لا يعمل كحرف الاستفهام والعطف ؛ لأنه تارة يدخل على الاسم ، نحو
«ما زيد قائم» وتارة يدخل على الفعل ، نحو «ما يقوم زيد» فلما كانت مشتركة بين
الاسم والفعل وجب أن لا تعمل ؛ ولهذا كانت مهملة غير معملة في لغة بني تميم ، وهو
القياس ، وإنما أعملها أهل الحجاز لأنهم شبّهوها بليس من جهة المعنى ، وهو [٧٧]
شبه ضعيف فلم يقو على العمل في الخبر كما عملت ليس ؛ لأن ليس فعل ، وما حرف ،
والحرف أضعف من الفعل ، فبطل أن يكون منصوبا بما ، ووجب أن يكون منصوبا بحذف حرف
الخفض ؛ لأن الأصل «ما زيد بقائم» فلما حذف حرف الخفض وجب أن يكون منصوبا ؛ لأن
الصّفات منتصبات الأنفس ، فلما ذهبت أبقت خلفا منها ، ولهذا لم يجز النصب إذا قدّم
الخبر ، نحو «ما قائم زيد» أو دخل حرف الاستثناء نحو «ما زيد إلا قائم» لأنه لا
يحسن دخول الباء معهما ؛ فلا يقال «ما بقائم زيد ، وما زيد إلا بقائم» فدل ذلك على
ما قلناه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن «ما» تنصب الخبر وذلك
__________________
أن ما أشبهت ليس ؛ فوجب أن تعمل عمل ليس ، وعمل ليس الرفع والنصب ، ووجه
الشبه بينها وبين ليس من وجهين ؛ أحدهما : أنها تدخل على المبتدأ والخبر ، كما أن
ليس تدخل على المبتدأ والخبر ، والثاني : أنها تنفي ما في الحال ، كما أن ليس تنفي
ما في الحال ، ويقوّي الشبه بينهما من هذين الوجهين دخول الباء في خبرها كما تدخل
في خبر ليس ؛ فإذا ثبت أنها قد أشبهت ليس من هذين الوجهين فوجب أن تجري مجراه ؛
لأنهم يجرون الشيء مجرى الشيء إذا شابهه من وجهين ، ألا ترى أن ما لا ينصرف لما
أشبه الفعل من وجهين أجري مجراه في منع الجر والتنوين ، فكذلك هاهنا : لما أشبهت
ما ليس من وجهين وجب أن تعمل عملها ؛ فوجب أن ترفع الاسم وتنصب الخبر كليس على ما
بيّنا.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن القياس يقتضي أن لا تعمل» قلنا : كان هذا هو
القياس ، إلا أنه وجد بينها وبين ليس مشابهة اقتضت أن تعمل عملها ، وهي لغة القرآن
، قال الله تعالى : (ما هذا بَشَراً) [يوسف : ٣١] وقال تعالى : (ما هُنَّ
أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة : ٢].
قولهم «إن أهل
الحجاز أعملوها لشبه ضعيف ، فلم يقو أن تعمل في الخبر» قلنا : هذا الشبه قد أوجب
لها أن تعمل عملها ، وهي ترفع الاسم وتنصب الخبر ، على أنا قد عملنا بمقتضى هذا
الضعف ؛ فإنه يبطل عملها إذا تقدم خبرها على اسمها ، أو إذا دخل حرف الاستثناء ،
أو إذا فصل بينها وبين معمولها بإن الخفيفة ، ولو لا ذلك الضعف لوجب [٧٨] أن تعمل
في جميع هذه المواضع.
وأما دعواهم أن
الأصل «ما زيد بقائم» فلا نسلم ، وإنما الأصل عدمها ، وإنما أدخلت لوجهين ؛ أحدهما
: أنها أدخلت توكيدا للنفي ، والثاني : ليكون في خبر ما بإزاء اللام في خبر إنّ ؛
لأن ما تنفي ما تثبته إنّ ، فجعلت الباء في خبرها نحو «ما زيد بقائم» لتكون بإزاء
اللام في نحو «إنّ زيدا لقائم» كما جعلت السين جواب لن ، ألا ترى أنك تقول «لن
يفعل» فيكون الجواب «سيفعل» وكذلك جعلت قد جواب لمّا ، ألا ترى أنك تقول «لمّا
يفعل» فيكون الجواب «قد فعل» ولو حذفت لما فقلت «يفعل» لكان الجواب «فعل» من غير
قد ؛ فدل على أن قد جواب لمّا ، فكذلك هاهنا.
وقولهم «إنه لما
حذف حرف الخفض وجب أن يكون منصوبا ؛ لأن الصّفات منتصبات الأنفس ، فلما ذهبت أبقت
خلفا منها» قلنا : هذا فاسد ؛ لأن الباء كانت في نفسها مكسورة غير مفتوحة ، وليس
فيها إعراب ؛ لأن الإعراب لا يقع على حروف المعاني ، ثم لو كان حذف حرف الخفض يوجب
النّصب كما زعموا لكان ذلك يجب في كل موضع يحذف فيه ، ولا خلاف أن كثيرا من
الأسماء تدخلها
حروف الخفض ولا تنتصب بحذفها ، كقولك
«كَفى بِاللهِ شَهِيداً
،
وَكَفى
بِاللهِ نَصِيراً» ولو حذفت حرف الخفض لقلت : كفى الله شهيدا ، وكفى الله
نصيرا ، بالرفع ، كما قال رجل من الأزد :
[٩٦] لمّا
تعيّا بالقلوص ورحلها
|
|
كفى الله
كعبا ما تعيّا به كعب
|
وقال عبد بني
الحسحاس :
[٩٧] عميرة
ودّع إن تجهّزت غاديا
|
|
كفى الشّيب
والإسلام للمرء ناهيا
|
______________________________________________________
[٩٦] لم أعثر
لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، ولا عثرت له على سوابق أو لواحق ، وتعيا ـ بوزن
تقضى وتزكى ـ ومثله تعايا ـ مثل تغاضى وتقاضى ـ وأعيا ـ مثل أهدى وأبقى ـ وتقول :
أعيا عليه الأمر ، وتعيا ، وتعايا ؛ إذا بهظه وأثقله وأعجزه والقلوص ـ بفتح القاف
ـ الناقة ، ومحل الاستشهاد به قوله «كفى الله كعبا» فإن المؤلف قد زعم أن «كفى» في
هذه العبارة هي التي يقترن فاعلها بالباء الزائدة غالبا ، وقد يجيء فاعلها غير
مقترن بالباء كما في هذا البيت والذي يليه ، وهو انتقال نظر من المؤلف ، وبيان ذلك
أن «كفى» على ثلاثة أضرب : الأول : أن يكون بمعنى حسب ، وهذه قاصرة لا تتعدى وهي
التي يغلب اقتران فاعلها بالباء الزائدة ، نحو قوله تعالى : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) والثاني : أن تكون بمعنى وفي فتتعدى إلى اثنين ، ولا
يقترن فاعلها بالباء ، نحو قول الله تعالى : (وَكَفَى اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) ونحو قوله سبحانه : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللهُ) والثالث : أن تكون بمعنى أجزأ وأغنى ، فتتعدى إلى واحد
ولا يقترن فاعلها بالباء الزائدة ، نحو قول الشاعر :
قليل منك
يكفيني ، ولكن
|
|
قليلك لا
يقال له قليل
|
وأنت إذا تأملت
أدنى تأمل تبين لك أن «كفى» في البيت الذي استشهد به المؤلف من الضرب الثاني الذي
تكون فيه بمعنى وفى وتتعدى إلى مفعولين ، وهذه ـ كما قلنا لك ـ لا يقترن فاعلها
بالباء الزائدة لا في الغالب ولا في القليل ، وسبحان الذي تنزه عن السهو والغفلة ،
وانظر ـ بعد ذلك ـ شرح الشاهد ١٠٢ الآتي.
[٩٧] هذا البيت
لسحيم عبد بني الحسحاس ، وهو من شواهد ابن يعيش (ص ١٠٨٦ و ١١٤٨) والأشموني (رقم
٧٣٦ بتحقيقنا) ومغني اللبيب (رقم ١٥٣ بتحقيقنا) وأوضح المسالك لابن هشام (رقم ٣٧٩)
وعميرة : اسم امرأة ، وتجهزت : أي اتخذت جهاز سفرك وأعددته وهيأته ، وغاديا : اسم
فاعل فعله غدا يغدو غدوا ـ مثل سما يسمو سموا ـ وذلك إذا سار في وقت الغداة ،
والغداة ـ ومثلها الغدوة ـ الوقت من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، ويروى في مكانه «غازيا»
وقوله «كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا» يروى أن عمر بن الخطاب سمع هذا البيت فقال
: لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك ، والاستشهاد بهذا البيت في قوله «كفى الشيب»
حيث أسقط الباء من فاعل «كفى» التي هي فعل قاصر لا يتعدى إلى مفعول وتدل على معنى
حسب ، وسقوطها في هذه العبارة يدل على أن الباء ليست واجبة في فاعل هذا الفعل ،
بخلاف اقتران الباء بفاعل «أفعل» في التعجب نحو «أكرم بزيد ، وأعظم به» فإنها
لازمة لا يجوز سقوطها.
وقال الآخر :
[٩٨] أعان
عليّ الدّهر إذ حلّ بركه
|
|
كفى الدّهر
لو وكّلته بي كافيا
|
وكذلك قالوا «بحسبك
زيد ، وما جاءني من أحد» وقال الشاعر :
[٩٩] بحسبك
أن قد سدت أخزم كلّها
|
|
لكلّ أناس
سادة ودعائم
|
وقال الآخر :
[١٠٠]بحسبك
في القوم أن يعلموا
|
|
بأنّك فيهم
غنيّ مضرّ
|
______________________________________________________
[٩٨] لم أعثر
لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وأعان عليّ الدهر : كان معه ينصره ويناوئني
، وأصل البرك ـ بفتح الباء وسكون الراء ـ الإبل الكثيرة ، أو الباركة ، ومنه قول
متمم بن نويرة :
إذا شارف
منهن قامت ورجعت
|
|
حنينا فأبكى
شجوها البرك أجمعا
|
والاستشهاد
بالبيت في قوله «كفى الدهر كافيا» حيث جاء بفاعل كفى التي بمعنى حسب غير مقترن
بالباء الزائدة على نحو ما أوضحناه لك في البيتين السابقين.
[٩٩] هذا البيت
ثالث أربعة أبيات رواها أبو تمام في ديوان الحماسة ، ولم يعزها ولا عزاها التبريزي
ولا المرزوقي في شرحيهما ، وحسبك : أي كافيك ومجزئك ومغنيك ، وسدت : فعل ماض من
السيادة ، وهي الرياسة ، وأخزم : رهط حاتم ، قال المرزوقي (ص ١٤٦٨) : «والمعنى :
كافيك أن ترأست على أخزم ـ وأخزم رهط حاتم ـ ثم أزرى برياسته وبهم فقال : ولكل
طائفة من الناس رؤساء وعمد ، وهذا يجري مجرى الإلتفات ، كأنه بعد ما قال ذلك التفت
إلى من حوله يؤنسهم ويقول : ليس ذا بمنكر فلكل قوم من يسوسهم ويدعمهم» اه.
والاستشهاد بالبيت في قوله «بحسبك» حيث زيدت الباء في المبتدأ الذي هو حسب الذي
بمعنى كافيك ، وخبره هو المصدر المؤول من أن المخففة وما وليها ، وكأنه قال : كافيك
سيادتك أخزم كلها ، والباء لا تزاد في المبتدأ إلا أن يكون المبتدأ هو لفظ حسب ،
ولهذا البيت نظائر كثيرة في النثر ، والنظم ، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسّلام «بحسب
المرء إذا رأى منكرا لا يستطيع له تغييرا أن يعلم الله أنه له منكر» وقوله «بحسب
امرىء من الإيمان أن يقول : رضيت بالله ربا ، وبمحمد رسولا ، وبالإسلام دينا»
وقوله صلوات الله عليه : «بحسب امرىء من الشر أن يشار إليه بالأصابع في دين أو
دنيا إلا من عصمه الله» وفي مثل من أمثال العرب «بحسبها أن تمتذق رعاؤها».
[١٠٠] هذا
البيت من كلام الأشعر الرقبان الأسدي ـ وهو أحد شعراء الجاهلية ـ يهجو ابن عمه
واسمه رضوان ، وقد رواه ثاني أربعة أبيات ابن منظور في لسان العرب (ض ر ر) وأنشده
ابن يعيش (ص ١٠٨٦ و ١١٩٠) وأنشده الميداني في مجمع الأمثال (١ / ٦٦ بتحقيقنا)
والمضر ـ بضم الميم وكسر الضاد ـ الذي يروح عليه ضرة من المال ، والضرة ـ بفتح الضاد
وتشديد الراء ـ الكثير من المال ، وقيل : هو الكثير من الماشية خاصة ، والاستشهاد
بالبيت في قوله «بحسبك أن يعلموا» ومعناه كافيك علم القوم ، وذلك حيث زاد الباء في
[٧٩] وقال
الآخر :
[١٠١] وقفت
فيها أصيلانا أسائلها
|
|
أعيت جوابا ،
وما بالرّبع من أحد
|
وقال الآخر :
[١٠٢] ألا هل
أتاها والحوادث جمّة
|
|
بأنّ امرأ
القيس بن تملك بيقرا
|
______________________________________________________
المبتدأ الذي
هو لفظ حسب ، على نحو ما ذكرناه في الشاهد السابق ، وانظر في هذا الموضوع بحثا
وافيا لنا في شرحنا على شرح الأشموني (١ / ٢٣٧).
[١٠١] هذا
البيت من كلام النابغة الذبياني من قصيدته التي مطلعها :
يا دارمية
بالعلياء فالسند
|
|
أقوت وطال
عليها سالف الأمد
|
وقوله «وقفت
فيها أصيلانا» الأصيلان : تصغير الأصلان الذي هو جمع أصيل ، والأصيل : هو الوقت
قريب غروب الشمس ، ويروى في مكان هذا «وقفت فيها أصيلاكي أسائلها» كما يروى «وقفت
فيها طويلا» وقوله «أعيت جوابا» يروى في مكانه «عيت جوابا» بتضعيف الياء ، والمراد
على كل حال أنها عجزت عن الجواب ولم تجب عما سألها عنه ، والربع : الدار ، أو هو
خاص بما ينزل فيه القوم أيام الربيع ، والاستشهاد بالبيت في قوله «وما بالربع من
أحد» فإن هذه جملة من مبتدأ وخبر ، أما الخبر فهو الجار والمجرور المقدم الذي هو
قوله «بالربع» وأما المبتدأ فهو قوله «أحد» وقد أدخل على هذا المبتدأ من الزائدة ،
ونظير ذلك قول الله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) وقوله جلت كلمته : (فَهَلْ لَنا مِنْ
شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) وقول وجيهة بنت أوس الضبية :
وما لي إن
أحببت أرض عشيرتي
|
|
وأبغضت طرفاء
القصيبة من ذنب
|
فإن قولها «ذنب»
في آخر البيت مبتدأ دخلت عليه «من» الزائدة ، وخبره هو الجار والمجرور في أول
البيت الذي هو قولها «لي» ونظير ذلك قول شاعر الحماسة :
وما لي من
ذنب إليهم علمته
|
|
سوى أنني قد
قلت : يا سرحة اسلمي
|
و «من» تزاد
على المبتدأ بشرطين : الأول : أن يكون المبتدأ نكرة ، والثاني : أن يتقدم عليها
نفي أو استفهام بهل خاصة ، وهذان الشرطان مستكملان فيما ذكرنا لك من الشواهد ،
وانظر بحثا مستفيضا لنا في شرحنا على شرح الأشموني (١ / ٢٤٠).
[١٠٢] قد
استشهد بهذا البيت الزمخشري في المفصل وابن يعيش في شرحه (ص ١٠٨٦) والرضي في شرح
الكافية ، وشرحه البغدادي (٤ / ١٦١) وابن جني في شرح تصريف المازني (١ / ٨٤) وابن
منظور في لسان العرب (ب ق ر) وكل واحد منهم نسبه إلى امرىء القيس ، وقد راجعت نسخ
ديوان امرىء القيس بن حجر الكندي برواية الأصمعي وشرح الأعلم الشنتمري فلم أجد هذا
البيت في قصيدته التي مطلعها :
سما لك شوق
بعد ما كان أقصرا
|
|
وحلت سليمي
بطن قوفعرعرا
|
ولكنني وجدته
في زياداته التي زادها الطوسي والسكري وابن النحاس في هذه القصيدة ، وقوله «بيقرا»
مأخوذ من قولهم «بيقر الرجل» إذا هاجر من أرض إلى أرض ، أو خرج إلى حيث لا يدري ،
أو نزل الحضر وأقام هناك وترك قومه بالبادية ، وخص بعضهم به العراق ـ
وإذا حذفوا حرف
الخفض قالوا «حسبك زيد ، وما جاءني أحد» بالرفع لا غير ، وكذلك جميع ما جاء من هذا
النحو ، ولو كان كما زعموا لوجب أن يكون منصوبا ؛ فلما وقع الإجماع على وجوب الرفع
دلّ على فساد ما ادّعوه ، والله أعلم.
______________________________________________________
قاله ابن منظور
، وفي شرح المفصل «وقيل : إذا ذهب إلى الشام» اه ، وقال ابن منظور بعد أن ذكر هذه
المعاني كلها «وقول امرىء القيس يحتمل جميع ذلك» اه. والاستشهاد بالبيت في قوله «بأن
امرأ القيس ـ الخ» فإن المصدر المنسبك من أن المؤكدة واسمها وخبرها في موضع رفع
على أنه فاعل أتى في قوله «أتاها» وقد زاد الباء في هذا الفاعل وزيادة الباء في
الفاعل على ثلاثة أضرب : الأول : زيادة واجبة ، وذلك في فاعل أفعل في التعجب نحو
أجمل بكرم الأخلاق ، والثاني : زيادة غالبة ، وذلك في فاعل كفى القاصر الذي بمعنى
حسب ، وقد أوضحنا ذلك في شرح الشاهد رقم ٩٦ ، والثالث : زيادة شاذة كما في الشاهد
الذي نحن بصدد شرحه وكما في قول قيس بن زهير العبسي وهو الشاهد رقم ١٧ السابق :
ألم يأتيك
والأنباء تنمي
|
|
بما لاقت
لبون بني زياد
|
٢٠
مسألة
[القول في تقديم معمول خبر «ما» النافية عليها]
ذهب الكوفيون
إلى أنه يجوز «طعامك ما زيد آكلا». وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز. وذهب أبو
العباس أحمد بن يحيى ثعلب من الكوفيين إلى أنه جائز من وجه فاسد من وجه ؛ فإن كانت
«ما» ردا لخبر كانت بمنزلة لم ولا يجوز التقديم ، كما تقول لمن قال في الخبر «زيدا
آكل طعامك» فتردّ عليه نافيا «ما زيد آكلا طعامك» فمن هذا الوجه يجوز التقديم ؛
فتقول «طعامك ما زيد آكلا» فإن كان جوابا للقسم إذا قال «والله ما زيد بآكل طعامك»
كانت بمنزلة اللام في جواب القسم ؛ فلا يجوز التقديم.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما جوزنا ذلك لأن ما بمنزلة لم ولن ولا ؛ لأنها نافية كما
أنها نافية ، وهذه الأحرف يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها ، نحو «زيدا لم أضرب ،
وعمرا لن أكرم ، وبشرا لا أخرج» فإذا جاز التقديم مع هذه الأحرف فكذلك مع ما.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن «ما» معناها النفي ، ويليها
الاسم والفعل ؛ فأشبهت حرف الاستفهام ، وحرف الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله
، فكذلك هاهنا : «ما» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن ما بمنزلة لم ولن ولا» قلنا [٨٠] لا نسلم ؛ لأن «ما»
يليها الاسم والفعل ، وأما لم ولن فلا يليهما إلا الفعل ؛ فصارا بمنزلة بعض الفعل
، بخلاف ما فإنها يليها الاسم والفعل ، وأما لا فإنما جاز التقديم معها ـ وإن كانت
يليها الاسم والفعل ـ لأنها حرف متصرف فعمل ما قبله فيما بعده ، ألا ترى أنك تقول
: «جئت بلا شيء» فيعمل ما قبله فيما بعده ؛ فإذا جاز أن يعمل ما قبله فيما بعده
جاز أن يعمل ما بعده فيما قبله ، فبان الفرق بينهما.
وأما ما ذكره
أبو العباس ثعلب من التفصيل ـ من أنه إذا كانت ردا لخبر جاز التقديم ، وإن كانت
جوابا للقسم لم يجز ـ ففاسد ؛ لأن ما في كلا القسمين نافية ؛ فينبغي أن لا يجوز
التقديم فيهما جميعا ؛ لما بيّنا ، والله أعلم.
٢١
مسألة
[القول في تقديم معمول الفعل المقصور عليه]
ذهب الكوفيون
إلى أنه لا يجوز «ما طعامك أكل إلا زيد».
وذهب البصريون
إلى أنه يجوز ، وإليه ذهب أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب من الكوفيين.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأن الأصل في «زيد» أن لا يكون هو الفاعل ،
وإنما الفاعل في الأصل محذوف قبل إلّا ؛ لأن التقدير فيه : ما أكل أحد طعامك إلا
زيد ، والذي يدل على ذلك قولهم «ما خرج إلا هند ، وما ذهب إلا دعد» ولو كان الفعل
لدعد وهند في الحقيقة لأثبتوا فيه علامة التأنيث ؛ لأن الفاعل مؤنث حقيقي ، فلما
لم يثبتوا في الفعل علامة دل على أن الفاعل هو «أحد» المحذوف ، ويدل عليه أيضا أن «إلا»
بابها الاستثناء ، والاستثناء يجب أن يكون من الجملة ، ولا بد أن يقدر قبلها ما
يصحّ أن يكون الذي بعدها مستثنى منه ؛ فوجب أن يكون التقدير : ما أكل أحد طعامك
إلا زيد ، إلا أنه اكتفى بالفعل من «أحد» فصار بمنزلته ، والاسم لا يتقدم صلته
عليه ، ولا يفرق بينها وبينه ، فكذلك الفعل الذي قام مقامه.
وأما البصريون
فاحتجّوا بأن قالوا : إنما جوّزنا ذلك لأن «زيد» مرفوع بالفعل ، والفعل متصرف ؛
فجاز تقديم معموله عليه كقولهم «عمرا ضرب زيد» [٨١] وكذلك سائر الأفعال المتصرفة.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن الأصل ألا يكون زيد هو الفاعل ؛ لأن التقدير ؛ ما
أكل أحد طعامك إلا زيد» قلنا : لا نسلم أن «أحدا» مقدّر من جهة اللفظ ، وإنما هو
مقدر من جهة المعنى ، كما أن المعنى يدل على أن
__________________
«عرقا» في قولهم «تصبّب زيد عرقا» فاعل معنى ، وإن لم يكن فاعلا لفظا ،
ولهذا لم تثبت علامة التأنيث في قولهم «ما خرج إلا هند ، وما ذهب إلا دعد» وما
أشبه ذلك ، على أنه قد حذف علامة التأنيث الحقيقي مع الفصل في قولهم «حضر القاضي
اليوم امرأة» وقال الشاعر :
[١٠٣] إنّ
امرأ غرّه منكنّ واحدة
|
|
بعدي وبعدك
في الدّنيا لمغرور
|
وقال الآخر :
[١٠٤] لقد
ولد الأخيطل أمّ سوء
|
|
على قمع
استها صلب وشام
|
فقال «ولد» ولم
يقل «ولدت».
وأما قولهم «إنه
اكتفى بالفعل من أحد» قلنا : لا نسلّم أن الفعل اكتفى به من الاسم ؛ لأن الفعل لا
بدّ له من فاعل ، وإنما الاسم بعد «إلا» قام مقامه واكتفى به منه ؛ لأنه لما حذف
المستثنى منه قبل «إلا» قام ما بعد «إلا» حين حذفته مقامه ، كما يقوم المفعول مقام
الفاعل إذا حذف نحو «ضرب زيد ، وأعطي عمرو درهما ،
______________________________________________________
[١٠٣] هذا
البيت من شواهد الأشموني (رقم ٣٦٥) وقد استشهد به ابن الناظم في باب الفاعل من
شرحه على ألفية والده ابن مالك ، وابن هشام في شرح شذور الذهب (رقم ٧٩) وقد ذكر
العيني أنه من شواهد سيبويه ، ولكني بحثت كتاب سيبويه من أوله إلى آخره فلم أجده
فيه. والاستشهاد بهذا البيت في قوله «غره واحدة» حيث لم يصل تاء التأنيث بالفعل
الذي هو «غره» مع أن فاعله ـ وهو قوله «واحدة» ـ مؤنث حقيقي التأنيث ؛ فإنه في
الأصل صفة لموصوف محذوف ، وتقدير الكلام : غره منكن امرأة واحدة ، والأصل في
الفاعل الحقيقي التأنيث أن تلزم في فعله التاء ، والذي جرأ هذا الشاعر على حذف
التاء هو الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول الذي هو الضمير المتصل وبالجار والمجرور
ـ وهو قوله «منكن» ـ وهذا مما يجيزه جماعة من النحاة منهم ابن مالك الذي يقول في
الألفية :
وقد يبيح
الفصل ترك التاء في
|
|
نحو «أتى
القاضي بنت الواقف»
|
[١٠٤] هذا البيت من قصيدة طويلة
لجرير بن عطية بن الخطفي يهجو فيها الأخطل التغلبي وقومه ، وهو من شواهد الأشموني (رقم
٣٦٤) وأوضح المسالك (رقم ٢١٣) والأخيطل :
تصغير الأخطل ،
وأصل الأخطل وصف بمعنى الفحاش الكثير الخطل ، ثم لقب به الشاعر المشهور ؛ وقوله «على
قمع استها» يروى في مكانه «على باب استها» والصلب ـ بضم الصاد واللام جميعا ـ جمع
صليب ، ووزانه وزان سرير وسرر «وشام» جمع شامة ، وهي العلامة ، والاستشهاد به في
قوله «ولد الأخيطل أم سوء» فإن هذه جملة من فعل ماض هو «ولد» وفاعل مؤنث وهو «أم»
ولم يصل به تاء التأنيث ، وقد علم أن الفعل الذي يسند إلى فاعل مؤنث حقيقي التأنيث
يجب أن يؤنث لفظ الفعل بأن توصل به التاء التي للتأنيث إذا كان ماضيا ، لكنه ترك
التاء في هذه الجملة لكون الفعل قد فصل بينه وبين فاعله بالمفعول الذي هو قوله «الأخيطل»
وقد بيّنا مثل ذلك في الشاهد السابق.
وكسي عمرو قميصا» وما أشبه ذلك ، وهذا لا يوجب أن يجري الفعل مجرى الاسم في
امتناع تقديم معموله عليه ، ألا ترى أنك تقول : «درهما أعطي زيد ، وقميصا كسي عمرو».
ثم لو سلمنا أن
الأمر على ما زعمتم فالفعل إنما جاز تقديم معموله عليه لتصرفه في نفسه ، وهذا
المعنى الذي ادعيتموه لم يوجب تغير الفعل عن تصرفه في نفسه ؛ فينبغي أن يجوز تقديم
معموله عليه كسائر الأفعال المتصرفة ، والله أعلم.
٢٢
مسألة
[القول في رافع الخبر بعد «إنّ» المؤكدة]
ذهب الكوفيون
إلى أن «إنّ» وأخواتها لا ترفع الخبر ، نحو «إنّ زيدا قائم» وما أشبه ذلك. وذهب
البصريون إلى أنها ترفع الخبر.
أما الكوفيون
[٨٢] فاحتجوا بأن قالوا : أجمعنا على أن الأصل في هذه الأحرف أن لا تنصب الاسم ،
وإنما نصبته لأنها أشبهت الفعل ؛ فإذا كانت إنما عملت لأنها أشبهت الفعل فهي فرع
عليه ، وإذا كانت فرعا عليه فهي أضعف منه ؛ لأن الفرع أبدا يكون أضعف من الأصل ؛
فينبغي أن لا يعمل في الخبر ، جريا على القياس في حطّ الفروع عن الأصول ؛ لأنا لو
أعملناه عمله لأدّى ذلك إلى التسوية بينهما ، وذلك لا يجوز ؛ فوجب أن يكون باقيا
على رفعه قبل دخولها. والذي يدلّ على ضعف عملها أنه يدخل على الخبر ما يدخل على
الفعل لو ابتدىء به ، قال الشاعر :
[١٠٥] لا
تتركنّي فيهم شطيرا
|
|
إنّي إذن
أهلك أو أطيرا
|
______________________________________________________
[١٠٥] لم أعثر
لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وقد أنشده ابن منظور (ش ط ر) ولم يعزه ،
وأنشده الرضي في شرح الكافية في نواصب المضارع ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ /
٥٧٤) والأشموني (رقم ١٠١٣) وابن هشام في المغني (رقم ٢١) وفي أوضح المسالك (رقم
٤٩٦). والشطير ـ بفتح الشين ـ مثل الغريب والبعيد في الوزن وفي المعنى ، وأهلك :
معناه أموت ، وأطير : معناه الأصلي أذهب بعيدا ، أو أحلق في الجو. والاستشهاد به
في قوله «إني إذن أهلك» حيث نصب الفعل المضارع الذي هو قوله «أهلك» بعد إذن الذي
هو حرف جواب ، مع أن إذن في ظاهر اللفظ غير واقعة في صدر الكلام ، بل هي مسبوقة
بإني ، وقد أخذ جماعة من النحاة بظاهر اللفظ وحكموا بأن جملة «إذن أهلك» في محل
رفع خبر إن ، وقالوا : إن نصب المضارع بعد إذن هنا ضرورة من
__________________
فنصب ب «إذن».
والذي يدلّ على
ذلك أيضا أنه إذا اعترض عليها بأدنى شيء بطل عملها واكتفي به ، كقولهم «إنّ بك
يكفل زيد» كأنها رضيت بالصفة لضعفها ، وقد روي أن ناسا قالوا : «إنّ بك زيد مأخوذ»
فلم تعمل «إنّ» لضعفها ؛ فدلّ على ما قلناه.
وأما البصريون
فاحتجّوا بأن قالوا : إنما قلنا إن هذه الأحرف تعمل في الخبر ، وذلك لأنها قويت
مشابهتها للفعل ؛ لأنها أشبهته لفظا ومعنى ، ووجه المشابهة بينهما من خمسة أوجه ؛
الأول : أنها على وزن الفعل ، والثاني : أنها مبنيّة على الفتح كما أن الفعل
الماضى مبنيّ على الفتح ، والثالث : أنها تقتضي الاسم كما أن الفعل يقتضي الاسم ،
والرابع : أنها تدخلها نون الوقاية نحو «إنني ، وكأنني» كما تدخل على الفعل نحو «أعطاني
، وأكرمني» وما أشبه ذلك ، والخامس : أن فيها معنى الفعل ؛ فمعنى «إنّ ، وأنّ»
حقّقت ، ومعنى «كأن» شبّهت ، ومعنى «لكن» استدركت ، ومعنى «ليت» تمنّيت ، ومعنى «لعل»
ترجّيت ، فلما أشبهت الفعل من هذه الأوجه وجب أن تعمل عمل الفعل ، والفعل يكون له
مرفوع ومنصوب ، فكذلك هذه الأحرف ينبغي أن يكون لها مرفوع ومنصوب ؛ ليكون المرفوع
مشبها بالفاعل والمنصوب مشبها بالمفعول ، إلا أن المنصوب هاهنا قدّم على المرفوع
لأن عمل «إنّ» فرع ، وتقديم المنصوب على المرفوع فرع ؛ فألزموا الفرع الفرع ، أو
لأن هذه الحروف لما أشبهت الفعل لفظا ومعنى ألزموا فيها تقديم المنصوب على المرفوع
ليعلم أنها حروف أشبهت الأفعال ، وليست أفعالا ، وعدم التصرف فيها لا يدل [٨٣] على
الحرفية ؛ لأن لنا أفعالا لا تتصرف ؛ نحو «نعم ، وبئس ، وعسى ، وليس ، وفعل التعجب
، وحبّذا».
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن هذه الأحرف إنما نصبت لشبه الفعل ؛ فينبغي أن لا
تعمل في الخبر ؛ لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع» قلنا : هذا يبطل باسم
الفاعل ؛ فإنه إنما عمل لشبه الفعل ، ومع هذا فإنه
______________________________________________________
ضرورات الشعر ،
فأما المحققون من النحاة فقد أجروا نصب المضارع في هذا البيت على القياس ، وذكروا
أن شرط النصب متحقق ، وأن «إذن» واقعة في صدر الجملة ، وبيان ذلك أن خبر إن محذوف
، وأن جملة «إذن أهلك» مستأنفة وتقدير الكلام : إني لا أستطيع ذلك إذن أهلك أو
أطيرا ، وقد ذكر الفراء في عدة مواضع من تفسيره أن «إذن» إذا وقعت بعد «إن» ووقع
بعدها مضارع جاز في هذا المضارع الرفع والنصب ، وأن كل واحد منهما لغة من لغات
العرب ، وأن ذلك مختص بوقوعها بعد إن ، وقد ذكر المؤلف في رده تقدير خبر إن
محذوفا.
يعمل عمله ، ويكون له مرفوع ومنصوب كالفعل ، تقول : زيد ضارب أبوه عمرا ،
كما تقول : يضرب أبوه عمرا.
والذي يدل على
فساد ما ادعيتموه من ضعف عملها أنها تعمل في الاسم إذا فصلت بينها وبينه بظرف أو
حرف جر ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا
أَنْكالاً) [المزمل : ١٢] و (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً) [البقرة : ٢٤٨] وما أشبه ذلك ، على أنا قد عملنا بمقتضى كونها فرعا ، فإنا
ألزمناها طريقة واحدة ، وأوجبنا فيها تقديم المنصوب على المرفوع ، ولم نجوّز فيها
الوجهين كما جوزنا مع الفعل ؛ لئلا يجري مجرى الفعل فيسوّى بين الأصل والفرع ،
وكان تقديم المنصوب أولى ليفرق بينها وبين الفعل ؛ لأن الأصل أن يذكر الفاعل عقيب
الفعل قبل ذكر المفعول ، فلما قدّم هاهنا المنصوب وأخر المرفوع حصلت مخالفة هذه
الأحرف للفعل وانحطاطها عن رتبته.
وقولهم «إن
الخبر يكون باقيا على رفعه قبل دخولها» فاسد ، وذلك لأن الخبر على قولهم مرفوع
بالمبتدأ ، كما أن المبتدأ مرفوع به ؛ فهما يترافعان ، ولا خلاف أن الترافع قد زال
بدخول هذه الأحرف على المبتدأ ونصبها إياه ؛ فلو قلنا «إنه مرفوع بما كان يرتفع به
قبل دخولها مع زواله» لكان ذلك يؤدي إلى أن يرتفع الخبر بغير عامل ، وذلك محال.
وأما قولهم «الدليل
على ضعف عملها أنه يدخل على الخبر ما يدخل على الفعل لو ابتدىء به كقول الشاعر :
* إنّي إذن أهلك أو أطيرا*» [١٠٥]
قلنا : الجواب
عن هذا من ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أن هذا شاذ ؛ فلا يكون فيه حجة ، والثاني : أن
الخبر هاهنا محذوف ، كأنه قال : لا تتركني فيهم غريبا بعيدا ، إني أذلّ ، إذن أهلك
أو أطيرا ، وحذف الفعل الذي هو الخبر ؛ لأن في الثاني دلالة على الأول المحذوف ،
فإذن ما دخلت على الخبر ، والثالث : أن يكون جعل [٨٤] «إذن أهلك أو أطيرا» في موضع
الخبر ، كقولك «إنّي لن أذهب» فشبّه إذن بلن ، وإن كانت لن لا يلغى في حال بخلاف
إذن.
وأما قولهم «إن
بك يكفل زيد ، وإن بك زيد مأخوذ» فالتقدير فيه : إنه بك يكفل زيد ، وإنه بك زيد
مأخوذ ، كما قال الراعي :
[١٠٦] فلو
أنّ حقّ اليوم منكم إقامة
|
|
وإن كان سرح
قد مضى فتسرّعا
|
______________________________________________________
[١٠٦] هذا
البيت للراعي كما قال المؤلف ، وقد أنشده سيبويه (١ / ٤٣٩) وكذلك أنشده ابن منظور (س
ر ح) وأنشده البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٨١) نقلا عن ابن عصفور في كتاب
أراد فلو أنه
حقّ ، ولو لم يرد الهاء لكان الكلام محالا ، وقال الأعشى :
[١٠٧] إنّ من
لام في بني بنت حسّا
|
|
ن ألمه وأعصه
في الخطوب
|
______________________________________________________
الضرائر ، و «لو»
ههنا للتمني ، وحق : أي ثبت ، و «سرح» في هذا البيت اسم رجل ، والاستشهاد بالبيت
في قوله «ولو أن حق اليوم منكم» حيث وقع الفعل الماضي ـ الذي هو قوله «حق» ـ بعد
إن المؤكدة الناصبة للاسم الرافعة للخبر ، في ظاهر اللفظ ، ولو أبقى الكلام على
ظاهره لكان كلاما فاسدا ؛ لأن «إن» المشددة وأخواتها مختصة بالدخول على الجمل
الإسمية وأن تعمل فيها النصب والرفع ، إلا إذا اقترنت بهن «ما» فإن اقترنت بهن «ما»
جاز دخولها على الجمل الفعلية. ولم تقترن «ما» بإن في هذا البيت ، فوجب أن يكون
ثمة محذوف يقدر دخول إن عليه لكي يصح الكلام ، وقد قدر بعض العلماء أن المحذوف في
هذا البيت ضمير الشأن والقصة ، وعلى هذا يكون تقدير الكلام : ولو أنه (أي الحال
والشأن) حق اليوم منكم إقامة ، فيكون اسم إن هو هذا الضمير وخبرها هو الجملة
الفعلية ، وقدره جماعة آخرون ضمير خطاب ، وعلى هذا يكون أصل الكلام : ولو أنكم حق
اليوم منكم إقامة ، والعلماء يجعلون التقدير الثاني خيرا من التقدير الأول.
ونظير هذا
البيت قول الشاعر ، وهو من شواهد الرضي :
كأن على
عرنينه وجبينه
|
|
أقام شعاع
الشمس أو طلع البدر
|
أراد كأنه (أي
الحال والشأن) أقام على عرنينه وجبينه شعاع الشمس ، ومثلهما قول الآخر :
فلا تشتم
المولى وتبلغ أذاته
|
|
فإن به تثأى
الأمور وترأب
|
أراد فإنه (أي
الحال والشأن) تثأى به الأمور ـ أي تصلح ـ وترأب ، ونظير ذلك البيتان الآتيان
برقمي ١١٠ و ١١١.
[١٠٧] هذا
البيت من كلام الأعشى ميمون بن قيس من قصيدة يمدح فيها أبا الأشعث بن قيس الكندي ،
وهو من شواهد سيبويه (١ / ٤٣٩) وشواهد الرضي في شرح الكافية ، وقد شرحه البغدادي
في الخزانة (٣ / ٤٦٣) وشواهد ابن يعيش في شرح المفصل (ص ٤٣٥ أوربة) وحسان : أحد
تبابعة اليمن ، والاستشهاد بالبيت في قوله «إن من لام ـ الخ» فإن «من» التي دخلت
عليها «إن» في هذا البيت شرطية تطلب فعلين أحدهما فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه
؛ والدليل على أنها شرطية أن الجواب الذي هو قوله «ألمه» وما عطف عليه مجزومان ،
ومن المعلوم أن أسماء الشرط لها صدر الكلام ، نعني أنه لا يجوز أن تقع إلا في أول
الجملة التي هي منها ، وعلى هذا لا يجوز أن تكون «من» هذه اسما لأن ، وقد خرج
العلماء هذا الكلام على تقدير ضمير الشأن والحال ، وعلى أن يكون هذا الضمير المقدر
هو اسم إن ، وتكون «من» الشرطية مبتدأ ، وخبره هو جملة الشرط وحدها أو جملة الجواب
وحدها أو الجملتان معا ، ونحن نرجح الثالث ، وجملة المبتدأ والخبر في محل رفع خبر
إن.
ونظير هذا
البيت قول الأخطل التغلبي :
إن من يدخل
الكنيسة يوما
|
|
يلق فيها
جآذرا وظباء
|
والتقدير فيه :
إنه (أي الحال والشأن) من يدخل الكنيسة ـ الخ. ـ
وقال أميّة بن
أبي الصّلت :
[١٠٨] ولكنّ
من لا يلق أمرا ينوبه
|
|
بعدّته ينزل
به وهو أعزل
|
وقال الآخر :
[١٠٩] فلو
كنت ضبّيّا عرفت قرابتي
|
|
ولكنّ زنجيّ
عظيم المشافر
|
______________________________________________________
هذا وبيت
الأعشى يروى :
* من يلمني على بني بنت حسان*
وهذا هو
الموجود في ديوانه ، وعلى هذا لا يكون في البيت شاهد لما جاء به المؤلف من أجله.
[١٠٨] هذا
البيت كما قال المؤلف لأمية بن أبي الصلت ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٤٣٩) وينوبه
: مضارع نابه الأمر ، أي نزل به ، والأعزل : الذي ليس معه سلاح. يقول : من لم يتخذ
لنوازل الدهر العدة قبل أن تنزل به ، فإنها ستدهمه وتنزل به في الوقت الذي لا يكون
معه من عدد الدفاع شيء فلا ينجو منها ، يرغب في أن يتبصر الإنسان العواقب ويهيّئ
نفسه لملاقاة المصاعب وهو قادر على حلها. والاستشهاد بالبيت في قوله «ولكن من لا
يلق أمرا ـ الخ» فإن «من» في هذا الكلام شرطية ، بدليل أنها جزمت الشرط الذي هو
قوله «يلق» بحذف الألف وجزمت الجواب الذي هو قوله «ينزل به» بالسكون ، وقد علمنا
أن أسماء الشرط لا يعمل فيها ما قبلها ، نعني أنها لا بدّ أن تتصدر جملتها فلا
يتقدم عليها شيء من جملتها ولا العامل فيها ، وقد تقدم على «من» الشرطية في هذا
البيت «لكن» ومن أجل هذا قال العلماء : إن اسم لكن في هذا البيت ضمير الشأن محذوفا
، وإن «من» مبتدأ خبره ما بعده على ما بيّناه في شرح الشاهد السابق ، وجملة
المبتدأ والخبر في محل رفع خبر لكن ، وعلى هذا تكون «من» واقعة في صدر جملتها نظير
ما ذكرناه في الشاهد ١٠٧.
[١٠٩] هذا
البيت من كلام الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة ، وقد أنشده ابن منظور (ش ف ر)
وسيبويه (١ / ٢٨٢) ورضي الدين في باب إن وأخواتها من شرح الكافية ، وهو باب الحروف
المشبهة بالفعل ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٧٨) ورواه ابن يعيش في شرح
المفصل (ص ١١٣٨) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٤٨٦) وكلهم يروي قافيته على الوجه
الذي رواها المؤلف عليه ، والصواب في إنشاده :
فلو كنت ضبيا
عرفت قرابتي
|
|
ولكن زنجيا
غلاظا مشافره
|
والمشفر ـ بوزن
المنبر أو المقعد ـ للبعير مثل الشفة للإنسان ، والاستشهاد بالبيت على الرواية
التي ذكرها النحاة في قوله «ولكن زنجي» حيث حذف اسم لكن ، وهو غير ضمير الشأن ،
والتقدير : ولكنك زنجي غليظ المشافر ، وحذف اسم لكن وأخواتها لا يجوز إلا أن يكون
هذا الاسم ضمير الشأن ، والاسم المقدر في هذا البيت ضمير المخاطب على ما عرفت ،
ولهذا رأى العلماء أن الحذف في هذا البيت ضرورة ، وقد رواه ابن منظور «ولكن زنجيا»
بالنصب فيكون المحذوف هو خبر لكن ، والتقدير : ولكن زنجيا عظيم المشافر لا
وقال الآخر :
[١١٠] فليت
دفعت الهمّ عنّي ساعة
|
|
فبتنا على ما
خيّلت ناعمي بال
|
______________________________________________________
يعرف قرابتي ،
قال الأعلم : «الشاهد فيه رفع زنجي على الخبر ، وحذف اسم لكن ضرورة ، والتقدير :
ولكنك زنجي ، ويجوز نصب زنجي بلكن على إضمار الخبر ، وهو أقيس ، والتقدير : ولكن
زنجيا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي» اه كلامه.
ونظير هذا
البيت ما أنشده سيبويه :
فما كنت
ضفاطا ، ولكن طالبا
|
|
أناخ قليلا
فوق ظهر سبيل
|
والضفاط : الذي
يقضي حاجته من جوفه ، وهو أيضا المسافر على الحمير من قرية إلى قرية ، والطالب :
الذي يطلب الإبل الضالة ، كأنه نزل عن راحلته لأمر فظن قوم أنه يقضي حاجته ، فقال
ذلك. والاستشهاد به في قوله «ولكن طالبا» حيث حذف خبر لكن وذكر اسمها ، وتقدير
الكلام : ولكن طالبا أناخ قليلا أنا ، قال سيبويه «النصب أجود ؛ لأنه لو أراد
إضمارا لخفف ولجعل المضمر مبتدأ ، كقولك : ما أنت صالحا ، ولكن طالح» اه ، والكلام
واضح إن شاء الله.
ومثل هذا البيت
قول الآخر وهو من شواهد الأشموني (رقم ١٤١) :
فأما القتال
لا قتال لديكم
|
|
ولكن سيرا في
عراض المواكب
|
التقدير : ولكن
سيرا في عراض المواكب لكم ، مثلا ، ومن العلماء من يجعل التقدير : ولكنكم تسيرون
سيرا في عراض المواكب ، ولا داعي له ؛ لأنه يلزم عليه تكثير المحذوف ، ومتى أمكن
تقليل المحذوف كان هو الأمثل ، ومثله قول الآخر :
فأما الصدور
لا صدور لجعفر
|
|
ولكن أعجازا
شديدا صريرها
|
تقديره على ما
نرجح : ولكن لهم أعجازا ـ الخ.
[١١٠] أنشد ابن
منظور (ب ول) عجز هذا البيت ، ولم يعزه إلى قائل معين ، والبال : الحال والشأن ،
ومحل الشاهد فيه قوله «فليت دفعت الهم» حيث وقع الفعل بعد ليت ، وقد علمنا أن «ليت»
من الأدوات المختصة بالدخول على الجمل الإسمية فتنصب المبتدأ وترفع الخبر ، ومن
أجل هذا جعل النحاة اسم ليت في هذا البيت محذوفا ، وتقدير الكلام : فليتك دفعت
الهم ـ الخ ؛ فيكون هذا الفعل مع فاعله جملة في محل رفع خبر ليت ، ولا يكون الفعل
واقعا عند التحقيق بعد ليت ؛ لأن الواقع بعد ليت هو اسمها المقدر ، ويجوز أن يكون
الضمير المحذوف هو ضمير الشأن والحال ، وتقدير الكلام حينئذ : فليته (أي الحال
والشأن) دفعت الهم ـ الخ ، ولكن ما ذكرناه أولا أمثل من هذا ، للعلة التي ذكرناها
في شرح الشاهد رقم ١٠٦ ، ومن العلماء من يجعل نظير هذا قول جميل بن معمر :
ألا ليست
أيام الصفاء جديد
|
|
ودهر تولى
بابثين يعود
|
وذلك إذا رويت «أيام»
بالرفع على الابتداء ، وخبره قوله «جديد» فإن اسم ليت حينئذ يكون محذوفا مقدرا
بضمير الشأن ، وكأنه قال : ألا ليته (أي الحال والشأن) أيام الصفاء جديد ، فاعرف
ذلك.
وقال الآخر :
[١١١] فليت
كفافا كان خيرك كلّه
|
|
وشرّك عنّي
ما ارتوى الماء مرتوي
|
أراد «ليته» إن
جعلت «كفافا» خبر كان مقدما عليها ، والتقدير فيه : ليته كان خيرك وشرك كفافا عني
، أو مكفوفين عني ؛ لأن الكفاف مصدر فيقع على الواحد والاثنين والجميع ، كقولهم :
رجل عدل ورضا ، ورجلان عدل ورضا ، وقوم عدل ورضا ، وما أشبه ذلك ، وإن جعلت «كفافا»
منصوبا بليت لم يكن من هذا الباب ، والأول أجود.
والذي يدلّ على
فساد ما ذهبوا إليه أنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الأسماء النّصب إلا ويعمل
الرفع ؛ فما ذهبوا إليه يؤدي إلى ترك القياس ومخالفة الأصول لغير فائدة ، وذلك لا
يجوز ، فوجب أن تعمل في الخبر الرفع كما عملت في الاسم النّصب على ما بيّنا ،
والله أعلم.
______________________________________________________
[١١١] هذا
البيت من قصيدة جيدة ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي يقولها في عتاب ابن عمه
عبد الرحمن بن عثمان بن أبي العاص ، وقد روى هذه القصيدة أبو علي القالي في أماليه
(١ / ٦٨ ط دار الكتب) وأبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (١١ / ١٠٠ بولاق) والبغدادي
في خزانة الأدب (١ / ٤٩٦) نقلا عن أبي علي الفارسي في المسائل البصرية ، وقد
استشهد الرضي بعدة أبيات من هذه القصيدة ، واستشهد بالبيت الذي استشهد به المؤلف
ههنا في باب «الحروف المشبهة بالفعل» وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٩٠) والكفاف
ـ بفتح الكاف بزنة السحاب ـ الذي لا يزيد عن قدر الحاجة ، و «ما» مصدرية ظرفية ،
وارتوى : أراد به شرب ، ومرتوي : اسم الفاعل من قولهم «ارتوى فلان» إذا طلب الري
وذهاب العطش ، ومحل الاستشهاد في البيت قوله «ليت كفافا كان خيرك» فإن هذه العبارة
ـ على ما ذكر المؤلف ـ تحتمل وجهين : الأول : أن يكون قوله كفافا خبر كان تقدم
عليها وعلى اسمها جميعا ، وأصل الكلام : ليت كان خيرك كفافا ، وعلى هذا الوجه يكون
الشاعر قد أولى «ليت» في الظاهر الفعل الذي هو كان ، وقد علمنا أن «ليت» مختصة
بالجمل الإسمية ، ولهذا يجب على هذا الوجه تقدير اسم ليت إما ضمير شأن وإما ضمير
مخاطب ؛ فعلى الأول يكون تقدير الكلام : ليت هو (أي الحال والشأن) كان خيرك كفافا
، وعلى الثاني يكون التقدير : فليتك كان خيرك كفافا ، والوجه الثاني : من الوجهين
اللذين تحتملهما العبارة أن يكون قوله «كفافا» اسم ليت ، وجملة كان في محل رفع خبر
ليت ، واسم كان على هذا الوجه ضمير مستتر فيها يعود على كفاف ، ويكون «خيرك»
بالنصب على أنه خبر كان ، وقوله «عني» على هذا الوجه جار ومجرور متعلق بمحذوف حال
من قوله «خيرك» أي : ليت كفافا يكون (هو) خيرك منفصلا عني ، ولا يجوز لك أن ترفع «خيرك»
على أنه فاعل كان وهي تامة ، وتجعل «كفافا» اسم ليت وخبرها جملة كان وفاعلها ؛ لأن
جملة كان حينئذ تصير خالية من رابط يربطها باسم ليت ، فاعرف ذلك كله وتنبه له ،
وللعلماء في شرح هذا البيت كلام طويل أعرضنا عنه.
[٨٥] ٢٣
مسألة
[القول في العطف على
اسم «إنّ» بالرفع قبل مجيء الخبر]
ذهب الكوفيون
إلى أنه يجوز العطف على موضع «إنّ» قبل تمام الخبر ، واختلفوا بعد ذلك ؛ فذهب أبو
الحسن علي بن حمزة الكسائي إلى أنه يجوز ذلك على كل حال ، سواء كان يظهر فيه عمل «إنّ»
أو لم يظهر ، وذلك نحو قولك : «إن زيدا وعمرو قائمان ، وإنك وبكر منطلقان». وذهب
أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء إلى أنه لا يجوز ذلك إلا فيما لم يظهر فيه عمل إنّ
: وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر على كل حال.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على جواز ذلك النقل والقياس :
أما النقل فقد
قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) [المائدة : ٦٩] وجه الدليل أنه عطف (الصَّابِئُونَ) على موضع «إنّ» قبل تمام الخبر ـ وهو قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ) [البقرة : ٦٢] ـ وقد جاء عن بعض العرب فيما رواه الثقات «إنّك وزيد ذاهبان»
وقد ذكره سيبويه في كتابه ؛ فهذان دليلان من كتاب الله تعالى ولغة
العرب.
وأما من جهة
القياس فقالوا : أجمعنا على أنه يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر مع لا ، نحو
«لا رجل وامرأة أفضل منك» فكذلك مع «إنّ» لأنها بمنزلتها ، وإن كانت إنّ للإثبات
ولا للنفي ؛ لأنهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره ، يدل عليه أنا
أجمعنا على أنه يجوز العطف على الاسم بعد
__________________
تمام الخبر ، فكذلك قبل تمام الخبر ؛ لأنه لا فرق بينهما عندنا ، وأنه قد
عرف من مذهبنا أن «إنّ» لا تعمل في الخبر لضعفها ، وإنما يرتفع بما كان يرتفع به
قبل دخولها ، فإذا كان الخبر يرتفع بما كان يرتفع به قبل دخولها ؛ فلا إحالة إذن ؛
لأنه إنما كانت المسألة تفسد أن لو قلنا إن «إنّ» هي العاملة في الخبر فيجتمع
عاملان فيكون محالا ، ونحن لا نذهب إلى ذلك ؛ فصحّ ما ذهبنا إليه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن ذلك لا يجوز أنك إذا قلت «إنّك وزيد قائمان»
وجب أن يكون «زيد» مرفوعا [٨٦] بالابتداء ، ووجب أن يكون عاملا في خبر «زيد» وتكون
«إنّ» عاملة في خبر الكاف ، وقد اجتمعا في لفظ واحد ؛ فلو قلنا «إنه يجوز فيه
العطف قبل تمام الخبر» لأدى ذلك إلى أن يعمل في اسم واحد عاملان ، وذلك محال.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩] فلا حجة لهم فيه من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنا نقول : في هذه الآية تقديم وتأخير ، والتقدير فيها
: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم
يحزنون ، والصّابئون والنّصارى كذلك ، كما قال الشاعر :
[١١٢] غداة
أحلّت لابن أصرم طعنة
|
|
حصين عبيطات
السّدائف والخمر
|
______________________________________________________
[١١٢] هذا
البيت من كلام الفرزدق ، وقد استشهد به ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٢٧) وابن هشام
في أوضح المسالك (رقم ٢٠٥ بتحقيقنا) ، وابن أصرم : هو حصين كما سيذكره بعد ،
والعبيطات : جمع عبيطة ـ بفتح العين ـ وهي القطعة من اللحم الطري غير النضيج ،
والسدائف : جمع سديف ، وهو السنام ، ومحل الاستشهاد في قوله «والخمر». واعلم أولا
أن قوله «أحلت لابن أصرم طعنة عبيطات السدائف والخمر» يروى على وجهين : الأول :
بنصب «طعنة»
ورفع كل من «عبيطات» و «الخمر» والوجه الثاني : برفع «طعنة» ونصب عبيطات بالكسرة
نيابة عن الفتحة ورفع «الخمر» وهذه الرواية هي التي يقصدها المؤلف ههنا ، فأما
الرواية الأولى فتخرج على أن «طعنة» مفعول به في اللفظ وإن كان فاعلا في المعنى ، و
«عبيطات» فاعل في اللفظ وإن كان مفعولا به في المعنى ، و «الخمر» معطوف على عبيطات
السدائف ، وقد أتى الشاعر ـ على هذه الرواية ـ بالفاعل منصوبا والمفعول مرفوعا على
طريقة من قال : خرق الثوب المسمار ، وكسر الزجاج الحجر ، وقد صرح ابن مالك بأن
العرب قد يدعوهم ظهور المعنى إلى أن يغيروا من إعراب الفاعل فينصبوه وإعراب
المفعول فيرفعوه ، وأما تخريج الرواية الثانية فقد اختلف النحاة فيه ، فمنهم من
ذهب إلى أن «طعنة» فاعل أحلت مرفوع بالضمة الظاهرة ، و «عبيطات» مفعول به ، و «الخمر»
فاعل بفعل محذوف يدل عليه الفعل السابق ، وتقدير الكلام : أحلت الطعنة
فرفع «الخمر»
على الاستئناف ، فكأنه قال : والخمر كذلك. وقال الآخر :
[١١٣] وعضّ
زمان يا ابن مروان لم يدع
|
|
من المال
إلّا مسحتا أو مجلّف
|
______________________________________________________
عبيطات السدائف
وحلت الخمر ، ويروى أن الكسائي سئل في حضرة يونس بن حبيب عن توجيه رفع الخمر في
هذا البيت ، فقال الكسائي : يرتفع بإضمار فعل ، أي وحلت له الخمر ، فقال يونس : ما
أحسن والله توجيهك ، غير أني سمعت الفرزدق ينشده بنصب طعنة ورفع عبيطات ، على جعل
الفاعل مفعولا في اللفظ. ومنهم من جعل قوله «الخمر» مبتدأ حذف خبره ، والتقدير :
والخمر كذلك ، وهذا هو الذي أراده المؤلف ههنا ، وهو الذي وجه به البيت ابن يعيش
في شرح المفصل.
[١١٣] وهذا
البيت أيضا من كلام الفرزدق ، وقد استشهد به رضي الدين في شرح الكافية في باب حروف
العطف ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٣٤٧ بولاق) وأنشده ابن منظور (س ح ت ـ ج ل
ف) ونسبه إليه في المرتين ، وأنشده ابن جني في الخصائص (١ / ٩٩) ، وهو من قصيدة من
قصائد النقائض ، وأولها قوله :
عزفت بأعشاش
وما كدت تعزف
|
|
وأنكرت من
حدراء ما كنت تعرف
|
ويروى أن
الفرزدق أنشد هذه القصيدة لعبد الله بن إسحاق ، فلما بلغ البيت المستشهد به قال له
عبد الله : علام رفعت «أو مجلف» فقال الفرزدق : على ما يسوءك وينوءك! علينا أن
نقول ، وعليكم أن تتأولوا. ولم يدع : أي لم يترك ، والمسحت ـ بضم أوله على زنة اسم
المفعول ـ هو المستأصل الذي فني كله ولم يبق منه شيء ، والمجلف ـ بالجيم ، على زنة
المعظم ـ الذي قد ذهب أكثره وبقي منه شيء يسير. واعلم قبل كل شيء أن أصل الرواية
في هذا البيت على ما رواها المؤلف بنصب «مسحتا» ورفع «مجلف» وقد تكلم العلماء في
ذلك فأطالوا وقالوا فأكثروا وتعبوا في طلب الحيلة ولم يأتوا بشيء يرتضى ، هكذا قال
ابن قتيبة ، وقال الزمخشري كلاما قريبا منه ، ونحن نذكر لك أربعة تخريجات لهذه
الرواية الأصلية ، التخريج الأول : أن قوله «مجلف» مبتدأ حذف خبره وتقدير الكلام :
أو مجلف كذلك ، والثاني : أن «مجلف» فاعل بفعل محذوف دل عليه سابق الكلام ،
والتقدير : أو بقي مجلف ؛ لأن قوله «لم يدع إلا مسحتا» معناه بقي مسحت ، وهذان
التخريجان مثل التخريجين اللذين ذكرناهما في شرح البيت السابق ، والتخريج الثالث :
أن قوله «مجلف» معطوف على قوله «عض زمان» في أول البيت وهو مصدر ميمي بمعنى
التجليف ، وليس اسم مفعول ، وتقدير الكلام على هذا : وعض زمان وتجليفه لم يدع من
المال إلا مسحتا ، وهذا توجيه أبي على الفارسي ، والتخريج الرابع : أن قوله «مسحتا»
اسم مفعول منصوب على أنه مفعول به لقوله لم يدع ، وفيه ضمير مستتر نائب فاعل ،
وقوله «أو مجلف» معطوف على الضمير المستتر في مسحت ، وهذا توجيه الكسائي.
ومن العلماء من
ذهب يغير في رواية البيت أو في تفسير كلماته ؛ فمن ذلك ما حكاه الفراء من أن بعضهم
روى البيت هكذا :
وعض زمان يا
ابن مروان ما به
|
|
من المال إلا
مسحت أو مجلف
|
ومن ذلك أن أبا
جعفر بن حبيب روى البيت في كتابه النقائض برفع مسحت ومجلف
فرفع «مجلف»
على الاستئناف ، فكأنه قال : أو مجلف كذلك ، وهذا كثير في كلامهم.
والوجه
الثاني : أن تجعل قوله
تعالى : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : ٦٢] خبرا للصّابئين والنّصارى ، وتضمر للذين آمنوا والذين هادوا
خبرا مثل الذي أظهرت للصابئين والنصارى ؛ ألا ترى أنك تقول «زيد وعمرو قائم» فتجعل
قائما خبرا لعمرو ، وتضمر لزيد خبرا آخر مثل الذي أظهرت لعمرو ، وإن شئت أيضا
جعلته خبرا لزيد وأضمرت لعمرو خبرا آخر.
وقال الشاعر ،
وهو بشر بن أبي خازم :
[١١٤] وإلّا
فاعلموا أنّا وأنتم
|
|
بغاة ، ما
بقينا في شقاق
|
______________________________________________________
جميعا من غير
تغيير في صدر البيت ، وخرجها ابن الأعرابي على أن التقدير : لم يدع من المال إلا
أن يكون مسحت أو مجلف ، قال : وهو نظير قول شعيب بن البرصاء :
ولا خير في
العيدان إلا صلابها
|
|
ولا ناهضات
الطير إلا صقورها
|
برفع «صلابها»
على تقدير : إلا أن يكون صلابها ، ورفع «صقورها» على أن يكون التقدير : إلا أن
يكون صقورها. ومن ذلك أن عيسى بن عمر روى البيت بكسر الدال من «لم يدع» على أن
معناه يقر ويمكث ، وبرفع مسحت ومجلف على أن الأول فاعل والثاني معطوف عليه ، وخرجه
على ذلك ابن جني في الخصائص.
وبعد ؛ فقد قال
ابن قتيبة : ومن ذا الذي يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه.
[١١٤] هذا
البيت ـ كما قال المؤلف ـ لبشر بن أبي خازم ، وقد أنشده سيبويه (١ / ٢٩٠) واستشهد
به ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٢٦) وأنشده رضي الدين في شرح الكافية في باب
الحروف المشبهة بالفعل ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣١٥) وبغاة : جمع باغ ،
وهو هنا بمعنى طالب ، تقول : بغيت الشيء أبغيه بغيا ، تريد طلبته ، و «ما» مصدرية
ظرفية ، وفي شقاق : أي في اختلاف ، والاستشهاد بالبيت في قوله «أنا وأنتم بغاة»
حيث وقع الضمير المنفصل الذي يكون في محل الرفع بعد اسم أن وقبل ذكر خبرها ، وقد
تمسك بظاهر هذا الفرّاء وشيخه الكسائي فقالا : يجوز أن يعطف بالرفع على اسم إن قبل
أن يذكر الخبر ، فتقول : إنني ومحمد على وفاق ، ولم يرتض سيبويه ذلك ، وقال : إن
الكلام مؤلف من جملتين : إحداهما : إن واسمها وخبرها ، والثانية : هذا الاسم المرفوع
المتوسط بين اسم إن وخبرها فهو مبتدأ وخبره محذوف ، والجملة معطوفة على جملة إن
واسمها وخبرها ، وأصل مكان هذا الاسم المرفوع بعد خبر إن ، لكن الشاعر في هذا
البيت قد قدمه ، وأصل الكلام : وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ، وأجاز الأعلم
وجها آخر ، وهو أن يكون خبر إن محذوفا لدلالة ما بعده عليه ، و «بغاة» المذكور خبر
المبتدأ الذي هو «أنتم» فيكون الشاعر قد حذف من الجملة الأولى لدلالة ما في الجملة
الثانية على المحذوف ، وعلى الوجه السابق يكون الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه
، وهو أفضل من تقدير الحذف من الأول.
فإن شئت جعلت
قوله : «بغاة» خبرا للثاني وأضمرت للأول خبرا ، ويكون التقدير : وإلا فاعلموا أنّا
بغاة وأنتم بغاة ، وإن شئت جعلته خبرا للأول وأضمرت للثاني خبرا ، على ما بيّنا.
والوجه
الثالث : أن يكون عطفا
على المضمر المرفوع في «هادوا» وهادوا بمعنى تابوا. وهذا الوجه عندي ضعيف ؛ لأن
العطف على المضمر المرفوع قبيح وإن كان لازما للكوفيين ؛ لأن العطف على المضمر
المرفوع عندهم [٨٧] ليس بقبيح ، وسنذكر فساد ما ذهبوا إليه في موضعه ، إن شاء الله
تعالى.
وأما ما حكوه
عن بعض العرب «إنك وزيد ذاهبان» فقد ذكر سيبويه أنه غلط من بعض العرب ، وهذا لأن
العربي يتكلم بالكلمة إذا استهواه ضرب من الغلط فيعدل عن قياس كلامه ، كما قالوا «ما
أغفله عنك شيئا» ، وكما قال زهير ، ويقال صرمة الأنصاري :
[١١٥] بدا لي
أنّي لست مدرك ما مضى
|
|
ولا سابق
شيئا إذا كان جائيا
|
فقال «سابق»
على الجر ؛ وكان الوجه «سابقا» بالنّصب!
وقال الآخر :
[١١٦]أجدّك
لست الدّهر رائي رامة
|
|
ولا عاقل
إلّا وأنت جنيب
|
______________________________________________________
[١١٥] هذا
البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني ، وهو ثابت في ديوانه بشرح الأعلم الشنتمري
، وهو من شواهد سيبويه ، أنشده في (١ / ٨٣ و ٤١٨ و ٤٥٢) ونسبه في هذه المرات إلى
زهير ، وأنشده في (١ / ١٥٤) ونسبه إلى صرمة الأنصاري ، والبيت من شواهد مغني
اللبيب لابن هشام (ص ٩٦ و ٢٨٨ و ٤٦٠ و ٤٧٦ و ٥٥١ و ٦٧٨ بتحقيقنا) وشواهد الأشموني (رقم
٥٨٤) وأنشده في اللسان (ن م ش) ونسبه إلى زهير ، وأنشده ابن جني في الخصائص (٢ /
٣٥٣ و ٤٢٤) والاستشهاد بالبيت في قوله «ولا سابق» حيث جاء به مجرورا مع كونه
معطوفا على مدرك المنصوب لكونه خبر ليس ، وإنما جاء به مجرورا لأن الباء تدخل في
خبر ليس كثيرا ، فلما قال الشاعر «أني لست مدرك ما مضى» توهم أنه أدخل الباء على
خبر ليس لكونه مما يجري على لسانه كثيرا ؛ فجر المعطوف على هذا التوهم ، قال
سيبويه بعد أن أنشده «فجعلوا الكلام على شيء يقع هنا كثيرا» اه. وقال الأعلم : «حمل
قوله ولا سابق على معنى الباء في مدرك ؛ لأن معناه لست بمدرك ، فتوهم الباء وحمل
عليها» اه.
[١١٦] لم أعثر
لهذين البيتين على نسبة إلى قائل معين ، ورامة وعاقل ومنعج وشطيب : أسماء أماكن
بأعينها ، والاستشهاد بالبيتين في قوله «ولا مصعد» فإنه مجرور وهو معطوف على قوله «رائي
رامة» المنصوب لكونه خبر ليس ، وسهل ذلك أن خبر ليس يكثر دخول الباء الزائدة عليه
فتجر لفظه ، فكأن الشاعر بعد أن قال «لست رائي رامة» توهم أنه أدخل الباء فقال :
لست برائي رامة ، فجر المعطوف لهذا التوهم.
ولا مصعد في
المصعدين لمنعج
|
|
ولا هابط ما
عشت هضب شطيب
|
______________________________________________________
وربما عكسوا
ذلك فجاءوا بخبر ليس مقترنا بالباء الزائدة فجروا لفظه ، ثم عطفوا عليه اسما
منصوبا ، ومن شواهد ذلك قول عدي بن خزاعي ، وقد أنشده في اللسان (ن ر ب) وهو
الشاهد رقم ٢٠٧ الآتي في المسألة ٤٥ :
ولست بذي
نيرب في الكلام
|
|
ومناع قومي
وسبابها
|
ولا من إذا
كان في معشر
|
|
أضاع العشيرة
واغتابها
|
عطف قوله «ومناع
قومي» بالنصب على قوله «بذي نيرب» المجرور بالباء الزائدة ومثله قول عقيبة الأسدي
، وأنشده سيبويه (١ / ٣٤) وهو الشاهد ٢٠٨ الآتي :
معاوي إننا
بشر فأسجح
|
|
فلسنا
بالجبال ولا الحديدا
|
أديروها بني
حرب عليكم
|
|
ولا ترموا
بها الغرض البعيدا
|
ووجه ذلك أن
الباء الداخلة على خبر ليس زائدة ، تجر لفظ الخبر ليس غير ، ويبقى محله نصبا كما
يكون لو لم تدخل عليه الباء ، وليس لهذه الباء متعلق ، فإذا عطفت على هذا الخبر
جاز لك من غير ضرورة أن تعطف عليه بالنصب نظرا إلى محله ، وجاز لك أن تعطف عليه
بالجر نظرا إلى لفظه ، ولذلك نظائر كثيرة : منها الوصف المضاف إلى معموله ، كاسم
الفاعل والمصدر مثلا إذا أضيف إلى مفعوله أو فاعله فإن المعمول يكون مجرورا لفظا
بإضافة اسم الفاعل إليه ، فإذا عطفت عليه جاز لك أن تجيء بالمعطوف مجرورا نظرا إلى
لفظ المعطوف عليه ، وجاز لك أن تجيء بالمعطوف منصوبا إن كان المعطوف عليه مفعولا
ومرفوعا إن كان المعطوف عليه فاعلا ، ومن ذلك قول زياد العنبري ، وقد نسبوه في
كتاب سيبويه (١ / ٩٨) إلى رؤبة بن العجاج :
قد كنت داينت
بها حسانا
|
|
مخافة
الإفلاس والليانا
|
فقد عطف «الليان»
بالنصب على «الإفلاس» المجرور ، لكون هذا المجرور مفعولا به للمصدر ، ومثل ذلك قول
لبيد بن ربيعة العامري ، وهو الشاهد رقم ١٤٦ الآتي :
حتى تهجر في
الرواح ، وهاجها
|
|
طلب المعقب
حقه المظلوم
|
فقد وصف
بالمظلوم المرفوع قوله «المعقب» المجرور بإضافة المصدر الذي هو «طلب» إليه ، لكون
هذا المضاف مصدرا والمضاف إليه فاعلا لذلك المصدر ، ونظير ذلك قول الأعشى ميمون :
الواهب
المائة الهجان وعبدها
|
|
عوذا تزجي
بينها أولادها
|
عطف «عبدها»
بالنصب على «المائة» المجرور بإضافة اسم الفاعل الذي هو «الواهب» إليه ، ومثله قول
الشاعر وأنشده سيبويه (١ / ٨٧) :
هل أنت باعث
دينار لحاجتنا
|
|
أو عبد رب
أخا عمرو بن مخراق
|
ومثله قول رجل
من قيس عيلان ، وأنشده سيبويه أيضا (١ / ٨٧) :
فبينا نحن
نطلبه أتانا
|
|
معلق وفضة
وزناد راع
|
عطف قوله «زناد
راع» بالنصب على قوله «وفضة» المجرور بإضافة «معلق» إليه ، لكون المعطوف عليه
مفعولا به لاسم الفاعل الذي هو معلق ، وفي هذا القدر كفاية.
وقال الأحوص
الرّياحيّ :
[١١٧] مشائيم
ليسوا مصلحين عشيرة
|
|
ولا ناعب
إلّا ببين غرابها
|
فقال «ناعب»
بالجر ، وكان الوجه أن يقول «ناعبا» بالنصب ، وقد تؤوّل ذلك بما لا يلتفت إليه ولا
يقاس عليه ؛ فإذا كان كذلك فلا يجوز الاحتجاج بما رووه مع قلّته في الاستعمال وبعده
عن القياس على ما وقع فيه الخلاف.
وأما قولهم «أجمعنا
على أنه يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر مع لا ؛ فكذلك مع إن» قلنا الجواب
على هذا من وجهين :
أحدهما
: إنما جاز ذلك
مع «لا» لأن لا لا تعمل في الخبر ، بخلاف «إن»
______________________________________________________
[١١٧] هذا
البيت ـ كما قال المؤلف ـ للأحوص الرياحي ، وهو من شواهد سيبويه ، وقد أنشده
سيبويه في كتابه ثلاث مرات نسبه في واحدة (١ / ٤١٨) للفرزدق وقد بحثت ديوان
الفرزدق فلم أعثر عليه فيه ، ونسبه في المرتين الأخريين (١ / ٧٣ و ١٥٤) إلى الأحوص
، وقد استشهد به الأشموني (رقم ٥٨٦ بتحقيقنا) ورواه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
في البيان (٢ / ٢٦٠) ثالث ثلاثة أبيات ، ونسبها للأحوص ، واستشهد به رضي الدين في
شرح الكافية (١ / ٤٢٨) وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ١٤٠) والمشائيم : جمع مشؤوم
، وتقول : شأم فلان قومه يشأمهم ـ من باب فتح ـ إذا جر عليهم الشؤم ، وعشيرة الرجل
: بنو أبيه الأدنون ، وناعب : اسم فاعل من النعيب ، وهو صوت الغراب ، وهم يتشاءمون
به ويجعلونه نذيرا بالفرقة وتصدع الشمل والاستشهاد بالبيت في قوله «ولا ناعب» حيث
جاء مجرورا مع أنه معطوف على خبر ليس المنصوب الذي هو قوله «مصلحين» وذلك لأنه بعد
أن قال «ليسوا مصلحين عشيرة» توهم أنه قرن خبر ليس بالباء الزائدة من قبل أن
لسانهم كثيرا ما يجري بذلك من غير نكير ، وقد بيّنا ذلك في شرح الشاهدين السابقين.
ونظير هذه
الشواهد قول عبد الله بن الدمينة ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٣٥٤ بتحقيقنا) :
أحقا عباد
الله أن لست صاعدا
|
|
ولا هابطا
إلا عليّ رقيب
|
ولا سالك
وحدي ولا في جماعة
|
|
من الناس إلا
قيل : أنت مريب
|
فقد جاء
بالمعطوف ـ وهو قوله «ولا سالك» ـ مجرورا ، مع أن المعطوف عليه وهو قوله «صاعدا»
منصوب ، وبعد أن عطف عليه اسما منصوبا وهو وقوله «ولا هابطا».
وربما جر بعض
الشعراء المعطوف على خبر كان المنفية المنصوب لأن الباء الزائدة تدخل على خبر كان
المنفية ، وإن كان ليس من الكثرة في لسانهم كخبر ليس ، ومن هذا قول الشاعر ،
وأنشده ابن منظور (ن م ش) :
وما كنت ذا
نيرب فيهم
|
|
ولا منمش
فيهم منمل
|
ومحل الاستشهاد
من هذا البيت قوله «ولا منمش» حيث جاء به مجرورا وهو معطوف على قوله «ذا نيرب»
الذي هو خبر كان المسبوقة بما النافية ، وذلك ظاهر إن شاء الله.
فلم يجتمع فيه عاملان ، فجاز معها العطف على الموضع قبل تمام الخبر ، دون «إن»
على ما بيّنا.
والوجه
الثاني : أنا نسلم أن «لا»
تعمل في الخبر كإن ، ولكن إنما جاز ذلك مع «لا» دون «إن» ، وذلك لأن «لا» ركبت مع
الاسم النكرة بعدها فصارا شيئا واحدا ؛ فكأنه لم يجتمع في الخبر عاملان ، وأما «إن»
فإنها لا تركب مع الاسم بعدها ؛ فيجتمع في الخبر عاملان ، وذلك لا يجوز ، فبان
الفرق بينهما.
وأما قولهم «إنّ
إنّ لا تعمل في الخبر» فقد بيّنا فساد ذلك مستوفى في المسألة التي قبل هذه المسألة
؛ فلا يفتقر إلى الإعادة ، والله أعلم.
[٨٨] ٢٤
مسألة
[القول في عمل «إن»
المخففة النّصب في الاسم]
ذهب الكوفيون
إلى أن «إن» المخففة من الثقيلة لا تعمل النّصب في الاسم. وذهب البصريون إلى أنها
تعمل.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنها لا تعمل لأنّ المشدّدة إنما عملت لأنها أشبهت
الفعل الماضي في اللفظ ؛ لأنها على ثلاثة أحرف كما أنه على ثلاثة أحرف ، وإنها
مبنية على الفتح كما أنه مبني على الفتح ، فإذا خففت فقد زال شبهها به ؛ فوجب أن
يبطل عملها.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : إنما قلنا ذلك لأن «إنّ» المشدّدة من عوامل الأسماء ، و «إن» المخففة من
عوامل الأفعال ؛ فينبغي ألّا تعمل المخففة في الأسماء كما لا تعمل المشدّدة في
الأفعال ؛ لأن عوامل الأفعال لا تعمل في الأسماء ، وعوامل الأسماء لا تعمل في
الأفعال.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على صحة الإعمال قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا
لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) [هود : ١١١] في قراءة من قرأ بالتخفيف ، وهي قراءة نافع وابن كثير ، وروى
أبو بكر عن عاصم بتخفيف «إن» وتشديد «لما».
قالوا : ولا
يجوز أن يقال بأن «كلا» منصوب بليوفينهم ، لأنا نقول : لا يجوز ذلك ؛ لأن لام
القسم تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها ؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول «زيدا
لأكرمنّ ، وعمرا لأضربنّ» فتنصب زيدا بلأكرمن وعمرا بلأضربن ، فكذلك هاهنا : لا
يجوز أن يكون «كلا» منصوبا بليوفينهم.
قالوا : ولا
يجوز أيضا أن يقال إن «إن» بمعنى ما ، ولما بمعنى إلّا ؛ لأنا
__________________
نقول : إن إن التي بمعنى ما لا يجيء معها اللام بمعنى إلا ، كما قال تعالى
: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣] وأما «لما» فلا يجوز أن يجعل هاهنا بمعنى إلّا ؛ لأنه لو جاز
أن تجعل «لما» بمعنى إلا لجاز أن يقال : ما قام القوم لما زيدا ، وقام القوم لما
زيدا ، بمعنى إلا زيدا ، وفي امتناع ذلك دليل على فساده ، وإنما جاءت لما بمعنى
إلّا في الأيمان خاصة نحو قولهم : «عمرك الله لما فعلت كذا» أي إلّا ، ثم لو جعلت «لما»
في قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) [هود : ١١١] بمعنى إلا لما كان لكل ما ينصبه ؛ لأن إلا لا يعمل ما بعدها
[٨٩] فيما قبلها ، فدلّ على صحة ما ذكرناه.
والذي يدل على
صحة ذلك أيضا أنه قد صحّ عن العرب أنهم يقولون «إلّا أن أخاك ذاهب» بمعنى أنّ
المشددة ، وقد قال الشاعر :
[١١٨] وصدر
مشرق النّحر
|
|
كأن ثدييه
حقّان
|
فنصب «ثدييه»
بكأن المخففة من الثقيلة ، وأصلها أن أضيف إليها الكاف
______________________________________________________
[١١٨] أنشد
سيبويه هذا البيت (١ / ٢٨١) وأنشده ابن يعيش (ص ١١٣٨) ولم يعزواه ، وأنشده رضي
الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٥٨) وقال
عنه : «هو أحد أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف لها قائل» اه. وهو من شواهد
الأشموني (رقم ٢٨٦) وأوضح المسالك (رقم ١٥٢) وابن عقيل (رقم ١٠٨) ويروى صدره :
* ووجه مشرق اللون*
وهي رواية
سيبويه ، ويروى :
* ونحر مشرق اللون*
وعلى هاتين
الروايتين يكون قوله «كأن ثدييه» على تقدير مضاف بين المضاف والمضاف إليه ، أي كأن
ثدي صاحبه ، ومشرق : أي مضيء ، وحقان : مثنى حق ، بضم الحاء وتشديد القاف ـ وهو ما
ينحت من خشب أو عاج أو نحوهما ، والعرب تشبه الثديين بالحق في اكتنازهما ونهودهما
، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم :
وثديا مثل حق
العاج رخصا
|
|
حصانا من أكف
اللامسينا
|
والاستشهاد
بالبيت في قوله «كأن ثدييه» حيث خفف الشاعر كأن الدالة على التشبيه ثم أعملها في
الاسم والخبر ؛ فنصب بها الاسم الذي هو قوله «ثدييه» ورفع بها الخبر الذي هو قوله «حقان»
ويرويه بعض العلماء «كأن ثدياه حقان» برفع الاسمين جميعا على أن يكون اسمها ضمير
شأن محذوف ، وما بعدها جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبر كأن ، والرواية التي
أثرها المؤلف تدل على أن تخفيف الحرف الذي يعمل لمشابهته الفعل لا يمنع إعماله في
اللفظ.
للتشبيه ، والأصل في الكاف أن تكون مؤخرة ؛ كما أن الأصل في اللام أن تكون
مقدمة ؛ فإذا قلت «كأنّ زيدا الأسد» كان الأصل فيه : إن زيدا كالأسد ، كما إذا قلت
«إن زيدا لقائم» كان الأصل فيه : لإنّ زيدا قائم ، إلا أنه قدمت الكاف على «أن»
عناية بالتشبيه ، وأخرت اللام عن «إن» لئلا يجمعوا بين حرفي تأكيد ، فلما نصب بها
مع التّخفيف دل على أنها بمنزلة فعل قد حذف بعض حروفه.
وقال الآخر :
[١١٩]* كأن وريديه رشاءا خلب*
فنصب «وريديه»
بكأن المخفّفة من الثّقيلة ؛ فدل على ما قلناه.
ولا يجوز أن
يقال : إن الإنشاد في البيتين «كأن ثدياه ، وكأن وريداه» ـ بالرفع
______________________________________________________
[١١٩] نسب
جماعة من النحاة ـ منهم الشيخ خالد الأزهري في التصريح (١ / ٢٨٢ بولاق) تبعا
للعيني ـ هذا البيت إلى رؤبة بن العجاج ، وقد أنشده سيبويه (١ / ٤٨٠) وابن يعيش (ص
١١٣٨) وابن منظور (خ ل ب) ولم يعزه واحد منهم إلى قائل معين ، وأنشده رضي الدين في
باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٥٦)
وروى بيتين من الرجز المشطور أحدهما قبل البيت المستشهد به والآخر بعده على هذا
الوجه :
ومعتد فظ
غليظ القلب
|
|
كأن وريديه
رشاءا خلب
|
* غادرته مجدلا كالكلب*
|
والمعتدي :
المتجاوز الحد في الظلم ، والفظ : الغليظ ، وغليظ القلب : قاس لا رحمة عنده ،
والوريدان : مثنى وريد وهو عرق في الرقبة ، والرشاء ـ بكسر أوله بزنة الكتاب ـ الحبل
، والخلب ـ بزنة القفل والقرط ـ فسره قوم بالبئر ، وعليه تكون إضافة الرشاءين إلى
الخلب على معنى لام الاستحقاق مثل قولهم : مصابيح المسجد وحصيره ، وفسر قوم الخلب
بالليف ، وعليه تكون الإضافة على معنى من مثل قولهم : خاتم فضة وثوب قطن ، ومحل
الاستشهاد بالبيت قوله «كأن وريديه» حيث خفف كأن التي تدل على التشبيه ، ثم أتى
بعدها باسمها منصوبا وبخبرها مرفوعا كما كان يفعل ذلك وهي مثقلة ، فيدل ذلك على أن
الحرف الذي يعمل لشبهه بالفعل إذا خفف لم يجب أن يبطل عمله ، وقد روى سيبويه البيت
بنصب وريديه ورفع «رشاءا» كما رواه المؤلف هنا ، وقال قبل إنشاده «وينصبون في
الشعر إذا اضطروا بكأن إذا خففوا ، يريدون معنى كأن (بالتشديد) ولم يريدوا الإضمار
، وذلك قوله :
* كأن وريديه ...*»
ثم قال بعد
كلام «وإن شئت رفعت في قول الشاعر :
* كأن وريديه ...*»
وقد بيّنا وجه
الروايتين في شرح الشاهد السابق.
لأنا نقول : بل الرواية المشهورة «كأن ثدييه ، وكأن وريديه» ـ بالنّصب ـ وإن
صحّ ما رويتموه فيكون الرّفع على حذف الضمير مع التّخفيف كما قال الأعشى :
[١٢٠] في
فتية كسيوف الهند قد علموا
|
|
أن هالك كلّ
من يحفى وينتعل
|
كأنه قال : أنه
هالك.
وقال الآخر :
[١٢١] أما
والله أن لو كنت حرا
|
|
وما بالحرّ
أنت ولا العتيق
|
______________________________________________________
[١٢٠] هذا
البيت من كلام الأعشى ميمون بن قيس ، وقد أنشده سيبويه ثلاث مرات (١ / ٢٨٢ و ٤٤٠ و
٤٨٠) وأنشده ابن يعيش (ص ١١٢٨) ورضي الدين في باب نواصب المضارع وفي باب الحروف
المشبهة بالفعل من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ٥٤٧) والفتية :
جمع فتى ، وهو الشاب ، والسيوف : جمع سيف ، وإضافة السيوف إلى الهند لأنها كانت
تصنع هناك ، وكانوا يجلبونها من الهند ، ووجه الشبه إما المضاء وقوة العزم وإما
البريق واللمعان ويراد بهما صباحة أوجههم ونضارتها ، ويحفى : مضارع حفي ـ مثل رضي
ـ حفاء ، وذلك إذا مشى بغير نعل ولا خف ، ويراد به هنا الفقير ، وينتعل : أي يلبس
النعل ، ويراد به الغني ، يريد أن هؤلاء الفتيان قد أيقنوا أن الموت لا يفرق بين
الغني والفقير فهم ينتهزون فرص اللذات ويسارعون إليها. والاستشهاد بالبيت في قوله «أن
هالك كل من يحفى» حيث خففت أن المفتوحة الهمزة وأتى بعدها باسمين مرفوعين ، فيتوهم
من لا معرفة له أنه أهملها ، ولكنها عند التحقيق عاملة النصب والرفع كما كانت تعمل
وهي مشددة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، وقوله «هالك» خبر مقدم ، و «كل» مبتدأ مؤخر ،
وكل مضاف و «من» مضاف إليه ، و «يحفى» جملة لا محل لها من الإعراب صلة من ، وتقدير
الكلام : أنه (أي الحال والشأن) كل من يحفى وينتعل هالك ، وجملة المبتدأ وخبره في
محل رفع خبر أن المخففة من الثقيلة ، ويروى عجز البيت :
* أن ليس تدفع عن ذي الحيلة الحيل*
وهو صالح
للاستشهاد به على هذه الرواية أيضا لهذه المسألة عينها.
[١٢١] هذا البيت
من شواهد مغني اللبيب (رقم ٤١ بتحقيقنا) وقد أنشده الرضي في باب خبر الحروف
المشبهة بليس ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ١٣٣) وفي شرحه لشواهد المغني ، ولم
ينسبه في أحدهما إلى قائل معين ، وقد ذكر أن الفراء أنشده في تفسير سورة الجن عند
تفسير قوله تعالى : (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ) ويروى صدر البيت :
* لو أنك يا حسين خلقت حرا*
بتشديد «أن»
وإلقاء حركة همزتها على الواو ، والعتيق : الكريم الأصيل ، ويقال لمن كان رقيقا
فخلص من الرق : عتيق ، وفي هذا البيت شاهدان للنحاة : الأول : في قوله «أن لو كنت
حرا» وعبارة المؤلف تدل على أنه يعتبر «أن» في هذه العبارة مخففة من الثقيلة ،
وعليه يكون اسمها ضمير شأن محذوف ، وجملة «لو» وشرطها وجوابها المحذوف لدلالة
المقام عليه في محل رفع خبر أن ، وتقدير الكلام : أنه (أي الحال والشأن) لو كنت
حرا
وقال الآخر :
[١٢٢] أكاشره
وأعلم أن كلانا
|
|
على ما ساء
صاحبه حريص
|
______________________________________________________
لقاومتك ، أو
لسهل على نفسي منازلتك ، وما أشبه ذلك ، لكن المحققين من العلماء لا يرون هذا ، و
«أن» عندهم زائدة ، ذكر ذلك ابن هشام في مغني اللبيب ؛ قال «الثاني : من مواضع
زيادة أن المخففة المفتوحة الهمزة أن تقع بين «لو» وفعل القسم ، سواء أكان الفعل
مذكورا كقول الشاعر :
فأقسم أن لو
التقينا وأنتم
|
|
لكان لكم يوم
من الشر مظلم
|
أم كان فعل
القسم متروكا ، كقوله :
* أما والله أن لو كنت حرا*
البيت ، هذا
قول سيبويه وغيره» اه. وقد ذكر البغدادي أن نسبة القول بزيادة «أن» في هذا البيت
إلى سيبويه ليست بصحيحة ؛ والصواب أن القائل بزيادتها في هذا البيت هو الفراء ،
وذهب ابن عصفور إلى أنها حرف جيء به لربط الجواب بالقسم ، قال ابن هشام بعد أن حكى
عن ابن عصفور ذلك «ويبعده أن الأكثر تركها ، والحروف الرابطة ليست كذلك» اه.
ونازعه في ذلك
الدماميني فقال : إن من الحروف الرابطة اللام ؛ وذلك نحو قول الشاعر :
ولو نعطى
الخيار لما افترقنا
|
|
ولكن لا خيار
مع الليالي
|
ولا يلزم ذكر
هذه اللام ، بل يجوز تركها كما في قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
ما فَعَلُوهُ) فلم يتم قول ابن هشام : إن الحروف الرابطة لا تترك من
الكلام. والشاهد الثاني من البيت في قوله «وما بالحر أنت» حيث دخلت الباء الزائدة
على خبر «ما» الذي هو قوله «الحر» مع كونه متقدما على الاسم الذي هو قوله «أنت»
وقد اختلف العلماء في الباء الزائدة بعد ما النافية : أهي مختصة بما الحجازية
العاملة عمل ليس أم غير مختصة بها ويجوز دخولها بعد ما التميمية المهملة؟ فذهب
الأخفش إلى أنها تدخل بعد ما التميمية كما تدخل بعد ما الحجازية ، وذهب قوم منهم
الزمخشري وأبو علي إلى أن الباء الزائدة لا تدخل إلا في خبر ما الحجازية ، وانبنى
على هذا الخلاف اختلاف آخر حاصله هل يجوز أن يتقدم خبر «ما» الحجازية العاملة أو
لا يجوز؟ فأما الذين ذهبوا إلى أن الباء لا تدخل على الخبر بعد ما التميمية فقالوا
: يجوز أن يتقدم خبر ما الحجازية على اسمها ويبقى لها عملها واستدلوا بهذا البيت
ونحوه ، ووجه الاستدلال أن الباء هنا قد دخلت على الخبر وهو متقدم ، وحيث جاز
تقديمه وهو مقترن بالباء يجوز تقديمه وهو عار منها ، والذي نرجحه أنه يجوز دخول
الباء على خبر المبتدأ الواقع بعد ما التميمية ، بدليل قول الفرزدق وهو تميمي :
لعمرك ما معن
بتارك حقه
|
|
ولا منسىء
معن ، ولا متيسر
|
وبدليل دخولها
حيث لا عمل لما ، وذلك كما في قول الشاعر :
لعمرك ما إن
أبو مالك
|
|
بوان ولا
بضعيف قواه
|
فإن «ما» ههنا
غير عاملة لاقترانها بإن الزائدة ، والباء لم تدخل في الخبر بعد ما إلا لكونه
منفيا ، فلا يلزم أن يكون منصوبا ، وفي هذا القدر كفاية وغناء.
[١٢٢] هذا
البيت من شواهد سيبويه (١ / ٤٤٠) ولم ينسبه ولا نسبه الأعلم في شرح شواهده ، ـ
وقال زيد بن
أرقم :
[١٢٣] ويوما
تلاقينا بوجه مقسّم
|
|
كأن ظبية
تعطو إلى وارق السّلم
|
______________________________________________________
قال الأعلم «ومعنى
أكاشره أضاحكه ، ويقال : كشر عن نابه ؛ إذا كشف عنه» اه.
والاستشهاد
بالبيت في قوله «أن كلانا حريص» حيث خفف أن المؤكدة ، وأتى بعدها بالاسمين مرفوعين
، فيتوهم من لا معرفة له أنه أهمل أن ، ولكنها عند التحقيق عاملة النصب والرفع كما
تعمل وهي مشددة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، وكلانا : مبتدأ ومضاف إليه ، وحريص :
خبر المبتدأ ، وجملة المبتدأ والخبر في محل رفع خبر أن ، قال سيبويه (١ / ٤٣٩) : «وتقول
: قد علمت أن من يأتني آته ؛ من قبل أن أن ههنا فيها إضمار الهاء ، ولا تجيء مخففة
ههنا إلا على ذلك ، كما قال :
* أكاشره وأعلم أن كلانا*
البيت ، وقال
الأعلم «الشاهد في حذف الضمير من أن ، وابتداء ما بعدها على نية إثبات الضمير» اه.
[١٢٣] نسب
المؤلف هذا البيت لزيد بن أرقم ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٢٨١ و ٤٨١) ونسبه لابن
صريم اليشكري ، ووافقه الأعلم على هذه النسبة ، وأنشده ابن منظور (ق س م) أول
أربعة أبيات ، ونسبه إلى باعث بن صريم اليشكري ثم قال «ويقال : هو كعب بن أرقم
اليشكري ، قاله في امرأته ، وهو الصحيح» اه. والبيت من شواهد ابن يعيش (ص ١١٣٩)
وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٤٢) وفي أوضح المسالك (رقم ١٥١) والأشموني (رقم ٢٨٧)
وأنشده رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ /
٣٦٤) ونقل خلافا في نسبته ، ويوما ـ بالنصب لا غير ـ ظرف زمان يتعلق بقوله «توافينا»
الذي بعده ، وتوافينا : تأتينا وتزورنا ، ووجه مقسم : جميل ، مأخوذ في الأصل من
القسام ـ بفتح القاف ، بزنة السحاب ـ وهو الجمال ، والاستشهاد به في قوله «كأن
ظبية تعطو» واعلم أولا أن كلمة «ظبية» في هذه العبارة تروى على ثلاثة أوجه : الجر
، والنصب ، والرفع ، فأما رواية الجر فتخرج على أن الكاف حرف جر ، وأن زائدة بين
الجار والمجرور وظبية : مجرور بالكاف ، وكأنه قال : كظبية تعطو إلى وارق السلم.
وأما رواية النصب فتخرج على أن كأن مخففة من الثقيلة عاملة ، وقوله «ظبية» اسم كأن
، وجملة «تعطو» صفة لظبية ، وخبر كأن محذوف ، والتقدير : كأن ظبية عاطية إلى وارق
السلم هذه المرأة ، وأما رواية الرفع فتخرج على أن «كأن» حرف تشبيه مخفف ، واسم
كأن محذوف ، وظبية : خبره ، وتقدير الكلام : كأنها ظبية عاطية إلى وارق السلم ،
والتشبيه على وجه النصب من التشبيه المقلوب ، وعلى وجه الرفع من التشبيه الجاري
على أصله. وقد ذكر هذا التفصيل الأعلم حيث قال : «الشاهد فيه رفع ظبية على الخبر
وحذف الاسم مع تخفيف كأن ، والتقدير : كأنها ظبية ، ويجوز نصب الظبية بكأن تشبيها
بالفعل إذا حذف وعمل نحو لم يك زيد منطلقا ، والخبر محذوف لعلم السامع ، والتقدير
: كأن ظبية تعطو هذه المرأة ، ويجوز جر الظبية على تقدير كظبية ، وأن زائدة» اه.
وقال الآخر :
[١٢٤] [٩٠]عبأت له رمحا طويلا وألّة
|
|
كأن قبس يعلى
بها حين تشرع
|
وقال الآخر :
[١٢٥] وخيفاء
ألقى اللّيث فيها ذراعه
|
|
فسرّت وساءت
كلّ ماش ومصرم
|
______________________________________________________
[١٢٤] هذا
البيت من كلام مجمع بن هلال ؛ وهو تاسع عشرة أبيات رواها أبو تمام في الحماسة (انظر
شرح المرزوقي ص ٧١٣) وقد استشهد بالبيت رضي الدين في شرح الكافية ، وشرحه البغدادي
في الخزانة (٤ / ٣٦١) وعبأت : أعددت وهيأت ، والرمح معروف ، والألة ـ بفتح الهمزة
وتشديد اللام ـ السنان ، وأصله من الأليل وهو البريق واللمعان ، وفسر ابن منظور
الألة بالحربة العظيمة النصل ، وفرق قوم بين الألة والحربة فخصوا الألة بما كانت
كلها من حديد ، والحربة بما كانت يدها من خشب ، والقبس ـ بالتحريك ـ الجذوة من
النار ، وتشرع ـ بالبناء للمجهول ـ أي تصوب للطعن ، والاستشهاد بالبيت في قوله «كأن
قبس يعلى بها ـ الخ» وقبس يجوز فيه الرفع والنصب والجر ، وهي الوجوه التي ذكرناها
في كلمة «ظبية» في البيت السابق ، فالجر على أن تكون الكاف حرف جر ، وأن زائدة ،
وقبس مجرور بالكاف ، والنصب على أن يكون كأن حرف تشبيه مخفف من الثقيل ، وقبسا :
اسم كأن ، وخبره محذوف ، والتقدير : كأن قبسا هذه الألة ، ويكون من التشبيه
المقلوب ، ويجوز أن يكون خبر كأن هنا هو جملة يعلى بها ، وأما الرفع فعلى أن يكون كأن
حرف تشبيه مخفف من الثقيل ، واسمه محذوف ، وقبس خبره ، وتقدير الكلام : كأنها أي
هذه الألة قبس ، وجعل الرضي اسم كأن ـ على رواية رفع قبس ـ ضمير شأن محذوف ، وعليه
يكون قبس مبتدأ ، وجملة يعلى صفة لقبس ، وفي يعلى ضمير مستتر يعود على قبس وهو
نائب فاعل يعلى ، وهو الذي يربط جملة الصفة بالموصوف ، وبها : جار ومجرور متعلق
بمحذوف خبر المبتدأ ، وجملة المبتدأ وخبره في محل رفع خبر كأن ، لكن هذا الوجه
الذي ذهب إليه الرضي ضعيف ، من جهة أن ضمير الشأن إنما يقدر حين لا يكون من الممكن
تقدير مرجع ، وههنا أمكن تقدير المرجع ـ وهو ضمير الغائب ـ وهو مع ذلك أيسر وأهون.
[١٢٥] هذان
البيتان من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة ، وقد أنشدهما ابن منظور (أ و ن) ونسبهما
إليه ، وقال : إنهما من أبيات المعاني ، قد أنشد رضي الدين في باب الحروف المشبهة
بالفعل من شرح الكافية ثاني هذين البيتين ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٦٣)
غير أنه نسب البيتين نقلا عن أبي زيد عن أبي عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني لرجل
من بني سعد بن زيد مناة. والخيفاء ههنا : الأرض المختلفة ألوان النبات قد مطرت
بنوء الأسد فسرت من له ماشية وساءت من كان مصرما لا إبل له ، والدرماء : الأرنب ،
يقول : سمنت حتى سحبت قصبها ، كأن بطنها بطن حبلى متئم ، والقصب ـ بضم القاف وسكون
الصاد ـ المعى ، وأراد البطن ، ومتئم : قد حبلت في توأمين والاستشهاد بالبيتين في
قوله «كأن بطن حبلى» حيث خفف كأن الدالة على التشبيه ، وجاء بعدها بالاسم مرفوعا
على أنه خبرها واسمها محذوف. والتقدير : كأن بطنها بطن حبلى. ولو أنك نصبت «بطنها»
أو جررته لجاز. وتوجيه النصب والجر على مثل ما ذكرناه في شرح الشاهدين السابقين ،
فتأمل ذلك. والله يرشدك.
تمشّي بها
الدّرماء تسحب قصبها
|
|
كأن بطن حبلى
ذات أونين متئم
|
فيمن روى
بالرفع ، ومن روى بالجر جعل «أن» زائدة ، ومن روى بالنّصب أعملها مع التخفيف.
ومن كلامهم «أول ما أقول أن بسم
الله» كأنهم قالوا :
أنه بسم
الله ، وقال تعالى :
(أَفَلا يَرَوْنَ
أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) [طه : ٨٩] كأنه قال : أنه لا يرجع إليهم قولا ، إلّا أنها لا تخفف مع الفعل
إلا مع أحد أربعة أحرف ، وهي : لا ، وقد ، وسوف ، والسّين ، كقوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) [المزمل : ٢٠] وكذلك : «علمت أن سوف يخرج زيد ، وعلمت أن قد خرج عمرو» ،
قال أبو صخر الهذلي :
[١٢٦] فتعلّمي
أن قد كلفت بكم
|
|
ثمّ افعلي ما
شئت عن علم
|
ولا تخفّف من
غير واحد من هذه الأحرف ؛ لأنهم جعلوها عوضا مما لحق «أن» من التغيير ، وكان
التعويض مع الفعل أولى من الاسم ، وذلك لأن «أن» لحقها مع الاسم ضرب واحد من
التغيير ، وهو الحذف ، ولحقها مع الفعل ضربان : الحذف ، ووقوع الفعل بعدها ؛ فلهذا
كان التعويض مع الفعل أولى من الاسم.
والذي يدل على
صحة ما ذهبنا إليه من إعمالها مع التّخفيف ما حكى بعض أهل اللغة من إعمالها في
المضمر مع التّخفيف نحو قولهم : أظنّ أنك قائم ، وأحسب أنه ذاهب ، يريدون أنك وأنه
بالتّشديد ، قال الشاعر :
[١٢٧]فلو أنّك
في يوم الرّخاء سألتني
|
|
فراقك لم
أبخل وأنت صديق
|
______________________________________________________
[١٢٦] نسب
المؤلف هذا البيت لأبي صخر الهذلي ، وكذلك نسبه ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٣٢)
وقد روى ابن منظور صدره (ع ل م) ونسبه إلى الحارث بن وعلة ، وتعلمي : أي اعلمي
واستيقني. وهو ملازم لصيغة الأمر ، والشواهد عليه كثيرة (انظر شرح الشاهد ٣٢٥ في
شرح الأشموني بتحقيقنا) وكلفت : أولعت واشتد غرامي. والاستشهاد بالبيت في قوله «فتعلمي
أن قد كلفت» حيث جاء بأن المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، وخبرها
جملة «كلفت بكم» ولكون هذه الجملة فعلية فعلها متصرف غير دعاء فصل بينها وبين أن
بقد ، وتقدير الكلام : فتعلمي أنه (أي الحال والشأن) قد كلفت بكم ، ونظير هذا
البيت في الفصل بين أن المخففة وجملة خبرها بقد قول الله تعالى : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) وقول الشاعر ، وهو من شواهد ابن مالك في شرح كافيته
وشواهد الأشموني (رقم ٢٨٢) :
شهدت بأن قد
خط ما هو كائن
|
|
وأنك تمحو ما
تشاء وتثبت
|
[١٢٧] أنشد رضي الدين في باب
الضمير من شرح الكافية هذا البيت ، وقد شرحه البغدادي في
وقال الآخر :
[١٢٨]وقد علم
الصّبية المرملون
|
|
إذا اغبرّ
أفق وهبّت شمالا
|
______________________________________________________
الخزانة (٢ / ٤٦٥)
ولم يعزه ، وكذلك أنشده ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٢٨) ولم يعزه إلى قائل معين ،
وكذلك أنشده الفراء ولم يعزه ، وأنشده ابن منظور (ص د ق) ولم يعزه أيضا ، وهو من
شواهد الأشموني (رقم ٢٨٠) وشواهد ابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٣٨) وابن عقيل (رقم
١٠٥) وصديق : مما يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع ، المذكر والمؤنث ، وإن كان
فعيلا بمعنى فاعل ؛ لأنهم حملوه على ضده وهو العدو ، ومن إطلاقه على الأنثى بيت
الشاهد وقول كثير عزة :
ليالي من عيش
لهونا بوجهه
|
|
زمانا ،
وسعدى لي صديق مواصل
|
ومن ذلك أيضا
قول جميل بن معمر :
كأن لم نقاتل
يا بثين لو أنها
|
|
تكشف غماها
وأنت صديق
|
ومن إطلاقه على
جمع المذكرين قول الشاعر :
لعمري لئن
كنتم على النأي والنوى
|
|
بكم مثل ما
بي إنكم لصديق
|
وقول قعنب بن
أم صاحب :
ما بال قومك
صديق ثم ليس لهم
|
|
دين ، وليس
لهم عقل إذا ائتمنوا
|
ومن إطلاقه على
جمع المؤنث قول جرير :
نصبن الهوى ،
ثم ارتمين قلوبنا
|
|
بأعين أعداء
، وهن صديق
|
أوانس ، أما
من أردن عناءه
|
|
فعان ، ومن
أطلقنه فطليق
|
وقال يزيد بن
الحكم في مثله :
* ويهجرن أقواما وهن صديق*
ومحل الاستشهاد
بالبيت الذي أثره المؤلف قوله «فلو أنك سألتني» حيث خفف «أن» المؤكدة ، وأعملها في
الاسم والخبر ، فجاء باسمها ضميرا من ضمائر النصب المتصلة وهو الكاف ، وجاء بخبرها
جملة فعلية وهو قوله «سألتني طلاقك» وأكثر العلماء يرون مجيء اسم أن المخففة ضمير
مخاطب شاذا.
[١٢٨] أنشد
ثالث هذه الأبيات رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية ، وشرحه
البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٥٢) وأنشده ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٣١) وهو من
شواهد ابن هشام في أوضح المسالك (رقم ١٤٨) وفي مغني اللبيب (رقم ٣٩) وأنشد أول هذه
الأبيات في شذور الذهب (رقم ١١٢) وأنشد الأشموني ثالثها (رقم ٢٨١ بتحقيقنا)
والأبيات من كلمة لأخت عمرو بن العجلان الكاهلي الملقب بذي الكلب ، ومن الرواة من
يسمي أخته عمرة ، ومنهم من يسميها جنوب ويروى صدر أولها «لقد علم الضيف والمرملون»
ويروى صدر ثالثها «بأنك ربيع وغيث مريع» والضيف : يطلق على الواحد والاثنين والجمع
، والصبية : جمع صبي ، والمرملون : جمع مرمل ، وهو الذي نفد زاده ، ويروى بدله «والمجتدون»
وهو جمع المجتدي ، وهو طالب الجداء ، وهو كالعطاء وزنا ومعنى ، وقوله «وهبت شمالا»
نصب شمالا على الظرفية وأضمر في هبت ضمير الريح ـ
وخلّت عن
أولادها المرضعات
|
|
ولم تر عين
لمزن بلالا
|
بأنّك
الرّبيع وغيث مريع
|
|
وقدما هناك
تكون الثّمالا
|
أراد بأنّك
بالتشديد ، إلا أن الاستدلال على إعمالها في المضمر مع التخفيف [٩١] عندي ضعيف ؛
لأن ذلك إنما يجوز في ضرورة الشعر لا في اختيار الكلام إلا في رواية شاذة ضعيفة غير
معروفة فلا يكون فيه حجة.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنما عملت لشبه الفعل لفظا ؛ فإذا خفّفت زال شبهها به
فبطل عملها» قلنا : هذا باطل ؛ لأن إن إنما عملت لأنها أشبهت الفعل لفظا ومعنى ؛
وذلك من خمسة أوجه ، وقد قدمنا ذكرها في موضعها فإذا خفّفت صارت بمنزلة فعل حذف
منه بعض حروفه ، وذلك لا يبطل عمله ، ألا ترى أنك تقول : «ع الكلام ، وش الثوب ،
ول الأمر» وما أشبه ذلك ، ولا تبطل عمله ؛ فكذلك هاهنا.
وأما قولهم «إنّ
إنّ المشدّدة من عوامل الأسماء ، وإن المخفّفة من عوامل الأفعال» قلنا : هذا
الاستدلال ظاهر الاختلال ، فإنا إذا قدرنا أنها مخفّفة من الثّقيلة ؛ فهي من عوامل
الأسماء ، وإذا لم نقدر أنها مخفّفة من الثّقيلة ؛ فليست من عوامل الأسماء ، وإن
الخفيفة في الأصل غير إن المخفّفة من الثّقيلة ؛ لأن تلك الخفيفة من عوامل الأفعال
، وهذه المخفّفة من الثّقيلة من عوامل الأسماء ، ولم يقع الكلام في إن الخفيفة في
الأصل ، وإنما وقع في إن المخفّفة من الثّقيلة ، وقد بيّنا الفرق بينهما ، والله
أعلم.
______________________________________________________
وإن لم يجر لها
ذكر لانفهام المعنى وسياقته إلى ذهن السامع ، ونظيره ما أنشده سيبويه من قول جرير (١
/ ١١٣ و ٢٠١) :
هبت جنوبا فذكرى
ما ذكرتكم
|
|
عند الصفاة
التي شرقي حورانا
|
وقوله «وخلت عن
أولادها المرضعات» يريد أن الزمان قد اشتد حتى ذهلت كل مرضعة عن ولدها الذي ترضعه «بأنك
ربيع» أي أنه كثير النفع واصل السيب والعطاء بمنزلة الربيع «وغيث مريع» بفتح الميم
أو ضمها ـ أي مكلىء خصيب «الثمالا» بكسر الثاء المثلثة ـ هو الذخر والغياث.
والاستشهاد فيه بقوله «بأنك ربيع» وقوله «وأنك تكون الثمالا» حيث خفف أن المؤكدة ،
وأعملها في الاسم والخبر ، واسمها في الموضعين ضمير مخاطب مذكور ، وخبرها في
الموضع الأول مفرد وهو قوله ربيع ، وفي الموضع الثاني جملة فعلية مؤلفة من تكون
واسمها وخبرها ، وذلك شاذ ، والكثير المستعمل أن يكون اسمها ضميرا محذوفا ؛ لتكون
عاملة كلا عاملة ، بسبب زوال بعض وجوه الشبه بينها وبين الفعل بالتخفيف ، كما أن
الأكثر عند جمهرة العلماء أن يكون الضمير المحذوف ضمير الشأن ، وخالف في هذا ابن
مالك فقال «إذا أمكن جعل الضمير ضمير غائب غير الشأن أو ضمير حاضر فهو أولى».
٢٥
مسألة
[القول في زيادة لام الابتداء في
خبر لكنّ]
ذهب الكوفيون
إلى أنه يجوز دخول اللام في خبر «لكنّ» كما يجوز في خبر إنّ ، نحو «ما قام زيد
لكنّ عمرا لقائم» وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز دخول اللام في خبر لكنّ.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه يجوز دخول اللام في خبر «لكنّ» النقل والقياس
:
أما النقل فقد
جاء عن العرب إدخال اللام على خبرها ، قال الشاعر :
[١٢٩] * ولكنّني من حبّها لكميد *
______________________________________________________
[١٢٩] قد
استشهد بهذا البيت ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٢١ و ١١٣٥) ورضي الدين في شرح
كافية ابن الحاجب (٢ / ٣٣٢) وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٤٣) وابن هشام في
مغني اللبيب (رقم ٣٨٦) والأشموني (رقم ٢٦٥) وابن عقيل (رقم ٩٩) وينص أكثر هؤلاء
العلماء على أن هذا الشاهد لا يعلم قائله ولا تعرف له تتمة ولا سوابق أو لواحق ،
إلا ابن عقيل فإنه رواه بيتا كاملا من غير عزو ، هكذا :
يلومونني في
حب ليلى عواذلي
|
|
ولكنني من
حبها لعميد
|
والاستشهاد
بالبيت في قوله «ولكنني لعميد» حيث قرن خبر «لكن» باللام التي تدخل في بعض المواضع
لتفيد الكلام فضل توكيد ، والبصريون يرون هذا شاذا لا يجوز القياس عليه ،
والكوفيون يرونه سائغا جائزا ، وتفصيل مقالة الفريقين في أصل الكتاب.
__________________
وأما القياس
فلأن الأصل في «لكنّ» إنّ ، زيدت عليها لا والكاف ؛ فصارتا جميعا حرفا واحدا ، كما
زيدت عليها اللام والهاء في قول الشاعر :
[١٣٠] [٩٢]لهنّك
من عبسيّة لوسيمة
|
|
على هنوات
كاذب من يقولها
|
______________________________________________________
[١٣٠] أنشد ابن
منظور هذا البيت (ل ه ن) ثاني بيتين ، ونسب روايتهما إلى الكسائي ، ولم يعزهما إلى
قائل معين ، والبيت السابق عليه قوله :
وبي من
تباريح الصبابة لوعة
|
|
قتيلة أشواقي
، وشوقي قتيلها
|
وأنشد بيتا آخر
يشترك مع بيت الشاهد في صدره ، ولم يعزه إلى معين أيضا ، وهو بتمامه هكذا :
لهنك من
عبسية لوسيمة
|
|
على كاذب من
وعدها ضوء صادق
|
والاستشهاد
بالبيت في قوله «لهنك لوسيمة» وللعلماء ثلاثة آراء في تخريج هذه العبارة :
الأول : أنها
في الأصل «لإنك» بلام توكيد مفتوحة ثم إن المكسورة الهمزة المشددة النون ، والأصل
أن لام التوكيد التي تدخل على إن المكسورة تتأخر عن إن وما يليها ؛ فتدخل على
خبرها كما تقول «إن زيدا لمنطلق» أو على اسمها بشرط أن يتأخر عن الخبر كما في قوله
تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أو على ضمير الفصل الواقع بين اسمها وخبرها نحو قوله
سبحانه : (إِنَّ هذا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُ) ولا يجوز أن تقترن اللام بإن ، ولكنه لما أبدل الهمزة
من إن هاء توهم أنها كلمة أخرى غير إن ، واللام في «لوسيمة» زائدة ، وهذا معنى قول
الجوهري : «وقولهم لهنك ـ بفتح اللام وكسر الهاء ـ فكلمة تستعمل عند التوكيد ،
وأصله لإنك ، فأبدلت الهمزة هاء ، كما قالوا في «إياك» : هياك. وإنما جاز أن يجمع
بين اللام وإن وكلاهما للتوكيد لأنه لما أبدلت الهمزة هاء زال لفظ إن فصار كأنه
شيء آخر» اه كلامه بحروفه ، وهذا المذهب ينسب إلى سيبويه.
الرأي الثاني :
ذهب جماعة من النحاة إلى أن أصل «لهنك» لاه إنك ، أي والله إنك ، على نحو ما جاء
في قول ذي الإصبع العدواني :
لاه ابن عمك
، لا أفضلت في حسب
|
|
عني ، ولا
أنت دياني فتخزوني
|
أي لله ابن عمك
، ثم حذفت الألف والهمزة من «إن» فصار لهنك ، وهذا مذهب ينسب إلى الكسائي وكان أبو
علي الفارسي يرجحه ، قال ابن جني تلميذه «وفيه تعسف» قال الجوهري : «وأنشد الكسائي
:
* لهنك من عبسية لوسيمة*
وقال : أراد
لله إنك من عبسية ، فحذف اللام الأولى (يريد لام الجر) والألف من إنك» اه ، وقد
نسب المؤلف هذا الرأي إلى المفضل.
الرأي الثالث :
أن أصله «والله إنك» فحذف الواو وإحدى اللامين من «والله» وحذف الهمزة من إن ، وهو
رأي الفراء على ما قاله المؤلف ، وفيه من التعسف أكثر مما في الرأي الثاني.
والصواب الأول.
وقد ورد كثيرا في شعر العرب المحتج بهم ، من ذلك قول محمد بن مسلمة ، وأنشده ابن
منظور ، وهو من شواهد الرضي ، وابن يعيش (١١٢٠) :
ألا يا سنا
برق على قلل الحمى
|
|
لهنك من برق
على وسيم ـ
|
فزاد اللام والهاء
على إن ، فكذلك هاهنا : زاد عليها لا والكاف ؛ فإن الحرف قد يوصل في أوله وآخره ،
فما وصل في أوله نحو «هذا وهذاك» وما وصل في آخره نحو قوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ
أَحَداً) [مريم : ٢٦] وكذلك نقول : إن قول العرب «كم مالك» إنها «ما» زيدت عليها
الكاف ، ثم إن الكلام كثر بها فحذفت الألف من آخرها وسكّنت ميمها ، كما زيدت اللام
على «ما» ثم لما كثر الكلام بها سكّنت ميمها فقالوا : «لم فعلت كذا»؟ قال الشاعر :
[١٣١] يا أبا
الأسود لم أسلمتني
|
|
لهموم طارقات
وذكر
|
______________________________________________________
وقال تليد
الضبي ، وكان أحد اللصوص على عهد عمر بن عبد العزيز :
لهني لأشقى
الناس إن كنت غارما
|
|
قلائص بين
الجلهتين ترود
|
وقال خداش بن
زهير العامري ، وهو صحابي شهد حنينا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
لهني لأشقى
الناس إن كنت غارما
|
|
لعاقبة قتلي
خزيمة والخضر
|
وقال الشاعر :
لهني لأشقى
الناس إن كنت غارما
|
|
لدومة بكرا
ضيعته الأراقم
|
وقال الشاعر :
وقالت : ألا
هل تقصم الحب موهنا
|
|
من الليل ،
إن الكاشحين خضور
|
فقلت لها :
ما تطعميني أقتلد
|
|
لهن الذي
كلفتني ليسير
|
وقال الآخر :
ثمانين حولا
لا أرى منك راحة
|
|
لهنك في
الدنيا لباقية العمر
|
وأنشد أبو زيد
:
أبائنة حبي؟
نعم وتماضر
|
|
لهنا لمقضي
علينا التهاجر
|
[١٣١] أولا : انظر المسألة ٤٠ ، ثم
نقول : أنشد ابن هشام هذا البيت في مغني اللبيب (رقم ٤٩٩ بتحقيقنا) ولم يتكلم
السيوطي عليه مطلقا ، وأنشده البغدادي في خزانة الأدب (٢ / ٥٣٨) أثناء شرحه للشاهد
رقم ٤٣٦ من شواهد الكافية ، والبيت من شواهد ابن يعيش (ص ١٢٨٧) وشرح الكافية للرضي
(ش ٥١٦) وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ١٩٧) وهو أيضا من شواهد الرضي في شرح
الشافية (ش ١١٠) وشرحه البغدادي بإيجاز (ص ٢٢٤ بتحقيقنا) و «أسلمتني» هو من قولهم «أسلم
فلان فلانا» بمعنى خذله وتركه لأعدائه ، ويروى في مكانه «خليتني» أي تركتني ،
ويروى «خلفتني» والهموم : جمع هم ، وهو الحزن ، وطارقات : أصلها من الطروق ، وهو
المجيء ليلا ، وإنما خص الهموم بالطارقات لأنها في أكثر الأحوال تكون في الليل ،
إذ هو الوقت الذي يخلو فيه بنفسه وأفكاره وهو اجسه ، والذكر ـ بكسر الذال وفتح
الكاف ـ جمع ذكرة ، وهي ضد النسيان.
والاستشهاد
بالبيت في قوله «لم» فإن هذه اللام حرف جر ، والميم أصلها «ما» الاستفهامية حذفت
ألفها ثم سكنت الميم ، وللعلماء في كل واحد من حذف الألف وتسكين الميم كلام نلخصه
لك فيما يلي : الأصل أن تبقى الكلمات ـ وبخاصة غير المتمكنة ـ على حالها ، فلا ـ
وقال بعض العرب
في كلامه ـ وقد قيل له : منذ كم قعد فلان؟ ـ فقال : «كمنذ أخذت في حديثك» فزاد
الكاف في «منذ» ؛ فدل على أن الكاف في كم زائدة ، وقيل لبعضهم : كيف تصنعون الأقط؟
فقال : كهيّن ، أي : يسير سهل ، فيزيدون الكاف ، فكذلك هاهنا : زيدت لا والكاف على
إنّ وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال فصارت حرفا واحدا ، كما قالوا «لن» وأصلها لا أن
، فحذفوا الألف والهمزة لكثرة الاستعمال ، فصارتا حرفا واحدا ، فكذلك هاهنا ، وبل
أولى ، فإنه
______________________________________________________
يتصرف فيها
بحذف ولا غيره ، إلا أنهم رأوا «ما» تكون موصولة أحيانا واستفهامية أحيانا أخرى ،
وأن إحداهما قد تلتبس بالأخرى ؛ فلا يتبين للسامع إن كانت «ما» موصولة فيكون
الكلام خبرا ، أو استفهامية فيكون الكلام إنشاء ، ورأوا أن أكثر ما يكون الالتباس
في موضع الجر ، فأرادوا أن يفرقوا بين الحالين ، فحذفوا ألف «ما» الاستفهامية في
موضع الجر نحو قوله تعالى : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْراها) وقوله جلت كلمته : (فَناظِرَةٌ بِمَ
يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) وقوله تباركت أسماؤه : (لِمَ تُؤْذُونَنِي) وقوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما
لا تَفْعَلُونَ) وأبقوا ألف «ما» الموصولة ، نحو قوله سبحانه : (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ
عَذابٌ عَظِيمٌ) وقوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) وقوله : (يُؤْمِنُونَ بِما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وهل حذف ألف «ما» الاستفهامية حينئذ واجب أو غالب؟ وهل
هو عام في كل موضع وقعت فيه مجرورة أو خاص بما إذا كان الجار حرفا من حروف الجر ،
فإن كان الجار اسما متمكنا ـ نحو «مجيء م جئت» ـ اختلف الحكم؟ ظاهر عبارة الرضي أن
حذف ألف ما الاستفهامية المجرورة غالب لا لازم ، وهو ما صرح به الزمخشري في موضع
من تفسيره ، وعبارة ابن هشام في المغني صريحة في أن حذف هذه الألف واجب ؛ وذكرها
شاذ ، وصرح بمثل هذا جار الله الزمخشري في موضع آخر من تفسيره ، وذكر اللبلي في
شرح أدب الكاتب أن الخوف خاص بما إذا كان الجار حرفا ، وذكر ابن قتيبة أن الحذف
خاص بما إذا ذكر مع ما لفظ شئت ـ نحو سل عم شئت ـ والمعول عليه من هذا الكلام أن
حذف الألف من «ما» الاستفهامية أكثر من ذكرها متى كانت مجرورة المحل ، سواء أكان
الجار حرفا أم اسما ، وقد ورد ذكرها في جملة من الأبيات ، منها قول حسان بن ثابت
الأنصاري :
على ما قام
يشتمني لئيم
|
|
كخنزير تمرغ
في رماد؟
|
ومن ذلك قول
كعب بن مالك الأنصاري :
إما قتلنا
بقتلانا سراتكم
|
|
أهل اللواء
ففيما يكثر القيل؟
|
وقرىء به في
قوله تعالى : عما يتساءلون وأما إسكان الميم فهو حذف لفتحتها ، إجراء للوصل مجرى
الوقف ، ونظيره قول ابن مقبل :
أأخطل لم
ذكرت نساء قيس
|
|
فما روعن عنك
ولا سبينا
|
وقد ذهب الفراء
إلى أن «كم» مركبة من الكاف الجارة و «ما» الاستفهامية ، وقد حذفت ألف «ما» لدخول
الجار عليها ، وسكن آخرها إجراء للوصل مجرى الوقف كما فعل ابن مقبل في قوله «لم
ذكرت» وكما فعل صاحب البيت المستشهد به في قوله «لم أسلمتني».
إذا جاز حذف الألف والهمزة لكثرة الاستعمال فلأن يجوز حذف الهمزة
كان ذلك من طرق الأولى.
وقالوا : ولا
يجوز أن يقال «إنه لو كان أصلها لا أن ؛ لما جاز أن يقال : أما زيدا فلن أضرب ؛
لأن ما بعد أن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها» ؛ لأنا نقول : إنما جاز ذلك لأن الحروف
إذا ركبت تغير حكمها بعد التركيب عما كان عليه قبل التركيب ، ألا ترى أن «هل» لا
يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وإذا ركبت مع «لا» ودخلها معنى التحضيض تغير
ذلك الحكم عما كان عليه قبل التركيب ؛ فجاز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، فيقال «زيدا
هلّا ضربت»؟ فكذلك هاهنا.
والذي يدل على
أن أصلها إنّ على ما بيّنا أنه يجوز العطف على موضعها كما يجوز العطف على موضع إنّ
؛ فدل على أن الأصل فيها إنّ زيدت عليها لا والكاف ؛ فكما يجوز دخول اللام في خبر
إنّ ؛ فكذلك يجوز دخولها في خبر لكن.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما [٩٣] قلنا إنه لا يجوز ذلك لأنه لا يخلو إما أن تكون هذه
اللام لام التأكيد أو لام القسم ، على اختلاف المذهبين ، وعلى كلا المذهبين فلا
يستقيم دخول اللام في خبر لكن ، وذلك لأنها إن كانت لام التأكيد فلام التأكيد إنما
حسنت مع إنّ لاتفاقهما في المعنى ؛ لأن كل واحدة منهما للتأكيد وأما لكنّ فمخالفة
لها في المعنى ، وإن كانت لام القسم فإنما حسنت مع إنّ لأن إنّ تقع في جواب القسم
، كما أن اللام تقع في جواب القسم ، وأما لكن فمخالفة لها في ذلك ؛ لأنها لا تقع
في جواب القسم ؛ فينبغي أن لا تدخل اللام في خبرها.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قوله :
* ولكنّني من حبها لكميد* [١٢٩]
فهو شاذّ لا
يؤخذ به لقلّته وشذوذه ، ولهذا لا يكاد يعرف له نظير في كلام العرب وأشعارهم ، ولو كان قياسا مطردا لكان ينبغي أن يكثر في
كلامهم وأشعارهم ، كما جاء في خبر إنّ ، وفي عدم ذلك دليل على أنه شاذ لا يقاس
عليه.
وأما قولهم «إن
الأصل في لكنّ إنّ زيدت عليها لا والكاف فصارتا حرفا واحدا» قلنا : لا نسلم ؛ فإن
هذا مجرد دعوى من غير دليل ولا معنى.
قولهم «كما
زيدت اللام والهاء في قوله :
* لهنّك من عبسية لوسيمة* [١٣٠]
__________________
قلنا : ولا
نسلم أن الهاء في قوله «لهنك» زائدة ، وإنما هي مبدلة من ألف إنّ ؛ فإن الهاء تبدل
من الهمزة في مواضع كثيرة من كلامهم ، يقال : هرقت الماء ، والأصل فيه أرقت ،
وهرحت الدابة ، والأصل فيه أرحت ، وهنرت الثوب ، والأصل فيه أنرت ، وهبرية ،
والأصل فيه إبرية وهو الحزاز في الرأس ، وهردت والأصل أردت ، وهيّاك ، والأصل إياك
، وقد قرأ بعض القراء : (هيّاك نعبد) وقال الشاعر :
[١٣٢] فهيّاك
والأمر الّذي إن توسّعت
|
|
موارده ضاقت
عليك المصادر
|
وقال الآخر :
[١٣٣] يا خال
هلّا قلت إذا أعطيتني
|
|
هيّاك هيّاك وحنواء
العنق
|
[٩٤] أراد إياك ، وقد قال الله
تعالى : (وَمُهَيْمِناً
عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨] قيل : أصله مؤيمن فقلبت الهمزة هاء ، ولهذا قيل في تفسير (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) حافظا عليه ، وقيل : شاهدا ، وقيل : رقيبا عليه ، وقيل
: قفّانا عليه ، وكل هذه الألفاظ متقاربة في المعنى ؛ فدل على أن الهاء في «لهنّك»
مبدلة من همزة ، ولهذا المعنى جاز أن يجمع بين اللام وبينها لتغير صورتها ، وقد
حكي عن أصحابكم فيه وجهان : أحدهما قول الفراء ، وهو أن أصله : والله إنك لوسيمة ،
فحذفت الهمزة من إنّ ، والواو من والله ، وإحدى اللامين ، فبقي لهنك ، والوجه
الثاني ـ وهو قول
______________________________________________________
[١٣٢] هذا
البيت أول بيتين رواهما أبو تمام في ديوان الحماسة ، ولم يعزهما ولا عزاهما أحد
شراحه ، والبيت الذي بعده هو قوله :
فما حسن أن
يعذر المرء نفسه
|
|
وليس له من
سائر الناس عاذر
|
وقوله «إن
توسعت موارده» وقع في رواية المرزوقي (ص ١١٥٢) «إن توسعت مداخله» والاستشهاد
بالبيت في قوله «فهياك» فإن أصل هذا اللفظ «فإياك» فأبدل من الهمزة هاء ، ونظيره
قول الآخر. وأنشده ابن منظور (أيا) :
فانصرفت وهي
حصان مغضبه
|
|
ورفعت بصوتها
هيا أبه
|
أراد أن يقول «أيا
أبه» و «أيا» و «هيا» كلاهما حرف نداء ، إلا أن «أيا» أكثر استعمالا من «هيا» فيدل
كثرة استعمال «أيا» على أنها الأصل.
[١٣٣] هذا بيت
من الرجز ، وقد أنشده ابن منظور (ح ن و) عن اللحياني عن الكسائي ، والحنواء ـ ومثلها
الحانية ـ من الغنم : التي تلوي عنقها لغير علة ، وكذلك هي من الإبل ، وقد يكون
ذلك عن علة ، والاستشهاد بالبيت في قوله «هياك هياك» وأصله «إياك إياك» فأبدل من
الهمزة هاء ، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق ، ونظيره قول الآخر وهو من
شواهد مغني اللبيب (رقم ١٨) :
فأصاخ يرجو
أن يكون حيا
|
|
ويقول من فرح
: هيا ربا
|
المفضل بن سلمة ـ إن أصله لله إنّك لوسيمة ، فحذفت لامان من لله ، والهمزة
من إن ، فبقى «لهنك» فسقط الاحتجاج به على كلا المذهبين.
وأما قولهم «إن
الحرف قد يوصل في أوله نحو هذا» قلنا : هذا إنما جاء قليلا على خلاف الأصل لدليل
دل عليه ؛ فبقينا فيما عداه على الأصل ، ولا يدخل هذا في القياس فيقاس عليه.
وأما قولهم «إن
كم مالك أصلها ما زيدت عليها الكاف» قلنا : لا نسلم ، بل هذا شيء تدّعونه على
أصلكم ، وسنبين فساده في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأما قولهم «إن
لن أصلها لا أن» قلنا : لا نسلم ، بل هو حرف غير مركب ، وقد نص سيبويه على ذلك ،
والذي يدل على أنه غير مركب من لا [وأن] أنه يجوز أن يقال : أما زيدا فلن أضرب ،
ولو كان كما زعموا لما جاء ذلك ؛ لأن ما بعد أن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها.
قولهم «إن
الحروف إذا ركبت تغير حكمها عما كانت عليه قبل التركيب كهلّا» قلنا : إنما تغير
حكم هلّا لأن هلّا ذهب منها معنى الاستفهام ؛ فجاز أن يتغير حكمها ، وأما لن فمعنى
النفي باق فيها ؛ أن لا يتغير حكمها ، فبان الفرق بينهما.
وأما قولهم «إنه
يجوز العطف على موضع لكنّ كما يجوز العطف على موضع إنّ ؛ فدل على أنّ الأصل فيها
إنّ» قلنا : لا نسلم أنه إنما جاز العطف على موضع لكن لأن أصلها إن ، وإنما جاز
ذلك لأن لكن لا تغير معنى الابتداء ؛ لأن معناها الاستدراك ، والاستدراك لا يزيل
معنى الابتداء والاستئناف ؛ فجاز أن يعطف على موضعها كإنّ ؛ لأن إنّ إنما جاز أن
يعطف على موضعها دون سائر أخواتها لأنها لم تغير معنى الابتداء ، بخلاف كأن وليت
ولعل ؛ لأن كأن أدخلت في الكلام معنى [٩٥] التشبيه ، وليت أدخلت في الكلام معنى
التمني ، ولعل أدخلت في الكلام معنى الترجّي ، فتغير معنى الابتداء ، فلم يجز
العطف على موضع الابتداء لزواله ، فأما لكن لما كان معناها الاستدراك وهو لا يزيل
معنى الابتداء والاستئناف جاز العطف على موضعها كإنّ ، على أنه من النحويين من
يذهب إلى زوال معنى الابتداء مع لكن فلا يجوز العطف على موضعها.
والذي يدل على
أن لكن مخالفة لإنّ في دخول اللام معها أنه لم يأت في كلامهم دخول اللام على اسمها
إذا كان خبرها ظرفا أو حرف جر نحو «لكنّ عندك
__________________
لزيدا ، أو لكنّ في الدار لعمرا» كما جاء ذلك في إنّ ، فلما لم يأت ذلك في
شيء من كلامهم ولا نقل في شيء من أشعارهم دل أنه لا يجوز دخول اللام في خبرها ؛
لأن مجيئه في اسمها مقدم في الرتبة على مجيئه في خبرها ، وإذا لم تدخل اللام في
اسمها فأن لا تدخل في خبرها كان ذلك من طريق الأولى.
وبيان هذا وهو
أن الأصل في هذه اللام أن تكون متقدمة في صدر الكلام ؛ فكان ينبغي أن تكون مقدّمة
على إنّ ، إلا أنه لما كانت [اللام] للتأكيد وإن للتأكيد لم يجمعوا بين حرفي تأكيد
؛ فكان الأصل يقتضي أن تنقل عن صدر الكلام وتدخل الاسم ؛ لأنه أقرب إليه من الخبر
، إلا أنه لما كان الاسم يلي إنّ كرهوا أن يدخلوها على الاسم كراهية للجمع بين
حرفي تأكيد ، فنقلوها من الاسم وأدخلوها على الخبر.
والذي يدل على
أن الأصل فيها أن تكون مقدمة على إنّ أنها لام الابتداء ، ولام الابتداء لها صدر
الكلام.
والذي يدل على
أن الأصل فيها أن تدخل على الاسم قبل الخبر أنه إذا فصل بين إنّ واسمها بظرف أو
حرف جر جاز دخولها عليه ، نحو «إن عندك لزيدا ، وإنّ في الدّار لعمرا» قال الله
تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً) [البقرة : ٢٤٨].
فإذا ثبت أن
هذا هو الأصل ، وأنه لا يجوز دخول اللام على اسم «لكنّ» إذا كان خبرها ظرفا أو حرف
جر ؛ دل على أنه لا يجوز أن تدخل على خبرها ؛ لأنه لو كان دخول اللام مع لكن
كدخولها مع إن لجاز أن تدخل على اسمها إذا كان خبرها ظرفا أو حرف جر ، كما تدخل
على خبرها ؛ فلما لم يجز ذلك دل على فساد ما ذهبوا إليه ، والله أعلم.
[٩٦] ٢٦
مسألة
[القول في لام «لعل»
الأولى ، زائدة هي أو أصلية]؟
ذهب الكوفيون
إلى أن اللام الأولى في «لعل» أصلية ، وذهب البصريون إلى أنها زائدة.
أما الكوفيون فاحتجوا
بأن قالوا : إنما قلنا إن اللام أصلية لأن «لعل» حرف ، وحروف الحروف كلها أصلية ؛
لأن حروف الزيادة التي هي الهمزة والألف والياء والواو والميم والتاء والنون
والسين والهاء واللام والتي يجمعها قولك «اليوم تنساه» و «لا أنسيتموه» و «سألتمونيها»
إنما تختص بالأسماء والأفعال ، فأما الحروف فلا يدخلها شيء من هذه الحروف على سبيل
الزيادة ، بل يحكم على حروفها كلها بأنها أصلية في كل مكان على كل حال ، ألا ترى
أن الألف لا تكون في الأسماء والأفعال إلا زائدة أو منقلبة ، ولا يجوز أن يحكم
عليها في ما ولا ويا بأنها زائدة أو منقلبة ، بل نحكم عليها بأنها أصلية ؛ لأن
الحروف لا يدخلها ذلك ، فدلّ على أن اللام أصلية.
والذي يدل على
ذلك أيضا أن اللام خاصة لا تكاد تزاد فيما يجوز فيه الزيادة إلا شاذا ، نحو «زيدل
، وعبدل ، وفحجل» في كلمات معدودة ، فإذا كانت اللام لا تزاد فيما يجوز فيه
الزيادة إلا على طريق الشذوذ فكيف يحكم بزيادتها فيما لا يجوز فيه الزيادة بحال؟
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنها زائدة لأنّا وجدناهم يستعملونها كثيرا في
كلامهم عارية عن اللام ، قال نافع بن سعد الطائي :
__________________
[١٣٤] ولست بلوّام
على الأمر بعد ما
|
|
يفوت ، ولكن
علّ أن أتقدّما
|
أراد لعل ،
وقال العجير السّلولي :
[١٣٥] لك
الخير علّلنا بها ، علّ ساعة
|
|
تمرّ ،
وسهواء من اللّيل يذهب
|
وقال الآخر :
[١٣٦]علّ
صروف الدّهر أو دولاتها
|
|
تدلننا
اللّمّة من لمّاتها
|
______________________________________________________
[١٣٤] أنشد ابن
منظور هذا البيت (ل ع ل) عن ابن بري ، ونسبه لنافع بن سعد الغنوي ، واستشهد به
موفق الدين بن يعيش (ص ١١٤٢) ولم يعزه ، والاستشهاد به في قوله «عل» حيث جاء بهذا
الحرف ساقط اللام الأولى التي في «لعل» وقد ذكر المؤلف ـ نقلا عن البصريين ـ أن
سقوط اللام في هذا البيت ونحوه يدل على أن هذه اللام زائدة في لعل ، وأن الأصل هو «عل»
ولا يتم هذا الكلام لهم ؛ لأن الحروف بأنواعها ليست محلا للتصريف بالحذف أو
الزيادة أو غيرهما ، ولأنه يجوز أن يكون الأمر على عكس ما ذهبوا إليه ، وأن الأصل
هو لعل فحذفت لامها الأولى في عل ، ويجوز أن يكون كل واحد منهما أصلا برأسه ، ولأن
العرب قد تلعبت في لعل كثيرا ، فقد أبدلوا من عينها غينا فقالوا : لغن ، وأبدلوا
عينها همزة ولامها الأخيرة نونا فقالوا : لأن ، وأبدلوا اللام الأخيرة نونا مع حذف
اللام الأولى فقالوا : عن ، وزادوا على ذلك فأبدلوا العين همزة فقالوا : أن ، فلم
يبق من حروفها الأصلية شيء ، وهذه كلها لغات من لغات العرب ، وليست إحداهن بأن
تكون أصلا أولى من غيرها.
[١٣٥] نسب
المؤلف هذا البيت للعجير السلولي ، والسهواء ـ بفتح السين ، ممدودا ـ ساعة من
الليل وصدر منه ، قاله ابن منظور ، والاستشهاد بالبيت في قوله «عل» وهو نظير ما
ذكرناه في البيت السابق.
[١٣٦] هذان
بيتان من مشطور الرجز ، وقد أنشدهما ابن جني في الخصائص (١ / ٣١٦) وابن منظور (ع ل
ل) ولم يعزهما ، وأنشدهما في (ل م م) ونسب الإنشاد للفراء وزاد بعدهما :
* فتستريح النفس من زفراتها*
والاستشهاد هنا
في قوله «عل» فقد جاء به المؤلف لمثل ما جاء بالبيتين السابقين من أجله شاهدا
لمجيء عل ساقطة اللام الأولى مدعيا أن ذلك يدل على أن أصل لعل هو عل ، وقد بيّنا
ما في ذلك في شرح الشاهد ١٣٤ ، والعجب العاجب ما حكاه ابن منظور عن الكسائي أنه
يروي قول الراجز «عل صروف الدهر» يجر صروف ، ويخرجه على أن العين واللام الأولى
أصلهما «لعا» وهي الكلمة التي تقال للعاثر دعاء له بأن ينتعش ، حذفت اللام الأولى
، فصار «عا» فأبدل من التنوين لاما فصار «عل» بفتح العين وسكون اللام ، واللام
الثانية هي لام الجر ، وكأن الراجز قد قال «لعا لصروف الدهر» وهو كلام يشبه
الأحاجي. وهاك كلام ابن منظور : «قال الكسائي : العرب تصير لعل مكان لعا ، وتجعل
لعا مكان لعل ، وقال في قوله :
* عل صروف الدهر أو دولاتها*
وقال الآخر :
[١٣٧] ولا
تهين الفقير ؛ علّك أن
|
|
تركع يوما
والدّهر قد رفعه
|
______________________________________________________
معناها : عا لصروف
الدهر ، فأسقط اللام من لعا لصروف الدهر ، وصير نون لعا لاما لقرب مخرج النون من
اللام ، هذا على قول من كسر صروف ، ومن نصبها جعل عل بمعنى لعل ، فنصب صروف الدهر
، ومعنى لعا لك أي ارتفاعا ، قال ابن رومان : وسمعت الفراء ينشد عل صروف الدهر (أي
بالجر) فسألته : لم تكسر على صروف؟ فقال : إنما معناه لعا لصروف الدهر ودولاتها ،
فانخفضت صروف باللام ، والدهر بإضافة الصروف إليها ، أراد : أو لعا لدولاتها
ليدلننا من هذا التفرق الذي نحن فيه اجتماعا ولمة من اللمات. قال : دعا لصروف
الدهر ولدولاتها ؛ لأن لعا معناه ارتفاعا وتخلصا من المكروه ، وألقى اللام وهو
يريدها ، كقوله :
* لئن ذهبت إلى الحجاج يقتلني*
أراد ليقتلني»
اه. وهو كما ترى.
[١٣٧] هذا
البيت من كلمة للأضبط بن قريع ، وقد رواها أبو علي القالي في أماليه ، وهو من
شواهد مغني اللبيب (رقم ٢٥٧) والأشموني (رقم ٩٦٨) وأوضح المسالك (رقم ٤٧٦) وشرح
المفصل (ص ١٢٤٢) وشرح الكافية في باب نوني التوكيد ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤
/ ٥٨٨ بولاق) والاستشهاد به ههنا في قوله «علك أن تركع» حيث أسقط اللام الأولى من
لعل ، على نحو ما بيّناه في الشواهد السابقة ، والنحاة يستشهدون من هذا البيت أيضا
بقوله «لا تهين الفقير» فإن أصله عندهم : لا تهينن الفقير ، بنون توكيد خفيفة ،
فحذف هذه النون الخفيفة تخلصا من التقاء الساكنين اللذين هما نون التوكيد ، ولام
التعريف في «الفقير» والعرب تحذف نون التوكيد الخفيفة الساكنة وهي تريدها ، فتبقى
الكلمة على ما كانت عليه والنون متصلة بها ، سواء أكان بعدها ساكن أم لم يكن ،
ولذلك نظائر كثيرة في كلام العرب ، منها قول الشاعر ، وأنشده أبو زيد في نوادره :
اضرب عنك
الهموم طارقها
|
|
ضربك بالسيف
قونس الفرس
|
فإنه أراد أن
يقول : اضربن عنك الهموم ، فحذف النون تخفيفا وإن لم يكن بعدها ساكن ، ومثله ما
أنشده الجاحظ في البيان :
خلافا لقولي
من فيالة رأيه
|
|
كما قيل قبل
اليوم : خالف تذكرا
|
فقد أراد أن
يقول : خالفن تذكر ، فحذف نون التوكيد من «خالفن» وإن كان بعدها متحرك ، وأبقى
الفتحة على الفاء لتدل على النون ، ومثله ما أنشده أبو علي الفارسي :
إن ابن أحوص
مغرور فبلغه
|
|
في ساعديه
إذا رام العلا قصر
|
فقد أراد أن
يقول «فبلغنه» فحذف نون التوكيد للتخفيف وهو يريدها ، بدليل أنه أبقى الفتحة ،
ومثله قول الآخر :
يا راكبا بلغ
إخواننا
|
|
من كان من
كندة أو وائل
|
أراد أن يقول «بلغن
إخواننا» فحذف نون التوكيد لقصد التخفيف وهو يريدها ؛ بدليل إبقائه الفتحة على
الغين ، وليس سبب الحذف هو قصد التخلص من التقاء الساكنين لأن ما بعد
[٩٧] وقال
الآخر :
[١٣٨]* يا أبتا علّك أو عساكا*
وقالت أم
النّحيف وهو سعد بن قرط :
[١٣٩]تربّص
بها الأيام علّ صروفها
|
|
سترمي بها في
جاحم متسعّر
|
______________________________________________________
الغين متحرك
كما ترى ، ونظيره أيضا ما أنشده أبو زيد :
في أي يومي
من الموت أفر
|
|
في يوم لم
يقدر أم يوم قدر
|
فقد أراد أن
يقول : في يوم لم يقدرن ـ بتوكيد الفعل المضارع المبني للمجهول المنفي بلم ـ لكنه
حذف نون التوكيد الخفيفة وهو يريدها ، ولو لا ذلك لسكن «يقدر» لكونه مسبوقا بلم.
وفي هذا القدر كفاية.
[١٣٨] هذا
البيت من شواهد سيبويه (١ / ٣٨٨) ونسبه إلى رؤبة ، وكذلك نسبه الأعلم الشنتمري ،
ولكنه لا يوجد في ديوانه. وهو من شواهد شرح المفصل (ص ١١٤٢) والأشموني (رقم ٢٥٢)
ومغني اللبيب (رقم ٢٤٨) وشرح رضي الدين على الكافية في باب الضمير ، وشرحه
البغدادي في الخزانة (٢ / ٤٤١) وابن جني في الخصائص (٢ / ٩٦) والاستشهاد به ههنا
في قوله «علك» حيث أسقط اللام الأولى من لعل ، على نحو ما ذكرناه في شرح الشواهد
السابقة ، والنحاة يستشهدون من هذا البيت أيضا بقوله «عساكا» ولهم في ذلك ثلاثة
آراء : أولها : مذهب أبي العباس المبرد وأبي على الفارسي ، وتلخيصه أن «عسى» ههنا
هي عسى الدالة على رجاء الخبر الرافعة للاسم الناصبة للخبر ، وهي فعل ماض ،
والضمير المتصل بها باق على أصله من كونه ضمير نصب ، لكن هذا الضمير هو خبر عسى
فهو مبني على الفتح في محل نصب ، واسمها محذوف أو هو ما يذكر بعد الضمير في بعض
التراكيب نحو قولك «عساك أن تزورنا» فالاسم هو الصدر المنسبك من أن المصدرية
ومدخولها. والمذهب الثاني : مذهب يونس بن حبيب وأبي الحسن الأخفش ، وتلخيصه أن
الضمير المتصل بعسى هو اسمها ، وهي عاملة الرفع والنصب ، وهذا الضمير في هذا
الموضع ضمير رفع لا ضمير نصب ، والمذهب الثالث : مذهب شيخ النحاة سيبويه ومن تابعه
، وتلخيصه أن عسى في هذا البيت ونحوه ليست هي عسى التي ترفع الاسم وتنصب الخبر ،
بل هي ههنا حرف ترج ونصب مثل لعل ، والضمير المتصل بها في محل نصب اسمها ، وخبرها
محذوف ، أي عساك تبقى ، مثلا. وقد أشبعنا القول في هذه المسألة في شرحنا على
الأشموني.
[١٣٩] قد نسب
المؤلف هذا البيت لأم النحيف ، وتربص : ارتقب وانتظر ، والجاحم : الشديد الاشتعال
، يقولون : جمر جاحم ، ونار جاحمة ، ومتسعر : ملتهب متوقد. والاستشهاد من هذا
البيت في هذا الموضع بقوله «عل صروفها» حيث أسقط اللام الأولى من لعل ، على نحو ما
ذكرناه في شرح الشواهد السابقة.
ونظير هذه
الشواهد التي أثرها المؤلف ما أنشده موفق الدين بن يعيش (١١٤٢) :
عل الهوى من
بعيد أن يقربه
|
|
أم النجوم
ومن القوم بالعيس
|
وما أنشده ابن
منظور ونسبه لمجنون بني عامر :
يقول أناس :
عل مجنون عامر
|
|
يروم سلوا ،
قلت : إني لما بيا
|
أراد لعل. فلما
وجدناهم يستعملونها عارية عن اللام في معنى إثباتها دلّنا ذلك على أنها زائدة ،
ألا ترى أنا حكمنا بأن اللام في «زيدل ، وعبدل ، وأولالك» وما أشبه ذلك زائدة لأنا
نقول في معناه «زيد ، وعبد ، وأولاك» وحكمنا بأن الهمزة في «النّئدلان» وهو
الكابوس زائدة لأنا نقول في معناه «النيدلان» من غير همز ، وكذلك بأن النون في «عرنتن»
زائدة لأنا نقول في معناه «عرتن» بغير النون الأولى ، إلى غير ذلك من الشواهد ؛
فكذلك هاهنا.
والذي يدل على
أنها زائدة أن هذه الأحرف ـ نعني إنّ وأخواتها ـ إنما عملت النصب والرفع لشبه
الفعل ؛ لأنّ أنّ مثل مدّ ، وليت مثل ليس ، ولكن أصلها كنّ ركبت معها لا كما ركبت
لو مع لا فقيل : لكنّ ، وكأن أصلها أنّ أدخلت عليها كاف التشبيه ، فكذلك لعل أصلها
علّ وزيدت عليها اللام ؛ إذ لو قلنا إن اللام أصلية في لعل لأدى ذلك إلى أن لا
تكون لعلّ على وزن من أوزان الأفعال الثلاثية أو الرباعية ؛ لأن الثلاثية على
ثلاثة أضرب : فعل كضرب ، وفعل كمكث ، وفعل كعلم ، وأما الرباعية فليس لها إلا وزن واحد
، وهو فعلل نحو دحرج وسرهف ، فكان يؤدي إلى أن يبطل عملها فوجب أن يحكم بزيادتها ؛
لتكون على وزن الفعل كسائر أخواتها ، فصارت بمنزلة زيادة لا والكاف في لكنّ عندكم
، فإنه إذا جاز أن تحكموا بزيادة لا والكاف في لكن وهما حرفان وأحدهما ليس من حروف
الزيادة فلأن يجوز أن يحكم هاهنا بزيادة اللام وهي حرف من حروف الزيادة كان ذلك
طريق الأولى.
والصحيح في هذه
المسألة ما ذهب إليه الكوفيون.
وأما الجواب عن
كلمات البصريين : أما قولهم «إنا وجدناهم يستعملونها كثيرا في كلامهم بغير لام ؛
بدليل ما أنشدوه من الأبيات» قلنا : إنما حذفت اللام من «لعلّ» كثيرا في أشعارهم
لكثرتها في استعمالهم ، ولهذا [٩٨] تلعبت العرب بهذه الكلمة ، فقالوا : لعلّ ،
ولعن ، ولعنّ ـ بالعين غير معجمة ـ قال الشاعر :
[١٤٠] حتّى
يقول الجاهل المنطّق
|
|
لعنّ هذا معه
معلّق
|
______________________________________________________
[١٤٠] نقل
البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٦٨) تلخيص هذه المسألة عن كتاب الإنصاف ، وقد ورد ذكر
هذا البيت عنده محرفا ، والمنطق ـ بزنة المعظم ـ لابس المنطقة ، والمنطقة والمنطق
والنطاق : كل شيء شد الرجل به وسطه ، والمعلق ـ بزنة المعظم أيضا ـ لعله أراد به
التعويذة ، وفي الحديث «من تعلق شيئا وكل إليه» ومعناه : من علق على نفسه شيئا من
التعاويذ والتمائم وأشباهها معتقدا أنها تجلب إليه نفعا أو تدفع عنه ضرا لم ينظر
الله إليه. والاستشهاد بالبيت في قوله «لعن» فإن هذه لغة من لغات العرب في «لعل»
أبدلوا لامها الأخيرة المشددة نونا ، لكثرة ما تلعبوا بهذه الكلمة.
ولغنّ ـ بالغين
معجمة ـ وأنشدوا :
[١٤١] ألا يا
صاحبيّ قفا لغنّا
|
|
نرى العرصات
أو أثر الخيام
|
ورعنّ ، وعنّ ،
وغنّ ، ولغلّ ، وغلّ ؛ فلما كثرت هذه الكلمة في استعمالهم حذفوا اللام لكثرة
الاستعمال. وكان حذف اللام أولى من العين ـ وإن كان أبعد من الطّرف ـ لأنه لو حذف
العين لأدى ذلك إلى اجتماع ثلاث لامات فيؤدي ذلك إلى الاستثقال ؛ لأجل اجتماع
الأمثال ، أو لأن اللام تكون في موضع ما من حروف الزيادة وليس العين كذلك ، والذي
يدل على اعتبار ذلك أنهم جوّزوا في تكسير فرزدق وتصغيره فرازق وفريزق ـ بحذف الدال
ـ ولم يجوزوا في تكسير جحمرش وتصغيره : جحامش وجحيمش ـ بحذف الراء ـ لأن الدال
تشبه حروف الزيادة لمجاورتها التاء ومجيئها بدلا منها في مزدان ومزدجر ، بخلاف
الراء فإنها ليست كذلك ، وإذا اعتبروا ذلك فيما يقرب من حروف الزيادة وليس منها
فلأن يعتبروه فيما هو من حروف الزيادة في الجملة كان ذلك من طريق الأولى ؛ فلهذا
كان حذف اللام الأولى أولى.
وأما قولهم «إنا
لما وجدناهم يستعملونها مع حذف اللام في معنى إثباتها دلّ على أنها زائدة كاللّام
في زيدل وعبدل وأولالك» قلنا : إنما يعتبر هذا فيما يجوز أن تدخل فيه حروف الزيادة
، فأما الحروف فلا يجوز أن تدخل عليها حروف الزيادة على ما بيّنا.
وأما قولهم «إن
هذه الأحرف إنما عملت لشبه الفعل في لفظه» قلنا : لا نسلم أنها عملت لشبه الفعل في
لفظه فقط ، وإنما عملت لأنها أشبهته في اللفظ والمعنى ، وذلك من عدة وجوه ؛ أحدها
: أنها تقتضي الاسم كما أن الفعل يقتضي
______________________________________________________
[١٤١] أنشد ابن
منظور هذا البيت (ل غ ن) ونسبه للفرزدق ، إلا أنه روى صدره هكذا :
قفا يا صاحبي بنا لغنا*
والبيت مطلع
قصيدة للفرزدق يمدح بها هشام بن عبد الملك بن مروان ، وهي ثابتة في ديوانه (٨٣٥)
وفي النقائض (ص ١٠٠٤ ط ليدن) ولكن رواية البيت فيهما هكذا :
ألستم عائجين
بنا لعنا
|
|
نرى العرصات
أو أثر الخيام
|
وعائجين :
عاطفين ومائلين ، والعرصات : جمع عرصة ، وهي وسط الدار ، ويقال لها أيضا : ساحة ،
وباحة ، وبالة ، والخيام : جمع خيمة ، وهي بيت من خشب يظل بالثمام في المرتبع
لأنها أبرد ظلالا من الأبنية ، والاستشهاد بالبيت في قوله «لغنا» فإنها لغة في «لعلنا»
وقد وقعت هذه الكلمة في لسان العرب بالغين المعجمة ، وفي النقائض بالعين المهملة ،
والخطب في ذلك سهل ؛ لأن الوجهين صحيحان ، وكل واحد منهما لغة.
الاسم ، والثاني أن فيها معنى الفعل لأن أن وإن بمعنى أكدت ، وكأن بمعنى
شبهت ، ولكن بمعنى استدركت ، وليت بمعنى تمنيت ، ولعل بمعنى ترجيت ، [والثالث]
أنها مبنية على الفتح كما أن الفعل الماضي مبنيّ [٩٩] على الفتح ، إلى غير ذلك من
الوجوه التي تقدم ذكرها قبل ، وهذه الوجوه من المشابهة بين لعل والفعل لا تبطل بأن
لا تكون على وزن من أوزانه ، وهي كافية في إثبات عملها بحكم المشابهة ، على أنه قد
ظهر نقصها عن سائر أخواتها لعدم كونها على وزن من أوزان الفعل وأنه لا يجوز أن
تدخل عليها نون الوقاية كما يجوز في سائر أخواتها ، فلا يكاد يقال «لعلّني» كما
يقال «إنّني ، وكأنّني ، ولكنّني ، وليتني» إلا أن يجيء ذلك قليلا كما قال عروة بن
الورد :
[١٤٢] دعيني
أطوّف في البلاد لعلّني
|
|
أفيد غنى فيه
لذي الحقّ محمل
|
وذلك قليل.
وأما قولهم «إذا
جاز لكم أن تحكموا بزيادة لا والكاف في لكنّ وهما حرفان فلأن يجوز أن يحكم بزيادة
اللام وهي حرف واحد كان ذلك من طريق الأولى» قلنا : هذا فاسد ؛ لأنكم لا تقولون
بصحة مذهبهم ، فكيف يجوز لكم أن تقيسوا عليه؟ فإن القياس على الفاسد فاسد ، وقد
بيّنا فساد ما ذهبوا إليه في زيادة لا والكاف هناك كما بيّنا فساد زيادة اللام
هاهنا ، وكلاهما قول باطل ، ليس له حاصل ، والله أعلم.
______________________________________________________
[١٤٢] البيت ـ كما
قال المؤلف ـ لعروة بن الورد ، المعروف بعروة الصعاليك. وقوله «دعيني» معناه
اتركيني ، ويروى «ذريني» وهو بمعناه ، وقوله «أطوف» أي أكثر الطواف والجولان ،
ويروى في مكانه «أسير» بتشديد الياء ـ ومعناه أكثر السير ، والاستشهاد بالبيت في
قوله «لعلني» حيث وصل نون الوقاية بلعل حين أراد أن يعملها في ياء المتكلم ، وقد
زعم المصنف أن ذلك قليل ، وأن الكثير «لعلي» بترك النون ، وقد وردت عدة أبيات كبيت
الشاهد ، من ذلك قول حاتم الطائي ، وأنشده ابن منظور (ع ل ل) :
أريني جوادا
مات هزلا لعلني
|
|
أرى ما ترين
أو بخيلا مخلدا
|
ومن ذلك قول
الآخر ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٥٩) وابن عقيل (رقم ١٩) وابن الناظم في باب
الضمير :
فقلت :
أعيراني القدوم لعلني
|
|
أخط بها قبرا
لأبيض ماجد
|
نعم حذف النون
أعرف وأشهر ، وبه وحده ورد في القرآن الكريم ، نحو قوله تعالى :
(لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبابَ) وقوله : (لَعَلِّي أَعْمَلُ
صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) وقوله : (لَعَلِّي آتِيكُمْ
مِنْها بِخَبَرٍ) وقوله : (لَعَلِّي أَطَّلِعُ
إِلى إِلهِ مُوسى).
٢٧
مسألة
[القول في تقديم معمول اسم الفعل عليه]
ذهب الكوفيون
إلى أن «عليك ، ودونك ، وعندك» في الإغراء يجوز تقديم معمولاتها عليها ، نحو «زيدا
عليك ، وعمرا عندك ، وبكرا دونك». وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز تقديم معمولاتها
عليها ، وإليه ذهب الفراء من الكوفيين.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه يجوز تقديم معمولاتها عليها النقل والقياس.
أما النقل فقد
قال الله تعالى : (كِتابَ اللهِ
عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤] والتقدير فيه : عليكم كتاب الله : أي الزموا كتاب الله ،
فنصب كتاب الله بعليكم ، فدل على جواز تقديمه. واحتجوا أيضا بالأبيات المشهورة :
[١٤٣]يا
أيّها المائح دلوي دونكا
|
|
إني رأيت
النّاس يحمدونكا
|
______________________________________________________
[١٤٣] هذا
الشاهد قد أنشده رضي الدين في باب أسماء الأفعال ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ /
١٥) وأنشده ابن يعيش (ص ١٤٤) وأنشده ابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٨٥٩) وفي أوضح
المسالك (رقم ٤٦٤) وأنشده الأشموني (رقم ٩٣٨) وهو من كلام راجز جاهلي من بني أسيد
بن عمرو بن تميم ، ونسبه الشيخ خالد لجارية من مازن ، والصواب ما قدمناه وأن
الجارية روته وليس لها. والمائح ـ بالهمزة ـ هو الرجل يكون في جوف البئر يملأ
الدلاء ، فإن كان وقوفه على شفير البئر ينزع الدلاء ويجذبها فهو ماتح ـ بالتاء ـ ودونكا
: معناه خذ ، والاستشهاد به في قوله «دلوي دونكا» فإن ظاهره أن «دلوي» مفعول به
مقدم لدونك ، وبهذا الظاهر أخذ الكسائي وجماعة من الكوفيين وبنوا عليه قاعدة
حاصلها أنه يجوز تقديم معمول اسم الفعل عليه ، حملا على الفعل ؛ لأن اسم الفعل
إنما عمل لكونه تضمن معنى الفعل ، والفعل يجوز تقديم معموله عليه ، ومن تمام حمل
اسم الفعل على الفعل أن يجوز في اسم الفعل ما جاز في الفعل خصوصا أنه قد ورد عن
العرب في مثل
__________________
* يثنون خيرا ويمجّدونكا*
[١٠٠] والتقدير
فيه : دونك دلوي ؛ فدلوي في موضع نصب بدونك ؛ فدلّ على جواز تقديمه.
وأما القياس
فقالوا : أجمعنا على أنّ هذه الألفاظ قامت مقام الفعل ، ألا ترى أنك إذا قلت «عليك
زيدا» أي ألزم زيدا ، وإذا قلت «عندك عمرا» أي تناول عمرا ، وإذا قلت «دونك بكرا»
أي خذ بكرا ، ولو قلت «زيدا الزم ، وعمرا تناول ، وبكرا خذ» فقدمت المفعول لكان
جائزا ، فكذلك مع ما قام مقامه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه لا يجوز تقديم معمولاتها عليها أن هذه الألفاظ
فرع على الفعل في العمل ؛ لأنها إنما عملت عمله لقيامها مقامه ؛ فينبغي أن لا
تتصرف تصرفه ؛ فوجب أن لا يجوز تقديم معمولاتها عليها وصار هذا كما نقول في الحال
إذا كان العامل فيها غير فعل ؛ فإنه لا يجوز تقديمها عليه لعدم تصرفه ، فكذلك
هاهنا ؛ إذ لو قلنا إنه يتصرّف عملها ، ويجوز تقديم معمولاتها عليها لأدّى ذلك إلى
التّسوية بين الفرع والأصل ، وذلك لا يجوز ؛ لأن الفروع أبدا تنحطّ عن درجات
الأصول.
______________________________________________________
هذا الشاهد ،
ولم يرتض البصريون هذا ، وقالوا : إن البيت يحتمل وجوها أخرى من الإعراب ؛ منها أن
يكون «دلوي» مفعولا به لفعل محذوف يفسره اسم الفعل ، ومنها أن يكون «دلوي» مبتدأ
وخبره الجملة من اسم الفعل وفاعله ، والرابط ضمير منصوب بدونك محذوف ، والتقدير :
دلوي دونكه ، كما تقول : دلوي خذه ، ولم يذكر المؤلف هذا التخريج لأنه لا يجيزه ،
ومنها أن يكون دلوي خبر مبتدأ محذوف ، ثم قالوا : إن البيت الواحد لا تثبت به
قاعدة ، فليكن هذا البيت شاذا إن لم تقبلوا تأويله.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (كِتابَ اللهِ
عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤] فليس لهم فيه حجة ؛ لأن (كِتابَ اللهِ) ليس منصوبا بعليكم ، وإنما هو منصوب لأنه مصدر ،
والعامل فيه فعل مقدر ، والتقدير فيه : كتب كتابا الله عليكم ، وإنما قدّر هذا
الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم عليه ، كما قال الشاعر :
[١٤٤] ما إن
يمسّ الأرض إلّا منكب
|
|
منه ، وحرف
السّاق ، طيّ المحمل
|
فقوله «طيّ
المحمل» منصوب لأنه مصدر ، والعامل فيه فعل مقدّر ، والتقدير فيه : طوي طيّ المحمل
، وإنما قدر ولم يظهر لدليل ما تقدم عليه من قوله : «ما إن يمسّ الأرض إلّا منكب
منه» ، فكذلك هاهنا : قدّر هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم عليه من قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ
وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] فإن فيه دلالة على أن ذلك مكتوب عليهم ؛ فلما قدر هذا الفعل
ولم يظهر بقي التقدير فيه : كتابا الله عليكم ، ثم أضيف المصدر إلى الفاعل كقوله :
(وَتَرَى الْجِبالَ
تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ) [النمل : ٨٨] فنصب
______________________________________________________
[١٤٤] هذا
البيت لأبي كبير الهذلي ، يقوله في تأبط شرا وكان أبو كبير زوج أمه يصفه بالضمور ،
والبيت من شواهد سيبويه (١ / ١٨٠) والأشموني (رقم ٣٢٥) وأوضح المسالك (رقم ٢٥١)
والبيت من قصيدة لأبي كبير ثابتة في شعر الهذليين (٢ / ٨٨) وقد اختار أبو تمام في
أوائل ديوان الحماسة أبياتا من هذه القصيدة يقع بيت الشاهد ثامنها ، وانظر بعد ذلك
خزانة الأدب للبغدادي (٣ / ٤٦٦ و ٤ / ١٦٥) و «إن» في قوله «ما إن يمس» زائدة ،
ومعنى البيت : ما يمس الأرض منه ـ إذا نام ـ إلا جانبه وحرف ساقه ، وذلك لأنه مطوي
ضامر غير سمين وهضيم الكشح غير ثقيل ؛ فهو لا ينبسط على الأرض ولا يضع أعضاءه كلها
عليها ، والاستشهاد بالبيت في قوله «طي المحمل» حيث نصبه بعامل محذوف يدل عليه
سابق الكلام ، والمؤلف رحمهالله يقدر هذا العامل فعلا ، وكأن الشاعر على هذا قد قال :
قد طوي هذا الفتى طي المحمل ، وهو تابع في هذا لشيخ النحاة سيبويه وشراح كلامه ،
قال سيبويه : «وقد يجوز أن تضمر فعلا آخر كما أضمرت بعد قولك له صوت ، يدلك عليه
أنك لو أظهرت فعلا لا يجوز أن يكون المصدر مفعولا عليه صار بمنزلة له صوت ، وذلك
قوله :
* ما إن يمس الأرض ... البيت*
صار ما إن يمس
الأرض بمنزلة له طي ؛ لأنه إذا ذكر ذا عرف أنه طيان» اه. وقال الأعلم : «الشاهد
فيه نصب طي المحمل بإضمار فعل دل عليه ما إن يمس الأرض إلا منكب منه وحرف الساق ؛
لأن ذلك لانطواء كشحه وضمر بطنه ، فكأنه قال : طوي طيا مثل طي المحمل ؛ فشبهه في طي
كشحه وإرهاف خلقه بحمالة السيف ، وهي المحمل ، وزعم أنه إذا اضطجع نائما نبا بطنه
عن الأرض ، ولم ينلها منه إلا منكبه وحرف ساقه» اه بحروفه.
(صُنْعَ) على المصدر بفعل مقدّر ، وإنما قدّر هذا الفعل ولم يظهر
لدلالة ما تقدم [١٠١] عليه من الكلام ، والتقدير فيه : صنع صنعا الله ، وحذف الفعل
وأضيف المصدر إلى الفاعل ؛ لأنه يضاف إلى الفاعل كما يضاف إلى المفعول ، وقال
الراعي :
[١٤٥] دأبت
إلى أن ينبت الظّلّ بعد ما
|
|
تقاصر حتّى
كاد في الآل يمصح
|
وجيف المطايا
، ثمّ قلت لصحبتي
|
|
ولم ينزلوا :
أبردتم فتروّحوا
|
فنصب «وجيف»
على المصدر بفعل مقدّر على ما تقدم ، وأضاف المصدر إلى الفاعل ، وقال لبيد :
[١٤٦] حتّى
تهجّر في الرّواح وهاجها
|
|
طلب المعقب
حقّه المظلوم
|
______________________________________________________
[١٤٥] هذان
البيتان من شواهد سيبويه (١ / ١٩١ و ١٩٢) وقد نسبهما في صدر الكتاب إلى الراعي ،
وكذلك نسبهما الأعلم إليه ، ودأبت : أراد لزمت السير وجددت فيه ، ومصح الظل : أي
ذهب ، والوجيف : سرعة السير ، قال الأعلم : «الشاهد فيه نصب وجيف المطايا على
المصدر المؤكد لمعنى قوله دأبت ؛ لأنه بمعنى واصلت السير وأوجفت المطي ، أي سمتها
الوجيف وهو سير سريع ، وصف أنه واصل السير إلى الهاجرة ثم نزل مبردا بأصحابه ثم
راح سائرا ، ومعنى قوله إلى أن ينبت الظل إلى أن يأخذ في الزيادة بعد زوال الشمس
وينمو ، يقال : نبت لفلان مال ، إذا نما وزاد ، والآل : الشخص ، ومعنى يمصح يذهب ،
يريد عند قائم الظهيرة ، والمطايا : الرواحل ؛ لأنها تمطى أي تستعمل ظهورها ،
والمطا : الظهر ، ومعنى أبردتم : دخلتم في برد العشي ، وتروحوا : سيروا رواحا» اه
كلامه.
[١٤٦] هذا
البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري ـ كما قال المؤلف ـ وهو في وصف حمار وحش
وأتنه شبه به ناقته ، وقد أنشده الجوهري في الصحاح وابن منظور في اللسان (ع ق ب)
وهو من شواهد الأشموني (رقم ٦٩٠) وأوضح المسالك (رقم ٣٦٩) وابن عقيل (رقم ٢٥٤)
ورضي الدين في باب المصدر ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ٤٤١) وتهجر : سار في
وقت الهاجرة وهي نصف النهار عند اشتداد الحر ، والرواح : الوقت من زوال الشمس إلى
الليل ، وهاجها : أزعجها ، والضمير المستتر يعود إلى حمار الوحش ، والضمير البارز
المتصل يعود إلى الأتن ، والمعقب : الذي يطلب حقه مرة عقب مرة ولا يتركه ،
والاستشهاد بالبيت في قوله «طلب المعقب» فإن هذا مصدر تشبيهي منصوب على أنه مفعول
مطلق مضاف إلى فاعله ، وأصل الكلام : وهاجها طالبا إياها طلبا غير منقطع مثل طلب
المعقب حقه ، فأضاف المصدر إلى فاعله ثم جاء بمفعوله بعد ذلك ، بدليل أنه رفع «المظلوم»
لكونه نعتا للمعقب ، وقد ورد نظير ذلك في أفصح الكلام ، في قول الله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فدفع مصدر ، وقد أضيف إلى فاعله وهو لفظ الجلالة ، ثم
أتى بعد ذلك بمفعوله ، وهو الناس.
ونظير هذا
البيت ـ في إضافة المصدر إلى فاعله والإتيان بعد ذلك بمفعوله ـ قول ابن
كأنه قال :
طلبا المعقب حقّه ، ثم أضاف المصدر إلى المعقب وهو فاعل بدليل أنه قال «المظلوم»
بالرفع حملا للوصف على الموضع ، وإضافة المصدر إلى الفاعل أكثر من أن تحصى ، قال
الله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ
اللهِ النَّاسَ) [البقرة : ٢٥١] فأضاف المصدر إلى اسم الله تعالى وهو الفاعل ، ونحوه قولهم «ضربي
زيدا قائما ، وأكثر شربي السويق ملتوتا» وقال الشاعر :
[١٤٧] فلا تكثرا
لومي ؛ فإنّ أخاكما
|
|
بذكراه ليلى
العامريّة مولع
|
فأضاف المصدر
إلى الضمير في «ذكراه» وهو فاعل ، وقال الآخر :
[١٤٨]أفنى
تلادي وما جمّعت من نشب
|
|
قرع القواقيز
أفواه الأباريق
|
______________________________________________________
الإطنابة وفيه
ما ذكر ثلاث مرات :
أبت لي عفتي
، وأبى بلائي
|
|
وأخذي الحمد
بالثمن الربيح
|
وإقحامي على
المكروه نفسي
|
|
وضربي هامة
البطل المشيح
|
[١٤٧] الذكرى ـ بكسر الذال المعجمة
وسكون الكاف ـ اسم مصدر بمعنى التذكر ، ويجوز أن يحمل عليه قوله تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ) ومولع : هو الوصف من «أولع فلان بكذا ـ بالبناء للمجهول»
إذا لج به وأغرى به ، والمصدر الإيلاع ، والاسم الولوع ـ بفتح الواو ـ والاستشهاد
بهذا البيت ههنا في قوله «بذكراه ليلى العامرية» فإن الذكرى ههنا اسم مصدر يدل على
معنى المصدر ويعمل عمله ، وقد أضافه الشاعر إلى فاعله وهو ضمير الغيبة المتصل
العائد على الأخ ، ثم أتى بعد ذلك بمفعول المصدر ـ وهو قوله ليلى العامرية ـ ونظيره
قول حسان بن ثابت الأنصاري :
لأن ثواب
الله كل موحد
|
|
جنان من
الفردوس فيها يخلد
|
فإن «ثواب» اسم
مصدر بمعنى الإثابة ويعمل عمل المصدر ، وقد أضافه إلى فاعله وهو لفظ الجلالة ،
وأتى بعد ذلك بمفعوله وهو قوله «كل موحد» ومن يروي «جنانا» بالنصب يجعله مفعولا
ثانيا ويكون خبر «إن» محذوفا ، أي لأن ثواب الله كل موحد جنانا موصوفة بأنها من
الفردوس وبأنه يخلد فيها حاصل ؛ ومن رفع «جنان» فهو خبر إن.
[١٤٨] هذا
البيت من كلام الأقيشر الأسدي ، واسمه المغيرة بن عبد الله ، أحد بني عمرو بن أسد
، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٦٨٨) وقد أنشده ابن منظور (ق ق ز) أول ثلاثة أبيات.
والتلاد ـ بزنة الكتاب ـ كل مال ورثته عن آبائك ، ومثله التالد ، والتليد ،
ويقابله الطارف والطريف ، ويقال كل منهما على ما استحدثته من المال ، والنشب ـ بفتح
النون والشين جميعا ـ العقار ، أو المال الأصيل من ناطق وصامت ، والقرع : الضرب ،
والقواقيز : جمع قاقوزة ، وهي القدح الذي يشرب فيه ، ويروى «القوارير» وهو جمع
قارورة ، وهي الزجاجة ، ويراد بها هنا الكأس المتخذة من الزجاج ، والأباريق : جمع
إبريق ، وهو ما كان له عروة ، فإن لم يكن له عروة فهو كوز ، ومحل الاستشهاد بالبيت
قوله «قرع القواقيز أفواه» وهذه العبارة تروى بنصب «أفواه» وبرفعها ؛ فمن نصب فقد
جعل القرع
فأضاف المصدر
إلى «القواقيز» وهو فاعل فيمن روى «أفواه» منصوبا ، ومن روى «أفواه» بالرفع جعله
مضافا إلى المفعول ، والشواهد على هذا النحو كثيرة جدا.
وأما البيت
الذي أنشدوه :
* يا أيّها المائح دلوي دونكا* [١٤٣]
فلا حجّة لهم
فيه من وجهين ؛ أحدهما : أن قوله «دلوي» ليس هو في موضع نصب ، وإنما هو في موضع
رفع ؛ لأنه خبر مبتدأ مقدّر ، والتقدير فيه : هذا دلوي دونكا. والثاني : أنّا نسلم أنه في موضع نصب ، ولكنه لا يكون منصوبا بدونك ، وإنما
هو منصوب بتقدير فعل ؛ كأنه قال : خذ دلوي دونك ، و «دونك» مفسر لذلك الفعل
المقدر.
وأما قولهم «إنها
قامت مقام الفعل فيجوز تقديم معمولها [١٠٢] عليها كالفعل» قلنا : هذا فاسد ، وذلك
لأن الفعل الذي قامت هذه الألفاظ مقامه يستحق في الأصل أن يعمل
النصب ، وهو متصرف في نفسه فتصرّف عمله ، وأما [هذه] الألفاظ فلا تستحق في الأصل
أن تعمل النصب ، وإنما أعملت لقيامها مقام الفعل ، وهي غير متصرفة في نفسها ؛ فينبغي
أن لا يتصرف عملها ؛ فوجب أن لا يجوز تقديم معمولها عليها ، والله أعلم.
______________________________________________________
مصدرا مضافا
إلى فاعله ثم بعد ذلك أتى بمفعوله ، ومن رفع فقد جعل الفرع مصدرا مضافا إلى مفعوله
ثم أتى بعد ذلك بفاعله ، وكل من الوجهين صحيح من جهة العربية ومن جهة المعنى ؛ فقد
أضيف المصدر إلى فاعله ثم أتى بمفعوله كثيرا كما في الشواهد السابقة وما أثرناه
معها ، وأضيف إلى مفعوله ثم أتي بفاعله كما في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فإن الحج مصدر مضاف إلى مفعوله الذي هو البيت وقد جيء بعده
بفاعله وهو قوله سبحانه (مَنِ اسْتَطاعَ).
ومن الأول : ـ زيادة
على ما أثرناه ـ قول الشاعر ، وهو الأشجعي :
وعدت وكان
الخلف منك سجية
|
|
مواعيد عرقوب
أخاه بيثرب
|
وقد جاء في
القرآن الكريم من ذلك قول الله تعالى : (كَذِكْرِكُمْ
آباءَكُمْ) ومنه قوله سبحانه : (تَخافُونَهُمْ
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ومن شواهد ذلك في اسم المصدر قول القطامي :
أكفرا بعد رد
الموت عني
|
|
وبعد عطائك
المائة الرتاعا
|
__________________
٢٨
مسألة
[القول في أصل الاشتقاق ، الفعل هو أو المصدر]؟
ذهب الكوفيون
إلى أن المصدر مشتق من الفعل وفرع عليه ، نحو «ضرب ضربا ، وقام قياما» وذهب
البصريون إلى أن الفعل مشتق من المصدر وفرع عليه.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنّ المصدر مشتق من الفعل لأن المصدر يصح لصحة
الفعل ويعتل لاعتلاله ، ألا ترى أنك تقول «قاوم قواما» فيصح المصدر لصحة الفعل ،
وتقول «قام قياما» فيعتل لاعتلاله ؛ فلما صح لصحته واعتل لاعتلاله دل على أنه فرع
عليه.
ومنهم من تمسك
بأن قال : الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أنّ الفعل يعمل في المصدر ، ألا ترى
أنك تقول «ضربت ضربا» فتنصب ضربا بضربت؟ فوجب أن يكون فرعا له ؛ لأن رتبة العامل
قبل رتبة المعمول ؛ فوجب أن يكون المصدر فرعا على الفعل.
ومنهم من تمسك
بأن قال : الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أن المصدر يذكر تأكيدا للفعل ، ولا
شك أن رتبة المؤكّد قبل رتبة المؤكّد ؛ فدل على أن الفعل أصل ، والمصدر فرع. والذي
يؤيد ذلك أنا نجد أفعالا ولا مصادر لها ، خصوصا على أصلكم ، وهي نعم وبئس وعسى
وليس وفعل التعجب وحبّذا ، فلو لم يكن المصدر فرعا لا أصلا لما خلا عن هذه الأفعال
؛ لاستحالة وجود الفرع من غير أصل.
ومنهم من تمسك
بأن قال : الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن
فعل فاعل ، والفاعل وضع له فعل ويفعل ؛
__________________
فينبغي أن يكون الفعل الذي يعرف به المصدر أصلا للمصدر.
[١٠٣] قالوا :
ولا يجوز أن يقال «إنّ المصدر إنما سمّي مصدرا لصدور الفعل عنه ، كما قالوا للموضع
الذي تصدر عنه الإبل مصدرا لصدورها عنه» لأنّا نقول : لا نسلم ، بل سمّي مصدرا
لأنه مصدور عن الفعل ، كما قالوا «مركب فاره ، ومشرب عذب» أي : مركوب فاره ،
ومشروب عذب ، والمراد به المفعول ، لا الموضع ، فلا تمسّك لكم بتسميته مصدرا.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن المصدر أصل للفعل أن المصدر يدل على زمان مطلق
، والفعل يدل على زمان معين ، فكما أن المطلق أصل للمقيد ، فكذلك المصدر أصل
للفعل.
وبيان ذلك أنهم
لما أرادوا استعمال المصدر وجدوه يشترك في الأزمنة كلها ، لا اختصاص له بزمان دون
زمان ، فلما لم يتعين لهم زمان حدوثه لعدم اختصاصه اشتقوا له من لفظه أمثلة تدل
على تعين الأزمنة ، ولهذا كانت الأفعال ثلاثة : ماض ، وحاضر ، ومستقبل ؛ لأن
الأزمنة ثلاثة ؛ ليختص كل فعل منها بزمان من الأزمنة الثلاثة ؛ فدل على أن المصدر
أصل للفعل.
ومنهم من تمسك
بأن قال : الدليل على أن المصدر هو الأصل أن المصدر اسم ، والاسم يقوم بنفسه
ويستغني عن الفعل ، وأما الفعل فإنه لا يقوم بنفسه ويفتقر إلى الاسم ، وما يستغني
بنفسه ولا يفتقر إلى غيره أولى بأن يكون أصلا مما لا يقوم بنفسه ويفتقر إلى غيره.
ومنهم من تمسك
بأن قال : الدليل على أن المصدر هو الأصل أن الفعل بصيغته يدل على شيئين : الحدث ،
والزمان المحصل ، والمصدر يدل بصيغته على شيء واحد وهو الحدث ، وكما أن الواحد أصل
الاثنين فكذلك المصدر أصل الفعل.
ومنهم من تمسك
بأن قال : الدليل على أن المصدر هو الأصل أن المصدر له مثال واحد نحو الضّرب
والقتل ، والفعل له أمثلة مختلفة ، كما أن الذهب نوع واحد ، وما يوجد منه أنواع
وصور مختلفة.
ومنهم من تمسك
بأن قال : الدليل على أن المصدر هو الأصل أن الفعل بصيغته يدل على ما يدل عليه
المصدر ، والمصدر لا يدل على ما يدل عليه الفعل ، ألا ترى أن «ضرب» يدل على ما يدل
عليه الضّرب ، والضرب لا يدل على ما يدل عليه «ضرب» وإذا كان كذلك دلّ على أن
المصدر أصل [١٠٤] والفعل فرع ؛ لأن
الفرع لا بد أن يكون فيه الأصل ، وصار هذا كما تقول في الآنية المصوغة من
الفضة فإنها تدل على الفضة ، والفضة لا تدل على الآنية ، وكما أن الآنية المصوغة
من الفضة فرع عليها ومأخوذة منها فكذلك هاهنا : الفعل فرع على المصدر ومأخوذ منه.
ومنهم من تمسك
بأن قال : الدليل على أن المصدر ليس مشتقا من الفعل أنه لو كان مشتقا منه لكان يجب
أن يجري على سنن في القياس ، ولم يختلف كما لم يختلف أسماء الفاعلين والمفعولين ؛
فلما اختلف المصدر اختلاف الأجناس كالرجل والثوب والتراب والماء والزيت وسائر
الأجناس دل على أنه غير مشتق من الفعل.
ومنهم من تمسك
بأن قال : لو كان المصدر مشتقا من الفعل لوجب أن يدل على ما في الفعل من الحدث
والزمان وعلى معنى ثالث ، كما دلت أسماء الفاعلين والمفعولين على الحدث وذات
الفاعل والمفعول به ؛ فلما لم يكن المصدر كذلك دل على أنه ليس مشتقا من
الفعل.
ومنهم من تمسك
بأن قال : الدليل على أن المصدر ليس مشتقا من الفعل قولهم «أكرم إكراما» بإثبات
الهمزة ، ولو كان مشتقا من الفعل لوجب أن تحذف منه الهمزة كما حذفت من اسم الفاعل
والمفعول نحو «مكرم ، ومكرم» لمّا كانا مشتقين منه ؛ فلما لم تحذف هاهنا كما حذفت
مما هو مشتق منه دل على أنه ليس بمشتق منه.
ومنهم من تمسك
بأن قال : الدليل على أن المصدر هو الأصل تسميته مصدرا ؛ فإن المصدر هو الموضع
الذي يصدر عنه ، ولهذا قيل للموضع الذي تصدر عنه الإبل «مصدر» فلما سمّي مصدرا دل
على أن الفعل قد صدر [عنه] وهذا دليل لا بأس به في المسألة ، وما اعترض به
الكوفيون عليه في دليلهم فسنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم في موضعه إن شاء الله
تعالى.
أما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن المصدر يصح لصحة الفعل ويعتلّ لاعتلاله» قلنا :
الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الوجه
الأول : أن المصدر
الذي لا علّة فيه ولا زيادة لا يأتي إلا صحيحا نحو «ضربته ضربا» وما أشبه ذلك ،
وإنما يأتي معتلا ما كانت فيه الزيادة ، والكلام إنما وقع في أصول المصادر ، لا في
فروعها.
__________________
الثاني : أنا [١٠٥] نقول : إنما صح لصحته واعتلّ لاعتلاله
للتشاكل ، وذلك لا يدل على الأصلية والفرعية ، وصار هذا كما قالوا «يعد» والأصل فيه يوعد ؛
فحذفوا الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، وقالوا : «أعد ، ونعد ، وتعد» والأصل فيها
أوعد ونوعد وتوعد ، فحذفوا الواو ـ وإن لم تقع بين ياء وكسرة ـ حملا على يعد ، ولا
يدل ذلك على أنها مشتقة من يعد ، وكذلك قالوا «أكرم» والأصل فيه أأكرم ، فحذفوا
إحدى الهمزتين استثقالا لاجتماعهما ، وقالوا : «نكرم ، وتكرم ، ويكرم» ، والأصل
فيها : نؤكرم ، وتؤكرم ، ويؤكرم ، كما قال الشاعر :
* فإنّه أهل لأن يؤكرما* [١]
فحذفوا الهمزة
ـ وإن لم يجتمع فيها همزتان ـ حملا على أكرم ؛ ليجري الباب على سنن واحد ،
ولا يدل ذلك على أنها مشتقة من أكرم ، فكذلك هاهنا.
والثالث : أنا نقول : يجوز أن يكون المصدر أصلا ويحمل على الفعل
الذي هو فرع ، كما بنينا الفعل المضارع في فعل جماعة النسوة نحو «يضربن» حملا على «ضربن»
وهو فرع ؛ لأن الفعل المستقبل قبل الماضي ، وكما قال الفراء : إنما بني الفعل
الماضي على الفتح في فعل الواحد لأنه يفتح في الاثنين ، ولا شك أن الواحد أصل
للاثنين ؛ فإذا جاز لكم أن تحملوا الأصل على الفرع هناك جاز لنا أن نحمل الأصل على
الفرع هاهنا.
وأما قولهم «إن
الفعل يعمل في المصدر ؛ فيجب أن يكون أصلا» قلنا : كونه عاملا فيه لا يدل على أنه
أصل له ، وذلك من وجهين :
أحدهما : أنا أجمعنا على أن الحروف والأفعال تعمل في الأسماء ؛
ولا خلاف أن الحروف والأفعال ليست أصلا للأسماء ، فكذلك هاهنا.
والثاني : أن معنى قولنا «ضرب ضربا» أي أوقع ضربا ، كقولك «ضرب
زيدا» في كونهما مفعولين ، وإذا كان المعنى أوقع ضربا فلا شك أن الضرب معقول قبل
إيقاعه ، مقصود إليه ، ولهذا يصح أن يؤمر به فيقال : «اضرب» وما أشبه ذلك ، فإذا
ثبت أنه معقول قبل إيقاعك معلوم قبل فعلك دل على أنه قبل الفعل.
وأما قولهم : «إن
المصدر يذكر تأكيدا للفعل ، ورتبة المؤكّد قبل رتبة المؤكّد» قلنا : وهذا أيضا لا
يدل على الأصالة والفرعية ، ألا ترى أنك إذا قلت [١٠٦] «جاءني زيد زيد ، ورأيت
زيدا زيدا ، ومررت بزيد زيد» فإن زيدا الثاني يكون
__________________
توكيدا للأول في هذه المواضع كلها ، وليس مشتقا من الأول ولا فرعا عليه ،
فكذلك هاهنا.
وأما قولهم «إنا
نجد أفعالا ولا مصادر لها» ، قلنا : خلو تلك الأفعال التي ذكرتموها عن استعمال
المصدر لا يخرج بذلك عن كونه أصلا وأن الفعل فرع عليه ؛ لأنه قد يستعمل الفرع وإن
لم يستعمل الأصل ، ولا يخرج الأصل بذلك عن كونه أصلا ولا الفرع عن كونه فرعا ، ألا
ترى أنهم قالوا : «طير عباديد» أي متفرقة ، فاستعملوا لفظ الجمع الذي هو فرع وإن
لم يستعملوا لفظ الواحد الذي هو الأصل ، ولم يخرج بذلك الواحد أن يكون أصلا للجمع
، وكذلك أيضا قالوا : «طيرا أبابيل» قال الله تعالى : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً
أَبابِيلَ) [الفيل : ٣] أي جماعات في تفرقة وهو جمع لا واحد له في قول الأكثرين ، وزعم
بعضهم أن واحده إبّول ، وزعم بعضهم أن واحدة إبّيل ، وكلاهما مخالف لقول الأكثرين
، والظاهر أنهم جعلوا واحده إبولا وإبيلا قياسا وحملا ، لا استعمالا ونقلا ،
والخلاف إنما وقع في استعمالهم لا في قياس كلامهم.
ثم نقول : ما
ذكرتموه معارض بالمصادر التي لم تستعمل أفعالها ، نحو : «ويله ، وويحه ، وويهه ،
وويبه ، وويسه ، وأهلا وسهلا ، ومرحبا ، وسقيا ، ورعيا ، وأفّة ، وتفّة ، وتعسا ،
ونكسا ، وبؤسا ، وبعدا ، وسحقا ، وجوعا ، ونوعا ، وجدعا ، وعقرا ، وخيبة ، ودفرا ،
وتبّا ، وبهرا».
قال ابن ميادة
:
[١٤٩] تفاقد
قومي إذ يبيعون مهجتي
|
|
بجارية ،
بهرا لهم بعدها بهرا
|
______________________________________________________
[١٤٩] هذا
البيت من كلام ابن ميادة ، واسمه الرماح بن أبرد ـ كما قال المؤلف ـ وقد أنشده ابن
منظور (ف ق د ـ ب ه ر) ونسبه إليه في المرتين ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٥٧)
وتفاقد قومي : يريد فقد بعضهم بعضا ، وقد اختلف أهل اللغة في تفسير قوله «بهرا»
فقال قوم : أراد خيبة لهم ، وقيل : أراد تعسا لهم ، وقيل : معناه غلبة لهم وقهرا ،
أي غلبوا وقهروا ، قال الأعلم : «يقول : فقد بعض قومي بعضا حيث لم يعينوني على
جارية شغفت بحبها ، وعرضوني لتلف مهجتي حبا لها ، فغلبوا غلبة ، وقهرهم العدو قهرا
، وقوله بعدها : أي بعد هذه الفعلة» اه. والاستشهاد بالبيت في قوله «بهرا» فقد زعم
المؤلف أن هذا مصدر من المصادر التي لم تستعمل أفعالها ، وهذا الكلام غير مستقيم ؛
لأنه إن أراد أنه لا فعل له مثل بله وويح فلا صحة لهذا الكلام ؛ لأن «بهرا» ليس
مثل هذين في أنه لا فعل له ، بل له فعل وهو قولهم «بهره يبهره» أي غلبه ، وإن أراد
أنه يستعمل منصوبا بفعل لا يظهر لأنه محذوف وجوبا ، وهذا هو الصواب ، وهو الذي
ذكره سيبويه ، واسمع إلى عبارة سيبويه «هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار
الفعل غير المستعمل إظهاره ، وذلك قولك : سقيا ، ورعيا ، وقولك خيبة ، ودفرا ،
وجدعا ، وعقرا ، وبؤسا ، وأفة ، وتفة ،
فإن هذه كلها
مصادر لم تستعمل أفعالها ، فإن زعمتم أن ما ذكرتموه من خلو الفعل عن المصدر يصلح
أن يكون دليلا لكون الفعل أصلا فليس بأولى مما ذكرناه من خلو المصدر عن الفعل في
كون المصدر أصلا ؛ فتتحقق المعارضة فيسقط الاستدلال.
وأما قولهم «إن
المصدر لا يتصور ما لم يكن فعل فاعل ، والفعل وضع له فعل ويفعل» قلنا : هذا باطل ؛
لأن الفعل في الحقيقة ما يدل عليه المصدر ، نحو الضّرب والقتل ، وما نسميه فعلا من
فعل ويفعل إنما هو إخبار بوقوع ذلك الفعل في زمان معين ، ومن المحال الإخبار بوقوع
شيء قبل تسميته ؛ لأنه لو جاز أن يقال «ضرب زيد» [١٠٧] قبل أن يوضع الاسم للضرب
لكان بمنزلة قولك : أخبرك بما لا تعرف ، وذلك محال ، والذي يدل على صحة ما ذكرناه
تسميته مصدرا ، قولهم «إن المراد به المفعول ، لا الموضع ، كقولهم : مركب فاره ،
ومشرب عذب ، أي مركوب فاره ومشروب عذب» قلنا : هذا باطل من وجهين ؛ أحدهما : أن
الألفاظ إذا أمكن حملها على ظاهرها فلا يجوز العدول بها عنه ، والظاهر يوجب أن
يكون المصدر للموضع لا للمفعول ؛ فوجب حمله عليه. والثاني : أن قولهم «مركب فاره ،
ومشرب عذب» يجوز أن يكون المراد به موضع الركوب وموضع الشرب ، ونسب إليه الفراهة
والعذوبة للمجاورة ، كما يقال «جرى النّهر» والنهر لا يجري ، وإنما يجري الماء فيه
، قال الله تعالى : (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥] فأضاف الفعل إليها وإن كان الماء هو الذي يجري فيها ؛ لما
بيّنا من المجاورة ، ومنه قولهم «بلد امن ، ومكان آمن» فأضافوا الأمن إليه مجازا ؛
لأنه يكون فيه ؛ قال الله تعالى : (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [البقرة : ١٢٦] وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧] فأضاف الأمن إليه لأنه يكون فيه ، ومنه قوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] فأضاف المكر إلى الليل والنهار لأنه يقع فيهما ،
______________________________________________________
وبعدا ، وسحقا
، ومن ذلك قولك : تعسا ، وتبا ، وجوعا ، وجوسا ، ونحو قول ابن ميادة :
* تفاقد قومي ... البيت*
وقال [عمر بن
أبي ربيعة المخزومي] :
ثم قالوا :
تحبها؟ قلت : بهرا
|
|
عدد النجم
والحصى والتراب» اه
|
نقول : إن أراد
المؤلف ذلك المعنى لم يتم له معارضة الخصم ؛ لأن من غرضه أن يقول : إن لنا في
العربية مصادر ليست لها أفعال ، فكيف يستقيم أن يقال : إن المصدر مأخوذ من الفعل؟
وهل ثمة فرع ليس له أصل؟ ولو أنه اقتصر على ويله وويحه وويبه وويسه لتم له الكلام
؛ لأن هذه المصادر لم يستعمل العرب لها أفعالا ، فاعرف هذا ، ولا تكن أسير
التقليد.
ومنه قولهم «ليل نائم» فأضافوا النوم إلى الليل لكونه فيه ، قال الشاعر :
[١٥٠] لقد
لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى
|
|
ونمت ، وما
ليل المطيّ بنائم
|
أي بمنوم فيه ،
ومنه قولهم «يوم فاجر» فأضافوا الفجور إليه لأنه يقع فيه ، قال الشاعر :
[١٥١] ولمّا
رأيت الخيل تترى أثائجا
|
|
علمت بأنّ
اليوم أحمس فاجر
|
أي مفجور فيه ،
والشواهد على هذا النحو من كتاب الله تعالى وكلام العرب أكثر من أن تحصى ؛ فدل على
أن المراد بقولهم : «مركب فاره ، ومشرب عذب» موضع للركوب وموضع الشرب ، وأضيف إليه
الفراهة والعذوبة للمجاورة على ما بيّنا.
وقد أفردنا في
هذه المسألة جزءا استوفينا فيه القول ، واستقصينا فيه الكلام ، والله أعلم.
______________________________________________________
[١٥٠] هذا
البيت من قصيدة طويلة لجرير بن عطية ثابتة في ديوانه (٥٥٣) وهي إحدى النقائض بينه
وبين الفرزدق ، وقد وردت في النقائض (ص ٧٥٣ ليدن) والبيت من شواهد الإيضاح
للقزويني (ص ٢٧ بتحقيقنا) والسرى ـ بضم السين مقصورا ، بزنة الهدى ـ السير ليلا.
والاستشهاد
بالبيت في قوله «وما ليل المطي بنائم» حيث أسند النوم إلى ضمير مستتر يعود إلى
الليل ، وقد جعل الليل نائما بسبب كونه ظرفا يقع فيه النوم ، وقد ورد هذا الاسناد
المجازي في كلام جرير نفسه عدة مرار ، منها قوله يهجو البراجم :
وما علم
الأقوام أسرق منكم
|
|
وألأم لؤما
منك قيس البراجم
|
لقد أمن
الأعداء أن تفجعوهم
|
|
وما ليل جار
حل فيكم بنائم
|
ومنها قوله في
ربيعة :
باتت ربيعة
لا تعرس ليلها
|
|
عني ، وليلي
عن ربيعة نائم
|
ونظيره قول
الراجز ، وهو من شواهد الإيضاح أيضا (ص ٢٦) :
* فنام ليلي وتجلى همي*
[١٥١] لم أعثر
لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، و «تترى» من المواترة ، وهي التتابع ؛ فهذه
التاء بدل من واو ، مثل التاء من «تخمة» و «تكلة» فإن أصل هذه التاء واو ، وفي
القرآن الكريم : (ثُمَّ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا تَتْرا) قالوا : هو من المواترة وهي تتابع الأشياء وبينها فجوات
وفترات ؛ لأن بين كل رسولين فترة ، ومن العرب من ينونها فيجعل ألفها للإلحاق
بمنزلة أرطى ومعزى ، ومنهم من لا ينونها يجعل ألفها للتأنيث مثل ألف سكرى وغضبى.
وقالوا «جاءت الخيل تترى» يريدون جاءت متقطعة. وقوله «أثائج» هي عندي جمع وثيج ،
وقد قالوا «فرس وثيج» يريدون أنه قوي ، وقيل : مكتنز ، جمعوه على وثائج ، ثم
أبدلوا من الواو همزة فقالوا «أثائج». والاستشهاد من هذا البيت في قوله «أن اليوم
أحمس فاجر» حيث أسند الفجور إلى اليوم بسبب كونه ظرفا زمانيا يقع فيه الفجور ، على
مثال ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق.
[١٠٨] ٢٩
مسألة
[القول في عامل
النّصب في الظرف الواقع خبرا]
ذهب الكوفيون
إلى أن الظرف ينتصب على الخلاف إذا وقع خبرا للمبتدأ ، نحو «زيد أمامك ، وعمرو
وراءك» وما أشبه ذلك. وذهب أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب من الكوفيين إلى أنه
ينتصب لأن الأصل في قولك : «أمامك زيد» حلّ أمامك ، فحذف الفعل وهو غير مطلوب
واكتفى بالظرف منه فبقي منصوبا على ما كان عليه مع الفعل. وذهب البصريون إلى أنه
ينتصب بفعل مقدر ، والتقدير فيه : زيد استقرّ أمامك ، وعمرو استقر وراءك. وذهب
بعضهم إلى أنه ينتصب بتقدير اسم فاعل ، والتقدير : زيد مستقر أمامك ، وعمرو مستقر
وراءك.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه ينتصب بالخلاف وذلك لأن خبر المبتدأ في المعنى
هو المبتدأ ، ألا ترى أنك إذا قلت «زيد قائم ، وعمرو منطلق» كان قائم في المعنى هو
زيد ، ومنطلق في المعنى هو عمرو ، فإذا قلت «زيد أمامك ، وعمرو وراءك» لم يكن
أمامك في المعنى هو زيد ، ولا وراءك في المعنى هو عمرو ، كما كان قائم في المعنى
هو زيد ومنطلق في المعنى هو عمرو ، فلما كان مخالفا له نصب على الخلاف ليفرقوا
بينهما.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه ينتصب بعامل مقدر وذلك لأن الأصل في قولك «زيد
أمامك ، وعمرو وراءك» : في أمامك ، وفي وراءك ؛ لأن الظرف : كل اسم من أسماء
الأمكنة أو الأزمنة يراد فيه معنى «في» وفي : حرف جرّ ، وحروف الجر لا بد لها من
شيء تتعلق به ؛ لأنها دخلت رابطة تربط الأسماء بالأفعال ، كقولك «عجبت من زيد ،
ونظرت إلى عمرو» ولو قلت «من زيد» أو «إلى عمرو» لم يجز حتى تقدر لحرف الجر شيئا
يتعلق به ؛ فدلّ على أن التقدير في
__________________
قولك «زيد أمامك ، وعمرو وراءك» زيد استقر في أمامك ، وعمرو استقر في ورائك
ثم حذف الحرف فاتصل الفعل بالظرف فنصبه ، فالفعل الذي هو استقر مقدّر مع الظرف ،
كما هو مقدّر مع الحرف.
[١٠٩] وأما من
ذهب من البصريين إلى أن الظرف ينتصب بتقدير اسم الفاعل ـ وهو مستقر ـ قال : لأن
تقدير اسم الفاعل أولى من تقدير الفعل ؛ لأن اسم الفاعل اسم يجوز أن يتعلق به حرف
الجر ، والاسم هو الأصل ، والفعل فرع ، فلما وجب تقدير أحدهما كان تقدير الأصل
أولى من تقدير الفرع.
والصحيح عندي
هو الأول ، وذلك لأن اسم الفاعل فرع على الفعل في العمل وإن كان هو الأصل في غير
العمل ؛ فلما وجب هاهنا تقدير عامل كان تقدير ما هو الأصل في العمل ـ وهو الفعل ـ أولى
من تقدير ما هو الفرع فيه وهو اسم الفاعل.
والذي يدل على
صحة ما ذكرناه أنا وجدنا الظرف يكون صلة للذي ، نحو : «رأيت الّذي أمامك ، والّذي
وراءك» وما أشبه ذلك ؛ والصلة لا تكون إلا جملة فلو كان المقدر اسم الفاعل الذي هو
مستقر لكان مفردا ؛ لأن اسم الفاعل مع الضمير لا يكون جملة ، وإنما يكون مفردا ،
والمفرد لا يكون صلة ألبتة ، فوجب أن يكون المقدر الفعل الذي هو استقرّ ، لأن
الفعل مع الضمير يكون جملة ؛ فدل على ما بيّناه.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن خبر المبتدأ في المعنى هو المبتدأ ، وإذا قلت «زيد
أمامك ، وعمرو وراءك» فأمامك ليس هو زيد ، ووراءك ليس هو عمرو ، فلما كان مخالفا
له وجب أن يكون منصوبا على الخلاف» قلنا : هذا فاسد ؛ وذلك لأنه لو كان الموجب
لنصب الظرف كونه مخالفا للمبتدأ لكان [المبتدأ] أيضا يجب أن يكون منصوبا ؛ لأن
المبتدأ مخالف للظرف كما أن الظرف مخالف للمبتدأ ؛ لأن الخلاف لا يتصور أن يكون من
واحد وإنما يكون من اثنين فصاعدا ؛ فكان ينبغي أن يقال «زيدا أمامك ، وعمرا وراءك»
وما أشبه ذلك ؛ فلما لم يجز ذلك دل على فساد ما ذهبوا إليه.
وأما قول أبي
العباس أحمد بن يحيى ثعلب : «إنه ينتصب بفعل محذوف غير مقدر ، إلى آخر ما قرر»
ففاسد أيضا ؛ وذلك لأنه يؤدي إلى أن يكون منصوبا بفعل
__________________
معدوم من كل وجه لفظا وتقديرا ، والفعل لا يخلو ، إما أن يكون مظهرا موجودا
أو مقدرا في حكم الموجود ، فأما إذا لم يكن مظهرا موجودا ولا مقدرا في حكم الموجود
كان معدوما من [١١٠] كل وجه ، والمعدوم لا يكون عاملا ، وكما يستحيل في الحسّيّات
الفعل باستطاعة معدومة ، والمشي برجل معدوم ، والقطع بسيف معدوم ، والإحراق بنار
معدومة ؛ فكذلك يستحيل في هذه الصناعة النصب بعامل معدوم لأن العلل النحوية مشبهة
بالعلل الحسية. والذي يدل على فساد ما ذهب إليه أنه لا نظير له في العربية ، ولا
يشهد له شاهد من العلل النحوية ، فكان فاسدا. والله أعلم.
٣٠
مسألة
[القول في عامل النصب في المفعول معه]
ذهب الكوفيون
إلى أن المفعول معه منصوب على الخلاف ، وذلك نحو قولهم «استوى الماء والخشبة ،
وجاء البرد والطّيالسة». وذهب البصريون إلى أنه منصوب بالفعل الذي قبله بتوسّط
الواو. وذهب أبو إسحاق الزّجّاج من البصريين إلى أنه منصوب بتقدير عامل ، والتقدير
: ولابس الخشبة ، وما أشبه ذلك ؛ لأن الفعل لا يعمل في المفعول وبينهما الواو.
وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن ما بعد الواو ينتصب بانتصاب «مع» في نحو «جئت معه».
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه منصوب على الخلاف وذلك لأنه إذا قال «استوى
الماء والخشبة» لا يحسن تكرير الفعل فيقال : استوى الماء واستوت الخشبة ؛ لأن
الخشبة لم تكن معوجّة فتستوي ، فلما لم يحسن تكرير الفعل كما يحسن في «جاء زيد
وعمرو» فقد خالف الثاني الأول ، فانتصب على الخلاف كما بينّا في الظرف نحو : «زيد
خلفك» وما أشبه ذلك.
والذي يدل على
أن الفعل المتقدم لا يجوز أن يعمل فيه أنّ نحو استوى وجاء فعل لازم ، والفعل
اللازم لا يجوز أن ينصب هذا النوع من الأسماء ؛ فدل على صحة ما ذهبنا إليه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن العامل هو الفعل وذلك لأن هذا الفعل وإن كان في
الأصل غير متعدّ إلا أنه قوي بالواو فتعدى إلى الاسم فنصبه كما عدّي بالهمزة في
نحو «أخرجت زيدا» وكما عدّي بالتضعيف نحو «خرّجت المتاع» وكما عدّي بحرف الجر نحو
[١١١] «خرجت به» إلا أن الواو لا تعمل ؛ لأن الواو في الأصل حرف عطف ، وحرف العطف
لا يعمل ، وفيه معنيان العطف
__________________
ومعنى الجمع ، فلما وضعت موضع «مع» خلعت عنها دلالة العطف وأخلصت للجمع كما
أن فاء العطف فيها معنيان : العطف ، والإتباع ؛ فإذا وقعت في جواب الشرط خلعت عنها
دلالة العطف وأخلصت للاتباع ، وكذلك همزة الخطاب في «هاء يا رجل» فإنها إذا
ألحقتها الكاف جردتها من الخطاب ؛ لأنه يصير بعدها في الكاف ، ونظير ما نحن فيه من
كل وجه نصبهم الاسم في باب الاستثناء بالفعل المتقدم بتقوية «إلا» فكذلك هاهنا :
المفعول معه منصوب بالفعل المتقدم بتقوية الواو ، على ما بيّنا ، وهذا هو المعتمد
عند البصريين.
وأما ما ذهب
إليه الزّجّاج من أنه منصوب بتقدير عامل ، والتقدير ولابس الخشبة لأن الفعل لا
يعمل في المفعول وبينهما الواو. قلنا : هذا باطل ؛ لأن الفعل يعمل في المفعول على
الوجه الذي يتعلق به ، فإن كان يفتقر إلى توسط حرف عمل مع وجوده وإن كان لا يفتقر
إلى ذلك عمل مع عدمه ، وقد بيّنا أن الفعل قد تعلق بالمفعول معه بتوسط الواو ،
وأنه يفتقر في عمله إليها ، فينبغي أن يعمل مع وجودها ، فكيف يجعل ما هو سبب في
وجود العمل سببا في عدمه؟ وهل ذلك إلا تعليق على العلة ضدّ المقتضى؟ ولو كان لما
ذهب إليه وجه لكان ما ذهب إليه الأكثرون أولى ؛ لأن ما ذهب إليه يفتقر إلى تقدير ،
وما ذهب إليه الأكثرون لا يفتقر إلى تقدير ، وما لا يفتقر إلى تقدير أولى مما
يفتقر إلى تقدير.
وأما ما ذهب
إليه الأخفش من أنه ينتصب انتصاب «مع» فضعيف أيضا ؛ لأن «مع» ظرف ، والمفعول معه
في نحو «استوى الماء والخشبة ، وجاء البرد والطيالسة» ليس بظرف ، ولا يجوز أن يجعل
منصوبا على الظرف.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنه منصوب على الخلاف ؛ لأنه لا يحسن تكرير الفعل ؛
فخالف الثاني الأول ، فانتصب على الخلاف» قلنا : هذا باطل بالعطف الذي يخالف بين
المعنيين نحو قولك : «ما قام زيد لكن عمرو ، وما مررت بزيد لكن بكر» وما بعد لكن
يخالف ما قبلها ، وليس بمنصوب ، فإن لكن يلزم [١١٢] أن يكون ما بعدها مخالفا لما
قبلها على كل حال ، سواء لزمت العطف في النفي عندنا أو جاز بها العطف في الإيجاب
عندكم ؛ فلو كان كما زعمتم لوجب أن لا يكون ما بعدها إلا منصوبا لمخالفته الأول ،
وإذا كان الخلاف ليس موجبا للنصب مع «لكن» ـ وهو حرف لا يكون ما بعده إلا مخالفا
لما قبله ـ فلأن لا يكون موجبا للنصب مع الواو التي لا يجب أن يكون ما بعدها
مخالفا لما قبلها كان ذلك من طريق
الأولى ، وكذلك أيضا يبطل بلا في قولك «قام زيد لا عمرو ، ومررت بزيد لا
عمرو» وما بعد «لا» يخالف ما قبلها كلكن ، وليس بمنصوب ؛ فدل على أن الخلاف لا
يكون موجبا للنصب.
وقولهم «إن
الفعل المتقدم لازم ؛ فلا يجوز أن يعمل في المفعول معه» قلنا : إلا أنه تعدّى
بتقوية الواو ؛ فخرج عن كونه لازما على ما بيّنا ، فلا نعيده هاهنا ، والله أعلم.
٣١
مسألة
[القول في تقديم الحال على الفعل العامل فيها]
ذهب الكوفيون
إلى أنه لا يجوز تقديم الحال على الفعل العامل فيها مع الاسم الظاهر ، نحو : «راكبا جاء زيد» ويجوز مع المضمر ، نحو «راكبا
جئت». وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم الحال على العامل فيها مع الاسم الظاهر
والمضمر.
وأما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا لا يجوز تقديم الحال على العامل فيها ، وذلك لأنه
يؤدي إلى تقديم المضمر على المظهر ، ألا ترى أنك إذا قلت : «راكبا جاء زيد» كان في
«راكبا» ضمير زيد ، وقد تقدم عليه ، وتقديم المضمر على المظهر لا يجوز.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه يجوز تقديم الحال على العامل فيها إذا كان
العامل فعلا نحو «راكبا جاء زيد» للنقل والقياس :
أما النقل
فقولهم في المثل «شتّى تؤوب الحلبة » فشتّى : حال مقدّمة على الفعل العامل فيها مع الاسم
الظاهر ، فدل على جوازه.
وأما القياس
فلأن العامل فيها متصرف ، وإذا كان العامل متصرفا وجب أن يكون عمله متصرفا ، وإذا
كان عمله متصرفا وجب أن يجوز تقديم معموله عليه ، كقولهم «عمرا ضرب [١١٣] زيد»
فالذي يدل عليه أن الحال تشبّه بالمفعول ، وكما يجوز تقديم المفعول على الفعل ،
فكذلك يجوز تقديم الحال عليه.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : قولهم «إنما لم يجز تقديم الحال لأنه
__________________
يؤدي إلى تقديم المضمر على المظهر» قلنا : هذا فاسد ؛ وذلك لأنه وإن كان
مقدما في اللفظ إلا أنه مؤخر في التقدير ، وإذا كان مؤخرا في التقدير جاز فيه
التقديم ، قال الله تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧] فالضمير في (نَفْسِهِ) عائد إلى (مُوسى) وإن كان مؤخرا في اللفظ ، إلا أنه لما كان في تقدير
التأخير جاز التقديم ، قال زهير :
من يلق يوما
على علّاته هرما
|
|
يلق السّماحة
منه والنّدى خلقا [٣٠]
|
فالهاء في «علّاته»
تعود إلى «هرم» لأنه في تقدير التقديم ؛ لأن التقدير : من يلق يوما هرما على علاته
، فلما كان «هرما» في تقدير التقديم والضمير في تقدير التأخير وجب أن يكون جائزا ،
ومن كلامهم «في أكفانه لفّ الميّت» ومن أمثالهم «في بيته يؤتى الحكم » وتزعم العرب أن أرنبا وجدت تمرة فاختلسها ثعلب منها ،
فاختصما إلى ضبّ ، فقالت الأرنب : يا أبا الحسيل ، قال الضب : سميعا دعوتما ، قالت
: أتيناك لتحكم بيننا ، قال : عادلا حكّمتما ، قالت : فاخرج إلينا ، قال : في بيته
يؤتى الحكم ؛ فالضمير في «في بيته» يعود إلى «الحكم» وقد تقدم عليه.
وهذا كثير في
كلامهم ، وقد بيّنا ذلك مستقصى في جواز تقديم خبر المبتدأ عليه بما يغني عن
الإعادة هاهنا ، والله أعلم.
__________________
٣٢
مسألة
[هل يقع الفعل الماضي حالا]
ذهب الكوفيون
إلى أن الفعل الماضي يجوز أن يقع حالا ، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين.
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقع حالا ، وأجمعوا على أنه إذا كانت معه «قد»
أو كان وصفا لمحذوف فإنه يجوز أن يقع حالا.
أما الكوفيون
فاحتجّوا بأن قالوا : الدليل على أنه يجوز أن يقع الفعل الماضي حالا النقل والقياس
:
أما النقل فقد
قال الله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] فحصرت : فعل ماض ، وهو في موضع الحال ، وتقديره : [١١٤] حصرة
صدورهم ، والدليل على صحة هذا التقدير قراءة من قرأ : (أو جاؤوكم حَصِرَةً صدورهم)
وهي قراءة الحسن البصري ويعقوب الحضرميّ والمفضّل عن عاصم ، [و] قال أبو صخر
الهذليّ :
[١٥٢] وإنّي
لتعروني لذكراك نفضة
|
|
كما انتفض
العصفور بلّله القطر
|
______________________________________________________
[١٥٢] هذا
البيت من كلام أبي صخر الهذلي ، وهو من شواهد الرضي في باب الحال ، وقد شرحه
البغدادي في الخزانة (١ / ٥٥٢) وابن يعيش (ص ٢٤٧) وشرح الأشموني (رقم ٤٢٩) وأوضح
المسالك (رقم ٢٥٣) وابن عقيل (رقم ٢٠٧) وشرح شذور الذهب (رقم ١١٠) وتعروني : تنزل
بي وتعرض لي ، تقول : عرا فلان فلانا ، وعري فلانا الأمر ؛ إذا أردت أنه نزل به ،
والذكرى : التذكر والخطور بالبال ، والهزة : الرعدة والانتفاضة ، وروى المؤلف وابن
يعيش في مكانها «نفضة» بضم النون وسكون الفاء أو فتحها ، وانتفض العصفور : ارتعد
وارتعش ، والقطر : المطر. والاستشهاد به ههنا في قوله «بلله القطر» حيث وقعت
__________________
فبلّله : فعل
ماض ، وهو في موضع الحال ؛ فدل على جوازه.
وأما القياس
فلأن كل ما جاز أن يكون صفة للنكرة نحو «مررت برجل قاعد ، وغلام قائم» جاز أن يكون
حالا للمعرفة نحو «مررت بالرّجل قاعدا ، وبالغلام قائما» ، والفعل الماضي يجوز أن
يكون صفة للنكرة نحو «مررت برجل قعد ، وغلام قام» فينبغي أن يجوز أن يقع حالا
للمعرفة نحو «مررت بالرّجل قعد ، وبالغلام قام» وما أشبه ذلك.
والذي يدلّ على
ذلك أنا أجمعنا على أنه يجوز أن يقام الفعل الماضي مقام الفعل المستقبل ، كما قال
تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة : ١١٦] أي : يقول ، وإذا جاز أن يقام الماضي مقام المستقبل جاز أن
يقام مقام الحال.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز أن يقع حالا وذلك لوجهين ؛ أحدهما : أن
الفعل الماضي لا يدل على الحال ؛ فينبغي أن لا يقوم مقامه ، والوجه الثاني : أنه
إنما يصلح أن يوضع موضع الحال ما يصلح أن يقال فيه «الآن» أو «السّاعة» نحو : «مررت
بزيد يضرب ، ونظرت إلى عمرو يكتب» ؛ لأنه يحسن أن يقترن به الآن أو الساعة ، وهذا
لا يصلح في الماضي ، فينبغي أن لا يكون حالا ؛ ولهذا لم يجز أن يقال : «ما زال زيد
قام ، وليس زيد قام» لأن «ما زال ، وليس» يطلبان الحال ، و «قام» فعل ماض ؛ فلو
جاز أن يقع حالا لوجب أن يكون هذا جائزا ؛ فلما لم يجز دل على أن الفعل الماضي لا
يجوز أن يقع حالا ، وكذلك لو قلت «زيد خلفك قام» لم يجز أن يجعل «قام» في موضع
الحال ؛ لما بيّنا ، ولا يلزم على كلامنا إذا كان مع الماضي «قد» حيث يجوز أن يكون
حالا نحو «مررت بزيد قد قام» وذلك لأن «قد» تقرب الماضي من الحال ، فجاز أن يقع
معها حالا ، ولهذا يجوز أن يقترن به الآن أو الساعة فيقال : «قد قام الآن ، أو
الساعة» فدلّ على ما قلناه.
وأما الجواب
[١١٥] عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] فلا حجة لهم فيه ، وذلك من أربعة أوجه ؛
______________________________________________________
الجملة الفعلية
التي فعلها ماض حالا من غير أن يقرن الفعل بقد ، والكوفيون يستدلون بهذا البيت وما
أشبهه على أنه يجوز أن يقع الفعل الماضي حالا من غير أن يقرن بقد ، فأما البصريون
فيزعمون أنه لا بدّ حينئذ من اقتران الفعل الماضي بقد في اللفظ أو في التقدير ،
وعلى هذا تكون «قد» مقدرة ههنا قبل الفعل ، والإنصاف أن الاستدلال بنفس الكلام
الوارد عن العرب ، وقد رأينا أن فصحاءهم يجيئون بالفعل الماضي حالا غير مقرون بقد
، فأما التقدير فلا دليل عليه.
الوجه
الأول : أن تكون صفة
لقوم المجرور في أول الآية ، وهو قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ
يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ) [النساء : ٩٠]. والوجه الثاني : أن تكون صفة لقوم مقدر ويكون التقدير فيه :
أو جاؤوكم قوما حصرت صدورهم ، والماضي إذا وقع صفة لموصوف محذوف جاز أن يقع حالا
بالإجماع. والوجه الثالث : أن يكون خبرا بعد خبر ، كأنه قال : أو جاؤوكم ، ثم أخبر
فقال : حصرت صدورهم. والوجه الرابع : أن يكون محمولا على الدعاء ، لا على الحال ،
كأنه قال : ضيّق الله صدورهم ، كما يقال : جاءني فلان وسّع الله رزقه ، وأحسن إليّ
غفر الله له ، وسرق قطع الله يده ، وما أشبه ذلك ؛ فاللفظ في ذلك كله لفظ الماضي
ومعناه الدعاء ، وهذا كثير في كلامهم قال الشاعر :
[١٥٣] ألا يا
سيالات الدّحائل بالضّحى
|
|
عليكنّ من
بين السّيال سلام
|
ولا زال
منهلّ الرّبيع إذا جرى
|
|
عليكنّ منه
وابل ورهام
|
فأتى بالفعل الماضي
ومعناه الدعاء ؛ وقال قيس بن ذريح :
[١٥٤] ألا يا
غراب البين قد هجت لوعة
|
|
فويحك خبّرني
بما أنت تصرخ
|
______________________________________________________
[١٥٣] السيالات
: جمع سيالة ـ بفتح السين المهملة فيهما ـ والسيالة أيضا واحدة السيال ، والسيال :
شجر سبط الأغصان عليه شوك أبيض أصوله أمثال ثنايا العذارى ، وقال أبو زياد : السيال
ما طال من السمر ، والدحائل : جمع دحول ، والدحول : جمع دحل ـ بفتح الدال وسكون
الحاء المهملة ، بزنة كنز وكنوز ـ والدحل : نقب فمه ضيق ثم يتسع أسفله حتى يمشي
فيه ، وربما أنبت السدر ، وفي نظيره يقول ذو الرمة :
إذا شئت
أبكاني لجرعاء مالك
|
|
إلى الدحل
مستبدي لميّ ومحضر
|
ومنهل الربيع :
أراد به منسكب المطر ، والوابل : المطر الكثير ، والرهام : جمع رهمة ـ بكسر الراء
وسكون الهاء ـ وهو المطر الضعيف الدائم الصغير القطر. والاستشهاد بالبيتين في قوله
«عليكن سلام» وقوله «ولا زال منهل الربيع ـ الخ» فإن هاتين الجملتين خبريتان لفظا
، والمقصود من كل واحدة منهما إنشاء الدعاء ، وذلك ظاهر بأدنى تأمل.
[١٥٤] البين :
الفراق ، وغراب البين : هذا من بعض قولهم في زجر الطير ، كانوا يزعمون أن نعيب
الغراب مؤذن بتفرق شملهم ، وفي هذا يقول النابغة الذبياني :
زعم البوارح
أن رحلتنا غدا
|
|
وبذاك تنعاب
الغراب الأسود
|
لا مرحبا بغد
، ولا أهلا به
|
|
إن كان تفريق
الأحبة في غد
|
وهجت : أثرت
وحركت ، واللوعة : حرقة الباطن من عشق أو نحوه ، ويفضخ ـ بالبناء للمجهول ـ يكسر ،
ومشدخ ـ بزنة مكرم ـ مكسور ، وكان من حق العربية عليه أن يقول «مشدوخ» بزنة اسم
المفعول من الثلاثي ، فإنه يقال «شدخه يشدخه شدخا ـ مثل قطعه يقطعه قطعا» والشدخ :
الكسر والتهشيم ، وقوله «وأبصرت قبل الموت ـ الخ البيت» دعا
أبالبين من
لبنى؟ فإن كنت صادقا
|
|
فلا زال عظم
من جناحك يفضخ
|
ولا زلت من
عذب المياه منفّرا
|
|
ووكرك مهدوم
وبيضك مشدخ
|
ولا زال رام
قد أصابك سهمه
|
|
فلا أنت في
أمن ولا أنت تفرخ
|
وأبصرت قبل
الموت لحمك منضجا
|
|
على حرّ جمر
النّار يشوى ويطبخ
|
وقال معدان بن
جوّاس الكندي :
[١٥٥] إن كان
ما بلّغت عنّي فلامني
|
|
صديقي ،
وشلّت من يديّ الأنامل
|
وكفّنت وحدي
منذرا في ردائه
|
|
وصادف حوطا
من أعاديّ قاتل
|
فأتى بالفعل
الماضي في هذه المواضع ومعناه الدعاء. فكذلك قوله تعالى : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] لفظه لفظ الماضي ومعناه الدعاء ، ومعناه من الله تعالى إيجاب
ذلك عليهم.
وأما قول
الشاعر :
[١١٦] * كما انتفض
العصفور بلّله القطر* [١٥٢]
فإنما جاز ذلك
لأن التقدير فيه : قد بلّله القطر ، إلا أنه حذف لضرورة الشعر ، فلما كانت «قد»
مقدرة تنزّلت منزلة الملفوظ بها ، ولا خلاف أنه إذا كان مع الفعل الماضي «قد» فإنه
يجوز أن يقع حالا.
وأما قولهم «إنه
يصلح أن يكون صفة للنكرة ، فصلح أن يقع حالا ، نحو «قاعد ، وقائم» قلنا : هذا فاسد
؛ لأنه إنما جاز أن يقع نحو قاعد وقائم حالا لأنه
______________________________________________________
على الغراب بأن
يحترق بالنار ولنفسه بأن يتمتع برؤية ذلك قبل أن يموت؟ والاستشهاد بهذه الأبيات في
أغلب جملها ، فإنها خبرية لفظا إنشائية معنى ؛ لأن المقصود بها الدعاء ، وهذا في
غاية الظهور.
[١٥٥] شلت
أنامله : يبست أو فسدت ، ومثل هذا البيت قول الآخر :
فشلت يميني
يوم أعلو ابن جعفر
|
|
وشل بناناها
، وشل الخناصر
|
و «كفنت وحدي
منذرا ـ الخ» يقول : أصبحت فريدا لا معين لي على القيام بواجب تجهيزه وأصبحت فقيرا
لا أملك ما أكفنه فيه غير ردائه ، أو يكون المعنى : قتله أعداؤه وليس معه غيري
وأعجلت عن تكفينه حسب العادة. والاستشهاد بالبيتين في أربع جمل : أولاها : قوله «فلامني
صديقي» والثانية : قوله «وشلت ـ الخ» والثالثة : قوله «وكفنت ـ الخ» والرابعة :
قوله «وصادف
حوطا ـ الخ» فإن كل واحدة من هذه الجمل خبرية لفظا إنشائية معنى ؛ لأن المقصود بها
الدعاء ، ونظير ذلك قول النابغة :
لئن كان ما
بلغت عني صادقا
|
|
فلا رفعت
سوطي إلى إذن يدي
|
اسم فاعل ، واسم الفاعل يراد به الحال ، بخلاف الفعل الماضي فإنه لا يراد
به الحال فلم يجز أن يقع حالا.
وأما قولهم «إنه
يجوز أن يقوم الماضي مقام المستقبل ، وإذا جاز أن يقوم مقام المستقبل جاز أن يقوم
مقام الحال» قلنا : هذا لا يستقيم ، وذلك لأن الماضي إنما يقوم مقام المستقبل في
بعض المواضع على خلاف الأصل بدليل يدل عليه كقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ) [المائدة : ١١٦] فلا يجوز فيما عداه ؛ لأنّا بقينا فيه على الأصل ، كما أنه
يجوز أن يقع الماضي في بعض المواضع حالا لدليل يدل عليه ، وذلك إذا دخلت عليه «قد»
أو كان وصفا لمحذوف ، ولم يجز فيما عداه ؛ لأنّا بقينا فيه على الأصل. على أنّا
نقول : ليس من ضرورة أن يجوز أن يقام الماضي مقام المستقبل ينبغي أن يقام مقام
الحال ؛ لأن المستقبل فعل كما أن الماضي فعل ، فجنس الفعلية مشتمل عليهما ، وأما
الحال فهي اسم ؛ وليس من ضرورة أن يقام الفعل مقام الفعل يجب أن يقوم مقام الاسم ،
والله أعلم.
٣٣
مسألة
[ما يجوز من وجوه الإعراب في الصفة الصالحة للخبرية إذا وجد معها ظرف مكرر]
ذهب الكوفيون
إلى أن النّصب واجب في الصفة إذا كرر الظرف التام وهو خبر المبتدأ ، وذلك نحو قولك
: «في الدّار زيد قائما فيها». وذهب البصريون إلى أن النصب لا يجب إذا كرر الظرف
وهو خبر المبتدأ ، بل يجوز فيه الرفع كما يجوز فيه النصب. وأجمعوا على أنه إذا لم
يكرر الظرف أنه يجوز فيه الرفع والنصب.
أما الكوفيون
فاحتجّوا بأن قالوا : الدليل على [١١٧] أنّ النصب واجب النقل والقياس :
أما النقل فقد
قال الله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) [هود : ١٠٨] فقوله تعالى : (خالِدِينَ) منصوب بالحال ، ولا يجوز غيره. وقال تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي
النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) [الحشر : ١٧] ووجه الدليل من هاتين الآيتين أن القرّاء أجمعوا فيهما على
النصب ، ولم يرو عن أحد منهم أنه قرأ في واحدة منهما بالرفع.
وأما القياس
فقالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز إلا النصب ، وذلك لأن الفائدة في الظرف الثاني في
قولك : «في الدار زيد قائما فيها» إنما تحصل إذا حملناه على النصب ، لا إذا حملناه
على الرفع ، ألا ترى أنه إذا حملناه على النصب يكون الظرف الأول خبرا للمبتدأ ،
ويكون الثاني ظرفا للحال ، ويكون الصّلة لقائم منقطعا عما قبله ؛ فيكون على هذا
كلاما مستقيما لم يلغ منه شيء ، بخلاف ما إذا حملناه على الرفع فقلنا «في الدّار
زيد قائم فيها» فإنه تبطل فائدة في الثانية لنيابة الأولى عنها في الفائدة ، وحمل
الكلام على ما فيه فائدة أشبه بالحكمة من حمله على ما ليس فيه فائدة.
وأما البصريون
فاحتجّوا بأن قالوا : الدليل على أن الرفع جائز أنّا أجمعنا على
أنه إذا لم يكرر الظرف أنه يجوز فيه الرفع والنصب ، فكذلك إذا كرر ؛ لأن
قصارى ما نقدر أن يكون مانعا تكرّر الظرف ؛ لأن «في» الأولى تفيد ما تفيده الثانية
، وهذا لا يصلح أن يكون مانعا ، لأن الأولى وإن كانت تفيد ما تفيده الثانية إلا أن
الثانية تذكر على سبيل التوكيد ، والتوكيد شائع في كلام العرب مستعمل في لغتهم ،
وهذا لا خلاف فيه ، وصار هذا كقولهم «فيك زيد راغب فيك» ولا شك أن «فيك» الأولى
تفيد ما تفيده الثانية ، ومع هذا لم يمتنع صحة المسألة ، فكذلك هاهنا.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) [هود : ١٠٨] وقوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما
أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) [الحشر : ١٧] فلا حجّة لهم في هاتين الآيتين ؛ إذ ليس فيهما ما يدل على أنه
لا يجوز الرفع ، وإنما فيهما دلالة على جواز النصب ، ونحن نقول به.
وقولهم : «إنه
لم يرو عن أحد من القراء بالرفع فوجب أنه لا يجوز» قلنا : لا نسلم ؛ فإنه قد روي
عن الأعمش أنه قرأ خالدون فيها بالرفع ، على أن هذا الاستدلال [١١٨] فاسد ، وذلك
لأنه ليس من ضرورة أنه لم يقرأ به أحد من القراء أن لا يكون كلاما جائزا فصيحا.
ألا ترى أنه لم يأت في كتاب الله عزوجل ترك عمل «ما» في المبتدأ والخبر نحو «ما زيد قائم ، وما
عمرو ذاهب» إلا فيما ليس بمشهور ، وإن كانت لغة مشهورة معروفة صحيحة فصيحة وهي لغة
بني تميم ، ثم لم يدل ذلك على أنها ليست فصيحة مشهورة مستعملة؟ فكذلك هاهنا.
وأما قولهم «إنّا
لو حملناه على الرفع لأدى ذلك إلى أن تبطل فائدة الثانية لنيابة الأولى عنها في
الفائدة» قلنا : هذا فاسد ؛ وذلك لأنه وإن كانت الأولى تفيد ما تفيده الثانية إلا
أن ذلك لا يدل على بطلان فائدة الثانية ؛ لأن من مذاهب العرب أن يؤكد اللفظ
بتكريره ؛ فيقولون «لقيت زيدا زيدا ، وضربت عمرا عمرا» فيكون المكرر توكيدا للأول
، وإن كان الأول قد وقعت به الفائدة ، وقد قال الله تعالى : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [هود : ١٩] فهم الثانية تكرير للتوكيد ، والتقدير : وهم بالآخرة كافرون ،
في أحد الوجهين ، ومع هذا فلا يقال إنه لا يجوز ، فكذلك ها هنا ، ومن تدبر سورة (الرحمن)
و (قل يا أيها الكافرون) علم قطعا أن التكرير للتوكيد لا ينكر في كلامهم ؛ لما فيه
من الفائدة ، وكثرة ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب ، وشهرته في استعمالهم ،
تغني عن الإسهاب والتطويل بالشواهد ؛ إذ كان ذلك أكثر من أن يحصى ، وأشهر من أن
يظهر ، والله أعلم.
٣٤
مسألة
[القول في العامل في المستثنى النّصب]
اختلف مذهب
الكوفيين في العامل في المستثنى النّصب نحو «قام القوم إلا زيدا» فذهب بعضهم إلى
أن العامل فيه «إلا» ، وإليه ذهب أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد وأبو إسحاق
الزجاج من البصريين ، وذهب الفراء ومن تابعه من الكوفيين ـ وهو المشهور من مذهبهم
ـ إلى أن «إلا» مركبة من إنّ ولا ، ثم خففت إنّ وأدغمت في لا ، فنصبوا بها في
الإيجاب اعتبارا بإنّ ، وعطفوا بها في النفي اعتبارا بلا ، وحكي عن الكسائي أنه
قال : إنما نصب المستثنى [١١٩] لأن تأويله : قام القوم إلا أن زيدا لم يقم ، وحكي
عنه أيضا أنه قال : ينتصب المستثنى لأنه مشبه بالمفعول. وذهب البصريون إلى أن
العامل في المستثنى هو الفعل ، أو معنى الفعل بتوسّط إلا.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنّ «إلّا» هي العامل وذلك لأن إلّا قامت مقام
أستثني ، ألا ترى أنك إذا قلت «قام القوم إلا زيدا» كان المعنى فيه : أستثني زيدا
، ولو قلت «أستثني زيدا» لوجب أن تنصب ، فكذلك مع ما قام مقامه.
والذي يدل على
أن الفعل المتقدم لا يجوز أن يكون عاملا في المستثنى النصب أنه فعل لازم. والفعل
اللازم لا يجوز أن يعمل في هذا النوع من الأسماء ؛ فدلّ على أن العامل هو «إلّا»
على ما بيّنا.
والذي يدل أيضا
على أن الفعل ليس عاملا قولهم «القوم إخوانك إلا زيدا» فينصبون زيدا ، وليس هاهنا
فعل ألبتة ؛ فدل على صحة ما ذهبنا إليه.
وأما الفرّاء
فتمسك بأن قال : إنما قلنا إنه منصوب بإلّا لأن الأصل فيها إنّ ولا ؛
__________________
فزيد : اسم إن
، ولا : كفت من الخبر ؛ لأن التأويل : إن زيدا لم يقم ، ثم خففت إنّ وأدغمت في لا
وركبت معها فصارتا حرفا واحدا ، كما ركبت لو مع لا وجعلا حرفا واحدا ؛ فلما ركبوا
إنّ مع لا أعملوها عملين : عمل إنّ فنصبوا بها في الإيجاب ، وعمل لا فجعلوها عطفا
في النفي ، وصارت بمنزلة حتى ، فإنها لما شابهت حرفين إلى والواو أجروها في العمل
مجراهما ، فخفضوا بها بتأويل إلى ، وجعلوها كالواو في العطف ؛ لأن الفعل يحسن
بعدها كما يحسن بعد الواو ، ألا ترى أنك تقول «ضربت القوم حتى زيد» أي حتى انتهيت
إلى زيد ، و «ضربت القوم حتّى زيدا» أي حتى ضربت زيدا ، فكذلك هاهنا : إلّا لمّا
ركبت من حرفين أجريت في العمل مجراهما على ما بيّنا.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن العامل هو الفعل وذلك لأن هذا الفعل وإن كان
فعلا لازما في الأصل إلا أنه قوي بإلّا فتعدّي إلى المستثنى كما تعدى الفعل بحرف
الجر ، إلا أن «إلّا» لا تعمل وإن كانت معدّية كما يعمل حرف الجر ؛ لأن «إلا» حرف
يدخل على الاسم والفعل المضارع ، نحو «ما زيد إلا يقوم ، وما عمرو إلا يذهب» وإن
لم يجز دخوله [١٢٠] على الفعل الماضي نحو «ما زيد إلا قام ، وما عمرو إلا ذهب»
والحرف متى دخل على الاسم والفعل لم يعمل في واحد منهما ، وعدم العمل لا يدل على
عدم التعدية ، ألا ترى أن الهمزة والتضعيف يعدّيان وليسا عاملين ، ونظير ما نحن
فيه نصبهم الاسم في باب المفعول معه نحو «استوى الماء والخشبة ، وجاء البرد
والطّيالسة» فإن الاسم نصب بالفعل المتقدم بتقوية الواو فإنها قوّت الفعل فأوصلته
إلى الاسم فنصبه ؛ فكذلك هاهنا.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن إلّا قامت مقام أستثني فينبغي أن تعمل عمله» قلنا
: الجواب عن هذا من خمسة أوجه :
الوجه
الأول : أن هذا يؤدي
إلى إعمال معاني الحروف ؛ وإعمال معاني الحروف لا يجوز ، ألا ترى أنك تقول «ما زيد
قائما» فيكون صحيحا ؛ فلو قلت «ما زيدا قائما» على معنى نفيت زيدا قائما لكان
فاسدا ؛ فكذلك هاهنا ، وإنما لم يجز إعمال معاني الحروف لأن الحروف إنما وضعت
نائبة عن الأفعال طلبا للإيجاز والاختصار ؛ فإذا أعملت معاني الحروف فقد رجعت إلى
الأفعال ، فأبطلت ذلك المعنى من الإيجاز والاختصار.
والوجه
الثاني : أنه لو كان
العامل «إلا» بمعنى أستثني لوجب أن لا يجوز في المستثنى إلا النصب ، ولا خلاف في
جواز الرفع والجر في النفي نحو «ما جاءني أحد إلا زيد ، وما مررت بأحد إلا زيد»
فدل على أنها ليست هي العاملة بمعنى أستثني.
والوجه
الثالث : أنه يبطل
بقولك «قام القوم غير زيد» فإن «غير» منصوب ، ولا يخلو : إما أن يكون منصوبا
بتقدير إلا ، وإما أن يكون منصوبا بنفسه ، وإما أن يكون منصوبا بالفعل الذي قبله ؛
بطل أن يقال «إنه منصوب بتقدير إلا» لأنا لو قدرنا إلا لفسد المعنى ؛ لأنه يصير
التقدير فيه : قام القوم إلا غير زيد ، وهذا فاسد ، وبطل أيضا أن يقال «إنه يعمل
في نفسه» ؛ فوجب أن يكون العامل هو الفعل المتقدم ، وإنما جاز أن يعمل فيه وإن كان
لازما لأن «غير» موضوعة على الإبهام ، ألا ترى أنك إذا قلت «مررت برجل غيرك» كان
كل من جاوز المخاطب داخلا تحت «غير» فلما كان فيه هذا الإبهام المفرط أشبه الظروف
المبهمة ، نحو خلف وأمام ووراء وقدّام ، وما أشبه ذلك ، وكما [١٢١] أن الفعل
اللازم يتعدى إلى هذه الظروف من غير واسطة فكذلك هاهنا.
والوجه
الرابع : أنا نقول
لماذا قدرتم أستثني زيدا فنصبتم؟ وهلا قدرتم امتنع فرفعتم! كما روي عن أبي علي
الفارسي أنه كان مع عضد الدولة في الميدان فسأله عضد الدولة عن المستثنى ، بماذا
انتصب؟ فقال له أبو علي : انتصب لأن التقدير أستثني زيدا ، فقال له عضد الدولة :
وهلا قدرت امتنع فرفعت زيدا ، فقال له أبو علي : هذا الجواب الذي ذكرت لك ميداني ، وإذا رجعنا ذكرت لك الجواب الصحيح ، إن شاء الله
تعالى.
والوجه
الخامس : أنّا إذا
أعملنا «إلا» بمعنى أستثني كان الكلام جملتين ، وإذا أعملنا الفعل كان الكلام جملة
واحدة ، ومتى أمكن أن يكون الكلام جملة واحدة كان أولى من جعله جملتين من غير
فائدة.
وأما قولهم «إن
الفعل المتقدّم لازم فلا يجوز أن يكون عاملا» قلنا : هذا الفعل وإن كان لازما إلا
أنه تعدى بتقوية «إلّا» على ما بيّنا.
وأما قولهم «والذي
يدل على أن الفعل ليس عاملا قولهم : القوم إخوانك إلا زيدا ؛ فينصبون زيدا ، وليس
هاهنا فعل ناصب» قلنا : الناصب له ما في إخوانك من معنى الفعل ؛ لأن التقدير فيه :
القوم يصادقونك إلا زيدا ؛ فإلّا قوت الفعل المقدر فأوصلته إلى زيد فنصبه.
وأما قول
الفراء «إنّ الأصل فيها إن ولا ، ثم خففت إنّ وركبت مع لا» فمجرد دعوى يفتقر إلى
دليل ، ولا يمكن الوقوف عليه إلا بوحي وتنزيل ، وليس
__________________
إلى ذلك سبيل ، ثم لو كان كما زعم لوجب أن لا تعمل ؛ لأن إنّ الثّقيلة إذا
خففت بطل عملها ، خصوصا على مذهبكم ، وأما تشبيهه لها بلولا فحجة عليه ؛ لأن لو
لما ركبت مع لا بطل حكم كل واحد منهما عما كان عليه في حالة الإفراد ، وحدث لهما
بالتركيب حكم آخر ، وكذلك كل حرفين ركب أحدهما مع الآخر ؛ فإنه يبطل حكم كل واحد
منهما عما كان عليه في حالة الإفراد ، ويحدث لهما بالتركيب حكم آخر ، وصار هذا
بمنزلة الأدوية المركبة من أشياء مختلفة فإنه يبطل حكم كل واحد منها عما كان عليه
في حالة الإفراد ، ويحدث لها بالتركيب حكم آخر ، وهو لا يقول في «إلّا» كذلك ، بل
يزعم أن كل واحد من الحرفين باق على أصله وعمله بعد التركيب كما كان [١٢٢] قبل التركيب.
وأما تشبيهه لها بحتى فبعيد ؛ لأن «حتى» حرف واحد ، وليس بمركب من حرفين فيعمل عمل
الحرفين ، وإنما هو حرف واحد يتأول تأويل حرفين في حالين مختلفين : فإن ذهب به
مذهب حرف الجر لم يتوهم فيه غيره ، وإن ذهب به مذهب حرف العطف لم يتوهم فيه غيره ،
بخلاف «إلّا» فإن إلّا عنده مركبة من إنّ ولا ، وهما منطوق بهما ، فإذا اعتمد على
أحدهما بطل عمل الآخر وهو منطوق به ، فبان الفرق بينهما.
والذي يدل على
فساد ما ذهب إليه قولهم «ما قال إلّا له» فإن «له» لا شيء قبله يعطف عليه ، وليس
في الكلام منصوب فتكون «إلا» عاملة فيه ؛ فدل على فساد ما ذهب إليه.
وأما قول
الكسائي «إنّا نصبنا المستثنى لأن تأويله إلا أنّ زيدا لم يقم» قلنا : لا يخلو إما
أن يكون الموجب للنصب هو أنه لم يفعل ، أو أنّ ، فإن أراد أن الموجب للنصب أنه لم
يفعل فيبطل بقولهم «قام زيد لا عمرو » وإن أراد أن أنّ هي الموجبة للنصب كان اسمها وخبرها في
تقدير اسم ، فلا بد أن يقدّر له عامل يعمل فيه ، وفيه وقع الخلاف.
وقد زعم بعض
النحويين أن قول الكسائي تقدير لمعنى الكلام لا لعامله ، وإلا فقوله يرجع إلى قول
البصريين.
وأما ما حكي
عنه من أن المستثنى ينتصب لأنه مشبه بالمفعول ؛ فهو أيضا قريب من قول البصريين ؛
لأنه لا عامل هاهنا يوجب النصب إلا الفعل المتقدم على ما بيّنا ، والله أعلم.
__________________
٣٥
مسألة
[هل تكون «إلا» بمعنى الواو]؟
ذهب الكوفيون
إلى أن «إلا» تكون بمعنى الواو. وذهب البصريون إلى أنها لا تكون بمعنى الواو.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لمجيئه كثيرا في كتاب الله تعالى وكلام العرب ،
قال الله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠] أي ولا الذين ظلموا ، يعني والذين ظلموا لا يكون لهم أيضا
حجة ، ويؤيد ذلك ما روى أبو بكر بن مجاهد عن بعض القراء أنه قرأ : (إلى الّذين
ظلموا) مخففا يعني مع الّذين ظلموا منهم ، كما [١٢٣] قال تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦] أي مع المرافق ومع الكعبين ، وكما قال تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ٥٢] أي مع الله ، وكما قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى
أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] أي مع أموالكم ، وكقولهم في المثل : «الذّود إلى الذّود إبل»
أي مع الذود ، وكقول ابن مفرّغ :
[١٥٦]شدخت
غرّة السّوابق فيهم
|
|
في وجوه إلى
اللّمام الجعاد
|
______________________________________________________
[١٥٦] هذا
البيت من كلام ابن مفرغ الحميري ، واسمه يزيد بن ربيعة ، وقد روى ابن منظور هذا
البيت في اللسان مرتين ، أولاهما : في (ش د خ) وقال قبل إنشاده «وقال الراجز» وهذا
سبق قلم منه ؛ فإن البيت من الخفيف ، وليس رجزا ، وثانيتهما : في (ل م م) ونسبه
إلى ابن مفرغ. وشدخت : أي اتسعت في الوجه ، قال أبو عبيدة : «يقال لغرة الفرس إذا
كانت مستديرة : وتيرة ، فإذا سالت وطالت فهي شادخة» اه. والغرة ـ بضم الغين وتشديد
الراء ـ بياض في جبهة الفرس ، والسوابق : جمع سابق ، وأصله الفرس يأتي في الحلبة
سابقا ،
__________________
أي مع اللّمام
، وقال ذو الرّمّة :
[١٥٧]* بها كلّ خوّار إلى كلّ صعلة*
أي مع كل صعلة
، وقال تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨] أي ومن ظلم لا يحب أيضا الجهر بالسوء منه ، إلى غير ذلك من المواضع ثم قال الشاعر :
[١٥٨] وكلّ
أخ مفارقه أخوه
|
|
لعمر أبيك
إلّا الفرقدان
|
______________________________________________________
واللّمام : جمع
لمّة ، وتجمع أيضا على لمم ـ بكسر اللام في المفرد وفي جميعه ـ واللمة : الشعر إذا
نزل من الرأس فجاوز شحمة الأذن ، وكان لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فرس يقال له : ذو اللمة ، والجعاد : جمع جعدة ـ بفتح
فسكون ـ وهي أنثى الجعد ، والجعد : ضد السبط ، والسبط : المسترسل من الشعر ،
وجعودة الشعر هي الغالبة على شعور العرب ، وعلى هذا يمدح الرجل بأنه جعد الشعر ،
تعني أنه عربي ، فإذا أردت أن شعره مفلفل كشعر الزنج كان ذما. والاستشهاد بالبيت
في قوله «إلى اللمام» فإن إلى ههنا تدل على معنى مع ، وأقوى ما يدل على ذلك أن
الرواية في اللسان (ل م م) «مع اللمام الجعاد» وإذا جاءت كلمة في إحدى الروايات
مكان كلمة في رواية أخرى دل ذلك على أن الكلمتين بمعنى واحد.
[١٥٧] هذا صدر
بيت من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة ، وعجزه قوله :
* ضهول ورفض المذرعات القراهب*
وقد أنشد ابن
منظور هذا البيت في اللسان (ص ع ل ـ ض ه ل) ونسبه إلى ذي الرمة ، ثم قال «قال ابن
بري : الصعلة النعامة ، والخوار : الثور الوحشي الذي له خوار ـ وهو صوته ـ وضهول :
تذهب وترجع ، والمذرعات من البقر : التي معها أولادها ، والقراهب : جمع قرهب ـ بوزن
جعفر ـ وهو المسن مطلقا ، ويقال : الكبير الضخم من الثيران ، والقرهب أيضا : السيد
، والاستشهاد بالبيت في قوله «إلى كل صعلة» فإن إلى في هذا الموضع تدل على معنى مع
، وهو ظاهر إن شاء الله.
[١٥٨] هذا
البيت من شواهد سيبويه (١ / ٣٨١) وقد نسبه إلى عمرو بن معديكرب ، وقال الأعلم «ويروى
لسوار بن المضرب» اه ، وأنشده الجاحظ في البيان (١ / ٢٢٨) منسوبا إلى عمرو ،
والبيت من شواهد الأشموني (رقم ٤٥٣) ومغني اللبيب (رقم ١٠٨) ورضي الدين في شرح
الكافية في باب الاستثناء ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٥٢ بولاق). وقال : إن
هذا البيت يروى في شعرين لشاعرين ، أحدهما : عمرو بن معديكرب ، والثاني : حضرمي بن
عامر أحد بني أسد ، واستشهد به أيضا موفق الدين بن يعيش في شرح
__________________
أي والفرقدان ،
والشواهد على هذا في أشعارهم كثيرة جدا.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن «إلّا» لا تكون بمعنى الواو لأنّ إلا للاستثناء
، والاستثناء يقتضي إخراج الثاني من حكم الأول ، والواو للجمع ، والجمع يقتضي
إدخال الثاني في حكم الأول ؛ فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) [البقرة : ١٥٠] فلا حجّة لهم فيه ؛ لأن «إلا» هاهنا استثناء منقطع ،
والمعنى : لكن الذين ظلموا يحتجّون عليكم بغير حجّة ، والاستثناء المنقطع كثير في
كتاب الله تعالى وكلام العرب ، قال الله تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) [النساء : ١٥٧] معناه لكن يتبعون الظن ، وقال تعالى : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزى ، إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ٢٠] معناه لكن يبتغي وجه ربّه الأعلى ، وقال تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ،
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٥ ، ٦] معناه لكن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات فلهم أجر ، ثم قال النابغة :
[١٥٩] [١٢٤] وقفت
فيها أصيلا لا أسائلها
|
|
أعيت جوابا ،
وما بالرّبع من أحد
|
______________________________________________________
المفصل (ص ٢٨٤)
والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله «إلا الفرقدان» فإن الكوفيين زعموا أن «إلا» في هذا
البيت حرف عطف بمنزلة الواو ، وكأنه قال : كل أخ مفارقه أخوه والفرقدان أيضا ، وقد
حمل الشريف المرتضى في أماليه (٢ / ٨٨) على هذا المعنى قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي
الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) قال : إلا بمعنى الواو ، والتأويل : خالدين فيها ما
دامت السموات والأرض وما شاء ربك من الزيادة ، واستشهد على ذلك ببيت الشاهد ،
وبقول الآخر : (وهو المخبل السعدي) :
وأرى لها
دارا بأغدرة ال
|
|
سيدان لم
يدرس لها رسم
|
إلا رمادا
هامدا دفعت
|
|
عنه الرياح
خوالد سحم
|
والمراد بإلا
ههنا الواو ، وإلا كان الكلام متناقضا ، اه. والذي رآه سيبويه في بيت الشاهد ـ وسيذكره
المؤلف في الرد على كلمات الكوفيين ـ أن «إلا» ههنا اسم بمعنى غير ، وهي صفة لكل ،
ولهذا ارتفع ما بعدها ؛ لأن إلا التي بمعنى غير يظهر إعرابها على ما بعدها بطريق
العارية ، ومن هنا تدرك أنه لا يجوز جعل إلا صفة لأخ المضاف إليه ؛ إذ لو كانت صفة
لأخ لكان ما بعدها مجرورا فكان يقول «إلا الفرقدين» كما قال الآخر :
وكل أخ
مفارقه أخوه
|
|
لشحط الدار
إلا ابني شمام
|
كما أنه لا
يجوز لك أن تجعل «إلا» في بيت الشاهد استثنائية ؛ لأنها لو كانت هي الاستثنائية
لكان ما بعدها منصوبا ، لأن الكلام قبلها تام موجب ، ونصب المستثنى بعد الكلام
التام الموجب واجب كما تعلم.
[١٥٩] هذان
البيتان من قصيدة النابغة الذبياني التي يعدونها من المعلّقات والتي مطلعها :
إلّا الأواريّ
لأيا ما أبيّنها
|
|
والنّؤي
كالحوض بالمظلومة الجلد
|
وقال آخر :
[١٦٠] وبلدة
ليس بها أنيس
|
|
إلّا
اليعافير وإلا العيس
|
______________________________________________________
يا دار مية
بالعلياء فالسند
|
|
أقوت وطال
عليها سالف الأمد
|
والبيتان من
شواهد سيبويه (١ / ٣٦٤) وشرح المفصل لابن يعيش (ص ٢٦٥) وانظر ـ مع ذلك ـ خزانة
الأدب (٢ / ٧٦) وشرحنا على شرح الأشموني (الشواهد ٢١ و ١٨٠ و ٢٧١ و ٤٦٧) وقوله «أصيلالا»
أصله أصيلان ـ بالنون ـ فأبدل النون لاما ، وهو إبدال غير قياسي ، والأصيلان :
تصغير أصلان ، الذي هو جمع أصيل ، والأصيل : الوقت قبيل غروب الشمس ، وأعيت : عجزت
وضعفت ، والأواري : جمع آرية أو آري ، وهو محبس الخيل ، وقوله «لأيا ما أبينها»
يريد ما أعرفها وأتبينها إلا بعد لأي ، أي بطء والنؤي ـ بالضم ـ حفيرة تحفر حول
الخيمة لتمنع تسرب المطر إليها ، والمظلومة : أراد بها الفلاة التي حفر فيها الحوض
لغير إقامة ، والجلد : الصلبة ، والاستشهاد بالبيتين في قوله «إلا الأواري» فإن
هذا من نوع الاستثناء المنقطع لكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه ، وهذا النوع
يجوز فيه وجهان : الإبدال من المستثنى منه فيتبعه في إعرابه ، على أن تتوسع في
المستثنى منه فتجعله شاملا للمستثنى ، والنصب على الاستثناء قال الأعلم : «الشاهد
في قوله إلا الأواري بالنصب على الاستثناء المنقطع ؛ لأنها من غير جنس الأحدين ،
والرفع جائز على البدل من الموضع ، والتقدير : وما بالربع أحد إلا الأواري ، على
أن تجعل من جنس الأحدين اتساعا ومجازا» اه. وليس عجيبا أن تجعل المستثنى من هذا
النوع داخلا في جنس المستثنى منه ؛ فقد جرت عادة العرب في كلامهم أن يجعلوا الشيء
من جنس غير جنسه توسعا ، انظر إلى قول أبي ذؤيب الهذلي :
فإن تمس في
قبر برهوة ثاويا
|
|
أنيسك أصداء
القبور تصيح
|
فقد جعل أصداء
القبور أنيسا وليست في الأصل من جنس الأنيس ، ثم انظر إلى قول ابن الأيهم التغلبي
:
ليس بيني
وبين قيس عتاب
|
|
غير طعن
الكلى وضرب الرقاب
|
ثم انظر إلى
قول عمرو بن معد يكرب :
وخيل قد دلفت
لها بخيل
|
|
تحية بينهم
ضرب وجيع
|
فقد جعل الضرب
الوجيع تحية ، وهو في الأصل من غير جنسها.
[١٦٠] هذان
بيتان من مشطور الرجز ، وهما من كلام جران العود ، واسمه عامر بن الحارث (د ٥٢)
والبيتان من شواهد سيبويه (١ / ١٣٣ و ٣٦٥) وابن يعيش (ص ٢٦٥) والأشموني (رقم ٤٤٤)
وأوضح المسالك (رقم ١٤٥) وشذور الذهب (رقم ١٢٥) ولميس : اسم امرأة ، واليعافير :
جمع يعفور ـ بضم الياء أو فتحها ـ وهو الظبي الذي لونه لون العفر وهو التراب ،
والعيس : جمع أعيس أو عيساء ، وأصلها الإبل لكنه أراد بقر الوحش ، والاستشهاد به
في قوله «إلا اليعافير وإلا العيس» حيث رفع ما بعد إلا على البدل مما قبلها مع أن
اليعافير والعيس ليسا من جنس الأنيس في الأصل ، ولكنه توسع فجعلهما من
وعلى ذلك أيضا
يحمل ما احتجّوا به من قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨] ؛ فإن معناه لكن المظلوم يجهر بالسوء ؛ لما يلحقه من الظلم
، فيكون في ذلك أعذر ممن يبدأ بالظلم ، وعلى ذلك أيضا يحمل قول الشاعر :
وكلّ أخ
مفارقه أخوه
|
|
لعمر أبيك
إلّا الفرقدان [١٥٨]
|
أراد لكن
الفرقدان فإنهما لا يفترقان ، على زعمهم في بقاء هذه الأشياء المتأخرة إلى وقت
الفناء ، ويحتمل أن تكون «إلا» في معنى غير ، ولذلك ارتفع ما بعدها ، والمعنى :
كلّ أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه ، كما قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] أي لو كان فيهما آلهة غير الله ، ولهذا كان ما بعدها
مرفوعا ، ولا يجوز أن يكون الرفع على البدل ؛ لأن البدل في الإثبات غير جائز ؛ لأن
البدل يوجب إسقاط الأول ، ولا يجوز أن تكون (آلِهَةٌ) في حكم الساقط ؛ لأنك لو أسقطته لكان بمنزلة قولك : لو
كان فيهما إلا الله ، وذلك لا يجوز ، ألا ترى أنك لا تقول «جاءني إلا زيد» لأن
الغرض في «إلا» ـ إذا جاءت قبل تمام الكلام ـ أن تثبت بها ما نفيته ، نحو «ما
جاءني إلا زيد» وليس في قوله : (لَوْ كانَ) نفي فيفتقر إلى إثبات ، ولو جاز أن يقال «جاءني إلا زيد»
على إسقاط إلا مثلا حتى كأنه قيل جاءني زيد و «إلا» مزيد لاستحال ذلك في الآية ؛
لأنه كان يصير قولك «لو كان فيهما إلا الله» بمنزلة لو كان فيهما الله لفسدتا ،
وذلك مستحيل.
وأما قراءة من
قرأ : إلى الذين ظلموا منهم بالتخفيف ، فإن صحّت وسلم
______________________________________________________
جنسه ، قال
سيبويه بعد أن أنشد البيت «جعلها أنيسها» يريد جعل اليعافير والعيس أنيس هذه
البلدة. وقال الأعلم «الشاهد فيه رفع اليعافير والعيس بدلا من الأنيس على الاتساع
والمجاز» اه. وإبدال المستثنى من المستثنى منه إذا كان في أصله من غير جنسه هو لغة
بني تميم ، يجيزون فيه النصب على الاستثناء والبدلية ، أما الحجازيون فلا يجيزون
فيه غير النصب على الاستثناء ، وعليه قول الأسود بن يعفر ، وهو من شعر المفضليات :
مهامها
وخروقا لا أنيس بها
|
|
إلا الضوابح
والأصداء والبوما
|
ويحتمل ذلك قول
الكلحبة اليربوعي :
أمرتكم أمري
بمنعرج اللوى
|
|
ولا أمر
للمعصي إلا مضيعا
|
فإنه يجوز أن
يكون قوله «إلا مضيعا» استثناء مما قبله فيكون قد وضع الصفة مكان الموصوف ، وأصل
الكلام : ولا أمر للمعصي إلا أمرا مضيعا ، ويجوز أن يكون «مضيعا» حالا من الضمير
المستكن في الجار والمجرور قبله.
لكم ما ادعيتموه على أصلكم من أن إلى تكون بمعنى مع فليس لكم فيه أيضا حجّة
تدل على أن «إلا» تكون بمعنى الواو ؛ لأنه ليس من الشرط أن تكون إحدى القراءتين
بمعنى الأخرى ، وإذا اعتبرتم هذا في [١٢٥] القراءات وجدتم الاختلاف في معانيها
كثيرا جدا ، وهذا مما لا خلاف فيه ، وإذا ثبت هذا فيجوز أن تكون قراءة من قرأ إلى
الذين بالتخفيف بمعنى مع ، وقراءة من قرأ «إلا» بالتشديد بمعنى لكن ، على ما بيّنا
، والله أعلم.
٣٦
مسألة
[هل يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام؟]
ذهب الكوفيون
إلى أنه يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام ، نحو قولك : «إلّا طعامك ما أكل
زيد» نصّ عليه الكسائي ، وإليه ذهب أبو إسحاق الزّجاج في بعض المواضع. وذهب
البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على جواز تقديمه أن العرب قد استعملته مقدّما ، قال
الشاعر :
[١٦١]خلا أنّ
العتاق من المطايا
|
|
حسين به فهنّ
إليه شوس
|
______________________________________________________
[١٦١] هذا
البيت من كلام أبي زبيد الطائي ، وقد أنشده ابن منظور (ح س س ـ ح س ى) ونسبه في
المرتين إليه ، غير أنه رواه في المرة الأولى مثل ما أنشده المؤلف ، ورواه في
المرة الثانية :
* سوى أن العتاق ـ الخ*
والعتاق : جمع
عتيق ، وهو الأصيل ، والمطايا : جمع مطية ، وهي الدابة ، سميت بذلك لأنها تمطو في
سيرها ، أي تسرع ، أو لأن راكبها يقتعد مطاها ، وهو ظهرها ، وحسين به ـ بفتح الحاء
وكسر السين أو فتحها ، وآخره نون جماعة الإناث ـ أصله حسسن به ، فأبدل من ثاني
المثلين ياء ، قال ابن منظور : «قال ابن سيده : وقالوا : حسست به ، وحسيت به ـ بكسر
السين فيهما ـ وحسيته ـ بفتح السين ـ وأحسيت ، وهذا كله من محول المضعف ...
ثم قال عن
الفراء : حسيت بالخبر ، وأحسيت به ، يبدلون من السين ياء ، قال أبو زبيد :
* خلا أن العتاق ... الخ*
قال الجوهري
وأبو عبيدة يروي بيت أبي زبيد :
* أحسّنّ به فهن إليه شوس*
وأصله أحسسن»
اه. وقال : «وحسيت الخبر بالكسر مثل حسست ، قال أبو زبيد :
* سوى أن العتاق ... الخ*
__________________
وقال الآخر :
[١٦٢] وبلدة
ليس بها طوريّ
|
|
ولا خلا
الجنّ بها إنسيّ
|
قالوا : ولا
يجوز أن يقال «إن الاستثناء يضارع البدل بدليل قولهم : ما قام أحد إلا زيدا ؛ وإلا
زيد ، والمعنى واحد ، فلما جاز البدل لم يجز تقديمه كما لا يجوز تقديم البدل على
المبدل منه» لأنا نقول : لو كان الأمر كما زعمتم لكان ينبغي أن لا يجوز تقديمه على
المستثنى منه كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه ، وقد جاء ذلك كثيرا في
كلامهم ، قال الكميت :
[١٦٣] فما لي
إلّا آل أحمد شيعة
|
|
وما لي إلّا
مشعب الحقّ مشعب
|
______________________________________________________
وأحسيت الخبر
مثله ، قال أبو نخيلة :
لما احتسى
منحدر من مصعد
|
|
أن الحيا
مغلولب لم يجمد
|
احتسى : أي
استخبر فأخبر أن الخصب فاش. والمنحدر : الذي يأتي القرى ، والمصعد : الذي يأتي إلى
مكة» اه. وقول أبي زبيد «فهن إلي شوس» الشوس : جمع أشوس ، وهو الوصف من الشوس ـ بفتح
الشين والواو جميعا ـ وهو النظر بمؤخر العين. والاستشهاد بالبيت في قوله «خلا أن
العتاق من المطايا» حيث قدم المستثنى في أول الكلام ، وقد أنشده الكوفيون ذاهبين
إلى أن فيه دليلا على جواز تقديم المستثنى قبل جملة الكلام ، ونظيره قول الأعشى ،
وهو من شواهد الأشموني وابن عقيل :
خلا الله لا
أرجو سواك ، وإنما
|
|
أعد عيالي
شعبة من عيالكا
|
[١٦٢] هذان بيتان من مشطور الرجز ،
وهما من كلام العجاج ، وقد أنشدهما الرضي في شرح الكافية أول باب الاستثناء ،
وشرحهما البغدادي في الخزانة (٢ / ٢) وأنشد أولهما ابن منظور (ط ور) ونسبه إلى
العجاج. والعرب تقول : ما بالدار طوري ، وما بالدار طوراني ، وما بالدار دوري ،
وما بالدار ديار ، تريد ما بالدار أحد ، وقالوا أيضا : رجل طوري ، يريدون رجلا
غريبا ، ومحل الاستشهاد قوله «ولا خلا الجن بها إنسي» حيث قدم الاستثناء على جملة
الكلام ، وأصل العبارة : ولا بها إنسي خلا الجن ، فالجار والمجرور خبر مقدم ،
وإنسي : مبتدأ مؤخر ، وخلا الجن : استثناء ، وبهذا ونحوه استدل الكوفيون على جواز
تقديم الاستثناء على جملة الكلام ، وقد بيّنا لك ذلك في شرح الشاهد السابق.
[١٦٣] هذا
البيت من قصيدة هاشمية للكميت بن زيد الأسدي ، وهو من شواهد ابن يعيش (ص ٢٦٣)
والأشموني (رقم ٤٤٨) وابن عقيل (رقم ١٦٧) وأوضح المسالك (٢٦٢) وشذور الذهب (رقم
١٢٤) وشرح قطر الندى (رقم ١٠٩) والشيعة : هم الأنصار والأشياع والأعوان ، ومشعب
الحق : يروى في مكانه «مذهب الحق» والمراد الطريق الذي يعتقد أنه الطريق الثابت
الذي لا يجوز الانحراف عنه. والاستشهاد بالبيت في موضعين منه ؛ الأول قوله «إلا آل
أحمد» والثاني قوله «إلا مشعب الحق» حيث قدم المستثنى في كل موضع منهما على
المستثنى منه ، وأصل نظم الكلام وما لي شيعة إلا آل أحمد ، وما لي مشعب إلا
فقدّم المستثنى
على المستثنى منه ، وقال الآخر :
[١٦٤] النّاس
ألب علينا فيك ليس لنا
|
|
إلّا السّيوف
وأطراف القناوزر
|
فقدّم المستثنى
على المستثنى منه ، وهذا كثير في كلامهم.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأنه يؤدي إلى أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ،
وذلك لا يجوز ؛ لأنها حرف نفي يليها الاسم والفعل كحرف الاستفهام ، وكما [١٢٦] أنه
لا يجوز أن يعمل ما بعد حرف الاستفهام فيما قبله ؛ فكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعدها
فيما قبلها.
ومنهم من تمسك
بأن قال : إنما قلنا ذلك لأن الاستثناء يضارع البدل ، ألا ترى أنك تقول «ما جاءني
أحد إلا زيد ، وإلا زيدا» والمعنى واحد ، فلما جارى الاستثناء البدل امتنع تقديمه
كما يمتنع تقديم البدل على المبدل منه ، وما ذكروه
______________________________________________________
مشعب الحق ،
وقد كان المستثنى ـ لو أنه جاء به على أصل الكلام ـ يجوز فيه وجهان : الأول :
النصب على الاستثناء ، والثاني : الإتباع على البدلية ، فلما قدمه على المستثنى
لزمه ـ في لغة عامة العرب ـ النصب على الاستثناء ، ولم يجز فيه الإتباع على
البدلية ؛ لأن البدل لا يتقدم على المبدل منه لأنه تابع ورتبة التابع تكون بعد
رتبة المتبوع ألا ترى أنهم إذا قدموا صفة النكرة عليها نحو قولك : فيها قائما رجل
، وقول كثير :
لعزة موحشا
طلل
|
|
يلوح كأنه
خلل
|
وجب نصب الصفة
على الحال ، ولم يجز إتباعها للموصوف على أن تكون نعتا كما كانت وهي متأخرة؟ وقد
جاء على الإتباع قول حسان بن ثابت :
لأنهم يرجون
منه شفاعة
|
|
إذا لم يكن
إلا النبيون شافع
|
فقد قدم
المستثنى ـ وهو قوله النبيون ـ على المستثنى منه ـ وهو قوله شافع ـ ومع ذلك لم
ينصبه على الاستثناء كما ينصبه عامة العرب ، ويمكن أن يكون هذا البيت ردا على قول
الكوفيين «إن المستثنى يضارع البدل ، والبدل لا يتقدم» فيقال لهم : لا نسلم أنه
يضارع البدل وأن البدل لا يتقدم ؛ فإن من العرب من يقدمه ويبقيه على الإتباع ،
فتفطن لذلك.
[١٦٤] هذا
البيت من كلام كعب بن مالك ، الأنصاري ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٨١) وابن يعيش (ص
٢٦٣) وألب : أي مجتمعون متألبون قد تضافروا على خصومتنا وإرادة النيل منا ، والوزر
ـ بفتح الواو والزاي جميعا ـ الحصن والملجأ ، وأصل معناه الجبل. يقول هذا البيت
للنبي صلوات الله وأزكى تسليماته عليه. والاستشهاد به في قوله «إلا السيوف» حيث
قدم هذا المستثنى على المستثنى منه وهو قوله «وزر» وأصل الكلام : ليس لنا وزر
وملجأ نلجأ إليه إلا السيوف وأطراف القنا ، ولو أنه جاء بالكلام على أصله لكان له
أن ينصب المستثنى على الاستثناء وأن يتبعه بالرفع على البدلية ، لكنه لما قدم
المستثنى وجب فيه ـ عند عامة العرب ـ أن ينصبه ؛ لما ذكرنا من العلة في شرح الشاهد
السابق ، وهذا واضح إن شاء الله تعالى.
على هذا فنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم ، إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقول الشاعر :
* خلا أنّ العتاق من المطايا* [١٦١]
فنقول ؛ لا
نسلم هاهنا أن الاستثناء وقع في أول الكلام ، فإن هذا الشعر لأبي زبيد ، وقبل هذا
:
إلى أن
عرّسوا وأغبّ منهم
|
|
قريبا ما
يحسّ له حسيس
|
خلا أنّ
العتاق من المطايا
|
|
حسين به فهنّ
إليه شوس [١٦١]
|
وأما قول الآخر
:
وبلدة ليس
بها طوريّ
|
|
ولا خلا
الجنّ بها إنسيّ [١٦٢]
|
فتقديره :
وبلدة ليس بها طوريّ ولا إنسيّ خلا الجنّ ، فحذف إنسيّا ، فأضمر المستثنى منه ،
وما أظهره تفسير لما أضمره ، وقيل : تقديره ولا بها إنسيّ خلا الجنّ ؛ ف «بها»
مقدرة بعد «لا» وتقديم الاستثناء فيه للضرورة ؛ فلا يكون فيه حجّة.
والذي يدل على
صحة ما ذهبنا إليه أنه قد ضارع البدل.
قولهم «لو كان
الأمر كما زعمتم لوجب أنه لا يجوز تقديمه على المستثنى منه ، كما لا يجوز تقديم
البدل على المبدل منه» قلنا : هذا فاسد ؛ لأن المستثنى لما تجاذبه شبهان : أحدهما
كونه مفعولا ، والآخر كونه بدلا ؛ جعلت له منزلة متوسطة ، فجاز تقديمه على
المستثنى منه ، ولم يجز تقديمه على الفعل الذي ينصبه ، عملا بكلا الشبهين ، على أن
من العرب من يجوز البدل مع التقديم ، فيقول : ما جاءني إلا زيد أحد ؛ فيرفع على
البدل مع تقديمه على المبدل منه ؛ لأن هذا التقديم التقدير به التأخير ، وإن كانت اللغة
الفصيحة العالية النصب ، والله أعلم.
__________________
[١٢٧] ٣٧
مسألة
[حاشى في الاستثناء ،
فعل أو حرف أو ذات وجهين]
ذهب الكوفيون
إلى أن «حاشى» في الاستثناء فعل ماض ، وذهب بعضهم إلى أنه فعل استعمل استعمال
الأدوات ، وذهب البصريون إلى أنه حرف جر ، وذهب أبو العباس المبرد إلى أنه يكون
فعلا ويكون حرفا.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه فعل أنه يتصرف ، والدليل على أنه يتصرف قول
النابغة :
[١٦٥] ولا
أرى فاعلا في النّاس يشبهه
|
|
وما أحاشي من
الأقوام من أحد
|
______________________________________________________
[١٦٥] هذا
البيت من قصيدة النّابغة الذبياني المعلقة التي منها الشاهد رقم ١٥٩ السابق في
المسألة ٣٥ وهو من شواهد ابن يعيش (ص ٢٩٩) ومغني اللبيب (رقم ١٨٦) والأشموني (رقم
٤٦٧) والرضي في باب الاستثناء ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٤٤) وأنشده ابن
منظور مرتين (ح ش ا) وقوله «ولا أحاشي» أراد لا أستثني أحدا ممن يفعل الخير ، و «من»
في قوله «من أحد» زائدة ، وأحد بعدها : مفعول به لأحاشي. والاستشهاد بالبيت في
قوله «ولا أحاشي» فإن هذا فعل مضارع بمعنى استثني ، وقد جاء في كلام العرب المحتج
بكلامهم ، فيدل على أن «حاشا» التي تستعمل في الاستثناء فعل ، وأنه مع ذلك متصرف ،
وهذا أحد ثلاثة أدلة للكوفيين استدلوا بها على أن «حاشا» الاستثنائية فعل ،
والثاني : أن حرف الجر يأتي بعدها متعلقا بها نحو قوله تعالى : حاشى لله ، والثالث
: أنه قد يتصرف في لفظها بالحذف فيقال : حشا ، وحاش ، وقد علم أن الحذف لا يكون
إلا في الاسم نحو يد ودم وأخ وغد وأب وحم (انظر ما ذكرناه في المسألة الأولى من
هذا الكتاب) أو في الفعل نحو قولهم : لم يك ، ولا أدر ، ولم أبل ـ والأصل : لم يكن
، ولا أدري ، ولم أبال ـ وقد ذكر المؤلف هذه الأدلة ، وحاول أن يرد كل واحد منها
بما تراه في كلامه ، وسنتعرض له في شرح الشواهد الآتية ، وهذا لأن سيبويه لم يحفظ
في «حاشا» إلا الجر
__________________
وإذا كان
متصرفا فيجب أن يكون فعلا ؛ لأن التصرف من خصائص الأفعال.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : الدليل على أنه فعل أن لام الخفض تتعلق به ، قال الله تعالى : (حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً) [يوسف : ٣١] وحرف الجرّ إنما يتعلق بالفعل ، لا بالحرف ؛ لأن الحرف لا
يتعلق بالحرف ، وإنما حذفت اللام لكثرة استعماله في الكلام.
ومنهم من تمسّك
بأن قال : الدليل على أنه فعل أنه يدخله الحذف ، والحذف إنما يكون في الفعل ، لا
الحرف ، ألا ترى أنهم قالوا في حاشى لله : حاش لله ، ولهذا قرأ أكثر القراء (حاشَ لِلَّهِ) بإسقاط الألف ، وكذلك هو مكتوب في المصاحف ؛ فدل على
أنه فعل.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه ليس بفعل وأنه حرف أنه لا يجوز دخول «ما» عليه
؛ فلا يقال «ما حاشى زيدا» كما يقال «ما خلا زيدا ، وما عدا عمرا» ولو كان فعلا
كما زعموا لجاز أن يقال «ما حاشى زيدا» فلما لم يقولوا ذلك دلّ
______________________________________________________
بها ، كما لم
يحفظ دخول «ما» عليها ، فقرر أنها لا تكون إلا حرف جر ، لكن العلماء الثقات حفظوا
الأمرين جميعا : حفظوا دخول «ما» على حاشا في قول الأخطل :
رأيت الناس
ما حاشا قريشا
|
|
فإنا نحن
أكثرهم فعالا
|
وحفظوا النصب
بها دون أن تلحقها «ما» نحو ما رواه أبو زيد قال : «سمعت أعرابيا يقول : اللهم
اغفر لي ولمن سمع حاشا الشيطان وابن الأصبغ» بنصب ما بعد حاشا والمعطوف عليه ، كما
حفظوا الذي حفظه سيبويه من الجر بها ، وإذن يكون حال «حاشا» مثل حال «عدا ، وخلا»
كل واحد من هذه الثلاثة يكون حرفا تارة ، ويكون فعلا تارة أخرى ، وهذا مذهب أبي
العباس المبرد ، وهو الذي تؤيده جملة الشواهد الواردة في هذه المسألة ، وقد تفطن
لذلك موفق الدين ابن يعيش ، فقال : «أما حاشا فهو حرف جر عند سيبويه ، يجر ما بعده
، وهو مع ما بعده في موضع نصب بما قبله ، وفيه معنى الاستثناء ، وزعم الفراء أن
حاشى فعل ولا فاعل له ، وأن الأصل في قولك «حاشى زيد» حاشا لزيد ، فحذفت اللام
لكثرة الاستعمال وخفضوا بها ، وهذا فاسد ؛ لأن الفعل لا يخلو من فاعل ، وذهب أبو
العباس المبرد إلى أنها تكون حرف جر كما ذكر سيبويه ، وتكون فعلا ينصب ما بعده ،
واحتج لذلك بأشياء ، منها أنه يتصرف فتقول : حاشيت أحاشي ، والتصرف من خصائص
الأفعال ، ومنها أنه يدخل على لام الجر ، فتقول : حاشى لزيد ، قال الله تعالى :
حاشى لله ولو كان حرف جر لم يدخل على مثله ، ومنها أنه يدخله الحذف ، نحو حاش لزيد
، وقد قرأت القراء إلا أبا عمرو (حاشَ لِلَّهِ) وليس القياس في الحروف الحذف ، إنما ذلك في الأسماء نحو
أخ ويد ، وفي الأفعال نحو لم يك ولا أدر ، وهو قول متين يؤيده أيضا ما حكاه أبو
عمرو الشيباني وغيره أن العرب تخفض بها وتنصب» اه باختصار يسير ، ومثله قول الراعي
:
إن على أهوى
لألأم حاضر
|
|
حسبا ، وأقبح
مجلس ألوانا
|
قبح الإله ـ ولا
أحاشي غيرهم ـ
|
|
أهل السبيلة
من بني حمانا
|
على فساد ما ذهبوا إليه ، يدل عليه أن الاسم يأتي بعد حاشى مجرورا ، قال
الشاعر :
[١٦٦] حاشى
أبي ثوبان ؛ إنّ به
|
|
ضنّا على
الملحاة والشّتم
|
فلا يخلو : إما
أن يكون هو العامل للجرّ ، أو عامل مقدّر ، بطل أن يقال عامل مقدّر ؛ لأن عامل
الجرّ لا يعمل مع الحذف فوجب أن يكون هو العامل على ما بيّنا.
______________________________________________________
[١٦٦] أنشد ابن
منظور هذا البيت نقلا عن الجوهري ، ونسبه إلى سبرة بن عمرو الأسدي ، ثم قال : وهو
منسوب في المفضليات للجميع الأسدي ، واسمه منقذ بن الطماح ، والصواب أن الشاهد من
كلام الجميع ، وقد لفق النحاة هذا البيت من بيتين ، وصواب الإنشاد هكذا :
حاشى أبا
ثوبان ؛ إن أبا
|
|
ثوبان ليس
ببكمة فدم
|
عمرو بن عبد
الله ؛ إن به
|
|
ضنا عن
الملحاة والشتم
|
والبيت من
شواهد مغني اللبيب (رقم ١٨٧) والأشموني (رقم ٤٦٥) وقوله «ليس ببكمة» يريد ليس
بأبكم والفدم ـ بفتح الفاء وسكون الدال ـ العيي عن الكلام في ثقل وقلة فهم ،
والملحاة : مفعلة من قولك «لحوت الرجل ولحيته» إذا لمته وألححت في لومك.
والاستشهاد بالبيت في قوله «حاشا أبي ثوبان» فقد أتى المؤلف بهذا البيت ليستدل به
على أن «حاشا» تجر ما بعدها ، وروي «حاشا أبي ثوبان» وكذلك وقعت الرواية في الصحاح
واللسان بجر ما بعد حاشا ، لكن الثابت في المفضليات ـ وهو الذي حكاه ابن هشام في
المغني وتبعه عليه الأشموني ـ نصب ما بعد حاشا في هذا البيت ، ونحن لا ننكر أن
حاشا يجر ما بعدها ؛ فقد ورد ذلك في عدة أبيات ، منها قول عمر بن أبي ربيعة وأنشده
في اللسان :
من رامها
حاشى النبي وأهله
|
|
في الفخر
غطغطه هناك المزيد
|
ومنها ما أنشده
في اللسان عن الفراء ولم يعزه :
حشا رهط
النبي ؛ فإن منهم
|
|
بحورا لا
تكدرها الدلاء
|
ومنها قول
الأقيشر ، وأنشده في اللسان أيضا :
في فتية
جعلوا الصليب إلههم
|
|
حاشاي إني
مسلم معذور
|
وإنما قلنا إن
الياء في «حاشاي» في محل جر لأنها لو كانت في محل نصب لأتى بنون الوقاية فكان يقول
«حاشاني» كما قال الآخر في «عدا» :
تمل الندامى
ما عداني ؛ فإنني
|
|
بكل الذي
يهوى نديمي مولع
|
نقول : نحن لا
ننكر أن «حاشا» يأتي بعدها الاسم مجرورا ، لكن الاسم في هذا البيت منصوب بعد حاشا
في رواية الرواة من حملة الشعر ، وقد ذكر ابن هشام الروايتين ، ثم قال : ويحتمل أن
من روى «حاشا أبا ثوبان» قد أتى بالكلمة على لغة من يلزم الأسماء الستة الألف في
الأحوال كلها ، وهو كلام عجيب من مثل ابن هشام ، أن يحمل البيت على لغة ضعيفة لمجرد
أن سيبويه شيخ النحاة لم يحفظ النصب بعد حاشى.
__________________
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنه يتصرف» قلنا : [١٢٨] لا نسلّم ، وأما قول النابغة
:
* وما أحاشي من الأقوام من أحد* [١٦٥]
فنقول : قوله «أحاشي»
مأخوذ من لفظ حاشى ، وليس متصرفا منه ، كما يقال : بسمل ، وهلّل ، وحمدل ، وسبحل ،
وحولق ، إذا قال : بسم الله ، ولا إله إلا الله ، والحمد لله ، وسبحان الله ، ولا
حول ولا قوة إلا بالله ، وكذلك يقال «لبّى» إذا قال : لبيك ، و «أفّف» إذا قال :
أفّة ، وهو اسم للضّجرة ، و «دعدع» إذا قال لغنمه : داع داع ، وهو تصويت بها ، و «بأبأ
الرجل بفلان» إذا قال له : بأبي أنت ، كما قال :
[١٦٧] * وإن تبأبأن وإن تفدّين*
______________________________________________________
[١٦٧] لم أقف
لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، والاستشهاد به في قوله «تبأبأن» حيث اشتق
هذا الراجز فعلا من اسم الصوت الذي هو «بأ ، بأ» والعرب تشتق من أسماء الأصوات على
مثال الدحرجة ثم تأخذ من هذا المصدر أفعالا على مثال دحرج يدحرج ، قالوا : بأبأت
الصبي ، وبأبأت به ، أبأبئ بأبأة ؛ إذا قلت له : بأبي أنت وأمي ، أو قلت له : با ،
با ، وكذلك قالوا : بأبأ الصبي أباه ؛ إذا قال له : با ، با ، وقالوا : نخنخت
البعير أنخنخه نخنخة ؛ إذا قلت له : نخ ، وقال ابن جني «سألت أبا علي فقلت له :
بأبأت الصبي بأبأة إذا قلت له : با ، با ، فما مثال البأبأة عندك الآن؟ أتزنها على
لفظها في الأصل فتقول : مثالها البقبقة بمنزلة الصلصلة والقلقلة؟ فقال : بل أزنها
على ما صارت إليه وأترك ما كانت عليه فأقول : الفعللة ، قال : وهو كما ذكر» اه.
وقد كتبنا بحثا وافيا عن الاشتقاق من أسماء الأصوات والنحت من الجمل في القسم
الأول من كتابنا دروس التصريف فارجع إليه إن شئت ، ومثل بيت الشاهد قول الراجز
الآخر :
وصاحب ذي
غمرة داجيته
|
|
بأبأته ، وإن
أبى فديته
|
* حتى أتى الحي وما آذيته*
|
ومثله قول
الآخر :
إذا ما
القبائل بأبأننا
|
|
فماذا نرجي
ببئبائها؟
|
__________________
فكما بنيت هذه
الأفعال من هذه الألفاظ وإن كانت لا تتصرف فكذلك هاهنا.
وأما قولهم «إن
لام الجرّ تتعلق به» قلنا : لا نسلّم ؛ فإن اللام في قولهم «حاشى لله» زائدة لا
تتعلق بشيء ، كقوله تعالى : (لِلَّذِينَ هُمْ
لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف : ١٥٤] لأن التقدير فيه : يرهبون ربّهم ، واللام زائدة لا تتعلق
بشيء ، وكقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ
بِأَنَّ اللهَ يَرى) [العلق : ١٤] أي ألم يعلم أن الله ؛ والباء زائدة لا تتعلق بشيء ، وكقوله
تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ) [العلق : ١] أي اقرأ اسم ربك ، وكقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] أي ولا تلقوا أيديكم ، وقوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] أي تنبت الدهن ، ويجوز أن تكون هنا معدّية ؛ لأنه يقال :
نبت وأنبت ، لغتان بمعنى واحد ، وكقولهم «بحسبك زيد» أي حسبك وكقول الشاعر :
[١٦٨]* ونضرب بالسّيف ونرجو بالفرج*
أي نرجو الفرج
، والباء زائدة لا تتعلق بشيء ، فكذلك هاهنا.
وأما قوله
تعالى : (وَقُلْنَ حاشَ
لِلَّهِ) [يوسف : ١٢] فليس لهم فيه حجّة ؛ فإن حاشى هاهنا ليس باستثناء ، إذ ليس هو
موضع استثناء ، وإنما هو كقولك ـ إذا قيل
______________________________________________________
ومثله ما أنشده
ابن السكيت :
ولكن يبأبئه
بؤبؤ
|
|
وبئباؤه حجا
أحجؤه
|
يبأبئه : يفديه
، وبؤبؤ : أي سيد كريم ، وبئباؤه : تفديته ، وحجأ : فرح وأحجؤه : أفرح به.
[١٦٨] هذا بيت
من مشطور الرجز ينسب للجعدي من غير تعيين ، وهو من شواهد مغني اللبيب (رقم ١٥٨)
وشرح الكافية في باب حروف الجر ، وشرحه البغدادي (٤ / ١٥٩) وقبل البيت قوله :
* نحن بنو جعدة أصحاب الفلج*
والفلج ـ بفتح
الفاء واللام جميعا ـ الماء الجاري ، ويقال : البئر الكبيرة ، وقالوا : عين خلج ،
وماء فلج ، ويروى «أرباب الفلج» والمعنى واحد ، والاستشهاد بالبيت في قوله «نرجو
بالفرج» حيث زاد الراجز الباء في المفعول به ، وذلك أن الرجاء وما تصرف منه يتعدى
إلى المفعول بنفسه ، تقول : رجاه يرجوه ، وكذلك ارتجاه يرتجيه ، ورجاه يرجيه ـ بتضعيف
الجيم ، قال الله تعالى : (وَتَرْجُونَ مِنَ
اللهِ ما لا يَرْجُونَ) وقال بشر :
فرجي الخير
وانتظري إيابي
|
|
إذا ما
القارظ العنزي آبا
|
وقد اختلفت
عبارة العلماء في زيادة الباء في بيت الشاهد ، فقال ابن عصفور : زيادة الباء هنا
ضرورة ، وقال ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكاتب ، إنما عدي الرجاء بالباء
لأنه بمعنى الطمع ، والطمع يتعدى بالباء كقولك : طمعت بكذا ، قال الشاعر :
طمعت بليلى
أن تجود ، وإنما
|
|
تقطع أعناق
الرجال المطامع
|
لك فلان يقتل أو يموت أو نحو ذلك ـ «حاشاه» وهذا ليس باستثناء ، وإنما هو
بمنزلة قولك «بعيدا منه» فكذلك هاهنا.
وأما قولهم «يدخله
الحذف والحذف لا يكون في الحرف» قلنا : الجواب عن هذا من وجهين :
أحدهما : أنّا
لا نسلم أنه قد دخله الحذف ؛ فإن الأصل عند بعضهم [١٢٩] في حاشى حاش بغير ألف ،
وإنما زيدت فيه الألف. وهذا هو الجواب عن احتجاجهم بقراءة من قرأ : (حاشَ لِلَّهِ) ثم نقول : إن هذه القراءة قد أنكرها أبو عمرو بن العلاء
سيد القراء ، وقال : العرب لا تقول «حاش لك» ولا «حاشك» وإنما تقول «حاشى لك ،
وحاشاك» وكان يقرؤها حاشى لله بالألف في الوصل ، ويقف بغير ألف في الوقف متابعة
للمصحف ؛ لأن الكتابة على الوقف لا على الوصل ، وكذلك قال عيسى بن عمر الثقفي ـ وكان
من الموثوق بعلمهم في العربية ـ : العرب كلها تقول «حاشى لله» بالألف ، وهذه حجة
لأبي عمرو.
والوجه الثاني
: أنّا نسلم أن الأصل فيه حاشى بالألف ، وإنما حذفت لكثرة الاستعمال ، وقولهم «إن
الحرف لا يدخله الحذف» قلنا : لا نسلم ، بل الحرف يدخله الحذف ، ألا ترى أنهم
قالوا في ربّ : رب ، بالتخفيف ، وقد قرىء به ، قال الله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر : ٢] ثم قال الشاعر :
[١٦٩] ازهير
إن يشب القذال فإنّه
|
|
رب هيضل لجب
لففت بهيضا
|
______________________________________________________
[١٦٩] هذا
البيت من كلام أبي كبير الهذلي ، واسمه عامر بن حلس ، وقد استشهد بالبيت رضي الدين
في شرح الكافية في باب حروف الجر ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ١٦٥) وأنشده
موفق الدين بن يعيش (ص ١٠٩٣) وقوله «أزهير» الهمزة فيه للنداء ، وزهير : اسم ابن
الشاعر ، بدليل قوله في قصيدة أخرى :
أزهير هل عن
شيبة من مقصر
|
|
أم لا سبيل
إلى الشباب المدبر
|
فقد الشباب
أبوك إلا ذكره
|
|
فاعجب لذلك
فعل دهر وامكر
|
والقذال ـ بفتح
القاف ، بزنة السحاب ـ ما بين نقرة القفا وأعلى الأذن ، وهو آخر موضع من الرأس
يشيب شعره ، وربما أطلق القذال وأريد الرأس كله من باب إطلاق اسم الجزء وإرادة كله
، والهيضل ـ بزنة جعفر ـ الجماعة من الناس ، ولجب ـ بفتح اللام وكسر الجيم ـ معناه
كثير الجلبة مرتفع الأصوات ، ويروى في مكانه «مرس» بفتح فكسر ـ ومعناه شديد ،
وقوله «لففت» يروى بفاءين ومعناه جمعت ، ويروى «لفقت» بفاء بعدها قاف ، ومعناه
جمعت أيضا ، يريد أنه جمع جيشا يجيش للحرب والطعان والاستشهاد بالبيت في قوله «رب
هيضل» حيث جاء برب مخففة بياء واحدة ، وقد اختلف العلماء في الباء الباقية :
أساكنة هي أم مفتوحة ، فذكر قوم منهم ابن جني أنها ساكنة ، وعليه يكون الشاعر قد
حذف الباء الثانية
وقال الآخر :
[١٧٠] ألم
تعلمن يا ربّ أن رب دعوة
|
|
دعوتك فيها
مخلصا لو أجابها
|
وفي ربّ أربع
لغات : ضم الراء ، وفتحها ، مع تشديد الباء وتخفيفها ، نحو : ربّ ، ورب ، وربّ ،
ورب. وكذلك حكيتم عن العرب أنهم قالوا في سوف أفعل : «سو أفعل» بحذف الفاء ، وحكاه
أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب في أماليه ، وحكى ابن خالويه فيها أيضا «سف أفعل»
بحذف الواو ، وزعمتم أيضا أن الأصل في سأفعل : سوف أفعل ، فحذفت الواو والفاء معا
، وسوف حرف ، وإذا جوّزتم حذف حرفين فكيف تمنعون جواز حذف حرف واحد؟ فدلّ على فساد
ما ذكرتموه ، والله أعلم.
______________________________________________________
التي كانت
مفتوحة وأبقى الأولى على حالها التي كانت عليها ، وينشدون بالسكون قول الشاعر :
ألا رب ناصر
لك من لؤي
|
|
كريم لو
تناديه أجابا
|
ومنهم من روى «رب»
في بيت الشاهد بفتح الباء ، وصرح العسكري في كتاب التصحيف بالوجهين ، وقد قال أبو
علي في كتاب الشعر : الحروف على ضربين : حرف فيه تضعيف ، وحرف لا تضعيف فيه ؛
فالأول قد يخفف بالحذف منه كما فعل ذلك في الاسم والفعل بالحذف والقلب ، وذلك نحو
إن وأن ولكن ورب ، والقياس إذا حذف المدغم فيه أن يبقى المدغم على السكون ، وقد
جاء :
* أزهير إن يشب القذال ... البيت*
ويمكن أن يكون
الآخر منه حرك لما لحقه الحذف والتأنيث فأشبه بهما الأسماء» اه.
[١٧٠] لم أقف
لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، وألفاظه ومعانيه ظاهرة ، والاستشهاد به في
قوله «رب دعوة» حيث ورد فيه «رب» مخففا بحذف إحدى الباءين ، والكلام فيه كالكلام
في الشاهد السابق ، ولكن بينهما فرقا من جهة واحدة ، وتلخيصها أن «رب» في البيت
السابق مخففة قطعا ، إذ لا يصح وزن البيت إلا على تخفيفها إما بسكون بائها وإما
بفتحها ، أما في هذا البيت فالوزن يتم على تخفيفها وعلى تشديدها ، بل قد يكون
تشديدها أوفق ، ولا دليل على التخفيف إلا الرواية ، وقد أتى المؤلف بالبيت السابق
، فيكون قد روي عن أثبات العلماء التخفيف في هذا البيت أيضا.
٣٨
مسألة
[هل يجوز بناء «غير» مطلقا؟]
ذهب الكوفيون
إلى أن «غير» يجوز بناؤها على الفتح في كل موضع [١٣٠] يحسن فيه «إلّا» سواء أضيفت
إلى متمكن أو غير متمكن ، وذلك نحو قولهم : ما نفعني غير قيام زيد ، وما نفعني غير
أن قام زيد.
وذهب البصريون
إلى أنها يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى غير متمكن ، بخلاف ما إذا أضيفت إلى متمكن.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما جوّزنا بناءها على الفتح إذا أضيفت إلى اسم متمكن أو غير
متمكن وذلك لأن «غير» هاهنا قامت مقام «إلّا» وإلّا حرف استثناء ، والأسماء إذا
قامت مقام الحروف وجب أن تبنى ، وهذا لا يختلف باختلاف ما يضاف إليه من اسم متمكن
كقولك : ما نفعني غير قيامك ، أو غير متمكن كما قال :
[١٧١] لم
يمنع الشّرب منها غير أن نطقت
|
|
حمامة في
غصون ذات أو قال
|
______________________________________________________
[١٧١] هذا
البيت قد استشهد به سيبويه (١ / ٣٦٩) ولم يعزه ، وعزاه الأعلم إلى رجل من كنانة
ولم يعينه ، واستشهد به رضي الدين في باب الاستثناء وفي باب الظرف وقد شرحه
البغدادي في الخزانة (٢ / ٤٥) ونسبه لأبي قيس بن الأسلت ، وأنشده ابن منظور (وق ل)
ولم يعزه ، واستشهد به ابن هشام في مغني اللبيب مرتين (رقم ٢٦٢) فانظره في (ص ١٥٩ و
٥١٧) والأوقال : الأعالي وهو أيضا ثمار الدوم ، ومنه قالوا «توقل في الجبل» أي صعد
وارتفع. يقول الشاعر : لم يمنعنا من التعريج على الماء إلا صوت حمامة ذكرتنا من
نحب فهيجتنا وحثتنا على السير ، وموطن الاستشهاد فيه قوله «غير أن نطقت» فإن
الرواية فيه بفتح «غير» مع أنها فاعل لقوله «لم يمنع» فدل ذلك على أنه بناها على
الفتح ؛ قال الأعلم : ـ
__________________
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى غير متمكن ، ولا
يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى متمكن ، وذلك لأن الإضافة إلى غير
______________________________________________________
«الشاهد فيه
بناء غير على الفتح لإضافتها إلى غير متمكن ، وإن كانت في موضع رفع ، وذلك أن «أن»
حرف يوصل بالفعل ، وإنما تؤولت اسما مع ما بعدها من صلتها لأنها دلت على المصدر ونابت
منابه في المعنى ، فلما أضيفت غير إليها مع لزومها للإضافة بنيت معها ، وإعرابها
على الأصل جائز حسن ، ونظير بنائها بناء أسماء الزمان إذا أضيفت إلى الجمل
والأفعال ، كقولك : عجبت من يوم قام زيد ومن يوم زيد قائم ؛ لأن حق الإضافة أن تقع
على الأسماء المفردة دون الأفعال والجمل ، فلما خرجت عن أصلها بني الاسم» اه وقال
سيبويه : «والحجة على أن هذا في موضع رفع أن أبا الخطاب حدثنا أنه سمع من العرب
الموثوق بهم من ينشد هذا البيت رفعا :
* لم يمنع الشرب منها ... البيت*
وزعموا أن ناسا
من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع ، فقال الخليل : هذا كنصب بعضهم يومئذ في
كل موضع ، فكذلك غير أن نطقت ، وكما قال النابغة :
على حين
عاتبت المشيب على الصبا
|
|
فقلت : ألما
تصح والشيب وازع؟
|
كأنه جعل حين
وعاتبت اسما واحدا» اه.
وقد جعل الأعلم
إضافة غير في هذا البيت إلى غير متمكن ـ أي إلى مبنيّ ـ بسبب وجود «أن» المصدرية
في صدر المضاف إليه ، مع علمه أن أن المصدرية حرف ، وأن الحرف لا يقع في موقع من
مواقع الإعراب أصلا ؛ فلا يكون مضافا إليه ، بل مع علمه أن هذا الحرف المصدري مع
مدخوله في تأويل اسم مفرد معرب ـ وهو المصدر المسبوك من أن مدخولها ـ وأنت لو
تأملت في هذا البيت وجدت البصريين والكوفيين متفقين على جواز بناء غير في هذا
البيت وأمثاله ، ولكن الاختلاف بينهم في تعليل هذا البناء ، فالكوفيون يعللونه ـ على
ما قال المؤلف عنهم ـ بأنها قامت مقام إلا الاستثنائية ، والبصريون قد عللوه بأنها
أضيفت إلى مبنيّ فاكتسبت البناء من المضاف إليه ، وذلك كما يكتسب المضاف من المضاف
إليه التذكير أو التأنيث ، وقد فصل ابن هشام في مغني اللبيب (ص ٥١٠ ما بعدها)
الأمور التي يكتسبها المضاف من المضاف إليه ، فارجع إليها إن شئت.
ومن شواهد بناء
غير لكونها أضيفت إلى مبني ـ على ما يقول البصريون ـ قول الشاعر وأنشده ابن هشام
في المغني :
لذ بقيس حين
يأبى غيره
|
|
تلقه بحرا
مفيضا خيره
|
الرواية في هذا
البيت بفتح «غيره» بدليل الرويّ ، ونظير ما أنشده المؤلف في بناء غير لكونها أضيفت
إلى جملة مصدرة بأن قول الحارث بن حلزة اليشكري من قصيدته التي تعد في المعلقات ،
وهو من شواهد الرضي :
غير أني قد
أستعين على اله
|
|
م إذا خف
بالثوى النجاء
|
فغير ههنا استثناء منقطع ، وهي مفتوحة ، ويجوز أن تكون فتحتها فتحة إعراب
، ويجوز أن تكون فتحة بناء ، وفي هذا القدر كفاية ومقنع إن شاء الله.
المتمكن تجوّز في المضاف البناء ، قال تعالى : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) [النمل : ٨٩] فبنى «يوم» في قراءة من قرأ بالإضافة والفتح ، وهي قراءة نافع
وأبي جعفر ؛ لأنه أضيف إلى «إذ» وهو اسم غير متمكن ، وقال الشاعر :
[١٧٢] رددنا
لشعثاء الرّسول ، ولا أرى
|
|
كيومئذ شيئا
تردّ رسائله
|
فكذلك هاهنا ،
وسبب هذا يستقصى في الجواب إن شاء الله تعالى ، وأما الإضافة إلى المتمكن فلا
تجوّز في المضاف البناء فقلنا : إنه باق على أصله في الإعراب ، فكذلك هاهنا ؛
وسنبين هذا مستقصى في الجواب إن شاء الله تعالى.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنها في معنى إلا فينبغي أن تبنى» قلنا : هذا فاسد ،
وذلك لأنه لو جاز أن يقال ذلك لجاز أن يقال : «زيد مثل عمرو» فيبنى [مثل] على
الفتح لقيامه مقام الكاف ؛ لأن قولك : «زيد مثل عمرو» في معنى «زيد كعمرو» ولما
وقع الإجماع على خلاف ذلك دلّ على فساد ما ادعيتموه.
وأما قول
الشاعر :
لم يمنع
الشّرب منها غير أن نطقت
|
|
حمامة في
غصون ذات أو قال [١٧١]
|
[١٣١] فنقول : لا نسلم أنه بنى
لأنه قام مقام «إلا» وإنما بنى «غير» لأنه أضافه إلى غير متمكن ، والاسم إذا أضيف
إلى غير متمكن جاز بناؤه ، ولهذا نظائر كثيرة من كتاب الله تعالى وكلام العرب ،
وقال الله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ
مِثْلَ ما أَنَّكُمْ
______________________________________________________
[١٧٢] لم أعثر
لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، وشعثاء : اسم امرأة ، والرسول هنا الرسالة ،
ومنه قول كثير عزة :
لقد كذب
الواشون ، ما بحت عندهم
|
|
بسر ، ولا أرسلتهم
برسول
|
وقول الأسعر
الجعفي :
ألا أبلغ أبا
عمرو رسولا
|
|
بأني عن
فتاحتكم غني
|
وقول العباس بن
مرداس السلمي :
ألا من مبلغ
عني خفافا
|
|
رسولا بيت
أهلك منتهاها؟
|
والاستشهاد
بالبيت في قوله «كيومئذ» فإن الرواية فيه بفتح يوم مع أنه مدخول حرف الجر ، فدل
ذلك على أنه بناه على الفتح لإضافته إلى المبنيّ ـ وهو «إذ» وأنت خبير بأن تنوين «إذ»
هو تنوين العوض عن الجملة التي من حق «إذ» أن يضاف إليها ، كما في قوله تعالى (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
بِنَصْرِ اللهِ) تقديره : ويوم إذ يغلب الروم يفرح المؤمنون ؛ وكذلك
قوله سبحانه : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ
يَوْمَئِذٍ) في قراءة من قرأ بفتح يوم ، ويجوز الإعراب مع ذلك ،
فتجعل فتح يوم في الآية الأولى فتح الإعراب وأنه منصوب على الظرفية متعلق بيفرح ،
وقد قرىء في الآية الثانية بجر يوم من يومئذ ، وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى.
تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٣] في قراءة من قرأ (مِثْلَ) بالفتح ، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي جعفر
ويعقوب ، وإن كان في موضع رفع ؛ لأنه اسم مبهم مثل غير أضيف إلى غير متمكن ، وقال
تعالى : (وَمِنْ خِزْيِ
يَوْمِئِذٍ) [هود : ٦٦] فيمن قرأ بالفتح ، وقال تعالى : (مِنْ عَذابِ
يَوْمِئِذٍ) [المعارج : ١١] فيمن قرأ بالفتح ، وهي قراءة نافع والكسائي وأبي جعفر ، ثم
قال الشاعر :
[١٧٣] أزمان
من يرد الصّنيعة يصطنع
|
|
فينا ، ومن
يرد الزّهادة يزهد
|
فبنى «أزمان»
لإضافته إلى «من» وهو غير متمكن ، وقال الآخر :
[١٧٤] على
حين من تلبث عليه ذنوبه
|
|
يجد فقدها
وفي المقام تدابر
|
فبنى «حين»
لإضافته إلى «من» وقال الآخر :
[١٧٥] على
حين عاتبت المشيب على الصّبا
|
|
وقلت : ألمّا
تصح والشّيب وازع؟
|
______________________________________________________
[١٧٣] الصنيعة
: كل معروف تسديه إلى غيرك تصطنعه به ، أي تجعله من نفرك ، وقال الشاعر :
إن الصنيعة
لا تكون صنيعة
|
|
حتى يصاب بها
مكان المصنع
|
والاستشهاد
بالبيت في قوله «أزمان من يرد ـ إلخ» فإنه يجوز في «أزمان» أن يكون مبنيا على
الفتح لكونه ظرفا مبهما قد أضيف إلى جملة مصدرة باسم مبني ـ وهو من ـ ويجوز أن
يكون منصوبا على الظرفية ، ونظيره قول العجاج :
أزمان أبدت
واضحا مفلجا
|
|
أغر براقا
وطرفا أدعجا
|
[١٧٤] هذا البيت من كلام لبيد بن
ربيعة العامري ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٤٤١) والرضي في باب الجوازم ، وشرحه
البغدادي في الخزانة (٣ / ٦٤٩) والذنوب ـ بفتح الذال ـ الدلو إذا كانت مملوءة
بالماء ، وقد ضربه مثلا لما يدلى به من الحجة ، وقوله «يجد فقدها» روى سيبويه في
مكان هذه العبارة «يرث شربه» والشرب ـ بالكسر ـ الحظ من الماء ، والمقام : أراد به
مقاما فأخر فيه غيره وكثرت المخاصمة فيه والمحاجة ، والتدابر ـ بالباء الموحدة ـ التقاطع
، وأصله أن يولي كل واحد من الخصمين صاحبه دبره ، وروى سيبويه «تداثر» بالثاء
المثلثة ـ وهو التزاحم. وأصله مأخوذ من الدثر ـ بفتح الدال وسكون الثاء ـ وهو
المال الكثير. والاستشهاد بالبيت في قوله «على حين من ـ إلخ» فإن الرواية فيه بفتح
حين مع دخول حرف الجر عليها ، وذلك دليل على أن الشاعر بنى هذه الكلمة على الفتح ؛
إذ لو كان أعربها لجرها بالكسرة ، وإنما بناها لكونها مضافة إلى جملة صدرها مبني ـ
وهو «من» ـ وقد ذكر سيبويه أن إضافة «حين» إلى «من» الشرطية ضرورة من ضرورات الشعر
، قال الأعلم : «الشاهد مجازاته بمن مع إضافة حين إلى جملة الشرط ضرورة ، وحكمها
ألا تضاف هي وإذا إلا إلى جملة مخبريها ، والمبهمات إنما تفسر وتوصل بالأخبار ،
وجاز هذا في الشعر تشبيها لجملة الشرط بجملة الابتداء والخبر والفعل والفاعل» اه.
[١٧٥] هذا
البيت من كلام النابغة الذبياني ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٦٩) وابن يعيش (٣٣٥
وقال الآخر :
[١٧٦] على
حين انحنيت وشاب رأسي
|
|
فأيّ فتى
دعوت وأيّ حين؟
|
وقال الآخر :
[١٧٧] يمرّون
بالدّهنا خفافا عيابهم
|
|
ويخرجن من
دارين بجر الحقائب
|
______________________________________________________
و ٥٤٥) ورضي
الدين في شرح الكافية في باب الظروف ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ١٥١) وابن
هشام في مغني اللبيب (رقم ٧٧٧) والأشموني (رقم ٦١٨) وأوضح المسالك (رقم ٣٣٥) وابن
عقيل (رقم ٢٣٧) وشذور الذهب (رقم ٢٥) وعاتبت : فعل ماض من العتاب ، وهو اللوم في
تسخط وكراهية ، والمشيب : الشيب ، والصبا ـ بكسر الصاد ـ الصبوة وهي الميل إلى
شهوات النفس واتباع لذائذها ، وأصح : مضارع من الصحو ، وأصله ضد السكر ، وأراد هنا
الرجوع إلى ما هو خليق به من كمالات النفس ، والوازع : اسم الفاعل من وزعه يزعه ـ كوضع
يضع ـ أي نهاه وزجره وكفه عن فعل المقابح. والاستشهاد به في قوله «على حين عاتبت»
فإنه يروى بفتح حين وبجره ، أما فتحه ـ مع دخول حرف الجر عليه ـ فبسبب بنائه على
الفتح لكونه أضيف إلى جملة صدرها فعل ماض مبني ، فاكتسب المضاف البناء من المضاف
إليه ، وأما جرّه فعلى الأصل ، فمجموع الروايتين يدل على أن الظرف المبهم إذا أضيف
إلى جملة صدرها مبني جاز فيه الإعراب على أصله والبناء لاكتسابه البناء مما أضيف
إليه.
[١٧٦] انحنيت :
أراد كبرت سني وضعفت قوتي فصرت لا أمشي إلا منحني الظهر والاستشهاد به في قوله «على
حين انحنيت» حيث وردت «حين» بالفتح مع دخول حرف الجر عليها ، فيدل ذلك على أنه
بناها على الفتح لإضافتها إلى جملة صدرها مبني وهو الفعل الماضي ، والكلام فيه
كالكلام في الأبيات السابقة.
[١٧٧] هذان
البيتان من شواهد سيبويه (١ / ٥٩) ولم يعزهما ولا عزاهما الأعلم ، وقد أنشدهما ابن
منظور (ن د ل) من غير عزو ، وهما من شواهد الأشموني (رقم ١٤) وأوضح المسالك (رقم
٤٨) وابن عقيل (رقم ١٦٢) وقد نسبهما العيني إلى الأحوص ثم قال : «وذكر في الحماسة
البصرية أن قائلهما هو أعشى همدان يهجو لصوصا ، وقال الجوهري : قال جرير يصف ركبا
:
* يمرون بالدهنا خفافا ...*
والأظهر ما
قاله في الحماسة» اه ، وقال ابن منظور : «وندل التمر من الجلة والخبز من السفرة
يندله ندلا : غرف منهما بكفه جمعاء كتلا ، وقيل : هو الغرف باليدين جميعا ، والرجل
مندل بكسر الميم ، وقال يصف ركبا ويمدح قوم دارين بالجود :
* يمرون بالدهناء ... البيتين*
يقول : اندلي
يا زريق ـ وهي قبيلة ـ ندل الثعالب ، يريد السرعة ، والعرب تقول : أكسب من ثعلب ،
قال ابن بري : وقيل في هذا الشاعر : إنه يصف قوما لصوصا يأتون إلى دارين فيسرقون
ويملأون حقائبهم ثم يفرغونها ويعودون إلى دارين ، وقيل : يصف تجارا ، وقوله
على حين ألهى
النّاس جلّ أمورهم
|
|
فندلا زريق
المال ندل الثّعالب
|
وإذا بني
المضاف في هذه الأماكن من كتاب الله تعالى وكلام العرب لإضافته إلى غير متمكن دلّ
على أن قوله «غير أن نطقت» مبنيّ لإضافته إلى غير متمكن على ما بيّنا ، والله
أعلم.
______________________________________________________
«على حين ألهى
الناس جل أمورهم» يريد حين اشتغل الناس بالفتن والحروب ، والبجر : جمع أبجر ، وهو
العظيم البطن : والندل : التناول ، وبه فسر بعضهم قوله فندلا زريق المال» اه كلامه
بحروفه. والاستشهاد به ههنا في قوله «على حين ألهى الناس» فإن الرواية فيه قد جاءت
بفتح «حين» مع دخول حرف الجر عليه ؛ فدل على أنه بناه ، والكلام فيه كالكلام في
الأبيات السابقة.
[١٣٢] ٣٩
مسألة
[هل تكون «سوى» اسما
أو تلزم الظرفية؟]
ذهب الكوفيون
إلى أنّ «سوى» تكون اسما وتكون ظرفا. وذهب البصريون إلى أنها لا تكون إلا ظرفا.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنها تكون اسما بمنزلة «غير» ولا تلزم الظرفية
أنهم يدخلون عليها حرف الخفض ، قال الشاعر :
[١٧٨] ولا
ينطق المكروه من كان منهم
|
|
إذا جلسوا
منّا ولا من سوائنا
|
______________________________________________________
[١٧٨] هذا
البيت من شواهد سيبويه (١ / ١٣ و ٢٠٣) وأنشده ابن منظور (س وى) وقد استشهد به
الأشموني (رقم ٤٥٤) وابن عقيل (رقم ١٧١) والبيت من كلام المرار بن سلامة العجلي ،
وقد نسب في كتاب سيبويه إليه مرة (١ / ١٣) ونسب مرة أخرى (١ / ٢٠٣) لرجل من
الأنصار غير معين ، وقوله «ولا ينطق المكروه» يروى مكانه في «ولا ينطق الفحشاء»
والفحشاء : الكلام القبيح ، تقول : (أفحش الرجل في كلامه ، وفحش ـ بتشديد الحاء ـ وتفحش
؛ إذا أردت أنه يتكلم بقبيح الكلام ، وقوله «إذا جلسوا» رويت هكذا في كتاب سيبويه (١
/ ١٣) ورويت فيه أيضا (١ / ٢٩٣) «إذا قعدوا» والمعنى واحد. والاستشهاد بالبيت في
قوله «ولا من سوائنا» حيث أتى بسواء مجرورة بمن ، والكوفيون يستدلون بهذا البيت
ونحوه على أن «سوى» تخرج عن النصب على الظرفية إلى التأثر بالعوامل فتقع مبتدأ
وفاعلا واسما لأن ومجرورا بحروف الجر ، وسيبويه وشيخه الخليل ينكران ذلك ، ويزعمان
أنها بجميع لغاتها لا تخرج عن النصب على الظرفية إلا في ضرورة الشعر ، ولكن كثرة
الشواهد الواردة عن العرب المحتج بكلامهم ـ وفيها استعمال هذه الكلمة في مواضع
كثيرة من مواضع الإعراب ـ ترجح مذهب الكوفيين ، وقريب منه مذهب الرماني وأبي
البقاء العكبري : زعما أن «سوى» تستعمل ظرفا وتستعمل غير ظرف ، إلا أن مجيئها
منصوبة على الظرفية أكثر ، وقد رجحه ابن هشام في مغني اللبيب ، قال «وإلى مذهبهما
أذهب» اه.
__________________
فأدخل عليها
حرف الخفض ، وقال الشاعر :
[١٧٩] تجانف
عن جوّ اليمامة ناقتي
|
|
وما قصدت من
أهلها لسوائكا
|
فأدخل عليها
لام الخفض ؛ فدل على أنها لا تلزم الظرفية ، وقال أبو دؤاد :
[١٨٠] وكلّ
من ظنّ أن الموت مخطئه
|
|
معلّل بسواء
الحقّ مكذوب
|
وقال الآخر :
[١٨١] أكرّ
على الكتيبة لا أبالي
|
|
أفيها كان
حتفي أم سواها
|
فسواها : في
موضع خفض بالعطف على الضمير المخفوض في «فيها» والتقدير : أم في سواها.
والذي يدلّ على
ذلك أنه روي عن بعض العرب أنه قال «أتاني سواؤك» فرفع ؛ فدلّ على صحة ما ذهبنا
إليه.
______________________________________________________
[١٧٩] هذا
البيت من شواهد سيبويه (١ / ١٣) وقد نسبه إلى الأعشى ، وكذلك نسبه الأعلم الشنتمري
، وأنشده ابن منظور (س وى) وهو من شواهد الرضي في باب الاستثناء ، وشرحه البغدادي
في الخزانة (٢ / ٥٩) وقوله «تجانف» هو فعل مضارع ، وأصله تتجانف ، فحذف إحدى
التاءين ، والتجانف : الانحراف ، وصف أنه لا يعدل في قصده على غير هذا الممدوح ،
وجعل الفعل للناقة مجازا. والاستشهاد بالبيت في قوله «لسوائكا» حيث أتى بسواء
متأثرة بالعامل الذي هو لام الجر ، فدل ذلك على أنها تخرج عن النصب على الظرفية
إلى الوقوع في مواقع الإعراب المختلفة ، على نحو ما بيّناه في شرح البيت السابق.
[١٨٠] هذا
البيت من كلام أبي دؤاد ـ كما قال المؤلف ـ واسم أبي دؤاد جويرية بن الحجاج ،
ويقال : جارية بن الحجاج ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٤٥٥) وقوله «مخطئه» هو اسم
الفاعل من قولك «أخطأك كذا» أي فاتك ولم يصبك ، وفي الحديث «واعلم أن ما أخطأك لم
يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك» وقوله «معلل» هو اسم المفعول من قولك «عللت
فلانا بكذا» إذا شغلته ولهيته به عن شيء يرغب فيه ، وسواء الحق : أي غيره ،
والاستشهاد به في قوله «بسواء الحق» حيث أتى بكلمة «سواء» متأثرة بالعامل الذي هو
باء الجر ، وهو دليل للكوفيين على أنها لا تلزم النصب على الظرفية كما يقول سيبويه
والخليل ، وقد بيّنا ذلك في شرح الشاهد ١٧٨.
[١٨١] أكر : أي
أرجع ، يريد أنه يقدم ولا يفر ، والكتيبة : الجماعة من الجيش ، والحتف ـ بفتح
الحاء وسكون التاء المثناة ـ الموت والهلاك. وقد أنشد الكوفيون هذا البيت دليلا على
أن «سوى» تخرج عن النصب على الظرفية إلى التأثر بالعوامل ، وذلك أنهم أعربوا «سوى»
معطوفا على الضمير المجرور محلا بفي في قوله «أفيها» وتقدير الكلام عندهم : أفي
هذه الكتيبة كان هلاكه أم في كتيبة أخرى ، ولم يرتض المؤلف هذا الإعراب مع أنه هو
المتبادر ، وجعل «سوى» منصوبا على الظرفية كما هو مبين في كلامه.
وأما البصريون
فاحتجّوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأنهم ما استعملوه في اختيار الكلام إلا ظرفا
، نحو قولهم «مررت بالذي سواك» فوقوعها هنا يدل على ظرفيتها بخلاف غير ، ونحو
قولهم «مررت برجل سواك» أي مررت برجل مكانك ، أي : يغني غناءك ويسدّ مسدّك ، وقال
لبيد :
[١٨٢] وابذل
سوام المال إ
|
|
نّ سواءها
دهما وجونا
|
فنصب سواءها
على الظرف ، ونصب «دهما» بإنّ ، كقولك : إن عندك رجلا قال الله تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) [المزمل : ١٢] والجون هاهنا : البيض ، وهو جمع جون ، وهو من الأضداد ، يقع
على الأبيض والأسود ، ولو كانت مما يستعمل اسما [١٣٣] لكثر ذلك في استعمالهم ، وفي
عدم ذلك دليل على أنها لا تستعمل إلا ظرفا.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما ما أنشدوه من قول الشاعر :
* إذا جلسوا منا ولا من سوائنا* [١٧٨]
وقول الآخر :
* وما قصدت من أهلها لسوائكا* [١٧٩]
فإنما جاز ذلك
لضرورة الشعر ، وعندنا أنه يجوز أن تخرج عن الظرفية في ضرورة الشعر ، ولم يقع
الخلاف في حال الضرورة ، وإنما فعلوا ذلك واستعملوها
______________________________________________________
[١٨٢] هذا
البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري ، وسوام المال ـ بفتح السين والواو جميعا ـ الذي
يرعى حيث شاء لا يمنعه أحد ، وهي أيضا سائمة ، وقد سامت تسوم ، وأسامها صاحبها ،
وقال الله تعالى : (فِيهِ تُسِيمُونَ) والدهم : جمع الأدهم وهو الذي لونه الدهمة ـ بالضم ـ وهي
السواد وتكون الدهماء والدهم خيار الخيل والإبل عندهم ، والجون ـ بضم الجيم ـ جمع
جون بفتحها ، وهو الأسود ، وهو أيضا الأبيض ، ويقال : كل بعير جون من بعيد ، وكل
لون سواد مشرب حمرة فهو جون. والاستشهاد بالبيت في قوله «إن سواءها دهما وجونا»
حيث استعمل «سواء» ظرفا متعلقا بمحذوف يقع خبرا لإن مقدما على اسمها ، و «دهما»
اسم إن تأخر عن خبرها ، ولو أنه لم يستعمل سواء ظرفا لنصبه على أنه اسم إن ورفع ما
بعده ؛ وذلك لأن اسم إن لا يتأخر عن خبرها إلا أن يكون الخبر ظرفا نحو قوله تعالى
: (إِنَّ لَدَيْنا
أَنْكالاً وَجَحِيماً) أو جارا ومجرورا نحو قوله سبحانه : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً).
وأنت خبير ـ بعد
الذي قررناه لك ـ أن الكوفيين لا يمانعون في أن تستعمل «سواء» بجميع لغاتها ظرفا ،
ولكنهم يقررون أنها كما تكون ظرفا تكون غير ظرف وتقع في جميع مواقع الإعراب متأثرة
بالعوامل ؛ فهذا الشاهد وغيره وآلاف الشواهد التي استعملت سواء فيها ظرفا لا تنقض
مذهبهم ، فتنبه لذلك والله يعصمك.
اسما بمنزلة غير في حال الضرورة لأنها في معنى غير ، وليس شيء يضطرون إليه
إلا ويحاولون له وجها.
وأما قول الآخر
:
* أفيها كان حتفي أم سواها* [١٨١]
فليس «سواها»
في موضع جر بالعطف على الضمير المخفوض في فيها ، وإنما هو منصوب على الظرف ؛ لأن
العطف على الضمير المجرور لا يجوز ، وإنما هذا شيء تبنونه على أصولكم في جواز
العطف على الضمير المخفوض ، وسنبين فساده مستقصى في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأما ما رووه
عن بعض العرب أنه قال «أتاني سواؤك» فرواية تفرّد بها الفراء عن أبي ثروان ، وهي
رواية شاذة غريبة ؛ فلا يكون فيها حجة. والله أعلم.
٤٠
مسألة
[«كم» مركّبة أو مفردة؟]
ذهب الكوفيون
إلى أن «كم» مركّبة. وذهب البصريون إلى أنها مفردة موضوعة للعدد.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأن الأصل في كم «ما» زيدت عليها الكاف ؛ لأن العرب
قد تصل الحرف في أوله وآخره ، فما وصلته في أوله نحو : «هذا ، وهذاك» وما وصلته في
آخره نحو قوله تعالى : (إِمَّا تُرِيَنِّي ما
يُوعَدُونَ) [المؤمنون : ٩٣] فكذلك هاهنا : زادوا الكاف على «ما» فصارتا جميعا كلمة
واحدة ، وكان الأصل أن يقال في «كم مالك» : كما مالك ، إلا أنه لما كثرت في [١٣٤]
كلامهم وجرت على ألسنتهم حذفت الألف من آخرها وسكنت ميمها ، كما فعلوا في «لم»
فصار «كم مالك» والمعنى : كأيّ شيء مالك من الأعداد ، والدليل على ذلك قولهم «كأيّن
من رجل رأيت» أي : كم من رجل رأيت ، ونظير كم «لم» فإن الأصل في لم «ما» زيدت
عليها اللام ؛ فصارتا جميعا كلمة واحدة ، وحذفت الألف لكثرة الاستعمال وسكنت ميمها
، فقالوا : لم فعلت كذا؟ قال الشاعر :
يا أبا
الأسود لم أسلمتني
|
|
لهموم طارقات
وذكر؟ [١٣١]
|
وقال الآخر :
[١٨٣] يا
أسديّ لم أكلته لمه؟
|
|
لو خافك الله
عليه حرّمه
|
فما
قربت لحمه ولا دمه
|
______________________________________________________
[١٨٣] أنشد ابن
منظور هذا الشاهد (روح) ونسبه إلى سالم بن دارة ، ولكنه روى أوله «يا فقعسي»
والفقعسي : المنسوب إلى فقعس ، والأسدي : المنسوب إلى أسد ، و «لم» مؤلفة من لام
الجر مكسورة و «ما» الاستفهامية ، وقد حذف ألف «ما» الاستفهامية لدخول حرف ـ
__________________
يعني جرو كلب ،
ويقال : إن بني أسد كانت تأكله ، فتعير ذلك.
وزيادة الكاف
كثيرة ، قال الله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وحكي عن بعض العرب أنه قيل له : كيف تصنعون الأقط؟ قال :
كهيّن ، وقال الراجز :
[١٨٤] * لواحق الأقراب فيها كالمقق*
______________________________________________________
الجر عليها كما
عرفت في شرح الشاهد رقم ١٣١ ، ثم لم يكتف بحذف الألف حتى سكن الميم بعد أن كانت
مفتوحة ، و «لمه» مؤلفة كسابقتها من لام الجر مكسورة و «ما» الاستفهامية ، وهذه
الهاء يجوز أن تكون هاء السكت اجتلبها الراجز ليقف على «ما» الاستفهامية بعد حذف
ألفها لكونها مجرورة بحرف الجر ، ويجوز أن يكون قلب ألف «ما» هاء حين أراد الوقف ،
كما فعل راجز آخر في قوله. وأنشده ابن يعيش (٤٥٤ و ١٢٨٢) :
قد وردت من
أمكنه
|
|
من ههنا ومن
هنه
|
* إن لم أروها فمه*
|
ألا ترى أنه
قلب ألف «هنا» هاء ، وقلب ألف «ما» في قوله «فمه» هاء ، وأصل الكلام : إن لم أروها
فما يكون؟ وأنت ترى أن الراجز الذي استشهد به المؤلف قد حذف ألف «ما» الاستفهامية
وسكن الميم مرة ، وقلب ألفها هاء ، مرة أخرى ، وهذا نوع من التصرف في الاسم الذي
يشبه الحرف ، وهو ما يريد المؤلف أن يقرره ، فافهم ذلك والله يرشدك.
[١٨٤] هذا
البيت من الرجز المشطور ، وهو من أرجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج ، ـ والبيت من
أبيات منها وصف فيها حمار وحش وأتنه التي شبه ناقته بها في الجلادة وسرعة العدو ،
وليس في وصف الخيل كما زعم العيني ، وقبل البيت قوله :
* قب من التعداء حقب في سوق*
وهو من شواهد
الأشموني (رقم ٥٦٠) وابن عقيل (رقم ٢١٠) ورضي الدين في شرح الكافية في باب حروف
الجر ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٢٦٦) وابن منظور (م ن ل) والقب : جمع أقب
أو قباء ، وهو وصف من القبب ـ بالتحريك ـ وهو دقة الخصر ، يريد أنهن ضامرات البطون
، والتعداء : أحد مصادر «عدا يعدو» أي أسرع السير ، والحقب :
جمع أحقب أو
حقباء ، والسوق ـ بفتح السين والواو جميعا ـ طول الساق أو غلظها أو حسنها ،
واللواحق : جمع لاحقة ، وهي الهزيلة الضامرة ، وفعله من باب فرح ، والأقراب : جمع
قرب ـ كقفل أو عنق ـ وهو البطن ، والمقق ـ بالتحريك ـ الطول ، ويقال : هو الطول
الفاحش في دقة. والاستشهاد بالبيت في قوله «كالمقق» فإن الكاف في هذه الكلمة حرف
جر زائد لا يدل على معنى التشبيه ، وهذا تخريج جماعة من النحاة منهم أبو علي
الفارسي وابن جني وابن السراج والرضي ، وحمل أبو علي على زيادة الكاف قوله تعالى :
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلى قَرْيَةٍ) فزعم أن تقدير الكلام : أرأيت الذي حاج إبراهيم في ربه
، أو الذي مر على قرية ، وهذا يدل على أنه لا يرى زيادة الكاف قاصرة على الضرورة
الشعرية ، فتنبه لهذا.
أي : المقق ،
وهو الطّول.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنها مفردة لأن الأصل هو الإفراد ، وإنما التركيب
فرع ، ومن تمسك بالأصل خرج عن عهدة المطالبة بالدليل ، ومن عدل عن الأصل افتقر إلى
إقامة الدليل ؛ لعدوله عن الأصل ، واستصحاب الحال أحد الأدلة المعتبرة.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن الأصل في كم ما زيدت عليها الكاف» قلنا : لا نسلم
؛ فإن هذا مجرد دعوى من غير دليل ولا معنى.
قولهم «إن
العرب قد تصل الحرف في أوله نحو هذا» فقد قدمنا الجواب عنه فيما سبق.
وأما قولهم «كان
الأصل أن يقال في كم مالك : كما مالك ، إلا أنه لما كثر في كلامهم وجرى على
ألسنتهم حذفت الألف لكثرة الاستعمال وسكنت الميم ، كما فعلوا ذلك في لم» قلنا : لا
نسلم أنه يجوز إسكان الميم في «لم» في اختيار الكلام ، وإنما يجوز ذلك في الضرورة
؛ فلا يكون فيه حجة ، قال الشاعر :
[١٣٥] * يا أبا
الأسود لم أسلمتني* [١٣١]
وكما قال الآخر
:
يا أسديّ لم أكلته لمه* [١٨٣]
فسكن «لم»
للضرورة ، تشبيها لها بما يجيء من الحروف على حرفين الثاني منهما ساكن ؛ فلا يكون
فيه حجة. ثم لو كان الأمر كما زعمتم وأن كم كلم لوجب أن يجوز فيها الأصل كما يجوز
الأصل في لم فيقال : كما مالك ، كما يقال : لما فعلت ، وأن يجوز فيها الفتح مع حذف
الألف كما يجوز في لم فيقال : كم مالك ، كما يجوز لم فعلت ، وأن يجوز فيها هاء
الوقف فيقال : كمه ، كما يجوز في لم هاء الوقف فيقال : لمه ؛ فلما لم يجز ذلك دل
على الفرق بينهما.
وأما قوله
تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) [الشورى : ١١] فلا نسلم أن الكاف فيه زائدة ؛ لأن (مثله) هاهنا بمعنى هو ،
فكأنه قال ليس [ك] هو شيء ، والمثل يطلق في كلام العرب ويراد به ذات الشيء ، يقول
الرجل منهم : مثلي لا يفعل هذا ، أي : أنا لا أفعل هذا ، ومثلي لا يقبل من مثلك ،
أي : أنا لا أقبل منك ، قال الشاعر :
[١٨٥] يا
عاذلي دعني من عذلكا
|
|
مثلي لا يقبل
من مثلكا
|
______________________________________________________
[١٨٥] العاذل :
الذي يلوم في تسخط وكراهية لما يلومك فيه ، ودعني : اتركني وقوله «مثلي لا يقبل من
مثلك» أصل معناه : من كان متصفا بصفاتي فإنه لا يقبل ممن كان متصفا ـ
أي : أنا لا
أقبل منك. ثم لو قلنا إن الكاف هاهنا زائدة لما امتنع ؛ لأن دخول الكاف هاهنا
كخروجها ، ألا ترى أن معنى «ليس كمثله شيء» ومعنى «ليس مثله شيء» واحد. وكذلك
الكاف في قوله : كهيّن ، وقول الراجز :
* لواحق الأقراب فيها كالمقق* [١٨٤]
بخلاف الكاف في
«كم» فإن الكاف في كم ليس دخولها كخروجها ، بل لو قدّرنا حذفها من الكلام لاختلّ
معناها ولم تحصل الفائدة بها ، ألا ترى أن قولك «ما مالك» لا يفيد ما يفيد قولك «كم
مالك» فدلّ على الفرق بينهما ، والله أعلم.
______________________________________________________
بصفاتك ، وقد
جرت عادة العرب في كلامهم أنهم يكنون بهذه العبارة عن معنى «أنا لا أقبل منك» قال
ابن هشام في المغني (ص ١٧٩) : «ولأنهم إذا بالغوا في نفي الفعل عن أحد قالوا «مثلك
لا يفعل كذا» ومرادهم إنما هو النفي عن ذاته ، ولكنهم إذا نفوه عمن هو على أخص
أوصافه فقد نفوه عنه» اه. وقال الخطيب القزويني في الإيضاح (ص ٣٢٥ بتحقيقنا) وهو
يمثل للكناية : «وكقولهم مثلك لا يبخل. قال الزمخشري : نفوا البخل عن مثله وهم
يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية ؛ لأنهم إذا
نفوه عمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه» وأقول : إن العرب تسلك سبيل الكناية
بلفظ مثل ولفظ غير فيقولون : مثلك يرعى الحق ، ومثلك يعرف الفضل لذويه ، ومثلك لا
يغضي على القذى ، ومثلك يؤدي الواجب ، ومنه قول الشاعر :
مثلك يثني
المزن عن صوبه
|
|
ويسترد الدمع
من غربه
|
وقالوا : غيري
يخوف بالتهديد ، وغيري يقنع باليسير ، وغيري يفعل كذا ، وهم يريدون أنا لا أخوف
بالتهديد ، وأنا لا أقنع باليسير ، وأنا لا أفعل كذا ، ومنه قول الشاعر وهو
المتنبي :
غيري بأكثر
هذا الناس ينخدع
|
|
إن قاتلوا
جبنوا أو حدثوا شجعوا
|
وكذلك قول
الآخر ، وهو أبو تمام :
وغيري يأكل
المعروف سحتا
|
|
وتشحب عنده
بيض الأيادي
|
وقد سبقهما إلى
مثل ذلك عنترة بن شداد العبسي في قوله :
سواي يهاب
الموت أو يرهب الردى
|
|
وغيري يهوى
أن يعيش مخلدا
|
وهذا أبلغ من
أن يقول : أنا لا أهاب الموت ، وأنا لا آكل المعروف سحتا ، وأنا لا أنخدع بأكثر
الناس ، أما أن المراد بهذا الكلام ما ذكرناه فقد أوضحه الشاعر في قوله :
ولم أقل مثلك
أعني به
|
|
سواك ، يا
فردا بلا مشبه
|
وأما أنه أبلغ
مما لو صرحت بالضمير المنفصل وحذفت المثل والغير فلأنه كناية ، والكناية ـ كما هو
مقرر ـ أبلغ من التصريح ؛ لأنها تساوي عند التحقيق ذكرى الدعوى مع إقامة البينة
عليها.
[١٣٦] ٤١
مسألة
[إذا فصل بين «كم»
الخبرية وتمييزها فهل يبقى التمييز مجرورا؟ ]
ذهب الكوفيون
إلى أنه إذا فصل بين «كم» في الخبر وبين الاسم بالظرف وحرف الجر كان مخفوضا ، نحو
: كم عندك رجل ، وكم في الدار غلام؟. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز فيه الجر ،
ويجب أن يكون منصوبا.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه يكون مخفوضا بدليل النقل والقياس :
أما النقل فقد
قال الشاعر :
[١٨٦] كم
بجود مقرف نال العلى
|
|
وشريف بخله
قد وضعه
|
______________________________________________________
[١٨٦] هذا
البيت من كلام أنس بن زنيم ، الكناني ، أحد بني الديل بن بكر ، وهو من شواهد
سيبويه (١ / ٢٩٦) وابن يعيش في شرح المفصل (ص ٥٨٢) ورضي الدين في شرح الكافية ،
وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ١١٩) والأشموني (رقم ١١٣٨) والمقرف : النذل اللئيم
الأب ، ومعنى البيت أنه قد يرتفع اللئيم بجوده ، ويتضع الكريم الأب بسبب بخله ،
ومحل الشاهد في البيت قوله «كم يجود مقرف نال العلا» واعلم أولا أن «كم» في هذا
البيت خبرية تدل على التكثير ، كأنك قلت : كثير من المقرفين نالوا العلا بسبب
جودهم وكثير من الذين لهم آباء كرماء قد اتضع حالهم بسبب بخلهم ، ثم أعلم ثانية أن
قوله «مقرف» يروى بثلاثة أوجه : الرفع ، والنصب ، والجر ، فأما رواية الرفع فعلى
أن تكون «كم» ظرفا متعلقا بقوله «نال» الآتي ، ويكون «مقرف» مبتدأ ، وجملة «نال
العلا» في محل رفع خبر المبتدأ ، وكأنه قال : مقرف نال العلا في مرات كثيرة بسبب
جوده ، وأما رواية النصب فعلى أن تجعل «مقرفا» تمييزا لكم الخبرية ، وإنما نصب
للفصل بينه وبينها ، وأما رواية الجر فعلى أن تجعل «مقرف» بالجر تمييزا لكم
الخبرية على أصله ، ولا تعتد بالفاصل بينهما ، وكم على وجهي الجر والنصب مبتدأ ،
وجملة «نال العلا» في
__________________
فخفض «مقرف» مع
الفصل ، وقال الآخر :
[١٨٧] كم في
بني بكر بن سعد سيّد
|
|
ضخم الدّسيعة
ماجد نفّاع
|
وأما القياس
فلأن خفض الاسم بعد «كم» في الخبر بتقدير «من» لأنك إذا قلت «كم رجل أكرمت ، وكم
امرأة أهنت» كان التقدير فيه : كم من رجل أكرمت ، وكم من امرأة أهنت ؛ بدليل أن
المعنى يقتضي هذا التقدير ، وهذا التقدير مع وجود الفصل بالظرف وحرف الجر كما هو
مع عدمه ، فكما ينبغي أن يكون الاسم مخفوضا مع عدم الفصل فكذلك مع وجوده.
قالوا : ولا
يجوز أن يقال : «إنها في هذه الحالة بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين ونحوه» لأنا
نقول : لو كانت بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل
بينها وبين معمولها ، ألا ترى أنك لو قلت «ثلاثون عندك رجلا» لم يجز ، فكذلك كان
ينبغي أن يقولوا هاهنا.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز فيه الجرّ لأن «كم» هي العاملة فيما
بعدها الجرّ ؛ لأنها بمنزلة عدد مضاف إلى ما بعده ، وإذا فصل بينهما بظرف أو حرف
جرّ بطلت الإضافة ؛ لأن الفصل بين الجار والمجرور بالظرف وحرف الجرّ لا يجوز في
اختيار الكلام ، فعدل إلى النصب
______________________________________________________
محل رفع خبره.
ثم اعلم ثالثا أن الكوفيين يستشهدون بالبيت على رواية الجر ، ويجعلون الفصل بين «كم»
الخبرية وتمييزها مغتفرا ، ولا يمنع الفصل من بقاء التمييز مجرورا بإضافة «كم»
إليه على مذهب سيبويه ، وبحرف جر مقدر ـ وهو من ـ على مذهب الفراء ، وفي الجر على
كلا القولين جهة ضعف.
[١٨٧] هذا
البيت من شواهد سيبويه (١ / ٢٩٦) وابن يعيش في شرح المفصل (ص ٥٨٢) ورضي الدين في
شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ١٢٢) والأشموني (رقم ١١٣٩) ورواية
سيبويه «كم في بني سعد بن بكر» ورواية الأعلم «كم في بني بكر بن عمرو».
والدسيعة :
العطية ، ويقال : هي الجفنة ، والمعنى أنه واسع المعروف وأنه ماجد شريف.
والاستشهاد به
في قوله «كم في بني بكر بن سعد سيد» حيث فصل بين كم الخبرية وتمييزها الذي هو قوله
«سيد» بالجار والمجرور الذي هو قوله «في بني سعد بن بكر» والكلام فيه كالكلام في
البيت السابق.
ومثل هذين
البيتين قول الشاعر ، وأنشده سيبويه أيضا :
كم فيهم ملك
أغر وسوقة
|
|
حكم بأردية
المكارم محتبي
|
وكذلك قول
الآخر ، وأنشده الأشموني (رقم ١١٣٧) :
كم دون مية
موماة يهال لها
|
|
إذا تيممها
الخريت ذو الجلد
|
لامتناع الفصل بينهما ، قال الشاعر :
[١٨٨] كم
نالني منهم فضلا على عدم
|
|
إذ لا أكاد
من الإقتار أحتمل
|
[١٣٧] والتقدير : كم فضل ، إلا أنه
لما فصل بينهما بنالني منهم نصب «فضلا» فرارا من الفصل بين الجار والمجرور ، وقال
الآخر :
[١٨٩] تؤم
سنانا وكم دونه
|
|
من الأرض
محدودبا غارها
|
والتقدير : كم
محدودب غارها دونه من الأرض ، إلا أنه لما فصل بينهما نصب «محدودبا» وإن لم يقصد
الاستفهام ؛ لئلا يفصل بين الجار والمجرور ، وإنما عدل إلى النصب لأن «كم» تكون
بمنزلة عدد ينصب ما بعده ، ولم يمتنع النصب بالفصل كما امتنع الجر ؛ لأن الفصل بين
الناصب والمنصوب له نظير في كلام العرب ، بخلاف الفصل بين الجار والمجرور ؛ فإنه
ليس له نظير في
______________________________________________________
[١٨٨] هذا
البيت من شواهد سيبويه (١ / ٢٩٥) وابن يعيش في شرح المفصل (ص ٥٨١) والأشموني (رقم
١١٤٠) ورضي الدين في شرح الكافية ، وشرحه البغدادي (٣ / ١٢٢) والبيت من كلام
القطامي ـ واسمه عمير بن شييم ـ من قصيدته التي يمدح فيها عبد الواحد بن الحارث بن
الحكم والي المدينة في عهد مروان بن الحكم الأموي والتي مطلعها قوله :
إنا محيوك
فاسلم أيها الطلل
|
|
وإن بليت ،
وإن طالت بك الطيل
|
وقوله «إنا
محيوك» معناه إنا داعون لك بالتحية ، وهي البقاء ، والطلل ـ بالتحريك ـ ما بقي
شاخصا مرتفعا من آثار الديار ، والطيل ـ بكسر الطاء وفتح الياء مخففة ـ جمع طيلة ،
وهي الدهر ، والإقتار : الفقر ، و «أحتمل» يروى بالحاء المهملة ، ومعناه أرتحل
لطلب الرزق ، ويروى بالجيم ، ومعناه أجمع العظام لأستخرج ودكها وشحمها وأتعلل به ،
مأخوذ من الجميل وهو الودك. يقول : لقد أنعم علي هؤلاء وزادوا في إنعامهم عند فقري
وحاجتي التي بلغت إلى حد أنني لا أقدر على الارتحال لطلب الرزق ضعفا وفقرا.
والاستشهاد به في قوله «كم نالني منهم فضلا» حيث نصب تمييز «كم» الخبرية لما فصل
بين كم وتمييزها وسيبويه لا يوجب ذلك إلا في ضرورة الشعر ، والفراء يجيزه في السعة
، وقد بيّنا لك هذا في شرح الشواهد السابقة.
[١٨٩] هذا
البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٢٦٥) والزمخشري
في مفصله وابن يعيش في شرحه (ص ٥٨١) والأشموني (رقم ١١٤١) وصف زهير في هذا البيت
ناقته ، وتؤم : أي تقصد ، وفيه ضمير مستتر تقديره هي يعود إلى الناقة ، والغار :
الغائر المطمئن من الأرض ، وجعله محدودبا لما يتصل به من الآكام ومتون الأرض.
والاستشهاد به في قوله «وكم دونه من الأرض محدودبا» حيث أتى بتمييز كم الخبرية
منصوبا لما فصل بين كم وبينه بالظرف والجار والمجرور والكلام فيه كالكلام فيما
قبله.
كلام العرب ؛ فكان ما صرنا إليه أولى مما صرتم إليه.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما ما احتجوا به من قوله :
* كم بجود مقرف نال العلى* [١٨٦]
فالكلام عليه
من وجهين ؛ أحدهما : أن الرواية الصحيحة «مقرف» بالرفع بالابتداء ، وما بعدها
الخبر ، وهو قوله «نال العلى». والثاني : أن هذا جاء في الشعر شاذا ؛ فلا يكون فيه
حجّة ، وهذا هو الجواب عن البيت الآخر.
وأما قولهم «إن
خفض الاسم بعد كم بتقدير من ، والتقدير مع وجود الفصل كما هو مع عدمه» قلنا : لا
نسلم أن جر الاسم بعد كم بتقدير من ، بل العامل فيه كم ؛ لأنها عندنا بمنزلة عدد
يضاف إلى ما بعده ، وعند المحققين من أصحابكم أنها بمنزلة ربّ ؛ فيخفضون بها الاسم
الذي بعدها كربّ.
والذي يدل على
فساد ما ذهبتم إليه أن حرف الجر لا يجوز أن يعمل مع الحذف ، وإنما يجوز أن يعمل
حرف الجر مع الحذف في مواضع يسيرة على خلاف الأصل ، إذا حذف إلى عوض وبدل ، كربّ
بعد الواو والفاء وبل ، على أنكم تزعمون أن حرف الجر غير مقدر بعد هذه الحروف ،
وإنما هي العاملة بطريق النيابة عن حرف الجر ، لا حرف الجر ، وقد بيّنا ذلك مستوفى
في موضعه.
وقولهم «إنها
لو كانت بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين ونحوه لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل بينها
وبين معمولها ؛ لأن ثلاثين لا يجوز أن يفصل بينها وبين معمولها» قلنا : إنما جاز
الفصل بين كم [١٣٨] ومميزها جوازا حسنا دون «ثلاثين» ونحوه لأن كم منعت بعض ما
لثلاثين من التصرف ؛ فجعل هذا عوضا مما منعته ، ألا ترى أن «ثلاثين» تكون فاعلة
لفظا ومعنى ، كقولك : ذهب ثلاثون ، وتقع مفعولة في رتبتها ، كقولك : أعطيت ثلاثين
، ولا يكون ذلك في كم ، فلما منعت كم بعض ما لثلاثين من التصرف جعل لها ضرب من
التصرف لا يكون لثلاثين ؛ ليقع التعادل بينهما ، على أنه قد جاء الفصل بين ثلاثين
ومميزها في الشعر ، قال الشاعر :
[١٩٠] على
أنّني بعد ما قد مضى
|
|
ثلاثون للهجر
حولا كميلا
|
______________________________________________________
[١٩٠] البيت
الأول من هذين البيتين من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل (ص ٥٨١) والرضي في شرح
الكافية في باب التمييز وفي باب الكنايات ، وشرحه البغدادي في الخزانة (١ / ٥٧٣)
وابن الناظم ، والأشموني (رقم ١١٣١) وهما معا من شواهد سيبويه (١ / ٢٩٢) وقد نسب
العيني (٤ / ٤٨٩ بهامش الخزانة) بيت الشاهد للعباس بن مرداس السلمي ، وقال
البغدادي : «وهما من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف لها قائل» والعجول ـ بفتح
يذكّرنيك
حنين العجول
|
|
ونوح الحمامة
تدعو هديلا
|
ففصل بين «ثلاثين»
وبين مميّزها بالجار والمجرور ، وإن كان قليلا لا يقاس عليه ، والله أعلم.
______________________________________________________
العين ـ الناقة
التي ألقت ولدها قبل موعده ، أو هي التي ذبح ولدها أو مات ، وحنينها : أراد به ما
تظهره من الوله على ولدها ، والهديل : أصله صوت الحمام ، ويراد منه فرخ الحمام
الذي تزعم العرب أن جارحا صاده على عهد نوح فكل حمامة تبكي عليه إلى اليوم.
يقول : إنني لا
أنسى عهدك على بعده ، فكلما حنت عجول أو ناحت حمامة رقت نفسي فذكرتك. والاستشهاد
به في قوله «ثلاثون للهجر حولا» حيث فصل بين اسم العدد ـ وهو قوله «ثلاثون» ـ وتمييزه
ـ وهو قوله «حولا» وهذا يقوي ما جوزه النحاة في «كم» من الفصل بينها وبين تمييزها
عوضا عما منعته من التصرف في الكلام بالتقديم والتأخير ، بسبب كونها أشبهت كم
الاستفهامية فألزمت التصدير لذلك ، وإن كان بين «كم» وبين اسم العدد فرق ، فإن
الثلاثين ونحوها من أسماء الأعداد لا تمتنع من التقديم والتأخير ، لأنها لم تتضمن
معنى يوجب لها التصدير ، فكان عملها في التمييز أوسع من عمل كم ، قال سيبويه (١ /
٢٩١) : «واعلم أن كم تعمل في كل شيء حسن للعشرين أن تعمل فيه ، فإذا قبح للعشرين
أن تعمل في شيء قبح ذلك في كم ، لأن العشرين عدد منون ، وكذلك كم هو منون عندهم ،
كما أن خمسة عشر عندهم بمنزلة ما قد لفظوا بتنوينه ، لو لا ذلك لم يقولوا :
خمسة عشر درهما
، ولكن التنوين ذهب منه كما ذهب مما لا ينصرف ، وموضعه موضع اسم منون ، وكذلك كم
موضعها موضع اسم منون ، وذهبت منها الحركة كما ذهبت من إذ ؛ لأنهما غير متمكنين في
الكلام» ثم قال بعد كلام : «وتقول : كم رجل زارني ، ولا تقول : زارني كم رجل ، ولو
قال : أتاك ثلاثون اليوم درهما ، كان قبيحا في الكلام ؛ لأنه لا يقوى قوة الفاعل ،
وليس مثل لم ؛ لما ذكرت لك ، وقد قال الشاعر.
* على أنني بعد ما قد مضى ثلاثون ...*
وكم رجلا أتاك
، أقوى من كم أتاك رجلا ، وكم ههنا فاعلة» اه. وقال ابن يعيش : «فإن قيل : فلم قبح
الفصل بين العدد ومميزه ولم يحسن أن تقول : قبضت خمسة عشر لك درهما ، ورأيت عشرين
في المسجد رجلا؟ قيل : إنما كان كذلك لضعف عمل العشرين ونحوها فيما بعدها ؛ لأنها
عملت على التشبيه باسم الفاعل ولم تقو قوته ، مع أنه قد جاء ذلك في الشعر» اه.
ومثل هذا البيت في الفصل بين اسم العدد ومميزه ما أنشده ابن يعيش (٥٨١) ونسب
روايته إلى سيبويه ، ونسبه لعبد بني الحسحاس :
فأشهد عند
الله أن قد رأيتها
|
|
وعشرون منها
إصبعا من ورائيا
|
٤٢
مسألة
[هل تجوز إضافة النّيّف إلى العشرة]
ذهب الكوفيون
إلى أنه يجوز إضافة النّيّف إلى العشرة ، نحو : خمسة عشر. وذهب البصريون إلى أنه
لا يجوز.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك عنهم في استعمالهم ، قال
الشاعر :
[١٩١] كلّف
من عنائه وشقوته
|
|
بنت ثماني
عشرة من حجّته
|
ولأن النّيّف
اسم مظهر كغيره من الأسماء المظهرة ؛ فجاز إضافته إلى ما بعده كسائر الأسماء
المظهرة التي تجوز إضافتها.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأنه قد جعل الإسمان اسما واحدا ،
فكما لا يجوز أن يضاف الاسم الواحد بعضه إلى بعض ، فكذلك هاهنا.
______________________________________________________
[١٩١] استشهد
بهذا البيت الأشموني (رقم ١١٣٢) وجماعة من شراح الألفية (انظر العيني بهامش
الخزانة ٤ / ٤٨٨) والعناء ـ بفتح العين ـ النصب والتعب ، والشقوة ـ بكسر الشين
وسكون القاف ـ ومثله الشقاء والشقاوة : ضد السعادة ، والحجة ـ بكسر الحاء وتشديد
الجيم مفتوحة ـ السنة. والاستشهاد بالبيت في قوله «بنت ثماني عشرة» فإن الكوفيين
أنشدوه شاهدا على جواز إضافة النيف ـ وهو هنا قوله «ثماني» ـ إلى العشرة ، من غير
أن يكون هناك شيء آخر ، وهم يجيزون ذلك في الكلام ، ومن هنا تعلم أن قول ابن مالك
في التسهيل «ولا يجوز بإجماع ثماني عشرة ـ يعني بإضافة الأول إلى الثاني ـ إلا في
الشعر» ليس بمستقيم ؛ فإن الكوفيين ـ كما سمعت ـ يجيزون إضافة صدر المركب إلى عجزه
سواء أكان مع هذا المركب شيء آخر يضاف المركب إليه نحو ما حكاه الفراء من أنه سمع
أبا فقعس الأسدي وأبا الهيثم العقيلي يقولان «ما فعلت خمسة عشرك» أم لم يكن مع
المركب شيء أصلا كما في هذا البيت!.
__________________
وبيان هذا أن
الاسمين لما ركبا دلّا على معنى واحد ، والإضافة تبطل ذلك المعنى ، ألا ترى أنك
إذا قلت «قبضت خمسة عشر» من غير إضافة دلّ على أنك قد قبضت خمسة وعشرة ، وإذا أضفت
فقلت «قبضت خمسة عشر» دلّ على أنك قد قبضت الخمسة دون العشرة ، كما لو قلت «قبضت
مال زيد» فإن المال يدخل في القبض دون زيد ، وكذلك «ضربت غلام عمرو» فإن الضرب
يكون للغلام [١٣٩] دون عمرو ، فلما كانت الإضافة تبطل المعنى المقصود من التركيب
وجب أن لا تجوز.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما ما أنشدوه من قوله :
* بنت ثماني عشرة من حجّته* [١٩١]
فلا يعرف قائله
، ولا يؤخذ به ، على أنّا نقول : إنما صرّفه لضرورة الشعر وردّه إلى الجر لأن «ثماني
عشرة» ؛ لما كانا بمنزلة اسم واحد ، وقد أضيف إليهما بنت في قوله : «بنت ثماني
عشرة» ردّ الإعراب إلى الأصل بإضافة بنت إليهما ، لا بإضافة ثماني إلى عشرة ، وهم
إذا صرّفوا المبنيّ للضرورة ردّوه إلى الأصل ، قال الشاعر :
[١٩٢] سلام
الله يا مطرا عليها
|
|
وليس عليك يا
مطر السّلام
|
______________________________________________________
[١٩٢] هذا
البيت من شواهد سيبويه (١ / ٣١٣) ورضي الدين في باب المنادى من شرح الكافية ،
وشرحه البغدادي في الخزانة (١ / ٢٩٤ بولاق) والأشموني (رقم ٨٧٥) وابن هشام في مغني
اللبيب (رقم ٥٧١) وفي أوضح المسالك (رقم ٤٣٧) وفي شذور الذهب (رقم ٥٣) وابن عقيل (رقم
٣٠٧) والبيت من كلام الأحوص ، واسمه محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت ، الأوسي ـ وكان
الأحوص يعشق امرأة فتزوجها رجل يقال له مطر ، فغلب الوجد على الأحوص حتى صرح بما
كان يكتمه. والاستشهاد بهذا البيت في قوله «يا مطر» حيث أتى بالمنادى المفرد العلم
منونا حين اضطر إلى ذلك ، قال سيبويه (١ / ٣١٣) «وأما قول الأحوص :
* سلام الله يا مطر عليها*
فإنما لحقه
التنوين كما لحق ما لا ينصرف لأنه بمنزلة اسم لا يصرف ، لأنك أردت في حال التنوين
في مطر ما أردت حين كان غير منون» اه. وقال الأعلم «الشاهد فيه تنوين مطر وتركه
على ضمه ، لجريه في النداء على الضم واطراد ذلك في كل علم مثله ، فأشبه المرفوع
غير المنصرف في غير النداء ، فلما نون ضرورة ترك على لفظه ، كما ينون الاسم
المرفوع الذي لا ينصرف ، فلا يغيره التنوين عن رفعه ، وهذا مذهب الخليل وأصحابه
واختيارهم ، وأبو عمرو ومن تابعه يختارون نصبه مع التنوين ؛ لمضارعته النكرة
بالتنوين ، ولأن التنوين يعاقب الإضافة ، فيجرونه على أصله لذلك ، وكلا المذهبين
مسموع من
وجميع ما يروى
من هذا فشاذّ لا يقاس عليه.
وأما قولهم «إن
النّيّف اسم مظهر كغيره من الأسماء التي يجوز إضافتها ؛ فجاز إضافته كسائر الأسماء
المظهرة التي يجوز إضافتها» قلنا : إلا أنه مركب ، والتركيب ينافي الإضافة ؛ لأن
التركيب أن يجعل الاسمان اسما واحدا ، لا على جهة الإضافة ؛ فيدلّان على مسمى واحد
، بخلاف الإضافة ؛ فإن المضاف يدل على مسمى ، والمضاف إليه يدل على مسمى آخر ؛
وإذا كان التركيب ينافي الإضافة ، كما أن الإضافة تنافي التركيب على ما بيّنا ؛
وجب أن لا تجوز إضافة النّيّف إلى العشرة لاستحالة المعنى ، والله أعلم.
______________________________________________________
العرب ، والرفع
أقيس لما تقدم من العلة» اه. وقد ارتضى الزجاجي في أماليه مذهب الخليل ، ولكنه لم
يرتض التعليل الذي علل به سيبويه وتبعه عليه الأعلم قال : «الاسم العلم المنادى
المفرد مبني على الضم ؛ لمضارعته عند الخليل وأصحابه للأصوات ولوقوعه موقع الضمير
عند غيرهم ، فإذا لحقه التنوين في ضرورة الشعر فالعلة التي من أجلها بني قائمة بعد
فيه ، فينون على لفظه ؛ لأنا قد رأينا من المبنيات ما هو منون نحو إيه وغاق وما
أشبه ذلك ، وليس بمنزلة ما لا ينصرف ؛ لأن ما لا ينصرف أصله الصرف ، وكثير من
العرب لا يمتنع من صرف شيء في ضرورة ولا غيرها ، إلا أفعل منك ، فإذا نون فإنما
يرد إلى أصله ، والمفرد المنادى العلم لم ينطق به منصوبا منونا قط في غير ضرورة
شعر ؛ فهذا بين واضح» اه كلامه بحروفه.
٤٣
مسألة
[القول في تعريف العدد المركب وتمييزه]
ذهب الكوفيون
إلى أنه يجوز أن يقال في خمسة عشر درهما : «الخمسة العشر درهما ، والخمسة العشر
الدرهم» . وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إدخال الألف واللام في
العشر ، ولا في الدرهم ، وأجمعوا على أنه يجوز أن يقال «الخمسة عشر درهما» بإدخال
الألف واللام على الخمسة وحدها.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأنه قد صح عن العرب ما يوافق مذهبنا ، ولا
خلاف في صحة ذلك عنهم ، وقد حكى ذلك أبو عمرو عن أبي الحسن [١٤٠] الأخفش عن العرب
، وإذا صح ذلك النقل وجب المصير إليه ، واعتمادهم في هذه المسألة على النقل ؛ لأن
قياسهم فيها ضعيف جدا.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز دخول الألف واللام إلا على الاسم الأول
لأن الاسمين لما ركّب أحدهما مع الآخر تنزّلا منزلة اسم واحد ، وإذا تنزّلا منزلة
اسم واحد فينبغي أن لا يجمع فيه بين علامتي تعريف ، وأن
__________________
يلحق الاسم الأول منهما ؛ لأن الثاني يتنزل منزلة بعض حروفه ، وكذلك عرّفت
العرب الاسم المركّب ، قال ابن أحمر :
[١٩٣] تفقّأ
فوقه القلع السّواري
|
|
وجنّ الخازباز
به جنونا
|
فقال «الخازباز»
فأدخل الألف واللام على الاسم الأول ، ولم يكرّره فيقول «الخازالباز» ولم يحك ذلك
عنهم في شعر ولا في كلام ، والخاز باز هاهنا : أراد به صوت الذباب ، ويقال «جنّ
الذّباب» إذا طار وهاج ، وقيل : المراد بالخازباز نبت ، كما قال الشاعر :
[١٩٤] رعيتها
أكرم عود عودا
|
|
الصّلّ
والصّفصلّ واليعضيدا
|
______________________________________________________
[١٩٣] هذا بيت
من الوافر ، وقد أنشده ابن منظور (ف ق أ ـ ق ل ع ـ خ وز) ونسبه لعمرو بن أحمر ،
وأنشده موفق الدين بن يعيش في شرح المفصل (ص ٥٧٠) وأنشده رضي الدين في باب
المركبات من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ١٠٩) وتقول «تفقأ الدمل
والقرح ، وتفقأت السحابة عن مائها» أي تشققت ، أو تبعجت بمائها. و «القلع» بفتح
القاف واللام جميعا ، وآخره عين مهملة ـ قطع من السحاب كأنها الجبال ، واحدته قلعة
ـ بالتحريك ـ ويقال : القلعة من السحاب التي تأخذ ناحية من السماء ، والسواري :
جمع سارية ، وأراد بها ههنا السحابة التي تأتي ليلا ، والخازباز : ضرب من النبات ،
وجنونه : طوله وسرعة نباته ، ويقال : الخازباز ههنا : نوع من ذباب العشب يطير في
الربيع يدل على خصب السنة ، وجنونه : هزجه وطيرانه ، قال ابن منظور «والخازباز
ذباب ، اسمان جعلا واحدا ، وبنيا على الكسر ، لا يتغير في الرفع والنصب والجر ،
قال عمرو بن أحمر :
* تفقأ فوقه القلع السواري الخ*
وسمى الذبان به
ـ وهما صوتان جعلا واحدا ـ لأن صوته خازباز ، ومن أعربه نزله بمنزلة الكلمة
الواحدة فقال خازباز (برفع آخره) وقيل : أراد النبت ، وقيل : أراد ذبان الرياض ،
وقيل : الخازباز حكاية لصوت الذباب فسماه به» اه ، والاستشهاد به في قوله «وجن
الخازباز» حيث أدخل عليه الألف واللام وتركه على بنائه كما تقول «الخمسة عشر»
فتدخل عليه الألف واللام وهو على حاله من البناء.
[١٩٤] هذه أبيات
من الرجز المشطور ، وقد رواها كلها ابن منظور على ترتيب ما رواه المؤلف ههنا (خ وز)
وموفق الدين بن يعيش في شرح المفصل (ص ٥٦٩) والصل ، والصفصل ، واليعضيد ،
والخازباز : كلها أسماء من أسماء النبات ، والسنم ـ بفتح السين وكسر النون ـ العالي
المرتفع ، يريد طول النبات الذي أرعاه إبله ، والمجود : اسم مفعول من «جاده الغيث
يجوده» إذا أصابه منه الجود ـ بفتح فسكون ـ وهو القوي الشديد من المطر ، وعامر
ومسعود : راعيان ، وكنى بقوله «بحيث يدعو عامر مسعودا» عن طول النبات طولا يواري
كل راع منهما عن الآخر ، فلا يعرف أحدهما مكان صاحبه حتى يدعوه فيسمع صوته فيعرف
مكانه ، والاستشهاد بالأبيات للدلالة على أن «الخازباز» نبت ، وهو ظاهر من قوله
إنه أرعاه إبله.
والخازباز
السّنم المجودا
|
|
بحيث يدعو
عامر مسعودا
|
ويقال «جنّ
النبات» إذا خرج زهره. والخازباز أيضا : داء في اللهازم ، قال الشاعر :
[١٩٥] يا
خازباز أرسل اللهازما
|
|
إنّي أخاف أن
تكون لازما
|
والخازباز فيما
يقال أيضا : السّنّور ، وفي الخازباز سبع لغات : خازباز ، وخازباز وخازباز ،
وخازباز ، وخازباز ، وخازباء ـ مثل نافقاء ـ وخزباز ـ مثل سرداح ـ قال الشاعر :
[١٩٦] مثل
الكلاب تهرّ عند درابها
|
|
ورمت لهازمها
من الخزباز
|
وإنما لم يجز
دخول الألف واللام على «درهم» لأنه منصوب على التمييز ، والتمييز لا يكون إلا نكرة
، وإنما وجب أن يكون نكرة لأن الغرض أن يميز المعدود به من غيره ، وذلك يحصل
بالنكرة التي هي الأخفّ ، فكانت أولى من المعرفة التي هي الأثقل.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما ما حكوه عن العرب [١٤١] فلا حجّة لهم فيه ؛ لقلّته في
الاستعمال وبعده عن القياس : أما قلّته في الاستعمال فظاهر ؛ لأنه إنما جاء شاذا
عن بعض العرب ؛ فلا يعتدّ به لقلّته وشذوذه ، فصار
______________________________________________________
[١٩٥] هذان
بيتان من الرجز المشطور ، وقد أنشدهما ابن منظور (خ وز) ولم يعزهما ، وابن يعيش (ص
٥٧٠) وقال قبل إنشادهما «وقال الراجز وهو العدوى» اه. والخازباز : داء يأخذ الإبل
والناس في حلوقها ، وقال ابن سيده : الخازباز قرحة تأخذ في الحلق ، ومنهم من خص
بهذا الداء الإبل ، واللهازم : جمع لهزمة ـ بكسر اللام والزاي وبينهما هاء ساكنة ـ
واللهزمتان : عظمان ناتئان تحت الأذن ، وقيل : اللهازم : جمع لهزمة ، وهي لحمة في
أصل الحنك.
[١٩٦] هذا بيت
من الكامل ، أنشده ابن يعيش في شرح المفصل (ص ٥٧٠) وابن منظور (خ وز) عن الأخفش ،
وعند ابن يعيش :
* مثل الكلاب تهر عند بيوتها*
وعند الأخفش :
* مثل الكلاب تهر عند جرائها*
وقال ابن بري :
صواب إنشاده :
* مثل الكلاب تهر عند درابها*
والدراب ـ بكسر
الدال ـ جمع درب ، شبههم بالكلاب النابحة عند الدروب.
بمنزلة دخول الألف واللام في قول الشاعر :
يقول الخنا ،
وأبغض العجم ناطقا
|
|
إلى ربّنا
صوت الحمار اليجدّع [٩١]
|
ويستخرج
اليربوع من نافقائه
|
|
ومن جحره
بالشّيحة اليتقصّع
|
أراد الذي
يتقصّع ، فكما لا يجوز أن يقال إن الألف واللام يجوز دخولهما على الفعل لمجيئه
هاهنا لقلّته وشذوذه فكذلك أيضا لا يجوز أن يحتجّ بذلك لقلّته وشذوذه ، وكما قال
الشاعر :
[١٩٧] يا ليت
أمّ العمرو كانت صاحبي
|
|
مكان من أشتى
على الرّكائب
|
أراد «أم عمرو».
وكما قال الآخر :
[١٩٨] باعد
أمّ العمرو من أسيرها
|
|
حرّاس أبواب
على قصورها
|
______________________________________________________
[١٩٧] هذان
بيتان من مشطور الرجز ، وقد أنشد أولهما ابن منظور (وب ر) وأنشدهما معا موفق الدين
بن يعيش في شرح المفصل (ص ٥١) من غير عزو ، وأسند روايتهما إلى ابن الأعرابي ، و «أم
العمرو» أراد أم عمرو ، فأدخل الألف واللام على العلم الذي هو عمرو ، وسنذكر لك
وجهه ، والصاحب : المعاشر ، لا يتعدى تعدي الفعل على أن فعله ـ وهو صحب ـ متعد ؛
فلا تقول «زيد صاحب عمرا» كما تقول «زيد ضارب عمرا» لأنهم استعملوا صاحبا استعمال
الأسماء ، وجمعه أصحاب وأصاحيب ، وصحبان نظير شاب وشبان ، وصحاب نظير جائع وجياع ،
وصحب نظير شارب وشرب ، وصحابة ـ بفتح الصاد أو كسرها ـ حكى جميع هذه الجموع الأخفش
، وأشتى : دخل في زمان الشتاء ، فإن أردت أنه أقام في موضع شتاء فقل : شتا يشتو ،
وقال طرفة :
حيثما قاظوا
بنجد ، وشتوا
|
|
عند ذات
الطلح من ثني وقر
|
والركائب : جمع
ركوب ـ بفتح الراء ـ وهو ما يركب من كل دابة ، فعول بمعنى مفعول ، وقيل : الركائب
جمع ركاب ، والاستشهاد به في قوله «أم العمرو» حيث دخل الألف واللام على العلم ،
قال جار الله في المفصل (١ / ٣٤ بتحقيقنا) : «وقد يتأول العلم بواحد من الأمة
المسماة به ؛ فلذلك من التأول يجري مجرى رجل وفرس ، فيجترأ على إضافته وإدخال
اللام عليه ، قالوا : مضر الحمراء ، وربيعة الفرس ، وأنمار الشاة. وعن أبي العباس
: إذا ذكر الرجل جماعة اسم كل واحد منهم زيد قيل له : فما بين الزيد الأول والآخر
، وهذا الزيد أشرف من ذلك الزيد ، وهو قليل» اه. وقال ابن يعيش في شرح هذا الكلام «اعلم
أن العلم الخاص لا تجوز إضافته ولا إدخال لام التعريف فيه لاستغنائه بتعريف
العلمية عن تعريف آخر ، إلا أنه ربما شورك في اسمه أو اعتقد ذلك ، فخرج عن أن يكون
معرفة ، ويصير من أمة كل واحد له مثل اسمه ، ويجري حينئذ مجرى الأسماء الشائعة نحو
رجل وفرس ، فحينئذ يجترأ على إضافته وإدخال الألف واللام عليه كما يفعل ذلك في
الأسماء الشائعة» اه.
[١٩٨] أنشد جار
الله الزمخشري هذا البيت في المفصل (رقم ٧ بتحقيقنا) وعزاه إلى أبي النجم
وكما قال آخر :
[١٩٩] وجدنا
الوليد بن اليزيد مباركا
|
|
شديدا بأعباء
الخلافة كاهلة
|
وكما قال الآخر
:
[٢٠٠] أما
ودماء مائرات تخالها
|
|
على قنّة
العزّى وبالنّسر عند ما
|
______________________________________________________
العجلي ،
وأنشده في اللسان (وب ر) وأنشده ابن يعيش في شرح المفصل وأقر عزوه إلى أبي النجم (ص
٥١ و ٣٢٠) وأنشده ابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٦٩ بتحقيقنا) من غير عزو ، والأسير
: أصله الذي يقع عند الحرب في يد عدوه ، فعيل بمعنى مفعول ، وأراد هنا الذي قيده
حبها عن أن ينظر إلى غيرها وعنى به نفسه ، والحراس : جمع حارس.
والاستشهاد به
في قوله «أم العمرو» حيث أدخل الألف واللام على العلم ، والكلام فيه مثل الكلام في
الشاهد السابق ، وأنكر ابن منظور رواية «أم العمر» وقال «صواب الإنشاد يا ليت أم
الغمر» اه أي بالغين معجمة.
[١٩٩] هذا
البيت من قصيدة لابن ميادة ـ واسمه الرماح بن أبرد ، وميادة : اسم أمه ـ يمدح فيها
الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وقد أنشده الزمخشري في المفصل (رقم ٨
بتحقيقنا) وابن يعيش في شرحه (ص ٥٢) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٧٠ بتحقيقنا)
وفي أوضح المسالك (رقم ١٩) والأشموني (رقم ٣٥) ورضي الدين في باب توابع المنادى ،
وشرحه البغدادي في الخزانة (١ / ٣٢٨) والأعباء : جمع عبء ـ بكسر العين وسكون الباء
ـ وهو ما يثقل عليك حمله أو يبهظك أداؤه ، وأراد بأعباء الخلافة مصاعبها الجمة
وتبعاتها الكثيرة التي يؤود حملها القائم بها ، ويروى «بأحناء الخلافة» والأحناء :
جمع حنو ـ بكسر
فسكون ـ وأحناء الأمور : جوانبها ونواحيها ، وأطلقوا أحناء الأمور على ما تشابه
منها وأشكل المخرج منه ، والكاهل : اسم لما بين الكتفين ، ويعبر بشدة الكاهل عن
القوة. والاستشهاد بالبيت هنا في قوله «اليزيد» فإنه يعني يزيد بن عبد الملك والد
ممدوحه ، وقد أدخل أل على يزيد وهو علم ، وذلك لأنه اعتقد فيه الشياع بسبب تعدد
المسمى بهذا الاسم ، وفي بني أمية قوم الممدوح عدة ممن سمي بيزيد.
[٢٠٠] أنشد ابن
منظور البيت الأول من هذه الأبيات (م ور) ونسبه لعبد الحق ، ولم يزد على ذلك ،
وأنشده مرة أخرى (ع ن د م) من غير عزو ، وأنشد ثلاثتها (أ ب ل) ونسبها لابن عبد
الجن (تصحيف عبد الحق) ، وأنشد ثالثها (ل ع ع) ونسبه إلى حميد بن ثور ، وراجعت
ديوان حميد فلم أجده في أصل قصيدته التي مطلعها :
سل الربع أني
يممت أم سالم
|
|
وهل عادة
للربع أن يتكلما
|
ونبه الأستاذ
الميمني على أن هذا البيت مما وجده في اللسان مما لا يوجد في أصل الديوان ، وأنشد
ابن يعيش ثاني هذه الأبيات (ص ٦٤٦) وفي رواية اللسان «أما ودماء لا تزال كأنها»
وأنشدها كما هنا في (أ ب ل) ودماء مائرات : أي مائجات ، يريد أنها كثيرة ، وذلك
لكثرة القتل ، والقنة ـ بضم القاف وتشديد النون ـ أصلها أعلى الجبل ، والعزى :
اسم صنم ، ونسر
: اسم صنم أيضا ، وفي التنزيل العزيز (وَلا يَغُوثَ
وَيَعُوقَ وَنَسْراً) وقد
وما سبّح
الرّهبان في كل بيعة
|
|
أبيل
الأبيلين المسيح ابن مريما
|
لقد ذاق منّا
عامر يوم لعلع
|
|
حساما إذا ما
هزّ بالكف صمّما
|
أراد «وبنسر»
بدليل قوله تعالى : (وَيَعُوقَ وَنَسْراً) [نوح : ٢٣] وكما قال الآخر :
[٢٠١] ولقد
جنيتك أكمؤا وعساقلا
|
|
ولقد نهيتك
عن بنات الأوبر
|
______________________________________________________
أدخل عليه
الشاعر الألف واللام ، ونسر : كان صنما لذي الكلاع بأرض حمير ، ويغوث : كان لمذحج
، ويعوق : لهمدان ، وهي من أصنام قوم نوح عليهالسلام ، والعندم ـ بوزن جعفر ـ هو دم الأخوين ، ويقال : هو دم
الغزال بلحاء شجر الأرطى يطبخان جميعا حتى ينعقد فتختضب به الجواري ، وقال الأصمعي
: هو صبغ زعم أهل البحرين أن جواريهم يختضبن به ، والبيعة ـ بكسر الباء ـ متعبد
النصارى ، ووقع في اللسان «في كل هيكل» والهيكل : هو البيعة ، والأبيل ـ بفتح
الهمزة ـ رئيس النصارى ، وقيل : هو الراهب ، وقيل : هو صاحب الناقوس ، ولعلع : اسم
موضع فيما حكاه صاحب اللسان ، وقال ياقوت : هو جبل كانت به وقعة لهم ، أو هو ماء
بالبادية معروف. والاستشهاد بهذه الأبيات في قوله و «بالنسر» حيث أدخل الألف
واللام على العلم الخاص ، للضرورة ، والذي يدل على أن العلم «نسر» بدون الألف
واللام قول العباس بن عبد المطلب ، يمدح سيدنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
بل نطفة تركب
السفين وقد
|
|
ألجم نسرا
وأهله الغرق
|
قال ابن الأثير
«يريد الصنم الذي كان يعبده قوم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسّلام» اه.
وقد ورد في
الكتاب الكريم اسم أصنام قوم نوح في الآية التي تلونا عليك وفيها «نسر» بدون ألف
ولام ، فتكون الألف واللام في هذا الشاهد زائدة.
[٢٠١] أنشد ابن
منظور هذا البيت (وب ر) وأسند روايته للأحمر والأصمعي ، وهو من شواهد ابن هشام في
مغني اللبيب (رقم ٧٢) وأوضح المسالك (رقم ٦٢) والأشموني (رقم ١٢٧) وابن عقيل (رقم
٣٦) وجنيتك : أي جنيت لك ، وهو نظير قوله تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ) والأكمؤ : جمع كمء ـ بوزن كلب وأكلب ، وفلس وأفلس ـ وقد
يجمع الكمء على كمأة ، فيكون المفرد خاليا من التاء والجمع مقرونا بها ، وهو عكس
شجر وشجرة وكلم وكلمة ونظائرهما ، وهما من نوادر اللغة ، والعساقل : جمع عسقل ـ بوزن
جعفر ـ وهو ضرب من الكمأة أبيض ، وبنات أوبر : ضرب آخر من الكمأة مزغب على لون
التراب ، والاستشهاد بالبيت في قوله «بنات الأوبر» وذلك أن بنات أوبر علم على هذه
الكمأة ، وأصله بدون ألف ولام ، وقد زاد الشاعر الألف واللام حين اضطر لإقامة وزن
البيت ، وهذا رأي كان الأصمعي يقوله ، ويشبه «بنات الأوبر» بأم العمرو ، في أن كلا
منهما علم بدون الألف واللام ، وأن الشاعر زاد الألف واللام اضطرارا ، وثمة رأي
آخر كان الأصمعي يجوزه أيضا ، قال : «وقد يجوز أن يكون أوبر نكرة فعرفه باللام ،
كما حكى سيبويه أن عرسا من «ابن عرس» قد نكره بعضهم فقال : هذا ابن عرس مقبل» اه.
أراد «بنات
أوبر» وكما قال الآخر :
[٢٠٢] وإنّي
حبست اليوم والأمس قبله
|
|
ببابك حتّى
كادت الشّمس تغرب
|
أراد «وأمس»
ولهذا تركه على جهته الأولى مكسورا ، وكما قال الآخر :
[٢٠٣] * فإنّ الأولاء يعلمونك منهم*
______________________________________________________
[٢٠٢] هذا
البيت من كلام نصيب بن رباح ، الأموي بالولاء ، وقد أنشده ابن منظور (أ م س) وعزاه
إليه ، واستشهد به ابن هشام في شرح شذور الذهب (رقم ٤٤) والاستشهاد به في قوله «والأمس»
حيث أدخل الألف واللام على أمس ، مع أن المراد به اليوم الذي قبل يومك الذي أنت
فيه ، وهو في هذه الحالة علم ، والعلم لا تدخله أل ، لكنه لما اضطر أدخل عليه أل
ليقيم وزن البيت ، واعلم أن «أمس» إما أن يراد به يوم ما من الأيام السابقة ، وإما
أن يراد به خصوص اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه ، وعلى كل حال إما أن يجمع جمع
التكسير أو يصغر أو تدخله الألف واللام وإما ألا يكون شيئا من ذلك ، بل يكون مفردا
مكبرا غير مقترن بأل ، فإن أريد به يوم ما من الأيام الماضية أو جمع جمع تكسير أو
صغّر أو دخلته أل المعرفة فهو معرب ، وإن أريد به اليوم الذي قبل يومك الحاضر ولم
يجمع ولم يصغر ولم تدخل عليه أل المعرفة فللعرب فيه لغتان : الأولى بناؤه على
الكسر وهي لغة أهل الحجاز ، والثانية إعرابه إعراب ما لا ينصرف بالضمة من غير
تنوين في حالة الرفع ، وبالفتحة من غير تنوين في حالتي الجر والنصب ، وقال الله
تعالى : (فَجَعَلْناها
حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) فالأمس في هذه الآية الكريمة لا يراد به خصوص اليوم
السابق على يومك الذي أنت فيه فهو نكرة ، وهو معرب على اللغتين جميعا ، وهو مجرور
بالكسرة لاقترانه بأل ، وإذا علمت ذلك فاعلم أن «الأمس» في بيت نصيب يروى بالنصب
وبالجر ، أما رواية النصب فلا إشكال فيها ؛ لأنه يكون حينئذ ظرفا معطوفا على «اليوم»
والمعطوف على المنصوب منصوب ، وأما رواية الجر فإنها تحتاج إلى نظر ؛ فمن العلماء
من قال : هو مبني على الكسر في محل نصب ، واضطر إلى أن يدعي أن أل الداخلة عليه
ليست أل المعرفة ، ولكنها زائدة مثل زيادتها في «بنات الأوبر» وفي «أم العمرو» وفي
«طبت النفس» وهذا هو الذي يجري عليه كلام المؤلف في هذا الموضع ، وقال قوم : لا ،
بل هذه الألف واللام معرفة ، والأمس معطوف على اليوم ، والمعطوف على المنصوب منصوب
وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة التوهم ، وذلك
أن الشاعر بعد أن قال «وقفت اليوم» توهم أنه أدخل على اليوم «في» التي ينتصب الظرف
على معناها ، فجاء بالمعطوف مجرورا على هذا التوهم ، وفي لسان العرب (أ م س) بحث
لا بأس به في كلمة «أمس» وموضع بنائها ومواضع إعرابها.
[٢٠٣] أنشد ابن
منظور هذا الشاهد صدر بيت ولم يذكر تتمته (باب الألف اللينة ٢٠ / ٣٢١) و «الأولاء»
ههنا اسم إشارة ، وأصلها «أولاء» فزاد الألف واللام ، ولو لم يزدها لم يتأثر البيت
، فإن الوزن مستقيم بذكرها وبحذفها ، ولكنه مع هذا لا يخلو عن الضرورة ، وذلك لأن
أسماء الإشارة معرفة من غير حاجة إلى الألف واللام ، وكأنه قال : فإن هؤلاء
يعلمونك
[١٤٢] أراد «أولاء»
فكما أن زيادة الألف واللام في هذه المواضع لا تدل على جواز زيادتها في اختيار
الكلام فلا يجوز أن يقال في زيد الزّيد وفي عمرو العمرو ؛ لمجيئه شاذا ، فكذلك
هاهنا ، وأما بعده عن القياس فقد بيّنّاه في دليلنا ، والله أعلم.
______________________________________________________
كثير ، بل هي
مما لازمتها من حين وضعها ، ومن ذلك قول الشاعر :
فإن الألى
بالطف من آل هاشم
|
|
تآسوا فسنوا
للكرام التآسيا
|
ومن ذلك قول
خلف بن حازم :
إلى النفر
البيض الأولاء كأنهم
|
|
صفائح يوم
الروع أخلصها الصقل
|
ومن ذلك قول
عبيد بن الأبرص غير أنه حذف الصلة للعلم بها :
نحن الأولى
فاجمع جمو
|
|
عك ثم وجههم
إلينا
|
أي نحن الذين
عرفوا بالشجاعة والإقدام وعدم المبالاة بالعدو ، فزيادة «أل» في «الأولاء»
الموصولة زيادة لازمة لا تفارقها ، سواء أكانت مقصورة كما في البيت الأول أم كانت
ممدودة كما في البيتين بعده ، أما «أولاء» الإشارية فأصل استعمالها أن تكون مجردة
من أل ، وزيادة أل فيها مما ألجأت إليه الضرورة ، فاعرف هذا وتنبه له والله يرشدك.
٤٤
مسألة
[القول في إضافة العدد المركب إلى مثله]
ذهب الكوفيون
إلى أنه لا يجوز أن يقال «ثالث عشر ثلاثة عشر».
وذهب البصريون
إلى أنه يجوز أن يقال «ثالث عشر ثلاثة عشر».
أمّا الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : أجمعنا على أنه لا يمكن أن يبنى من لفظ ثلاثة عشر فاعل ،
وإنما يمكن أن يبنى من لفظ أحدهما ، وهو العدد الأول الذي هو الثلاثة ، ولا يمكن
أن يبنى من لفظ العدد الثاني ـ وهو العشر ـ فذكر العشر مع ثالث لا وجه له.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأن الأصل أن يقال «ثالث عشر ثلاثة عشر» وقد
جاء عن العرب ، فإذا ساعده النقل والقياس ـ وهو الأصل ـ وجب أن يكون جائزا.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنه لا يمكن أن يبنى منهما فاعل ، وإنما يمكن أن يبنى
من أحدهما» قلنا : هذا هو الحجة عليكم ؛ فإنه لما لم يمكن أن يبنى منهما وبني من
أحدهما احتيج إلى ذكر الآخر ؛ ليتميز ما هو واحد ثلاثة مما هو واحد ثلاثة عشر ،
فأتى باللفظ كله ، والله أعلم.
__________________
٤٥
مسألة
[المنادى المفرد العلم ، معرب أو مبنيّ؟]
ذهب الكوفيّون
إلى أن الاسم المنادى المعرف المفرد معرب مرفوع بغير تنوين. وذهب الفراء من
الكوفيين إلى أنه مبنيّ على الضم ، وليس بفاعل ولا مفعول. وذهب البصريون إلى أنه
مبنيّ على الضم ، وموضعه النصب ؛ لأنه مفعول.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأنا وجدناه لا معرب [١٤٣] له يصحبه من رافع
ولا ناصب ولا خافض ، ووجدناه مفعول المعنى ؛ فلم نخفضه لئلا يشبه المضاف ، ولم
ننصبه لئلا يشبه ما لا ينصرف ؛ فرفعناه بغير تنوين ليكون بينه وبين ما هو مرفوع
برافع صحيح فرق ، فأما المضاف فنصبناه لأنّا وجدنا أكثر الكلام منصوبا ؛ فحملناه
على وجه من النصب لأنه أكثر استعمالا من غيره.
وأما الفرّاء
فتمسّك بأن قال : الأصل في النداء أن يقال «يا زيداه» ، كالندبة ؛ فيكون الاسم بين
صوتين مديدين ـ وهما «يا» في أول الاسم ، والألف في آخره ـ والاسم فيه ليس بفاعل
ولا مفعول ولا مضاف إليه ، فلما كثر في كلامهم استغنوا بالصوت الأول وهو «يا» في
أوله عن الثاني وهو الألف في آخره ، فحذفوها وبنوا آخر الاسم على الضم تشبيها بقبل
وبعد ؛ لأن الألف لما حذفت وهي مرادة معه ، والاسم كالمضاف إليها إذ كان متعلقا
بها ؛ أشبه آخره آخر ما حذف منه المضاف إليه وهو مراد معه نحو «جئت من قبل ومن بعد»
أي من قبل ذلك ومن بعد ذلك ، قال الله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم : ٤] أي من قبل ذلك ومن بعد ذلك ؛ فكذلك هاهنا.
قالوا : ولا
يجوز أن يقال «لو كانت الألف في آخر المنادى بمنزلة المضاف
__________________
إليه لوجب أن تسقط نون الجمع معها في نحو «واقنّسروناه» لأنا نقول : نحن لا
نجوّز ندبة الجمع الذي على هجاءين ؛ فلا يجوز عندنا ندبة «قنسرون» بحذف النون ولا
إثباتها كما لا يجوز تثنيته ولا جمعه.
قالوا : ولا
يجوز أيضا أن يقال «إن هذا يبطل بالمنادى المضاف ، نحو : يا عبد عمرو ؛ فإنه يفتقر
في باب الصوت إلى ما يفتقر إليه المفرد ؛ فكان ينبغي أن يقال : يا عبد عمرو ـ بالضم
ـ لأن أصله : يا عبد عمراه» لأنا نقول : إنما لم يقدر ذلك في المنادى المضاف لأجل
طوله ، بخلاف المفرد ، فبان الفرق بينهما.
وأما المضاف
فإنما وجب أن يكون مفتوحا لأن الاسم الثاني حلّ محل ألف الندبة في قولك «يا زيداه»
والدال في «يا زيداه» مفتوحة ، فبقيت الفتحة على ما كانت في «يا عبد عمرو» كما
كانت في «يا زيداه» والمضموم هاهنا بمنزلة المنصوب ، والمنصوب بمنزلة المندوب ،
ولا يقال إنه نصب بفعل ولا أداة.
قال : والذي
يدل على أن المفرد بمنزلة المضاف [١٤٤] امتناع دخول الألف واللام عليه ، والذي يدل
على أنه ليس منصوبا بفعل امتناع الحال أن تقع معه ؛ فلا يجوز أن يقال «يا زيد
راكبا» ، والذي يدل على أنه بمنزلة المضاف وإن أفرد حملك نعته على النصب نحو «يا
زيد الظّريف» كما يحمل نعته على الرفع نحو : «يا زيد الظريف».
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه مبنيّ وإن كان يجب في الأصل أن يكون معربا لأنه
أشبه كاف الخطاب ، وكاف الخطاب مبنية ؛ فكذلك ما أشبهها. ووجه الشبه بينهما من
ثلاثة أوجه : الخطاب ، والتعريف ، والإفراد ، فلما أشبه كاف الخطاب من هذه الأوجه
وجب أن يكون مبنيا كما أن كاف الخطاب مبنية.
ومنهم من تمسك
بأن قال : إنما وجب أن يكون مبنيا لأنه وقع موقع اسم الخطاب ؛ لأن الأصل في «يا
زيد» أن تقول : يا إيّاك ، أو يا أنت ؛ لأن المنادى لما كان مخاطبا كان ينبغي أن
يستغنى عن ذكر اسمه ويؤتى باسم الخطاب فيقال : «يا إياك» أو «يا أنت» كما قال
الشاعر :
[٢٠٤] يامرّ
يا ابن واقع يا أنتا
|
|
أنت الذي
طلّقت عام جعتا
|
______________________________________________________
[٢٠٤] هذه خمسة
أبيات من الرجز المشطور ، وهي لسالم بن دارة يقولها في مر بن واقع (انظر شرح
التبريزي على الحماسة بتحقيقنا) وقد استشهد بالبيتين الأول والثاني رضي الدين في
باب النداء من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (١ / ٢٨٩) وابن يعيش في
شرح
حتّى إذا
اصطبحت واغتبقتا
|
|
أقبلت معتادا
لما تركتا
|
* قد أحسن الله وقد أسأتا*
|
فلما وقع الاسم
المنادى موقع اسم الخطاب وجب أن يكون مبنيا كما أن اسم الخطاب مبني ، وإنما وجب أن
يكون مبنيا على الضم لوجهين :
أحدهما : أنه
لا يخلو : إما أن يبنى على الفتح ، أو الكسر ، أو الضم ، بطل أن يبنى على الفتح
لأنه كان يلتبس بما لا ينصرف ، وبطل أن يبنى على الكسر لأنه كان يلتبس بالمضاف إلى
النفس ، وإذا بطل أن يبنى على الفتح وأن يبنى على الكسر تعين أن يبنى على الضم.
والوجه الثاني
: أنه بني على الضم فرقا بينه وبين المضاف ؛ لأنه إن كان مضافا إلى النفس كان
مكسورا ، وإن كان مضافا إلى غيرك كان منصوبا ، فبني على الضم ؛ لئلا يلتبس بالمضاف
؛ لأنه لا يدخل المضاف.
وإنما قلنا «إنه
في موضع نصب» لأنه مفعول ؛ لأن التقدير في قولك «يا زيد» أدعو زيدا ، أو أنادي
زيدا ، فلما قامت «يا» مقام أدعو عملت عمله ، والذي يدل [١٤٥] على أنها قامت مقامه
من وجهين ؛ أحدهما : أنها تدخلها الإمالة نحو «يا
______________________________________________________
المفصل (ص ٥٧ و
١٦٠ ليبزج) والأشموني (رقم ٨٦٦) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٤٣١) والاستشهاد
به ههنا في قوله «يامر يابن واقع» وفي قوله «يا أنتا» فإن النداء الثاني ـ وهو
قوله «يا أنتا» ـ يدل على النداء الأول ـ وهو قوله «يامر يابن واقع» ـ في معناه ،
فيكون الاسم العلم المنادى واقعا موقع الضمير ، وقد علم أن الضمير مبني ، فيكون
الواقع موقعه مبنيا أيضا ، قال ابن يعيش (ص ١٦٠) «فإن قيل : فلم بني ، وحق الأسماء
أن تكون معربة؟ فالجواب أنه إنما بني لوقوعه موقع غير المتمكن ، ألا ترى أنه وقع
موقع المضمر ، والمتمكنة من الأسماء إنما جعلت للغيبة ؛ فلا تقول قام زيد وأنت
تحدثه عن نفسه ، إنما إذا أردت أن تحدثه عن نفسه فتأتي بضميره فتقول : قمت ،
والنداء حال خطاب ، والمنادى مخاطب ، فالقياس في قولك يا زيد أن تقول : يا أنت ،
والدليل على ذلك أن من العرب من ينادي صاحبه إذا كان مقبلا عليه ومما لا يلتبس
نداؤه بالمكنى ، فيناديه بالمكنى على الأصل فيقول : يا أنت ، قال الشاعر :
* يامر يا ابن واقع يا أنتا*
غير أن المنادى
قد يكون بعيدا منك أو غافلا ، فإذا ناديته بأنت أو إياك لم يعلم أنك تخاطبه أو
تخاطب غيره ؛ فجئت بالاسم الذي يخصه دون غيره وهو زيد ، فوقع ذلك الاسم موقع
المكنى ، فتبنيه لما صار إليه من مشاركة المكنى الذي يجب بناؤه» اه.
واعلم أن العرب
إذا استعملت الضمير في النداء استعملته على وجهين : أحدهما أن يأتوا به ضميرا من
ضمائر النصب فيقولوا «يا إياك» والثاني أن يأتوا به ضميرا من ضمائر الرفع فيقولوا «يا
أنت» كما في البيت المستشهد به.
زيد ، ويا عمرو» والإمامة إنما تكون في الاسم والفعل ، دون الحرف ، فلما
جازت فيها الإمالة دلّ على أنها قد قامت مقام الفعل ، والوجه الثاني : أن لام الجر
تتعلق بها نحو «يا لزيد ، ويا لعمرو» فإن هذه اللام لام الاستغاثة ، وهي حرف جر ؛
فلو لم تكن «يا» قد قامت مقام الفعل وإلا لما جاز أن يتعلق بها حرف الجر ؛ لأن
الحرف لا يتعلق بالحرف ، فدلّ على أنها قد قامت مقام الفعل ، ولهذا زعم بعض
النحويين أن فيها ضميرا كالفعل.
وذهب بعض
البصريين إلى أن «يا» لم تقم مقام أدعو ، وأن العامل في الاسم المنادى أدعو المقدر
، دون يا ، والذي عليه الأكثرون هو الأول.
فإذا ثبت بهذا
أنه منصوب ، إلا أنهم بنوه على الضم لما ذكرنا.
والذي يدل على
أنه في موضع نصب أنك تقول في وصفه «يا زيد الظريف» بالنصب حملا على الموضع ، كما
تقول «يا زيد الظريف» بالرفع حملا على اللفظ ، كما تقول «مررت بزيد الظريف والظريف»
فالجر على اللفظ ، والنصب على الموضع ، فكذلك هاهنا : نصب لأن المنادى المفرد في
موضع نصب لأنه مفعول ، وهذا هو الأصل في كل منادى ، ولهذا لمّا لم يعرض للمضاف والمشبه
بالمضاف ما يوجب بناءهما كالمفرد بقيا على أصلهما في النصب.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين ، أما قولهم «إن المنادى لا معرب له يصحبه» قلنا : لا نسلم ، وقد
بيّنا ذلك في دليلنا.
وقولهم «إنّا
رفعناه» قلنا : وكيف رفعتموه ولا رافع له؟ وهل لذلك قطّ نظير في العربية؟ وأين
يوجد فيها مرفوع بلا رافع أو منصوب بلا ناصب أو مخفوض بلا خافض؟ وهل ذلك إلا تحكم
محض لا يستند إلى دليل؟! ثم نقول : ولم رفعتموه بلا تنوين؟ قولهم «ليكون بينه وبين
ما هو مرفوع برافع فرق» قلنا : هذا باطل ؛ فإن فيما يرفع بغير تنوين ما هو صحيح
الإعراب ، وذلك الاسم الذي لا ينصرف.
وقولهم «إنّا
حملنا المضاف على لفظ المنصوب لكثرته في الكلام» قلنا : هذا يبطل بالمفرد ؛ فإنه
كان ينبغي أن يحمل على النصب لكثرته في الكلام ، فلما لم يحمل المفرد على النصب دل
على أنه ليس لهذا التعليل أصل.
وأما قول
الفراء «إن الأصل في النداء أن يقال يا زيداه [١٤٦] كالندبة» فمجرد دعوى يفتقر إلى
دليل.
وقوله «إن
الألف المزيدة في آخره بمنزلة المضاف إليه ، فلما حذفوها بنوه على الضم ، كما إذا
حذف المضاف إليه من قبل ومن بعد» قلنا : هذا يبطل
بالمنادى المضاف ، نحو «يا عبد عمرو» ؛ فإنه يفتقر في باب الصوت إلى ما
يفتقر إليه المفرد ؛ فكان يجب أن يقال «يا عبد عمرو» بالضم ؛ لأن أصله يا عبد
عمراه.
قوله «إنما لم
يقدر ذلك في المنادى المضاف لطوله» قلنا : هذا باطل ؛ لأن الطول لا يمنع تقرير
الكلمة على حقها من تقدير الصوت في أوله وآخره ؛ لأنه لا فرق في باب النداء بين
طويل الأسماء وقصيرها ، ألا ترى أنك لو ناديت رجلا اسمه قرعبلانة أو هزنبران أو
أشناندانة وما أشبه ذلك لوجب فيه الضم ، وإن كان أكثر حروفا من «يا عبد عمرو» فدل
على بطلان ما ذهب إليه.
وأما جعله نصب
المضاف مبنيا على فتح ما قبل الألف المزيدة في آخر المنادى فباطل أيضا بما إذا قال
«يا خيرا من زيد» إذا كان مفردا مقصودا له ، فإنه لا يخلو : إما أن يحمل نصب خير
على الألف التي تدخل للصوت الرفيع ، أو على غيره ، فإن قال «على الألف» فكان ينبغي
أن نقول «يا خيرا من زيد» وهذا لا يقوله أحد ، وإذا لم تدخله الألف وقد نصب
دلّ على أنه لم يحمل على الألف ، وأنه محمول على غيره.
والذي يدل على
بطلان ما ذهب إليه من جعله الألف في آخر المنادى بمنزلة المضاف إليه أنه لو كان
كذلك لوجب أن تسقط نون الجمع معها في نحو : «واقنسروناه»
قولهم «نحن لا نجوّز ندبة الجمع الذي على هجاءين فلا يجوز عندنا ندبة قنسرون بحذف
النون ولا إثباتها» قلنا : هذا يلزمكم إذا جعلتم مكان الواو ياء ؛ فإنه يجوز عندكم
أن تقولوا : واقنسريناه ، وإن امتنع عندكم واقنسروناه ، وكلاهما لفظ الجمع.
وأما قوله «إن
المفرد بمنزلة المضاف ؛ بدليل امتناع دخول الألف واللام عليه» قلنا : لا نسلم أن
امتناع دخول الألف واللام عليه لما ذكرت ، وإنما امتنع دخول الألف واللام عليه لأن
الإشارة إليه والإقبال عليه أغنت عن دخول الألف واللام عليه.
وأما قوله «الذي
يدل على أنه ليس منصوبا بفعل امتناع الحال أن تقع معه» قلنا : [١٤٧] لا نسلم أن
امتناع الحال أن تقع معه إنما كان لأجل العامل ، ولكن لتناقض معنى الكلام فيه ،
وذلك لأنا لو قلنا «يا زيد راكبا» على معنى الحال لكان التقدير أن النداء في حال
الركوب ، وإن لم يكن راكبا فلا نداء ، وهذا مستحيل ؛ لأن النداء قد وقع بقوله «يا
زيد» فإن لم يكن راكبا لم يخرجه ذلك عن أن يكون قد
__________________
نادى زيدا بقوله «يا زيد» وليس ذلك في سائر الكلام ، ألا ترى أنك لو قلت «اضرب
زيدا راكبا» فلم تجده راكبا لم يجز أن تضربه ، على أنه قد حكى أبو بكر بن السراج
عن أبي العباس المبرد أنه قال : قلت لأبي عثمان المازني : ما أنكرت من الحال
للمدعوّ؟ قال : لم أنكر منه شيئا ، إلا أن العرب لم تدع على شريطة ؛ فإنهم لا
يقولون «يا زيد راكبا» أي : ندعوك في هذه الحالة ونمسك عن دعائك ماشيا ؛ لأنه إذا
قال «يا زيد» فقد وقع الدعاء على كل حال ، قلت : فإن احتاج إليه راكبا ولم يحتج
إليه في غير هذه الحالة ، فقال : ألست تقول يا زيد دعاء حقا؟ فقلت : بلى ، فقال :
على ما تحمل المصدر؟ قلت : لأن قولي يا زيد كقولي أدعو زيدا ؛ فكأني قلت : أدعو
دعاء حقا ، فقال : لا أرى بأسا بأن تقول على هذا : يا زيد راكبا ، فالزم القياس ، قال أبو العباس : وجدت
أنا تصديقا لهذا قول النابغة :
[٢٠٥] قالت بنو عامر : خالوا بني أسد ،
|
|
يا بؤس للجهل
ضرّارا لأقوام
|
______________________________________________________
[٢٠٥] هذا
البيت للنابغة الذبياني كما قال المؤلف ، وكان بنو عامر قد طلبوا إلى قوم النابغة
أن يقاطعوا بني أسد ، فجهلهم النابغة في ذلك ، والبيت من شواهد سيبويه (١ / ٣٤٦)
ورضي الدين في أول باب المنادى من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (١ /
٢٨٥) ومعنى «خالوا بني أسد» أي تاركوهم وقاطعوهم ، وحرفيته خلوا بينهم وبين أنفسهم
ولا تكونوا معهم ، ومنه قالوا للمرأة المطلقة «خلية» وقالوا «خليت النبت» أي قطعته
، وقوله «يا بؤس للجهل» معناه ما أبأس الجهل على صاحبه وأضره له ، والاستشهاد
بالبيت ههنا في قوله «يا بؤس للجهل ضرارا» فإن هذه الكلمة حال ، وقد جعله المبرد
حالا من المضاف الذي هو المنادى ، ومن المعلوم أن العامل في الحال هو العامل في
صاحبها ؛ فيكون العامل في هذه الحال هو العامل في المنادى ـ وهو حرف النداء النائب
مناب أدعو ـ وكأنه قال : أدعو بؤس الجهل أدعوه حال كونه ضرارا لأقوام ، ومن
العلماء من جعل هذه الحال من المضاف إليه الذي هو الجهل ؛ فيكون العامل فيه هو
المضاف لأنه هو العامل في صاحبه ، ومن هؤلاء رضي الدين في شرح الكافية والأعلم
الشنتمري ، قال رضي الدين (١ / ١٢٠) : «واعلم أنه قد ينصب عامل المنادى المصدر
اتفاقا نحو : يا زيد دعاء حقا ، وأجاز المبرد نصبه للحال نحو : يا زيد قائما ، إذا
ناديته في حال قيامه ، قال : ومنه قوله :
* يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام*
والظاهر أن
عامله بؤس الذي بمعنى الشدة ، وهو مضاف إلى صاحب الحال ـ أعني الجهل ـ تقديرا ؛
لزيادة اللام ؛ فهو مثل : أعجبني مجيء زيد راكبا» اه فأنت ترى أنه بعد أن نقل مذهب
المبرد استظهر غيره وهو الذي حكيناه عنه ، وقال الأعلم «ونصب ضرارا على الحال من الجهل»
اه ، والاستشهاد الثاني بهذه الجملة في زيادة اللام وإقحامها بين المضاف الذي هو
بؤس والمضاف إليه الذي هو الجهل ، قال سيبويه «ومثل هذا قول الشاعر إذا اضطر :
* يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام*
حملوه على أن
اللام لو لم تجىء لقلت : يا بؤس الجهل» يريد أن الشاعر مع مجيء اللام
وقوله «والذي
يدل على أنه بمنزلة المضاف وإن أفرد حملك نعته على النصب نحو يا زيد الظريف كما
يحمل نعته على الرفع نحو يا زيد الظريف» قلنا : لا نسلّم أن نصب الوصف لأن المفرد
بمنزلة المضاف ، وإنما نصبه لأن الموصوف وإن كان مبنيا على الضم فهو في موضع نصب
لأنه مفعول ؛ فنصب وصفه حملا على الموضع كما رفع حملا على اللفظ ، وحمل الوصف
والعطف على الموضع جائز في كلامهم كما يحمل على اللفظ ؛ ولهذا يجوز بالإجماع «ما
جاءني من أحد غيرك» بالرفع ، كما يجوز بالجرّ ، قال الله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف : ٥٩] بالرفع والجرّ ؛ فالرفع على الموضع ، والجرّ على اللفظ.
قال الشاعر :
حتّى تهجّر
في الرّواح وهاجها
|
|
طلب المعقّب
حقّه المظلوم [١٤٥]
|
[١٤٨] فرفع «المظلوم» وهو صفة
للمجرور الذي هو «المعقّب» حملا على الموضع ؛ لأنه في موضع رفع بأنه فاعل ، إلا
أنه لما أضيف المصدر إليه دخله الجرّ للإضافة ، وكذلك يجوز أيضا الحمل على الموضع
في العطف نحو «مررت بزيد وعمرا» كما يجوز «وعمرو» قال الشاعر :
[٢٠٦] فلست
بذي نيرب في الصّديق
|
|
ومنّاع خير
وسبّابها
|
ولا من إذا
كان في جانب
|
|
أضاع العشيرة
فاغتابها
|
______________________________________________________
ترك التنوين ؛
لأنه قدر اللام غير موجودة وأن الاسم مضاف إلى ما بعده ، وقال الأعلم «الشاهد فيه
إقحام اللام بين المضاف والمضاف إليه في قوله يا بؤس للجهل ، توكيدا للإضافة» اه.
[٢٠٦] هذان
البيتان من كلام عدي بن خزاعي ، وقد رواهما صاحب الصحاح (ن ر ب) كما رواهما المؤلف
، ولكن ابن منظور نقل عن ابن بري أن صواب الإنشاد هكذا :
ولست بذي
نيرب في الكلام
|
|
ومناع قومي
وسبابها
|
ولا من إذا
كان في معشر
|
|
أضاع العشيرة
واغتابها
|
ولكن أطاوع
ساداتها
|
|
ولا أعلم
الناس ألقابها
|
والنيرب ـ بوزن
جعفر وكوثر ـ الشر والنميمة ، وتقول «نيرب الرجل» ـ مثل بيطر مما ألحق بدحرج
بزيادة الياء ـ تريد سعى ونم ، وتقول «نيرب الكلام» تريد خلطه ، ورجل نيرب ، ورجل
ذو نيرب ؛ أي ذو شر ونميمة ، ومحل الاستشهاد قوله «ومناع خير» على ما رواه المؤلف
؛ فإن الرواية في هذه الكلمة وردت بنصب «مناع» المعطوف على قوله «بذي نيرب» الذي
هو خبر ليس مزيدا فيه الباء ، وإنما أتى الشاعر بالمعطوف منصوبا لأن موضع المعطوف
عليه النصب لكونه خبر ليس ، وهذه الباء الداخلة عليه زائدة لا عمل لها إلا في
اللفظ.
وقال الآخر وهو
عقيبة الأسدي :
[٢٠٧] معاوي
إنّنا بشر فأسجح
|
|
فلسنا بالجبال
ولا الحديدا
|
فنصب «الحديد»
حملا على موضع «بالجبال» لأن موضعها النصب بأنها خبر ليس ، ومن زعم أن الرواية «ولا
الحديد» بالخفض فقد أخطأ ؛ لأن البيت الذي بعده :
أدبروها بني
حرب عليكم
|
|
ولا ترموا
بها الغرض البعيدا
|
والرويّ
المخفوض لا يكون مع الرويّ المنصوب في قصيدة واحدة ؛ وقال العجاج :
[٢٠٨] كشحا
طوى من بلد مختارا
|
|
من يأسة
اليائس أو حذارا
|
______________________________________________________
[٢٠٧] هذا
البيت والبيت الذي رواه المؤلف بعد قليل على أنه تال لهذا البيت لتبيين قافية
الكلمة وأنها منصوبة ، هما من كلام لعقيبة بن هبيرة الأسدي يقوله لمعاوية بن أبي
سفيان يشكو إليه جور عماله ، وهما من شواهد سيبويه (١ / ٣٤ و ٣٥٢ و ٣٧٥ و ٤٤٨)
وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٧٤٠) ورضي الدين في أثناء باب توابع المنادى من شرح
الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (١ / ٣٤٣) واعلم أولا أن قصيدة عقيبة بن
هبيرة الأسدي رويها مجرور ، وهي تروى هكذا :
معاوي إننا
بشر فأسجح
|
|
فلسنا
بالجبال ولا الحديدا
|
أكلتم أرضنا
فجرزتموها
|
|
فهل من قائم
أو من حصيد
|
أتطمع في
الخلود إذا هلكنا
|
|
وليس لنا ولا
لك من خلود؟
|
وقد روى سيبويه
البيتين اللذين رواهما المؤلف بالنصب ، وقال الأعلم «وقد رد على سيبويه رواية
البيت بالنصب ؛ لأن البيت من قصيدة مجرورة معروفة ، وبعده ما يدل على ذلك ، وهو
قوله :
* أكلتم أرضنا فجرزتموها ـ البيت*
وسيبويه غير
متهم فيما نقله رواية عن العرب ، ويجوز أن يكون البيت من قصيدة منصوبة غير هذه
المعروفة ، أو يكون الذي أنشده رده إلى لغته فقبله منه سيبويه ، فيكون الاحتجاج
بلغة المنشد ، لا بقول الشاعر» اه كلامه ، ومنه يتبين أن الذي كان في نسخة كتاب
سيبويه التي كانت بيد الأعلم بيت واحد ؛ فالظاهر أن نقلة كتاب سيبويه أضافوا البيت
الثاني ليظهر أن ثمة قصيدة بالنصب وأن البيت من هذه القصيدة ، ومحل الاستشهاد قوله
«ولا الحديدا» حيث نصب المعطوف نظرا إلى موضع المعطوف عليه ، قال سيبويه «ومما جاء
من الشعر في الإجراء على الموضع قول عقيبة الأسدي ، وأنشد البيتين» اه وقال الأعلم
: «استشهد به على جواز المعطوف على موضع الباء وما عملت فيه ؛ لأن معنى لسنا
بالجبال ولسنا الجبال واحد» اه.
[٢٠٨] الكشح ـ بفتح
الكاف وسكون الشين ـ ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف ، وهو موضع السيف من المتقلد
، ويقال «طوى فلان كشحه على الأمر» إذا استمر ودام عليه ، ويقال ـ
وقال الآخر :
[٢٠٩] فإن لم
تجد من دون عدنان والدا
|
|
ودون معدّ
فلتزعك العواذل
|
وقال الآخر
أيضا :
[٢١٠] ألا
حيّ ندماني عمير بن عامر
|
|
إذا ما
تلاقينا من اليوم أو غدا
|
______________________________________________________
«طوى كشحه عنا»
إذا ذهب وقطع أواصر الرحم قال الشاعر :
طوى كشحا
خليلك والجناحا
|
|
لبين منك ،
ثم غدا صراحا
|
ويقال «طوى
فلان كشحا على ضغن» إذا عاداك وفاسدك ، قال زهير :
وكان طوى
كشحا على مستكنة
|
|
فلا هو
أبداها ولم يتجمجم
|
ومحل الاستشهاد
هنا قوله «أو حذرا» حيث عطف هذا المنصوب على قوله «يأسة اليائس» المجرور لكون محل
هذا المجرور النصب لكونه مفعولا لأجله ، وقد علمت أن المفعول لأجله يجوز جره بحرف
جر دال على التعليل ولو استوفى شروط النصب ، ألا ترى أنه لو لم يأت بمن لكان يقول
: يأسة اليائس أو حذارا ، فينصب المعطوف والمعطوف عليه جميعا؟ وقد ذكرنا لك جملة
من الشواهد للعطف على المحل تجري في أبواب مختلفة في شرح الشاهد رقم ١١٦ فارجع
إليها إن شئت.
[٢٠٩] هذا
البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري ، وقد استشهد به سيبويه (١ / ٣٤) ورضي الدين
في أثناء باب توابع المنادى ، وشرحه البغدادي في الخزانة (١ / ٣٣٩) وابن هشام في
مغني اللبيب (رقم ٧٣٣) وانظر شرح شواهد المغني للسيوطي (ص ٥٥) ومحل الاستشهاد قوله
«ودون معد» حيث عطف «دون» هذه المنصوبة على «دون» السابقة المجرورة ؛ لكون محل
الأولى المجرورة هو النصب ؛ فإن المجرور بحرف الجر مفعول به في المعنى ، ألا ترى
أن العامل هنا ـ وهو قوله «تجد» يتعدى إلى ثاني مفعوليه بنفسه تارة وبحرف الجر
تارة آخرى ، قال الأعلم : «حمل دون الآخرة على موضع الأولى لأن معنى لم تجد من دون
عدنان ولم تجد دون عدنان واحد» اه. وقال ابن هشام في المغني (ص ٤٧٣ بتحقيقنا) : «وللعطف
على المحل ثلاثة شروط : الأول إمكان ظهوره في الفصيح ، ألا ترى أنه يجوز في ليس
زيد بقائم وما جاءني من امرأة أن تسقط الباء فتنصب ومن فترفع ؛ فعلى هذا لا يجوز :
مررت بزيد وعمرا ، خلافا لابن جني ؛ لأنه لا يجوز في الفصيح : مررت زيدا ، ولا
تختص مراعاة الموضع بأن يكون العامل في اللفظ زائدا كما مثلنا ، بدليل قوله :
* فإن لم تجد من دون عدنان والدا* البيت
وأجاز الفارسي
في قوله تعالى : (وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أن يكون (يَوْمَ الْقِيامَةِ) عطفا على محل (هذِهِ) لأنه محله النصب» اه المقصود منه بتصرف يسير جدا.
[٢١٠] الندمان
ـ ومثله النديم ـ الذي يجالسك ويشاربك ، وقال الشاعر :
وندمان يزيد
الكأس طيبا
|
|
سقيت وقد
تغورت النجوم
|
والاستشهاد
بالبيت في قوله «أو غدا» حيث جاء به منصوبا تبعا لمحل «اليوم» الذي هو المعطوف
عليه ؛ على مثال ما قلنا في شرح الشواهد السابقة ، ومن العلماء من خرج هذا ـ
فنصب «غدا»
حملا على موضع «من اليوم» وموضعها نصب.
والشواهد على
الحمل على الموضع في الوصف والعطف أكثر من أن تحصى وأوفر من أن تستقصى ، والله
أعلم.
______________________________________________________
البيت على أن «من»
في قوله «من اليوم» زائدة ؛ فيكون «اليوم» منصوبا على الظرفية ، وعلامة نصبه فتحة
مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد ، وسيذكر المؤلف
هذا التخريج في آخر المسألة ٥٤.
٤٦
مسألة
[القول في نداء الاسم المحلّى بأل]
ذهب الكوفيون
إلى أنه يجوز نداء ما فيه الألف واللام نحو «يا الرجل ويا الغلام» ، وذهب البصريون
إلى أنه لا يجوز.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن [١٤٩] قالوا : الدليل على أنه جائز أنه قد جاء ذلك في كلامهم ، قال
الشاعر :
[٢١١] فيا
الغلامان اللّذان فرّا
|
|
إيّاكما أن
تكسباني شرّا
|
______________________________________________________
[٢١١] هذان
بيتان من الرجز المشطور ، وقد استشهد بهما ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١٧٢) ورضي
الدين في أثناء باب توابع المنادى من شرح الكافية (١ / ١٣٢) وشرحهما البغدادي في الخزانة
(١ / ٣٥٨ بولاق) والأشموني (رقم ٨٧٩) وابن عقيل (رقم ٣٠٩) وقوله «إياكما أن
تكسباني شرا» روى في مكانه «إياكما أن تعقبانا شرا» وهو تحذير ، وتقديره : احذرا
من أن تكسباني شرا ، ويجوز في حرف المضارعة في «تكسباني» الفتح على أنه مضارع كسب
الثلاثي والضم على أنه مضارع أكسب ، وكل أهل اللغة يجيزون أن تقول «كسب زيدا مالا
، أو علما» إلا ابن الأعرابي فإنه كان يوجب أن تقول «أكسبت زيدا مالا» بالهمزة.
ومحل الاستشهاد قوله «فيا الغلامان» حيث جمع بين حرف النداء وأل ، والبصريون
يقررون أن الجمع بين حرف النداء وأل جائز في موضعين : أحدهما في نداء اسم الله
تعالى في نحو قولك «يا الله» وثانيهما فيما تحكيه من الجمل نحو أن تسمي رجلا «الرجل
منطلق» ، وفيما عدا هذين لا يجوز الجمع بين حرف النداء وأل في الاختيار ، وأما
الكوفيون فقد أجازوا ذلك اعتمادا على ما ورد منه في نحو البيت المستشهد به ، ونحو
قول الآخر وهو من شواهد الأشموني (رقم ٨٧٨) :
عباس يا
الملك المتوج والذي
|
|
عرفت له بيت
العلا عدنان
|
__________________
فقال «يا
الغلامان» فأدخل حرف النداء على ما فيه الألف واللام.
وقال الآخر :
[٢١٢] فديتك
يا الّتي تيّمت قلبي
|
|
وأنت بخيلة
بالودّ عنّي
|
فقال «يا التي»
فأدخل حرف النداء على ما فيه الألف واللام ؛ فدلّ على جوازه.
والذي يدل على
صحة ذلك أنّا أجمعنا على أنه يجوز أن نقول في الدعاء «يا الله اغفر لنا» والألف
واللام فيه زائدان ؛ فدل على صحة ما قلناه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الألف واللام تفيد التعريف ، و
«يا» تفيد التعريف ، وتعريفان في كلمة لا يجتمعان ؛ ولهذا
______________________________________________________
[٢١٢] هذا
البيت من شواهد سيبويه (١ / ٣١٠) والزمخشري في المفصل (رقم ٣٥ بتحقيقنا) وابن يعيش
في شرحه (ص ١٧٢) وأسرار العربية للمؤلف (ص ٩٣) ورضي الدين في شرح الكافية (١ / ١٣٢)
وشرحه البغدادي في الخزانة (١ / ٣٥٨) وقوله «فديتك» قد روي «من أجلك يا التي»
بإلقاء حركة الهمزة من «أجلك» وهي الفتحة على النون قبلها وحذف الهمزة ، و «تيمت
قلبي» أي استعبدته وأذللته ، وقوله «بالود» هو كذلك في كتاب سيبويه وشرح الأعلم ،
وورد في المفصل «بالوصل» ومحل الاستشهاد قوله «يا التي» حيث جمع بين حرف النداء
وأل ، مع أن أل في هذه الكلمة لازمة لا يجوز إسقاطها ؛ لأنها لازمتها من حال الوضع
، ولهذا يزعم البصريون أن هذا البيت أخف شذوذا من البيت السابق (رقم ٢١١) لأن
الألف واللام في قول الشاعر «فيا الغلامان» ليسا بلازمين ، قال الأعلم : «الشاهد
فيه دخول حرف النداء على الألف واللام في قوله «يا التي» تشبيها بقولهم «يا الله»
للزوم الألف واللام لها ، ضرورة ، ولا يجوز ذلك في الكلام» اه.
وقال ابن يعيش «وأما
بيت الكتاب :
* من أجلك يا التي تيمت قلبي ـ إلخ»
فشاذ قياسا
واستعمالا ، فأما القياس فلما في نداء ما فيه الألف واللام على ما ذكر ، وأما
الاستعمال فظاهر ، فإنه لم يأت منه إلا ما ذكر ، وهو حرف أو حرفان ، ووجه تشبيهه
بيا الله من جهة لزوم الألف واللام وإن لم يكن مثله ، والفرق بينهما أن الذي والتي
صفتان يمكن أن ينادى موصوفهما وينوي بهما صفتين كقولك : يا زيد الذي في الدار ويا
هند التي أكرمتني ، ويقع صفة لأيها ، نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) و (يا أَيُّهَا الَّذِي
نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) وليستا اسمين ، ولا يكون ذلك في اسم الله تعالى ؛ لأنه
اسم غالب جرى مجرى الأعلام كزيد وعمرو» اه.
وقال أبو سعيد
السيرافي : «كان أبو العباس لا يجيز يا التي ، ويطعن على البيت ، وسيبويه غير متهم
فيما رواه ، ومن أصحابنا من يقول : إن قوله يا التي تيمت قلبي على الحذف ، كأنه
قال : يأيها التي تيمت قلبي ، فحذف ، وأقام النعت مقام المنعوت» اه.
لا يجوز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية في الاسم المنادى العلم نحو
«يا زيد» بل يعرّى عن تعريف العلمية ويعرّف بالنداء ؛ لئلا يجمع بين تعريف النداء
وتعريف العلمية ، وإذا لم يجز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية فلأن لا يجوز
الجمع بين تعريف النداء وتعريف الألف واللام أولى ، وذلك لأن تعريف النداء بعلامة
لفظية ، وتعريف العلمية ليس بعلامة لفظية ، وتعريف الألف واللام بعلامة لفظية ،
كما أن تعريف النداء بعلامة لفظية ، وإذا لم يجز الجمع بين تعريف النداء وتعريف
العلمية وأحدهما بعلامة لفظية والآخر ليس بعلامة لفظية فلأن لا يجوز الجمع بين
تعريف النداء وتعريف الألف واللام وكلاهما بعلامة لفظية كان ذلك من طريق الأولى .
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قوله :
* فيا الغلامان اللّذان فرّا*
[٢١١] فلا حجّة
لهم فيه ؛ لأن التقدير فيه «فيا أيها الغلامان» فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ،
وكذلك قول الآخر :
* فديتك يا الّتي تيّمت قلبي*[٢١٢]
حذف الموصوف
وأقام الصفة مقامه ، على أن هذا قليل ، إنما يجيء في الشعر ؛ [١٥٠] فلا يكون فيه
حجّة ، على أنه سهّل ذلك أن الألف واللام من «التي» لا تنفصل منها ، فنزلت بعض
حروفها الأصلية ، فيتسهل دخول حرف النداء عليها.
وأما قولهم «إنّا
نقول في الدعاء يا ألله» فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن
الألف واللام عوض عن همزة «إله» فتنزلت منزلة حرف من نفس الكلمة ، وإذا تنزّلت
منزلة حرف من نفس الكلمة جاز أن يدخل حرف النداء عليه ، والذي يدل على أنها بمنزلة
حرف من نفس الكلمة أنه يجوز أن يقال في النداء «يا
__________________
ألله» بقطع
الهمزة ، قال الشاعر :
[٢١٣] مبارك
هو ومن سمّاه
|
|
على اسمك
اللهمّ يا ألله
|
ولو كانت
كالهمزة التي تدخل مع لام التعريف لوجب أن تكون موصولة ، فلما جاز فيها هاهنا
القطع دلّ على أنها نزلت منزلة حرف من نفس الكلمة ، كما أن الفعل إذا سمي به فإنه
تقطع همزة الوصل منه نحو اضرب واقتل ، تقول «جاءني إضرب ، ورأيت إضرب ، ومررت
بإضرب» و «جاءني أقتل ، ورأيت أقتل ، ومررت بأقتل » بقطع الهمزة ـ ليدل على أنها ليست كالهمزة التي كانت
في الفعل قبل التسمية ، وأنها بمنزلة حرف من نفس الكلمة ، فكذلك هاهنا.
والذي يدل على
ذلك أنهم لو أجروا هذا الاسم مجرى غيره مما فيه ألف ولام لكانوا يقولون «يا أيها
الله» كما يقولون «يا أيها الرجل» : إما على طريق الوجوب عندنا ، أو على طريق
الجواز عندكم ، فلما لم يجز أن يقال ذلك على كل حال دلّ على صحّة ما ذهبنا إليه.
______________________________________________________
[٢١٣] هذان
بيتان من مشطور الرجز ، وقد أنشدهما ابن منظور (أل ه) ولم يعزهما ، والاستشهاد
بهما في قوله «يا ألله» حيث ورد لفظ الجلالة منادى مقطوع الهمزة وقد زعم المؤلف ـ تبعا
لأنصار البصريين ـ أن قطع الهمزة يدل على أنها نزلت من اللفظ الكريم منزلة جزء منه
، وإلا لجاءت همزة وصل غير مقطوعة ؛ لكونها في الأصل همزة أل المعرفة ، وهمزة أل
المعرفة همزة وصل كما هو معروف ، وفي كل دعوى من هذه الدعاوى الكثيرة مقال ، قال
ابن منظور «الفراء : ومن العرب من يقول إذا طرح الميم : يا ألله اغفر لي ـ بهمزة ـ
ومنهم من يقول : يا الله ـ بغير همز ـ فمن حذف الهمزة فهو على السبيل ؛ لأنها ألف
ولام مثل لام الحارث من الأسماء وأشباهه ، ومن همزها توهم الهمزة من الحرف ؛ إذ
كانت لا تسقط منه الهمزة ، قال :
* مبارك هو ومن سماه ـ البيت*» اه كلامه.
__________________
والوجه الثاني
: أن هذه الكلمة كثر استعمالها في كلامهم ؛ فلا يقاس عليها غيرها.
والوجه الثالث
: أن هذا الاسم علم غير مشتقّ أتي به على هذا المثال من البناء من غير أصل يردّ
إليه ؛ فينزل منزلة سائر الأسماء الأعلام ، وكما يجوز دخول حرف النداء على سائر
الأسماء الأعلام فكذلك هاهنا.
والمعتمد من
هذه الأوجه هو الوجه الأول ، والله أعلم.
[١٥١] ٤٧
مسألة
[القول في الميم في «اللهمّ»
أعوض من حرف النداء أم لا؟]
ذهب الكوفيون
إلى أن الميم المشددة في «اللهمّ» ليست عوضا من «يا» التي للتنبيه في النداء. وذهب
البصريون إلى أنها عوض من «يا» التي للتنبيه في النداء ، والهاء مبنيّة على الضم
لأنه نداء.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأن الأصل فيه «يا ألله أمّنا بخير» إلا أنه
لما كثر في كلامهم وجرى على ألسنتهم حذفوا بعض الكلام طلبا للخفة ، والحذف في كلام
العرب لطلب الخفة كثير ، ألا ترى أنهم قالوا «هلمّ ، وويلمّه» والأصل فيه : هل أمّ
، وويل أمه ، وقالوا «أيش» والأصل : أيّ شيء. وقالوا «عم صباحا» والأصل : انعم
صباحا. وهذا كثير في كلامهم.
قالوا : والذي
يدل على أن الميم المشددة ليست عوضا من «يا» أنهم يجمعون بينهما ، قال الشاعر :
[٢١٤] إنّي
إذا ما حدث ألمّا
|
|
أقول : يا
اللهمّ ، يا اللهمّا
|
______________________________________________________
[٢١٤] هذان
بيتان من الرجز المشطور ، وقد أنشدهما ابن منظور في لسان العرب (أل ه) ورضي الدين
في شرح الكافية (١ / ١٣٢) وشرحهما البغدادي في الخزانة (١ / ٣٥٨) وأنشدهما
الأشموني (رقم ٨٨٠) وابن عقيل (رقم ٣١٠) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٤٣٩) وابن
يعيش (ص ١٨١) والحدث ـ بالتحريك ما يحدث من الأمور ، ومحل الاستشهاد هنا قوله «يا
اللهم» حيث جمع الشاعر بين حرف النداء والميم المشددة في نداء لفظ الجلالة ، واعلم
ـ أولا أن نداء لفظ الجلالة قد ورد على عدة أوجه ؛ الوجه الأول ـ وهو الأصل ،
والأكثر استعمالا ـ أن تقول : يا ألله ، تدخل حرف النداء على الاسم الجليل ، وتقطع
الهمزة ، والوجه الثاني : أن تقول : يا الله ، تدخل حرف النداء على الاسم العظيم ،
ـ
__________________
وقال الآخر :
[٢١٥] وما
عليك أن تقولي كلّما
|
|
صلّيت أو
سبّحت : يا اللهمّ ما
|
* أردد علينا شيخنا مسلّما*
|
وقال الآخر :
[٢١٦] * غفرت أو عذّبت يا اللهمّا*
______________________________________________________
وتجعل همزته
همزة وصل ، وقد سبق ذكر هذين الوجهين في شرح الشاهد السابق (رقم ٢١٣) والوجه
الثالث : أن تقول : اللهم ، تحذف حرف النداء وتأتي في آخر الاسم الكريم بميم مشددة
، وقد اختلف النحاة في هذه الميم المشددة ؛ فقال البصريون وأنصارهم : هي عوض عن
حرف النداء ، وقال قوم ـ منهم الفراء ـ هذه الميم المشددة بقية كلمة ، وأصل
العبارة : يا الله أمنا بخير ، وقد أنكر ذلك الزجاج ، وشنع على القائل به ، فمن
ذهب إلى أن الميم المشددة عوض عن حرف النداء قال : لا يجمع بين حرف النداء والميم
المشددة في الكلام ، فإن ورد ذلك في شعر فهو شاذ لا يقاس عليه ، لأنه لا يجمع بين
العوض والمعوض عنه ، ومن هؤلاء شيخ المحققين ابن مالك الذي يقول في الخلاصة (الألفية)
:
والأكثر
اللهم ، بالتعويض
|
|
وشذ يا اللهم
في قريض
|
ومن ذهب مذهب
الفراء لم ينكر الجمع بين الميم المشددة وحرف النداء ، والوجه الرابع : أن تقول :
لا هم ، فتحذف حرف النداء وأل من أول الاسم الكريم ، وتجيء بالميم المشددة في آخره
، ومنه قول الراجز :
لا هم إن كنت
قبلت حجتج
|
|
فلا يزال
شاحج يأتيك بج
|
يريد : إن كنت
قبلت حجتي ويأتيك بي ، فأبدل الياء جيما ، وأكثر هذه الوجوه هو الوجه الثالث ، وهو
الذي ورد استعماله في القرآن الكريم ، نحو قوله سبحانه : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ).
[٢١٥] هذه
ثلاثة أبيات من الرجز المشطور ، وقد أنشدها ابن منظور في اللسان (أل ه) ورضي الدين
في شرح الكافية (١ / ١٣٢) وشرحها البغدادي في الخزانة (١ / ٣٥٩) و «ما» في قوله (وما
عليك) استفهامية تقع مبتدأ خبره الجار والمجرور ، والمعنى : أي شيء عليك؟ وسبحت :
أي نزهت ربك وعظمته وقدسته. أو قلت : سبحان الله. وصليت : دعوت ، وشيخنا : أراد
أبانا ، ونظير ذلك قول الأعشى ميمون بن قيس :
تقول بنتي
وقد قربت مرتحلا
|
|
يا رب جنب
أبي الأوصاب والوجعا
|
عليك مثل
الذي صليت ؛ فاغتمضي
|
|
نوما ، فإن
لجنب المرء مضطجعا
|
ومحل الاستشهاد
قوله «يا اللهم ما» حيث جمع بين حرف النداء والميم المشددة ، ولم يكتف بذلك ، بل
زاد ميما مفردة بعد الميم المشددة ، وقد بيّنا أقوال العلماء في الجمع بين حرف
النداء والميم في شرح الشاهد السابق (٢١٤).
[٢١٦] هذا بيت
من مشطور الرجز ، ولم أقف له على سوابق أو لواحق ، والاستشهاد به في قوله «يا
اللهم» حيث جمع بين حرف النداء والميم المشددة في آخر لفظ الجلالة ، والكلام فيه
على نحو ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة.
فجمع بين الميم
و «يا» ولو كانت الميم عوضا من «يا» لما جاز أن يجمع بينهما ؛ لأن العوض والمعوّض
لا يجتمعان.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأنا أجمعنا أن الأصل «يا ألله» إلا أنا لما
وجدناهم إذا أدخلوا الميم حذفوا «يا» ووجدنا الميم حرفين و «يا» حرفين ، ويستفاد
من قولك «اللهمّ» ما يستفاد من قولك «يا ألله» دلنّا ذلك على أن الميم عوض من «يا»
؛ لأن العوض ما قام مقام المعوض ، وهاهنا الميم قد أفادت ما أفادت «يا» ؛ فدل على
أنها عوض منها ، ولهذا لا يجمعون بينهما إلا في ضرورة الشعر ، على ما سنبين في
[١٥٢] الجواب إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن الأصل يا ألله أمّنا بخير ، فحذفوا بعض
الكلام لكثرة الاستعمال» قلنا : الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول :
أنه لو كان الأمر كما زعمتم وأن الأصل فيه يا ألله أمّنا بخير لكان ينبغي أن يجوز
أن يقال اللهمنا بخير ، وفي وقوع الإجماع على امتناعه دليل على فساده.
والوجه الثاني
: أنه يجوز أن يقال «اللهمّ أمّنا بخير» ولو كان الأول يراد به «أمّ» لما حسن
تكرير الثاني ؛ لأنه لا فائدة فيه.
والوجه الثالث
: أنه لو كان الأمر كما زعمتم لما جاز أن يستعمل هذا اللفظ إلا فيما يؤدي عن هذا
المعنى ، ولا خلاف أنه يجوز أن يقال «اللهم العنه ، اللهمّ أخزه ، اللهم أهلكه»
وما أشبه ذلك ، وقد قال الله تعالى : (وَإِذْ قالُوا
اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً
مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ولو كان الأمر كما زعموا لكان التقدير : أمّنا بخير ، إن
كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، ولا
شك أن هذا التقدير ظاهر الفساد والتناقض ؛ لأنه لا يكون أمهم بالخير أن يمطر عليهم
حجارة من السماء أو يؤتوا بعذاب أليم.
وهذا الوجه
عندي ضعيف ، والصحيح من وجه الاحتجاج بهذه الآية أنه لو كانت الميم من الفعل لما
افتقرت إن الشرطية إلى جواب في قوله : (إِنْ كانَ هذا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) [الأنفال : ٣٢] وكانت تسد مسدّ الجواب ، فلما افتقرت إلى الجواب في قوله : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا) [الأنفال : ٣٢] دل أنها ليست من الفعل.
__________________
ويحتمل عندي
وجها رابعا : أنه لو كان الأصل «يا ألله أمّنا بخير» لكان ينبغي أن يقال : اللهم
وارحمنا ، فلما لم يجز أن يقال إلا «اللهم ارحمنا» ولم يجز «وارحمنا» دلّ على فساد
ما ادعوه.
وأما قولهم «إن
هلم أصلها هل أم» قلنا : لا نسلم ، وإنما أصلها «ها المم» فاجتمع ساكنان : الألف
من «ها» واللام من «المم» فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ، ونقلت ضمة الميم الأولى
إلى اللام ، وأدغمت إحدى الميمين في الأخرى ، فصار هلمّ.
وقولهم «الدليل
على أن الميم ليست عوضا من يا أنهم يجمعون بينهما كقوله :
إني إذا ما
حدث ألما
|
|
أقول يا
اللهم يا اللهما [٢١٤]
|
[١٥٣] وقول الآخر :
وما عليك أن
تقولي كلما
|
|
سبّحت أو
صليت يا اللهم ما» [٢١٥]
|
فنقول : هذا
الشعر لا يعرف قائله ؛ فلا يكون فيه حجة ، وعلى أنه إن صح عن العرب فنقول : إنما
جمع بينهما لضرورة الشعر ، وسهّل الجمع بينهما للضرورة أن العوض في آخر الاسم ،
والمعوض في أوله ، والجمع بين العوض والمعوض منه جائز في ضرورة الشعر ، قال الشاعر
:
[٢١٧] هما
نفثا في فيّ من فمويهما
|
|
على النّابح
العاوي أشدّ رجام
|
______________________________________________________
[٢١٧] هذا
البيت آخر قصيدة للفرزدق همام بن غالب يهجو فيها إبليس وابنه ، وهو من شواهد
سيبويه (٢ / ٨٣ و ٢٠٢) وقد أنشده ابن منظور (ف م م ـ ف وه) وعزاه إليه في المرتين
، واستشهد به رضي الدين في باب الإضافة من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في
الخزانة (٢ / ٢٦٩) وكان رجل من موالي باهلة قد أعطى الفرزدق نحي سمن على أن يهب له
أعراض قومه ـ يعني يتركهم ولا يهجوهم ـ فقال هذه القصيدة (انظر الديوان ٧٦٩ ـ ٧٧١)
وقوله «هما نفثا» رواية الديوان «هما تفلا» وضمير المثنى يعود إلى إبليس وابنه
اللذين ذكرهما في قوله قبل بيت الشاهد :
وإن ابن
إبليس وإبليس ألبنا
|
|
لهم بعذاب
الناس كل غلام
|
وقوله «أشد
رجام» أشد هنا أفعل تفضيل مضاف إلى ما بعده ، ووقع في الديوان «أشد لجامي» على أن «أشد»
فعل مضارع ، ولعله تحريف ، والاستشهاد بالبيت في قوله «فمويهما» فإن هذا مثنى الفم
مضافا إلى ضمير الغائبين ، وللعلماء فيه كلام نلخصه لك فيما يلي : أكثر العلماء
على أن أصل الفم «فوه» بدليل قولهم : تفوه فلان بكذا ، وقولهم : فلان أفوه من فلان
، وفلان مفوه ، مثل مكرم ، ثم حذفوا الهاء اعتباطا ، ولم يعوضوا منها شيئا ،
فجمع بين الميم
والواو وهي عوض منها لضرورة الشعر ، فجمع بين العوض والمعوّض ، فكذلك هاهنا ،
والله أعلم.
______________________________________________________
ثم حذفوا الواو
وعوضوا منها الميم فصار «فم» على وزن «فع» وإذا ثنيت الفم بعد رده إلى أصله قلت «فوهيهما»
ولكن الشاعر قال «فمويهما» فأبقى الميم التي قصدوا بها التعويض عن الواو المحذوفة
من المفرد ، وأعاد الواو التي هي عين الكلمة ، فجمع بذلك بين العوض ـ وهو الميم ـ والمعوض
عنه وهو الواو ، ومن المعلوم أن الجمع بين العوض والمعوض منه لا يقع في كلام العرب
، وقد حاول أبو علي أن يتخلص من هذا المأزق مع البقاء على ما أصّلوه من قاعدة عدم
الجمع بين العوض والمعوض منه ؛ لهذا قال : «ويجوز فيها وجه آخر ، وهو أن تكون
الواو في فمويهما لاما في موضع الهاء من أفواه ، وتكون الكلمة تعتقب عليها لامان :
هاء مرة ، وواو أخرى ، فجرى هذا مجرى سنة وعضة ، ألا ترى أنهما في قول سيبويه
واوان ، بدليل : سنوات ، وأسنتوا ، ومساناة ، وعضوات ، وتجدهما في قول من قال :
ليست بسنهاء ، وبعير عاضه ، هاءين؟» اه ، وهذا الكلام يحتمل وجهين ؛ الوجه الأول :
أن يكون يريد أن الميم عوض عن الهاء التي هي لام الكلمة ، وقد قدمها عن مكانها
الأصلي قال الجوهري «وقالوا في التثنية : فموان ، وإنما أجازوا ذلك لأن هناك حرفا
آخر محذوفا وهو الهاء ، كأنهم جعلوا الميم في هذه الحال عوضا عنها ، لا عن الواو»
اه ، وفيه بعد. والوجه الثاني : أن يكون أراد أن أصل الفم فمو ، فالميم عين الكلمة
والواو لامها ، وتقلب هذه الواو ألفا في المفرد لتحركها وانفتاح ما قبلها فتقول :
فما ، كما تقول : عصا ، وعلى هذا قول الراجز :
يا حبذا وجه
سليمى والفما
|
|
والجيد
والنحر وثدي قد نما
|
قال ابن بري «وقد
جاء في الشعر فما مقصورة مثل عصا ، وعلى ذلك جاء تثنيته فموان» اه ، وعلى هذا يكون
«والفما» في قول الراجز اسما مفردا مقصورا مرفوعا بضمة مقدرة على الألف منع من
ظهورها التعذر ، وخرّجه الفرّاء على وجهين آخرين : أحدهما أن يكون أصله «والفمان»
على التثنية ، فحذف النون ، والثاني أن تكون الواو واو المعية و «الفما» منصوب على
أنه مفعول معه منصوب بالفتحة الظاهرة وألفه للإطلاق وجوز ابن جني وجها ثالثا ، وهو
أن يكون منصوبا بفعل مضمر ، كأنه قال : وأحب الفم ، ويكون نصبه بالفتحة الظاهرة
أيضا. وقد أطلت عليك في تخريج هذه الكلمة فبحسبك هذا.
٤٨
مسألة
[هل يجوز ترخيم المضاف بحذف آخر المضاف إليه؟]
ذهب الكوفيون
إلى أن ترخيم المضاف جائز ، ويوقعون الترخيم في آخر الاسم المضاف إليه ، وذلك نحو
قولك «يا آل عام» في يا آل عامر ، و «يا آل مال» في يا آل مالك ، وما أشبه ذلك.
وذهب البصريون إلى أن ترخيم المضاف غير جائز.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن ترخيم المضاف جائز أنه قد جاء في استعمالهم
كثيرا ، قال زهير بن أبي سلمى :
[٢١٨]خذوا
حظّكم يا آل عكرم واحفظوا
|
|
أواصرنا
والرّحم بالغيب تذكر
|
______________________________________________________
[٢١٨] هذا البيت
من كلام زهير بن أبي سلمى المزني ، وقد استشهد به سيبويه (١ / ٣٤٣) وابن يعيش في
شرح المفصل (ص ١٨٥) والرضي في شرح الكافية (١ / ١٣٦) وشرحه البغدادي في الخزانة (١
/ ٣٧٣) كما استشهد به الأشموني (رقم ٩١٦) والمؤلف في أسرار العربية (ص ٩٦) وقوله «خذوا
حظكم» هو هكذا في كتاب سيبويه وفي شرح الكافية والخزانة ، وورد في شرح المفصل وكتب
المتأخرين «خذوا حذركم» وقوله «يا آل عكرم» أراد بني عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان ،
والأواصر : جمع آصرة ، وهي كل ما يعطفك على آخر ومنها الرحم ، ومزينة قوم زهير وآل
عكرمة بن خصفة كلاهما من مضر ، يقول : خذوا حظكم من مودتنا ومسالمتنا ، وكانوا قد
اعتزموا غزو قومه. والاستشهاد بالبيت في قوله «يا آل عكرم» فإن «آل عكرم» مركب
إضافي ، وقد رخمه بحذف آخر المضاف إليه ؛ فإن أصله «يا آل عكرمة» فحذف التاء ، وقد
استدل الكوفيون بهذا البيت وأمثاله على أنه يجوز ترخيم المركب الإضافي المنادى
بحذف آخر المضاف إليه ، لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة الشيء الواحد ، والحذف من
آخر الثاني مع أن المنادى هو الأول كأنه حذف من آخر الاسم
__________________
أراد «يا آل
عكرمة» إلا أنه حذف التاء للترخيم ، وهو عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر ، وهو أبو قبائل كثيرة من قيس.
وقال الآخر :
[٢١٩] أب عرو
لا تبعد فكلّ ابن حرّة
|
|
سيدعوه داعي
ميتة فيجيب
|
أراد «أبا عروة».
وقال الآخر :
[٢٢٠] إمّا
تريني اليوم أمّ حمز
|
|
قاربت بين
عنقي وجمزي
|
______________________________________________________
المفرد غير
المضاف وأنكر ذلك عليهم البصريون ، وذكروا أن الترخيم في هذا البيت ونحوه شاذ
كالترخيم في غير النداء ، فكما حذف بعض الشعراء من أواخر الأسماء في غير النداء
لأنهم اضطروا إلى ذلك حذفوا من أواخر المركبات الإضافية في النداء لأنهم اضطروا
إلى ذلك ، وقد عقد سيبويه في كتابه بابا ترجمته «هذا باب ما رخمت الشعراء في غير
النداء اضطرارا» وقال الأعلم في بيت الشاهد «الشاهد في ترخيم عكرمة وتركه على لفظه
، ويحتمل أن تجعل فتحته إعرابا ، على أنه اسم لمؤنث فلا تصرفه ؛ لأن عكرمة وإن كان
اسم رجل فإنه يقع على القبيلة» اه.
[٢١٩] هذا
البيت من شواهد شرح المفصل (ص ١٨٥) وشرح الكافية (١ / ١٣٦) وشرحه البغدادي في
الخزانة (١ / ٣٧٧) واستشهد به أيضا ابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٤٥١) وشرحه
العيني (٤ / ٢٨٧ بهامش الخزانة) وقوله «لا تبعد» أصل معناه لا تهلك ، ولكنهم
يريدون لا ينقطع ذكرك ولا تنسى سوالفك ، و «ميتة» بكسر الميم ولهذا انقلبت الواو
الساكنة ياء ، ووقع بدلها عند بعض الذين استشهدوا بالبيت «موتة» بفتح الميم وبقاء
الواو على حالها. ومحل الاستشهاد بالبيت في قوله «أبا عرو» فإن هذا منادى بحرف
نداء محذوف ، وهو مركب إضافي ، وقد رخّمه الشاعر بحذف آخر المضاف إليه ، فإن أصله «يا
أبا عروة» فحذف حرف النداء ، وحذف التاء من عروة ، والكلام فيه كالكلام في البيت
السابق.
[٢٢٠] هذان
بيتان من مشطور الرجز ، وهما من شواهد سيبويه (١ / ٣٣٣) وقد نسب في صدر الكتاب وفي
شرح شواهده ، لرؤبة بن العجاج ، والعنق ـ بفتح العين والنون جميعا ـ ضرب من السير
السريع ، والجمز ـ بفتح فسكون ـ أشد من العنق ، وهو يشبه الوثب. وصف كبره وأنه قد
قارب بين خطاه ضعفا. والاستشهاد بالبيت في قوله «أم حمز» فإن هذا منادى بحرف نداء
محذوف ، وهو مركب إضافي ، وقد رخمه بحذف آخر المضاف إليه «وأصله يا أم حمزة» فحذف
حرف النداء وهو يا ، وحذف التاء من المضاف إليه ، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشواهد
السابقة.
واعلم أنّا
رأيناهم يرخمون المركب الإضافي المنادى على عدة وجوه :
الأول : أن
يحذفوا آخر المضاف إليه ، كما في الشواهد ٢١٨ و ٢١٩ و ٢٢٠.
__________________
أراد «أم حمزة»
والشواهد على هذا كثيرة جدا ، فدل على جوازه. ولأن المضاف [١٥٤] والمضاف إليه
بمنزلة الشيء الواحد ، فجاز ترخيمه كالمفرد.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن ترخيم المضاف غير جائز أنه لم توجد فيه شروط
الترخيم ، وهي : أن يكون الاسم منادى ، مفردا ، معرفة ، زائدا على ثلاثة أحرف.
والدليل على اعتبار هذه الشروط : أما شرط كونه منادى فظاهر ؛ لأنهم لا يرخمون في
غير النداء إلا في ضرورة الشعر ، ألا ترى أنهم لا يقولون في حالة الاختيار في غير
النداء «قام عام» في عامر ، ولا «ذهب مال» في مالك ، فدل على أنه شرط معتبر. وأما
شرط كونه مفردا فظاهر أيضا ؛ لأن النداء يؤثر فيه البناء ، ويغيره عما كان عليه
قبل النداء ، ألا ترى أنه كان معربا فصار مبنيّا؟ فلما غيّره النداء عما كان عليه
من الإعراب قبل النداء جاز فيه الترخيم ؛ لأنه تغيير ، والتغيير يؤنس بالتغيير ؛
فأما ما كان مضافا فإن النداء لم يؤثر فيه البناء ولم يغيره عما كان عليه قبل
النداء ؛ ألا ترى أنه معرب بعد النداء كما هو معرب قبل النداء؟ وإذا كان الترخيم
إنما سوّغه تغيير النداء ، والنداء لم يغير المضاف ؛ فوجب أن لا يدخله الترخيم ؛
فصار هذا بمنزلة حذف الياء في النسب من باب فعيلة وفعيلة كقولهم في النسب إلى
جهينة «جهني» وإلى ربيعة «ربعي» وإثباتها في باب فعيل وفعيل كقولهم في النسب إلى
قشير «قشيري» وإلى جرير «جريريّ» فإن الياء إنما حذفت من باب فعيلة وفعيلة دون باب
فعيل وفعيل لأن النسب أثر فيه وغيّره بحذف تاء التأنيث منه ، والتغيير يؤنس
بالتغيير ، بخلاف باب فعيل وفعيل ؛ فإن النسب لم يؤثر فيه تغييرا ، فلم يحذف منه
الياء ، فأما قولهم في النسب إلى قريش «قرشي» وإلى هذيل «هذليّ» وإلى ثقيف «ثقفيّ»
ـ بحذف الياء في إحدى اللغتين ـ فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه ، واللغة الفصيحة
إثبات الياء ، وهي أن تقول : قرشيّ ، وهذيلي ، وثقيفيّ ، وهو القياس. قال الشاعر :
[٢٢١] بكلّ
قريشيّ عليه مهابة
|
|
سريع إلى
داعي النّدى والتكرّم
|
______________________________________________________
والوجه الثاني
: أن يحذفوا آخر المضاف لأنه هو المنادى عند التحقيق ، مثل قول الشاعر :
* يا علقم الخير قد طالت إقامتنا» *
أراد «يا علقمة
الخير» فرخّمه بحذف التاء من المضاف إذ كان هو المنادى.
والوجه الثالث
: أن يحذفوا المضاف إليه كله ، ومن ذلك قول عدي بن زيد :
يا عبد هل
تذكرني ساعة
|
|
في موكب أو
رائدا للقنيص؟
|
أراد أن يقول «يا
عبد هند» لأنه ينادي عبد هند اللخمي ، فحذف المضاف إليه بتة.
[٢٢١] هذا
البيت من شواهد سيبويه (٢ / ٧٠) ولم يعزه ولاعزاه الأعلم في شرح شواهده ، وهو
وقال الآخر :
[٢٢٢] هذيلية
تدعو إذا هي فاخرت
|
|
أبا هذليّا
من غطارفة نجد
|
[١٥٥] وكما أن الحذف هاهنا إنما
اختص بما غيّره النسب دون غيره ، فكذلك الحذف هاهنا للترخيم إنما يختص بما غيّره
النداء ـ وهو المفرد المعرفة ـ دون المضاف والنكرة. وأما شرط كونه زائدا على ثلاثة
أحرف فسنذكر ذلك في المسألة التي بعد هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما ما استشهدوا به من الأبيات فلا حجّة فيه ؛ لأنه محمول عندنا
على أنه حذف التاء لضرورة الشعر ، والترخيم عندنا يجوز
______________________________________________________
من شواهد ابن
يعيش في شرح المفصل (ص ٧٧١) وقد رواه ابن منظور (ق ر ش) ثالث ثلاثة أبيات ، ولم
يعزها إلى قائل معين ، والبيتان اللذان قبله هما قوله :
ولست بشاوي
عليه دمامة
|
|
إذا ما غدا
يغدو بقوس وأسهم
|
ولكنما أغدو
على مفاضة
|
|
دلاص كأعيان
الجراد المنظم
|
وأول هذين
البيتين من شواهد سيبويه (٢ / ٨٤) وثانيهما من شواهده أيضا (٢ / ١٨٦) وقوله في بيت
الشاهد الذي نحن بصدده «سريع إلى داعي الندى» يريد أنه إذا دعاه الندى أو دعي إليه
أجاب سريعا نحوه ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت هنا قوله «قريشي» حيث أجراه في النسب
على أصله ، ووفاه حروفه ، ولم يحذف ياءه ، وهو القياس ؛ لأن الياء لا يطرد حذفها
إلا فيما كانت فيه هاء التأنيث نحو جهينة ومزينة ، إلا أن العرب آثرت في قريش
الحذف لكثرة الاستعمال له ، فقالوا : قرشي.
[٢٢٢] هذا
البيت من شواهد الزمخشري في المفصل (انظر شرح ابن يعيش ٧٦٩ و ٧٧٠) والاستشهاد بهذا
البيت في موضعين ، الأول في قوله «هذيلية» والثاني في قوله «أبا هذليا» فإن الشاعر
قد جمع بين إثبات الياء في الكلمة الأولى وحذف الياء في الكلمة الثانية ، والقياس
في مثله إبقاء الياء وعدم حذفها.
قال أبو البقاء
بن يعيش : «وقالوا ثقفي في النسبة إلى ثقيف ، وهو أبو قبيلة من هوازن ، وهو شاذ
عند سيبويه ، والقياس ثقيفي ، وهو لغة قوم من العرب بتهامة وما يقرب منها ، وقد
كثر ذاك حتى كاد يكون قياسا ، وقالوا : هذلي في النسبة إلى هذيل ، وهو حي من مضر
بن مدركة بن إلياس ، والقياس عند سيبويه : هذيلي ، ومنه قوله :
* هذيلية تدعو إذا هي فاخرت* البيت
وقالوا : قرشي
، والقياس قريشي ، نحو قوله :
* بكل قريشي عليه مهابة* البيت
وقالوا : فقمي
، في فقيم ، وفقيم حي من كنانة ، وهم نسأة الشهور ، وقالوا في مليح خزاعة : ملحى ،
وقالوا في سليم : سلمي ، وفي خثيم : خثمي ، والداعي إلى هذا الشذوذ.
طلب الخفة ؛
لاجتماع الياء مع الكسرة وياءي النسب» اه.
لضرورة الشعر
في غير النداء ، قال الشاعر :
[٢٢٣] أودى
ابن جلهم عبّاد بصرمته
|
|
إنّ ابن جلهم
أمسى حيّة الوادي
|
أراد «جلهمة»
فحذف التاء لضرورة الشعر ، وقال الآخر :
[٢٢٤] ألا
أضحت حبالكم رماما
|
|
وأضحت منك
شاسعة أماما
|
______________________________________________________
[٢٢٣] هذا
البيت من كلام الأسود بن يعفر ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٤٤) ورواه ابن منظور (ج
ل ه م) وأودى بها : أي ذهب بها ، والصرمة ـ بكسر الصاد وسكون الراء ـ القطعة من
الإبل ما بين الثلاثين إلى الأربعين ، والوادي : المطمئن من الأرض ، وحية الوادي :
كناية عن كونه يحمي ناحيته ويتقى منه كما يتقى من الحية الحامية لواديها المانعة
منه. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «إن ابن جلهم» واعلم أولا أن العرب سمت المرأة
جلهم ـ بغير تاء ـ وسمت الرجل جلهمة ـ بالتاء ـ كذا جرى استعمالهم للاسمين ، ثم
اعلم أنه يجوز أن يكون الشاعر قد عنى أباه ، ويجوز أن يكون قد عنى أمه ، فإن كان
قد عنى أباه كان أصل العبارة «إن ابن جلهمة» فرخمه بحذف التاء مع أنه غير منادى ،
بل هو فاعل أودى ومضاف إليه ، ولكن يسأل حينئذ عما دعاه إلى فتح «جلهم» وهو علم
لمذكر فلا يكون ممنوعا من الصرف بعد حذف التاء ، والجواب عن هذا أنه لما حذف التاء
أبقى الحرف الذي قبلها على ما كان عليه ، كالذي يرخم على لغة من ينتظر الحرف
المحذوف ، وإن كان قد عنى أمه كان أصل العبارة «إن ابن جلهم» كما وردت في البيت ؛
فلا يكون في البيت ـ على هذا الوجه ـ ترخيم ، ولا يستدل به على شيء من هذا الباب.
ويكون «جلهم» مجرورا بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية
والتأنيث كزينب ورباب من أعلام الإناث التي لا تاء فيها ، ومن هنا تعلم أن استشهاد
المؤلف بهذا البيت لا يتم إلا على أساس أن الشاعر أراد اسم الأب ، وهو ظاهر بعد
هذا الإيضاح. قال سيبويه رحمهالله : «وأما قول الأسود بن يعفر :
* أودى ابن جلهم عباد بصرمته*
فإنما أراد أمه
جلهم ، والعرب يسمون المرأة جلهم والرجل جلهمة» اه. يعني أنه لا ترخيم فيه عنده ،
وقال الأعلم : «الشاهد في قوله جلهم ، وأنه أراد أمه جلهم ؛ فلا ترخيم فيه على هذا
؛ لأن العرب سمت المرأة جلهم بغير هاء ، والرجل جلهمة بالهاء. كذا جرى استعمالهم
للاسمين ، وإن كان أراد أباه فقد رخم» اه.
[٢٢٤] هذا
البيت من كلام جرير بن عطية بن الخطفي ، وروايته في الديوان على قلق في وزنه (ص
٥٠٢) :
أصبح حبل
وصلكم رماما
|
|
وما عهد
كعهدك يا أماما
|
وليس في البيت
ـ على هذه الرواية ـ ما يستشهد به لشيء في هذه المسألة كما ترى ، وكان أبو العباس
المبرد يرد الاستشهاد بهذا البيت ويدعي أن الرواية هي هذه ، والبيت ـ على ما وراه
المؤلف ـ من شواهد سيبويه (١ / ٣٤٣) ورضي الدين في شرح الكافية (١ / ١٣٦) وشرحه
البغدادي في الخزانة (١ / ٣٨٩ بولاق) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٤٥٧)
أراد «أمامة».
وقال الآخر :
[٢٢٥] إنّ
ابن حارث إن اشتق لرؤيته
|
|
أو أمتدحه
فإنّ النّاس قد علموا
|
______________________________________________________
والأشموني (رقم
٩٢٤) وقد رواه المؤلف كما هنا في أسرار العربية (٩٧) والاستشهاد بالبيت على رواية
النحاة في قوله «أماما» فإن أصله «أمامة» فرخّمه الشاعر بحذف التاء في غير النداء
لأنه اسم أضحت ، وأبقى الحرف الذي قبل التاء على حركته التي كانت له قبل حذف التاء
وهي الفتحة ؛ فهذا يدل على أن ترخيم غير المنادى في الضرورة يجيء على الوجهين
اللذين يجيء عليهما ترخيم المنادى ، نعني أنه يجوز عند الضرورة ترخيم الاسم الذي
ليس منادى مع قطع النظر عن الحرف الذي حذف للترخيم فتعامل الحرف الذي صار آخر
الكلمة بالذي يستحقه من حركات الإعراب ، ويجوز ألا يقطع النظر عن الحرف الذي حذف
للترخيم فتبقي الحرف الذي صار آخر الكلمة على حركته التي كانت عليه قبل الترخيم
وتجعل حركة الإعراب مقدرة على الحرف الذي حذف ، وما في هذا البيت من هذا الضرب.
فأماما : اسم أضحى تأخر عن خبرها ، وهو مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الحرف المحذوف
للترخيم ، وتسمى هذه لغة من ينتظر ، وتسمى الأولى لغة من لا ينتظر ، كما تسميان في
ترخيم المنادى.
[٢٢٥] هذا
البيت من كلام أوس بن حبناء ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٤٣) والأشموني (رقم ٩٢٥)
والمراد بابن حارث ابن حارثة بن بدر الغداني سيد بني غدانة بن يربوع بن تميم ،
ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «ابن حارث» فإن أصله حارثة بالتاء ، فرخمه بحذف التاء
، وأبقى الحرف الذي قبل التاء على حركته التي كان عليها قبل الترخيم وهي الفتحة ،
ولو لا ذلك لما كان هناك سبب لإعراب «حارث» إعراب الاسم الذي لا ينصرف ، وبيان ذلك
أن «حارث» مضاف إليه ؛ فكان يجب أن يجر بالكسرة الظاهرة وينون ؛ لأنه ليس باسم
قبيلة ولا بعلم مؤنث ، ولا يكون مجرورا بالفتحة نيابة عن الكسرة إلا إذا كان واحدا
من هذين ، لهذا كان تخريج شيخ النحاة سيبويه لهذا وأمثاله على أنه رخمه في غير
النداء على لغة من ينتظر الحرف المحذوف كما كان له أن يفعل ذلك في ترخيم المنادى ،
ونظيره قول الشاعر :
لنعم الفتى
تعشو إلى ضوء ناره
|
|
طريف بن مال
ليلة الجوع والخصر
|
أراد طريف بن
مالك ، فحذف الكاف ، ونظيره قول الآخر :
* ليس حي على المنون بخال*
أراد أن يقول :
ليس حي بخالد ، فلم يتيسر له ، فحذف الدال ، ونظيره قول أبي الطيب المتنبي :
لله ما فعل
الصوارم والقنا
|
|
في عمرو حاب
وضبة الأغتام
|
أراد أن يقول :
في عمرو حابس ، فرخمه بحذف السين ، غير أن هذه الأبيات الثلاثة تستوي فيها اللغتان
لغة من ينتظر الحرف المحذوف ولغة من لا ينتظر الحرف المحذوف بسبب كون الحركة التي
كانت للحرف الذي صار آخر الكلمة هي نفس الحركة التي يقتضيها الإعراب.
أراد «ابن
حارثة» وقال الآخر :
[٢٢٦] أبو
حنش يؤرّقني ، وطلق
|
|
وعمّار ،
وآونه أثالا
|
أراد «أثالة».
وزعم المبرّد أنه ليس في العرب أثالة ، وإنما هو أثال. ونصبه على تقدير : يذكرني
آونة أثالا ، وقيل : نصبه لأنه عطفه على الياء والنون في «يؤرقني» كأنه قال :
يؤرّقني وأثالا ، وقال بعض بني عبس :
[٢٢٧] أرقّ
لأرحام أراها قريبة
|
|
لحار بن كعب
لا لجرم وراسب
|
أراد «لحارث بن
كعب» وعبس والحارث بن كعب بن ضبّة إخوة فيما
______________________________________________________
[٢٢٦] هذا
البيت من كلام عمرو بن أحمر ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٤٣) والأشموني (رقم ٣٣٩)
وابن عقيل (رقم ١٣١) وقد استشهد به أبو الفتح بن جني في الخصائص (٢ / ٣٧٨) وانظر
العيني (٢ / ٤٢١ بهامش الخزانة) و «أبو حنش ، وطلق ، وعمار» جماعة من قومه كانوا
قد لحقوا بالشام ؛ فصار يراهم في النوم إذا أتى عليه الليل ، ورواه ابن جني «وعباد»
في مكان «عمار» ومحل الاستشهاد هنا بهذا البيت قوله «أثالا» فإن أصله «أثالة»
بالتاء فرخمه بحذف هذه التاء في غير النداء ، وأبقى الحرف الذي قبل التاء على
حركته التي كانت عليها قبل الترخيم ـ وهي الفتحة ـ على لغة من ينتظر الحرف المحذوف
، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق (٢٢٥).
[٢٢٧] أرق :
أعطف ، والأرحام : جمع رحم ، وهو في الأصل القرابة من جهة النساء ، وقد يراد به
القرابة مطلقا ، وجرم ـ بفتح الجيم وسكون الراء المهملة ـ قبيلة من قضاعة ، وهي
جرم بن ربان ، وفي العرب بنو راسب بن الخزرج بن حرة بن جرم بن ربان ، وبنو راسب بن
الحارث بن عبد الله بن الأزد ، وبنو راسب بن ميدعان الذين منهم عبد الله بن وهب
الراسبي الذي كان على رأس الخوارج في يوم النهروان ، ومحل الشاهد في البيت قوله «لحار
بن كعب» فإن أصل الكلام لحارث بن كعب ، فرخم حارث بحذف الثاء التي هي آخره وإن لم
يكن منادى ، وأبقى الحرف الذي قبل الثاء ـ وهو الراء ـ على حركته التي كان عليها
قبل الترخيم ، وهي الكسرة ، على نحو ما قررناه في شرح الشواهد السابقة.
ومن هذه
الشواهد المتعددة تعلم أن الذي وقع من العرب في أشعارها من ترخيم غير المنادى قد
جاء على طريقين : أحدهما أن يبقى الحرف الذي قبل المحذوف على ما كان عليه قبل
الحذف ويسمى هذا لغة من ينتظر ، والثاني أن يحرك الحرف الذي قبل الحرف المحذوف ،
بالحركة التي يقتضيها العامل ، ويعتبر كأنه آخر الكلمة حقيقة ، ويسمى هذا لغة من
لا ينتظر أو لغة الاستقلال ، وقد قبل سيبويه الوجهين جميعا نظرا منه إلى ما ورد عن
العرب ، وأما أبو العباس المبرد فكان لا يقبل إلا ما جاء على لغة من لا ينتظر
الحرف المحذوف ، وهي لغة الاستقلال ، وكان يرد ما جاء على غير هذا الوجه ، قال رضي
الدين (١ / ١٣٦) «ويجوز ترخيم غير المنادى للضرورة ، وإن خلا من تأنيث وعلمية ،
على تقدير الاستقلال كان أو على نية المحذوف ، عند سيبويه ، والمبرد يوجب تقدير
الاستقلال» اه.
يزعمون. وعلى كل حال فالترخيم في غير النداء للضرورة مما لا خلاف في جوازه
، والشواهد عليه أشهر من أن تذكر ، وأظهر من أن تنكر ، وكما أن الترخيم في ذلك كله
لا يدل على جوازه في حالة الاختيار ، فكذلك جميع ما استشهدوا به من الأبيات ، وإذا
كان الترخيم يجوز لضرورة الشعر في غير النداء فلأن يجوز ترخيم المضاف لضرورة الشعر
في النداء كان ذلك من طريق الأولى.
[١٥٦] وأما
قولهم «إن المضاف والمضاف إليه بمنزلة الشيء الواحد ؛ فجاز ترخيمه كالمفرد» قلنا :
هذا فاسد ؛ لأنه لو كان هذا معتبرا لوجب أن يؤثر النداء في المضاف البناء كما يؤثر في المفرد ، فلما لم يؤثر النداء فيه
البناء دل على فساد ما ذهبتم إليه والله أعلم.
__________________
٤٩
مسألة
[هل يجوز ترخيم الاسم الثلاثي؟]
ذهب الكوفيون
إلى أنه يجوز ترخيم الاسم الثلاثي إذا كان أوسطه متحركا ، وذلك نحو قولك في عنق «يا
عن» وفي حجر «يا حج» وفي كتف «يا كت» وذهب بعضهم إلى أن الترخيم يجوز في الأسماء
على الإطلاق.
وذهب البصريون
إلى أن ترخيم ما كان على ثلاثة أحرف لا يجوز بحال ، وإليه ذهب أبو الحسن علي بن
حمزة الكسائي من الكوفيين.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما جوزنا ترخيم ما كان على ثلاثة أحرف إذا كان أوسطه متحركا
لأن في الأسماء ما يماثله ويضاهيه نحو يد ودم ، والأصل في يد يدي ، وفي دم دمو في
أحد القولين ، بدليل قولهم : دموان ، وقد قال بعضهم : إن دما من ذوات الياء واحتج
بقول الشاعر :
[٢٢٨] فلو
أنّا على حجر ذبحنا
|
|
جرى الدّميان
بالخبر اليقين
|
______________________________________________________
[٢٢٨] يختلف
العلماء كثيرا في نسبة هذا البيت ؛ فنسبه العيني ـ فيما نقله عنه البغدادي ، ولم
أعثر عليه بعد طويل البحث ـ تبعا لابن هشام تبعا لصاحب الحماسة البصرية إلى المثقب
العبدي ، وينسبه قوم إلى الفرزدق ، وقوم إلى الأخطل ، وقوم إلى المرداس بن عمرو ،
واستصوب البغدادي أنه لعلي بن بدال بن سليم ، وأسند رواية ذلك إلى ابن دريد في
كتاب المجتبى عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي ، وقد أنشد ابن منظور (د م ى) هذا
البيت ثالث ثلاثة أبيات ، والبيت من شواهد الزمخشري في المفصل ، وابن يعيش في شرحه
(ص ٦٠٠) والرضي في باب المثنى من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ /
٣٤٩) والأشموني (رقم ١١٦٢) ومعنى البيت مبني على ما كان العرب يعتقدونه من أن
المتعاديين لو ذبحا وأحدهما جار الآخر لم يختلط دم أحدهما بدم الآخر ومحل
الاستشهاد بالبيت قوله «الدميان» حيث أتى بمثنى الدم وجعل لامه ياء ، ومن المقرر
أن التثنية والجمع يردان
__________________
والأكثرون على
أنه من ذوات الواو ، إلا أنهم استثقلوا الحركة على حرف العلّة فيهما ؛ لأن الحركات
تستثقل على حرف العلّة ، فحذفوه طلبا للتخفيف وفرارا من الاستثقال ، فبقيت يد ودم
، فكذلك في محل الخلاف : الترخيم إنما وضع للتخفيف بالحذف ، والحذف قد جاز في مثله
للتخفيف ، فوجب أن يكون جائزا.
______________________________________________________
الأشياء إلى
أصولها ؛ فمجيء الدميان بالياء يدل على أن اللام المحذوفة من «الدم» كانت ياء ،
وهذه المسألة خلافية بين النحاة من ناحيتين ، ونحن نبين لك ذلك في وضوح واختصار
فنقول : اعلم أولا أن العرب حذفت اللام من الدم لمجرد التخفيف فقالوا «دم» كما
قالوا : غد ، ويد ، وأب ، وأخ ، وحم ، وأنهم اشتقوا فعلا ووصفا من الدم فقالوا :
دمى فلان يدمى فهو دم ، بوزن فرح يفرح فرحا فهو فرح من الصحيح وعمي يعمى عمى فهو
عم وشجى يشجى شجى فهو شج من المعتل وأن أكثرهم يقولون في تثنية الدم «دميان» ومنهم
من يقول في تثنيته «دموان» بفتح الميم التي قبل الياء أو الواو ، وقد اختلف النحاة
في المحذوف من «دم» أواو هو أم ياء؟ وفي أصل الميم قبل الحذف أمفتوحة هي أم ساكنة؟
فقال قوم : أصل دم دمي ـ بفتح الميم وبالياء في آخره ـ والدليل على ذلك أنهم قالوا
في تثنيته «دميان» بفتح الميم وبالياء ، والتثنية ترد الأشياء إلى أصولها ، وقال قوم
: أصل دم دمي ـ بسكون الميم وبالياء في آخره ـ أما الدليل على أن أصل اللام ياء
فهو تثنيته على «دميان» وأما الدليل على أن أصل الميم ساكنة فهو القياس ؛ وذلك لأن
أكثر ما حذف لامه اعتباطا للتخفيف مثل ابن وغد ساكن العين ، وتحريكها في التثنية
لا يقطع بأنها كانت محركة في المفرد ، وقال قوم : أصل اللام المحذوفة من «دم» واو
، بدليل أنهم ثنوه فقالوا «دموان» ونحن بعد هذا نذكر لك كلام ابن الشجري في أماليه
في هذه المسألة فإنه ـ فيما نرى ـ أوفي كلام فيها ، قال : «ودم عند بعض التصريفيين
دمي ـ ساكن العين ـ قالوا : لأن الأصل في هذه المنقوصات أن تكون أعينها سواكن حتى
يقوم دليل على الحركة ، من حيث كان السكون هو الأصل والحركة طارئة ، قالوا : وليس
ظهور الحركة في قولنا دميان دليلا على أن العين متحركة في الأصل ؛ لأن الاسم إذا
حذفت لامه واستمرت حركات الإعراب على عينه ثم أعيدت اللام في بعض تصاريف الكلمة
ألزموا العين الحركة ، وقال من خالف أصحاب هذا القول : أصل دم دمي ـ بفتح العين ـ لأن
العرب قلبوا لامه ألفا فألحقوه بباب رحا فقالوا : هذا دما ، مثل قولهم : هذه رحا ،
وقال بعض العرب في تثنيته دمان فلم يردوا اللام ، كما قالوا في تثنية يد : يدان ،
والوجه أن يكون العمل على الأكثر ، وكذلك حكى قوم دموان ، والأعرف فيه الياء ،
وعليه أنشدوا :
* جرى الدميان بالخبر اليقين*
ومن العرب من
يقول الدم ـ بتشديد الميم ـ كما تلفظ به العامة ، وهي لغة رديئة ، وأنشدوا لتأبط
شرا :
حيث التقت
بكر وفهم كلها
|
|
والدم يجري
بينهم كالجدول
|
والعامة تفعل
مثل هذا في الفم أيضا ، وإنما يكون ذلك في الشعر ، كما قال :
* يا ليتها قد خرجت من فمه*»
اه كلامه ،
وفيه كفاية ومقنع.
قالوا : ولا
يلزم على كلامنا إذا كان الأوسط منه ساكنا ؛ فإنه لا يجوز ترخيمه وإن كان له نظير
نحو يد وغد ؛ لأنّا نقول : إنما لم يجز عندنا ترخيم ما كان الأوسط منه ساكنا نحو
زيد وعمرو لأنه إذا حذف الحرف الأخير وجب حذف الحرف الساكن الذي قبله ؛ فيبقى
الاسم على حرف واحد ، وذلك [١٥٧] لا نظير له في كلامهم ، بخلاف ما إذا كان أوسطه
متحركا على ما بيّنا.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه لا يجوز ترخيمه وذلك أنا أجمعنا على أن
الترخيم في عرف النحويين إنما هو حذف دخل في الاسم المنادى إذا كثرت حروفه ، طلبا
للتخفيف ، فإذا كان الترخيم إنما وضع في الأصل لهذا المعنى فهذا في محل الخلاف لا
حاجة بنا إليه ؛ لأن الاسم الثلاثي في غاية الخفة ؛ فلا يحتمل الحذف ، إذ لو قلنا
إنه يخفف بحذف آخره لكان ذلك يؤدي إلى الإجحاف به ؛ فدل على ما قلناه.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنما جوزنا ترخيمه لأن في الأسماء ما يماثله ، نحو يد
ودم» فنقول : الجواب عن هذا من وجهين :
أحدهما : أنّا
نقول : إن هذه الأسماء قليلة في الاستعمال ، بعيدة عن القياس : فأما قلتها في
الاستعمال فظاهر ؛ لأنها كلمات يسيرة معدودة ، وأما بعدها عن القياس فظاهر أيضا ،
وذلك لأن القياس يقتضي أن لا يحذف ؛ لأن حرف العلة إذا كان متحركا فلا يخلو : إما
أن يكون ما قبله ساكنا أو متحركا ، فإن كان ساكنا فينبغي أن لا يحذف كما لا يحذف
من ظبي ونحي وغزو ولهو ؛ لأن الحركات إنما تستثقل على حرف العلة إذا كان ما قبله
متحركا لا ساكنا ، وإن كان ما قبله متحركا فينبغي أن يقلب ألفا ولا يحذف ، كقولهم
: رحى ، وعمى ، وعصا ، وقفا ، ألا ترى أن الأصل فيها رحي وعمي وعصو وقفو ؛ بدليل
قولهم : رحيان ، وعميان ، وعصوان ، وقفوان ، إلا أنه لما تحركت الياء والواو ،
وانفتح ما قبلهما ؛ قلبوا كل واحدة منهما ألفا استثقالا للحركات على حرف العلة مع
تحرك ما قبله ، إلى غير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه ، وعلى هذا سائر الثلاثي المقصور ،
وإذا ثبت أن هذه الأسماء قليلة في الاستعمال بعيدة عن القياس فوجب أن لا يقاس
عليها.
والوجه الثاني
: وهو أنّا نقول : قياس محلّ الخلاف على يد ودم ، ليس بصحيح ، وذلك لأنهم إنما
حذفوا الياء والواو لاستثقال الحركات عليهما ؛ لأنها تستثقل على حرف العلة ، أما
في الترخيم فإنما وضع الحذف فيه على خلاف القياس ؛ لتخفيف الاسم الذي كثرت حروفه ،
ولم يوجد هاهنا ؛ لأنه أقل الأصول ، وهي في غاية الخفة ، فلو جوزنا ترخيمه [١٥٨]
لأدّى إلى أن
ينقص عن أقل الأصول وإلى الإجحاف به ، وذلك لا يجوز.
والذي يدل على
فساد ما ذهبوا إليه أنه إذا كان الأوسط منه ساكنا فإنه لا يجوز ترخيمه.
قولهم «إنما لم
يجز ترخيمه إذا كان الأوسط منه ساكنا ؛ لأنه إذا حذف الحرف الأخير وجب حذف الساكن
الذي قبله ؛ فيبقى الاسم على حرف واحد» قلنا : لا نسلّم أنه إذا كان قبل الآخر حرف
ساكن أنه يجب حذفه في الترخيم ، وإنما هذا شيء ادعيتموه وجعلتموه أصلا لكم لا يشهد
به نقل ولا قياس ، وسنبين فساده في المسألة التي بعد هذه ، إن شاء الله تعالى.
__________________
٥٠
مسألة
[ترخيم الرباعي الذي ثالثه ساكن]
ذهب الكوفيون
إلى أن ترخيم الاسم الذي قبل آخره حرف ساكن يكون بحذفه وحذف الحرف الذي بعده ،
وذلك نحو قولك في قمطر «يا قم» وفي سبطر «يا سب» وما أشبه ذلك. وذهب البصريون إلى
أن ترخيمه يكون بحذف الحرف الأخير منه فقط.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه يرخم بحذف حرفين ، وذلك لأن الحرف الأخير إذا
سقط من هذه الأسماء بقي آخرها ساكنا ، فلو قلنا إنه لا يحذف لأدى ذلك إلى أن يشابه
الأدوات وما أشبهها من الأسماء ، وذلك لا يجوز.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن الترخيم يكون في هذه الأسماء بحذف حرف واحد أنا
نقول : أجمعنا على أن حركة الاسم المرخّم باقية بعد دخول الترخيم كما كانت قبل
دخول الترخيم من ضم وفتح وكسر ، ألا ترى أنك تقول في برثن «يا برث» وفي جعفر «يا
جعف» وفي مالك «يا مال» وقد قرأ بعض السلف «ونادوا يا مال ليقض علينا ربك» وذكر
أنها قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ، فيبقى كل واحدة من هذه الحركات بعد دخول الترخيم كما
كانت قبل وجود الترخيم في أقيس الوجهين ، فكذلك هاهنا ، وهذا لأن الحركات إنما
بقيت على ما كانت عليه لينوى بها تمام الاسم ، ولو لم يكن كذلك لكان [١٥٩] يجب أن يحرك
المرخّم بحركة واحدة ، فإذا ثبت أن الحركات
__________________
إنما بقيت لينوى بها تمام الاسم فهذا المعنى موجود في الساكن حسب وجوده في
المتحرك ؛ فينبغي أن يبقى على ما كان عليه إذا كان ساكنا كما يبقى على ما كان عليه
إذا كان متحركا.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : قولهم «لو أسقطنا الحرف الأخير لبقي ما قبله ساكنا فيشبه الأدوات»
وهي الحروف. قلنا : هذا فاسد ؛ لأنه لو كان هذا معتبرا لوجب أن يحذف الحرف المكسور
؛ لئلا يشبه المضاف إلى المتكلم ، ولا خلاف أن هذا لا قائل به ؛ فدلّ على فساد ما
ذهبوا إليه ، والله أعلم.
٥١
مسألة
[القول في ندبة النكرة والأسماء الموصولة؟]
ذهب الكوفيّون
إلى أنه يجوز ندبة النكرة والأسماء الموصولة ، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه يجوز ندبة النكرة والأسماء الموصولة ، وذلك لأن
الاسم النكرة يقرب من المعرفة بالإشارة نحو «واراكباه» فجازت ندبته كالمعرفة ،
والأسماء الموصولة معارف بصلاتها كما أن الأسماء الأعلام معارف ، وكما يجوز ندبة
الأسماء الأعلام نحو زيد وعمرو فكذلك يجوز ندبة ما يشبهها ويقرب منها ، والدليل
على صحة هذا التعليل ما حكي عنهم من قولهم «وامن حفر بئر زمزماه» وما أشبه ذلك.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الاسم النكرة مبهم لا يخصّ
واحدا بعينه ، والمقصود بالندبة أن يظهر النادب عذره في تفجّعه على المندوب ليساعد
في تفجعه فيحصل التأسّي بذلك فيخف ما به من المصيبة ، وذلك إنما يحصل بندبة
المعرفة ، لا بندبة النكرة ، وإذا كان ندبة النكرة ليس فيها فائدة وجب أن تكون غير
جائزة ، وأما الأسماء الموصولة فإنها أيضا مبهمة ، فأشبهت النكرة ؛ فوجب أن لا
تجوز ندبتها كالنكرة.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن الإشارة قد قرّبت الاسم النكرة من المعرفة فجازت
ندبته كالمعرفة» قلنا : إلا أنه باق على إبهامه ، والمندوب يجب [١٦٠] أن يندب
بأعرف أسمائه ، وأما الأسماء الموصولة وإن كانت قد تخصصت بالصلة فإنها لا تخلو عن
إبهام ؛ لأن تخصيصها إنما يحصل بالجمل ، والجمل في الأصل نكرات.
__________________
وأما ما حكوه
من قولهم «وامن حفر بئر زمزماه» فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه ، على أنا نقول :
إنما جاء مع شذوذه هاهنا لأنه كان معروفا ، وهو عبد المطلب جدّ النبي صلىاللهعليهوسلم ، وكان قد عرف بحفر بئر زمزم ، وله يقول خويلد بن أسد :
[٢٢٩] أقول
وما قولي عليكم بسبّة
|
|
إليك ابن
سلمى أنت حافر زمزم
|
حفيرة
إبراهيم يوم ابن هاجر
|
|
وركضة جبريل
على عهد آدم
|
فقال عبد
المطلب : ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد ؛ فلما كان عبد المطلب
معروفا بحفرها تنزّل الاسم الموصول الدالّ عليه منزلة اسمه العلم ، والله أعلم.
______________________________________________________
[٢٢٩] هذان
البيتان لخويلد بن أسد بن عبد العزى ، كما قال المؤلف ، وهو أبو عدي خويلد ابن أسد
بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ، أبو أم المؤمنين وصفية رسول رب العالمين السيدة
خديجة بنت خويلد ، وجد الزبير بن العوام بن خويلد حواري سيدنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وابن عمته صفية بنت عبد المطلب ، و «ابن سلمى» هو عبد
المطلب بن هاشم جد سيدنا ومولانا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وأم عبد المطلب
هي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار بن تيم
الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج ، وإبراهيم : أراد به أبا الأنبياء إبراهيم خليل
الله ، وابن هاجر : هو إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، وهو الجد الأعلى لقريش ، بل
وللعرب جميعا ، والاستشهاد بالبيت في قوله «إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم» فإنه يدل
على أن عبد المطلب ابن هاشم ـ وهو ابن سلمى ـ كان مشهورا بأنه حافر بئر زمزم ،
فإذا قال قائل «وامن حفر بئر زمزماه» فكأنه قال : واعبد المطلباه.
٥٢
مسألة
[هل يجوز إلقاء علامة الندبة على الصفة؟]
ذهب الكوفيون
إلى أنه يجوز أن تلقى علامة الندبة على الصفة ، نحو قولك «وازيد الظريفاه» وإليه
ذهب يونس بن حبيب البصريّ وأبو الحسن بن كيسان.
وذهب البصريون
إلى أنه لا يجوز.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : أجمعنا على أنه يجوز أن نلقي علامة الندبة على المضاف إليه ،
نحو قولك «واعبد زيداه ، واغلام عمراه» فكذلك هاهنا ؛ لأن الصفة مع الموصوف بمنزلة
المضاف مع المضاف إليه ؛ فإذا جاز أن تلقى علامة النّدبة على المضاف إليه فكذلك
يجوز أن تلقى على الصفة.
والذي يدلّ على
ذلك ما روي عن بعض العرب أنه ضاع منه جمجمتان ـ أي قدحان ـ فقال «واجمجمتيّ
الشّاميّتيناه» وألقى علامة الندبة على الصفة ؛ فدلّ على ما قلناه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز أن تلقى علامة الندبة على الصفة لأن
علامة الندبة إنما تلقى على ما يلحقه تنبيه النداء لمدّ الصوت ، وليس ذلك موجودا
[١٦١] في الصفة ؛ لأنها لا يلزم ذكرها مع الموصوف ؛ فوجب أن لا يجوز وسنبين هذا في
الجواب إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم : «إنّا أجمعنا على أنه يجوز أن تلقى علامة الندبة على
المضاف إليه فكذلك على الصفة ؛ لأن الصفة مع الموصوف بمنزلة المضاف مع المضاف إليه»
، قلنا : لا نسلم ؛ فإن المضاف لا يتم بدون ذكر المضاف إليه ، بخلاف الموصوف مع
الصفة فإن الموصوف يتم بدون ذكر الصفة. ألا ترى أنك لو قلت «عبد» في قولك عبد زيد
أو «غلام» في قولك غلام عمرو
__________________
لم يتم إلا بذكر المضاف إليه ، ولو قلت «زيد» في قولك هذا زيد الظريف يتم
الموصوف بدون ذكر الصفة ، وكنت في ذكرها مخيّرا : إن شئت ذكرتها ، وإن شئت لم
تذكرها ، فبان الفرق بينهما.
وأما ما روي عن
بعض العرب من قوله «واجمجمتيّ الشاميّتيناه» فيحتمل أن يكون إلحاق علامة الندبة من
قياس يونس ، وعلى كل حال فهو من الشاذ الذي لا يعبأ به ولا يقاس عليه ، كقولهم «وامن
حفر بئر زمزماه» وما أشبه ذلك ، والله أعلم.
٥٣
مسألة
[اسم لا المفرد النكرة ، معرب أو مبنيّ؟]
ذهب الكوفيون
إلى أن الاسم المفرد النكرة المنفي بلا معرب منصوب بها نحو «لا رجل في الدّار».
وذهب البصريون
إلى أنه مبني على الفتح.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه منصوب بها لأنه اكتفى بها من الفعل ؛ لأن
التقدير في قولك «لا رجل في الدّار» لا أجد رجلا في الدار ، فاكتفوا بلا من العامل
، كما تقول «إن قمت قمت ، وإن لا فلا» أي وإن لا تقم فلا أقوم ، فلما اكتفوا بلا
من العامل نصبوا النكرة به ، وحذفوا التنوين بناء على الإضافة.
ومنهم من تمسك
بأن قال : إنما قلنا إنه منصوب بها لأن «لا» تكون بمعنى غير ، كقولك «زيد لا عاقل
ولا جاهل» أي : غير عاقل وغير جاهل ، فلما جاءت ها هنا بمعنى ليس نصبوا بها :
ليخرجوها من معنى غير إلى معنى ليس [١٦٢] ويقع الفرق بينهما.
ومنهم من تمسك
بأن قال : إنما أعملوها النّصب لأنهم لما أولوها النكرة ـ ومن شأن النكرة أن يكون
خبرها قبلها ـ نصبوا النكرة بغير تنوين.
ومن النحويين
من قال : إنه منصوب لأن «لا» إنما عملت النصب لأنها نقيضة إنّ ؛ لأن «لا» للنفي ، و
«إنّ» للإثبات ، وهم يحملون الشيء على ضده ، كما يحملونه على نظيره ، إلا أن «لا»
لما كانت فرعا على «إنّ» في العمل ، و «إنّ» تنصب مع التنوين نصبت «لا» من غير
تنوين ؛ لينحطّ الفرع عن درجة الأصل ؛ لأن الفروع أبدا تنحط عن درجات الأصول.
__________________
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه مبني على الفتح لأن الأصل في قولك «لا رجل في
الدار؟» لا من رجل في الدار ؛ لأنه جواب من قال «هل من رجل في الدار؟» فلما حذفت «من»
من اللّفظ وركبت مع لا تضمنت معنى الحرف فوجب أن تبنى ، وإنما بنيت على حركة لأن
لها حالة تمكن قبل البناء ، وبنيت على الفتح لأنه أخف الحركات.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنما قلنا إنه منصوب بلا ؛ لأنها اكتفي بها عن الفعل»
قلنا : هذا مجرد دعوى يفتقر إلى دليل ؛ ثم لو كان كما زعمتم لوجب أن يكون منوّنا.
قولهم «حذف
التنوين بناء على الإضافة» قلنا : لو كان هذا صحيحا لوجب أن يطرد في كل ما يجوز
إضافته من الأسماء المفردة المنونة ، فلمّا قلتم إنه يختص بهذا الموضع دون سائر
المواضع دلّ على فساد ما ذهبتم إليه.
وأما قولهم «إنّ
لا تكون بمعنى غير ، فلما جاءت بمعنى ليس نصبوا بها ليخرجوها من معنى غير» قلنا :
ولم إذا كانت بمعنى ليس ينبغي أن ينصب بها؟ وهلّا رفعوا بها على القياس ؛ فإنهم
يرفعون بها إذا كانت بمعنى ليس ، قال الشاعر :
[٢٣٠] من صدّ
عن نيرانها
|
|
فأنا ابن قيس
لا براح
|
______________________________________________________
[٢٣٠] هذا
البيت من كلام سعد بن مالك القيسي ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٢٨ و ٣٥٤) وشرح
الرضي على الكافية في باب ما ولا المشبهين بليس ، وشرحه البغدادي في الخزانة (١ /
٢٢٣) والزمخشري في المفصل (رقم ٢٤ بتحقيقنا) وشرح ابن يعيش (ص ١٣٤) والأشموني (رقم
٢٢٥) وأوضح المسالك (رقم ١٠٧) ومغني اللبيب (رقم ٣٩٦) وصد : أي أعرض ، والضمير في «نيرانها»
يعود إلى الحرب التي ذكرها في أبيات سابقة ، وأراد من نكل عنها ولم يقتحم لظاها ،
وقوله «فأنا ابن قيس» نسب نفسه إلى جده الأعلى ؛ فإنه سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس
بن ثعلبة ، والمراد من هذه العبارة أنا ذلك المعروف بالجراءة والنجدة والشهامة الذي
طرق سمعك اسمه وعرفت عنه ما عرفت من صفات البطولة. والاستشهاد به في قوله «لا براح»
حيث أعمل فيه «لا» عمل ليس ؛ فرفع بها الاسم ، وحذف خبرها ، وتقدير الكلام : لا
براح لي ، وقد قال ابن هشام في شرح الشاهد ـ تبعا لابن يعيش والمبرد ـ إنه يجوز أن
تكون لا نافية مهملة ، وبراح ـ على هذا ـ يكون مبتدأ ، وقد حذف خبره ، واعترض
جماعة هذا الكلام بأن المعهود في لا النافية أن تعمل عمل إن أو عمل ليس ، فإن لم
تعمل أحد العملين وجب تكرارها كأن تقول : لا رجل عندك ولا امرأة فلما لم تتكرر
علمنا أنها عاملة ، ولما كان الاسم الذي بعدها مرفوعا علمنا أنها عملت عمل ليس ،
وقد تمحل قوم فقالوا : يجوز أن تكون مهملة ولكنها لم تتكرر للضرورة وهذا كلام لا
يجوز لك أن تأخذ به ؛ لأن المصير إلى الضرورة أمر لا يجوز ارتكابه إلا حين لا يكون
للكلام محمل صحيح يحمل عليه.
أي ليس براح ،
وقال الآخر :
[٢٣١] والله
لو لا أن تحسّ الطّبّخ
|
|
بي الجحيم
حين لا مستصرخ
|
أي ليس مستصرخ
هناك لنا.
وأما قولهم «إنما
أعملوها النصب لأنهم لما أولوها النكرة ـ ومن شأن النكرة أن يكون خبرها مقدما
عليها ـ نصبوا بها النكرة» قلنا : [١٦٣] ولم قلتم ذلك؟ وما وجه المناسبة بينه وبين
النصب؟ ثم لو كان كما زعمتم وأنه معرب منصوب لوجب أن يدخله التنوين ولا يحذف منه ؛
لأنه اسم معرب ليس فيه ما يمنعه من الصّرف ، فلما منع من التنوين دلّ على أنه ليس
بمعرب منصوب.
وهذا هو الجواب
عن قول من ذهب إلى أنه منصوب بلا ؛ لأنها نقيضة إنّ ؛ فإنه كان ينبغي أن يكون
منوّنا.
قولهم «إنّ لا
لما كانت فرعا على إنّ في العمل ، وإنّ تنصب مع التنوين نصبت لا من غير تنوين ؛
لينحط الفرع عن درجة الأصل». قلنا : هذا فاسد ، وذلك لأن التنوين ليس من عمل إنّ ،
وإنما هو شيء يستحقه الاسم في الأصل ، وإنما يستقيم هذا الكلام أن لو كان التنوين
من عمل إنّ ، ولا خلاف بين النحويين أن التنوين ليس من عملها ، وإذا لم يكن من عمل
إنّ التي هي الأصل ، فلا معنى لحذفه مع «لا» التي هي الفرع لينحطّ الفرع عن درجة
الأصل ؛ لأن الفرع إنما ينحطّ عن درجة الأصل فيما كان من عمل الأصل ، وإذا لم يكن
من عمل الأصل ، فيجب
______________________________________________________
[٢٣١] هذان
بيتان من الرجز المشطور ، وقد أنشدهما ابن منظور (ط ب خ ـ ح ش ش) ولم يعزهما إلى
قائل معين ، وأنشد سيبويه كلمة الاستشهاد (١ / ٣٥٧) ولم يعزها ، ولا بينها الأعلم
ولا تكلم عليها. وتقول : حش النار يحشها حشا : أي جمع لها ما تفرق من الحطب وأوقدها
، وتقول حش الحرب يحشها حشا ؛ إذا أسعرها وهيّجها ، تشبيها بإسعار النار ، قال
زهير :
يحشونها
بالمشرفية والقنا
|
|
وفتيان صدق
لاضعاف ولا نكل
|
والطبخ :
الملائكة الموكلون بعذاب الكفار ، والاستشهاد بالبيت في قوله «لا مستصرخ» حيث رفع
الاسم الواقع بعد «لا» النافية التي بمعنى ليس ، وقد علمت مما قدمناه في شرح
الشاهد السابق أن جمهرة البصريين على أنه مرفوع بلا ؛ لأنها لما شبهت بليس عملت
عملها فرفعت الاسم ونصبت الخبر ، وأن أبا العباس المبرد وموفق الدين بن يعيش ـ وتبعهما
ابن هشام ـ جوزوا أن تكون «لا» في مثل هذا نافية مهملة لا عمل لها ، والاسم
المرفوع بعدها مبتدأ خبره محذوف ، وهذا تخريج يتفق مع مذهب الكوفيين ؛ ولكنا آثرنا
لك ألا تأخذ بهذا التخريج لما بيّنا لك من أن «لا» لو كانت مهملة لوجب تكرارها ،
فلما لم تتكرر في هذا الشاهد والذي قبله كان ذلك دليلا على أنها عاملة.
أن يكون ثابتا مع الفرع ، كما كان ثابتا مع الأصل ، ثم انحطاطها عن درجة «إنّ»
قد ظهر في أربعة أشياء :
أحدها : أن إنّ
تعمل في المعرفة والنكرة ، ولا لا تعمل إلا في النكرة دون المعرفة.
والثاني أن إنّ
لا تركّب مع الاسم لقوتها ، ولا تركب مع الاسم لضعفها.
والثالث : أن
إنّ تعمل في الاسم مع الفصل بينها وبينه بالظرف وحرف الجر ، ولا لا تعمل مع الفصل
بينها وبينه بالظرف ولا حرف الجر.
والرابع : أن
إنّ تعمل في الاسم والخبر عندنا ، ولا إنما تعمل في الاسم دون الخبر عند أهل
التحقيق والنظر.
فقد ظهر انحطاط
لا عن درجة إنّ على ما بيّنا ، والله أعلم.
٥٤
مسألة
[هل تقع «من» لابتداء الغاية في الزمان؟]
ذهب الكوفيون
إلى أنّ «من» يجوز استعمالها في الزمان والمكان.
وذهب البصريون
إلى أنه لا يجوز استعمالها في الزمان.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن [١٦٤] قالوا : الدليل على أنه يجوز استعمال «من» في الزمان أنه قد جاء
ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب ، قال الله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة : ١٠٨] و (أَوَّلِ يَوْمٍ) من الزمان ، [و] قال الشاعر ، وهو زهير بن أبي سلمى :
[٢٣٢] لمن
الدّيار بقنّة الحجر
|
|
أقوين من حجج
ومن دهر
|
______________________________________________________
[٢٣٢] هذا
البيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى المزني يمدح فيها هرم بن سنان المري ، وقد
استشهد بهذا البيت ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١٠٧٥) والرضي في شرح الكافية (٢ /
٢٩٨) وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ١٢٦) والأشموني (رقم ٥٦٧) وابن هشام في أوضح
المسالك (رقم ٣٠٠) والاستفهام في قوله «لمن الديار» للتعجب من شدة خراب هذه الديار
حتى كأنها لا تعرف ولا يعرف أصحابها ، والقنة : أعلى الجبل ، والحجر ـ بكسر فسكون
ـ منازل ثمود عند وادي القرى من ناحية الشام ، وأقوين : أقفرن وخلون ، والحجج :
جمع حجة ـ بكسر الحاء ـ وهي السنة ، والدهر : الأبد الممدود ، ومحل الاستشهاد
بالبيت في قوله «من حجج ومن دهر» فإن الكوفيين رووا هذه العبارة على هذا الوجه ،
واستدلوا بها على أنه يجوز استعمال «من» لابتداء الغاية الزمنية كما يجوز أن تجيء
لابتداء الغاية المكانية ، والبصريون ينكرون هذه الرواية ويزعمون أن الرواية
الصحيحة في هذا البيت «أقوين مذحجج ومذدهر» بل إن من العلماء من أنكر أن زهيرا قال
هذا البيت ، وزعم أن زهيرا بدأ قصيدته بقوله :
دع ذا وعد
القول في هرم
|
|
خير البداة
وسيد الحضر
|
__________________
فدلّ على أنه
جائز.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : أجمعنا على أنّ «من» في المكان نظير مذ في الزمان ؛ لأن من
وضعت لتدل على ابتداء الغاية في المكان ، كما أن مذ وضعت لتدل على ابتداء الغاية
في الزمان ، ألا ترى أنك تقول «ما رأيته مذ يوم الجمعة» فيكون المعنى أن ابتداء
الوقت الذي انقطعت فيه الرؤية يوم الجمعة ، كما تقول «ما سرت من بغداد» فيكون
المعنى ما ابتدأت بالسير من هذا المكان ، فكما لا يجوز أن تقول «ما سرت مذ بغداد»
فكذلك لا يجوز أن تقول «ما رأيته من يوم الجمعة».
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ
أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة : ١٠٨] فلا حجة لهم فيه ؛ لأن التقدير فيه : من تأسيس أوّل يوم ،
فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا
فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف : ٨٢] والتقدير فيه : أهل القرية وأهل العير ، فحذف المضاف وأقام
المضاف إليه مقامه ، وقال تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] وكقولهم : الجود حاتم ، والشجاعة عنترة ، والشّعر زهير ، أي
: جود حاتم ، وشجاعة عنترة ، وشعر زهير ، وكقولهم «بنو فلان يطؤهم الطّريق» أي :
أهل الطريق ، وقال الشاعر :
[٢٣٣] حسبت
بغام راحلتي عناقا
|
|
وما هي ـ ويب
غيرك ـ بالعناق
|
______________________________________________________
وأن حمادا
الراوية لما رأى هذا البيت مطلع القصيدة ابتكر ثلاثة أبيات جعلها مقدمة لهذا
المطلع ، أولها بيت الشاهد ، وبعده :
لعب الزمان
بها وغيرها
|
|
بعدي سوافي
المور والقطر
|
قفرا بمندفع
النحائت من
|
|
صفوي أولات
الضال والسدر
|
فإن سلمنا صحة
الرواية التي رواها الكوفيون وسلمنا مع ذلك صحة نسبة البيت إلى زهير فتخريجه على
ما ذكره المؤلف.
[٢٣٣] أنشد ابن
منظور (ع ن ق) هذا البيت أول بيتين ، وأسند روايتهما لابن الأعرابي ، ونسبهما
لقريط يصف الذئب فالخطاب له ، ثم أنشده وحده (ب غ م) ونسبه لذي الخرق. وبغام
الناقة ـ بضم الباء وتخفيف الغين ـ صوت لا تفصح به ، وبغام الظبية : صوتها ، وقد
بغمت تبغم ـ من مثال ضرب ونصر وفتح ـ بغوما ويغاما. وتقول : بغمت الرجل ؛ إذا لم
تفصح له عن معنى ما تحدثه به. والراحلة ، هنا : الناقة سميت بذلك لأن صاحبها
يرتحلها : أي يركبها أو يضع رحله عليها ، والعناق ـ بفتح العين وتخفيف النون ـ الأنثى
من المعز.
ومحل الاستشهاد
بالبيت قوله «عناقا» فإنه على تقدير مضاف يتم به التشبيه ، ألا ترى أنه لا يصح
تشبيه صوت الناقة بالعناق نفسها؟ وإنما يصح تشبيه صوت الناقة بصوت العناق.
والتقدير فيه :
بغام راحلتي بغام عناق ، وقال الآخر :
[٢٣٤] لقد
خفت حتّى لا تزيد مخافتي
|
|
على وعل في
ذي المطارة عاقل
|
والتقدير فيه :
حتى لا تزيد مخافتي على مخافة وعل ، وهو من المقلوب ، وتقديره : حتى لا تزيد مخافة
وعل على مخافتي ، كما قال الآخر :
[٢٣٥] [١٦٥]كانت فريضة ما تقول كما
|
|
أنّ الزّناء
فريضة الرّجم
|
______________________________________________________
[٢٣٤] هذا
البيت من كلام النابغة الذبياني ، وقد أنشده ياقوت في معجم البلدان (مطارة) كما
أنشده الشريف المرتضى في أماليه (ص ٢١٦) والوعل ـ بفتح الواو وكسر العين أو سكونها
؛ وفيه لغة بضم الواو وكسر العين ، وهي ضعيفة ـ تيس الجبل ، والمطارة ـ بفتح الميم
ـ قال ياقوت : «يجوز أن تكون الميم زائدة فيكون من طار يطير ، أي البقعة التي يطار
منها ، وهو اسم جبل» ويضاف إليه «ذو» وعاقل : أي متحصن ، وفي الحديث «ليعقلن الدين
من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل» أي ليتحصنن أي يعتصم ويلتجىء إليه كما يتحصن
الوعل إلى رأس الجبل. ومحل الاستشهاد بالبيت هنا قوله «لا تزيد مخافتي على وعل»
فإن الكلام فيه على تقدير مضاف : أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل ، ألا ترى أن
مخافته لا تشبه بالوعل نفسه ، وإنما تشبه بمخافة الوعل؟ وقد قالوا : إن الكلام على
القلب ؛ فإن الأصل : لا تزيد مخافة الوعل المعتصم بالجبل على مخافتي ، فقلب ، قال
الأصمعي : «يقول : قد خفت حتى ما تزيد مخافة الوعل على مخافتي ، فلم يمكنه ، فقلب»
اه. وهذا أحد توجيهين في هذا البيت ، والتوجيه الثاني : أن تكون «ما» في قوله «ما
تزيد مخافتي» زائدة ، وكأنه قال : حتى تزيد مخافتي ، والاستشهاد به لما أراد
المؤلف منه لا يزول على أي الوجهين.
[٢٣٥] هذا
البيت قد أنشده ابن منظور (ز ن ى) ونسبه إلى الجعدي ، وأنشده الشريف المرتضى في
أماليه (ص ٢١٦ ط الحلبي) والعباسي في معاهد التنصيص (ص ٨٦ بولاق) من غير عزو ،
ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله «أن الزناء فريضة الرجم» فإن هذه العبارة مقلوبة ،
وأصلها «أن الرجم فريضة الزنا» وعلماء العربية يختلفون في القلب : أجائز هو أم غير
جائز ، ولهم فيه ثلاثة أقوال : الأول : أنه جائز مقبول مطلقا وممن ذهب هذا المذهب
السكاكي ، والثاني : أنه غير جائز ولا مقبول مطلقا ، وما وقع من ذلك في شعر
الشعراء فهو من أخطائهم أوله تأويل آخر كالتأويل الذي ذكرناه في شرح الشاهد السابق
(رقم ٢٣٤) والثالث : أنه إذا كان قد تضمن اعتبارا لطيفا فهو جائز مقبول ، وإن لم
يتضمن اعتبارا لطيفا فهو مردود على صاحبه ، ومن أمثلة القلب قول الراجز وأنشده ابن
منظور (ح ل ا) :
إن سراجا
لكريم مفخره
|
|
تحلى به
العين إذا ما تجهره
|
فقد أراد
الراجز أن يقول «يحلى بالعين» فلم يستطع ، فقلب ، ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج
وأنشده الخطيب القزويني في الإيضاح (ص ٧٨ بتحقيقنا) والشريف المرتضى في الأمالي (ص
٢١٦) وسيأتي مع الشاهد ٢٣٦ قريبا :
ومهمه مغبرة
أرجاؤه
|
|
كأن لون أرضه
سماؤه
|
.....
______________________________________________________
فقد أراد أن
يقول «كأن لون سمائه أرضه» فقلب ، ومثله قول القطامي (الإيضاح ٧٨ والمعاهد ٨٦) :
فلما أن جرى
سمن عليها
|
|
كما طينت
بالفدن السياعا
|
السمن ـ بكسر
السين وفتح الميم ـ امتلاء الجسم بالشحم ، وطينت : طليت بالطين ، والفدن ـ بالتحريك
ـ القصر المنيف ، والسياع ـ بزنة الكتاب ـ الطين المخلوط بالتبن ، وقد أراد أن
يقول «كما طليت القصر بالسياع» فقلب ، ومثله قول حسان بن ثابت يصف الخمر :
كأن سبيئة من
بيت رأس
|
|
يكون مزاجها
عسل وماء
|
السبيئة :
الخمر ، وبيت رأس : بلد بالشام ، ومزاجها : ما يخلط بها ، وقد أراد أن يقول «يكون
ما يمزج بها عسلا وماء ـ بجعل مزاجها اسم يكون وعسلا وماء خبرها» فقلب ، ومثله قول
عروة بن الورد ، وينسب للعباس بن مرداس السلمي :
فديت بنفسه
نفسي ومالي
|
|
وما آلوك إلا
ما أطيق
|
فقد أراد أن
يقول «فديته بنفسي ومالي» فقلب ، ومثله قول القطامي من قصيدته التي منها البيت
السابق :
قفي قبل
التفرق يا ضباعا
|
|
ولا يك موقف
منك الوداعا
|
أراد أن يقول «ولا
يك الوداع موقفا منك» فقلب ، وهو أشبه ببيت حسان ، ومثله قول الشاعر ـ وهو من
أبيات سيبويه (١ / ٩٢) :
ترى الثور
فيها مدخل الظل رأسه
|
|
وسائره باد
إلى الشمس أجمع
|
أضاف مدخلا ـ وهو
اسم الفاعل من أدخل ـ إلى الظل ، ثم نصب «رأسه» به على الاتساع والقلب ، وكان
الوجه أن يقول : مدخل رأسه الظل ؛ لأن الرأس هو الداخل في الظل ؛ ومثله قول الراعي
يذكر ثورا :
فصبحته كلاب
الغوث يؤسدها
|
|
مستوضحون
يرون العين كالأثر
|
الغوث : قبيلة
من طيّىء ، ويؤسدها : يغريها ، ومستوضحون : فاعل يؤسدها ، وأراد «صيادون مستوضحون»
فحذف الموصوف وأبقى الصفة ، والمعنى يغريها صيادون ينظرون هل يرون شيئا ، وقوله «يرون
العين كالأثر» هو المقلوب ، وأصله : يرون الأثر كالعين ، ومثل ذلك كله قول ابن
مقبل ، وقد أنشده ابن منظور (ه ى ب) :
ولا تهيبني
الموماة أركبها
|
|
إذا تجاوبت
الأصداء بالسحر
|
فقد أراد أن
يقول «ولا أتهيب الموماة أركبها» فقلب. وقد وقع القلب في شعر المحدثين ؛ فمن ذلك
قول أبي تمام الطائي :
لعاب الأفاعي
القاتلات لعابه
|
|
وأري الجنى
اشتارته أيد عواسل
|
البيت في وصف
القلم ، واللعاب : الريق ، وهو ماء الفم ، والأفاعي : الحيات ، والأري ـ بفتح
الهمزة وسكون الراء ـ ما لزق من عسل النحل في جوف الخلية ، والجنى ـ بوزن الفتى ـ العسل
، وإضافة الأري إليه للتخصيص ؛ لأن الأري يكون أيضا ما لزق بجوف القدر من الطبيخ ،
واشتارته : أي استخرجته وقطفته ، وأيد عواسل : أي قاطفة للعسل ، وقد أراد أن يقول «لعابه
لعاب الأفاعي» فقلب ، والبصريون يخرجونه على التقديم والتأخير ، ونظيره ـ
تقديره : كما
أن الرّجم فريضة الزّناء.
وأما قول زهير
:
* أقوين من حجج ومن دهر* [٢٣٢]
فالرواية
الصحيحة «مذ حجج ومذ دهر» ولئن سلمنا ما رويتموه «من حجج ومن دهر» فالتقدير فيه
أيضا : من مرّ حجج ومن مرّ دهر ، كما تقول : مرّت عليه السنون ، ومرّت عليه الدهور
، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما بيّنا في الآية ، وقيل : إنّ «من»
هاهنا زائدة ، وهو قول أبي الحسن الأخفش ؛ فإنه يجوز أن تزاد في الإيجاب ، كما
يجوز أن تزاد في النفي ، ويحتج بقوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ) [نوح : ٤] أي يغفر لكم ذنوبكم ، وبقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصارِهِمْ) [النور : ٣٠] أي يغضوا أبصارهم ، ويحتج أيضا بقول الشاعر :
ألا حيّ
ندماني عمير بن عامر
|
|
إذا ما
تلاقينا من اليوم أو غدا [٢١٠]
|
أراد اليوم أو
غدا ، فكذلك هاهنا : التقدير في قوله «من حجج ومن دهر» أي حججا ودهرا ، فدلّ على
فساد ما ذهبوا إليه ، والله أعلم.
______________________________________________________
قول حسان بن
ثابت :
قبيلة ألأم
الأحياء أكرمها
|
|
وأغدر الناس
بالجيران وافيها
|
أراد أن يقول :
أكرمها ألأم الأحياء ، ووافيها أغدر الناس ، فقلب ، أو قدم وأخر ، ونظيرهما البيت
المشهور وقد ينسب إلى الفرزدق :
بنونا بنو
أبنائنا ، وبناتنا
|
|
بنوهن أبناء
الرجال الأباعد
|
فقد أراد أن
يقول : بنو أبنائنا بنونا ، أي مثلهم ، فقلب ، أو قدم وأخر ، وقد أطلنا عليك في
الاستشهاد لهذا الموضوع فعه ولا تنسه.
٥٥
مسألة
[واو ربّ ، هل هي التي تعمل الجر؟]
ذهب الكوفيون
إلى أن واو ربّ تعمل في النكرة الخفض بنفسها ، وإليه ذهب أبو العباس المبرد من
البصريين. وذهب البصريون إلى أن واو رب لا تعمل ، وإنما العمل لربّ مقدرة.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن الواو هي العاملة لأنها نابت عن ربّ ، فلما نابت
عن ربّ وهي تعمل الخفض فكذلك الواو لنيابتها عنها ، وصارت كواو القسم ؛ فإنها لما
نابت عن الباء عملت الخفض كالباء ، فكذلك الواو هاهنا :
لما نابت عن
ربّ عملت الخفض كما تعمل ربّ ، والذي يدل على أنها ليست عاطفة أن حرف العطف لا
يجوز الابتداء به ، ونحن نرى الشاعر يبتدىء بالواو في أول القصيدة ، كقوله :
[٢٣٦] [١٦٦]
* وبلد عامية أعماؤه*
______________________________________________________
[٢٣٦] هذا بيت
من مشطور الرجز ، وبعده قوله :
* كأن لون أرضه سماؤه*
وهو من كلام
رؤبة بن العجاج ، وقد أنشده ابن منظور (ع م ى) وعزاه إليه ، وانظر ما ذكرناه في
بحث القلب (ص ٣٧٤) والأعماء : المجاهل ، واحدها عمى ـ بوزن فتى ـ ومعنى قوله «عامية
أعماؤه» أن مجاهله متناهية في العمى ، وهو باب من المبالغة مثل قولهم : ليل أليل ،
وليل لائل ، ويوم أيوم ، وشعر شاعر ، كأنهم لم يجدوا ما يصفونه به إلا أن يشتقوا
له وصفا من لفظه ، وكأن رؤبة قد قال أعماؤه عامية ، فقدم وأخر ، وهم قلما يأتون
بهذا الضرب من المبالغة إلا على طريق الوصف كقولهم : شغل شاغل ، وليل لائل ، وما
ذكرناه قريبا ، لكن رؤبة قد اضطر فقدمّ وأخّر ، وقوله «كأن لون أرضه سماؤه» من
المقلوب ،
__________________
وكقول الآخر :
* وبلدة ليس بها أنيس* [١٦٠]
وما أشبه ذلك ؛
فدل على أنها ليست عاطفة ، فبان بهذا صحة ما ذهبنا إليه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا : إن الواو ليست عاملة ، وإن العمل لرب مقدرة ،
وذلك لأن الواو حرف عطف ، وحرف العطف لا يعمل شيئا ؛ لأن الحرف إنما يعمل إذا كان
مختصا ، وحرف العطف غير مختص ؛ فوجب أن لا يكون عاملا ، وإذا لم يكن عاملا وجب أن
يكون العامل ربّ مقدرة.
والذي يدل على
أنها واو العطف وأن ربّ مضمرة بعدها أنه يجوز ظهورها معها ، نحو «وربّ بلد»
وسنبيّن ذلك مستوفى في الجواب.
أما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنها لما نابت عن رب عملت عملها كواو القسم» قلنا :
هذا فاسد ؛ لأنه قد جاء عنهم الجرّ بإضمار رب من غير عوض منها ، وذلك نحو قوله :
[٢٣٧] رسم
دار وقفت في طلله
|
|
كدت أقضي
الحياة من جلله
|
وقال الآخر :
[٢٣٨] مثلك
أو خير تركت رذيّة
|
|
تقلّب عينيها
إذا طار طائر
|
______________________________________________________
وأصله «كأن لون
سمائه أرضه» وقد قدمنا كثيرا من أمثلة القلب مع شرح الشاهد (رقم ٢٣٥) ومحل
الاستشهاد بالبيت هنا قوله «وبلد» فإنه يريد «ورب بلد» وليست هذه الواو واو العطف.
إذ لا معطوف عليه ، بحكم أن هذا البيت أول الأرجوزة.
[٢٣٧] هذا
البيت مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة ، وهو من شواهد ابن يعيش في شرح
المفصل (ص ١١١٠) ورضي الدين في باب حروف الجر من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في
الخزانة (٤ / ١٩٩) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ١٨٤) وفي أوضح المسالك (٣١٦)
والأشموني (رقم ٥٧٩) وابن عقيل (رقم ٢٢٠) والرسم ـ بفتح الراء وسكون السين ـ ما
بقي لاصقا بالأرض من آثار الديار كالرماد ونحوه ، والطلل ـ بفتح الطاء واللام
جميعا ـ ما بقي شاخصا مرتفعا من آثارها كالوتد ونحوه ، وقوله «من جلله» يحتمل
معنيين : أحدهما : أن يكون من قولهم «فعلت كذا من جلل كذا» أي من أجله وبسببه ،
والثاني : أن يكون من قولهم «فعلت كذا من جلل كذا» أي من عظمه في نفسي ، ومحل
الاستشهاد في البيت قوله «رسم دار» فإن الرواية فيه بجر الرسم ، وقد خرجها العلماء
على أنه مجرور لفظا برب المحذوفة الباقي عملها ، قال ابن يعيش «أراد رب رسم دار ،
ثم حذف ، لكثرة استعمالها» اه.
[٢٣٨] هذا
البيت من شواهد سيبويه (١ / ٢٩٤) وقد غير المؤلف في صدره تغييرا سننبه عليه ،
وقوله «أو خير» يريد أو خير منك ، والرذية : فعيلة من قولهم «رذي البعير يرذي ـ من
مثال
والذي يدل على
فساد ما ذهبوا إليه أيضا أنها تضمر بعد بل ، قال الشاعر :
[٢٣٩] * بل جوز تيهاء كظهر الحجفت*
______________________________________________________
فرح يفرح» إذا
هزل وأعيا حتى لا يستطيع براحا ولا ينبعث ، وهو رذي والأنثى رذية ، وقال أبو زيد :
الرذية الناقة المتروكة التي حسرها السفر لا تقدر أن تلحق بالركاب ، وفي حديث
الصدقة «فلا يعطي الرذية ولا الشرط اللئيمة» يخاطب الشاعر ناقته ، يقول : قد تركت
مثلك أو خيرا منك بعد أن أعملتها في السفر ، وأودعتها الطريق ؛ فكلما مرّ عليها
طائر قلبت عينها رهبة منه وخوفا أن يقع عليها ليأكل منها. ومحل الاستشهاد بالبيت
قوله «مثلك أو خير» حيث جر «مثلك» برب المحذوفة من غير أن يقيم الواو مقام رب ؛
فهذا يدل على أن الجر ليس بالواو ، إذ لو كان الجر بها لم تحذف ؛ لأن الأصل في حرف
الجر ألا يعمل وهو محذوف لضعفه ، وإنما اغتفروا ذلك في رب لكثرة استعمالها ، هكذا
زعم المؤلف ، وما ذكره من القاعدة صحيح ، ولكن الرواية في صدر هذا البيت «ومثلك
رهبي قد تركت» بنصب «مثلك» أو جره ، أما نصبه فعلى أن يكون مفعولا مقدما لقوله
تركت ، وأما جره فعلى أن يكون مجرورا برب المحذوفة بعد الواو ، ونظيره قول امرىء
القيس بن حجر الكندي في رواية :
ومثلك بكرا
قد طرقت وثيبا
|
|
فألهيتها عن
ذي تمائم محول
|
[٢٣٩] هذا البيت من شواهد ابن يعيش
في شرح المفصل (ص ١٢٨١) ورضي الدين في شرح شافية الحاجب (رقم ١٠١) وابن جني في سر
صناعة الإعراب (رقم ١٠٧ في ١ / ١٧٧) وفي الخصائص (١ / ٣٠٤ الدار) وقد أنشده ابن
منظور (ح ج ف) ونقل عن ابن بري أنه من أرجوزة لسؤر الذئب ، والتيهاء : الصحراء يضل
سالكها ، وجوزها ـ بفتح الجيم وسكون الواو ـ أي وسطها ، وإنما شبه الصحراء بظهر
الترس لأنها غير ذات أعلام يهتدي بها السائر. وإنما ذكر الوسط ليشير إلى أنه لم
يتهيبها وأنه توسطها ، وهذا الكلام كناية عن كونه قويا جلدا جريئا لا يهاب.
وللنحاة في هذا البيت شاهدان ، أحدهما : في قوله «بل جوز تيهاء» حيث جرّ «جوز
تيهاء» برب المحذوفة بعد بل ، والثاني : في قوله «الحجفت» حيث وقف على تاء التأنيث
بالتاء لا بالهاء ، قال ابن منظور «يريد رب جوز تيهاء ، ومن العرب من إذا سكت على
الهاء جعلها تاء فقال : هذا طلحت ، وخبز الذرت» اه. وقال ابن يعيش «من العرب من
يجري الوقف مجرى الوصل فيقول في الوقف : هذا طلحت ، وهي لغة فاشية حكاها أبو
الخطاب ، ومنه قولهم : وعليكم السّلام والرحمت ، ومنه قوله :
* بل جوز تيهاء كظهر الحجفت*
اه كلامه.
وقد ذكر
الصاغاني أن الذين يقفون على الهاء بالتاء هم طيّىء.
ومثل هذا البيت
في الجر برب المحذوفة بعد بل قول رؤبة بن العجاج :
بل بلد ذي
صعد وأصباب
|
|
قطعت أخشاه
بعسف جواب
|
أراد بل ربّ
جوز ، ولا يقول أحد إن بل تجر. وكذلك تضمر بعد الفاء قال الشاعر :
[٢٤٠] * فحور قد لهوت بهنّ عين*
وليست نائبة
عنها ، ولا عوضا منها.
والذي أعتمد
عليه في الدليل على أن هذه الأحرف ـ التي هي الواو والفاء وبل ـ ليست نائبة عن ربّ
ولا عوضا عنها أنه يحسن ظهورها معها ، فيقال «وربّ بلد» و «بل ربّ بلد» و «فربّ
حور» ولو كانت [١٦٧] عوضا عنها لما جاز ظهورها معها ؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين
العوض والمعوض. ألا ترى أن واو القسم لما كانت عوضا عن الباء لم يجز أن يجمع
بينهما ؛ فلا يقال «وبالله لأفعلنّ» وتجعلهما حرفي قسم ، وكذلك أيضا التاء ، لما
كانت عوضا من الواو كما كانت الواو عوضا من الباء لم يجمع بينهما ؛ فلا يقال : «وتالله»
وتجعلهما حرفي قسم ؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض ، فأما قوله تعالى :
(وَتَاللهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ)
______________________________________________________
[٢٤٠] هذا صدر
بيت للمتنخل الهذلي ، واسمه مالك بن عويمر ، والبيت مع بيت سابق عليه هكذا :
فإما تعرضن
سليم عني
|
|
وتنزعك
الوشاة أولو النباط
|
فحور قد لهوت
بهن عين
|
|
نواعم في
المروط وفي الرياط
|
والبيت من
شواهد ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١١١) والأشموني (رقم ٥٧٧) وسليم : مصغر سلمى
تصغير الترخيم ، وقد حذف حرف النداء ، والحور ـ بضم الحاء ـ جمع حوراء وهي التي
اشتد بياض بياض عينها واشتد مع ذلك سواد سوادها ، والعين ـ بكسر العين ـ جمع عيناء
، وهي الواسعة العين ، ويروى «قد لهوت بهن حينا» والنواعم :
جمع ناعمة ،
وهي التي ترفل في النعيم ، والمروط : جمع مرط ـ بكسر الميم وسكون الراء ـ وهو
الثوب من الخز ، والرياط : جمع ريط ، وهو ضرب من الثياب ، والاستشهاد بالبيت في
قوله «فحور» حيث جر لفظ «حور» برب المحذوفة بعد الفاء ، ونظير ذلك في هذا قول
امرىء القيس ـ في رواية ـ وهو من شواهد سيبويه (١ / ٢٩٤) :
فمثلك حبلى
قد طرقت ومرضع
|
|
فألهيتها عن
ذي تماثم محول
|
قال سيبويه بعد
إنشاده «أي رب مثلك ، ومن العرب من ينصبه على الفعل» اه ، أي يجعله مفعولا به تقدم
على عامله ـ وهو طرقت ـ لكونه مما يتعدى إلى المفعول به ولم ينصب مفعولا ، فأما في
البيت الشاهد فلا يجيء ذلك ، ونظيره أيضا قول ربيعة بن مقروم الضبي وهو من شعر
الحماسة ومن شواهد الرضي (انظر الخزانة ٤ / ٢٠١) :
فإن أهلك فذي
حنق لظاه
|
|
علي تكاد
تلتهب التهابا
|
يريد فإن أهلك
فرب ذي حنق ـ الخ ، يعني إن أهلك فإني كثيرا ما تركت مغيظا محنقا قد ألهبت قلبه
وأشعلت نيران ضغنه بسبب ما جدلت وصرعت من ذوي قرباه مثلا.
[الأنبياء : ٥٧] فالواو فيه واو عطف ، وليست واو قسم ؛ فلم يمتنع أن يجمع
بينها وبين تاء القسم ، فلما جاز الجمع بين الواو وربّ دل على أنها ليست عوضا عنها
، بخلاف واو القسم ، وأنها واو عطف.
وقولهم «إن حرف
العطف لا يجوز الابتداء به» ، ونحن نرى الشاعر يبتدىء بالواو في أول القصيدة كقوله
:
* وبلد عامية أعماؤه*» [٢٣٦]
فنقول : هذه
الواو واو عطف وإن وقعت في أول القصيدة ؛ لأنها في التقدير عاطفة على كلام مقدر ،
كأنه قال : ربّ قفر طامس أعلامه سلكته ، وبلد عامية أعماؤه قطعته. يصف نفسه بركوب
الأخطار وقطع المفاوز والقفار ، إشعارا بشهامته وشجاعته.
وإذ قد ثبت بما
ذكرناه أنها حرف عطف ؛ فينبغي أن لا تكون عاملة ، فدلّ على أن النكرة بعدها مجرورة
بتقدير ربّ على ما بيّنا ، والله أعلم.
٥٦
مسألة
[القول في إعراب الاسم الواقع بعد «مذ» و «منذ»]
ذهب الكوفيون
إلى أن «مذ» ، و «منذ» إذا ارتفع الاسم بعدهما ارتفع بتقدير فعل محذوف. وذهب أبو
زكرياء يحيى بن زياد الفرّاء إلى أنه يرتفع بتقدير مبتدأ محذوف. وذهب البصريون إلى
أنهما يكونان اسمين مبتدأين ويرتفع ما بعدهما لأنه خبر عنهما ، ويكونان حرفين
جارّين فيكون ما بعدهما مجرورا بهما.
أما الكوفيون
فاحتجّوا بأن قالوا : الدليل على أن الاسم بعدهما يرتفع بتقدير فعل محذوف أنهما
مركبان من «من» و «إذ» فتغيرا عن حالهما في إفراد [١٦٨] كل واحد منهما ، فحذفت
الهمزة ووصلت «من» بالذال وضمت الميم ؛ للفرق بين حالة الإفراد والتركيب. والذي
يدل على أن الأصل فيهما من وإذ أنّ من العرب من يقول في منذ : «منذ» بكسر الميم ؛ فكسر
الميم يدل على أنها مركبة من من وإذ ، وإذا ثبت أنها مركبة من من وإذ كان الرفع
بعدهما بتقدير فعل ؛ لأن الفعل يحسن بعد إذ ؛ والتقدير : ما رأيته مذ مضى يومان ،
ومنذ مضى ليلتان ، فأما إذا كان الاسم بعدهما مخفوضا كان الخفض بهما اعتبارا بمن ،
ولهذا المعنى كان الخفض بمنذ أجود من مذ ؛ لظهور نون من فيها تغليبا لمن ، والرفع
بمذ أجود لحذف نون من منها تغليبا لإذ ، والذي يدل على أن أصل مذ ومنذ واحد أنك لو
سميت بمذ لقلت في تصغيره «منيذ» وفي تكسيره «أمناذ» فتعود النون المحذوفة ؛ لأن
التصغير والتكسير يردان الأشياء إلى أصولها كما نقول في تصغير منذ وتكسيره إذا
سميت به.
وأما الفراء فاحتج
بأن قال : إنما قلت إن الاسم يرتفع بعدهما بتقدير مبتدأ
__________________
محذوف ، وذلك لأن مذ ومنذ مركبتان من من وذو التي بمعنى الذي ، وهي لغة
مشهورة ، قال قوّال الطائي :
[٢٤١] قولا
لهذا المرء ذو جاء ساعيا
|
|
هلمّ فإنّ
المشرفيّ الفرائض
|
أراد : الذي
جاء ، وقال فيها أيضا :
[٢٤٢] أظنّك
دون المال ذو جئت تبتغي
|
|
ستلقاك بيض
للنّفوس قوابض
|
أراد : الذي
جئت تبتغي. وقال ملحة الجرميّ :
[٢٤٣] يغادر
محض الماء ذو هو محضه
|
|
على إثره إن
كان للماء من محض
|
______________________________________________________
[٢٤١] هذا
البيت أول ثلاثة أبيات لقوال الطائي ـ وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية في
عهد مروان بن محمد آخر بني أمية ـ يقولها في ساع جاءهم يطلب إبل الزكاة ، وقد أثر
أبو تمام في ديوان الحماسة ثلاثة الأبيات أولها هذا البيت ، وثالثها البيت الذي
يليه في شواهد المؤلف (انظر ص ٦٤٠ من شرح المرزوقي) وقد استشهد بهذا البيت رضي
الدين في باب الموصولات من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٣٦٥ و ٥١٤)
والأشموني (رقم ٩٩) والساعي : هو الذي يلي جمع الزكاة من أربابها ، وهلم : اسم فعل
أمر معناه أقبل وتعال ، والمشرفي : السيف ، منسوب إلى المشارف وهي قرى كانت السيوف
تصنع بها ، والفرائض : جمع فريضة ، وهي ما يؤخذ من السائمة في الزكاة ، والشاعر
يتهكم بالساعي الذي جاءهم يطلب الذي عليهم أداؤه من زكاة أموالهم ، وكان قومه
امتنعوا عن أداء حق الله في أموالهم. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «ذو جاء» فإن «ذو»
في هذه العبارة اسم موصول بمعنى الذي ، وهو صفة للمرء ، أي : قولا لهذا المرء الذي
جاء يطلب زكاة أموالنا تعال ـ الخ ، والذين يستعملون «ذو» بمعنى الذي هم طيّىء.
[٢٤٢] وهذا
البيت أيضا من كلمة قوال الطائي التي منها البيت السابق ، كما أشرنا إلى ذلك في
شرحه ، وبيض : جمع أبيض ، وهو السيف ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله «ذو جئت»
فإن «ذو» اسم موصول بمعنى الذي ، وهو صفة للمال ، ومن هنا تعلم أن الطائيين
يستعملون «ذو» في العقلاء كما في البيت السابق ، وفي غير العقلاء كما في هذا
البيت.
[٢٤٣] هذان
البيتان من كلام ملحة الجرمي ، وملحة يضبط في بعض الأمهات بضم الميم ، وفي بعضها
بكسر الميم ، وجرم ـ بفتح الجيم وسكون الراء ـ من طيّىء ، والبيتان المستشهد بهما
هنا هما السادس والسابع من كلمة عدتها ثمانية أبيات أثرها أبو تمام في ديوان
الحماسة (انظر شرح المرزوقي ص ١٨٠٦) والمحض ـ بالفتح ـ أصله اللبن الخالص بلا رغوة
، ويستعمل في الحسب وغيره ، وقوله «إن كان للماء من محض» لأن ماء المطر من جنس
واحد ، وقوله «يروي العروق ـ الخ» يريد بالباليات ما أشرف على اليبس من عروق الشجر
، ويرويها : أي يعيدها غضة مرتوية ، ورواية المرزوقي «يروي العروق الهامدات» ومحل
الاستشهاد في البيت الأول من هذين البيتين قوله «ذو هو محضه» فإن «ذو» في هذه
العبارة اسم موصول بمعنى الذي ، والجملة بعده من المبتدأ والخبر لا محل لها من ـ
يروّي العروق
الباليات من البلى
|
|
من العرفج
النّجديّ ذو باد والحمض
|
أراد : الذي هو
محضه ، والذي باد. وقال سنان بن الفحل :
[٢٤٤] فإنّ
الماء ماء أبي وجدّي
|
|
وبئري ذو
حفرت وذو طويت
|
أراد : الذي
حفرت والذي طويت ؛ فلما ركّبتا حذفت الواو من «ذو» اجتزاء بالضمة عنها ؛ لأنهم
يجتزئون بالضمة عن الواو وبالكسرة عن الياء وبالفتحة عن الألف ، قال الشاعر :
[٢٤٥] [١٦٩]فلو أنّ الأطبّا كان حولي
|
|
وكان مع
الأطبّاء الشّفاة
|
______________________________________________________
الإعراب صلة ،
وذو صفة للماء ، والهاء في «محضه» تعود إلى السحاب يعني يترك هذا السحاب محض الماء
الذي هو ـ أي الماء ـ محضه : أي خالصة السحاب وصافيته. ومحل الاستشهاد في البيت
الثاني قوله «ذو باد» فإن «ذو» اسم موصول بمعنى الذي أيضا ، وقد وقع صفة للعرفج
النجدي.
[٢٤٤] هذا
البيت لسنان بن الفحل الطائي ، من أبيات أوردها أبو تمام أيضا في ديوان الحماسة (انظر
شرح المرزوقي ص ٥٩٠) وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل (ص ٤٦٤) ورضي الدين في
باب الموصول من شرح الكافية ، وقد شرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٥١١) والأشموني (رقم
١٠١) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٥١) وفي شرح قطر الندى (رقم ٣١) و «ذو حفرت»
يريد التي حفرتها ، و «ذو طويت» أي التي طويتها ، وطي البئر : بناؤها بالحجارة ،
ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله «ذو حفرت وذو طويت» فإن «ذو» في هاتين العبارتين
اسم موصول بمعنى التي ، ويستدل بهاتين العبارتين على ثلاثة أشياء ؛ الأول : أن «ذو»
تأتي اسما موصولا ، والثاني : أنها تكون بلفظ واحد للمؤنث والمذكر ، لأن البئر
مؤنثة ، والثالث : أنها تستعمل في غير العاقل كما استعملت في العاقل في الشاهد
٢٤١.
[٢٤٥] هذا
الشاهد من شواهد رضي الدين في باب المضمر من شرح الكافية وقد شرحه البغدادي في
الخزانة (٢ / ٣٨٥) ونص على أن الفراء أنشد البيت الأول في تفسيره ، ثم قال بعد
كلام طويل «ولم يعزهما الفراء فمن بعده إلى أحد» وهو من شواهد جار الله في الكشاف (٢
/ ٦١ بولاق) في أول تفسير سورة المؤمنين ، والأطبا : جمع طبيب ، وهو الذي يعالج
الأسقام ، وقال الشاعر :
يقولون :
ليلى بالعراق مريضة ،
|
|
فيا ليتني
كنت الطبيب المداويا
|
وأصله «الأطباء»
كما ورد في الشطر الثاني فقصره الشاعر ، و «الشفاة» جمع شاف ، ويروى «وكان مع
الأطباء الأساة» وهو جمع آس. من قولك «أسا الجرح يأسوه» إذا عالجه ليبرأ ، ويروى «وكان
مع الأطباء السقاة» جمع ساق من «سقاه الدواء يسقيه» وجواب لو هو قوله «إذا ما
أذهبوا ـ الخ» ومحل الاستشهاد ههنا قوله «كان حولي» فإن أصل هذه العبارة «كانوا
حولي» بواو الجماعة التي تعود إلى الأطباء ، فحذف الشاعر الواو واكتفى بالضمة
للدلالة ـ
إذا ما
أذهبوا ألما بقلبي
|
|
وإن قيل
الشّقاة هم الأساة
|
أراد «كانوا»
فحذف الواو اجتزاء بالضمة. وقال الشاعر :
[٢٤٦]إذا ما
شاء ضرّوا من أرادوا
|
|
ولا يألوهم
أحد ضرارا
|
______________________________________________________
عليها ، وقد
قرىء في قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ) بضم الحاء ـ وهي قراءة طلحة بن مصرف ـ فخرجها الزمخشري
على أن الأصل «قد أفلحوا المؤمنون» فحذفت الواو لدلالة الضمة عليها ، بدليل أن
طلحة نفسه قرأ (قد أفلحوا المؤمنون) بالواو ، وقرىء (تَماماً عَلَى
الَّذِي أَحْسَنَ) برفع أحسن ، وخرجها قوم على أن الأصل (على الذي أحسنوا)
فحذفت الواو واكتفى بضم النون للدلالة عليها ، وعلى هذه القراءة وهذا التخريج يكون
«الذي» مستعملا في الجمع نظير قول الآخر :
وإن الذي
حانت بفلج دماؤهم
|
|
هم القوم كل
القوم يا أم خالد
|
واستبعد ذلك
ابن هشام في المغني ، ورجح تخريج الجمهور ، وحاصله أن «أحسن» أفعل تفضيل وليس فعلا
ماضيا ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : تماما على الذي هو أحسن ، وقرىء (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) برفع «يتم» وخرجها قوم على أن الأصل «يتموا الرضاعة»
فحذفت الواو اجتزاء بالضمة عنها ، وخرجها قوم على أن «أن» المصدرية في «أن يتم»
مهملة غير عاملة النصب حملا على «ما» المصدرية أختها نظير قول الشاعر :
أن تقرآن على
أسماء ويحكما
|
|
مني السّلام
، وألا تشعرا أحدا
|
وقد اختلفت
عبارة القوم في حذف حرف المد والاجتزاء بالحركة عنه للدلالة عليه : أهو ضرورة من
ضرورات الشعر أم هو لغة لبعض العرب؟ فظاهر كلام سيبويه أن ذلك ضرورة ؛ فإنه ذكر
ذلك واستشهد له في «باب ما يحتمل الشعر» وصدر هذا الباب بقوله (١ / ٨) «اعلم أنه
يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام : من صرف ما لا ينصرف يشبهونه بما ينصرف من
الأسماء لأنها أسماء كما أنها أسماء ، ومن حذف ما لا يحذف يشبهونه بما قد حذف
واستعمل محذوفا» اه. وظاهر كلام الفراء أن ذلك لغة لبعض العرب ، قال «وقد تسقط
العرب الواو وهي واو جمع اكتفاء بالضمة قبلها ، فقالوا في ضربوا : قد ضرب ، وفي
قالوا : قد قال ، وهي في هوازن وعليا قيس» اه ، وانظر ما أشرنا إليه بعد شرح
الشاهد ١٧ في المسألة الثانية.
[٢٤٦] هذا
البيت مما استشهد به الفراء في تفسيره ، وتقول : ألا فلان يألو ـ بوزن سما يسمو ـ ألوا
بوزن ضرب وألوا بوزن سمو ؛ إذا قصر وأبطأ فيما يريد ، يعني أن هؤلاء الناس يضرون
من أرادوا ضرّه متى شاءوا ، والناس لا يقصرون ولا يتمهلون عن إيصال الضر إليهم ،
ومحل الاستشهاد قوله «إذا ما شاء» فإن أصل هذه العبارة «إذا ما شاءوا» فحذف الواو
، واكتفي بضم الهمزة التي قبلها للدلالة عليها ، وحكى اللحياني عن الكسائي أن العرب
تقول : أقبل يضربه لا يأل ـ بضم اللام ـ يريدون لا يألو ، فاكتفوا بالضمة عن الواو
، وحكى سيبويه أنهم يقولون : لا أدر ـ بكسر الراء ـ يريدون لا أدري ، فاكتفوا
بالكسرة عن الياء.
أراد «شاءوا» ،
وقال الآخر :
[٢٤٧] وأخو
الغوان متى يشأ يصرمنه
|
|
ويكنّ أعداء
بعيد وداد
|
أراد «الغواني»
، وقال الآخر :
[٢٤٨] كفّاك
كفّ لا تليق درهما
|
|
جودا ، وأخرى
تعط بالسّيف الدّما
|
أراد «تعطي» ،
وقال الآخر :
[٢٤٩]ليس
تخفى يسارتي قدر يوم
|
|
ولقد يخف
شيمتي إعساري
|
______________________________________________________
[٢٤٧] هذا
البيت من كلام الأعشى ميمون ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٠) والغواني : جمع غانية
، وهي المرأة التي استغنت بجمالها عن الزينة ، أو هي التي استغنت بزوجها عفة
وتصونا وحصانة ، أو هي التي غنيت بمكانها : أي أقامت فيه ولم تفارقه ، وقوله «متى
يشأ» قد حذف منه المفعول ، وأصل الكلام : متى يشأ صرمهن ، ويصرمنه يبتتن حبال
مودته ويقطعنها. يصف النساء بالغدر وقلة الوفاء والصبر ، يقول : من كان مشغوفا بهن
مواصلا لهن إذا تعرض لصرمهن سارعن إلى ذلك لتغير أخلاقهن وقلة وفائهن ، ومحل
الاستشهاد بهذا البيت قوله «الغوان» فقد أراد أن يقول «الغواني» فحذف الياء ضرورة
، واكتفى بالكسرة دليلا عليها.
ومثل هذا البيت
قول خفاف بن ندبة السلمي ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٩) :
كنواح ريش
حمامة نجدية
|
|
ومسحت
باللثتين عصف الإثمد
|
فإنه أراد «كنواحي
ريش حمامة» فحذف الياء اجتزاء بالكسرة التي قبلها ؛ لأنها تدل عليها ، ومثله قول
الآخر ، وهو أيضا من شواهد سيبويه (١ / ٩) :
فطرت بمنصلي
في يعملات
|
|
دوامي الأيد
يخبطن السريحا
|
فقد أراد أن
يقول «دوامي الأيدي» فحذف الياء مجتزئا بالكسرة التي قبلها للدلالة عليها.
[٢٤٨] أنشد ابن
منظور هذا البيت (ل ي ق) ولم يعزه ، وتقول : فلان ما يليق بكفه درهم ـ من مثال باع
يبيع ـ أي ما يحتبس وما يبقى في كفه ، وتقول فلان ما يليق درهما ـ من مثال أنال
ينيل ـ أي ما يحبس وما يبقي درهما أيضا ، وقال الشاعر :
تقول ـ إذا
استهلكت مالا للذة
|
|
فكيهة : هل
شيء بكفيك لائق؟
|
يصف صاحب
الشاهد رجلا بأنه جواد كريم وأنه شجاع فاتك ، ونظيره قول الآخر :
يداك يد
خيرها يرتجى
|
|
وأخرى
لأعدائها غائظه
|
ومحل الاستشهاد
في البيت قوله «تعط» فإنه أراد تعطي ؛ لأن الفعل مرفوع لا مجزوم ، فحذف الياء
مجتزئا بالكسرة التي قبلها دالة عليها.
[٢٤٩] أنشد ابن
منظور هذا البيت (ي س ر) ولم يعزه ، واليسارة ـ ومثله اليسار ـ الغنى ، وقد أيسر
الرجل يوسر : أي استغنى ، وقد صارت الياء في المضارع واوا لسكونها وانضمام ما
قبلها ، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «يخف» فإنه أراد أن يقول يخفي ؛ لأن الفعل
مرفوع لا مجزوم ، فحذف الياء مجتزئا بالكسرة قبلها للدلالة عليها.
أراد «يخفي» ،
وقال الآخر :
[٢٥٠] لا صلح
بيني ـ فاعلموه ـ ولا
|
|
بينكم ، ما
حملت عاتقي
|
سيفي ، وما
كنّا بنجد ، وما
|
|
قرقر قمر
الواد بالشّاهق
|
أراد «الوادي»
، وقال الآخر وهو كعب بن مالك الأنصاري :
[٢٥١] ما بال
همّ عميد بات يطرقني
|
|
بالواد من
هند إذ نعدو عواديها؟
|
______________________________________________________
[٢٥٠] أنشد
الجوهري ـ وتبعه ابن منظور ـ هذين البيتين (ق م ر) ثاني وثالث ثلاثة أبيات ،
ونسبها لأبي عامر ، جد العباس بن مرداس السلمي ، والبيت الأول قوله :
لا نسب اليوم
ولا خلة
|
|
اتسع الخرق
على الراتق
|
وأنشدهما ابن
منظور (ودي) عن ابن سيده ، ونسبهما لأبي الربيس التغلبي ، وأنشد ابن جني ثانيهما
في الخصائص (٢ / ٢٩٢) من غير عزو ، قال ابن بري : سبب هذا الشعر أن الملك النعمان
بن المنذر بعث جيشا إلى بني سليم لشيء كان وجد عليهم من أجله ، وكان مقدم الجيش
عمرو بن فرتنا ، فمر الجيش على غطفان ، فاستجاشوهم على بني سليم ، فهزمت بنو سليم
جيش النعمان وأسروا عمرو بن فرتنا ، فأرسلت غطفان إلى بني سليم وقالوا :ننشدكم
بالرحم التي بيننا إلا ما أطلقتم عمرو بن فرتنا ، فقال أبو عامر هذه الأبيات ،
يقول : لا نسب بيننا وبينكم ، ولا خلة ـ أي ولا صداقة ـ بعد ما أعنتم جيش النعمان
ولم تراعوا حرمة النسب الذي بيننا وبينكم ، وقد تفاقم الأمر بيننا فلا يرجى صلاحه
فهو كالفتق الواسع في الثوب يتعب من يروم رتقه ، والقمر ـ بضم القاف وسكون الميم ـ
جمع قمرية ، ومثاله روم ورومي وزنج وزنجي ، والقمر : ضرب من الحمام ، وقرقر : صوت
، والشاهق : أراد الجبل العالي ، ومحل الاستشهاد بالبيتين ههنا قوله «قمر الواد»
فإنه أراد الوادي فحذف الياء اجتزاء بالكسرة التي قبلها للدلالة عليها. وفي قوله «اتسع
الخرق على الراتق» شاهد آخر للنحاة ، حيث قطع همزة الوصل في قوله «اتسع» ضرورة ،
وحسن ذلك كون هذه الكلمة في أول النصف الثاني من البيت ؛ لأنه بمنزلة ما يبتدأ به
، قال ابن سيده في التعليل لحذف الياء من «الواد» ما نصه : «حذف لأن الحرف لما ضعف
عن تحمل الحركة الزائدة عليه ولم يقدر أن يتحامل بنفسه دعا إلى اخترامه وحذفه» اه.
وهذا كلام ابن جني في الخصائص (٢ / ٢٩٢) وبل كلام ابن جني أصرح وأنصع. وذلك قوله «وإذا
كان الحرف لا يتحامل بنفسه حتى يدعو إلى اخترامه وحذفه كان بأن يضعف عن تحمل
الحركة الزائدة عليه فيه أحرى وأحجى ، وذلك نحو قول الله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) وقوله (ذلِكَ ما كُنَّا
نَبْغِ) وقوله (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) وقوله :
* وما قرقر قمر الواد بالشاهق*» اه.
[٢٥١] ما بال
هم : أي ما شأنه وما حاله ، وعميد : فادح موجع ، وأصله قولهم «عمده المرض يعمده»
من مثال ضربه يضربه ـ إذا فدحه ، ودخل أعرابي على بعض العرب وهو مريض فقال له :
كيف تجدك؟ فقال : أما الذي يعمدني فحصر وأسر ، يريد أما الذي يفدحني ويشتد عليّ
ويضنيني ، ويطرقني : أي ينزل بي ليلا ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله
أراد «بالوادي»
، وقال أيضا :
[٢٥٢] ولكن
ببدر سائلوا عن بلائنا
|
|
على النّاد ،
والأنباء بالغيب تبلغ
|
أراد «على
النادي» ، وقال الآخر :
[٢٥٣] ولا أدر
من ألقى عليه رداءه
|
|
على أنّه قد
سلّ عن ماجد محض
|
أراد «أدري» ،
وقال الآخر :
[٢٥٤] فلست
بمدرك ما فات منّي
|
|
بلهف ، ولا
بليت ، ولا لوانّي
|
______________________________________________________
«بالواد» فإنه
يريد بالوادي ، فحذف الياء مجتزئا بالكسرة قبلها ، على نحو ما ذكرناه في البيت
قبله.
[٢٥٢] بدر :
أراد الموضع الذي كانت فيه الغزوة المشهورة التي نصر الله فيها رسوله وأخزى الشرك
وأهله ، والبلاء ـ بفتح الباء ـ الجهد والصلابة ، وأصله الاختيار والتجربة
والامتحان ، تقول : بلاه يبلوه ، إذا جربه واختبره ليعرف مقدار ما عنده ، والناد ،
هنا : القوم ، وأصله المكان الذي يجتمعون فيه ، والأنباء : الأخبار ، واحدها نبأ ـ
بفتح النون والباء جميعا ـ ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله «على الناد» فإنه يريد
على النادي ، فحذف الياء مجتزئا بالكسرة قبلها ، على نحو ما ذكرناه من قبل.
[٢٥٣] هذا
البيت من كلام أبي خراش الهذلي ، يقوله في أخيه عروة ، من أبيات رواها أبو تمام في
الحماسة (انظر شرح المرزوقي ٧٨٢) وياقوت في معجم البلدان (قوسي) وقوله «ألقى عليه
رداءه» كان من عادة العرب أن الرجل يمر بالقتيل فيلقي عليه ثوبه يستره به ، وفي
مثل ذلك يقول متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكا :
لقد كفن
المنهال تحت ردائه
|
|
فتى غير
مبطان العشية أروعا
|
وقد حكي أن
مجتازا اجتاز بعروة فرآه بادي العورة مصروعا ، فألقى رداءه عليه ، ويحكى أن خراشا
ابن الشاعر الذي يكنى به وقع أسيرا ، وأنه نزل بآسره ضيف ، فنظر ذلك الضيف إلى
خراش ـ وكان ملقى وراء البيت ـ فسأله عن حاله ونسبه ، فشرح قصته وانتسب ، فقطع
إساره وخلاه ، فلما رجع رب البيت قال : أسيري أسيري ، وأراد السعي في أثره ، فوتر
الضيف قوسه وحلف أنه إن تبعه رماه ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله «ولا أدر»
فإنه يريد ولا أدري ؛ لأن الفعل غير مجزوم ، فحذف الياء مجتزئا بالكسرة التي قبلها
لأنها ترشد إليها وتدل عليها ، وقد روي البيت في الحماسة ومعجم البلدان وخصائص ابن
جني (١ / ٧١) «ولم أدر» وعلى هذه الرواية يكون الفعل مجزوما بحذف الياء ، ولا شاهد
فيه لما أراده المؤلف.
[٢٥٤] هذا
البيت قد أنشده ابن منظور (ل ه ف) ولم يعزه ، وأنشده البغدادي أثناء شرح الشاهد
الثالث عشر (١ / ٦٣) وهو من شواهد الأشموني (رقم ٦٧٦) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم
٤٤١) وقوله «بلهف» أي بقولي : يا لهفا ، وقوله «بليت» أي بقولي : يا ليتني ، وقوله
«ولا لواني» أي بقولي : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، ومحل الاستشهاد ههنا
أراد «بلهفا»
فحذف الألف اجتزاء بالفتحة عنها ، فكذلك هاهنا : حذف الواو من «ذو» اجتزاء بالضمة
عنها ، وصيّرا كلمة واحدة ، وإذا كانا مركبتين من من وذو [١٧٠] التي بمعنى الذي ؛
فالذي اسم موصول يفتقر إلى صلة وعائد ، والصلة لا تخلو : إما أن تكون من مبتدأ
وخبر ، أو فعل وفاعل ، فإذا قلت : «ما رأيته مذ يومان» أو «منذ ليلتان» فالتقدير
فيه : ما رأيته من الذي هو يومان ، فحذف «هو» الذي هو المبتدأ ، وبقي الخبر الذي
هو يومان ، وحذف المبتدأ من الاسم الموصول جائز كقولك : «الذي أخوك زيد» أي : الذي
هو أخوك زيد ، والذي يدل على جوازه قولهم : «ما أنا بالذي قائل لك شيئا» أي : ما
أنا بالذي أنا قائل لك شيئا ، وهذا كثير في كلامهم ، فأما إذا كان
الاسم بعدهما مخفوضا فهو مخفوض بمن ؛ ولهذا إذا ظهرت النون في منذ كان الاختيار
الخفض ، وإذا لم تظهر كان الاختيار الرفع.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه مرفوع ما بعدهما لأنه خبر عنهما ، وذلك لأن مذ
ومنذ معناهما الأمد ، ألا ترى أن التقدير في قولك : «ما رأيته مذ يومان ، ومنذ
ليلتان» أي : أمد انقطاع الرؤية يومان ، وأمد انقطاع الرؤية ليلتان ، والأمد في
موضع رفع بالابتداء ؛ فكذلك ما قام مقامه ، وإذا ثبت أنهما مرفوعان بالابتداء وجب
أن يكون ما بعدهما خبرا عنهما ، وإنما بنيا لتضمنهما معنى من وإلى ، ألا ترى أنك
إذا قلت : «ما رأيته مذ يومان ، ومنذ ليلتان» كان معناه : ما رأيته من أول هذا
الوقت إلى آخره ، وبنيت مذ على السكون لأنه الأصل في البناء ، وبنيت منذ على الضم
لأنه لما وجب تحريكها لالتقاء الساكنين حركت بالضم ؛ لأن من كلامهم أن يتبعوا الضم
الضم ، كما قالوا : «ردّ يا فتى» ، والشواهد على ذلك كثيرة جدا ، وقد ذكرنا ذلك في
مواضعه ؛ فلا يفتقر إلى ذكره هاهنا.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنهما مركبتان من من وإذ» قلنا : لا نسلم ، وأيّ دليل
يدل على ذلك؟ وهل يمكن الوقوف عليه إلا بوحي أو تنزيل؟ وليس إلى ذلك سبيل!.
______________________________________________________
بهذا البيت
قوله «بلهف» فإن أصل الكلام : بقولي يا لهفا ، على أن اللهف مضاف إلى ياء المتكلم
ثم قلبت الكسرة التي قبل ياء المتكلم فتحة وقلبت الياء ألفا ، ثم حذف هذه الألف
المنقلبة عن ياء المتكلم مجتزئا بالفتحة التي قبلها لأنها ترشد إليها وتدل عليها ،
على نحو ما ذكرناه في الشواهد السابقة.
__________________
وقولهم : «إن
من العرب من يقول في منذ منذ بكسر الميم» قلنا : أولا هذه لغية شاذة نادرة لا يعرج
عليها ؛ وليس فيها حجة على أنها مركبة من من وإذ ، وإنما هي لغية نادرة بكسر كما
جاءت اللغة الفصيحة المشهورة بالضم ، فهو من جملة ما جاء على لغتين الضم والكسر ،
والضم أفصح ، فأما أن تدل على [١٧١] أنها مركبة من من وإذ فكلّا!.
وقولهم : «إن
الرفع بعدهما يكون بتقدير فعل ، والتقدير فيه : مذ مضى يومان ، ومنذ مضى ليلتان ،
اعتبارا بإذ ، والخفض يكون بعدهما اعتبارا بمن» قلنا : هذا باطل ؛ لأن الحرفين إذا
ركبا بطل عمل كل واحد منهما مفردا ، وحدث حكم آخر ، كما قلنا في «لو لا ، ولوما ،
وإلّا» وما أشبه ذلك ، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في مسألة الاستثناء.
وهذا هو الجواب
عن قول الفراء «إنهما مركبتان من من وذو التي بمعنى الذي» والذي يبطل ما ذهب إليه
الفراء أن «ذو» التي بمعنى الذي إنما تستعملها طيىء خاصة ، و «منذ يومان» بالرفع
مستعمل في لغة جميع العرب ، فكيف استعملت العرب قاطبة ذو بمعنى الذي مع من ـ على
زعمكم ـ دون سائر المواضع؟ وهل ذلك إلا تحكم محض لا دليل عليه؟.
وقولهم : إن
التقدير فيه من الذي هو يومان فحذف المبتدأ الذي هو هو ، كقولهم : الذي أخوك زيد ،
أي الذي هو أخوك» قلنا : وهذا أيضا لا يستقيم ؛ لأن حذف المبتدأ من صلة الاسم
الموصول لا يجوز في نحو «الذي أخوك زيد» أي : الذي هو أخوك ، وإنما يجوز ذلك جوازا
ضعيفا إذا طال الكلام ؛ كقولهم : «الذي راغب فيك زيد ، وما أنا بالذي قائل لك شيئا»
، وما أشبه ذلك ، على أن من النحويين من يجعل الحذف في هذا النحو أيضا
شاذا لا يقاس عليه ، وإذا كان شاذا لا يقاس عليه مع طول الكلام فمع عدمه أولى ؛
فدل على فساد ما ذهب إليه ، والله أعلم.
__________________
٥٧
مسألة
[هل يعمل حرف القسم محذوفا بغير عوض؟]
ذهب الكوفيون
إلى أنه يجوز الخفض في القسم بإضمار حرف الخفض من غير عوض.
وذهب البصريون
إلى أنه لا يجوز ذلك إلا بعوض ، نحو ألف الاستفهام ، نحو قولك للرجل : «الله ما
فعلت كذا» أو هاء التنبيه نحو «هالله».
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء عن العرب أنهم يلقون الواو من
القسم ويخفضون بها ؛ قال الفراء : سمعناهم يقولون : «الله [١٧٢] لتفعلنّ» فيقول
المجيب : «ألله لأفعلنّ» بألف واحدة مقصورة في الثانية ؛ فيخفض بتقدير حرف الخفض
وإن كان محذوفا ، وقد جاء في كلامهم إعمال حرف الخفض مع الحذف ، حكى يونس بن حبيب
البصري أن من العرب من يقول : «مررت برجل صالح إلّا صالح فطالح» أي إلا أكن مررت
برجل صالح ؛ فقد مررت بطالح ، وروي عن رؤبة بن العجاج أنه كان إذا قيل له : كيف
أصبحت؟ يقول «خير عافاك الله» أي بخير. قال الشاعر :
رسم دار وقفت
في طلله
|
|
كدت أقضي
الحياة من جلله [٢٣٨]
|
فخفض «رسم»
بإضمار حرف الخفض ، وقال الآخر :
[٢٥٥] لاه
ابن عمّك لا أفضلت في حسب
|
|
عنّي ، ولا
أنت ديّاني فتخزوني
|
______________________________________________________
[٢٥٥] هذا
البيت من قصيدة طويلة لذي الأصبع العدواني ، واسمه الحارث بن محرث ، يعاتب فيها
ابن عم له ، وقد روى هذه القصيدة أبو علي القالي في أماليه (١ / ٢٥٩ بولاق)
والمفضل الضبي (المفضلية ٣١) والبيت من شواهد الأشموني (رقم ٥٥٧) وابن جني في
الخصائص (٢ / ٢٨٨) ورضي الدين في باب الظروف وباب حروف الجر من شرح الكافية ،
وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٢٢٢ و ٤ / ٢٤٣) وشواهد ابن هشام في مغني اللبيب (رقم
٢٣٧) وابن عقيل (رقم ٤٠٨) وابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١١١ و ١٣٠٠) ومعنى
فخفض «لاه»
بتقدير اللام ، كأنه قال : لله ابن عمّك ، وقال الآخر :
أجدّك لست
الدّهر رائي رامة
|
|
ولا عاقل
إلّا وأنت جنيب [١١٦]
|
ولا مصعد في
المصعدين لمنعج
|
|
ولا هابط ما
عنت هضب شطيب
|
فخفض على تقدير
الباء ، كأنه قال «بمصعد» ، وقال الآخر :
بدا لي أنّي
لست مدرك ما مضى
|
|
ولا سابق
شيئا إذا كان جائيا [١١٥]
|
وقال الآخر ،
وهو الفرزدق :
مشائيم ليسوا
مصلحين عشيرة
|
|
ولا ناعب
إلّا ببين غرابها [١١٧]
|
فخفض «ناعب»
بإضمار حرف الخفض ، وقال الفرزدق أيضا :
[٢٥٦] وما
زرت سلمى أن تكون حبيبة
|
|
إليّ ، ولا
دين بها أنا طالبه
|
______________________________________________________
«أفضلت» زدت في
المنزلة ، والديان : الذي يملك الأمر ويتصرف فيه على مشيئته ، وتخزوني : تذلني
وتقهرني ، ومحل الاستشهاد ههنا بهذا البيت قوله «لاه ابن عمك» واعلم أولا أن العرب
تقول : لله أنت ، ولله درك ، ولله ابن عمك بثلاث لامات أولها لام الجرّ وثانيها
لام التعريف وثالثها فاء الكلمة على أن لفظ الجلالة مأخوذ من ل ي ه أو عين الكلمة
على أن اللفظ الكريم مأخوذ من أ ل ه ، هذا هو الأصل في الاستعمال العربي ، وربما
قالوا «لاه أبوك» و «لاه ابن عمك» بلام واحدة فيحذفون لامين ، وقد اختلف النحاة في
اللام الباقية ، فذهب سيبويه إلى أن الباقية هي اللام التي من أصل الكلمة والمحذوف
لام الجر ولام التعريف ، وهذا هو الذي أراده المؤلف ، وذهب أبو العباس المبرد إلى
أن الباقي هو لام الجر ، وقد حذف لام التعريف واللام التي من أصل الكلمة ، وقد
فصلنا مقالة الشيخين واستدللنا للمذهبين وبيّنا أرجحهما في شرحنا على شرح الأشموني
(٣ / ٢٨٦) فانظره ، وانظر المراجع التي أشرنا إليها في تخريج هذا الشاهد هنا.
[٢٥٦] هذا
البيت من قصيدة للفرزدق يمدح فيها المطلب بن عبد الله المخزومي ، وهو من شواهد
الأشموني (رقم ٤٠١) أنشده في باب تعدي الفعل وفي باب حروف الجرّ ، وأنشده شيخ
النحاة سيبويه (١ / ٤١٨) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٧٨٧) وقوله «أن تكون حبيبة»
المصدر المنسبك من أن المصدرية وما بعدها مفعول لأجله ، فأصله مجرور باللام الدالة
على التعليل ، وأصل الكلام : لأن تكون حبيبة ، ثم حذفت اللام لأن حرف الجر يكثر
حذفه قبل أن المصدرية وأن المؤكدة ، وقد اختلف العلماء في المصدر المنسبك بعد حذف
حرف الجر : أهو مجرور بذلك الحرف المحذوف ، أم أنه انتصب على التوسع بعد حذف حرف
الجر؟ فأما الذين ذهبوا إلى أن المصدر مجرور بذلك الحرف المحذوف
__________________
فخفض «دين»
بإضمار حرف الخفض.
والذي يدل على
ذلك أنكم تعملون ربّ مع الحذف بعد الواو والفاء وبل ؛ فدل على جوازه.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : أجمعنا على أن الأصل في حروف الجر أن لا تعمل مع الحذف ،
وإنما تعمل مع الحذف في بعض المواضع إذا كان لها عوض ، ولم يوجد هاهنا ، فبقينا
فيما عداه على الأصل ، والتمسك بالأصل تمسك باستصحاب الحال ، وهو من الأدلة
المعتبرة ، ويخرّج على هذا الجرّ إذا دخلت ألف الاستفهام [١٧٣] وها التنبيه نحو «آلله
ما فعل ، وهالله ما فعلت» لأن ألف الاستفهام وها صارتا عوضا عن حرف القسم ؛ والذي
يدل على ذلك أنه لا يجوز أن يظهر معهما حرف القسم ؛ فلا يقال «أوالله» ولا «ها
والله» لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض ، ألا ترى أن الواو لما كانت عوضا
عن الباء لم يجز أن يجمع بينهما ؛ فلا يجوز أن يقال : «بوالله لأفعلنّ»؟ فكذلك
هاهنا.
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقولهم «ألله لأفعلن» فإنما جاز ذلك مع هذا الاسم
خاصة على خلاف القياس لكثرة استعماله ، كما جاز دخول حرف النداء عليه مع الألف
واللام دون غيره من الأسماء لكثرة الاستعمال ؛ فكذلك هاهنا : جاز حذف حرف الخفض
لكثرة الاستعمال مع هذا الاسم دون غيره ، فبقينا فيما عداه على الأصل. يدل عليه أن
هذا الاسم يختص بما لا يكون في غيره ، ألا ترى أنه يختص بالتاء كقوله تعالى : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] وإن كان لا يجوز دخول التاء في غيره ، كما لا يجوز إدخال
التاء
______________________________________________________
فيجعلون العطف
عليه بالجر تبعا لحاله الذي هو عليه حقيقة ، وأما الذين يذهبون إلى أن المصدر بعد
حذف حرف الجر صار منصوبا فيجعلون العطف عليه بالجر على أحد وجهين : الأول أنه
معطوف على محل المصدر الذي كان له قبل حذف حرف الجر ، والثاني أنه معطوف على
التوهم ، وكأن الشاعر بعد أن قال «أن تكون حبيبة» قد توهم أنه أدخل حرف الجر لأنه
كثيرا ما يتكلم به ، فأتى بالمعطوف مجرورا ، قال ابن هشام في المغني (ص ٥٢٦
بتحقيقنا) : «وقوله :
* وما زرت ليلى أن تكون حبيبة* البيت
رووه بخفض دين
عطفا على محل أن تكون ؛ إذ أصله لأن تكون ، وقد يجاب بأنه عطف على توهم دخول اللام
، وقد يعترض بأن الحمل على العطف على المحل أظهر من الحمل على العطف على التوهم ،
ويجاب بأن القواعد لا تثبت بالمحتملات» اه. وقال سيبويه بعد إنشاد البيت «جره لأنه
صار كأنه قال : لأن تكون» اه. وقال الأعلم : «الشاهد فيه حمل دين على معنى لأن
تكون ، وجرّه» اه.
في «أسنتوا» إلا في خلاف الخصب ، ولا يقال «تالرحمن» ولا «تالرحيم» وكما أن ما حكاه أبو الحسن الأخفش من
قوله «تربّي» لا يدل على جوازه لشذوذه وقلته ؛ فكذلك قولهم «ألله لأفعلن» لا يدل
على جوازه في غيره ، واختصاص هذا الاسم بهذا الحكم كاختصاص «لات» بحين ، و «لدن»
بغدوة ، و «جاءت» بحاجتك في قولهم «ما جاءت حاجتك» فإن لات لا تعمل إلّا في الحين
، ولدن لا تنصب إلا غدوة ، وجاءت لا تنصب إلا حاجتك ، كأنهم قالوا : ما صارت حاجتك
، أو كانت حاجتك ، وأدخلوا التاء على ما إذ كان ما هو الحاجة كما قال بعضهم «من كانت أمّك» فنصب
الأم وأنث من حيث أوقعها على مؤنث ؛ ولأن هذا الاسم علم فجاز أن يختص بما لا يكون
في غيره ؛ لأن الأسماء الأعلام كثيرا ما يعدل ببعضها عن قياس الكلام ، ألا ترى
أنهم قالوا «موهب ، ومورق» ففتحوا العين وقياسها أن تكسر ، وكذلك قالوا : «حيوة»
بالواو وإن كان قياسها أن تكون بالياء ، وكذلك قالوا «مزيد ، ومكوزة ، ومدين»
فصححوا وإن كان القياس أن يعلوّا ؛ لأن ما كان من الأسماء على مفعل أو مفعل ؛ فإنه
يعتل لمجيئة على وزن الفعل وفصل الميم له من أمثلته ، وكذلك [١٧٤] قالوا «محبب»
بغير إدغام وإن كان القياس الإدغام ، وكذلك قالوا «العجّاج ، والحجّاج» بإمالة
الألف وإن كان قياسها أن لا تمال ؛ لعدم شرط الإمالة من الياء والكسرة ، وهذا لأن
من كلامهم أن يجعلوا الشيء في موضع على غير حاله في سائر الكلام : إما لكثرة
الاستعمال ، أو تنبيه على أصل ، أو غير ذلك.
وأما احتجاجهم
بما حكى يونس أن من العرب من يقول «مررت برجل صالح إلا صالح فطالح» أي «إلا أكن
مررت برجل صالح فقد مررت بطالح» قلنا : هذا لغة قليلة الاستعمال بعيدة عن القياس ؛
فلا يجوز أن يقاس عليها : أما قلتها في الاستعمال فظاهر ؛ لأن أكثر العرب لا تتكلم
بها ، وإنما جاءت قليلة في لغة لبعض العرب ؛ وأما بعدها عن القياس فإنك تفتقر إلى
إضمار أشياء ، وحكم الإضمار أن يكون شيئا واحدا ، ألا ترى أنك إذا قلت «مررت برجل
صالح إلا صالح فطالح» تقديره : إلا أكن مررت بصالح [فقد مررت بطالح] فتفتقر إلى
أشياء ، وذلك بعيد عن القياس ، وهذا شبيه بقول النحويين «ما مررت بزيد فكيف أخيه»
ويقول الرجل : جئتك بدرهم ، فيقول المجيب «فهلا دينار» وهذا كله رديء لا تتكلم به
العرب.
__________________
وأما ما روي عن
رؤبة من قوله «خير عافاك الله ، أي : بخير» فهو من الشاذ الذي لا يعتد به لقلته
وشذوذه ، وكذلك جميع ما استشهدوا به من الأبيات وقد أجبنا عنها في مواضعها بما
يغني عن الإعادة.
وأما إضمار ربّ
بعد الواو والفاء وبل ـ وهي حروف جر ـ فإنما جاز ذلك لأن هذه الأحرف صارت عوضا
عنها دالة عليها ، فجاز حذفها ، وما حذف وفي اللفظ على حذفه دلالة أو حذف إلى عوض
وبدل ؛ فهو في حكم الثابت ، وقد بيّنا ذلك مستقصى في موضعه ، بخلاف هاهنا ، فإنكم
جوزتم حذف حرف القسم ولا دلالة في اللفظ على حذفه ولا إلى عوض وبدل ، فبان الفرق
بينهما ، والله أعلم.
٥٨
مسألة
[اللام الداخلة على المبتدأ ، لام الابتداء أو لام جواب القسم؟]
ذهب الكوفيون
إلى أن اللام في قولهم «لزيد أفضل من عمرو» جواب [١٧٥] قسم مقدّر ، والتقدير :
والله لزيد أفضل من عمرو ، فأضمر اليمين اكتفاء باللام منها ، وذهب البصريون إلى
أن اللام لام الابتداء.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن هذه اللام جواب القسم وليست لام الابتداء أن
هذه اللام يجوز أن يليها المفعول الذي يجب له النصب. وذلك نحو قولهم «لطعامك زيد
آكل» فلو كانت هذه اللام لام الابتداء لكان يجب أن يكون ما بعدها مرفوعا ، ولما
كان يجوز أن يليها المفعول الذي يجب أن يكون منصوبا.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنها لام الابتداء أنها إذا دخلت على المنصوب
بظننت أوجبت له الرفع وأزالت عنه عمل ظننت ، تقول : ظننت زيدا قائما ، فإذا أدخلت
على زيد اللام قلت : ظننت لزيد قائم ، فأوجبت له الرفع بالابتداء بعد أن كان
منصوبا ؛ فدل على أنها لام الابتداء.
قالوا : ولا
يجوز أن يقال «إن الظن محمول على القسم ؛ فاللام جواب القسم ، كقولهم : والله لزيد
قائم ، لا لام الابتداء ، فإذا كانت جواب القسم فحكمها أن تبطل عمل ظننت ؛ فلهذا
وجب أن يرفع زيد بما بعده ، لا بالابتداء ، وهذا لأن حكم لام القسم في كل موضع أن
لا يعمل ما قبلها فيما بعدها ، ولا ما بعدها فيما قبلها ؛ لأن ما بعدها من الكلام
محلوف عليه ؛ فلو جعل شيء منه قبلها لزال منه معنى الحلف عليه» لأنا نقول : لا
يجوز أن يكون الظن قسما ، لأنه إنما نقسم بالشيء في العادة إذا كان عظيما عند
الحالف ، كقوله «والله ، والقرآن ، والنبي ، وأبي» وما أشبه ذلك مما يحلف به أهل
الجاهلية والإسلام ، ومعنى الظن خارج عن هذا المعنى.
فأما قولهم «جير
لأذهبنّ ، وعوض لأقومن ، وكلّا لأنطلقن» فإنما أقسموا بها لأنهم أجروها مجرى حق ،
والحق معظّم في النفوس ، بخلاف الظن الذي فيه معنى الشك ، وجير بمعنى نعم ، قال
الشاعر :
[٢٥٧] إنّ
الّذي أغناك يغنيني جير
|
|
والله نفّاح
اليدين بالخير
|
وعوض بمعنى
الدهر ، قال الشاعر :
[٢٥٨] رضيعي
لبان ثدي أمّ تحالفا
|
|
بأسحم داج عوض
لا نتفرّق
|
______________________________________________________
[٢٥٧] هذان
بيتان من مشطور الرجز ، والذي يؤخذ من كلام أهل اللغة أن «جير» تأتي على وجهين :
أولهما : أن تكون حرف جواب كأجل ، ومعناهما نعم ، وعليه جاء قول الراجز :
قالت : أراك
هاربا للجور
|
|
من هدة
السلطان ، قلت : جير
|
وهي في هذا
الوجه مبنية إما على الكسر كما هو الأصل في التخلص من التقاء الساكنين ، وإما على
الفتح للتخفيف مثل أين وكيف ، والوجه الثاني : أن تكون بمعنى اليمين ، يقال : جير
لا أفعل كذا ، ولا جير لا أفعل ذلك ، قال الجوهري : «قولهم جير لا آتيك ـ بكسر
الراء ـ يمين للعرب ، ومعناها حقا» اه وأنكر ابن هشام في المغني الاستعمال الثاني
، قال (ص ١٢٠) : «جير ـ بالكسر على أصل التقاء الساكنين كأمس ، وبالفتح للتخفيف
كأين وكيف ـ حرف جواب بمعنى نعم ، لا اسم بمعنى حقا فتكون مصدرا ، ولا بمعنى أبدا
فتكون ظرفا ، وإلا لأعربت ودخلت عليها أل» اه. وفي كلام ابن هشام هذا مناقشة ؛
فإنه قطع بأنها لا تكون إلا حرف جواب بمعنى نعم ، ونفى أن تكون اسما بمعنى حقا
يستعمل في اليمين ، واستدل بأنها لو كانت اسما بمعنى حقا لوجب إعرابها وجاز دخول
أل عليها ، وكل ذلك غير مسلم له ، أولا : لأن أثبات العلماء قد نقلوا أن العرب تستعملها
بمعنى اليمين ، وقد استقر عند المحققين أن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وثانيا :
أنه لا يلزم من كونها تأتي اسما بمعنى حقا أن تعرب ، لأن لبنائها مع ذلك سببا
معترفا به ، وبهذا السبب نفسه بنيت بعض الأسماء ، وهذا السبب هو شبهها الحرف شبها
لفظيا ، فإن «جير» التي هي اسم بمعنى حقا أشبهت «جير» التي هي حرف جواب ، كما أن «حاشا»
التنزيهية بنيت لشبهها حاشا الحرفية شبها لفظيا ، ولم يلزم من كونها بمعنى تنزيها
أن تعرب ولا أن تدخلها أل ، وأيضا «ما» التي هي نكرة بمعنى شيء لم يلزم من أن تكون
بمعنى اسم تدخل عليه أل أن تكون هي بحيث تدخل عليها أل ، وقول الراجز المستشهد
بكلامه «والله نفاح اليدين بالخير» مأخوذ من قولهم «نفحه بشيء» أي أعطاه ، و «نفحه
بالمال نفحا» أعطاه ، وفي الحديث «المكثرون هم المقلون إلا من نفح فيه يمينه
وشماله» أي ضرب يديه فيه بالعطاء. وقال الشاعر ، وهو ابن ميادة الرماح بن أبرد
يمدح الوليد بن يزيد :
لما أتيتك
أرجو فضل نائلكم
|
|
نفحتني نفحة
طابت لها العرب
|
[٢٥٨] هذا البيت من قصيدة الأعشى
ميمون بن قيس التي مدح بها المحلق فرفع من شأنه ، ومطلعها :
أرقت ، وما
هذا السهاد المؤرق؟
|
|
وما بي من
سقم ، وما بي معشق
|
والبيت
المستشهد به من شواهد رضي الدين في باب الظروف من شرح الكافية ، وقد شرحه
[١٧٦] وفي عوض
ثلاث لغات : عوض بالضم ، وعوض بالفتح ، وعوض بالكسر ، وكلّا بمعنى حقّا ، قال
الشاعر :
[٢٥٩] أليس
قليلا نظرة إن نظرتها
|
|
إليك؟ وكلّا
ليس منك قليل
|
______________________________________________________
البغدادي في
الخزانة (٣ / ٢٠٩) وشواهد الزمخشري في المفصل وابن يعيش في شرحه (س ٥٥٩) وابن هشام
في مغني اللبيب (رقم ٢٤٦) وابن جني في الخصائص (١ / ٢٦٥ الدار) وأنشده ابن منظور (ع
وض ـ س ح م) وانظر القصيدة في ديوان الأعشى (ص ١٤٥ فينا).
واللبان ـ بكسر
اللام بزنة الكتاب ـ هو اللبن ، فإن لم تنوّنه فهو مضاف إلى ثدي أم ، وإن نوّنته
جررت ثدي أم على البدل أو نصبته على البدل أيضا باعتبار موضع اللبان لأنه في
المعنى مفعول به لرضيعي ، أو نصبته بتقدير أعني أو نحوه ، وقوله «تحالفا» يروى
مكانه «تقاسما» أي حلف كل منهما وأقسم ، أو عقدا محالفة بينهما ، والأسحم الذي
تحالفا عليه : يقال هو الدم ، وكان من عادتهم أن يغمسوا أيديهم في الدم عند ما
يتحالفون ، ويقال : هو الرحم ، ويقال : هو حلمة الثدي ، ويقال : هو الليل ، و «عوض»
يأتي ظرفا لما يستقبل من الزمان مبنيا على الضم في محل نصب ، تقول : لا أكلمك عوض
يا فتى ، تريد لا أكلمك أبدا ، ويأتي بمعنى القسم ، تقول : لا أفعل هذا عوض ، تحلف
بالدهر والزمان ، وهذا المعنى هو الذي أراده المؤلف هنا. قال ابن يعيش «أما عوض
فهو اسم من أسماء الدهر ، وهو للمستقبل من الزمان ، كما أن قط للماضي ، وأكثر
استعماله في القسم ، تقول : عوض لا أفارقك ، أي لا أفارقك أبدا ، كما تقول : قط ما
فارقتك ، وعوض مبنية لقطعها عن الإضافة ، وفيها لغتان : الفتح ، والضم ، فمن فتح
فطلبا للخفة ، ومن ضم فتشبيها بقبل وبعد ... فإن أضفته أعربته ، تقول : لا أفعله
عوض العائضين ، أي دهر الداهرين ، فيكون معربا ، وانتصابه على الظرف لا على حده في
:
* بأسحم داج عوض لا نتفرق*
وعوض من لفظ
العوض ومعناه ، وذلك أن الدهر لا يمضي منه جزء إلا ويخلفه جزء آخر ، فصار الثاني
كالعوض من الأول» اه.
وأغرب ابن
الكلبي فزعم أن «عوض» في بيت الأعشى اسم صنم كان لبكر بن وائل ، قال ابن هشام «واختلف
في قول الأعشى :
* بأسحم داج عوض لا نتفرق*
فقيل : ظرف
لنتفرق ، وقال ابن الكلبي : قسم ، وهو اسم صنم كان لبكر بن وائل ، بدليل قوله :
حلفت بمائرات
حول عوض
|
|
وأنصاب تركن
لدى السعير
|
والسعير : اسم
لصنم كان لعنزة ، ولو كان كما زعم لم يتجه بناؤه في البيت» اه.
[٢٥٩] هذا
البيت ثالث تسعة أبيات رواها أبو تمام في الحماسة (انظر شرح المرزوقي ص ١٣٤٠)
ونسبها لابن الطثرية ، واسمه يزيد بن سلمة بن سمرة ، والطثرية أمه ، نسبت إلى طثر
، وهو حي من اليمن. يقول : أليس قليلا نظرة منك إذا حصلت لي ، ثم استدرك على نفسه
ناقضا لما اعتقده ، فقال : كلا ، لا قليل منك ، ومثل هذا البيت في المعنى قول
الآخر :
هل إلى نظرة
إليك سبيل؟
|
|
فيروى الظما
ويشفى الغليل
|
وأما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن هذه اللام ليست لام الابتداء ؛ لأن الابتداء يوجب
الرفع ، وهذه اللام يجوز أن يليها المفعول الذي يجب له النصب ، نحو قولهم «لطعامك
زيد آكل» قلنا : الأصل في اللام هاهنا أن تدخل على زيد الذي هو المبتدأ ، وإنما
دخلت على المفعول الذي هو معمول الخبر لأنه لما قدّم في صدر الكلام وقع موقع
المبتدأ ؛ فجاز دخول اللام عليه ؛ لأن الأصل في هذه اللام أن تدخل على المبتدأ ،
فإذا وقع المفعول موقعه جاز أن تدخل هذه اللام عليه كما تدخل على المبتدأ ، وإذا
جاز دخول هذه اللام على معمول الخبر إذا وقع موقعه ، كقولك «إنّ زيدا لطعامك آكل»
وكقول الشاعر :
[٢٦٠] إنّ
امرأ خصّني عمدا مودّته
|
|
على التّنائي
لعندي غير مكفور
|
وإن كان الأصل
فيها أن تدخل ـ بعد نقلها عن الاسم ـ على الخبر لا على معموله ؛ لوقوعه موقعه ، فكذلك يجوز دخول هذه اللام على المفعول إذا وقع موقع
المبتدأ ، وإن كان الأصل فيها أن تدخل على المبتدأ ؛ لوقوعه موقعه ، والله أعلم.
______________________________________________________
إن ما قل منك
يكثر عندي
|
|
وكثير ممن
يحب القليل
|
وموطن
الاستشهاد بالبيت قوله «وكلا ليس منك قليل» فإن المؤلف قد ذهب إلى أن «كلا» في هذه
العبارة بمعنى حقا ، وهذا شيء قاله الكسائي ومتابعوه ، فأما سيبويه والخليل
والمبرد والزجاج وأكثر البصريين فقالوا : إن كلا حرف معناه الردع والزجر ، لا معنى
له عندهم إلا ذلك ، وقال الكسائي : قد يخرج «كلا» عن الردع والزجر فيكون بمعنى حقا
، وقال أبو حاتم ومتابعوه : قد يخرج كلا عن معنى الردع والزجر فيكون بمعنى «ألا»
الاستفتاحية ، وقال النضر بن شميل والفراء ومن تابعهما : قد يخرج كلا عن معنى
الردع والزجر فيكون حرف جواب بمعنى إي ونعم ، وحمل هؤلاء على ذلك قول الله تعالى :
(كَلَّا وَالْقَمَرِ) فقالوا : المراد ـ والله أعلم ـ إي والقمر.
[٢٦٠] هذا
البيت من كلام أبي زبيد الطائي من كلمة يمدح فيها الوليد بن عقبة ، ويصف نعمة
أنعمها عليه مع بعده وتنائيه عنه ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٢٨١) وابن هشام في
مغني اللبيب (رقم ٩٢٥) وقوله «خصني مودته» أراد أن يقول : خصني بمودته ، فحذف حرف
الجر ، وأوصل الفعل إلى المجرور بنفسه فنصبه ، والمكفور : اسم المفعول من قولهم «كفر
فلان النعمة» إذا جحدها ولم يقم بحقها من الشكر ، ومحل الاستشهاد في هذا البيت
قوله «لعندي غير مكفور» حيث أدخل لام الابتداء على الظرف ولم يدخلها على خبر إن ،
وأصلها أن تدخل على خبر إن أو اسمها المتأخر عن خبرها ، فأصل الكلام هنا : لغير
مكفور عندي.
__________________
٥٩
مسألة
[القول في أيمن في القسم ، مفرد هو أو جمع؟]
ذهب الكوفيون
إلى أن قولهم في القسم «أيمن الله» جمع يمين. وذهب البصريون إلى أنه ليس جمع يمين
، وأنه اسم مفرد مشتق من اليمن.
أما الكوفيون
فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن «أيمن» جمع يمين أنه على وزن أفعل ، وهو وزن
يختص به الجمع ، ولا يكون في المفرد ، يدل عليه أن التقدير في قولهم «أيمن الله»
أي : عليّ أيمن الله ، أي أيمان الله عليّ فيما أقسم به ، وهم يقولون في جمع يمين «أيمن»
قال زهير :
[٢٦١] فتجمع
أيمن منّا ومنكم
|
|
بمقسمة تمور
بها الدّماء
|
______________________________________________________
[٢٦١] هذا
البيت لزهير بن أبي سلمى كما قال المؤلف (الديوان ٧٨ ط الدار) وقد رواه ابن منظور (ق
س م ـ ى م ن) والأيمن : جمع يمين ، وأراد بقوله «فتجمع أيمن منا ومنكم» تحلفون
ونحلف ، وقوله «بمقسمة» هو بضم الميم وفتح السين بينهما قاف ساكنة ـ وهو الموضع
يحلف فيه عند الأصنام ، ويروى «بمقسمة» بفتح الميم ـ وأراد بها القسامة ، وأصل
القسامة ـ بزنة السحابة ـ أن يوجد رجل قتيلا فيجيء أولياؤه فيدعون على رجل أنه
قاتله ، ولا تكون لهم بينة كاملة ، أو يوجد القتيل في محلة قوم ولا بينة على أن
قاتله فلان منهم ، فيستحلف أولياء القتيل خمسين يمينا أن فلانا قتله ، أو أن هؤلاء
قتلوه ، فإن حلفوا استحقوا دية القتيل ، وإن أبوا أن يحلفوا حلف المدعى عليه
وبرىء. وعلى هذا يكون المعنى في بيت زهير : تؤخذ أيمان مثل الأيمان التي تؤخذ في
القسامة ، وتمار بها الدماء : أي تسيل ، والمراد دم البدن التي تنحر.
ومحل الاستشهاد
بالبيت قوله «أيمن» فإنه جمع يمين ، قال سيبويه : «وقالوا : يمين وأيمن ، وقالوا :
أيمان فكسروها على أفعال كما كسروها على أفعل» اه. وقد كسروا يمينا على يمن ـ بضم
الياء والميم جميعا ـ كما كسروا شمالا على شمل ، ومن ذلك قول زهير :
قد نكبت ماء
شرج عن شمائلها
|
|
وجو سلمى على
أركانها اليمن
|
__________________
وقال الأزرق
العنبري :
[٢٦٢] طرن
انقطاعة أوتار محظربة
|
|
في أقوس
نازعتها أيمن شملا
|
وقال الآخر :
[٢٦٣] * يأتي لها من أيمن وأشمل*
______________________________________________________
[٢٦٢] هذا
البيت من شواهد سيبويه (٢ / ١٩٤) وابن يعيش في شرح المفصل (ص ٦٣٣ و ٦٤٠) ورضي
الدين في شرح الشافية ، وشرحه البغدادي (ص ١٣٣ بتحقيقنا) وقد أنشده ابن منظور (ش م
ل) وكلهم نسبوه إلى الأزرق العنبري ، وهو يصف في هذا البيت طيرا ترن ، فشبه صوت
طيرانها بسرعة بصوت أوتار تقطعت عند الجذب والنزع عن القوس ، فقوله «انقطاعة»
مفعول مطلق يراد به التشبيه : أي طرن طيرانا ذا صوت يشبه صوت انقطاع أوتار محظربة
، والمحظربة :
المحكمة الفتل
، والأقوس : جمع قوس ، و «نازعتها أيمن شملا» يريد أن الأيمن تجذبها إلى ناحية ،
والأشمل تجذبها إلى ناحية أخرى ، فهما يتنازعان في جذبها ويتغالبان عليه.
والاستشهاد به
هنا في قوله «أيمن» فإنه جمع بمين ـ وهي اليد ـ فيدل ذلك على أن همزة «أيمن» همزة
قطع في الأصل ، ولكنها صيرت همزة وصل تخفيفا لكثرة الاستعمال.
[٢٦٣] هذا بيت
من الرجز المشطور ، وهو من كلام أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي ، وقد أنشده ابن
منظور (ى م ن) وسيبويه (٢ / ٤٧ و ١٩٥) وابن يعيش في شرح المفصل (ص ١٢٩١) ويروى :
* يبري لها من أيمن وأشمل*
وبرى يبري ـ مثل
رمى يرمي ـ أي تعرض ، والأيمن : جمع يمين ، وأراد جهة اليمين ، والأشمل : جمع شمال
، وأراد جهة الشمال.
قال ابن منظور
في تفسير بيت الشاهد : «يقول : يعرض لها من ناحية اليمين وناحية الشمال ، وذهب إلى
معنى أيمن الإبل وأشملها ، فجمع لذلك» اه.
ومحل الاستشهاد
بالبيت قوله «أيمن» فإن أيمنا هنا جمع يمين ، ويريد الكوفيون بالاستشهاد بهذه
الأبيات الثلاثة أن المعهود في لفظ أيمن أن يكون جمع يمين ، سواء أكان بمعنى الحلف
والقسم كما في البيت الأول من هذه الأبيات وهو بيت زهير (رقم ٢٦١) أم كان بمعنى
اليد اليمنى كما في البيتين الثاني والثالث وهما بيت الأزرق وبيت أبي النجم (رقم
٢٦٢ و ٢٦٣) ولم يعرف أيمن مفردا ، بل لم يعرف مفرد آخر على وزن أفعل ـ بضم العين ـ
وهمزة أفعل الجمع همزة قطع كأكلب وأقوس وأرهط وأفلس وما أشبه ذلك ، وإنما صيرت
الهمزة في أيمن المراد به الحلف همزة وصل لكثرة الاستعمال ، ولهذا تجدها مفتوحة
على ما كانت عليه وهي همزة قطع ، وعلى خلاف المعهود في همزة الوصل من أنها مكسورة.
قال ابن يعيش : «وذهب الكوفيون إلى أن همزته همزة قطع ، وأنه جمع لا مفرد ، وهو
جمع يمين ، كما قال العجلي :
* يبري لها من أيمن وأشمل*
وسقطت همزته في
الوصل لكثرة الاستعمال» اه ، وسيأتي في شرح الشاهد الآتي بيان حجة البصريين.
والأصل في همزة
أيمن أن تكون همزة قطع ؛ لأنه جمع ، إلا أنها وصلت لكثرة الاستعمال ؛ وبقيت فتحتها
على ما كانت عليه في الأصل ، ولو كانت ـ على ما زعمتم ـ في الأصل همزة وصل لكان
ينبغي أن تكون مكسورة على حركتها عندكم في الأصل. والذي يدل على أنها ليست همزة
وصل أنها ثبتت في قولهم «أم الله لأفعلنّ» فتدخل الهمزة على الميم وهي متحركة ،
ولو كانت همزة وصل لوجب أن تحذف لتحرك ما بعدها.
وأما البصريون
فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه مفرد وليس بجمع يمين لأنه لو كان جمع يمين لوجب
أن تكون همزته همزة قطع ، فلما وجب أن تكون همزته همزة وصل دلّ على أنه ليس بجمع
يمين ، قال الشاعر :
[٢٦٤] وقد
ذكرت لي بالكثيب مؤالفا
|
|
قلاص سليم أو
قلاص بني بكر
|
______________________________________________________
[٢٦٤] هذان
البيتان من كلام نصيب بن رباح ، وقد أنشد ثانيهما سيبويه (٢ / ١٤٧) وابن يعيش (ص
١٢٦٠) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ١٤٢) وابن جني في شرح تصريف المازني (١ / ٥٨)
وفي سر صناعة الإعراب (١ / ١٢٠) وابن منظور (ى م ن) والخطيب القزويني في الإيضاح (رقم
٤٨٠ بتحقيقا) وصف نصيب أنه تعرض لزيارة من يحب ، فتعلل بأنه ينشد إبلا ضلت له
مخافة أن ينكر عليه مجيئه وإلمامه بهم ، ومعنى «نشدتهم» سألتهم ، يقال «نشد فلان
الضالة» إذا سأل عنها ، ويقال «أنشد فلان الضالة» إذا عرفها. ومحل الاستشهاد قوله «لا
يمن الله» حيث ورد بهمزة وصل ؛ فدل ذلك على أن «أيمن» مفرد وليس بجمع ؛ إذ لو كان
جمعا لكانت همزته همزة قطع كالهمزة في أرهط وأكلب وأرؤس وأفؤس ونحو ذلك ، قال
سيبويه : «وزعم يونس أن همزة ايم موصولة ، وكذلك تفعل بها العرب ، وفتحوا الألف
كما فتحوا الألف التي في الرجل ، وكذلك أيمن ، قال الشاعر :
* فقال فريق القوم لما نشدتهم ـ البيت*
اه كلامه.
قال الأعلم : «الشاهد
في حذف ألف أيمن ؛ لأنها ألف وصل عنده ، فتحت لدخولها على اسم لا يتمكن في الكلام
، إنما هو مخصوص بالقسم مضمن معناه» اه.
وقال ابن هشام
: «أيمن المختص بالقسم : اسم ، لا حرف ، خلافا للزجاج والرماني ، مفرد مشتق من
اليمن وهو البركة ، وهمزته وصل ، لا جمع يمين وهمزته قطع ، خلافا للكوفيين ويرد
مذهب الكوفيين جواز كسر همزته وفتح ميمه ، ولا يجوز مثل ذلك في الجمع من نحو أفلس
وأكلب ، وقول نصيب :
* فقال فريق القوم لما نشدتهم*
البيت.
فحذف ألفها في
الدرج ، ويلزمه الرفع بالابتداء ، وحذف الخبر ، وإضافته إلى اسم الله سبحانه
وتعالى ، خلافا لابن درستويه في إجازة جره بحرف القسم ، ولابن مالك في جواز إضافته
إلى الكعبة ولكاف الضمير ، وجوز ابن عصفور كونه خبرا والمحذوف مبتدأ ، أي قسمي
أيمن الله» اه ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلى وأعلم وأعز وأكرم.
فقال فريق
القوم لمّا نشدتهم :
|
|
نعم ، وفريق
: ليمن الله ما ندري
|
ويدل عليه أنهم
قالوا في أيمن الله «م الله» ولو كان جمعا لما جاز حذف جميع حروفه إلا حرفا واحدا
؛ إذ لا نظير له في كلامهم ، فدلّ على أنه ليس بجمع ، فوجب أن يكون مفردا.
وأما ما ذكروه
من كونها همزة وصل لكثرة الاستعمال فسنبيّن أنه حجّة عليهم في الجواب عن كلماتهم ،
إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن
كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنه جمع يمين ، بدليل أنه على وزن أفعل ، وأفعل وزن
يختص به الجمع ، ولا يكون في المفرد» قلنا : لا نسلّم ؛ بل قد جاء ذلك في المفرد ؛
فإنهم قالوا : رصاص آنك ، وهو الخالص ، وقالوا «أسنمة» اسم موضع وأكمة ، و «أشدّ»
على الصحيح ، وهو منتهى [١٧٨] الشباب والقوة ، وقيل : هو الحلم ، وقيل : عشرون سنة
، وقيل : ثلاث وثلاثون سنة ، وقيل : أربعون سنة.
وقولهم «الأصل
في الهمزة أن تكون همزة قطع لأنه جمع يمين» قلنا : لو كانت الهمزة فيه همزة قطع
لما جاز فيه كسر الهمزة فقيل «إيمن الله» لأن ما جاء من الجمع على وزن أفعل لا
يجوز فيه كسر الهمزة ، فلما جاز هاهنا بالإجماع كسر الهمزة دل على أنها ليست همزة
قطع.
وأما قولهم «إنها
لو كانت همزة وصل لكان ينبغي أن تكون مكسورة» قلنا : إنما جاءت مفتوحة ـ وإن كان
القياس يقتضي أن تكون مكسورة ـ لأنهم لما كثر استعماله في كلامهم فتحوا فيه الهمزة
لأنها أخف من الكسرة كما فتحوا الهمزة التي تدخل على لام التعريف ـ وإن كان الأصل
فيها الكسر ـ لكثرة الاستعمال ، فكذلك هاهنا.
وأما قولهم «إن
الهمزة ثبتت في قولهم أم الله لأفعلنّ مع تحرك ما بعدها» قلنا : إنما ثبتت الهمزة
فيه من وجهين ؛ أحدهما : أن الأصل في الكلمة «أيمن» فالهمزة داخلة على الياء وهي
ساكنة ، فلما حذفت ـ وحذفها غير لازم ـ بقي حكمها. والثاني : أن حركة الميم حركة
إعراب ، وليست لازمة وتسقط في الوقف ؛ فلذلك ثبتت همزة الوصل.
والدليل على
ذلك أن العرب تقول في الأحمر : «ألحمر» فلا يحذفون همزة الوصل ؛ لأن حركة اللام
ليست بلازمة ، وبعض العرب يحذفون الهمزة لتحرك ما بعدها ، على أن من العرب من يقول
«م الله» فيحذف الهمزة ، وفيها لغات كثيرة تنيف على عشر لغات : أيمن الله ، وإيمن
الله ، وأيم الله ، وإيم الله ، وأم الله ، وم
الله ، وم الله ، وم الله ، وليمن الله ، ومن الله ، ومن ربّي ، ومن ربّي. و
«من» لا تدخل إلا على «ربّ» وحده ، ولا تدخل على غيره ، كما لا تدخل التاء إلا على
الله في «تالله». والله أعلم.
تم الجزء الأول من كتاب «الإنصاف ، في مسائل الخلاف»
لأبي البركات الأنباري
ويليه ـ إن شاء الله تعالى ـ الجزء الثاني منه مفتتحا بالمسألة
(٦٠ ـ القول في الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف والجار والمجرور)
،
نسأل الله تعالى أن يعين على إكماله بمنه وكرمه وفضله.
الفهرس العام
فهرس
المحتويات
١ ـ مسألة : الاختلاف
في أصل اشتقاق الاسم................................... ٨
٢ ـ مسألة : الاختلاف
في إعراب الأسماء الستة.................................. ١٧
٣ ـ مسألة : القول في
إعراب المثنى والجمع على حدّه.............................. ٢٩
٤ ـ مسألة : هل يجوز
جمع العلم المؤنث بالتاء جمع المذكر السالم؟.................. ٣٤
٥ ـ مسألة : القول في
رافع المبتدأ ورافع الخبر..................................... ٣٨
٦ ـ مسألة : في رافع
الاسم الواقع بعد الظرف والجار والمجرور....................... ٤٤
٧ ـ مسألة : القول في
تحمّل الخبر الجامد ضمير المبتدأ............................. ٤٨
٨ ـ مسألة : القول في
إبراز الضمير إذا جرى الوصف على غير صاحبه............. ٥٠
٩ ـ مسألة : القول في
تقديم الخبر على المبتدأ.................................... ٥٦
١٠ ـ مسألة : القول في
العامل في الاسم المرفوع بعد لو لا......................... ٦٠
١١ ـ مسألة : القول في
عامل النّصب في المفعول................................. ٦٦
١٢ ـ مسألة : القول في
ناصب الاسم المشغول عنه............................... ٦٩
١٣ ـ مسألة : القول في
أولى العاملين بالعمل في التنازع........................... ٧١
١٤ ـ مسألة : القول في
نعم وبئس ، أفعلان هما أم اسمان؟........................ ٨١
١٥ ـ مسألة : القول في
«أفعل» في التعجب ، اسم هو أو فعل؟................. ١٠٤
١٦ ـ مسألة : القول في
جواز التعجب من البياض والسواد ، دون غيرهما من الألوان. ١٢٠
١٧ ـ مسألة : القول في
تقديم خبر «ما زال» وأخواتها عليهن..................... ١٢٦
١٨ ـ مسألة : القول في
تقديم خبر «ليس» عليها.............................. ١٣٠
١٩ ـ مسألة : القول في
العامل في الخبر بعد «ما» النافية النّصب................. ١٣٤
٢٠ ـ مسألة : القول في
تقديم معمول خبر «ما» النافية عليها.................... ١٤٠
٢١ ـ مسألة : القول في
تقديم معمول الفعل المقصور عليه........................ ١٤١
٢٢ ـ مسألة : القول في
رافع الخبر بعد «إنّ» المؤكدة............................ ١٤٤
٢٣ ـ مسألة : القول في
العطف على اسم «إنّ» بالرفع قبل مجيء الخبر............ ١٥١
٢٤ ـ مسألة : القول في
عمل «إن» المخففة النّصب في الاسم................... ١٥٩
٢٥ ـ مسألة : القول في
زيادة لام الابتداء في خبر لكنّ.......................... ١٦٩
٢٦ ـ مسألة : القول في
لام «لعل» الأولى ، زائدة هي أو أصلية؟................. ١٧٧
٢٧ ـ مسألة : القول في
تقديم معمول اسم الفعل عليه........................... ١٨٤
٢٨ ـ مسألة : القول في
أصل الاشتقاق ، الفعل هو أو المصدر؟.................. ١٩٠
٢٩ ـ مسألة : القول في
عامل النّصب في الظرف الواقع خبرا..................... ١٩٧
٣٠ ـ مسألة : القول في
عامل النصب في المفعول معه........................... ٢٠٠
٣١ ـ مسألة : القول في
تقديم الحال على الفعل العامل فيها...................... ٢٠٣
٣٢ ـ مسألة : هل يقع
الفعل الماضي حالا..................................... ٢٠٥
٣٣ ـ مسألة : ما يجوز
من وجوه الإعراب في الصفة الصالحة للخبرية إذا وجد معها ظرف مكرر ٢١٠
٣٤ ـ مسألة : القول في
العامل في المستثنى النّصب.............................. ٢١٢
٣٥ ـ مسألة : هل تكون «إلا»
بمعنى الواو؟................................... ٢١٦
٣٦ ـ مسألة : هل يجوز
تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام؟................... ٢٢٢
٣٧ ـ مسألة : حاشى في
الاستثناء ، فعل أو حرف أو ذات وجهين............... ٢٢٦
٣٨ ـ مسألة : هل يجوز
بناء «غير» مطلقا؟................................... ٢٣٣
٣٩ ـ مسألة : هل تكون «سوى»
اسما أو تلزم الظرفية؟......................... ٢٣٩
٤٠ ـ مسألة : «كم»
مركّبة أو مفردة؟........................................ ٢٤٣
٤١ ـ مسألة : إذا فصل
بين «كم» الخبرية وتمييزها فهل يبقى التمييز مجرورا؟....... ٢٤٧
٤٢ ـ مسألة : هل تجوز
إضافة النّيّف إلى العشرة............................... ٢٥٢
٤٣ ـ مسألة : القول في
تعريف العدد المركّب وتمييزه............................. ٢٥٥
٤٤ ـ مسألة : القول في
إضافة العدد المركّب إلى مثله............................ ٢٦٣
٤٥ ـ مسألة : المنادى
المفرد العلم ، معرب أو مبنيّ؟............................. ٢٦٤
٤٦ ـ مسألة : القول في
نداء الاسم المحلّى بأل................................. ٢٧٤
٤٧ ـ مسألة : القول في
الميم في «اللهمّ» أعوض من حرف النداء أم لا؟.......... ٢٧٩
٤٨ ـ مسألة : هل يجوز
ترخيم المضاف بحذف آخر المضاف إليه؟................ ٢٨٤
٤٩ ـ مسألة : هل يجوز
ترخيم الاسم الثلاثي؟................................. ٢٩٢
٥٠ ـ مسألة : ترخيم
الرباعي الذي ثالثه ساكن................................ ٢٩٦
٥١ ـ مسألة : القول في
ندبة النكرة والأسماء الموصولة؟.......................... ٢٩٨
٥٢ ـ مسألة : هل يجوز
إلقاء علامة الندبة على الصفة؟......................... ٣٠٠
٥٣ ـ مسألة : اسم لا
المفرد النكرة ، معرب أو مبنيّ؟............................ ٣٠٢
٥٤ ـ مسألة : هل تقع «من»
لابتداء الغاية في الزمان؟.......................... ٣٠٦
٥٥ ـ مسألة : واو ربّ
، هل هي التي تعمل الجر؟.............................. ٣١١
٥٦ ـ مسألة : القول في
إعراب الاسم الواقع بعد «مذ» و «منذ»................ ٣١٦
٥٧ ـ مسألة : هل يعمل
حرف القسم محذوفا بغير عوض؟...................... ٣٢٥
٥٨ ـ مسألة : اللام
الداخلة على المبتدأ ، لام الابتداء أو لام جواب القسم؟....... ٣٣٠
٥٩ ـ مسألة : القول في
أيمن في القسم ، مفرد هو أو جمع؟...................... ٣٣٤
|