

دليل الكتاب
مقدّمة الناشر................................................................................. ٧
مقدّمة المحقّق.................................................................................. ٩
المدخل..................................................................................... ١٩
المقدّمة..................................................................................... ٢٥
المقصد الأوّل : مباحث الألفاظ
الباب الأوّل : المشتقّ....................................................................... ٦٦
الباب الثاني : الأوامر........................................................................ ٧٤
الباب الثالث : النواهي.................................................................... ١١٥
الباب الرابع : المفاهيم..................................................................... ١٢٠
الباب الخامس : العامّ والخاصّ.............................................................. ١٥١
الباب السادس : المطلق والمقيّد............................................................. ١٨٣
الباب السابع : المجمل والمبيّن............................................................... ٢٠٦
المقصد الثاني : الملازمات العقليّة
الباب الأوّل : المستقلاّت العقليّة........................................................... ٢٢٣
الباب الثاني : غير المستقلاّت العقليّة........................................................ ٢٤٩
المقصد الثالث : مباحث الحجّة
تمهيد..................................................................................... ٣٦٣
المقدّمة................................................................................... ٣٦٦
الباب الأوّل : الكتاب العزيز.............................................................. ٤٠٩
الباب الثاني : السنّة....................................................................... ٤١٧
الباب الثالث : الإجماع.................................................................... ٤٥١
الباب الرابع : الدليل العقليّ............................................................... ٤٧٣
الباب الخامس : حجّيّة الظواهر............................................................. ٤٨٧
الباب السادس : الشهرة................................................................... ٥٠٧
الباب السابع : السيرة.................................................................... ٥١٣
الباب الثامن : القياس..................................................................... ٥١٩
الباب التاسع : التعادل والتراجيح.......................................................... ٥٤٣
المقصد الرابع : مباحث الأصول العمليّة
الاستصحاب.............................................................................. ٦٠٢
الفهارس العامة
١ ـ فهرس الآيات الكريمة................................................................ ٦٦١
٢ ـ فهرس الأحاديث.................................................................... ٦٦٤
٣ ـ فهرس الأعلام....................................................................... ٦٦٦
٤ ـ فهرس الكتب الواردة................................................................ ٦٦٩
٥ ـ مصادر التحقيق...................................................................... ٦٧٠
٦ ـ فهرس الموضوعات................................................................... ٦٧٨
مقدّمة
الناشر
يعتبر آية الله
الشيخ محمد رضا المظفّر (قدّس الله سرّه الشريف) من العلماء الأفذاذ في مجال
الإبداع والتجديد ، فقد سعى رحمهالله لوضع أسس جديدة لبناء منهج حديث في الحوزة العلمية ،
يتلاءم ومتطلّبات الحياة العصرية.
وكلّ من عرف
العلاّمة المظفّر أو عاصره أو تتلمذ عليه يقرأ في شخصيّته عنصري الجدة والحداثة ،
محاولة تقديم تصوّر عن الإسلام بأساليب جديدة ، كإنشاء كلّية منتدى النشر ، التي
وضع البذرة الأولى لها وراح يتعاهدها ويسقيها ومن فكره النيّر وذهنه الوقّاد ،
وتخرّج منها جيل صالح من العلماء والأدباء والمفكّرين.
إنّ من أهمّ
نتاجاته رحمهالله في رفد المناهج الدراسية للحوزة العلمية كتابي : المنطق
وعلم أصول الفقه ، واللذين احتلاّ محلّ الصدارة في الجامعات الدينيّة ، بل
والأكاديميّة أيضا ، حيث لا زال هذا الكتاب محافظا على نظارته وجدته.
ومن البديهي أنّ
أسلوب هذين الكتابين يشكّل قاعدة رصينة وأساسا محكما لصياغة مناهج جديدة على
غرارهما تفي بحاجة الدارسين والباحثين ، ونظرا لعدم توفّر البديل المناسب لهما
ارتأينا أن نجدّد طباعة كتاب أصول الفقه ، الذي طبع مرارا في مؤسسات مختلفة ،
ومنها مركزنا ـ مركز النشر ـ إلاّ أنّ كل هذه الطبعات لا تخلو من الأخطاء المطبعية
، مضافا إلى عدم ذكر مآخذ الكتاب ، وعدم ضبطه من جهة قواعد اللغة العربية ، الأمر
الذي دعا الفاضل المحترم حجّة الإسلام عباس علي زارعي إلى أن ينهض بمسئولية تحقيق
الكتاب ، خصوصا وأنّه قد درّسه على شكل دورات مختلفة في الحوزة العلمية ، واستفاد
من كثير من النسخ المصحّحة لأساتيذ آخرين ، فعمل على تصحيح الكتاب وإزاحة الأخطاء
المسلّم بها ، والاهتمام بالجانب الأدبي منه ، مع ذكر المصادر التي استمدّ المؤلّف
وأخذ منها.
كما لا يفوتنا أن
نشير إلى دور الفاضل حجّة الإسلام الشيخ نعمة الله جليلي الذي ضبط نصّ الكتاب
وراجعه وكذلك إلى دور الشيخين الفاضلين : أحمد عابدي ورضا مختاري اللذين اطّلعا
على الكتاب و
أفادانا ببعض
الملاحظات النافعة.
ونودّ الإشارة إلى
أنّ هذا الكتاب لا زال يعتبر من أهمّ الكتب للمراحل الأولى في دراسة السطوح
العالية في جامعاتنا الدينية ما دام لم يطرح ما هو أفضل منه.
فسلام على تلك
الروح المقدّسة التي جاهدت في الله فأنارت وخلّفت لنا هذا التراث العظيم فأضاءت ،
وسلام على المظفّر يوم ولد ويوم التحق بركب السعداء ويوم يبعث حيّا ، والحمد لله
أولا وآخرا.
|
مؤسسة
بوستان كتاب
(مركز
الطباعة والنشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي
في
الحوزة العلميّة بقم المقدّسة)
|
مقدّمة
المحقّق
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ
العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمّد صلىاللهعليهوآله وآله الطاهرين المعصومين عليهمالسلام.
ينبغي تقديم
مقدّمة ، وفيها ثلاثة فصول :
الفصل الأوّل :
علم الأصول وتطوّره التأريخيّ
ويمكن تقسيم تأريخ
علم الأصول إلى ثلاث دورات :
الدورة الأولى :
دورة التأسيس
أوّل من أسّس علم
أصول الفقه وفتح بابه ورسّخ قواعده هو الإمام الهمام أبو جعفر الباقر عليهالسلام ، ثمّ ابنه الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق عليهالسلام ، كما قال العلاّمة السيّد حسن الصدر في كتاب «تأسيس الشيعة» : «أوّل من أسّس أصول الفقه وفتح بابه وفتق مسائله الإمام
أبو جعفر الباقر عليهالسلام ، ثمّ بعده ابنه الإمام أبو عبد الله الصادق عليهالسلام. وقد أمليا أصحابهما قواعده ، وجمعوا من ذلك مسائل رتّبها المتأخّرون على
ترتيب المصنّفين فيه بروايات مسندة إليهما».
ويشهد على ذلك ما
في كتب الحديث من الروايات التي ترتبط بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط ،
كأصل البراءة والاستصحاب وحجيّة الظاهر ، وغيرها من القواعد الأصوليّة.
وقد صنّف بعض
المتأخّرين كتبا فيها الأحاديث المأثورة عنهم في قواعد الفقه :
منها : كتاب : «أصول آل الرسول صلىاللهعليهوآله» في استخراج أبواب أصول الفقه من الروايات ، ألّفه العلاّمة السيّد الشريف
ميرزا محمّد هاشم ابن الميرزا زين العابدين الموسوي الخوانساريّ ، المتوفّى سنة
١٣١٨ ه.
__________________
ومنها : كتاب «الأصول الأصليّة
والقواعد المستنبطة من الآيات والأخبار المرويّة» للعلاّمة السيد عبد الله بن محمّد الرضا شبّر الحسينيّ
الكاظميّ ، المتوفّى سنة ١٢٤٢ ه.
ومنها : بحار
الأنوار ، ج ٢.
الدورة الثانية :
دورة التدوين
اعلم أنّ علم
الأصول وإن أسّس في عصر الإمامين الصادقين عليهماالسلام ـ كما أشرنا ـ ولكنّه لم يكن مدوّنا. وفي أوّل من قام
بتدوينه خلاف :
قال السيوطيّ في
محكيّ كتاب «الأوائل» : «أوّل من صنّف في أصول الفقه ، الإمام الشافعي» . وصرّح بذلك صاحب «كشف الظنون».
وقيل : يحتمل أن
يكون أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم الذي كان سابقا على الشافعي. قال ابن خلّكان : «هو
أوّل من وضع الكتاب في أصول الفقه على مذهب [أستاذه] أبي حنيفة».
وقيل : يحتمل أن
يكون محمّد بن الحسن الشيبانيّ فقيه العراق ؛ لأنّه توفّي سنة ١٨٢ ه أو سنة ١٨٩ ه
، والشافعيّ مات في سنة ٢٠٤ ه. وقد صرّح ابن النديم في «الفهرست» بأنّ للشيبانيّ من مؤلّفاته الكثيرة تأليف سمّي بـ «أصول الفقه».
ولكن التحقيق ـ كما
يظهر من كتاب «تأسيس
الشيعة» للعلاّمة السيد حسن الصدر ـ أنّ أوّل من صنّف في بعض مسائل علم الأصول هشام
بن الحكم المتوفّى سنة ١٧٩ ه ، تلميذ الإمام الصادق عليهالسلام ، صنّف كتاب «الألفاظ ومباحثها» ، ثمّ يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين تلميذ الإمام
الكاظم عليهالسلام ، صنّف كتاب «اختلاف الحديث ومسائله».
الدورة الثالثة :
دورة الاستناد
ثمّ جاءت الدورة
الثالثة ، وهي دورة الاستناد إلى قواعد أصول الفقه في مقام الاستنباط وهذه الدورة
لا تتقدّم على الغيبة الكبرى.
وأوّل من استند
إلى أصول الفقه واعتمد عليه في مقام الاستنباط الشيخ الجليل حسن بن علي بن أبي
عقيل صاحب كتاب «المستمسك
بحبل آل الرسول» ، وهو من مشايخ جعفر بن محمّد بن قولويه. وهو
__________________
أوّل من هذّب
الفقه واستعمل النظر ، وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى.
ثمّ اقتفى أثره
ابن الجنيد المعروف بالإسكافيّ ، وهو أستاذ الشيخ المفيد.
ثمّ وصل الدور إلى
محمّد بن محمّد بن نعمان بن عبد السلام المعروف بـ «الشيخ المفيد» ، فألّف كتاب «التذكرة بأصول الفقه» ، واعتمد على الأصول في مقام الاستنباط.
ثمّ انتقل الدور
إلى تلامذته :
منهم : السيّد
الأجلّ السيّد المرتضى الملقّب بـ «علم الهدى» (المتوفّى سنة ٤٣٦ ه). ومنهم : شيخ
الطائفة أبو جعفر محمّد بن حسين بن علي الطوسيّ (المتوفّى سنة ٤٦٠ ه). ومنهم :
سلاّر بن عبد العزيز الديلميّ (المتوفّى سنة ٤٣٦ ه). فقد صنّف الأوّل كتاب «الذريعة إلى أصول
الشريعة» ، والثاني كتاب «العدّة في أصول الفقه» ، والثالث كتاب «التقريب».
وبعد الشيخ
الطوسيّ توقّف سير البحث عن نظريّات السابقين ونقدها ؛ وذلك لحسن ظنّ تلامذة الشيخ
بما استنبطه ، وأفتى به في كتبه. واستمرّت هذه الحالة مدّة تقرب من قرن ، إلى أن
وصلت النوبة إلى سبط الشيخ ابن ادريس الحلّي (المتوفّى سنة ٥٩٨) ، فأقام مجلس
البحث والنقد ، وألّف في الفقه الاستدلالي كتاب «السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي».
وبعد ابن إدريس
وصل الدور إلى المحقّق الحلّي ، صاحب «شرائع الإسلام» (المتوفّى سنة ٦٧٦ ه). فألّف في أصول الفقه كتاب «نهج الوصول إلى معرفة
الأصول» ، وكتاب «معارج الوصول إلى علم
الأصول».
إلى أن وصلت
النوبة إلى العلاّمة على الإطلاق أبي منصور جمال الدين حسن بن يوسف بن على بن
مطهّر (المتوفّى سنة ٧٢٦ ه) ، فالعلاّمة بعد الدقّة والنظر في كتب القوم ألّف
كتبا قيّمة في علم الأصول : منها : كتاب «غاية الوصول في شرح مختصر الأصول» و «النكت
البديعة في تحرير الذريعة» و «نهج الوصول
إلى علم الأصول» و «منتهى
الوصول إلى علمي الكلام والأصول» و «تهذيب طريق
الوصول إلى علم الأصول» و «مبادئ
الوصول إلى علم الأصول». وهذه الكتب صارت محطّ أنظار العلماء ، لا سيّما كتاب «معارج الوصول» الذي تصدّى لشرحه جمع من العلماء ، بل كانت هذه الكتب
مدار البحث والتحقيق إلى زمان الشهيد الثاني (المتوفّى سنة ٩٦٥ ه). وقد ألّف
الشهيد الثاني كتابا سمّاه «تمهيد
القواعد».
ثمّ ألّف ابن الشهيد
الثاني أبو منصور جمال الدين حسن بن زين الدّين (المتوفّى سنة ١٠١١ ه) كتابا
سمّاه «معالم
الدين». وهذا الكتاب
لسلاسة تعبيره ، وجودة جمعه ، وسهولة تناوله صار مدار البحث والدرس بين الأكابر ،
فأقبلوا عليه بالتحشية والتعليق والشرح.
وفي القرن الثالث
عشر بلغت العناية بعلم الأصول مرتبة اتّصفت بالإطناب والتطويل ، فألّفوا كتبا
مفصّلة ومبسوطة في علم الأصول. منها : كتاب «هداية المسترشدين» للشيخ محمد تقي الاصفهاني ،
وكتاب «قوانين الأصول» للمحقّق القمّي (المتوفّى سنة ١٢٣١ ه) ، وكتاب «الفصول» للشيخ محمّد حسين الأصفهاني (المتوفّى سنة ١٢٦١ ه) ،
وكتاب «فرائد
الأصول» للشيخ الأعظم
الأنصاريّ (المتوفّى سنة ١٢٨١ ه).
وشرع الدور الآخر
من زمان المحقّق الشيخ محمّد كاظم الخراسانيّ (المتوفّى ١٣٢٩ ه) الملقّب بـ «الآخوند الخراسانيّ» ، فإنّه بادر إلى تنقيح الأصول وتحريرها عن الفضول ،
ورتّبها على وجه أنيق ، وألّف كتاب «كفاية الأصول» ، وصار هذا الكتاب من الكتب الأصوليّة المتداولة عند
دارسي العلوم في الحوزات العلميّة وغيرها ، بل صار محطّ أنظار الأساتذة وأهل العلم
والتحقيق.
وبعد انتهاء دور
المحقّق الخراسانيّ انتقل الدور إلى تلامذته ، لا سيّما الأعلام الثلاثة :
١. المحقّق
الميرزا حسين النائينيّ (المتوفّى ١٣٥٥ ه).
٢. المحقّق الشيخ
محمّد حسين الأصفهانيّ المعروف بـ (الكمپاني) (المتوفّى ١٣٦١ ه).
٣. المحقّق الشيخ
ضياء الدين العراقيّ (المتوفّى ١٣٦١ ه).
فهؤلاء الأعلام
الثلاثة قد انكبّوا على تهذيب علم الأصول وتعميقه وترتيبه ، فتخرّج من معهد بحثهم
ومجلس درسهم كثير من العلماء والمجتهدين منهم صاحب الكتاب الذي بين يديك «أصول الفقه» العلاّمة المحقّق الشيخ محمد رضا المظفّر.
الفصل الثاني :
حياة الشيخ محمد رضا المظفّر
١. نسبه ومولده
هو الشيخ محمد رضا
بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن أحمد بن مظفر العيمري. واشتهر بـ «المظفّر» نسبة
إلى أحد أجدادهم ، وهو مظفّر بن أحمد بن محمّد بن على بن حسين آل علي من عرب
الحجاز ، كان جدّهم «مظفّر» من أهل العلم ، أقام في النجف مدّة ثمّ سكن حوالي
البصرة.
وقد ولد الشيخ المظفّر
في النجف الأشرف في اليوم الخامس من شعبان سنة ١٣٢٢ ه ، وكانت ولادته بعد وفاة
والده بخمسة أشهر كما قال نفسه : «قد توفّي والدي العلاّمة الشيخ محمّد ، فكانت
ولادتي بعده بخمسة أشهر ، فلم أره ولم يرني».
٢. تربيته
الشخصيّة
فتح الشيخ المظفّر
عينيه في أحضان والدته بنت العلاّمة الشيخ عبد الحسين الطريحيّ ، دأبت على
__________________
تربيته والقيام
بشئونه ، وكفله أخوه الشيخ عبد النبيّ ، وبعده ربّاه أخوه الشيخ محمّد حسن ، قال
عن نفسه : «وقد كفلني أخي الكبير المرحوم الشيخ عبد النبيّ المتوفّى ١٣٢٧ ه ،
فكان لي كالأب الرءوف ، وبعده بقيت تحت ظلّ أخي وأستاذي العلاّمة الشيخ محمّد حسن».
٣. نشأته العلميّة
قال المظفّر عن
نفسه : «ابتدأت في دراسة علم النحو حوالي سنة ١٣٣٥ ه ، فقرأت «الأجروميّة» على
الطريقة المألوفة بين الناس ؛ ولعدم رغبتي في الدرس في ذلك الحين كنت لم أحفظها
حفظا كالعادة ، وهكذا بقيت على التهاون في الاشتغال في قراءتي لما في كتب النحو ،
ولمّا انتقلت إلى المنطق فتحت عيني للدّرس ، فكثر جدّي في التحصيل ، وتداركت ما
فات منّي في علم النحو ، ولكن مع ذلك كان شغلي على غير تحقيق وتدقيق حتّى حضرت «المطوّل»
على الأستاذ الشيخ محمّد طه الحويزيّ ، وجملة من علم الأصول ، فاستفدت منه فائدة
كليّة ، وتعلّمت منه كيف يتوصّل إلى التنقيب عن المسائل العلميّة بما كان يتوسّع
به في بسط المسائل وتحقيقها».
وحضر المظفّر دروس
الأعلام الثلاثة : الشيخ ضياء الدين العراقيّ ، والميرزا محمّد حسين النائينيّ ،
والشيخ محمّد حسين الغرويّ الأصفهانيّ.
وحضر أيضا على
أخيه الشيخ محمّد حسن سنوات كثيرة ، وكان عمدة استفادته منه ومن الشيخ محمّد حسين
الغرويّ الأصفهانيّ.
٤. أساتذته
١. الشيخ محمّد طه
الحويزي. تتلمذ عليه في المقدّمات والسطوح والشعر.
٢. الشيخ محمّد
حسن المظفّر. أخو المترجم له. تتلمذ عليه في الفقه والأصول سنوات كثيرة ، كما قال
العلاّمة الطهراني : «وعمدة استفادته من أخيه الشيخ محمّد حسن».
٣. الميرزا محمّد
حسين النائينيّ. وهو فخر المتأخّرين الذي تخرّج من معهد بحثه ومجلس درسه كثير من
العلماء والمحقّقين.
٤. الشيخ ضياء
الدين العراقيّ ، وهو الذي تخرّج على يده أكثر من ثلاثة آلاف من الفقهاء
والمجتهدين.
__________________
٥. الميرزا عبد
الهادي الشيرازيّ. حضر المظفّر في مجلس درسه في الفقه.
٦. السيّد علي
القاضي الطباطبائيّ ، استفاد الشيخ المترجم له منه في العرفان والسير والسلوك.
٧. الشيخ محمّد
حسين الغرويّ الاصفهانيّ ، حضر المظفّر على الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ عدّة سنين
في الفلسفة والأصول والفقه ، وكان الشيخ المظفّر متأثّرا بمباني وآراء استاذه
المحقّق الأصفهانيّ في الأصول والفقه والفلسفة ، وذلك يظهر من خلال كتابه «أصول الفقه» الذي بين يديك ، بل في بعض الموارد كانت عباراته عين
عبارات كتاب «نهاية
الدراية».
٥. جمعية منتدى
النشر
أسّس المظفّر «جمعيّة
منتدى النشر» في سنة ١٣٥٤ ه ، وهي من ثمراته التي لا تنساها النجف. وكان غرضه من
تأسيسها نشر المعارف الإلهي بوجه وسيع وأسلوب جديد.
وأسّس في سنة ١٣٧٦
ه «كلّية الفقه» في النجف الأشرف واعترفت بها وزارة المعارف العراقيّة سنة ١٣٧٧ ه
، يدرس فيها العلوم الإسلاميّة من الفقه الإمامي والفقه المقارن وأصول الفقه
والتفسير والحديث وعلم النفس والاجتماع والتأريخ والفلسفة والمنطق واللغة
الإنجليزيّة وغيرها مما يحتاجه العلماء والمبلّغون في العصر الحاضر.
وقام بالتدريس
فيها جمع من المحقّقين ، منهم العلاّمة الشيخ عبد الحسين الحلّي والشيخ عبد الحسين
الرشتيّ والعلاّمة محمّد تقي الحكيم والعلاّمة الشيخ محمد رضا المظفّر والعلاّمة
الشيخ محمّد جواد البلاغيّ.
٦. مؤلّفاته
١. «أصول الفقه». وهو هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم.
٢. «المنطق».
٣. «عقائد الإماميّة».
٤. «فلسفة ابن سينا».
٥. «أحكام اليقظة».
٦. «ديوان الشعر».
٧. «السقيفة».
٨. «على هامش السقيفة».
٩. «الفلسفة الإسلاميّة».
١٠. «حاشية المكاسب».
١١. «كتاب في علم العروض».
وله مقالات
متعدّدة طبعت في الجرائد.
٧. شيء حول كتاب «أصول
الفقه»
كتاب «أصول الفقه» أحد من الكتب الأصوليّة القيّمة الذي عليه مدار التدريس
في مرحلة السطوح في حوزاتنا العلميّة ، جاء في مقدمة هذا الكتاب : «وضع هذا الكتاب
لتبسيط أصول هذا الفنّ للمبتدئين ؛ ليعينهم على الدخول في بحره العميق عند ما
يبلغون درجة المراهقين ، وهو الحلقة المفقودة بين كتاب معالم الأصول وبين كفاية
الأصول ، يجمع بين سهولة العبارة والاختصار وبين انتقاء الآراء الحديثة التي تطوّر
إليها هذا الفن».
ويكفي في عظمة هذا
الكتاب كلمة السيّد المحقّق الخوئي ، قال بشأنه : «وكنت منذ زمن بعيد أرغب في أن
يؤلّف كتاب في هذا العلم تلائم أبحاثه الأبحاث العالية ، ويعمّم تدريسه على طلاّب
العلوم الدينيّة ، حتى قدّم لي الحجّة الشيخ محمد رضا المظفّر ـ دامت تأييداته ـ ما
رتّبه من المباحث الأصوليّة في القسم الأوّل من كتابه (مبادئ علم الأصول) ترتيبا جميلا ، فألفيته ـ بحمد الله ـ وافيا بالمقصود ،
وجامعا بالموجز من القواعد والأصول التي يدور عليها رحى الأبحاث في عصرنا الحاضر ،
وجدير بطالب العالم أن يدرس هذا الكتاب ؛ ليتهيّأ بذلك للانتفاع بالدراسات العالية».
وهذا الكتاب يشتمل
على مدخل ومقاصد أربعة. وكلّ مقصد في جزء واحد :
الجزء الأوّل : في
مباحث الألفاظ.
الجزء الثاني : في
الملازمات العقليّة.
الجزء الثالث : في
مباحث الحجّة.
الجزء الرابع : في
مباحث الأصول العمليّة. وممّا يؤسف له أنّ الجزء الرابع لم يتمّ وينتهي إلى
التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب.
٨. وفاته
توفّي بالنجف ليلة
١٦ رمضان سنة ١٣٨٣ ه. وبعد تشييعه من قبل جماهير العلماء والطلاّب والمؤمنين دفن
مع أخيه الشيخ محمّد حسن بمقبرة آل المظفّر.
الفصل الثالث :
عملنا في تحقيق الكتاب
بما أنّ هذا
الكتاب يعدّ فريدا من نوعه ، ووحيدا في أسلوبه ، وكان من الكتب الأصوليّة
المتداولة للدراسة عند محصّلي العلوم في الحوزات العلميّة وغيرها ، بل كان محطّ
أنظار الأساتذة وأهل العلم والتحقيق فلا بدّ أن يكون سالما من الأغلاط ، وخاليا من
النواقص والتشويهات والأوهام ، وجامعا للمطالب والآراء الحديثة ؛ ولذلك قمت بتحقيق
الكتاب. وعملنا في التحقيق كما يلي :
١. قمت أوّلا
بتصحيح متن الكتاب تصحيحا قياسيّا ؛ وذلك لعدم وجود النسخة المخطوطة. نعم ، قابلت
النسخة المطبوعة الأخيرة مع النسخة المطبوعة في الطبعة الأولى بالنجف الأشرف
المزيّنة في أوائلها بكلمة السيّد المحقّق الخوئي ، ورمزنا إليها بـ «س». وقابلتها
أيضا مع المطبوعة في الطبعة الثانية التي تمتاز باضافات وتعديلات مهمّة قد أجراها
المؤلّف رحمهالله. فأثبتّ ما رأيته صحيحا في المتن وذكرت بعض موارد الاختلاف
في الهامش.
٢. قمت بتحقيق
وتخريج الآيات والروايات والنصوص الفقهيّة والأنظار الأصوليّة والكلاميّة
والفلسفيّة ، معتمدا على أقدم المصادر وأصحّها.
٣. ذكر المصنّف
أثناء المباحث أقوالا لم ينسبها إلى قائل معيّن ، بل اكتفى بالقول : «قالوا ـ فإن
قيل ـ قيل». وقد راجعت جميع المصادر وعثرت على أغلب القائلين ، وذكرت أسماءهم
ومصادر أقوالهم في الهامش ، وفي موارد نادرة ذكرت أنّا لم نعثر على قائله.
٤. قمت بإرجاع ما
ذكره المصنّف بقوله : «سبق» أو «قد مرّ» أو «سيأتي» ونظائرها إلى مواضعها الأصليّة
السابقة أو اللاحقة.
٥. حاولت قدر
الإمكان تحريك المواضع المهمّة في الكلمات بالحركات الإعرابيّة ؛ وذلك لأجل تسهيل
القراءة ، وفهم مضمون اللفظ ، ومراد المصنّف.
٦. قمت بشرح بعض
الألفاظ الغريبة التي وردت في المتن مستعينا بكتب اللغة والمعاجم.
٧. علّقت عليه
بتعليقات لازمة ؛ لإزاحة التشويشات وإيضاح المبهمات. ولست بصدد التعليق عليه
تفصيلا ؛ لأنّه خارج عن المقصود.
٨. من نواقص هذا
الكتاب المتداول للدراسة عدم وجود التمارين في آخر كلّ مبحث ، فضممت إليه التمارين
في آخر كلّ مبحث. والتمارين قسمان : قسم مربوط بمتن الكتاب ، وقلنا في عنوانه : «التمرين
الأوّل». وقسم مربوط بخارج المتن ، لمن لم يكتف بالمتن وأراد التحقيق خارج المتن ،
وقلنا في عنوانه : «التمرين الثاني».
كلمة شكر
بعد شكري وثنائي
لله (تعالى) لا بدّ لي من شكر من أرى من الواجب عليّ شكرهم ، فإنّى لأتوجّه جزيل
شكري وخالص دعائي إلى الأخ الفاضل المحقّق الشيخ نعمة الله الجليلي دامت تأييداته
، فإنّه ساعدني في تصحيح الكتاب. وإلى الإخوة الأعزّاء في نشر الكتاب في مركز
النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي ، وأخصّ بالذكر حجة الاسلام والمسلمين السيد
محمّد كاظم شمس جزاهم الله خير الجزاء.
وفي الختام نرجو
من الله (تعالى) أن يزيد في علوّ درجات العلاّمة الشيخ محمّد رضا المظفر وأن يحشره
مع أوليائه. والحمد لله رب العالمين.
عباس علي
الزارعيّ السبزواريّ
قم ـ الحوزة
العلميّة
جمادى
الأولى ١٤٢١ ه.
المدخل
بسم الله
الرحمن الرحيم
نحمده على آلائه ،
ونصلّي على خاتم النبيين محمّد وآله الطاهرين المعصومين.
* تعريف
علم الأصول
علم أصول الفقه هو
: «علم يبحث فيه عن قواعد تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعيّ».
مثاله : أنّ
الصّلاة واجبة في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة ، وقد دلّ على وجوبها من القرآن
الكريم قوله (تعالى) : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
كِتاباً مَوْقُوتاً) . ولكن دلالة الآية الأولى متوقّفة على ظهور صيغة الأمر ـ نحو
«أقيموا» هنا ـ في الوجوب ، ومتوقّفة أيضا على أنّ ظهور القرآن حجّة يصحّ
الاستدلال به.
وهاتان المسألتان
يتكفّل ببيانهما «علم الأصول».
فإذا علم الفقيه
من هذا العلم أنّ صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب ، وأنّ ظهور القرآن حجة ، استطاع أن
يستنبط من هذه الآية الكريمة المذكورة أنّ الصّلاة واجبة. وهكذا في كلّ حكم شرعيّ
مستفاد من أيّ دليل شرعيّ أو عقليّ لا بدّ أن يتوقّف استنباطه من الدليل
__________________
على مسألة أو أكثر
من مسائل هذا العلم.
* الحكم
واقعيّ وظاهريّ. والدليل اجتهاديّ وفقاهتيّ
ثمّ لا يخفى أنّ
الحكم الشرعيّ ـ الذي جاء ذكره في التعريف السابق ـ على نحوين :
١. أن يكون ثابتا
للشيء بما هو في نفسه فعل من الأفعال ، كالمثال
المتقدّم أعنى وجوب الصلاة ، فالوجوب ثابت للصلاة بما هي صلاة في نفسها ، وفعل من
الأفعال مع قطع النظر عن أيّ شيء آخر ؛ ويسمّى مثل هذا الحكم : «الحكم الواقعيّ» ،
والدليل الدالّ عليه : «الدليل الاجتهاديّ».
٢. أن يكون ثابتا
للشىء بما أنّه مجهول حكمه الواقعيّ ، كما إذا اختلف الفقهاء في حرمة النظر إلى
الأجنبيّة أو وجوب الإقامة للصلاة. فعند عدم قيام الدليل على أحد الأقوال لدى
الفقيه يشكّ في الحكم الواقعيّ الأوليّ المختلف فيه ، ولأجل ألاّ يبقى في محلّ
العمل متحيّرا لا بدّ له من وجود حكم آخر ولو كان عقليّا ، كوجوب
الاحتياط أو البراءة أو عدم الاعتناء بالشكّ ؛ ويسمّى مثل هذا
الحكم الثانويّ : «الحكم الظاهريّ» ، والدليل الدالّ عليه : «الدليل الفقاهتيّ» أو
«الأصل العمليّ».
ومباحث الأصول
منها ما يتكفّل للبحث عمّا تقع نتيجته في طريق استنباط الحكم الواقعيّ ، ومنها ما
يقع في طريق الحكم الظاهريّ. ويجمع الكلّ «وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعيّ»
على ما ذكرناه في التعريف.
* موضوع
علم الأصول
إنّ هذا العلم غير
متكفّل للبحث عن موضوع خاصّ ، بل يبحث عن موضوعات شتّى
__________________
تشترك كلّها في
غرضنا المهمّ منه ، وهو استنباط الحكم الشرعيّ ، فلا وجه لجعل موضوع هذا العلم
خصوص (الأدلّة الأربعة) فقط ، وهي : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل ، أو بإضافة
الاستصحاب ، أو بإضافة القياس والاستحسان ، كما صنع المتقدّمون .
ولا حاجة إلى
الالتزام بأنّ العلم لا بدّ له من موضوع يبحث عن عوارضه الذاتيّة في ذلك العلم ـ كما
تسالمت عليه كلمة المنطقيّين ـ فإنّ هذا لا ملزم له ولا دليل عليه .
* فائدته
إنّ كلّ متشرّع
يعلم أنّه ما من فعل من أفعال الإنسان الاختياريّة إلاّ وله حكم في الشريعة
الإسلاميّة المقدّسة من وجوب أو حرمة أو نحوهما من الأحكام الخمسة. ويعلم أيضا أنّ
تلك الأحكام ليست كلّها معلومة لكلّ أحد بالعلم الضروريّ ، بل يحتاج أكثرها
لإثباتها إلى إعمال النظر وإقامة الدليل ، أي إنّها من العلوم النظريّة.
وعلم الأصول هو
العلم الوحيد المدوّن للاستعانة به على الاستدلال على إثبات الأحكام الشرعيّة ؛
ففائدته إذن الاستعانة على الاستدلال للأحكام من أدلّتها.
* تقسيم
أبحاثه
تنقسم مباحث هذا
العلم إلى أربعة أقسام :
__________________
١. مباحث الألفاظ
: وهي تبحث عن مداليل الألفاظ وظواهرها من جهة عامّة ، نظير البحث عن ظهور صيغة «افعل»
في الوجوب ، وظهور النهي في الحرمة ونحو ذلك.
٢. المباحث
العقليّة : وهي ما تبحث عن لوازم الأحكام في أنفسها ولو لم تكن تلك الأحكام مدلولة
للّفظ ، كالبحث عن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وكالبحث عن استلزام وجوب
الشىء لوجوب مقدّمته المعروف هذا البحث باسم «مقدّمة الواجب» ، وكالبحث عن استلزام
وجوب الشيء لحرمة ضدّه المعروف باسم «مسألة الضدّ» ، وكالبحث عن جواز اجتماع الأمر
والنهي وغير ذلك.
٣. مباحث الحجّة :
وهي ما يبحث فيها عن الحجّيّة والدليليّة ، كالبحث عن حجيّة خبر الواحد ، وحجّيّة
الظواهر ، وحجّيّة ظواهر الكتاب ، وحجّيّة السنّة والإجماع والعقل ، وما إلى ذلك.
٤. مباحث الأصول
العمليّة : وهي تبحث عن مرجع المجتهد عند فقدان الدليل الاجتهاديّ ، كالبحث عن أصل
البراءة والاحتياط والاستصحاب ونحوها ، فمقاصد الكتاب ـ إذن ـ أربعة.
وله خاتمة تبحث عن
تعارض الأدلّة ؛ وتسمّى : «مباحث التعادل والتراجيح» ، فالكتاب يقع في خمسة أجزاء
إن شاء الله تعالى .
وقبل الشروع لا
بدّ من مقدّمة يبحث فيها عن جملة من المباحث اللغويّة التي لم يستوف البحث عنها في
العلوم الأدبيّة أو لم يبحث عنها.
__________________
تمرينات (١)
* التمرين الأوّل
١. ما هو علم أصول
الفقه؟
٢. ايت بمثال من
عندك ومثال من الكتاب لكيفية استنباط الحكم الشرعيّ؟
٣. ما الفرق بين
الحكم الواقعيّ والحكم الظاهريّ؟
٤. ما الفرق بين
الدليل الاجتهاديّ والدليل الفقاهتيّ؟
٥. ما هو موضوع
علم الأصول عند القدماء؟
٦. بيّن رأي
المصنّف في موضوع علم الأصول.
٧. ما هو المبحوث
عنه في المباحث العقليّة ومباحث الألفاظ والحجّة والأصول العمليّة؟
* التمرين الثاني
١. أذكر آراء
الأصوليّين في تعريف علم الأصول والمناقشات فيها.
٢. لم سمّي الدليل
الاجتهاديّ «اجتهاديّا» والفقاهتيّ «فقاهتيّا»؟
٣. بيّن آراء
العلماء في موضوع كلّ علم.
المقدّمة
تبحث عن أمور لها
علاقة بوضع الألفاظ واستعمالها ودلالتها ، وفيها أربعة عشر مبحثا :
١. حقيقة
الوضع
لا شكّ أنّ دلالة
الألفاظ على معانيها ـ في أيّة لغة كانت ـ ليست ذاتيّة ، كذاتيّة دلالة الدخان ـ مثلا
ـ على وجود النار ـ وإن توهّم ذلك بعضهم ـ لأنّ لازم هذا
الزعم أن يشترك جميع البشر في هذه الدلالة ، مع أنّ الفارسيّ ـ مثلا ـ لا يفهم
الألفاظ العربيّة ولا غيرها من دون تعلّم ، وكذلك العكس في جميع اللغات ، وهذا
واضح.
وعليه ، فليست
دلالة الألفاظ على معانيها إلاّ بالجعل والتخصيص من واضع تلك الألفاظ لمعانيها.
ولذا تدخل الدلالة اللفظيّة هذه في الدلالة الوضعيّة.
٢. من
الواضع؟
ولكن من ذلك
الواضع الأوّل في كلّ لغة من اللغات؟
قيل : إنّ الواضع لا بدّ أن يكون شخصا واحدا يتبعه جماعة من البشر في التفاهم
__________________
بتلك اللغة.
وقيل : ـ وهو الأقرب إلى الصواب ـ إنّ الطبيعة البشريّة حسب القوّة المودعة من الله (تعالى)
فيها تقتضي إفادة مقاصد الإنسان بالألفاظ ، فيخترع من عند نفسه لفظا مخصوصا عند
إرادة معنى مخصوص ـ كما هو المشاهد من الصبيان عند أوّل أمرهم ـ فيتفاهم مع
الآخرين الذين يتّصلون به ، والآخرون كذلك يخترعون من أنفسهم ألفاظا لمقاصدهم ،
وتتألّف على مرور الزمن من مجموع ذلك طائفة صغيرة من الألفاظ ، حتى تكون لغة خاصّة
، لها قواعدها يتفاهم بها قوم من البشر. وهذه اللغة قد تتشعّب بين أقوام متباعدة ،
وتتطوّر عند كلّ قوم بما يحدث فيها من التغيير والزيادة ، حتى قد تنبثق منها لغات أخرى ، فيصبح لكلّ جماعة لغتهم الخاصّة.
وعليه ، تكون
حقيقة الوضع هو جعل اللفظ بإزاء المعنى ، وتخصيصه به. وممّا يدلّ على اختيار القول
الثاني في الواضع أنّه لو كان الواضع شخصا واحدا لنقل ذلك في تأريخ اللغات ، ولعرف
عند كلّ لغة واضعها.
٣. الوضع
تعيينىّ وتعيّنىّ
ثمّ إنّ دلالة
الألفاظ على معانيها الأصل فيها أن تكون ناشئة من الجعل والتخصيص ، ويسمّى الوضع
حينئذ : «تعيينيّا» ، وقد تنشأ الدلالة من اختصاص اللفظ بالمعنى الحاصل هذا
الاختصاص من الكثرة في الاستعمال على درجة من الكثرة أنّه تألفه الأذهان على وجه
إذا سمع اللفظ ينتقل السامع منه إلى المعنى ، ويسمّى الوضع حينئذ : «تعيّنيّا» .
__________________
٤. أقسام
الوضع
لا بدّ في الوضع
من تصوّر اللفظ والمعنى ؛ لأنّ الوضع حكم على المعنى وعلى اللفظ ، ولا يصحّ الحكم
على الشيء إلاّ بعد تصوّره ومعرفته بوجه من الوجوه ولو على نحو الإجمال ؛ لأنّ
تصوّر الشيء قد يكون بنفسه ، وقد يكون بوجهه ـ أي بتصوّر عنوان عامّ ينطبق عليه
ويشار به إليه ؛ إذ يكون ذلك العنوان العامّ مرآة وكاشفا عنه ، كما إذا حكمت على
شبح من بعيد «أنّه أبيض» ـ مثلا ـ وأنت لا تعرفه بنفسه أنّه أيّ شيء هو ، وأكثر ما
تعرف عنه ـ مثلا ـ أنّه شيء من الأشياء أو حيوان من الحيوانات ، فقد صحّ حكمك عليه
بأنّه أبيض مع أنّك لم تعرفه ولم تتصوّره بنفسه وإنّما تصوّرته بعنوان أنّه شيء أو
حيوان ، لا أكثر ، وأشرت به إليه ، وهذا ما يسمّى في عرفهم : «تصوّر الشيء بوجهه»
ـ ، وهو كاف لصحّة الحكم على الشيء. وهذا بخلاف المجهول محضا ؛ فإنّه لا يمكن
الحكم عليه أبدا.
وعلى هذا ، فإنّه
يكفينا في صحّة الوضع للمعنى أن نتصوّره بوجهه ، كما لو كنّا تصوّرناه بنفسه.
ولمّا عرفنا أنّ
المعنى لا بدّ من تصوّره ، وأنّ تصوّره على نحوين ، فانّه بهذا الاعتبار وباعتبار
ثان هو أنّ المعنى قد يكون خاصّا ـ أي جزئيّا ـ وقد يكون عامّا ـ أي كلّيّا ـ نقول
: إنّ الوضع ينقسم إلى أربعة أقسام عقليّة :
١. أن يكون المعنى
المتصوّر جزئيّا ، والموضوع له نفس ذلك الجزئيّ ـ أي إنّ الموضوع له معنى متصوّر
بنفسه لا بوجهه ـ ؛ ويسمّى هذا القسم : «الوضع خاصّ والموضوع له خاصّ ».
٢. أن يكون
المتصوّر كلّيّا ، والموضوع له نفس ذلك الكلّي ـ أي إنّ الموضوع له كلّيّ
__________________
متصوّر بنفسه لا
بوجهه ـ ؛ ويسمّى هذا القسم : «الوضع عامّ والموضوع له عامّ».
٣. أن يكون
المتصوّر كلّيّا ، والموضوع له أفراد الكلّيّ لا نفسه ـ أي إنّ الموضوع له جزئيّ
غير متصوّر بنفسه بل بوجهه ـ ؛ ويسمّى هذا القسم : «الوضع عامّ والموضوع له خاصّ».
٤. أن يكون
المتصوّر جزئيّا ، والموضوع له كلّيّا لذلك الجزئيّ ؛ ويسمّى هذا القسم : «الوضع
خاصّ والموضوع له عامّ».
إذا عرفت هذه
الأقسام المتصوّرة العقليّة ، فنقول : لا نزاع في إمكان الأقسام الثلاثة الأولى ،
كما لا نزاع في وقوع القسمين الأوّلين. ومثال الأوّل : الأعلام الشخصيّة ، كمحمّد
وعلي وجعفر ؛ ومثال الثاني : أسماء الأجناس ، كماء وسماء ونجم وإنسان وحيوان.
وإنّما النزاع وقع
في أمرين : الأوّل : في إمكان القسم الرابع. والثاني : في وقوع الثالث بعد التسليم
بإمكانه. والصحيح عندنا استحالة الرابع ووقوع الثالث ، ومثاله : الحروف وأسماء
الإشارة والضمائر والاستفهام ونحوها على ما سيأتي .
٥.
استحالة القسم الرابع
أمّا استحالة
الرابع ـ وهو الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ـ فنقول في بيانها : إنّ النزاع في
إمكان ذلك ناشئ من النزاع في إمكان أن يكون الخاصّ وجها وعنوانا للعامّ ، وذلك لما
تقدّم أنّ المعنى الموضوع له لا بدّ من تصوّره بنفسه أو بوجهه ؛ لاستحالة الحكم
على المجهول ، والمفروض في هذا القسم أنّ المعنى الموضوع له لم يكن متصوّرا ، وإنّما
تصوّر الخاصّ فقط ، وإلاّ لو كان متصوّرا بنفسه ولو بسبب تصوّر الخاصّ ، كان من
القسم الثاني ، وهو الوضع العامّ والموضوع له العامّ ، ولا كلام في إمكانه بل في
وقوعه كما تقدّم.
فلا بدّ حينئذ
للقول بإمكان القسم الرابع من أن نفرض أنّ الخاصّ يصحّ أن يكون وجها من وجوه
العامّ ، وجهة من جهاته حتى يكون تصوّره كافيا عن تصوّر العامّ بنفسه ، ومغنيا عنه
؛ لأجل أن يكون تصوّرا للعامّ بوجه.
__________________
ولكنّ الصحيح ـ الواضح
لكلّ مفكّر ـ أنّ الخاصّ ليس من وجوه العامّ ، بل الأمر بالعكس من ذلك ؛ فإنّ
العامّ هو وجه من وجوه الخاصّ ، وجهة من جهاته. ولذا قلنا بإمكان القسم الثالث وهو
«الوضع العامّ والموضوع له الخاص» ؛ لأنّا إذا تصوّرنا العامّ فقد تصوّرنا في ضمنه
جميع أفراده بوجه ، فيمكن الوضع لنفس ذلك العامّ من جهة تصوّره بنفسه ، فيكون من
القسم الثاني ، ويمكن الوضع لأفراده من جهة تصوّرها بوجهها ، فيكون من الثالث ،
بخلاف الأمر في تصوّر الخاصّ ، فلا يمكن الوضع معه إلاّ لنفس ذلك الخاصّ ، ولا
يمكن الوضع للعامّ ؛ لأنّا لم نتصوّره أصلا ، لا بنفسه بحسب الفرض ولا بوجهه ؛ إذ
ليس الخاصّ وجها له . ويستحيل الحكم على المجهول المطلق.
٦. وقوع
الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، وتحقيق المعنى الحرفي
أمّا وقوع القسم
الثالث : فقد قلنا : إنّ مثاله وضع الحروف ، وما يلحق بها من أسماء الإشارة
والضمائر والموصولات والاستفهام ونحوها.
وقبل إثبات ذلك لا
بدّ من تحقيق معنى الحرف وما يمتاز به عن الاسم ، فنقول : الأقوال في وضع الحروف
وما يلحق بها من الأسماء ثلاثة :
١. إنّ الموضوع له
في الحروف هو بعينه الموضوع له في الأسماء المسانخة لها في المعنى ، فمعنى «من»
الابتدائيّة هو عين معنى كلمة «الابتداء» بلا فرق ، وكذا معنى «على» معنى كلمة «الاستعلاء»
، ومعنى «في» معنى كلمة «الظرفيّة» ... وهكذا.
وإنما الفرق في
جهة أخرى ، وهي أنّ الحرف وضع لأجل أن يستعمل في معناه إذا لوحظ ذلك المعنى حالة
وآلة لغيره ـ أي إذا لوحظ المعنى غير مستقلّ في نفسه ـ ، والاسم وضع لأجل أن
يستعمل في معناه إذا لو حفظ مستقلاّ في نفسه ؛ مثلا مفهوم «الابتداء» معنى واحد
وضع له لفظان : أحدهما لفظ «الابتداء» ، والثاني كلمة «من» ، لكنّ الأوّل وضع له ؛
__________________
لأجل أن يستعمل
فيه عند ما يلاحظه المستعمل مستقلاّ في نفسه ، كما إذا قيل : «ابتداء السير كان
سريعا» ، والثاني وضع له ؛ لأجل أن يستعمل فيه عند ما يلاحظه المستعمل غير مستقلّ
في نفسه ، كما إذا قيل : «سرت من النجف».
فتحصّل أنّ الفرق
بين معنى الحرف ومعنى الاسم أنّ الأوّل يلاحظه المستعمل حين الاستعمال آلة لغيره ،
وغير مستقلّ في نفسه ، والثاني يلاحظه حين الاستعمال مستقلاّ ، مع أنّ المعنى في
كليهما واحد. والفرق بين وضعيهما إنمّا هو في الغاية فقط.
ولازم هذا القول
أنّ الوضع والموضوع له في الحروف عامّان. وهذا القول منسوب إلى الشيخ الرضيّ نجم
الأئمّة ، واختاره المحقّق صاحب الكفاية قدسسره.
٢. إنّ الحروف لم
توضع لمعان أصلا ، بل حالها حال علامات الإعراب في إفادة كيفيّة خاصّة في لفظ آخر
، فكما أنّ علامة الرفع في قولهم : «حدّثنا زرارة» تدلّ على أنّ «زرارة» فاعل
الحديث ، كذلك «من» في مثال المتقدّم تدلّ على أنّ النجف مبتدأ منها والسير مبتدأ
به.
٣. إنّ الحروف
موضوعة لمعان مباينة في حقيقتها وسنخها للمعاني الاسميّة ؛ فإنّ المعاني الاسميّة
في حدّ ذاتها معان مستقلّة في أنفسها ، ومعاني الحروف لا استقلال لها ، بل هي
متقوّمة بغيرها .
والصحيح هذا القول
الثالث. ويحتاج إلى توضيح وبيان.
إنّ المعاني
الموجودة في الخارج على نحوين :
الأوّل : ما يكون موجودا في نفسه ، كـ «زيد» الذي هو من جنس
الجوهر ، و «قيامه»
__________________
ـ مثلا ـ الذي هو
من جنس العرض ؛ فإنّ كلاّ منهما موجود في نفسه. والفرق أنّ الجوهر موجود في نفسه
لنفسه ، والعرض موجود في نفسه لغيره.
الثاني
: ما يكون موجودا
لا في نفسه ، كنسبة القيام إلى زيد.
والدليل على كون
هذا المعنى لا في نفسه أنّه لو كان للنسب والروابط وجودات استقلاليّة للزم وجود
الرابط بينها وبين موضوعاتها ، فننقل الكلام إلى ذلك الرابط ، والمفروض أنّه موجود
مستقلّ ، فلا بدّ له من رابط أيضا ... وهكذا ننقل الكلام إلى هذا الرابط ، فيلزم
التسلسل ، والتسلسل باطل.
فيعلم من ذلك أنّ
وجود الروابط والنسب في حدّ ذاته متعلّق بالغير ، ولا حقيقة له إلاّ التعلّق
بالطرفين.
ثمّ إنّ الإنسان
في مقام إفادة مقاصده كما يحتاج إلى التعبير عن المعاني المستقلّة كذلك يحتاج إلى
التعبير عن المعاني غير المستقلّة في ذاتها ، فحكمة الوضع تقتضي أن توضع بإزاء كلّ
من القسمين ألفاظ خاصّة ، والموضوع بإزاء المعاني المستقلّة هي الأسماء ، والموضوع
بإزاء المعاني غير المستقلّة هي الحروف وما يلحق بها. وهذه المعاني غير المستقلّة
لمّا كانت على أقسام شتّى فقد وضع بإزاء كلّ قسم لفظ يدلّ عليه ، أو هيئة لفظيّة
تدلّ عليه ؛ مثلا إذا قيل : «نزحت البئر في دارنا بالدلو» ففيه عدّة نسب مختلفة
ومعان غير مستقلّة :
إحداها : نسبة
النزح إلى فاعله ، والدالّ عليها هيئة الفعل المعلوم.
وثانيتها : نسبته
إلى ما وقع عليه ـ أي مفعوله ـ وهو البئر ، والدالّ عليها هيئة النصب في الكلمة.
وثالثتها : نسبته
إلى المكان ، والدالّ عليها كلمة «في».
ورابعتها : نسبته
إلى الآلة ، والدالّ عليها لفظ الباء في كلمة «بالدلو».
ومن هنا يعلم أنّ
الدالّ على المعاني غير المستقلّة ربما يكون لفظا مستقلا ، كلفظة «من» و «إلى» و «في»
، وربما يكون هيئة في اللفظ ، كهيئات المشتقّات ، والأفعال ، وهيئات الإعراب.
* النتيجة
فقد تحقّق ممّا
بيّنّاه أنّ الحروف لها معان تدلّ عليها ، كالأسماء ، والفرق أنّ المعاني الاسميّة
مستقلّة في أنفسها ، وقابلة لتصوّرها في ذاتها ، وإن كانت في الوجود الخارجيّ
محتاجة إلى غيرها كالأعراض ، وأمّا المعاني الحرفيّة فهي معان غير مستقلّة وغير
قابلة للتصوّر إلاّ في ضمن مفهوم آخر. ومن هنا يشبّه كلّ أمر غير مستقلّ بالمعنى
الحرفيّ.
* بطلان القولين
الأوّلين
وعلى هذا ، فيظهر
بطلان القول الثاني القائل : إنّ الحروف لا معاني لها ، وكذلك القول الأوّل القائل
: إنّ المعنى الحرفيّ والاسميّ متّحدان بالذات ، مختلفان باللحاظ.
ويردّ هذا القول
أيضا أنّه لو صحّ اتّحاد المعنيين لجاز استعمال كلّ من الحرف والاسم في موضع الآخر
، مع أنّه لا يصحّ بالبداهة حتى على نحو المجاز ، فلا يصحّ بدل قولنا : «زيد في
الدار» ـ مثلا ـ أن يقال : «زيد ، الظرفيّة ، الدار».
وقد أجيب عن هذا
الإيراد بأنّه إنّما لا يصحّ [استعمال] أحدهما في موضع الآخر ؛
لأنّ الواضع اشترط ألاّ يستعمل لفظ «الظرفيّة» إلاّ عند لحاظ معناه مستقلاّ ، ولا
يستعمل لفظ «في» إلاّ عند لحاظ معناه غير مستقلّ ، وآلة لغيره .
ولكنّه جواب غير
صحيح ؛ لأنّه لا دليل على وجوب اتّباع ما يشترطه الواضع إذا لم يكن اشتراطه يوجب
اعتبار خصوصيّة في اللفظ والمعنى ؛ وعلى تقدير أن يكون الواضع ممّن تجب طاعته
فمخالفته توجب العصيان لا غلط الكلام .
__________________
* زيادة إيضاح
إذ قد عرفت أنّ
الموجودات منها ما يكون مستقلاّ في الوجود ، ومنها ما يكون رابطا بين
موجودين ، فاعلم أنّ كلّ كلام مركّب من كلمتين أو أكثر إذا ألقيت كلماته بغير
ارتباط بينها فإنّ كلّ واحدة منها كلمة مستقلّة في نفسها لا ارتباط لها بالأخرى ،
وإنّما الذي يربط بين المفردات ويؤلّفها كلاما واحدا هو الحرف أو إحدى الهيئات
الخاصّة ، فأنت إذا قلت ـ مثلا ـ : «أنا» ، «كتبت» ، «قلم» ، لا يكون بين هذه
الكلمات ربط ، وإنّما هي مفردات صرفة منثورة. أمّا إذا قلت : «كتبت بالقلم» ، كان
كلاما واحدا ، مرتبطا بعضه مع بعض ، مفهما للمعنى المقصود منه. وما حصل هذا
الارتباط والوحدة الكلاميّة إلاّ بفضل الهيئة المخصوصة لـ «كتبت» وحرف الباء وأل.
وعليه ، فيصحّ أن
يقال : إنّ الحروف هي روابط المفردات المستقلّة والمؤلّفة للكلام الواحد والموحّدة
للمفردات المختلفة ، شأنها شأن النسبة بين المعاني المختلفة والرابطة بين المفاهيم
غير المربوطة. فكما أنّ النسبة رابطة بين المعاني ومؤلّفة بينها فكذلك الحرف
الدالّ عليها رابط بين الألفاظ ومؤلّف بينها.
وإلى هذا أشار
سيّد الأولياء أمير المؤمنين عليهالسلام بقوله المعروف في تقسيم الكلمات : «الاسم ما أنبأ عن
المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره ». فأشار إلى أنّ المعاني الاسميّة معان استقلاليّة ، ومعاني الحروف غير
مستقلّة في نفسها ، وإنّما هي تحدث الربط بين المفردات. ولم نجد في تعاريف القوم
للحرف تعريفا جامعا صحيحا مثل هذا التعريف.
__________________
* الوضع في الحروف
عامّ والموضوع له خاصّ
إذا اتّضح جميع ما
تقدّم ، يظهر أنّ كلّ نسبة حقيقتها متقومة بطرفيها على وجه لو قطع النظر عن
الطرفين لبطلت وانعدمت ، فكلّ نسبة في وجودها الرابط مباينة لأيّة نسبة أخرى ، ولا
تصدق عليها ، وهي في حدّ ذاتها مفهوم جزئيّ حقيقيّ.
وعليه ، فلا يمكن
فرض النسبة مفهوما كلّيّا ينطبق على كثيرين وهي متقوّمة بالطرفين ، وإلاّ لبطلت
وانسلخت عن حقيقة كونها نسبة.
ثمّ إن النسب غير
محصورة ، فلا يمكن تصوّر جميعها للواضع ، فلا بدّ في مقام الوضع لها من تصوّر معنى
اسميّ يكون عنوانا للنسب غير المحصورة ، حاكيا عنها ، وليس العنوان في نفسه نسبة ،
كمفهوم لفظ «النسبة الابتدائيّة» المشار به إلى أفراد النسب الابتدائيّة الكلاميّة
، ثمّ يضع لنفس الأفراد غير المحصورة التى لا يمكن التعبير عنها إلاّ بعنوانها.
وبعبارة أخرى : إنّ الموضوع له هو النسبة الابتدائية بالحمل الشائع ، وأمّا بالحمل
الأوّلى فليست بنسبة حقيقة ، بل تكون طرفا للنسبة ، كما لو قلت : «الابتداء كان من
هذا المكان».
ومن هذا يعلم حال
أسماء الإشارة والضمائر والموصولات ونحوها ، فالوضع في الجميع عامّ والموضوع له
خاصّ .
__________________
تمرينات (٢)
التمرين الأوّل
١. ما الدليل على
عدم كون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتيّة؟
٢. ما حقيقة الوضع؟
٣. من الواضع؟ (اذكر
ما قيل في الواضع والدليل على مختار المصنّف).
٤. ما الفرق بين
الوضع التعيينيّ والتعيّنيّ؟
٥. ما المراد من
قول المصنّف : «تصوّر الشيء قد يكون بنفسه وقد يكون بوجهه»؟
٦. ما هي أقسام
الوضع عقلا وإمكانا ووقوعا؟ واذكر لكلّ قسم مثالا.
٧. بيّن وجه
استحالة القسم الرابع (الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ).
٨. اذكر الأقوال
في الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسميّ.
٩. ما هو مختار
المصنّف في الفرق بينهما؟ وما دليله عليه؟
١٠. ما الوجه في
بطلان القولين الأوّلين في الفرق بينهما؟
١١. الوضع في
الحروف من أيّ الأقسام الأربعة؟ وما الدليل عليه؟
التمرين الثاني :
١. اذكر أقوال
العلماء في دلالة الألفاظ على معانيها.
٢. بيّن إيراد
المحقّق النائيني على تقسيم الوضع إلى التعيينيّ والتعيّني.
٣. ما هو منشأ
الخلاف في القول المنسوب إلى الشارح الرضيّ؟
٤. اذكر آراء
المحقّقين في كيفيّة مغايرة المعنى الحرفيّ والمعنى الاسميّ ذاتا.
٥. بيّن ما يرد
على القول الأوّل ، وما أجاب به المحقّق الخراسانيّ ، وما أورد المصنّف على ذلك
الجواب.
٦. اذكر أقوال
العلماء في وضع الحروف.
٧.
الاستعمال حقيقيّ ومجازيّ
استعمال اللفظ في
معناه الموضوع له «حقيقة» ، واستعماله في غيره المناسب له «مجاز» ، وفي غير
المناسب «غلط» ، وهذا أمر محلّ وفاق.
ولكنّه وقع الخلاف
في الاستعمال المجازيّ في أنّ صحّته هل هي متوقّفة على ترخيص الواضع وملاحظة
العلاقات المذكورة في علم البيان ، أو أنّ صحّته
طبعيّة تابعة لاستحسان الذوق السليم فكلّما كان المعنى غير الموضوع له مناسبا
للمعنى الموضوع له واستحسنه الطبع ، صحّ استعمال اللفظ فيه وإلاّ فلا؟
والأرجح القول
الثاني ؛ لأنّا نجد صحّة استعمال «الأسد» في «الرجل الشجاع» مجازا
، وإن منع منه الواضع ، وعدم صحّة استعماله مجازا في «كريه رائحة الفم» ـ كما
يمثّلون ـ وإن رخّص الواضع. ومؤيّد ذلك اتّفاق اللغات المختلفة غالبا في المعاني
المجازيّة ، فترى في كلّ لغة يعبّر عن الرجل الشجاع باللفظ الموضوع للأسد. وهكذا
في كثير من المجازات الشائعة عند البشر.
٨.
الدلالة تابعة للإرادة
قسّموا الدلالة
إلى قسمين : التصوّريّة ، والتصديقيّة :
١.
التصوّريّة : وهي أن ينتقل ذهن الإنسان إلى معنى اللفظ بمجرّد صدوره من لافظ ، ولو علم أنّ
اللافظ لم يقصده ، كانتقال الذهن إلى المعنى الحقيقيّ عند استعمال اللفظ في معنى
مجازيّ ، مع أنّ المعنى الحقيقيّ ليس مقصودا للمتكلّم ، وكانتقال الذهن إلى المعنى
من اللفظ الصادر من الساهي أو النائم أو الغالط.
٢.
التصديقيّة : وهي دلالة اللفظ على أنّ المعنى مراد للمتكلّم في اللفظ وقاصد لاستعماله فيه.
وهذه الدلالة متوقّفة على عدّة أشياء : أوّلا : على إحراز كون المتكلّم في
__________________
مقام البيان
والإفادة ، وثانيا : على إحراز أنّه جادّ غير هازل ، وثالثا : على إحراز أنّه قاصد
لمعنى كلامه شاعر به ، ورابعا : على عدم نصب قرينة على إرادة خلاف الموضوع له ،
وإلاّ كانت الدلالة التصديقيّة على طبق القرينة المنصوبة.
والمعروف أنّ
الدلالة الأولى (التصوّريّة) معلولة للوضع ـ أي أنّ الدلالة الوضعيّة هي الدلالة
التصوّريّة ـ. وهذا هو مراد من يقول : «إنّ الدلالة غير تابعة للإرادة ، بل تابعة
لعلم السامع بالوضع» .
والحقّ
أنّ الدلالة تابعة
للإرادة ـ وأوّل من تنبّه لذلك فيما نعلم ، الشيخ نصير الدين الطوسيّ قدسسره ـ ؛ لأنّ الدلالة في الحقيقة منحصرة في الدلالة التصديقيّة
، والدلالة التصوّريّة التي يسمّونها دلالة ليست بدلالة ، وإن سمّيت كذلك فإنّه من
باب التشبيه والتجوّز ؛ لأنّ التصوّريّة في الحقيقة هي من باب تداعي المعاني الذي
يحصل بأدنى مناسبة ، فتقسيم الدلالة إلى تصديقيّة وتصوّريّة تقسيم الشيء إلى نفسه
وإلى غيره.
والسرّ في ذلك أنّ
الدلالة حقيقة ـ كما فسّرناها في كتاب المنطق ، الجزء الأوّل بحث الدلالة ـ هي أن يكشف الدالّ عن وجود المدلول ، فيحصل من العلم به العلم بالمدلول ،
سواء كان الدالّ لفظا أو غير لفظ ، مثلا إنّ طرقة الباب يقال : إنّها دالّة على
وجود شخص على الباب ، طالب لأهل الدار ؛ باعتبار أنّ المطرقة موضوعة لهذه الغاية.
وتحليل هذا المعنى أنّ سماع الطرقة يكشف عن وجود طالب قاصد للطلب ، فيحصل من العلم
بالطرقة العلم بالطارق وقصده ، ولذلك يتحرّك السامع إلى إجابته. لا أنّه ينتقل ذهن
السامع من
__________________
تصوّر الطرقة إلى
تصوّر شخص ما ؛ فإنّ هذا الانتقال قد يحصل بمجرّد تصوّر معنى الباب ، أو الطرقة من
دون أن يسمع طرقة ، ولا يسمّى ذلك دلالة. ولذا إنّ الطرقة لو كانت على نحو مخصوص
يحصل من حركة الهواء ـ مثلا ـ لا تكون دالّة على ما وضعت له المطرقة وإن خطر في
ذهن السامع معنى ذلك.
وهكذا نقول في
دلالة الألفاظ على معانيها بدون فرق ؛ فإنّ اللفظ إذا صدر من المتكلّم على نحو
يحرز معه أنّه جادّ فيه غير هازل ، وأنّه عن شعور وقصد ، وأنّ غرضه البيان
والإفهام ـ ومعنى إحراز ذلك أنّ السامع علم بذلك ـ فإنّ كلامه يكون حينئذ دالاّ
على وجود المعنى ، أي وجوده في نفس المتكلّم بوجود قصديّ ، فيكون علم السامع بصدور
الكلام منه يستلزم علمه بأنّ المتكلّم قاصد لمعناه لأجل أن يفهمه السامع. وبهذا يكون
الكلام دالاّ كما تكون الطرقة دالّة. وينعقد بهذا الكلام ظهور في معناه الموضوع له
أو المعنى الذي أقيمت على إرادته قرينة.
ولذا نحن عرّفنا
الدلالة اللفظيّة في [كتاب] المنطق بأنّها «هي كون اللفظ بحالة ينشأ من العلم
بصدوره من المتكلّم العلم بالمعنى المقصود به » ؛ ومن هنا سمّي
المعنى «معنى» أي المقصود ، من عناه إذا قصده.
ولأجل أن يتّضح
هذا الأمر جيّدا اعتبر باللافتات التي توضع في هذا العصر للدلالة على أنّ الطريق
مغلوق ـ مثلا ـ أو أنّ الاتّجاه في الطريق إلى اليمين أو اليسار ، ونحو ذلك ؛ فإنّ
اللافتة إذا كانت موضوعة في موضعها اللائق على وجه منظّم بنحو يظهر منه أنّ وضعها
لهداية المستطرقين كان مقصودا لواضعها ؛ فإنّ وجودها هكذا يدلّ حينئذ على ما يقصد
منها من غلق الطريق أو الاتّجاه. أمّا لو شاهدتها مطروحة في الطريق مهملة أو عند
الكاتب يرسمها ، فإنّ المعنى المكتوب يخطر في ذهن القارئ ، ولكن لا تكون دالّة
عنده على أنّ الطريق مغلوقة ، أو أنّ الاتّجاه كذا ، بل أكثر ما يفهم من ذلك أنّها
ستوضع لتدلّ على هذا بعد ذلك ، لا أنّ لها الدلالة فعلا.
__________________
٩. الوضع
شخصيّ ونوعيّ
قد عرفت في المبحث
الرابع أنّه لا بدّ في الوضع من تصوّر اللفظ والمعنى ، وعرفت هناك
أنّ المعنى تارة يتصوّره الواضع بنفسه ، وأخرى بوجهه وعنوانه ، فاعرف هنا أنّ
اللفظ أيضا كذلك ، ربما يتصوّره الواضع بنفسه ويضعه للمعنى كما هو الغالب في
الألفاظ ، فيسمّى الوضع حينئذ : «شخصيّا» . وربما يتصوّره
بوجهه وعنوانه ، فيسمّى الوضع : «نوعيّا».
ومثال الوضع
النوعيّ الهيئات ؛ فإنّ الهيئة غير قابلة للتصوّر بنفسها ، بل إنّما يصحّ تصوّرها
في مادّة من موادّ اللفظ ، كهيئة كلمة «ضرب» ـ مثلا ـ وهي هيئة الفعل الماضي ،
فإنّ تصوّرها لا بدّ أن يكون في ضمن الضاد والراء والباء ، أو في ضمن الفاء والعين
واللام في «فعل». ولمّا كانت الموادّ غير محصورة ولا يمكن تصوّر جميعها فلا بدّ من
الإشارة إلى أفرادها بعنوان عامّ ، فيضع كلّ هيئة
تكون على زنة «فعل» ـ مثلا ـ أو زنة «فاعل» أو غيرهما ، ويتوصّل إلى تصوّر ذلك
العامّ بوجود الهيئة في إحدى الموادّ ، كمادّة «فعل» التي جرت الاصطلاحات عليها
عند علماء العربيّة.
١٠. وضع
المركّبات
ثمّ الهيئة
الموضوعة لمعنى ، تارة تكون في المفردات ، كهيئات المشتقّات التي تقدّمت الإشارة
إليها ، وأخرى في المركّبات ، كالهيئة التركيبيّة بين المبتدأ والخبر لإفادة حمل
شيء ، على شيء ، وكهيئة تقديم ما حقّه التأخير لإفادة الاختصاص.
ومن هنا تعرف أنّه
لا حاجة إلى وضع الجمل والمركّبات في إفادة معانيها زائدا على
__________________
وضع المفردات
بالوضع الشخصيّ والهيئات بالوضع النوعيّ ـ كما قيل ـ بل هو لغو محض. ولعلّ من ذهب إلى وضعها أراد به وضع الهيئات التركيبيّة ،
لا الجملة بأسرها بموادّها وهيئاتها زيادة على وضع أجزائها ، فيعود النزاع حينئذ
لفظيّا .
١١.
علامات الحقيقة والمجاز
قد يعلم الإنسان ـ
إمّا من طريق نصّ أهل اللغة أو لكونه نفسه من أهل اللغة ـ أنّ لفظ كذا موضوع لمعنى
كذا ، ولا كلام لأحد في ذلك ؛ فإنّه من الواضح أنّ استعمال اللفظ في ذلك المعنى
حقيقة وفي غيره مجاز.
وقد يشكّ في وضع
لفظ مخصوص لمعنى مخصوص ، فلا يعلم أنّ استعماله فيه هل كان على سبيل الحقيقة فلا
يحتاج إلى نصب قرينة عليه أو على سبيل المجاز ، فيحتاج إلى نصب القرينة؟ وقد ذكر
الأصوليّون لتعيين الحقيقة من المجاز ـ أي لتعيين أنّه موضوع لذلك المعنى أو غير
موضوع ـ طرقا وعلامات كثيرة نذكر هنا أهمّها.
العلامة الأولى :
التبادر
دلالة كلّ لفظ على
أيّ معنى لا بدّ لها من سبب. والسبب لا يخلو فرضه عن أحد أمور ثلاثة : المناسبة
الذاتيّة ، وقد عرفت بطلانها ، أو العلقة الوضعيّة ، أو القرينة الحاليّة أو
المقاليّة. فإذا علم أنّ الدلالة مستندة إلى نفس اللفظ من غير اعتماد على قرينة
فإنّه يثبت أنّها من جهة العلقة الوضعيّة. وهذا هو المراد بقولهم : «التبادر علامة
الحقيقة». والمقصود من كلمة «التبادر» هو انسباق المعنى من نفس اللفظ مجرّدا عن
كلّ قرينة.
وقد يعترض على ذلك
بأنّ التبادر لا بدّ له من سبب ، وليس هو إلاّ العلم بالوضع ؛ لأنّ
__________________
من الواضح أنّ
الانسباق لا يحصل من اللفظ إلى معناه ـ في أيّة لغة ـ لغير العالم بتلك اللغة ،
فيتوقّف التبادر على العلم بالوضع ، فلو أردنا إثبات الحقيقة وتحصيل العلم بالوضع
بسبب التبادر ، لزم الدور المحال ، فلا يعقل ـ على هذا ـ أن يكون التبادر علامة
للحقيقة يستفاد منه العلم بالوضع ، والمفروض أنّه مستفاد من العلم بالوضع.
والجواب : أنّ كلّ فرد من أيّة أمّة يعيش معها لا بدّ أن يستعمل
الألفاظ المتداولة عندها تبعا لها ، ولا بدّ أن يرتكز في ذهنه معنى اللفظ ارتكازا
يستوجب انسباق ذهنه إلى المعنى عند سماع اللفظ ، وقد يكون ذلك الارتكاز من دون
التفات تفصيليّ إليه وإلى خصوصيّات المعنى ، فإذا أراد الإنسان معرفة المعنى وتلك
الخصوصيّات وتوجّهت نفسه إليه فإنّه يفتّش عمّا هو مرتكز في نفسه من المعنى ،
فينظر إليه مستقلاّ عن القرينة ، فيرى أنّ المتبادر من اللفظ الخاصّ ما هو من
معناه الارتكازيّ ، فيعرف أنّه حقيقة فيه.
فالعلم بالوضع
لمعنى خاصّ بخصوصيّاته التفصيليّة ـ أي الالتفات التفصيليّ إلى الوضع والتوجّه
إليه ـ يتوقّف على التبادر ، والتبادر إنّما هو موقوف على العلم الارتكازيّ بوضع
اللفظ لمعناه غير الملتفت إليه.
والحاصل
أنّ هناك علمين :
أحدهما يتوقّف على التبادر وهو العلم التفصيليّ ، والآخر يتوقّف التبادر عليه وهو
العلم الإجماليّ الارتكازيّ .
هذا الجواب
بالقياس إلى العالم بالوضع ، وأمّا بالقياس إلى غير العالم به فلا يعقل حصول
التبادر عنده ؛ لفرض جهله باللغة. نعم ، يكون التبادر أمارة على الحقيقة عنده إذا
شاهد التبادر عند أهل اللغة ، يعني أنّ الأمارة عنده تبادر غيره من أهل اللغة.
مثلا إذا شاهد الأعجميّ من أصحاب اللغة العربيّة انسباق أذهانهم من لفظ «الماء»
المجرّد عن القرينة إلى الجسم السائل البارد بالطبع فلا بدّ أن يحصل له العلم بأنّ
هذا اللفظ موضوع
__________________
لهذا المعنى
عندهم. وعليه فلا دور هنا ؛ لأنّ علمه يتوقّف على التبادر ، والتبادر يتوقّف على
علم غيره.
العلامة الثانية :
عدم صحّة السلب وصحّته ، وصحّة الحمل وعدمها
ذكروا : أنّ عدم
صحّة سلب اللفظ عن المعنى الذي يشكّ في وضعه له علامة أنّه حقيقة فيه ، وأنّ صحّة
السلب علامة على أنّه مجاز فيه.
وذكروا أيضا : أنّ
صحّة حمل اللفظ على ما يشكّ في وضعه له علامة الحقيقة ، وعدم صحّة الحمل علامة على
المجاز.
وهذا ما يحتاج إلى
تفصيل وبيان ، فلتحقيق الحمل وعدمه والسلب وعدمه نسلك الطرق الآتية :
١. نجعل المعنى
الذي يشكّ في وضع اللفظ له «موضوعا» ، ونعبّر عنه بأيّ لفظ كان يدلّ عليه.
ثمّ نجعل اللفظ
المشكوك في وضعه لذلك المعنى «محمولا» بما له من المعنى الارتكازيّ.
ثمّ نجرّب أن نحمل
بالحمل الأوّلي اللفظ بما له من المعنى المرتكز في الذهن على ذلك اللفظ الدالّ على
المعنى المشكوك وضع اللفظ له. والحمل الأوّلي ملاكه الاتّحاد في المفهوم والتغاير
بالاعتبار ، وحينئذ إذا أجرينا هذه التجربة فإن وجدنا عند أنفسنا
صحّة الحمل وعدم صحّة السلب علمنا تفصيلا بأنّ اللفظ موضوع لذلك المعنى ، وإن
وجدنا عدم صحّة الحمل وصحّة السلب علمنا أنّه ليس موضوعا لذلك المعنى ، بل يكون
استعماله فيه مجازا.
٢. إذا لم يصحّ
عندنا الحمل الأوّلي نجرّب أن نحمله هذه المرّة بالحمل الشائع الصناعيّ
__________________
الذي ملاكه
الاتّحاد وجودا والتغاير مفهوما ، وحينئذ ، فإن صحّ الحمل علمنا أنّ المعنيين
متّحدان وجودا ، سواء كانت النسبة التساوي أو العموم من وجه أو مطلقا ، ولا يتعيّن واحد منها بمجرّد صحّة الحمل ، وإن لم يصحّ
الحمل وصحّ السلب علمنا أنّهما متباينان.
٣. نجعل موضوع
القضية أحد مصاديق المعنى المشكوك وضع اللفظ له ، لا نفس المعنى المذكور ، ثمّ
نجرّب الحمل ـ وينحصر الحمل في هذه التجربة بالحمل الشائع ـ فإن صحّ الحمل ، علم
منه حال المصداق من جهة كونه أحد المصاديق الحقيقيّة لمعنى اللفظ الموضوع له ،
سواء كان ذلك المعنى نفس المعنى المذكور أو غيره المتّحد معه وجودا ، كما يستعلم
منه حال الموضوع له في الجملة من جهة شموله لذلك المصداق ، بل قد يستعلم منه تعيين
الموضوع له ، مثل ما إذا كان الشكّ في وضعه لمعنى عامّ أو خاصّ ، كلفظ «الصعيد»
المردّد بين أن يكون موضوعا لمطلق وجه الأرض أو لخصوص التراب الخالص ، فإذا وجدنا
صحّة الحمل وعدم صحّة السلب بالقياس إلى غير التراب الخالص من مصاديق الأرض يعلم
بالقهر تعيين وضعه لعموم الأرض.
وإن لم يصحّ الحمل
وصحّ السلب علم أنّه ليس من أفراد الموضوع له ومصاديقه الحقيقيّة ، وإذا كان قد
استعمل فيه اللفظ ، فالاستعمال يكون مجازا إمّا فيه رأسا أو في معنى يشمله ويعمّه.
تنبيه :
إنّ الدور الذي
ذكر في التبادر يتوجّه إشكاله هنا أيضا. والجواب عنه نفس الجواب هناك ؛ لأنّ صحّة
الحمل وصحّة السلب إنّما هما باعتبار ما للّفظ من المعنى المرتكز إجمالا ، فلا
تتوقّف العلامة إلاّ على العلم الارتكازيّ ، وما يتوقّف على العلامة هو
__________________
العلم التفصيليّ .
هذا كلّه بالنسبة
إلى العارف باللغة. وأمّا الجاهل بها : فيرجع إلى أهلها في صحّة الحمل والسلب
وعدمهما كالتبادر.
العلامة الثالثة :
الاطّراد
وذكروا من جملة
علامات الحقيقة والمجاز الاطّراد وعدمه ؛ فالاطّراد علامة الحقيقة ، وعدمه علامة
المجاز.
ومعنى الاطّراد :
أنّ اللفظ لا تختصّ صحّة استعماله في المعنى المشكوك بمقام دون مقام ، ولا بصورة
دون صورة ، كما لا تختصّ بمصداق دون مصداق .
والصحيح أنّ
الاطّراد ليس علامة الحقيقة ؛ لأنّ صحة استعمال اللفظ في معنى بما له من
الخصوصيّات مرّة واحدة تستلزم صحّته دائما ، سواء كان حقيقة أم مجازا ، فالاطّراد
لا يختصّ بالحقيقة حتى يكون علامة لها.
__________________
تمرينات (٣)
التمرين الأوّل
١. ما الفرق بين
الاستعمال الحقيقيّ والمجازيّ؟
٢. صحة استعمال
اللفظ فيما يناسب الموضوع له هل هو بالوضع أو بالطبع؟ وعلى كلا التقديرين ما
الدليل عليه؟
٣. ما الفرق بين
الدلالة التصوريّة والدلالة التصديقيّة؟ مثّل لهما.
٤. هل الدلالة
تابعة للإرادة أم لا؟ وعلى كلا التقديرين ما الدليل عليه؟
٥. ما الفرق بين
الوضع الشخصيّ والنوعيّ؟ مثّل لهما.
٦. بيّن كيفيّة
وضع المركّبات.
٧. ما المراد
بقولهم : «التبادر علامة الحقيقة»؟ وما المقصود من كلمة «التبادر»؟
٨. هل التبادر
علامة الحقيقة أم لا؟ وعلى الأوّل كيف يدفع إشكال لزوم الدور؟
٩. هل صحّة الحمل
وعدم صحّة السلب علامتا الحقيقة أو لا؟ وعلى الأوّل ما الدليل عليه؟
١٠. كيف يدفع
إشكال الدور على كون صحّة الحمل وعدم صحّة السلب علامتي الحقيقة؟
١١. هل الاطّراد
علامة الحقيقة أم لا؟ وعلى كلا التقديرين ما الدليل عليه؟
التمرين الثاني
١. ما هو رأي
المحقّق الخراسانيّ والمحقّق الحائريّ في تبعيّة الدلالة للإرادة وعدمها؟
٢. بيّن آراء
العلماء فيما هو المراد من وضع المركّب في المقام.
٣. ما المراء من
الاطّراد؟ (اذكر آراء المتأخّرين).
١٢.
الأصول اللفظيّة
تمهيد
اعلم أنّ الشكّ في
اللفظ على نحوين :
١. الشكّ في وضعه
لمعنى من المعاني.
٢. الشكّ في
المراد منه بعد فرض العلم بالوضع ، كأن يشكّ في أنّ المتكلّم أراد بقوله : «رأيت
أسدا» معناه الحقيقيّ أو معناه المجازيّ مع العلم بوضع لفظ الأسد للحيوان المفترس
، وبأنّه غير موضوع للرجل الشجاع؟
أمّا
النحو الأوّل : فقد كان البحث
السابق معقودا لأجله ، لغرض بيان العلامات المثبتة للحقيقة أو المجاز ـ أي المثبتة
للوضع أو عدمه ـ. وهنا نقول : إنّ الرجوع إلى تلك العلامات وأشباهها كنصّ أهل
اللغة أمر لا بدّ منه في إثبات أوضاع اللغة أيّة لغة كانت ، ولا يكفي في إثباتها
أن نجد في كلام أهل تلك اللغة استعمال اللفظ في المعنى الذي شكّ في وضعه له ؛ لأنّ
الاستعمال كما يصحّ في المعنى الحقيقيّ يصحّ في المعنى المجازيّ ، وما يدرينا لعلّ
المستعمل اعتمد على قرينة حاليّة أو مقاليّة في تفهيم المعنى المقصود له ،
فاستعمله فيه على سبيل المجاز. ولذا اشتهر في لسان المحقّقين ـ حتى جعلوه كقاعدة ـ
قولهم : «إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز» .
ومن هنا نعلم
بطلان طريقة العلماء السابقين لإثبات وضع اللفظ بمجرّد وجدان استعماله في لسان
العرب ، كما وقع ذلك لعلم الهدى السيّد المرتضى قدسسره ، فإنّه كان يجري أصالة الحقيقة في الاستعمال ، بينما أنّ
أصالة الحقيقة إنّما تجري عند الشكّ في المراد لا في الوضع ، كما سيأتي.
وأمّا
النحو الثاني : فالمرجع فيه
لإثبات مراد المتكلّم الأصول اللفظية ، وهذا البحث
__________________
معقود لأجلها ،
فينبغي الكلام فيها من جهتين :
أوّلا : في ذكرها
وذكر مواردها.
ثانيا : في
حجيّتها ومدرك حجيّتها.
الأصول اللفظيّة
ومواردها
أمّا من الجهة
الأولى : فنقول : أهمّ الأصول اللفظيّة ما يأتي :
١. أصالة الحقيقة
وموردها ما إذا
شكّ في إرادة المعنى الحقيقيّ أو المجازيّ من اللفظ بأن لم يعلم وجود القرينة على
إرادة المجاز مع احتمال وجودها ، فيقال حينئذ : «الأصل الحقيقة» ، أي الأصل أن
نحمل الكلام على معناه الحقيقيّ ، فيكون حجّة فيه للمتكلّم على السامع ، وحجّة فيه
للسامع على المتكلّم ، فلا يصحّ من السامع الاعتذار في مخالفة الحقيقة بأن يقول
للمتكلّم : «لعلّك أردت المعنى المجازيّ» ، ولا يصحّ الاعتذار من المتكلّم بأن
يقول للسامع : «إنّي أردت المعنى المجازيّ».
٢. أصالة العموم
وموردها ما إذا
ورد لفظ عامّ وشكّ في إرادة العموم منه أو الخصوص ، أي شكّ في تخصيصه ، فيقال
حينئذ : «الأصل العموم» ، فيكون حجّة في العموم على المتكلّم أو السامع.
٣. أصالة الإطلاق
وموردها ما إذا
ورد لفظ مطلق له حالات وقيود يمكن إرادة بعضها منه وشكّ في إرادة هذا البعض
لاحتمال وجود القيد فيقال : «الأصل الإطلاق» ، فيكون حجّة على السامع والمتكلّم ؛
كقوله (تعالى) : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) ، فلو شكّ ـ مثلا ـ في البيع أنّه هل يشترط في
__________________
صحّته أن ينشأ
بألفاظ عربيّة؟ فإنّنا نتمسّك بأصالة إطلاق البيع في الآية لنفي اعتبار هذا الشرط
والتقييد به ، فنحكم حينئذ بجواز البيع بالألفاظ غير العربيّة.
٤. أصالة عدم
التقدير
وموردها ما إذا
احتمل التقدير في الكلام وليس هناك دلالة على التقدير فالأصل عدمه.
ويلحق بأصالة عدم
التقدير أصالة عدم النقل وأصالة [عدم] الاشتراك. وموردهما ما إذا احتمل معنى ثان
موضوع له اللفظ ، فإن كان هذا الاحتمال مع فرض هجر المعنى الأوّل ـ وهو المسمّى بـ
«المنقول» ـ فالأصل عدم النقل ، وإن كان مع عدم هذا الفرض ـ وهو المسمّى بـ «المشترك»
ـ فالأصل عدم الاشتراك ؛ فيحمل اللفظ في كلّ منهما على إرادة المعنى الأوّل ما لم
يثبت النقل والاشتراك. أمّا إذا ثبت النقل فإنّه يحمل على المعنى الثاني ، وإذا
ثبت الاشتراك فإنّ اللفظ يبقى مجملا لا يتعيّن في أحد المعنيين إلاّ بقرينة على
القاعدة المعروفة في كلّ مشترك.
٥. أصالة الظهور
وموردها ما إذا
كان اللفظ ظاهرا في معنى خاصّ لا على وجه النصّ فيه الذي لا يحتمل معه الخلاف ، بل
كان يحتمل إرادة خلاف الظاهر ، فإنّ الأصل حينئذ أن يحمل الكلام على الظاهر فيه.
وفي الحقيقة أنّ
جميع الأصول المتقدّمة راجعة إلى هذا الأصل ؛ لأنّ اللفظ مع احتمال المجاز ـ مثلا
ـ ظاهر في الحقيقة ، ومع احتمال التخصيص ظاهر في العموم ، ومع احتمال التقييد ظاهر
في الإطلاق ، ومع احتمال التقدير ظاهر في عدمه. فمؤدّى أصالة الحقيقة نفس مؤدّى
أصالة الظهور في مورد احتمال المجاز ، ومؤدّى أصالة العموم هو نفس مؤدّى أصالة
الظهور في مورد احتمال التخصيص ... وهكذا في باقي الأصول المذكورة.
فلو عبّرنا بدلا
عن كلّ من هذه الأصول بأصالة الظهور كان التعبير صحيحا مؤدّيا للغرض ، بل كلّها
يرجع اعتبارها إلى اعتبار أصالة الظهور ، فليس عندنا في الحقيقة إلاّ
أصل واحد هو «أصالة
الظهور» ، ولذا لو كان الكلام ظاهرا في المجاز واحتمل إرادة الحقيقة انعكس الأمر ،
وكان الأصل من اللفظ المجاز ، بمعنى أنّ الأصل الظهور ، ومقتضاه الحمل على المعنى
المجازيّ ، ولا تجري أصالة الحقيقة حينئذ. وهكذا لو كان الكلام ظاهرا في التخصيص
أو التقييد.
حجيّة الأصول
اللفظيّة
وهي الجهة الثانية
من البحث عن الأصول اللفظيّة ، والبحث عنها يأتي في بابه ـ وهو باب مباحث الحجّة ـ. ولكن ينبغي الآن أن نتعجّل في البحث عنها ؛ لكثرة الحاجة إليها ، مكتفين
بالإشارة ، فنقول :
إنّ المدرك
والدليل في جميع الأصول اللفظية واحد ، وهو تباني العقلاء في الخطابات الجارية
بينهم على الأخذ بظهور الكلام ، وعدم الاعتناء باحتمال إرادة خلاف الظاهر ، كما لا
يعتنون باحتمال الغفلة ، أو الخطأ ، أو الهزل ، أو إرادة الإهمال والإجمال ، فإذا
احتمل الكلام المجاز أو التخصيص أو التقييد أو التقدير لا يوقفهم ذلك عن الأخذ
بظاهره ، كما يلغون أيضا احتمال الاشتراك والنقل ونحوهما.
ولا بدّ أنّ
الشارع قد أمضى هذا البناء ، وجرى في خطاباته على طريقتهم هذه ، وإلاّ لزجرنا
ونهانا عن هذا البناء في خصوص خطاباته ، أو لبيّن لنا طريقته لو كان له غير
طريقتهم طريقة خاصّة يجب اتّباعها ، ولا يجوز التعدّي عنها إلى غيرها ، فيعلم من
ذلك على سبيل الجزم أنّ الظاهر حجّة عنده كما هو عند العقلاء بلا فرق.
١٣.
الترادف والاشتراك
لا ينبغي الإشكال
في إمكان الترادف والاشتراك ، بل في وقوعهما في اللغة العربيّة ، فلا يصغى إلى
مقالة من أنكرهما . وهذه بين أيدينا اللغة العربيّة ووقوعهما فيها واضح
__________________
لا يحتاج إلى
بيان.
ولكن ينبغي أن
نتكلّم في نشأتهما ، فإنّه يجوز أن يكونا من وضع واضع واحد ، بأن يضع شخص واحد
لفظين لمعنى واحد أو لفظا لمعنيين ، ويجوز أن يكونا من وضع واضعين متعدّدين ، فتضع
قبيلة ـ مثلا ـ لفظا لمعنى وقبيلة أخرى لفظا آخر لذلك المعنى ، أو تضع قبيلة لفظا
لمعنى وقبيلة اخرى ذلك اللفظ لمعنى آخر. وعند الجمع بين هذه اللغات باعتبار أنّ
كلّ لغة منها لغة عربيّة صحيحة يجب اتّباعها يحصل الترادف والاشتراك.
والظاهر أنّ
الاحتمال الثاني أقرب إلى واقع اللغة العربيّة ، كما صرّح به بعض المؤرّخين للّغة ، وعلى الأقلّ فهو الأغلب في نشأة الترادف والاشتراك ، ولذا نسمع علماء
العربيّة يقولون : لغة الحجاز كذا ، ولغة حمير كذا ، ولغة تميم كذا ... وهكذا.
فهذا دليل على تعدّد الوضع بتعدّد القبائل والأقوام والأقطار في الجملة. ولا
تهمّنا الإطالة في ذلك.
تمرينات (٤)
١. ما المراد من
قولهم : «إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز»؟
٢. ما هي طريقة
العلماء السابقين في إثبات وضع اللفظ؟
٣. ما المراد من
أصالة الحقيقة؟
٤. ما المراد من
أصالة العموم وأصالة الإطلاق؟
٥. ما المراد من
أصالة عدم التقدير؟
٦. ما المراد من
أصالة الظهور؟
٧. ما الدليل على
حجّيّة الأصول اللفظيّة؟
٨. ما الفرق بين
الترادف والاشتراك؟
٩. ما هو المنشأ
في تحقّق الترادف والاشتراك؟
__________________
استعمال اللفظ في
أكثر من معنى
ولا شكّ في جواز
استعمال اللفظ المشترك في أحد معانيه بمعونة القرينة المعيّنة ، وعلى تقدير عدم
القرينة يكون اللفظ مجملا لا دلالة له على أحد معانيه.
كما لا شبهة في
جواز استعماله في مجموع معانيه بما هو مجموع المعاني ، غاية الأمر يكون هذا
الاستعمال مجازا يحتاج إلى القرينة ؛ لأنّه استعمال للّفظ في غير ما وضع له.
وإنّما وقع البحث
والخلاف في جواز إرادة أكثر من معنى واحد من المشترك في استعمال واحد ، على أن
يكون كلّ من المعاني مرادا من اللفظ على حدة ، وكأنّ اللفظ قد جعل للدلالة عليه
وحده.
وللعلماء في ذلك
أقوال وتفصيلات كثيرة لا يهمّنا الآن التعرّض لها . وإنّما الحقّ عندنا عدم جواز مثل هذا الاستعمال.
الدليل أنّ استعمال أيّ لفظ في معنى إنّما هو بمعنى إيجاد ذلك
المعنى باللفظ ، لكن لا بوجوده الحقيقيّ ، بل بوجوده الجعليّ التنزيليّ ؛ لأنّ
وجود اللفظ وجود للمعنى تنزيلا.
فهو وجود واحد
ينسب إلى اللفظ حقيقة أوّلا وبالذات ، وإلى المعنى تنزيلا ثانيا وبالعرض ، فإذا أوجد المتكلّم اللفظ لأجل استعماله في المعنى فكأنّما أوجد المعنى
وألقاه بنفسه إلى المخاطب. فلذلك يكون اللفظ ملحوظا للمتكلّم بل للسامع آلة وطريقا
للمعنى ، وفانيا فيه ، وتبعا للحاظه ، والملحوظ بالأصالة والاستقلال هو المعنى
نفسه.
وهذا نظير الصورة
في المرآة ؛ فإنّ الصورة موجودة بوجود المرآة ، والوجود الحقيقيّ للمرآة ، وهذا
الوجود نفسه ينسب إلى الصورة ثانيا وبالعرض. فإذا نظر الناظر إلى الصورة في المرآة
فإنّما ينظر إليها بطريق المرآة بنظرة واحدة هي للصورة بالاستقلال والأصالة ،
وللمرآة بالآليّة والتبع ، فتكون المرآة كاللفظ ملحوظة تبعا للحاظ الصورة ، وفانية
فيها فناء
__________________
العنوان في
المعنون .
وعلى هذا ، فلا
يمكن استعمال لفظ واحد إلاّ في معنى واحد ؛ فإنّ استعماله في معنيين مستقلاّ ـ بأن
يكون كلّ منهما مرادا من اللفظ على حدة ، كما إذا لم يكن إلاّ نفسه ـ يستلزم لحاظ
كلّ منهما بالأصالة ، فلا بدّ من لحاظ اللفظ في آن واحد مرّتين بالتبع ، ومعنى ذلك
اجتماع لحاظين في آن واحد على ملحوظ واحد ، أعني به اللفظ الفاني في كلّ من المعنيين ، وهو محال بالضرورة ؛ فإنّ الشيء الواحد لا
يقبل إلاّ وجودا واحدا في النفس في آن واحد .
ألا ترى أنّه لا
يمكن أن يقع لك أن تنظر في مرآة واحدة إلى صورة تسع المرآة كلّها ، وتنظر ـ في نفس
الوقت ـ إلى صورة أخرى تسعها أيضا. إنّ هذا لمحال.
وكذلك النظر في
اللفظ إلى معنيين ، على أن يكون كلّ منهما قد استعمل فيه اللفظ مستقلاّ ، ولم يحك
إلاّ عنه.
نعم ، يجوز لحاظ
اللفظ فانيا في معنى في استعمال ، ثمّ لحاظه فانيا في معنى آخر في استعمال ثان ،
مثل ما تنظر في المرآة إلى صورة تسعها ، ثمّ تنظر في وقت آخر إلى صورة أخرى تسعها.
وكذا يجوز لحاظ
اللفظ في مجموع معنيين في استعمال واحد ولو مجازا ، مثلما تنظر في المرآة في آن
واحد إلى صورتين لشيئين مجتمعين. وفي الحقيقة إنّما استعملت اللفظ في معنى واحد هو
مجموع المعنيين ، ونظرت في المرآة إلى صورة واحدة لمجموع الشيئين.
تنبيهان
الأوّل : أنّه لا فرق في عدم جواز الاستعمال في المعنيين بين أن
يكونا حقيقيّين أو
__________________
مجازيّين أو
مختلفين ؛ فإنّ المانع ـ وهو تعلّق لحاظين بملحوظ واحد في آن واحد ـ موجود في
الجميع ، فلا يختصّ بالمشترك كما اشتهر.
الثاني : ذكر بعضهم أنّ الاستعمال في
أكثر من معنى إن لم يجز في المفرد يجوز في التثنية والجمع ، بأن يراد من كلمة «عينين»
ـ مثلا ـ فرد من العين الباصرة وفرد من العين النابعة ، فلفظ «عين» ـ وهو مشترك ـ قد
استعمل حال التثنية في معنيين : في الباصرة ، والنابعة. وهذا شأنه في الإمكان
والصحّة شأن ما لو أريد معنى واحد من كلمة «عينين» ، بأن يراد فردان من العين
الباصرة ـ مثلا ـ فإذا صحّ هذا فليصحّ ذلك بلا فرق.
واستدلّ على ذلك
بما ملخّصه : أنّ التثنية والجمع في قوّة تكرار الواحد بالعطف ، فإذا قيل : «عينان»
فكأنّما قيل : «عين وعين». وإذ يجوز في قولك : «عين وعين» أن تستعمل أحدهما في
الباصرة ، والثانية في النابعة فكذلك ينبغي أن يجوز فيما هو بقوّتهما ، أعني «عينين»
، وكذا الحال في الجمع.
والصحيح عندنا عدم
الجواز في التثنية والجمع ، كالمفرد. والدليل : أنّ التثنية والجمع وإن كانا موضوعين لإفادة التعدّد ، إلاّ أنّ ذلك من جهة
وضع الهيئة في قبال وضع المادّة ، وهي ـ أي المادّة ـ نفس لفظ المفرد الذي طرأت
عليه التثنية والجمع ، فإذا قيل : «عينان» ـ مثلا ـ فإن اريد من المادّة خصوص
الباصرة ـ مثلا ـ فالتعدّد يكون بالقياس إليها ، أي فردان منها
، وإن أريد منها خصوص النابعة ـ مثلا ـ فالتعدّد يكون بالقياس إليها ، فلو اريد
الباصرة والنابعة ، فلا بدّ أن يراد التعدّد من كلّ منهما ـ أي فردان من الباصرة
وفردان من النابعة ـ ، لكنّه مستلزم لاستعمال المادّة في أكثر من معنى ، وقد
عرفت استحالته.
وأمّا أنّ التثنية
والجمع في قوّة تكرار الواحد فمعناه أنّهما تدلاّن على تكرار أفراد المعنى المراد
من المادّة ، لا تكرار نفس المعنى المراد منهما. فلو أريد من استعمال التثنية أو
__________________
الجمع فردان أو
أفراد من طبيعتين أو طبائع متعدّدة لا يمكن ذلك أبدا إلاّ أن يراد من المادّة «المسمّى
بهذا اللفظ» على نحو المجاز ، فتستعمل المادّة في معنى واحد وهو معنى «مسمّى هذا
اللفظ» وإن كان مجازا ، نظير الأعلام الشخصيّة غير القابلة لعرض التعداد على مفاهيمها الجزئية إلاّ بتأويل المسمّى ، فإذا قيل : «محمّدان»
فمعناه فردان من المسمّى بلفظ «محمّد» ، فاستعملت المادّة ـ وهي لفظ محمّد ـ في
مفهوم «المسمّى» مجازا.
تمرينات (٥)
التمرين الأوّل
١. ما المراد من
استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد؟
٢. هل استعمال
اللفظ في أكثر من معنى جائز أم لا؟ ما الدليل عليه؟
٣. هل عدم جواز
الاستعمال يختصّ بالمشترك أم لا؟
٤. كيف استدلّ
صاحب المعالم على جواز الاستعمال في الأكثر في التثنية والجمع؟ وما الجواب عن
استدلاله؟
التمرين الثاني
١. ما هي الأقوال
في استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد؟
__________________
١٤.
الحقيقة الشرعيّة
لا شكّ في أنّا ـ نحن
المسلمين ـ نفهم من بعض الألفاظ المخصوصة ، كالصلاة والصوم ونحوهما ، معاني خاصّة
شرعيّة ، ونجزم بأنّ هذه المعاني حادثة لم يكن يعرفها أهل اللغة العربيّة قبل
الإسلام ، وإنّما نقلت تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى هذه المعاني الشرعيّة.
هذا لا شكّ فيه ،
ولكنّ الشكّ وقع عند الباحثين في أنّ هذا النقل وقع في عصر الشارع المقدّس على نحو
الوضع التعييني أو التعيّني ، فتثبت الحقيقة الشرعيّة ، أو أنّه وقع في عصر بعده
على لسان أتباعه المتشرّعة ، فلا تثبت الحقيقة الشرعيّة ، بل الحقيقة المتشرعيّة؟.
والفائدة من هذا
النزاع تظهر في الألفاظ الواردة في كلام الشارع مجرّدة عن القرينة ، سواء كانت في
القرآن الكريم أم السنّة. فعلى القول الأوّل يجب حملها على المعاني الشرعيّة ،
وعلى الثاني تحمل على المعاني اللغويّة ، أو يتوقّف فيها فلا تحمل على المعاني
الشرعيّة ولا على اللغويّة ، بناء على رأي من يذهب إلى التوقّف فيما إذا دار الأمر
بين المعنى الحقيقيّ وبين المجاز المشهور ؛ إذ من المعلوم
أنّه إذا لم تثبت الحقيقة الشرعيّة فهذه المعاني المستحدثة تكون ـ على الأقلّ ـ مجازا
مشهورا في زمانه صلىاللهعليهوآله.
والتحقيق في المسألة أن يقال : إنّ نقل تلك الألفاظ إلى المعاني
المستحدثة إمّا بالوضع التعيينيّ أو التعيّنيّ :
أمّا الأوّل : فهو
مقطوع العدم ؛ لأنّه لو كان لنقل إلينا بالتواتر ، أو بالآحاد على الأقلّ ؛ لعدم
الداعي إلى الإخفاء ، بل الدواعي متظافرة على نقله ، مع أنّه لم ينقل ذلك أبدا.
وأمّا الثاني :
فهو ممّا لا ريب فيه بالنسبة إلى زمان إمامنا أمير المؤمنين عليهالسلام ؛ لأنّ اللفظ إذا استعمل في معنى خاصّ في لسان جماعة كثيرة زمانا معتدّا به ـ
لا سيّما إذا كان المعنى جديدا ـ يصبح حقيقة فيه بكثرة الاستعمال ، فكيف إذا كان
ذلك عند المسلمين قاطبة في سنين متمادية؟! فلا بدّ ـ إذن ـ من حمل تلك الألفاظ على
المعاني المستحدثة فيما إذا
__________________
تجرّدت عن القرائن
في روايات الأئمّة عليهمالسلام.
نعم ، كونها حقيقة
فيها في خصوص زمان النبي صلىاللهعليهوآله غير معلوم ، وإن كان غير بعيد ، بل من المظنون ذلك ، ولكن
الظنّ في هذا الباب لا يغني من الحقّ شيئا ، غير أنّه لا أثر لهذا الجهل ، نظرا
إلى أنّ السنّة النبويّة غير مبتلى بها إلاّ ما نقل لنا من طريق آل البيت عليهمالسلام على لسانهم ، وقد عرفت الحال في كلماتهم أنّه لا بدّ من حملها على المعاني
المستحدثة.
وأمّا القرآن
المجيد : فأغلب ما ورد فيه من هذه الألفاظ أو كلّه محفوف بالقرائن المعيّنة لإرادة
المعنى الشرعيّ ، فلا فائدة مهمّة في هذا النزاع بالنسبة إليه. على أنّ الألفاظ
الشرعيّة ليست على نسق واحد ؛ فإنّ بعضها كثير التداول ، كالصلاة والصوم والزكاة
والحجّ ، لا سيّما الصلاة التي يؤدّونها كلّ يوم خمس مرّات ، فمن البعيد جدّا ألاّ
تصبح حقائق في معانيها المستحدثة بأقرب وقت في زمانه صلىاللهعليهوآله.
الصحيح والأعمّ
من ملحقات المسألة
السابقة مسألة «الصحيح والأعمّ». فقد وقع النزاع في أنّ ألفاظ العبادات أو
المعاملات أهي أسام موضوعة للمعاني الصحيحة أو للأعمّ منها ومن الفاسدة؟
وقبل بيان المختار
لا بدّ من تقديم مقدّمات :
الأولى : أنّ هذا النزاع لا يتوقّف على ثبوت الحقيقة الشرعيّة ؛ لأنّه قد عرفت أنّ هذه الألفاظ مستعملة في لسان المتشرّعة بنحو الحقيقة ولو
على نحو الوضع التعيّني عندهم.
ولا ريب أنّ
استعمالهم كان يتبع الاستعمال في لسان الشارع ، سواء كان استعماله على نحو الحقيقة
أو المجاز.
فإذا عرفنا ـ مثلا
ـ أنّ هذه الألفاظ في عرف المتشرّعة كانت حقيقة في خصوص الصحيح يستكشف منه أنّ
المستعمل فيه في لسان الشارع هو الصحيح أيضا ، مهما كان
__________________
استعماله عنده أحقيقة
كان أم مجازا. كما أنّه لو علم أنّها كانت حقيقة في الأعمّ في عرفهم ، كان ذلك
أمارة على كون المستعمل فيه في لسانه هو الأعمّ أيضا ، وإن كان استعماله على نحو
المجاز.
الثانية : أنّ المراد من الصحيحة من العبادة أو المعاملة هي التي
تمّت أجزاؤها وكملت شروطها. والصحيح إذن معناه تامّ الأجزاء والشرائط . فالنزاع يرجع هنا إلى أنّ الموضوع له خصوص تامّ الأجزاء والشرائط من العبادة
أو المعاملة ، أو الأعمّ منه ومن الناقص؟
الثالثة : أنّ ثمرة النزاع هي صحّة رجوع القائل بالوضع للأعمّ ـ المسمّى
ب : «الأعمّي» ـ إلى أصالة الإطلاق ، دون القائل بالوضع للصحيح ـ المسمّى ب : «الصحيحيّ»
ـ فإنّه لا يصحّ له الرجوع إلى أصالة إطلاق اللفظ.
توضيح ذلك أنّ
المولى إذا أمرنا بإيجاد شيء وشككنا في حصول امتثاله بالإتيان بمصداق خارجيّ فله
صورتان يختلف الحكم فيهما :
١. أن يعلم صدق
عنوان المأمور به على ذلك المصداق ، ولكن يحتمل دخل قيد زائد في غرض المولى غير
متوفّر في ذلك المصداق ، كما إذا أمر المولى بعتق رقبة ، فإنّه يعلم بصدق عنوان
المأمور به على [إعتاق] الرقبة الكافرة ، ولكن يشكّ في دخل وصف الإيمان في غرض
المولى ، فيحتمل أن يكون قيدا للمأمور به.
فالقاعدة في مثل
هذا الرجوع إلى أصالة الإطلاق في نفي اعتبار القيد المحتمل اعتباره ، فلا يجب
تحصيله ، بل يجوز الاكتفاء في الامتثال بالمصداق المشكوك ، فيمتثل في المثال لو
أعتق رقبة كافرة.
٢. أن يشكّ في صدق
نفس عنوان المأمور به على ذلك المصداق الخارجيّ ، كما إذا أمر المولى بالتيمّم
بالصعيد ولا ندري أنّ ما عدا التراب هل يسمّى صعيدا أو لا؟ فيكون شكّنا في صدق
الصعيد على غير التراب. وفي مثله لا يصحّ الرجوع إلى أصالة الإطلاق لإدخال المصداق
المشكوك في عنوان المأمور به ليكتفى به في مقام الامتثال ، بل لا بدّ من الرجوع
__________________
إلى الأصول
العمليّة ، مثل قاعدة الاحتياط أو البراءة.
ومن هذا البيان
تظهر ثمرة النزاع في المقام الذي نحن فيه ، فإنّه في فرض الأمر بالصلاة والشكّ في
أنّ السورة ـ مثلا ـ جزء للصلاة أم لا؟
إن قلنا : إنّ
الصلاة اسم للأعمّ كانت المسألة من باب الصورة الأولى ؛ لأنّه بناء على هذا القول
يعلم بصدق عنوان الصلاة على المصداق الفاقد للسورة ، وإنّما الشكّ في اعتبار قيد
زائد على المسمّى ، فيتمسّك حينئذ بإطلاق كلام المولى في نفي اعتبار القيد الزائد
وهو كون السورة جزءا من الصلاة ، ويجوز الاكتفاء في الامتثال بفاقدها.
وإن قلنا : إنّ
الصلاة اسم للصحيح كانت المسألة من باب الصورة الثانية ؛ لأنّه عند الشكّ في
اعتبار السورة يشكّ في صدق عنوان المأمور به ـ أعني الصلاة ـ على المصداق الفاقد
للسورة ؛ إذ عنوان المأمور به هو الصحيح ، والصحيح هو عنوان المأمور به ، فما ليس
بصحيح ليس بصلاة ، فالفاقد للجزء المشكوك كما يشكّ في صحّته يشكّ في صدق عنوان
المأمور به عليه ، فلا يصحّ الرجوع إلى أصالة الإطلاق لنفي اعتبار جزئيّة السورة
حتّى يكتفى بفاقدها في مقام الامتثال ، بل لا بدّ من الرجوع إلى أصالة الاحتياط أو
أصالة البراءة على خلاف بين العلماء في مثله ، سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى .
المختار في
المسألة
إذا عرفت ما ذكرنا
من المقدّمات فالمختار عندنا هو الوضع للأعمّ. والدليل التبادر وعدم صحّة السلب عن
الفاسد ، وهما أمارتا الحقيقة ، كما تقدّم .
وهم ودفع
الوهم
: قد يعترض على
المختار فيقال : إنّه لا يمكن الوضع بإزاء الأعمّ ؛ لأنّ الوضع له
__________________
يستدعي أن نتصوّر
معنى كلّيّا جامعا بين أفراده ومصاديقه هو الموضوع له ، كما في أسماء الأجناس.
وكذلك الوضع للصحيح يستدعي تصوّر كلّيّ جامع بين مراتبه وأفراده. ولا شكّ أنّ
مراتب الصلاة ـ مثلا ـ الفاسدة والصحيحة كثيرة متفاوتة ، وليس بينها قدر جامع يصحّ
وضع اللفظ بإزائه.
توضيح
ذلك : أنّ أيّ جزء من
أجزاء الصلاة حتّى الأركان إذا فرض عدمه يصحّ صدق اسم الصلاة على الباقي ، بناء
على القول بالأعمّ ، كما يصحّ صدقه مع وجوده وفقدان غيره من الأجزاء. وعليه ، يكون
كلّ جزء مقوّما للصلاة عند وجوده غير مقوّم عند عدمه ، فيلزم التبدّل في حقيقة
الماهيّة ، بل يلزم الترديد فيها عند وجود تمام الأجزاء ؛ لأنّ أيّ جزء منها لو
فرض عدمه يبقى صدق الاسم على حاله ، وكلّ منهما ـ أي التبدّل والترديد في الحقيقة
الواحدة ـ غير معقول ؛ إذ إنّ كلّ ماهيّة تفرض لا بدّ أن تكون متعيّنة في حدّ
ذاتها ، وإن كانت مبهمة من جهة تشخّصاتها الفرديّة ، والتبدّل أو الترديد في ذات
الماهيّة معناه إبهامها في حدّ ذاتها ، وهو مستحيل.
الدفع : أنّ هذا التبادل في الأجزاء وتكثّر مراتب الفاسدة لا
يمنع من فرض قدر مشترك جامع بين الأفراد ، ولا يلزم التبدّل والترديد في ذات
الحقيقة الجامعة بين الأفراد. وهذا نظير لفظ «الكلمة» الموضوع لما تركّب من حرفين
فصاعدا ، ويكون الجامع بين الأفراد هو «ما تركّب من حرفين فصاعدا» ، مع أنّ الحروف
كثيرة ، فربّما تتركّب الكلمة من الألف والباء ، كأب ، ويصدق عليها أنّها كلمة ،
وربّما تتركّب من حرفين آخرين مثل «يد» ، ويصدق عليها أنّها كلمة ... وهكذا. فكلّ
حرف يجوز أن يكون داخلا وخارجا في مختلف الكلمات ، مع صدق اسم الكلمة.
وكيفيّة تصحيح
الوضع في ذلك أنّ الواضع يتصوّر أوّلا جميع الحروف الهجائيّة ، ثمّ يضع لفظ «الكلمة»
بإزاء طبيعة «المركّب من اثنين فصاعدا إلى حدّ سبعة حروف» مثلا. والغرض من التقييد
بقولنا : «فصاعدا» بيان أنّ الكلمة تصدق على الأكثر من حرفين ، كصدقها على المركّب
من حرفين.
ولا يلزم الترديد
في الماهية ؛ فإنّ الماهية الموضوع لها هي طبيعة اللفظ الكلّي المتركّب
من حرفين فصاعدا ،
والتبدّل والترديد إنّما يكون في أجزاء أفرادها. وقد يسمّى ذلك : «الكلّيّ في
المعيّن» أو «الكلّيّ المحصور في أجزاء معيّنة». وفي المثال أجزاؤه المعيّنة هي
الحروف الهجائيّة كلّها.
وعلى هذا فينبغي
أن يقاس لفظ «الصلاة» ـ مثلا ـ ، فإنّه يمكن تصوّر جميع أجزاء الصلاة في مراتبها
كلّها ، وهي ـ أي هذه الأجزاء ـ معيّنة معروفة ، كالحروف الهجائيّة ، فيضع اللفظ
بإزاء طبيعة «العمل المركّب من خمسة أجزاء منها ـ مثلا ـ فصاعدا» ، فعند وجود تمام
الأجزاء يصدق على المركّب أنّه صلاة ، وعند وجود بعضها ـ ولو خمسة على أقلّ تقدير
على الفرض ـ يصدق اسم الصلاة أيضا.
بل
الحقّ أنّ الذي لا يمكن
تصوّر الجامع فيه هو خصوص المراتب الصحيحة ، وهذا المختصر لا يسع تفصيل ذلك.
تنبيهان
١. لا يجري النزاع
في المعاملات بمعنى المسبّبات
إنّ ألفاظ
المعاملات ، كالبيع والنكاح ، والإيقاعات ، كالطلاق والعتق ، يمكن تصوير وضعها على
أحد نحوين :
١. أن تكون موضوعة
للأسباب التي تسبّب مثل الملكيّة والزوجيّة والفراق والحرّية ونحوها. ونعني بالسبب
إنشاء العقد والإيقاع ، كالإيجاب والقبول معا في العقود ، والإيجاب فقط في
الإيقاعات. وإذا كانت كذلك فالنزاع المتقدّم يصحّ أن نفرضه في ألفاظ المعاملات من
كونها أسامي لخصوص الصحيحة ـ أعني تامّة الأجزاء والشرائط المؤثّرة في المسبّب ـ أو
للأعمّ من الصحيحة والفاسدة. ونعني بالفاسدة ما لا يؤثّر في المسبّب إمّا لفقدان
جزء أو شرط.
٢. أن تكون موضوعة
للمسبّبات ، ونعني بالمسبّب نفس الملكيّة والزوجيّة والفراق والحرّية ونحوها. وعلى
هذا فالنزاع المتقدّم لا يصحّ فرضه في المعاملات ؛ لأنّها لا تتّصف بالصحّة
والفساد ؛ لكونها بسيطة غير مركّبة من أجزاء وشرائط ، بل إنّما تتّصف بالوجود
تارة وبالعدم
أخرى. فهذا عقد البيع ـ مثلا ـ إمّا أن يكون واجدا لجميع ما هو معتبر في صحّة
العقد أو لا ، فإن كان الأوّل اتّصف بالصحّة ، وإن كان الثاني اتّصف بالفساد. ولكن
الملكيّة المسبّبة للعقد يدور أمرها بين الوجود والعدم ؛ لأنّها توجد عند صحّة
العقد ، وعند فساده لا توجد أصلا ، لا أنّها توجد فاسدة. فإذا أريد من البيع نفس
المسبّب ـ وهو الملكيّة المنتقلة إلى المشتري ـ فلا تتّصف بالصحّة والفساد حتّى
يمكن تصوير النزاع فيها .
٢. لا ثمرة للنزاع
في المعاملات إلاّ في الجملة
قد عرفت أنّه على
القول بوضع ألفاظ «العبادات» للصحيحة لا يصحّ التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في
اعتبار شيء فيها جزءا كان أو شرطا ؛ لعدم إحراز صدق الاسم على الفاقد له. وإحراز
صدق الاسم على الفاقد شرط في صحّة التمسّك بالإطلاق.
إلاّ أنّ هذا
الكلام لا يجري في ألفاظ «المعاملات» ؛ لأنّ معانيها غير مستحدثة ، والشارع
بالنسبة إليها كواحد من أهل العرف ، فإذا استعمل أحد ألفاظها فيحمل لفظه على معناه
الظاهر فيه عندهم إلاّ إذا نصب قرينة على خلافه.
فإذا شككنا في
اعتبار شيء عند الشارع في صحّة البيع ـ مثلا ـ ولم ينصب قرينة على ذلك في كلامه ،
فإنّه يصحّ التمسّك بإطلاقه لدفع هذا الاحتمال ، حتّى لو قلنا بأنّ ألفاظ
المعاملات موضوعة للصحيح ؛ لأنّ المراد من الصحيح هو الصحيح عند العرف العامّ ، لا
عند الشارع. فإذا اعتبر الشارع قيدا زائدا على ما يعتبره العرف كان ذلك قيدا زائدا
على أصل معنى اللفظ ، فلا يكون دخيلا في صدق عنوان المعاملة الموضوعة ـ حسب الفرض
ـ للصحيح على المصداق المجرّد عن القيد. وحالها في ذلك حال ألفاظ العبادات لو كانت
موضوعة للأعمّ.
__________________
نعم ، إذا احتمل
أنّ هذا القيد دخيل في صحّة المعاملة عند أهل العرف أنفسهم أيضا فلا يصحّ التمسّك
بالإطلاق لدفع هذا الاحتمال ، بناء على القول بالصحيح ـ كما هو شأن ألفاظ العبادات
ـ ؛ لأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في صدق عنوان المعاملة. وأمّا على القول بالأعمّ
فيصحّ التمسّك بالإطلاق لدفع الاحتمال.
فتظهر ثمرة النزاع
ـ على هذا ـ في ألفاظ المعاملات أيضا ، ولكنّها ثمرة نادرة.
تمرينات (٦)
التمرين الأوّل
١. ما هو تعريف
الحقيقة الشرعيّة؟
٢. هل الحقيقة
الشرعيّة ثابتة أم لا؟
٣. ما الفائدة المترتّبة
على ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدم ثبوتها؟
٤. هل النزاع في
وضع ألفاظ العبادات والمعاملات للصحيحة أو الأعمّ متفرّع على ثبوت الحقيقة
الشرعيّة أم لا؟
٥. ما المراد من
الصحيحة من العبادة أو المعاملة؟
٦. ما هو مختار
المصنّف رحمهالله في وضع ألفاظ العبادات والمعاملات؟ وما هي أدلّته؟
٧. قد اعترض على
مختار المصنّف رحمهالله ، فاذكر الاعتراض وما يدفعه.
٨. بيّن ثمرة
القولين في العبادات.
٩. هل النزاع يجري
في المعاملات؟
١٠. ما هي ثمرة
النزاع في المعاملات؟
التمرين الثاني
١. بيّن كلام
العلاّمة العراقي والسيّد المحقّق الخوئي والإمام الخميني في كيفيّة جريان النزاع
في ألفاظ المعاملات وإن كانت موضوعة للمسبّبات.
المقصد الأوّل
مباحث
الألفاظ
تمهيد
المقصود من «مباحث
الألفاظ» ، تشخيص ظهور الألفاظ من ناحية عامّة ، إمّا بالوضع ، أو بإطلاق الكلام ،
لتكون نتيجتها قواعد كلّيّة تنقّح صغريات أصالة الظهور التي سنبحث عن حجيّتها في
المقصد الثالث. وقد سبقت الإشارة إليها .
وتلك المباحث تقع
في هيئات الكلام التي يقع فيها الشكّ والنزاع ، سواء كانت هيئات المفردات ، كهيئة
المشتقّ والأمر والنهي ، أو هيئات الجمل ، كالمفاهيم ونحوها.
أمّا البحث عن
موادّ الألفاظ الخاصّة ، وبيان وضعها وظهورها ـ مع أنّها تنقّح أيضا صغريات أصالة الظهور
ـ : فإنّه لا يمكن ضبط قاعدة كلّيّة عامّة فيها. فلذا لا يبحث عنها في علم الأصول
، ومعاجم اللغة ونحوها هي المتكفّلة بتشخيص مفرداتها.
وعلى أيّ حال ،
فنحن نعقد «مباحث الألفاظ» في سبعة أبواب :
١. المشتق
٢. الأوامر
٣. النواهي
٤. المفاهيم
٥. العامّ والخاصّ
٦. المطلق
والمقيّد
٧. المجمل
والمبيّن
__________________
الباب الأوّل
المشتقّ
اختلف الأصوليون
من القديم في المشتقّ في أنّه حقيقة في خصوص ما تلبّس بالمبدإ في الحال ومجاز فيما
انقضى عنه التلبّس ، أو أنّه حقيقة في كليهما ، بمعنى أنّه موضوع للأعمّ منهما ؟
بعد اتّفاقهم على
أنّه مجاز فيما يتلبّس بالمبدإ في المستقبل.
ـ ذهب الأشاعرة وجماعة من المتأخّرين من أصحابنا إلى الأوّل .
__________________
ـ وذهب المعتزلة
وجماعة من المتقدّمين من أصحابنا إلى الثاني .
والحقّ
هو القول الأوّل.
وللعلماء أقوال أخر فيها تفصيلات بين هذين القولين لا يهمّنا التعرّض لها بعد اتّضاح الحقّ فيما يأتي.
وأهمّ شيء يعنينا
في هذه المسألة ـ قبل بيان الحقّ فيها وهو أصعب ما فيها ـ أن نفهم محلّ النزاع
وموضع النفي والإثبات. ولأجل أن يتّضح في الجملة موضع الخلاف نذكر مثالا له ،
فنقول :
إنّه ورد كراهة
الوضوء والغسل بالماء المسخن بالشمس ، فمن قال بالأوّل فلا بدّ ألاّ يقول
بكراهتهما بالماء الذي برد وانقضى عنه التلبّس ؛ لأنّه عنده لا يصدق عليه حينئذ
أنّه مسخن بالشمس ، بل كان مسخنا. ومن قال بالثاني فلا بدّ أن يقول بكراهتهما
بالماء حال انقضاء التلبّس أيضا ؛ لأنّه عنده يصدق عليه أنّه مسخن حقيقة بلا مجاز.
ولتوضيح ذلك نذكر
الآن أربعة أمور مذلّلة لتلك الصعوبة ، ثمّ نذكر القول المختار ودليله.
١. ما
المراد من المشتقّ المبحوث عنه؟
اعلم أنّ «المشتقّ»
باصطلاح النحاة ما يقابل الجامد ، ومرادهم واضح . ولكن ليس هو موضع النزاع هنا ، بل بين المشتقّ بمصطلح النحويّين وبين
المشتقّ المبحوث عنه عموم وخصوص من وجه ؛ لأنّ موضع النزاع هنا يشمل كلّ ما يحمل
على الذات باعتبار قيام صفة فيها ، خارجة عنها ، تزول عنها وإن كان باصطلاح النحاة
معدودا من الجوامد ، كلفظ الزوج والأخ والرقّ ونحو ذلك. ومن جهة أخرى لا يشمل
الفعل بأقسامه ولا المصدر وإن كانت تسمّى مشتقّات عند النحويّين.
__________________
والسرّ في ذلك أنّ
موضع النزاع هنا يعتبر فيه شيئان :
١. أن يكون جاريا
على الذات ، بمعنى أنّه يكون حاكيا عنها وعنوانا لها ، نحو اسم الفاعل ، واسم
المفعول ، وأسماء المكان والآلة وغيرهما ، وما شابه هذه الأمور من الجوامد. ومن
أجل هذا الشرط لا يشمل هذا النزاع الأفعال ولا المصادر ؛ لأنّها كلّها لا تحكي عن
الذات ولا تكون عنوانا لها ، وإن كانت تسند إليها.
٢. ألاّ تزول
الذات بزوال تلبّسها بالصفة ـ ونعني بالصفة المبدأ الذي منه يكون انتزاع المشتقّ
واشتقاقه ، ويصحّ صدقه على الذات ـ بمعنى أن تكون الذات باقية محفوظة لو زال
تلبّسها بالصفة ، فهي تتلبّس بها تارة ولا تتلبّس بها أخرى ، والذات تلك الذات في
كلا الحالين.
وإنّما نشترط ذلك
لأجل أن نتعقّل انقضاء التلبّس بالمبدإ مع بقاء الذات حتّى يصحّ أن نتنازع في صدق
المشتقّ حقيقة عليها مع انقضاء حال التلبّس بعد الاتّفاق على صدقه حقيقة عليها حال
التلبّس ، وإلاّ لو كانت الذات تزول بزوال التلبّس لا يبقى معنى لفرض صدق المشتقّ
على الذات مع انقضاء حال التلبّس ، لا حقيقة ولا مجازا.
وعلى هذا ، لو كان
المشتقّ من الأوصاف التي تزول الذات بزوال التلبّس بمبادئها ، فلا يدخل في محلّ
النزاع ، وإن صدق عليها اسم المشتقّ ، مثل ما لو كان من الأنواع أو الأجناس أو
الفصول بالقياس إلى الذات ، كالناطق والصاهل والحسّاس والمتحرّك بالإرادة.
واعتبر ذلك في
مثال كراهة الجلوس للتغوّط تحت الشجرة المثمرة ، فإنّ هذا المثال يدخل في محلّ
النزاع لو زالت الثمرة عن الشجرة ، فيقال : هل يبقى اسم «المثمرة» صادقا حقيقة
عليها حينئذ فيكره الجلوس أو لا؟ أمّا : لو اجتثّت الشجرة فصارت خشبة فإنّها لا
تدخل في محلّ النزاع ؛ لأنّ الذات ـ وهي «الشجرة» ـ قد زالت بزوال الوصف الداخل في
حقيقتها ، فلا يتعقّل معه بقاء وصف الشجرة المثمرة لها ، لا حقيقة ولا مجازا.
وأمّا الخشب : فهو ذات أخرى لم يكن فيما مضى قد صدق عليه ـ بما أنّه خشب ـ وصف
الشجرة المثمرة حقيقة ؛ إذ لم يكن متلبّسا ـ بما هو خشب ـ بالشجرة ثمّ زال عنه
التلبّس.
وبناء على اعتبار
هذين الشرطين يتّضح ما ذكرناه في صدر البحث من أنّ موضع النزاع في المشتقّ يشمل
كلّ ما كان جاريا على الذات باعتبار قيام صفة خارجة عن الذات وإن كان معدودا من
الجوامد اصطلاحا. ويتّضح أيضا عدم شمول النزاع للأفعال والمصادر.
كما يتّضح أنّ
النزاع يشمل كلّ وصف جار على الذات ، ولا يفرق فيه بين أن يكون مبدؤه من الأعراض
الخارجيّة المتأصّلة ، كالبياض والسواد والقيام والقعود ، أو من الأمور
الانتزاعيّة ، كالفوقيّة والتحتيّة والتقدّم والتأخّر ، أو من الأمور الاعتباريّة
المحضة ، كالزوجيّة والملكيّة والوقف والحرّيّة.
٢. جريان
النزاع في اسم الزمان
بناء على ما تقدّم
قد يظنّ عدم جريان النزاع في اسم الزمان ؛ لأنّه قد تقدّم أنّه يعتبر في جريانه
بقاء الذات مع زوال الوصف ، مع أنّ زوال الوصف في اسم الزمان ملازم لزوال الذات ؛
لأنّ الزمان متصرّم الوجود ، فكلّ جزء منه ينعدم بوجود الجزء اللاحق ، فلا تبقى
ذات مستمرّة ؛ فإذا كان يوم الجمعة مقتل زيد ـ مثلا ـ فيوم السبت الذي بعده ذات
أخرى من الزمان لم يكن لها وصف القتل فيها ، ويوم الجمعة تصرّم وزال كما زال نفس
الوصف .
والجواب : أنّ هذا صحيح لو كان لاسم الزمان لفظ مستقلّ مخصوص ،
ولكن الحقّ أنّ اسم الزمان موضوعة لما هو يعمّ اسم الزمان والمكان ويشملهما معا ،
فمعنى «المضرب» ـ مثلا ـ الذات المتّصفة بكونها ظرفا للضرب ، والظرف أعمّ من أن
يكون زمانا أو مكانا ،
__________________
ويتعيّن أحدهما
بالقرينة. والهيئة إذا كانت موضوعة للجامع بين الظرفين فهذا الجامع يكفي في صحّة
الوضع له ، وتعميمه لما تلبّس بالمبدإ وما انقضى عنه أن يكون أحد فرديه يمكن أن
يتصوّر فيه انقضاء المبدأ وبقاء الذات.
والخلاصة : أنّ النزاع حينئذ يكون في وضع أصل الهيئة التي تصلح
للزمان والمكان ، لا لخصوص اسم الزمان. ويكفي في صحّة الوضع للأعمّ إمكان الفرد
المنقضي عنه المبدأ في أحد أقسامه ، وإن امتنع الفرد الآخر.
٣. اختلاف
المشتقّات من جهة المبادئ
وقد يتوهّم بعضهم أنّ النزاع هنا لا يجري في بعض المشتقّات الجارية على الذات ، مثل النجّار
والخيّاط والطبيب والقاضي ، ونحو ذلك ممّا كان للحرف والمهن ، بل في هذه من
المتّفق عليه أنّه موضوع للأعمّ. ومنشأ الوهم أنّا نجد صدق هذه المشتقّات حقيقة
على من انقضى عنه التلبّس بالمبدإ ـ من غير شكّ ـ ، وذلك نحو صدقها على من كان
نائما ـ مثلا ـ مع أنّ النائم غير متلبّس بالنجارة فعلا ، أو الخياطة ، أو الطبابة
، أو القضاء ، ولكنّه كان متلبّسا بها في زمان مضى. وكذلك الحال في أسماء الآلة ،
كالمنشار والمقود والمكنسة ؛ فإنّها تصدق على ذواتها حقيقة مع عدم التلبّس بمبادئها.
والجواب
عن ذلك : أنّ هذا
التوهّم منشؤه الغفلة عن معنى المبدأ المصحّح لصدق المشتقّ ، فإنّه يختلف باختلاف
المشتقّات ؛ لأنّه تارة يكون من الفعليّات ، وأخرى من الملكات ، وثالثة من الحرف
والصناعات. مثلا : اتّصاف زيد بأنّه قائم إنّما يتحقّق إذا تلبّس بالقيام فعلا ؛
لأنّ القيام يؤخذ على نحو الفعليّة مبدأ لوصف «قائم» ، ويفرض الانقضاء بزوال
فعليّة القيام عنه. وأمّا اتّصافه بأنّه عالم بالنحو أو أنّه قاضي البلد : فليس
بمعنى أنّه يعلم ذلك فعلا ، أو أنّه مشغول بالقضاء بين الناس فعلا ، بل بمعنى أنّ
له ملكة العلم أو منصب القضاء ، فما دامت الملكة أو الوظيفة موجودتين فهو متلبّس بالمبدإ حالا وإن كان
__________________
نائما أو غافلا.
نعم ، يصحّ أن نتعقّل الانقضاء إذا زالت الملكة أو سلبت عنه الوظيفة ، وحينئذ يجري
النزاع في أنّ وصف القاضي ـ مثلا ـ هل يصدق حقيقة على من زال عنه منصب القضاء؟
وكذلك الحال في
مثل النجّار والخيّاط والمنشار ، فلا يتصوّر فيها الانقضاء إلاّ بزوال حرفة
النجارة ، ومهنة الخياطة ، وشأنيّة النشر في المنشار.
والخلاصة : أنّ الزوال والانقضاء في كلّ شيء بحسبه ، والنزاع في
المشتقّ إنّما هو في وضع الهيئات ، مع قطع النظر عن خصوصيات المبادئ المدلول عليها
بالموادّ التي تختلف اختلافا كثيرا.
٤.
استعمال المشتقّ بلحاظ حال التلبّس حقيقة
اعلم أنّ
المشتقّات التي هي محلّ النزاع بأجمعها هي من الأسماء.
والأسماء مطلقا لا
دلالة لها على الزمان حتّى اسم الفاعل واسم المفعول ، فإنّه كما يصدق العالم حقيقة
على من هو عالم فعلا كذلك يصدق حقيقة على من كان عالما فيما مضى ، أو يكون عالما
فيما يأتي ، بلا تجوّز إذا كان إطلاقه عليه بلحاظ حال التلبّس بالمبدإ ، كما إذا
قلنا : «كان عالما» أو «سيكون عالما» ، فإنّ ذلك حقيقة بلا ريب ، نظير الجوامد لو
تقول فيها ـ مثلا ـ : «الرماد كان خشبا» أو «الخشب سيكون رمادا». فإذن إذا كان
الأمر كذلك فما موقع النزاع في إطلاق المشتقّ على ما مضى عليه التلبّس أنّه حقيقة
أو مجاز؟
نقول
: إنّ الإشكال
والنزاع هنا إنّما هو فيما إذا انقضى التلبّس بالمبدإ وأريد إطلاق المشتقّ فعلا
على الذات التي انقضى عنها التلبّس ، أي إنّ الإطلاق عليها بلحاظ حال النسبة
والإسناد الذي هو حال النطق غالبا ، كأن تقول ـ مثلا ـ : «زيد عالم فعلا» ، أي
إنّه الآن موصوف بأنّه عالم ؛ لأنّه كان فيما مضى عالما ، كمثال إثبات الكراهة
للوضوء بالماء المسخن بالشمس سابقا بتعميم لفظ المسخن في الدليل لما كان مسخنا.
فتحصّل ممّا
ذكرناه ثلاثة أمور :
١. إنّ إطلاق
المشتقّ بلحاظ حال التلبّس حقيقة مطلقا ، سواء كان بالنظر إلى ما مضى
أو الحال أو
المستقبل. وذلك بالاتّفاق.
٢. إنّ إطلاقه على
الذات فعلا بلحاظ حال النسبة والإسناد قبل زمان التلبّس لأنّه سيتلبّس به فيما بعد
مجاز بلا اشكال ، وذلك بعلاقة الأول أو المشارفة. وهذا متّفق عليه أيضا.
٣. إنّ إطلاقه على
الذات فعلا ـ أي بلحاظ حال النسبة والإسناد ـ لأنّه كان متّصفا به سابقا هو محلّ
الخلاف والنزاع ، فقال قوم بأنّه حقيقة ، وقال آخرون بأنّه مجاز.
المختار
إذا عرفت ما تقدّم
من الأمور ، فنقول :
الحقّ
أنّ المشتق حقيقة
في خصوص المتلبّس بالمبدإ ، ومجاز في غيره.
ودليلنا
: التبادر وصحّة
السلب عمّن زال عنه الوصف ، فلا يقال لمن هو قاعد بالفعل : «إنّه قائم» ، ولا لمن
هو جاهل بالفعل : «إنّه عالم». وذلك لمجرّد أنّه كان قائما أو عالما فيما سبق.
نعم ، يصحّ ذلك
على نحو المجاز ، أو يقال : «إنّه كان قائما أو عالما» ، فيكون حقيقة حينئذ ؛ إذ
يكون الإطلاق بلحاظ حال التلبّس.
وعدم تفرقة بعضهم بين الإطلاق بلحاظ حال التلبّس وبين الإطلاق بلحاظ حال النسبة والإسناد هو
الذي أوهم القول بوضع المشتقّ للأعمّ ؛ إذ وجد أنّ الاستعمال يكون على نحو الحقيقة
فعلا مع أنّ التلبّس قد مضى ، ولكنّه غفل عن أنّ الإطلاق كان بلحاظ حال التلبّس ،
فلم يستعمله ـ في الحقيقة ـ إلاّ في خصوص المتلبّس بالمبدإ ، لا فيما مضى عنه
التلبّس حتّى يكون شاهدا له.
ثمّ إنّك عرفت ـ فيما
سبق ـ أنّ زوال الوصف يختلف باختلاف الموادّ من جهة كون المبدأ
أخذ على نحو الفعليّة أو على نحو الملكة أو الحرفة. فمثل صدق الطبيب حقيقة
__________________
على من لا يشتغل
بالطبابة فعلا لنوم أو راحة أو أكل لا يكشف عن كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ ـ كما
قيل ـ ، وذلك لأنّ المبدأ فيه أخذ على نحو الحرفة أو الملكة ،
وهذا لم يزل تلبّسه به حين النوم أو الراحة.
نعم ، إذا زالت
الملكة أو الحرفة عنه كان إطلاق الطبيب عليه مجازا ، إذا لم يكن بلحاظ حال التلبّس
كما لو قيل : «هذا طبيبنا بالأمس» ، بأن يكون قيد «بالأمس» لبيان حال التلبّس ،
فإنّ هذا الاستعمال لا شكّ في كونه على نحو الحقيقة. وقد سبق بيان ذلك .
تمرينات (٧)
التمرين الأوّل
١. ما هو محلّ
النزاع في المشتقّ؟
٢. ما هو رأي
المعتزلة والأشاعرة في باب المشتقّ؟
٣. ما المراد من
المشتقّ المبحوث عنه؟
٤. ما الدليل على
جريان النزاع في اسم الزمان؟
٥. هل يختلف تلبّس
المبدأ بالذات باختلاف الجهات؟
٦. ما هو مختار
المصنّف ودليله؟
التمرين الثاني
١. هل النزاع في
المشتقّ لغويّ أو عقليّ؟
__________________
الباب الثاني
الأوامر
وفيه بحثان :
[١]. في مادّة
الأمر.
[٢]. وصيغة الأمر.
وخاتمة في تقسيمات
الواجب.
المبحث
الأوّل : مادّة الأمر
وهي كلمة «الأمر»
المؤلّفة من الحروف (أ. م. ر). وفيها ثلاث مسائل :
١. معنى كلمة «الأمر»
قيل : إنّ كلمة «الأمر» لفظ مشترك بين الطلب وغيره ممّا تستعمل فيه هذه الكلمة ،
كالحادثة والشأن والفعل ، كما تقول : «جئت لأمر كذا» ، أو «شغلني أمر» أو «أتى
فلان بأمر عجيب».
ولا يبعد أن تكون
المعاني ـ التي تستعمل فيها كلمة «الأمر» ما خلا الطلب ـ ترجع إلى معنى واحد جامع
بينها ، وهو مفهوم «الشيء» ، فيكون لفظ «الأمر» مشتركا بين معنيين فقط : «الطلب» و
«الشيء ».
__________________
والمراد من الطلب
إظهار الإرادة والرغبة بالقول أو الكتابة أو الإشارة أو نحو هذه الأمور ممّا يصحّ
إظهار الإرادة والرغبة وإبرازهما به ، فمجرّد الإرادة
والرغبة من دون إظهارها بمظهر لا يسمّى طلبا. والظاهر أنّه ليس كلّ طلب يسمّى أمرا
، بل بشرط مخصوص سيأتي ذكره في المسألة الثانية ، فتفسير «الأمر» بالطلب من
باب تعريف الشيء بالأعمّ.
والمراد من الشيء
من لفظ «الأمر» أيضا ليس كلّ شيء على الإطلاق ، فيكون تفسيره به من باب تعريف
الشيء بالأعمّ أيضا ؛ فإنّ الشيء لا يقال له : «أمر» إلاّ إذا كان من الأفعال
والصفات ، ولذا لا يقال : «رأيت أمرا» إذا رأيت إنسانا أو شجرا أو حائطا. ولكن ليس
المراد من الفعل والصفة المعنى الحدثيّ ـ أي المعنى المصدريّ ـ ، بل المراد منه
نفس الفعل أو الصفة بما هو موجود في نفسه ، ـ يعني لم يلاحظ فيه جهة الصدور من
الفاعل والإيجاد وهو المعبّر عنه عند بعضهم بالمعنى الاسم المصدريّ ، أي ما يدلّ
عليه اسم المصدر ـ. ولذا لا يشتقّ منه ، فلا يقال : (أمر. يأمر. آمر. مأمور)
بالمعنى المأخوذ من الشيء ، ولو كان معنى حدثيّا ، لاشتقّ منه.
بخلاف الأمر بمعنى
الطلب ، فإنّ المقصود منه المعنى الحدثيّ وجهة الصدور والإيجاد ، ولذا يشتقّ منه
فيقال : (أمر. يأمر. آمر. مأمور).
والدليل على أنّ
لفظ الأمر مشترك بين معنيين : الطلب والشيء ، لا أنّه موضوع للجامع بينهما :
١. إنّ «الأمر» ـ كما
تقدّم ـ بمعنى الطلب يصحّ الاشتقاق منه ، ولا يصحّ الاشتقاق منه بمعنى الشيء ؛
والاختلاف بالاشتقاق وعدمه دليل على تعدّد الوضع.
__________________
__________________
٢. إنّ «الأمر»
بمعنى الطلب يجمع على «أوامر» وبمعنى الشيء على «أمور» ؛ واختلاف الجمع في
المعنيين دليل على تعدّد الوضع.
٢. اعتبار العلوّ
في معنى الأمر
قد سبق أنّ الأمر
يكون بمعنى الطلب ، ولكن لا مطلقا بل بمعنى طلب مخصوص. والظاهر أنّ الطلب المخصوص
هو الطلب من العالي إلى الداني ، فيعتبر فيه العلوّ في الآمر.
وعليه ، لا يسمّى
الطلب من الداني إلى العالي «أمرا» ، بل يسمّى «استدعاء». وكذا لا يسمّى الطلب من
المساوي إلى مساويه في العلوّ أو الحطّة «أمرا» ، بل
يسمّى «التماسا» ، وإن استعلى الداني أو المساوي وأظهر علوّه وترفّعه وليس هو بعال
حقيقة.
أمّا العالي فطلبه
يكون أمرا وإن لم يكن متظاهرا بالعلوّ .
كلّ هذا بحكم
التبادر وصحّة سلب الأمر عن طلب غير العالي ، ولا يصحّ إطلاق الأمر على الطلب من
غير العالي إلاّ بنحو العناية والمجاز وإن استعلى.
٣. دلالة لفظ
الأمر على الوجوب
اختلفوا في دلالة
لفظ «الأمر» بمعنى الطلب على الوجوب ، فقيل : إنّه موضوع لخصوص الطلب الوجوبيّ . وقيل : للأعمّ منه ومن الطلب الندبيّ . وقيل : مشترك
بينهما اشتراكا لفظيّا . وقيل : غير ذلك .
__________________
والحقّ
عندنا أنّه دالّ
على الوجوب وظاهر فيه ، فيما إذا كان مجرّدا وعاريا عن قرينة على الاستحباب.
واحراز هذا الظهور بهذا المقدار كاف في صحّة استنباط الوجوب من الدليل الذي يتضمّن
كلمة «الأمر» ، ولا يحتاج إلى إثبات [أنّ] منشأ هذا الظهور هل هو الوضع أو شيء آخر؟
ولكن من ناحية
علميّة صرفة يحسن أن نفهم منشأ هذا الظهور ، فقد قيل : إنّ معنى الوجوب مأخوذ قيدا
في الموضوع له لفظ «الأمر» . وقيل : مأخوذ قيدا في المستعمل فيه إن لم يكن مأخوذا في
الموضوع له .
والحقّ
أنّه ليس قيدا في
الموضوع له ولا في المستعمل فيه ، بل منشأ هذا الظهور من جهة حكم العقل بوجوب طاعة
الآمر ؛ فإنّ العقل يستقلّ بلزوم الانبعاث عن بعث المولى والانزجار عن زجره ؛ قضاء
لحقّ المولويّة والعبوديّة ، فبمجرّد بعث المولى يجد العقل أنّه لا بدّ للعبد من
الطاعة والانبعاث ما لم يرخّص في تركه ويأذن في مخالفته. فليس المدلول للفظ «الأمر»
إلاّ الطلب من العالي ، ولكنّ العقل هو الذي يلزم العبد بالانبعاث ويوجب عليه
الطاعة لأمر المولى ما لم يصرّح المولى بالترخيص ويأذن بالترك .
وعليه ، فلا يكون
استعماله في موارد الندب مغايرا لاستعماله في موارد الوجوب من جهة المعنى المستعمل
فيه اللفظ. فليس هو موضوعا للوجوب ، بل ولا موضوعا للأعمّ من الوجوب والندب ؛ لأنّ
الوجوب والندب ليسا من التقسيمات اللاحقة للمعنى المستعمل فيه اللفظ ، بل من
التقسيمات اللاحقة للأمر بعد استعماله في معناه الموضوع له.
__________________
تمرينات (٨)
١. ما معنى الأمر
بمادّته؟
٢. ما الدليل على
أنّ لفظ «الأمر» مشترك بين الطلب والشيء؟
٣. هل يعتبر
العلوّ في معنى الأمر؟
٤. ما هي الأقوال
في مدلول لفظ الأمر؟
٥. ما هو منشأ
ظهور لفظ الأمر في الوجوب؟
المبحث
الثاني : صيغة الأمر
١. معنى صيغة
الأمر
صيغة الأمر ـ أي
هيئته ـ ، كصيغة «افعل» ونحوها تستعمل في موارد كثيرة :
منها : البعث ،
كقوله (تعالى) : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .
ومنها : التهديد ،
كقوله (تعالى) : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) .
ومنها : التعجيز ،
كقوله (تعالى) : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) .
وغير ذلك من
التسخير ، والإنذار ، والترجّي
والتمنّي ، ونحوها . ولكنّ الظاهر
أنّ الهيئة في جميع هذه المعاني استعملت في معنى واحد ، لكن ليس هو واحدا من هذه
المعاني ؛ لأنّ الهيئة مثل «افعل» شأنها شأن الهيئات الأخرى وضعت لإفادة نسبة
خاصّة كالحروف ، ولم توضع لإفادة معان مستقلّة ، فلا يصحّ أن يراد منها مفاهيم هذه
المعاني المذكورة التي هي معان اسميّة.
وعليه ، فالحقّ
أنّها موضوعة للنسبة الخاصّة القائمة بين المتكلّم والمخاطب والمادّة ، والمقصود
من المادّة الحدث الذي وقع عليه مفاد الهيئة ، مثل الضرب والقيام والقعود في «اضرب»
و «قم» و «اقعد» ونحو ذلك. وحينئذ ينتزع منها عنوان طالب
__________________
ومطلوب منه
ومطلوب.
فقولنا : «اضرب» ،
يدلّ على النسبة الطلبيّة بين الضرب والمتكلّم والمخاطب ، ومعنى ذلك جعل الضرب على
عهدة المخاطب ، وبعثه نحوه وتحريكه إليه ، وجعل الداعي في نفسه للفعل.
وعلى هذا ، فمدلول
هيئة الأمر ومفادها هو النسبة الطلبيّة ، وإن شئت فسمّها : «النسبة البعثيّة » ؛ لغرض إبراز جعل المأمور به ـ أي المطلوب ـ في عهدة المخاطب ، وجعل الداعي
في نفسه ، وتحريكه وبعثه نحوه ، ما شئت فعبّر ، غير أنّ هذا الجعل أو الإنشاء
يختلف فيه الداعي له من قبل المتكلّم ، فتارة ، يكون الداعي له هو البعث الحقيقيّ
وجعل الداعي في نفس المخاطب لفعل المأمور به ، فيكون هذا الإنشاء حينئذ مصداقا
للبعث والتحريك وجعل الداعي ، أو إن شئت فقل : يكون مصداقا للطلب ، فإنّ المقصود
واحد. وأخرى يكون الداعي له هو التهديد ، فيكون مصداقا للتهديد ، ويكون تهديدا
بالحمل الشائع. وثالثة يكون الداعي له هو التعجيز ، فيكون مصداقا للتعجيز وتعجيزا
بالحمل الشائع ... وهكذا في باقي المعاني المذكورة وغيرها.
وإلى هنا يتجلّى
ما نريد أن نوضحه ؛ فإنّا نريد أن نقول بنصّ العبارة إنّ البعث أو التهديد أو
التعجيز أو نحوها ليست هي معاني لهيئة الأمر قد استعملت في مفاهيمها ـ كما ظنّه
القوم ـ لا معاني حقيقيّة ولا مجازية ؛ بل الحقّ أنّ المنشأ بها ليس إلاّ النسبة
الطلبيّة الخاصّة ، وهذا الإنشاء يكون مصداقا لأحد هذه الأمور باختلاف الدواعي ،
فيكون تارة بعثا بالحمل الشائع ، وأخرى تهديدا بالحمل الشائع وهكذا. لا أنّ هذه
المفاهيم مدلولة للهيئة ومنشأة بها حتّى مفهوم البعث والطلب.
والاختلاط في
الوهم بين المفهوم والمصداق هو الذي جعل أولئك يظنّون أنّ هذه الأمور مفاهيم لهيئة
الأمر وقد استعملت فيها استعمال اللفظ في معناه ، حتّى اختلفوا في أنّه أيّها
المعنى الحقيقيّ الموضوع له الهيئة ، وأيّها المعنى المجازيّ؟
__________________
٢. ظهور الصيغة في
الوجوب
اختلف الأصوليون
في ظهور صيغة الأمر في الوجوب وفي كيفيّته على أقوال. والخلاف يشمل صيغة «افعل»
وما شابهها وما بمعناها من صيغ الأمر.
والأقوال في
المسألة كثيرة ، وأهمّها قولان : أحدهما : أنّها ظاهرة في الوجوب ، إمّا
لكونها موضوعة له ، أو من جهة انصراف الطلب إلى أكمل الأفراد . ثانيهما : أنّها حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب ، وهو ـ أي القدر
المشترك ـ مطلق الطلب الشامل لهما من دون أن تكون ظاهرة في أحدهما .
والحقّ أنّها ظاهرة في الوجوب ، ولكن لا من جهة كونها موضوعة
للوجوب ، ولا من جهة كونها موضوعة لمطلق الطلب ، وأنّ الوجوب أظهر أفراده.
وشأنها في ظهورها
في الوجوب شأن مادّة الأمر على ما تقدّم هناك ، من أنّ الوجوب يستفاد من حكم العقل
بلزوم إطاعة أمر المولى ووجوب الانبعاث عن بعثه ؛ قضاء لحقّ المولويّة والعبوديّة
، ما لم يرخّص نفس المولى بالترك ، ويأذن به. وبدون الترخيص فالأمر ـ لو خلّي
وطبعه ـ شأنه أن يكون من مصاديق حكم العقل بوجوب الطاعة.
فيكون الظهور هذا
ليس من نحو الظهورات اللفظيّة ، ولا الدلالة هذه على الوجوب من نوع الدلالات
الكلاميّة ؛ إذ صيغة الأمر ـ كمادّة الأمر ـ لا تستعمل في مفهوم الوجوب لا
استعمالا حقيقيّا ولا مجازيّا ؛ لأنّ الوجوب كالندب أمر خارج عن حقيقة مدلولها ولا
من كيفيّاته وأحواله. وتمتاز الصيغة عن مادّة كلمة الأمر أنّ الصيغة لا تدلّ إلاّ
على النسبة الطلبيّة كما تقدّم ، فهي بطريق أولى لا تصلح للدلالة على الوجوب الذي
هو مفهوم
__________________
اسميّ ، وكذا
الندب.
وعلى هذا ،
فالمستعمل فيه الصيغة ـ على كلا الحالين : الوجوب والندب ـ واحد لا اختلاف فيه.
واستفادة الوجوب ـ على تقدير تجرّدها عن القرينة على إذن الآمر بالترك ـ إنّما هي
بحكم العقل كما قلنا ؛ إذ هو من لوازم صدور الأمر من المولى .
ويشهد لما ذكرناه
ـ من كون المستعمل فيه واحدا في مورد الوجوب والندب ـ ما جاء في كثير من الأحاديث
من الجمع بين الواجبات والمندوبات بصيغة واحدة ، وأمر واحد ، وأسلوب واحد مع تعدّد
الأمر ؛ ولو كان الوجوب والندب من قبيل المعنيين للصيغة لكان ذلك في الأغلب من باب
استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو مستحيل ، أو تأويله بإرادة مطلق الطلب البعيد إرادته من مساق الأحاديث ، فإنّه تجوّز ـ على
تقديره ـ لا شاهد له ، ولا يساعد عليه أسلوب الأحاديث الواردة.
تنبيهان
الأوّل : ظهور
الجملة الخبريّة الدالّة على الطلب في الوجوب.
اعلم أنّ الجملة
الخبريّة في مقام إنشاء الطلب شأنها شأن صيغة «افعل» في ظهورها في الوجوب ، كما
أشرنا إليه سابقا ، بقولنا : «صيغة افعل وما شابهها».
والجملة الخبريّة
مثل قول : «يغتسل. يتوضّأ. يصلّي» بعد السؤال عن شيء يقتضي مثل هذا الجواب ونحو
ذلك.
والسرّ في ذلك أنّ
المناط في الجميع واحد ، فإنّه إذا ثبت البعث من المولى ـ بأيّ مظهر كان وبأيّ لفظ
كان ـ فلا بدّ أن يتبعه حكم العقل بلزوم الانبعاث ما لم يأذن المولى بتركه.
بل ربّما يقال :
إنّ دلالة الجملة الخبرية على الوجوب آكد ؛ لأنّها في الحقيقة إخبار عن تحقّق
الفعل بادّعاء أنّ وقوع الامتثال من المكلّف مفروغ منه .
__________________
الثاني : ظهور
الأمر بعد الحظر أو توهّمه.
قد يقع إنشاء
الأمر بعد تقدّم الحظر ـ أي المنع ـ أو عند توهّم الحظر ، كما لو منع الطبيب
المريض عن شرب الماء ، ثمّ قال له : «اشرب الماء». أو قال ذلك عند ما يتوهّم
المريض أنّه ممنوع منه ومحظور عليه شربه.
وقد اختلف
الأصوليون في مثل هذا الأمر أنّه هل هو ظاهر في الوجوب ، أو ظاهر في الإباحة ، أو الترخيص فقط ـ أي رفع المنع
فقط من دون التعرّض لثبوت حكم آخر من إباحة أو غيرها ـ ، أو يرجع إلى ما كان عليه
سابقا قبل المنع ؟ على أقوال كثيرة.
وأصحّ الأقوال هو
الثالث ، وهو دلالتها على الترخيص فقط.
والوجه في ذلك
أنّك قد عرفت أنّ دلالة الأمر على الوجوب إنّما تنشأ من حكم العقل بلزوم الانبعاث
ما لم يثبت الإذن بالترك. ومنه تستطيع أن تتفطّن أنّه لا دلالة للأمر في المقام
على الوجوب ؛ لأنّه ليس فيه دلالة على البعث وإنّما هو ترخيص في الفعل لا أكثر.
وأوضح من هذا أن
نقول : إنّ مثل هذا الأمر هو إنشاء بداعي الترخيص في الفعل والإذن به ، فهو لا
يكون إلاّ ترخيصا وإذنا بالحمل الشائع. ولا يكون بعثا إلاّ إذا كان الإنشاء بداعي
البعث. ووقوعه بعد الحظر أو توهّمه قرينة على عدم كونه بداعي البعث ، فلا يكون
دالاّ
__________________
على الوجوب. وعدم
دلالته على الإباحة بطريق أولى ، فيرجع فيه إلى دليل آخر من أصل أو أمارة.
مثاله قوله (تعالى)
: (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) فإنّه أمر بعد الحظر عن الصيد حال الإحرام ، فلا يدلّ على وجوب الصيد.
نعم ، لو اقترن
الكلام بقرينة خاصّة على أنّ الأمر صدر بداعي البعث أو لغرض بيان إباحة الفعل
فإنّه حينئذ يدلّ على الوجوب أو الإباحة. ولكن هذا أمر آخر لا كلام فيه ؛ فإنّ
الكلام في فرض صدور الأمر بعد الحظر أو توهّمه مجرّدا عن كلّ قرينة أخرى غير هذه
القرينة.
تمرينات (٩)
١. ما معنى صيغة
الأمر؟
٢. اذكر خمسة
موارد من موارد استعمال صيغة الأمر ، وايت بمثال لها.
٣. هل صيغة الأمر
ظاهرة في الوجوب؟ كيف؟
٤. هل الجملة
الخبريّة ظاهرة في الوجوب؟ ما السرّ في ذلك؟
٥. ما هي الأقوال
في ظهور الأمر بعد الحظر؟ وما هو الأصح؟ ولما ذا صار أصحّ؟
__________________
٣. التعبّديّ
والتوصّليّ
تمهيد
كلّ متفقّه يعرف
أنّ في الشريعة المقدّسة واجبات لا تصحّ ولا تسقط أوامرها إلاّ بإتيانها قربيّة
إلى وجه الله (تعالى).
وكونها قربيّة
إنّما هو بإتيانها بقصد امتثال أوامرها أو بغيره من وجوه قصد القربة إلى الله (تعالى)
، على ما ستأتي الإشارة إليها . وتسمّى هذه الواجبات «العباديّات» ، أو «التعبّديّات» ،
كالصلاة والصوم ونحوها.
وهناك واجبات أخرى
تسمّى «التوصّليّات» وهي التي تسقط أوامرها بمجرّد وجودها وإن لم يقصد بها القربة
، كإنقاذ الغريق ، وأداء الدين ، ودفن الميّت ، وتطهير الثوب والبدن للصلاة ، ونحو
ذلك.
وللتعبّديّ
والتوصّليّ تعريف آخر كان مشهورا عند القدماء ، وهو أنّ التوصّليّ «ما كان الداعي
للأمر به معلوما» ، وفي قباله التعبّديّ وهو «ما لم يعلم الغرض منه ». وإنّما سمّي تعبّديّا ؛ لأنّ الغرض الداعي للمأمور ليس إلاّ التعبّد بأمر
المولى فقط. ولكن التعريف غير صحيح إلاّ إذا أريد به اصطلاح ثان للتعبّديّ
والتوصّليّ ، فيراد بالتعبّد التسليم لله (تعالى) فيما أمر به وإن كان المأمور به
توصّليّا بالمعنى الأوّل ، كما يقولون مثلا : «نعمل هذا تعبّدا» ويقولون : «نعمل
هذا من باب التعبّد» ، أي نعمل هذا من باب التسليم لأمر الله (تعالى) وإن لم نعلم
المصلحة فيه.
وعلى ما تقدّم من
بيان معنى التوصّليّ والتعبّديّ ـ المصطلح الأوّل ـ فإن علم حال واجب بأنّه تعبّديّ أو توصّليّ فلا إشكال ، وإن شكّ في ذلك فهل
الأصل كونه تعبّديّا أو توصّليّا؟ فيه خلاف بين الأصوليّين. وينبغي لتوضيح ذلك
وبيان المختار تقديم أمور :
__________________
أ. منشأ الخلاف
وتحريره
إنّ منشأ الخلاف
هنا هو الخلاف في إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر ـ كالصلاة مثلا ـ قيدا له
على نحو الجزء أو الشرط على وجه يكون المأمور به المتعلّق للأمر هو الصلاة المأتيّ
بها بقصد القربة بهذا القيد ، كقيد الطهارة فيها ؛ إذ يكون المأمور به الصلاة عن
طهارة لا الصلاة المجرّدة عن هذا القيد من حيث هي هي.
فمن قال بإمكان
أخذ هذا القيد ـ وهو قصد القربة ـ كان مقتضى الأصل عنده التوصّليّة إلاّ
إذا دلّ دليل خاصّ على التعبّديّة ، كسائر القيود الأخرى ؛ لما عرفت أنّ إطلاق
كلام المولى حجّة يجب الأخذ به ما لم يثبت التقييد ، فعند الشكّ في اعتبار قيد
يمكن أخذه في المأمور به فالمرجع أصالة الإطلاق لنفي اعتبار ذلك القيد.
ومن قال باستحالة
أخذ قيد قصد القربة فليس له التمسّك بالإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق ليس إلاّ عبارة
عن عدم التقييد فيما من شأنه التقييد ؛ لأنّ التقابل بينهما من باب تقابل العدم
والملكة ـ الملكة : هي التقييد ، وعدمها : الإطلاق ـ. وإذا استحالت الملكة استحال
عدمها بما هو عدم ملكة ، لا بما هو عدم مطلق. وهذا واضح ؛ لأنّه إذا كان التقييد
مستحيلا في لسان الدليل فعدم التقييد لا يستكشف منه
إرادة الإطلاق ؛ فإنّ عدم التقييد يجوز أن يكون لاستحالة التقييد ، ويجوز أن يكون
لعدم إرادة التقييد ، ولا طريق لإثبات الثاني بمجرّد عدم ذكر القيد وحده.
وبعد هذا نقول :
إذا شككنا في اعتبار شيء في مراد المولى وما تعلّق به غرضه واقعا
__________________
ولم يمكن له بيانه
فلا محالة يرجع ذلك إلى الشكّ في سقوط الأمر إذا خلا المأتيّ به من ذلك القيد
المشكوك. وعند الشكّ في سقوط الأمر ـ أي في امتثاله ـ يحكم العقل بلزوم الإتيان به
مع القيد المشكوك كيما يحصل له العلم بفراغ ذمّته من التكليف ؛ لأنّه إذا اشتغلت
الذمّة بواجب يقينا فلا بدّ من إحراز الفراغ منه في حكم العقل. وهذا معنى ما اشتهر
في لسان الأصوليّين من قولهم : «الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ». وهذا
ما يسمّى عندهم بـ «أصل الاشتغال» أو «أصالة الاحتياط».
ب. محلّ الخلاف من
وجوب قصد القربة
إنّ محلّ الخلاف
في المقام هو إمكان أخذ قصد امتثال الأمر في المأمور به. وأمّا غير قصد الامتثال
من وجوه قصد القربة ، كقصد محبوبيّة الفعل المأمور به الذاتيّة باعتبار أنّ كلّ
مأمور به لا بدّ أن يكون محبوبا للآمر ، ومرغوبا فيه عنده ، وكقصد التقرّب إلى
الله (تعالى) محضا بالفعل لا من جهة قصد امتثال أمره ، بل رجاء لرضاه ، ونحو ذلك
من وجوه قصد القربة ، فإنّ كلّ هذه الوجوه لا مانع قطعا من أخذها قيدا للمأمور به
، ولا يلزم المحال الذي ذكروه في أخذ قصد الامتثال على ما سيأتي.
ولكنّ الشأن في
أنّ هذه الوجوه هل هي مأخوذة في المأمور به فعلا على نحو لا تكون العبادة عبادة
إلاّ بها؟ الحقّ أنّه لم يؤخذ شيء منها في المأمور به.
والدليل على ذلك
ما نجده من الاتّفاق على صحّة العبادة ـ كالصلاة مثلا ـ إذا أتي بها بداعي أمرها
مع عدم قصد الوجوه الأخرى. ولو كان غير قصد الامتثال من وجوه القربة مأخوذا في
المأمور به لما صحّت العبادة ، ولما سقط أمرها بمجرّد الإتيان بداعي أمرها بدون
قصد ذلك الوجه.
فالخلاف ـ إذن ـ منحصر
في إمكان أخذ قصد الامتثال واستحالته.
__________________
ج. الإطلاق
والتقييد في التقسيمات الأوّليّة للواجب
إنّ كلّ واجب في
نفسه له تقسيمات باعتبار الخصوصيّات التي يمكن أن تلحقه في الخارج ، مثلا الصلاة
تنقسم في ذاتها مع قطع النظر عن تعلّق الأمر بها إلى : ١. ذات سورة ، وفاقدتها. ٢.
ذات تسليم ، وفاقدته. ٣. صلاة عن طهارة ، وفاقدتها. ٤. صلاة مستقبل بها القبلة ،
وغير مستقبل بها. ٥. صلاة مع الساتر وبدونه ... وهكذا يمكن تقسيمها إلى ما شاء
الله من الأقسام بملاحظة أجزائها وشروطها وملاحظة كلّ ما يمكن فرض اعتباره فيها
وعدمه. ويسمّى مثل هذه التقسيمات «التقسيمات الأوّليّة» ؛ لأنّها تقسيمات تلحقها
في ذاتها مع قطع النظر عن فرض تعلّق شيء بها. وتقابلها «التقسيمات الثانويّة» التي
تلحقها بعد فرض تعلّق شيء بها كالأمر مثلا ، وسيأتي ذكرها.
فإذا نظرنا إلى
هذه التقسيمات الأوّليّة للواجب ، فالحكم بالوجوب بالقياس إلى كلّ خصوصيّة منها لا
يخلو في الواقع من أحد احتمالات ثلاثة :
١. أن يكون مقيّدا
بوجودها ، ويسمّى «بشرط شيء» ، مثل شرط الطهارة ، والساتر ، والاستقبال ، والسورة
، والركوع ، والسجود ، وغيرها من أجزاء وشرائط بالنسبة إلى الصلاة.
٢. أن يكون مقيّدا
بعدمها ، ويسمّى «بشرط لا» ، مثل شرط الصلاة بعدم الكلام ، والقهقهة ، والحدث ،
إلى غير ذلك من قواطع الصلاة.
٣. أن يكون مطلقا
بالنسبة إليها ـ أي غير مقيّد بوجودها ولا بعدمها ـ ، ويسمّى «لا بشرط» ، مثل عدم
اشتراط الصلاة بالقنوت ؛ فإنّ وجوبها غير مقيّد بوجوده ولا بعدمه. اهذا في مرحلة
الواقع والثبوت.
وأمّا في مرحلة
الإثبات والدلالة : فإنّ الدليل الذي يدلّ على وجوب شيء إن دلّ على اعتبار قيد فيه
، أو على اعتبار عدمه فذاك ، وإن لم يكن الدليل متضمّنا لبيان التقييد بما هو محتمل
التقييد لا وجودا ولا عدما ، فإنّ المرجع في ذلك هو أصالة الإطلاق ، إذا توفّرت
المقدّمات المصحّحة للتمسّك بأصالة الإطلاق على ما سيأتي في بابه ـ وهو باب المطلق
والمقيّد ـ ،
__________________
وبأصالة الإطلاق
يستكشف أنّ إرادة المتكلّم الآمر متعلّقة بالمطلق واقعا ، أي إنّ الواجب لم يؤخذ
بالنسبة إلى القيد إلاّ على نحو اللابشرط.
والخلاصة أنّه لا مانع من التمسّك بالإطلاق لرفع احتمال التقييد في
التقسيمات الأوّليّة.
د. عدم إمكان
الإطلاق والتقييد في التقسيمات الثانويّة للواجب
ثمّ إنّ كلّ واجب
ـ بعد ثبوت الوجوب وتعلّق الأمر به واقعا ـ ينقسم إلى ما يؤتى به في الخارج بداعي
أمره ، وما يؤتى به لا بداعي أمره. ثمّ ينقسم أيضا إلى معلوم الوجوب ومجهوله.
وهذه التقسيمات
تسمّى «التقسيمات الثانويّة» ؛ لأنّها من لواحق الحكم وبعد فرض ثبوت الوجوب واقعا
؛ إذ قبل تحقّق الحكم لا معنى لفرض إتيان الصلاة ـ مثلا ـ بداعي أمرها ؛ لأنّ
المفروض في هذه الحالة [أنّه] لا أمر بها حتّى يمكن فرض قصده. وكذا الحال بالنسبة
إلى العلم والجهل بالحكم.
وفي مثل هذه
التقسيمات يستحيل التقييد ـ أي تقييد المأمور به ـ ؛ لأنّ قصد امتثال الأمر ـ مثلا
ـ فرع وجود الأمر ، فكيف يعقل أن يكون الأمر مقيّدا به؟! ولازمه أن يكون الأمر فرع
قصد الأمر ، وقد كان قصد الأمر فرع وجود الأمر ، فيلزم أن يكون المتقدّم متأخّرا
والمتأخّر متقدّما. وهذا خلف أو دور.
وإذا استحال
التقييد استحال الإطلاق أيضا ؛ لما قلنا سابقا : إنّ الإطلاق من
قبيل عدم الملكة بالقياس إلى التقييد ، فلا يفرض إلاّ
في مورد قابل للتقييد ، ومع عدم إمكان التقييد لا يستكشف من عدم التقييد إرادة
الإطلاق.
__________________
النتيجة
وإذا عرفنا هذه
المقدّمات يحسن بنا أن نرجع إلى صلب الموضوع ، فنقول : قد اختلف الأصوليّون في أنّ
الأصل في الواجب ـ إذا شكّ في كونه تعبّديّا أو توصّليّا ـ هل إنّه تعبّدي أو
توصّليّ؟
ذهب جماعة إلى أنّ الأصل في الواجبات أن تكون عباديّة إلاّ أن يقوم دليل خاصّ على عدم
دخل قصد القربة في المأمور به ؛ لأنّه لا بدّ من الإتيان به تحصيلا للفراغ
اليقينيّ مع عدم الدليل على الاكتفاء بدونه ، ولا يمكن التمسّك بالإطلاق لنفيه حسب
الفرض. وقد تقدّم ذلك في الأمر الأوّل. فتكون أصالة الاحتياط هي المرجع هنا وهي
تقتضي العباديّة.
وذهب جماعة إلى أنّ الأصل في الواجبات أن تكون توصّليّة ، لا لأجل التمسّك بأصالة
الإطلاق في نفس الأمر ، ولا لأجل أصالة البراءة من اعتبار قيد القربة ، بل نتمسّك لذلك بإطلاق المقام .
توضيح ذلك أنّه لا
ريب في أنّ المأمور به إطلاقا وتقييدا يتبع الغرض سعة وضيقا ، فإن كان القيد دخيلا
في الغرض فلا بدّ من بيانه وأخذه في المأمور به قيدا ، وإلاّ فلا.
غير أنّ ذلك فيما
يمكن أخذه من القيود في المأمور به ـ كما في التقسيمات الأوّليّة ـ أمّا : ما لا
يمكن أخذه في المأمور به قيدا ـ كالذي نحن فيه وهو قيد قصد الامتثال ـ فلا يصحّ من
الآمر أن يتغافل عنه حيث لا يمكن أخذه قيدا في الكلام الواحد المتضمّن للأمر ، بل
لا مناص له عن اتّباع طريقة أخرى ممكنة لاستيفاء غرضه ، ولو بإنشاء أمرين : أحدهما
يتعلّق بذات الفعل مجرّدا عن القيد ، والثاني يتعلّق بالقيد ، مثلا لو فرض أنّ غرض
__________________
المولى قائم
بالصلاة المأتيّ بها بداعي أمرها ؛ فإنّه إذا لم يمكن تقييد المأمور به بذلك في
نفس الأمر المتعلّق بها ـ لما عرفت من امتناع التقييد في التقسيمات الثانوية ـ فلا
بدّ له ـ أي الآمر ـ لتحصيل غرضه أن يسلك طريقة أخرى ، كأن يأمر أوّلا بالصلاة ثمّ
يأمر ثانيا بإتيانها بداعي أمرها الأوّل ؛ مبيّنا ذلك بصريح العبارة.
وهذان الأمران
يكونان في حكم أمر واحد ثبوتا وسقوطا ؛ لأنّهما ناشئان من غرض واحد ، والثاني يكون
بيانا للأوّل ، فمع عدم امتثال الأمر الثاني لا يسقط الأمر الأوّل بامتثاله فقط ،
وذلك بأن يأتي بالصلاة مجرّدة عن قصد أمرها ، فيكون الأمر الثاني بانضمامه إلى
الأوّل مشتركا مع التقييد في النتيجة وإن لم يسمّ تقييدا اصطلاحا.
إذا عرفت ذلك
فنقول : المولى إذا أمر بشيء ـ وكان في مقام البيان ـ واكتفى بهذا الأمر ولم يلحقه
بما يكون بيانا له فلم يأمر ثانيا بقصد الامتثال فإنّه يستكشف منه عدم دخل قصد
الامتثال في الغرض ، وإلاّ لبيّنه بأمر ثان. وهذا ما سمّيناه بـ «إطلاق المقام».
وعليه ، فالأصل في
الواجبات كونها توصّليّة حتّى يثبت بالدليل أنّها تعبّديّة.
٤. الواجب العينيّ
وإطلاق الصيغة
الواجب العينيّ «ما
يتعلّق بكلّ مكلّف ولا يسقط بفعل الغير» ، كالصلاة اليوميّة والصوم. ويقابله
الواجب الكفائيّ ، وهو «المطلوب فيه وجود الفعل من أيّ مكلّف كان» ، فيسقط بفعل
بعض المكلّفين عن الباقي ، كالصلاة على الميّت وتغسيله ودفنه. وسيأتي في تقسيمات
الواجب ذكرهما .
وفيما يتعلّق
بمسألة تشخيص الظهور نقول : إن دلّ الدليل على أنّ الواجب عينيّ أو كفائيّ فذاك ،
وإن لم يدلّ فإنّ إطلاق صيغة افعل يقتضي أن يكون عينيّا ، سواء أتى بذلك العمل شخص
آخر أم لم يأت به ، فإنّ العقل يحكم بلزوم امتثال الأمر ما لم يعلم سقوطه بفعل
الغير.
فالمحتاج إلى مزيد
البيان على أصل الصيغة هو الواجب الكفائيّ ، فإذا لم ينصب المولى
__________________
قرينة على إرادته
ـ كما هو المفروض ـ يعلم أنّ مراده الواجب العينيّ.
٥. الواجب
التعيينيّ وإطلاق الصيغة
الواجب التعيينيّ
هو : «الواجب بلا واجب آخر يكون عدلا له وبديلا عنه في عرضه» ، كالصلاة اليوميّة.
ويقابله الواجب التخييريّ ، كخصال كفّارة الإفطار العمديّ في صوم شهر رمضان ،
المخيّرة بين إطعام ستّين مسكينا ، وصوم شهرين متتابعين ، وعتق رقبة. وسيأتي في
الخاتمة توضيح الواجب التعيينيّ والتخييريّ .
فإذا علم واجب
أنّه من أيّ القسمين فذاك ، وإلاّ فمقتضى إطلاق صيغة الأمر وجوب ذلك الفعل ، سواء
أتى بفعل آخر أم لم يأت به ، فالقاعدة تقتضي عدم سقوطه بفعل شيء آخر ؛ لأنّ
التخيير محتاج إلى مزيد بيان مفقود.
٦. الواجب النفسيّ
وإطلاق الصيغة
الواجب النفسيّ هو
«الواجب لنفسه لا لأجل واجب آخر» ، كالصلاة اليوميّة. ويقابله الواجب الغيريّ ،
كالوضوء ، فإنّه إنّما يجب مقدّمة للصلاة الواجبة ، لا لنفسه ؛ إذ لو لم تجب
الصلاة ، لما وجب الوضوء.
فإذا شكّ في واجب
أنّه نفسيّ أو غيريّ ، فمقتضى إطلاق تعلّق الأمر به ـ سواء وجب شيء آخر أم لا ـ أنّه
واجب نفسيّ. فالإطلاق يقتضي النفسيّة ما لم تثبت الغيريّة.
__________________
تمرينات (١٠)
التمرين الأوّل
١. ما هو تعريف
الواجب التعبّدي والتوصّلي عند المتأخّرين والقدماء؟
٢. ما هو منشأ
الخلاف في أنّ الأصل في الواجبات هو كونها توصّليّة أو تعبّديّة؟
٣. ما معنى قولهم
: «الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني»؟
٤. هل يمكن أخذ
غير قصد الامتثال من وجوه قصد القربة في المأمور به؟
٥. ما المراد من
التقسيمات الأوّليّة والتقسيمات الثانويّة للواجب؟
٦. هل يمكن
التمسّك بالإطلاق لرفع احتمال التقييد في التقسيمات الأوّليّة؟ ما الدليل عليه؟
٧. ما الوجه في
استحالة التمسّك بالإطلاق لرفع احتمال التقييد في التقسيمات الثانويّة؟
٨. ما دليل القول
: بأنّ الأصل في الواجبات أن تكون عباديّة ، وما دليل القول ؛ بأنّ الأصل فيها أن
تكون توصّليّة؟ وما هو الأقرب منهما؟ وما وجه الأقربيّة؟
٩. ما هو تعريف
الواجب العينيّ والواجب الكفائيّ؟ وأيّهما مقتضى إطلاق صيغة الأمر؟
١٠. ما هو تعريف
الواجب التعيينيّ والواجب التعيّنيّ؟ وأيّهما مقتضى إطلاق صيغة الأمر؟
١١. ما هو تعريف
الواجب النفسيّ والواجب الغيريّ؟ وأيّهما مقتضى إطلاق صيغة الأمر؟
التمرين الثاني
١. ما هي أدلّة
القائلين بامتناع أخذ قيد قصد القربة في متعلّق الأمر امتناعا ذاتيّا؟
٢. ما هي أدلّة
القائلين بامتناعه امتناعا غيريّا؟
٣. ما هي الأقوال
في تقابل الإطلاق والتقييد؟
٧. الفور والتراخي
اختلف الأصوليّون
في دلالة صيغة الأمر على الفور والتراخي على أقوال :
١. إنّها موضوعة
للفور .
٢. إنّها موضوعة
للتراخي .
٣. إنّها موضوعة
لهما على نحو الاشتراك اللفظي .
٤. إنّها غير
موضوعة لا للفور ، ولا للتراخي ، ولا للأعمّ منهما ، بل لا دلالة لها على أحدهما بوجه من الوجوه. وإنّما يستفاد أحدهما من
القرائن الخارجيّة التي تختلف باختلاف المقامات . والحقّ هو الأخير.
والدليل عليه ما
عرفت من أنّ صيغة «افعل» إنّما تدلّ على النسبة الطلبيّة ، كما أنّ المادّة لم
توضع إلاّ لنفس الحدث غير الملحوظ معه شيء من خصوصيّاته الوجوديّة. وعليه ،
__________________
فلا دلالة لها ـ لا
بهيئتها ولا بمادّتها ـ على الفور أو التراخي ؛ بل لا بدّ من دالّ آخر على شيء
منهما ، فإن تجرّدت عن الدالّ الآخر ، فإنّ ذلك يقتضي جواز الإتيان بالمأمور به
على الفور أو التراخي. هذا بالنظر إلى نفس الصيغة.
أمّا بالنظر إلى
الدليل الخارجيّ المنفصل ، فقد قيل بوجود الدليل على الفور في جميع الواجبات على
نحو العموم إلاّ ما دلّ عليه دليل خاصّ ينصّ على جواز التراخي فيه بالخصوص. وقد
ذكروا لذلك آيتين :
الأولى : قوله (تعالى) : (وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) . وتقريب الاستدلال بها أنّ المسارعة إلى المغفرة لا تكون
إلاّ بالمسارعة إلى سببها ، وهو الإتيان بالمأمور به ؛ لأنّ المغفرة فعل الله (تعالى)
فلا معنى لمسارعة العبد إليها. وعليه فتكون المسارعة إلى فعل المأمور به واجبا ؛
لما مرّ من ظهور صيغة «افعل» في الوجوب .
الثانية
: قوله (تعالى) : (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ ) فإنّ الاستباق
بالخيرات عبارة أخرى عن الإتيان بها فورا.
والجواب عن الاستدلال بكلتا الآيتين أنّ الخيرات وسبب المغفرة كما
تصدق على الواجبات تصدق على المستحبّات أيضا ، فتكون المسارعة والاستباق شاملين
لما هما في المستحبّات أيضا. ومن البديهيّ عدم وجوب المسارعة فيها ، كيف وهي يجوز
تركها رأسا. وإذا كانتا شاملتين للمستحبّات بعمومهما كان ذلك قرينة على أنّ طلب
المسارعة ليس على نحو الإلزام ؛ فلا تبقى لهما دلالة على الفوريّة في عموم
الواجبات.
بل لو سلّمنا
باختصاصهما بالواجبات لوجب صرف ظهور صيغة «افعل» فيهما في الوجوب وحملها على
الاستحباب ؛ نظرا إلى أنّا نعلم عدم وجوب الفوريّة في أكثر الواجبات ، فيلزم تخصيص
الأكثر بإخراج أكثر الواجبات عن عمومها. ولا شكّ أنّ الإتيان
__________________
بالكلام عامّا مع
تخصيص الأكثر وإخراجه من العموم بعد ذلك قبيح في المحاورات العرفيّة ، ويعدّ
الكلام عند العرف مستهجنا. فهل ترى يصحّ لعارف بأساليب الكلام أن يقول مثلا : «بعت
أموالي» ثمّ يستثني واحدا فواحدا حتّى لا يبقى تحت العامّ إلاّ القليل؟! لا شكّ في
أنّ هذا الكلام يعدّ مستهجنا ، لا يصدر عن حكيم عارف.
إذن ، لا يبقى
مناص عن حمل الآيتين على الاستحباب.
٨. المرّة
والتكرار
واختلفوا أيضا في
دلالة صيغة «افعل» على المرّة والتكرار على أقوال ، كاختلافهم في الفور والتراخي.
والمختار هنا
كالمختار هناك ، والدليل نفس الدليل من عدم دلالة الصيغة لا بهيئتها ولا بمادّتها
على المرّة ولا التكرار ؛ لما عرفت من أنّها لا تدلّ على أكثر من طلب نفس الطبيعة
من حيث هي ، فلا بدّ من دالّ آخر على كلّ منهما.
أمّا الإطلاق
فإنّه يقتضي الاكتفاء بالمرّة. وتفصيل ذلك أنّ مطلوب المولى لا يخلو من أحد وجوه
ثلاثة ـ ويختلف الحكم فيها من ناحية جواز الاكتفاء وجواز التكرار ـ :
١. أن يكون
المطلوب صرف وجود الشيء بلا قيد ولا شرط ، بمعنى أنّه يريد ألاّ يبقى مطلوبه
معدوما ، بل يخرج من ظلمة العدم إلى نور الوجود لا أكثر ، ولو بفرد واحد. ولا
محالة ـ حينئذ ـ ينطبق المطلوب قهرا على أوّل وجوداته ، فلو أتى المكلّف بما أمر
به أكثر من مرّة فالامتثال يكون بالوجود الأوّل ، ويكون الثاني لغوا محضا ،
كالصلاة اليوميّة.
__________________
٢. أن يكون
المطلوب الوجود الواحد بقيد الواحدة ـ أي بشرط ألاّ يزيد على أوّل وجوداته ـ ، فلو
أتى المكلّف حينئذ بالمأمور به مرّتين لا يحصل الامتثال أصلا ، كتكبيرة الإحرام
للصلاة ؛ فإنّ الإتيان بالثانية عقيب الأولى مبطل للأولى ، وهي تقع باطلة.
٣. أن يكون
المطلوب الوجود المتكرّر ، إمّا بشرط تكرّره فيكون المطلوب هو المجموع بما هو
مجموع ، فلا يحصل الامتثال بالمرّة أصلا ، كركعات الصلاة الواحدة ، وإمّا لا بشرط
تكرّره ـ بمعنى أنّه يكون المطلوب كلّ واحد من الوجودات ـ ، كصوم أيّام شهر رمضان
، فلكلّ مرّة امتثالها الخاصّ.
ولا شكّ أنّ
الوجهين الأخيرين يحتاجان إلى بيان زائد على مفاد الصيغة. فلو أطلق المولى ولم
يقيّد بأحد الوجهين ـ وهو في مقام البيان ـ كان إطلاقه دليلا على إرادة الوجه
الأوّل. وعليه ، يحصل الامتثال ـ كما قلنا ـ بالوجود الأوّل ، ولكن لا يضرّ الوجود
الثاني ، كما أنّه لا أثر له في الامتثال وغرض المولى.
وممّا ذكرنا يتّضح
أنّ مقتضى الإطلاق جواز الإتيان بأفراد كثيرة معا دفعة واحدة ، ويحصل الامتثال
بالجميع. فلو قال المولى : «تصدّق على مسكين» فمقتضى الإطلاق جواز الاكتفاء
بالتصدّق مرّة واحدة على مسكين واحد ، وحصول الامتثال بالتصدّق على عدّة مساكين
دفعة واحدة ، ويكون امتثالا واحدا بالجميع ؛ لصدق صرف الوجود على الجميع ؛ إذ
الامتثال كما يحصل بالفرد الواحد يحصل بالأفراد المجتمعة الوجود.
٩. هل يدلّ نسخ
الوجوب على الجواز؟
إذا وجب شيء في
زمان بدلالة الأمر ثمّ نسخ ذلك الوجوب قطعا فقد اختلفوا في بقاء الجواز الذي كان
مدلولا للأمر ؛ لأنّ الأمر كان يدلّ على جواز الفعل مع المنع من تركه ، فمنهم من
قال ببقاء الجواز ، ومنهم من قال بعدمه .
__________________
ويرجع النزاع ـ في
الحقيقة ـ إلى النزاع في مقدار دلالة نسخ الوجوب ، فإنّ فيه احتمالين :
١. إنّه يدلّ على رفع
خصوص المنع من الترك فقط ، وحينئذ تبقى دلالة الأمر على الجواز على حالها لا
يمسّها النسخ ، وهو القول الأوّل. ومنشأ هذا أنّ الوجوب ينحلّ إلى الجواز والمنع
من الترك ، ولا شأن في النسخ إلاّ رفع المنع من الترك فقط ، ولا تعرّض له لجنسه
وهو الجواز ، أي الإذن في الفعل.
٢. إنّه يدلّ على
رفع الوجوب من أصله ، فلا يبقى لدليل الوجوب شيء يدلّ عليه. ومنشأ هذا هو أنّ
الوجوب معنى بسيط لا ينحلّ إلى جزءين ، فلا يتصوّر في النسخ أنّه رفع للمنع من
الترك فقط.
والمختار هو القول الثاني ؛ لأنّ الحقّ أنّ الوجوب أمر بسيط ، وهو
الإلزام بالفعل ، ولازمه المنع من الترك ، كما أنّ الحرمة هي المنع من الفعل
، ولازمها الإلزام بالترك ، وليس الإلزام بالترك ـ الذي معناه وجوب الترك ـ جزءا
من معنى حرمة الفعل ، وكذلك المنع من الترك ـ الذي معناه حرمة الترك ـ ليس جزءا من
معنى وجوب الفعل ، بل أحدهما لازم للآخر ينشأ منه تبعا له.
فثبوت الجواز بعد
النسخ للوجوب يحتاج إلى دليل خاصّ يدلّ عليه ولا يكفي دليل الوجوب ، فلا دلالة
لدليل الناسخ ولا لدليل المنسوخ على الجواز ، ويمكن أن يكون الفعل بعد نسخ وجوبه
محكوما بكلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية.
وهذا البحث لا
يستحقّ أكثر من هذا الكلام ؛ لقلّة البلوى به. وما ذكرناه فيه الكفاية.
١٠. الأمر بشيء
مرّتين
إذا تعلّق الأمر
بفعل مرّتين فهو يمكن أن يقع على صورتين :
١. أن يكون الأمر
الثاني بعد امتثال الأمر الأوّل. وحينئذ لا شبهة في لزوم امتثاله ثانيا.
__________________
٢. أن يكون الأمر
الثاني قبل امتثال الأمر الأوّل. وحينئذ يقع الشكّ في وجوب امتثاله مرّتين أو
كفاية المرّة الواحدة في الامتثال. فإن كان الأمر الثاني تأسيسا لوجوب آخر تعيّن
الامتثال مرّة بعد أخرى ، وإن كان تأكيدا للأمر الأوّل فليس لهما إلاّ امتثال
واحد. ولتوضيح الحال وبيان الحقّ في المسألة نقول : إنّ هذا الفرض له أربع حالات :
الأولى : أن يكون الأمران معا غير معلّقين على شرط ، كأن يقول
مثلا : «صلّ» ثمّ يقول ثانيا : «صلّ» ، فإنّ الظاهر حينئذ أن يحمل الأمر الثاني
على التأكيد ؛ لأنّ الطبيعة الواحدة يستحيل تعلّق الأمرين بها من دون امتياز في
البين ، فلو كان الثاني تأسيسا غير مؤكّد للأوّل لكان على الآمر تقييد متعلّقه ولو
بنحو «مرّة أخرى». فمن عدم التقييد وظهور وحدة المتعلّق فيهما يكون اللفظ في
الثاني ظاهرا في التأكيد ، وإن كان التأكيد في نفسه خلاف الأصل وخلاف ظاهر الكلام
لو خلّي ونفسه.
الثانية
: أن يكون الأمران
معا معلّقين على شرط واحد ، كأن يقول المولى مثلا : «إن كنت محدثا فتوضّأ» ، ثمّ
يكرّر نفس القول ثانيا. ففي هذه الحالة أيضا يحمل على التأكيد ؛ لعين ما قلناه في
الحالة الأولى بلا تفاوت.
الثالثة : أن يكون أحد الأمرين معلّقا والآخر غير معلّق ، كأن يقول
مثلا : «اغتسل» ثمّ يقول : «إن كنت جنبا فاغتسل». ففي هذه الحالة أيضا يكون
المطلوب واحدا ويحمل على التأكيد ؛ لوحدة المأمور به ظاهرا المانعة من تعلّق
الأمرين به ، غير أنّ الأمر المطلق ـ أعني غير المعلّق ـ يحمل إطلاقه على المقيّد
ـ أعني المعلّق ـ ، فيكون الثاني مقيّدا لإطلاق الأوّل وكاشفا عن المراد منه.
الرابعة : أن يكون أحد الأمرين معلّقا على شيء والآخر معلّقا على
شيء آخر ، كأن يقول مثلا : «إن كنت جنبا فاغتسل» ويقول : «إن مسست ميّتا فاغتسل» ،
ففي هذه الحالة يحمل ـ ظاهرا ـ على التأسيس ؛ لأنّ الظاهر أنّ المطلوب في كلّ
منهما غير المطلوب في الآخر. ويبعد جدّا حمله على أنّ المطلوب واحد ، أمّا التأكيد
: فلا معنى له هنا ، وأمّا القول بالتداخل بمعنى الاكتفاء بامتثال واحد عن
المطلوبين : فهو ممكن ، ولكنّه ليس من باب التأكيد ، بل لا يفرض إلاّ بعد فرض
التأسيس وأنّ هناك أمرين يمتثلان معا بفعل واحد ؛
ولكنّ التداخل ـ على
كلّ حال ـ خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلاّ بدليل خاصّ ، كما ثبت في غسل الجنابة
أنّه يجزئ عن كلّ غسل آخر ، وسيأتي البحث عن التداخل مفصّلا في مفهوم الشرط .
١١. دلالة الأمر
بالأمر على الوجوب
إذا أمر المولى أحد
عبيده أن يأمر عبده الآخر بفعل ، فهل هو أمر بذلك الفعل حتّى يجب على الثاني فعله؟
[اختلفوا] على قولين. وهذا يمكن فرضه على نحوين :
١. أن يكون
المأمور الأوّل على نحو المبلّغ لأمر المولى إلى المأمور الثاني ، مثل أن يأمر
رئيس الدولة وزيره أن يأمر الرعيّة عنه بفعل. وهذا النحو لا شكّ خارج عن محلّ
الخلاف ؛ لأنّه لا يشكّ أحد في ظهوره في وجوب الفعل على المأمور الثاني. وكلّ
أوامر الأنبياء بالنسبة إلى المكلّفين من هذا القبيل.
٢. ألاّ يكون
المأمور الأوّل على نحو المبلّغ ، بل هو مأمور أن يستقلّ في توجيه الأمر إلى الثاني
من قبل نفسه ، وعلى نحو قول الإمام عليهالسلام «مروهم بالصّلاة
وهم أبناء سبع » ، يعني الأطفال.
وهذا النحو هو
محلّ الخلاف والبحث. ويلحق به ما لم يعلم الحال فيه أنّه على أيّ نحو من النحوين
المذكورين.
والمختار أنّ مجرّد الأمر بالأمر ظاهر عرفا في وجوبه على الثاني.
وتوضيح ذلك أنّ
الأمر بالأمر لا على نحو التبليغ يقع على صورتين :
الأولى
: أن يكون غرض
المولى يتعلّق بفعل المأمور الثاني ، ويكون أمره بالأمر طريقا للتوصّل إلى حصول
غرضه. وإذا عرف غرضه أنّه على هذه الصورة يكون أمره بالأمر
__________________
ـ لا شكّ ـ أمرا
بالفعل نفسه.
الثانية : أن يكون غرضه في مجرّد أمر المأمور الأوّل ، من دون أن
يتعلّق له غرض بفعل المأمور الثاني ، كما لو أمر المولى ابنه ـ مثلا ـ أن يأمر
العبد بشيء ، ولا يكون غرضه إلاّ أن يعوّد ابنه على إصدار الأوامر أو نحو ذلك ،
فيكون غرضه ـ فقط ـ في إصدار الأوّل أمره ، فلا يكون الفعل مطلوبا له أصلا في
الواقع.
وواضح لو علم
المأمور الثاني بهذا الغرض لا يكون أمر المولى بالأمر أمرا له ، ولا يعدّ عاصيا
لمولاه لو تركه ؛ لأنّ الأمر المتعلّق لأمر المولى يكون مأخوذا على نحو الموضوعيّة
وهو متعلّق الغرض ، لا على نحو الطريقيّة لتحصيل الفعل من العبد المأمور الثاني.
فإن قامت قرينة
على إحدى الصورتين المذكورتين فذاك ، وإن لم تقم قرينة فإنّ ظاهر الأوامر ـ عرفا ـ
مع التجرّد عن القرائن هو أنّه على نحو الطريقيّة.
فإذن ، الأمر
بالأمر مطلقا يدلّ على الوجوب إلاّ إذا ثبت أنّه على نحو الموضوعيّة. وليس مثله
يقع في الأوامر الشرعيّة.
تمرينات (١١)
التمرين الأوّل
١. ما هي الأقوال
في دلالة الأمر على الفور أو التراخي؟ وما هو الحقّ والدليل عليه؟
٢. ما الجواب عن
الاستدلال بقوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) و (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) على الفور؟
٣. هل يدلّ صيغة
الأمر على المرّة أو التكرار؟
٤. قال المصنّف رحمهالله : «أمّا الإطلاق فإنّه يقتضي الاكتفاء بالمرّة» بيّنه تفصيلا.
٥. هل يدلّ نسخ
الوجوب على الجواز؟
٦. إذا تعلّق
الأمر بفعل مرّتين فهل يكون الأمر الثاني تأسيسا لوجوب آخر ، أو يكون تأكيدا للأمر
الأوّل؟ بيّن صور المسألة وحكمها.
٧. هل يدلّ الأمر
بالأمر على الوجوب أم لا؟
التمرين الثاني
١. ما هي الأقوال
في المراد من المرّة والتكرار؟
الخاتمة :
في تقسيمات الواجب
للواجب عدّة
تقسيمات لا بأس بالتعرّض لها ، إلحاقا بمباحث الأوامر ؛ وإتماما للفائدة.
١. المطلق
والمشروط
إنّ الواجب إذا
قيس وجوبه إلى شيء آخر خارج عن الواجب ، فهو لا يخرج عن أحد نحوين :
١. أن يكون
متوقّفا وجوبه على ذلك الشيء ، وهو ـ أي الشيء ـ مأخوذ في وجوب الواجب على نحو
الشرطيّة ، كوجوب الحجّ بالقياس إلى الاستطاعة. وهذا هو المسمّى بـ «الواجب
المشروط» ؛ لاشتراط وجوبه بحصول ذلك الشيء الخارج ، ولذا لا يجب الحجّ إلاّ عند
حصول الاستطاعة.
٢. أن يكون وجوب
الواجب غير متوقّف على حصول ذلك الشيء الآخر ، كالحجّ بالقياس إلى قطع المسافة ،
وإن توقّف وجوده عليه. وهذا هو المسمّى بـ «الواجب المطلق» ؛ لأنّ وجوبه مطلق غير
مشروط بحصول ذلك الشيء الخارج. ومنه الصلاة بالقياس إلى الوضوء والغسل والساتر
ونحوها.
ومن مثال الحجّ
يظهر أنّه ـ وهو واجب واحد ـ يكون واجبا مشروطا بالقياس إلى شيء ، وواجبا مطلقا بالقياس إلى شيء آخر . فالمشروط
والمطلق أمران إضافيان.
ثمّ اعلم أنّ كلّ
واجب هو واجب مشروط بالقياس إلى الشرائط العامّة ، وهي البلوغ والقدرة والعقل ،
فالصبيّ والعاجز والمجنون لا يكلّفون بشيء في الواقع.
وأمّا «العلم» :
فقد قيل : «إنّه من الشروط العامّة» . والحقّ أنّه ليس
شرطا في الوجوب ولا في غيره من الأحكام ، بل التكاليف الواقعيّة مشتركة بين العالم
والجاهل على حدّ سواء. نعم ، العلم شرط في استحقاق العقاب على مخالفة التكليف على
تفصيل يأتي في
__________________
مباحث الحجّة
وغيرها إن شاء الله (تعالى) . وليس هذا موضعه.
٢. المعلّق
والمنجّز
لا شكّ أنّ الواجب
المشروط بعد حصول شرطه يكون وجوبه فعليّا شأن الواجب المطلق ، فيتوجّه التكليف
فعلا إلى المكلّف. ولكن فعليّة التكليف تتصوّر على وجهين :
١. أن تكون فعليّة
الوجوب مقارنة زمانا لفعليّة الواجب ، بمعنى أن يكون زمان الواجب نفس زمان الوجوب.
ويسمّى هذا القسم : «الواجب المنجّز» ، كالصلاة بعد دخول وقتها ؛ فإنّ وجوبها
فعليّ ، والواجب ـ وهو الصلاة ـ فعليّ أيضا.
٢. أن تكون فعليّة
الوجوب سابقة زمانا على فعليّة الواجب ، فيتأخّر زمان الواجب عن زمان الوجوب.
ويسمّى هذا القسم : «الواجب المعلّق» ؛ لتعليق الفعل ـ لا وجوبه ـ على زمان حاصل
بعد ، كالحجّ ـ مثلا ـ ، فإنّه عند حصول الاستطاعة يكون وجوبه فعليّا ـ كما قيل ـ ولكن الواجب معلّق على حصول الموسم ، فإنّه عند حصول الاستطاعة وجب الحجّ ،
ولذا يجب عليه أن يهيّئ المقدّمات والزاد والراحلة حتّى يحصل وقته وموسمه ليفعله
في وقته المحدّد له.
وقد وقع البحث والكلام
هنا في مقامين :
الأوّل
: في إمكان الواجب
المعلّق ، والمعروف عن صاحب الفصول قدسسره القول بإمكانه ووقوعه . والأكثر على
استحالته ، وهو المختار ، وسنتعرّض له ـ إن شاء الله (تعالى) ـ في
__________________
مقدّمة الواجب مع بيان السرّ في الذهاب إلى إمكانه ووقوعه ، وسنبيّن أنّ الواجب فعلا في
مثال الحجّ هو السير والتهيئة للمقدّمات ، وأمّا نفس أعمال الحجّ : فوجوبها مشروط
بحضور الموسم والقدرة عليها في زمانه.
والثاني : في أنّ ظاهر الجملة الشرطيّة في مثل قولهم : «إذا دخل
الوقت فصلّ» هل إنّ الشرط شرط للوجوب فلا تجب الصلاة في المثال إلاّ بعد دخول
الوقت أو أنّه شرط للواجب فيكون الواجب نفسه معلّقا على دخول الوقت في المثال ،
وأمّا الوجوب فهو فعليّ مطلق؟
وبعبارة أخرى هل
إنّ القيد شرط لمدلول هيئة الأمر في الجزاء أو أنّه شرط لمدلول مادّة الأمر في
الجزاء ؟
وهذا البحث يجري
حتّى لو كان الشرط غير الزمان ، كما إذا قال المولى : «إذا تطهّرت فصلّ».
فعلى القول بظهور
الجملة في رجوع القيد إلى الهيئة ـ أي إنّه شرط للوجوب ـ يكون الواجب واجبا مشروطا
، فلا يجب تحصيل شيء من المقدّمات قبل حصول الشرط. وعلى القول بظهورها في رجوع
القيد إلى المادّة ـ أي إنّه شرط للواجب ـ يكون الواجب واجبا مطلقا ، فيكون الوجوب
فعليّا قبل حصول الشرط ، فيجب عليه تحصيل مقدّمات المأمور به إذا علم بحصول الشرط
فيما بعد.
وهذا النزاع هو
النزاع المعروف بين المتأخّرين في رجوع القيد في الجملة الشرطيّة إلى الهيئة أو
المادّة. وسيجيء تحقيق الحال في موضعه إن شاء الله تعالى .
٣. الأصليّ
والتبعيّ
الواجب الأصليّ «ما
قصدت إفادة وجوبه مستقلاّ بالكلام» ، كوجوبي الصلاة والوضوء
__________________
المستفادين من
قوله (تعالى) : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، وقوله (تعالى) : (فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ) .
والواجب التبعيّ «ما
لم تقصد إفادة وجوبه ، بل كان من توابع ما قصدت
إفادته ». وهذا كوجوب المشي إلى السوق المفهوم من أمر المولى بوجوب
شراء اللحم من السوق ، فإنّ المشي إليها حينئذ يكون واجبا لكنّه لم يكن مقصودا
بالإفادة من الكلام ، كما في كلّ دلالة التزاميّة فيما لم يكن اللزوم فيها من قبيل
البيّن بالمعنى الأخصّ.
٤. التخييريّ
والتعيينيّ
الواجب التعيينيّ «ما
تعلّق به الطلب بخصوصه ، وليس له عدل في مقام الامتثال» ، كالصّلاة والصوم في شهر
رمضان ، فإنّ الصلاة واجبة لمصلحة في نفسها لا يقوم مقامها واجب آخر في عرضها. وقد
عرّفناه فيما سبق بقولنا : «هو الواجب بلا واجب آخر يكون عدلا له وبديلا عنه في
عرضه» . وإنّما قيّدنا البديل [بقولنا] : «في عرضه» ؛ لأنّ بعض
الواجبات التعيينيّة قد يكون لها بديل في طولها ولا يخرجها عن كونها واجبات
تعيينيّة ، كالوضوء ـ مثلا ـ الذي له بديل في طوله وهو التيمّم ؛ لأنّه إنّما يجب
إذا تعذّر الوضوء ، وكالغسل بالنسبة إلى التيمّم أيضا كذلك ، وكخصال الكفّارة
المرتّبة ، نحو كفّارة قتل الخطأ ، وهي العتق أوّلا ، فإن تعذّر فصيام شهرين ، فإن
تعذّر فإطعام ستّين مسكينا.
__________________
والواجب التخييريّ
: «ما كان له عدل وبديل في عرضه ، ولم يتعلّق به الطلب بخصوصه ، بل كان المطلوب هو
أو غيره ، يتخيّر بينهما المكلّف». وهو كالصوم الواجب في كفّارة إفطار شهر رمضان
عمدا ، فإنّه واجب ، ولكن يجوز تركه وتبديله بعتق رقبة أو إطعام ستّين مسكينا.
والأصل في هذا
التقسيم أنّ غرض المولى ربّما يتعلّق بشيء معيّن ، فإنّه لا مناص حينئذ من أن يكون
هو المطلوب والمبعوث إليه وحده ، فيكون «واجبا تعيينيّا». وربّما يتعلّق غرضه بأحد
شيئين أو أشياء لا على التعيين ، بمعنى أنّ كلاّ منها محصّل لغرضه ، فيكون البعث
نحوها جميعا على نحو التخيير بينها. وكلا القسمين واقع في إرادتنا نحن أيضا ، فلا
وجه للإشكال في إمكان الواجب التخييريّ ، ولا موجب لإطالة الكلام .
ثمّ إنّ أطراف
الواجب التخييريّ إن كان بينها جامع يمكن التعبير عنه بلفظ واحد ، فإنّه يمكن أن
يكون البعث في مقام الطلب نحو هذا الجامع ، فإذا وقع الطلب كذلك فإنّ التخيير
حينئذ بين الأطراف يسمّى «عقليّا» ، وهو ليس من الواجب التخييريّ المبحوث عنه ،
فإنّ هذا يعدّ من الواجب التعيينيّ ، فإنّ كلّ واجب تعيينيّ كلّيّ يكون المكلّف
مخيّرا عقلا بين أفراده ، والتخيير يسمّى حينئذ «عقليّا». مثاله قول الأستاذ
لتلميذه : «اشتر قلما» الجامع بين أنواع الأقلام من قلم الحبر وقلم الرصاص وغيرهما
، فإنّ التخيير بين هذه الأنواع يكون عقليّا ، كما أنّ
التخيير بين أفراد كلّ نوع يكون عقليّا أيضا.
وإن لم يكن هناك
جامع مثل ذلك ، كما في مثال خصال الكفّارة ، فإنّ البعث إمّا أن يكون نحو عنوان
انتزاعيّ كعنوان «أحد هذه الأمور» ، أو نحو كلّ واحد منها مستقلاّ ، ولكن مع العطف
بـ «أو» ونحوها ممّا يدلّ على التخيير ، فيقال في النحو الأوّل مثلا : «أوجد أحد
هذه الأمور». ويقال في النحو الثاني مثلا : «صم» أو «أطعم» أو «أعتق». ويسمّى
حينئذ التخيير بين الأطراف «شرعيّا» ، وهو المقصود من التخيير المقابل للتعيين
هنا.
__________________
ثمّ هذا التخيير
الشرعيّ تارة يكون بين المتباينين ، كالمثال المتقدّم ، وأخرى بين الأقلّ والأكثر
، كالتخيير بين تسبيحة واحدة وثلاث تسبيحات في ثلاثيّة
الصلاة اليوميّة ورباعيّتها على قول . وكما لو أمر
المولى برسم خطّ مستقيم ـ مثلا ـ مخيّرا فيه بين القصير والطويل.
وهذا الأخير ـ أعني
التخيير بين الأقلّ والأكثر ـ إنّما يتصوّر فيما إذا كان الغرض مترتّبا على الأقلّ
بحدّه ، ويترتّب على الأكثر بحدّه أيضا ، أمّا لو كان الغرض مترتّبا على الأقلّ
مطلقا وإن وقع في ضمن الأكثر فالواجب حينئذ هو الأقلّ فقط ، ولا تكون الزيادة
واجبة ، فلا يكون من باب الواجب التخييريّ ، بل الزيادة لا بدّ أن تحمل على
الاستحباب.
٥. العينيّ والكفائيّ
:
تقدّم أنّ الواجب
العينيّ «ما يتعلّق بكلّ مكلّف ولا يسقط بفعل الغير » ، ويقابله الواجب الكفائيّ وهو «المطلوب فيه وجود الفعل من أيّ مكلّف كان» ،
فهو يجب على جميع المكلّفين ، ولكن يكتفى بفعل بعضهم ، فيسقط عن الآخرين ولا
يستحقّ العقاب بتركه. نعم ، إذا تركوه جميعا من دون أن يقوم به واحد ، فالجميع
منهم يستحقّون العقاب ، كما يستحقّ الثواب كلّ من اشترك في فعله.
وأمثلة الواجب
الكفائيّ كثيرة في الشريعة : منها : تجهيز الميّت والصلاة عليه ؛ ومنها : إنقاذ
الغريق ونحوه من التهلكة ؛ ومنها : إزالة النجاسة عن المسجد ؛ ومنها : الحرف
والمهن والصناعات التي بها نظام معايش الناس ؛ ومنها : طلب الاجتهاد ؛ ومنها :
الأمر بالمعروف
__________________
والنهي عن المنكر.
والأصل في هذا
التقسيم أنّ المولى يتعلّق غرضه بالشيء المطلوب له من الغير على نحوين :
١. أن يصدر من كلّ
واحد من الناس ، حينما تكون المصلحة المطلوبة تحصل من كلّ واحد مستقلاّ ، فلا بدّ
أن يوجّه الخطاب إلى كلّ واحد منهم على أن يصدر من كلّ واحد عينا ، كالصوم والصلاة
وأكثر التكاليف الشرعيّة. وهذا هو «الواجب العينيّ».
٢. أن يصدر من أحد
المكلّفين لا بعينه ، حينما تكون المصلحة في صدور الفعل ولو مرّة واحدة من أيّ شخص
كان ، فلا بدّ أن يوجّه الخطاب إلى جميع المكلّفين ؛ لعدم خصوصيّة لمكلّف دون
مكلّف ، ويكتفى بفعل بعضهم الذي يحصل به الغرض ، فيجب على الجميع بفرض الكفاية.
وهذا هو «الواجب الكفائيّ».
وقد وقع الأقدمون
من الأصوليّين في حيرة من أمر الوجوب الكفائيّ وتطبيقه على القاعدة في الوجوب الذي
قوامه بل لازمه المنع من الترك ، إذ رأوا أنّ وجوبه على الجميع لا يتلاءم مع جواز
تركه بفعل بعضهم ، ولا وجوب بدون المنع من الترك. لذا ظنّ بعضهم أنّه ليس المكلّف
المخاطب فيه الجميع بل البعض غير المعيّن ، أي أحد المكلّفين ، وظنّ بعضهم أنّه معيّن عند الله غير معيّن عندنا ، ويتعيّن من يسبق إلى
الفعل منهم فهو المكلّف حقيقة ... إلى غير ذلك من الظنون .
ونحن لمّا صوّرناه
بذلك التصوير المتقدّم لا يبقى مجال لهذه الظنون ، فلا نشغل أنفسنا بذكرها وردّها.
وتدفع الحيرة بأدنى التفات ؛ لأنّه إذا كان غرض المولى يحصل بفعل البعض فلا بدّ أن
يسقط وجوبه عن الباقي ؛ إذ لا يبقى ما يدعو إليه. فهو إذن واجب على الجميع من
__________________
أوّل الأمر ، ولذا
يمنعون جميعا من تركه ، ويسقط بفعل بعضهم لحصول الغرض منه .
٦. الموسّع
والمضيّق
ينقسم الواجب
باعتبار الوقت إلى قسمين : موقّت وغير موقّت.
ثمّ الموقّت إلى
موسّع ومضيّق.
ثمّ غير الموقّت
إلى فوريّ وغير فوريّ.
ولنبدأ بغير
الموقّت مقدّمة ، فنقول :
غير
الموقّت «ما لم يعتبر فيه شرعا وقت مخصوص» ، وإن كان كلّ فعل لا
يخلو عقلا من زمن يكون ظرفا له ، كقضاء الفائتة ، وإزالة النجاسة عن المسجد ،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحو ذلك.
وهو ـ كما قلنا ـ على
قسمين : [١]. فوريّ وهو «ما لا يجوز تأخيره عن أوّل أزمنة إمكانه» ، كإزالة
النجاسة عن المسجد ، وردّ السلام ، والأمر بالمعروف. [٢]. وغير فوريّ وهو «ما يجوز
تأخيره عن أوّل أزمنة إمكانه» ، كالصلاة على الميّت ، وقضاء الصلاة الفائتة ،
والزكاة ، والخمس.
والموقّت «ما اعتبر فيه
شرعا وقت مخصوص» ، كالصلاة والحجّ والصوم ونحوها وهو لا يخلو عقلا من وجوه ثلاثة :
إمّا أن يكون فعله زائدا على وقته المعيّن له ، أو مساويا له ، أو ناقصا عنه.
والأوّل ممتنع ؛ لأنّه من التكليف بما لا يطاق. والثاني لا ينبغي الإشكال في
إمكانه ووقوعه ، وهو المسمّى «المضيّق» ، كالصوم ؛ إذ فعله ينطبق على وقته بلا زيادة ولا نقصان من طلوع الفجر إلى الغروب. والثالث هو
المسمّى «الموسّع» ؛ لأنّ فيه توسعة
__________________
على المكلّف في
أوّل الوقت وفي أثنائه وآخره ، كالصّلاة اليوميّة وصلاة الآيات ، فإنّه لا يجوز
تركه في جميع الوقت ، ويكتفى بفعله مرّة واحدة في ضمن الوقت المحدّد له.
ولا إشكال عند
العلماء في ورود ما ظاهره التوسعة في الشريعة ، وإنّما اختلفوا في جوازه عقلا على
قولين : إمكانه ، وامتناعه. ومن قال بامتناعه أوّل ما ورد على
الوجه الذي يدفع الإشكال عنده على ما سيأتي.
والحقّ عندنا جواز الموسّع عقلا ووقوعه شرعا .
ومنشأ الإشكال عند
القائل بامتناع الموسّع أنّ حقيقة الوجوب متقوّمة بالمنع من الترك ـ كما تقدّم ـ فينافيه الحكم بجواز تركه في أوّل الوقت أو وسطه.
والجواب عنه واضح ؛ فإنّ الواجب الموسّع فعل واحد ، وهو طبيعة
الفعل المقيّد بطبيعة الوقت المحدود بحدّين على ألاّ يخرج الفعل عن الوقت ، فتكون
الطبيعة بملاحظة ذاتها واجبة لا يجوز تركها ، غير أنّ الوقت لمّا كان يسع لإيقاعها
فيه عدّة مرّات ، كان لها أفراد طوليّة تدريجيّة مقدّرة الوجود في أوّل الوقت
وثانيه وثالثه إلى آخره ، فيقع التخيير العقليّ بين الأفراد الطوليّة ، كالتخيير
العقليّ بين الأفراد العرضيّة للطبيعة المأمور بها ، فيجوز الإتيان بفرد وترك
الآخر من دون أن يكون جواز الترك له مساس في نفس المأمور به ، وهو طبيعة الفعل في
الوقت المحدود . فلا منافاة بين وجوب الطبيعة بملاحظة ذاتها وبين جواز ترك
أفرادها عدا فرد واحد.
والقائلون
بالامتناع التجئوا إلى تأويل ما ظاهره التوسعة في الشريعة ، فقال بعضهم بوجوبه في
أوّل الوقت ، والإتيان به في الزمان الباقي يكون من باب القضاء والتدارك
__________________
لما فات من الفعل
في أوّل الوقت . وقال آخر بوجوبه في آخر الوقت ، والإتيان به قبله من باب
النفل يسقط به الفرض ، نظير إيقاع غسل الجمعة في يوم الخميس وليلة الجمعة . وقيل : غير ذلك .
وكلّها أقوال
متروكة عند علمائنا ، واضحة البطلان. فلا حاجة إلى الإطالة في ردّها .
هل يتبع القضاء
الأداء؟
ممّا يتفرّع عادة
على البحث عن الموقّت «مسألة تبعيّة القضاء للأداء» ، وهي من مباحث الألفاظ ،
وتدخل في باب الأوامر.
ولكن أخّر ذكرها إلى الخاتمة مع أنّ من حقّها أن تذكر قبلها ؛ لأنّها ـ كما قلنا ـ من
فروع بحث الموقّت عادة ، فنقول :
إنّ الموقّت قد
يفوت في وقته ؛ إمّا لتركه عن عذر ، أو عن عمد واختيار ؛ وإمّا لفساده لعذر أو
لغير عذر. فإذا فات على أيّ نحو من هذه الأنحاء فقد ثبت في الشريعة وجوب تدارك بعض
الواجبات ، كالصّلاة والصوم ، بمعنى أن يأتي بها خارج الوقت. ويسمّى هذا التدارك «قضاء».
وهذا لا كلام فيه إلاّ أنّ الأصوليّين اختلفوا في أنّ وجوب القضاء هل هو على مقتضى
القاعدة ـ بمعنى أنّ الأمر بنفس الموقّت يدلّ على وجوب قضائه إذا فات في
__________________
وقته ، فيكون وجوب
القضاء بنفس دليل الأداء ـ أو أنّ القاعدة لا تقتضي ذلك ، بل وجوب القضاء يحتاج
إلى دليل خاصّ غير نفس دليل الأداء؟
وفي المسألة أقوال
ثلاثة :
قول بالتبعيّة
مطلقا .
وقول بعدمها مطلقا
.
وقول بالتفصيل بين
ما إذا كان الدليل على التوقيت متّصلا ، فلا تبعيّة ، وبين ما إذا كان منفصلا ،
فالقضاء تابع للأداء .
والظاهر أنّ منشأ
النزاع في المسألة يرجع إلى أنّ المستفاد من التوقيت هو وحدة المطلوب أو تعدّده؟
أي إنّ في الموقّت مطلوبا واحدا هو الفعل المقيّد بالوقت بما هو مقيّد ، أو
مطلوبين ، وهما ذات الفعل وكونه واقعا في وقت معيّن؟
فعلى الأوّل ، إذا
فات الامتثال في الوقت لم يبق طلب بنفس الذات ، فلا بدّ من فرض أمر جديد للقضاء
بالإتيان بالفعل خارج الوقت. وعلى الثاني ، إذا فات الامتثال في الوقت فإنّما فات
امتثال أحد الطلبين وهو طلب كونه في الوقت المعيّن ، وأمّا الطلب بذات الفعل :
فباق على حاله.
ولذا ذهب بعضهم
إلى التفصيل المذكور باعتبار أنّ المستفاد من دليل التوقيت في المتّصل وحدة
المطلوب ، فيحتاج القضاء إلى أمر جديد ، والمستفاد في المنفصل تعدّد المطلوب ، فلا
يحتاج القضاء إلى أمر جديد ويكون تابعا للأداء.
__________________
والمختار
هو القول الثاني ،
وهو عدم التبعيّة مطلقا ؛ لأنّ الظاهر من التقييد أنّ القيد ركن في المطلوب ، فإذا
قال مثلا : «صم يوم الجمعة» فلا يفهم منه إلاّ مطلوب واحد لغرض واحد ، وهو خصوص
صوم هذا اليوم ، لا أنّ الصوم بذاته مطلوب ، وكونه في يوم الجمعة مطلوب آخر.
وأمّا في مورد
دليل التوقيت المنفصل ، كما إذا قال : «صم» ثمّ قال مثلا : «اجعل صومك يوم الجمعة»
، فأيضا كذلك ، نظرا إلى أنّ هذا من باب المطلق والمقيّد ، فيجب فيه حمل المطلق
على المقيّد ، ومعنى حمل المطلق على المقيّد هو تقييد أصل المطلوب الأوّل بالقيد ،
فيكشف ذلك التقييد عن أنّ المراد بالمطلق واقعا من أوّل الأمر خصوص المقيّد ،
فيصبح الدليلان بمقتضى الجمع بينهما دليلا واحدا ، لا أنّ المقيّد مطلوب آخر غير
المطلق ، وإلاّ كان معنى ذلك بقاء المطلق على إطلاقه ، فلم يكن حملا ولم يكن جمعا
بين الدليلين ، بل يكون أخذا بالدليلين.
نعم ، يمكن أن
يفرض ـ وإن كان هذا فرضا بعيد الوقوع في الشريعة ـ أن يكون دليل التوقيت المنفصل
مقيّدا بالتمكّن ، كأن يقول في المثال : «اجعل صومك يوم الجمعة إن تمكّنت» ، أو
كان دليل التوقيت ليس فيه إطلاق يعمّ صورتي التمكّن وعدمه ، ـ وصورة التمكّن هي
القدر المتيقّن منه ـ فإنّه في هذا الفرض يمكن التمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات
وجوب الفعل خارج الوقت ؛ لأنّ دليل التوقيت غير صالح لتقييد إطلاق دليل الواجب
إلاّ في صورة التمكّن ، ومع الاضطرار إلى ترك الفعل في الوقت يبقى دليل الواجب على
إطلاقه.
وهذا الفرض هو
الذي يظهر من الكفاية لشيخ أساتذتنا الآخوند قدسسره ، ولكنّه فرض بعيد جدّا. على أنّه مع هذا الفرض لا يصدق
الفوت ولا القضاء ، بل يكون وجوبه خارج الوقت من نوع الأداء.
__________________
تمرينات (١٢)
التمرين الأوّل
١. ما هو الواجب
المطلق والواجب المشروط؟ مثّل لهما.
٢. ما هو الواجب
المعلّق والواجب المنجّز؟ ايت بمثال لهما.
٣. ما هو رأي صاحب
الفصول في الواجب المعلّق؟
٤. ما هو الواجب
الأصليّ والواجب التبعيّ؟
٥. ما الفرق بين
الواجب التخييريّ والتعيينيّ؟
٦. ما الفرق بين
التخيير الشرعيّ والعقليّ؟
٧. ايت بمثال من
عندك ومثال من الكتاب للتخيير العقلي الشرعي.
٨. ايت بمثال
للتخيير الشرعي بأقسامه.
٩. ما هو الواجب
العيني والكفائي؟ ايت بمثال لهما.
١٠. اذكر أقوال
العلماء في كيفيّة تطبيق الوجوب الكفائي على القاعدة.
١١. اذكر أقسام الواجب
باعتبار الوقت وتعريفها.
١٢. ما الجواب عن
الإشكال على الواجب الموسّع بأنّ حقيقة الوجوب متقوّمة بالمنع من الترك ، فينافيه
الحكم بجواز تركه في أوّل الوقت أو وسطه؟
١٣. ما هي الأقوال
في تبعيّة القضاء للأداء؟ وما هو مختار المصنّف رحمهالله ودليله عليه؟
التمرين الثاني
١. من هو مبتكر
تقسيم الواجب إلى المعلّق والمنجّز؟
٢. ما الوجه في
إنكار الشيخ الأنصاري تقسيم الواجب إلى المعلّق والمنجّز؟
٣. هل تقسيم
الواجب إلى الأصليّ والتبعيّ يكون بلحاظ مقام الإثبات أو بلحاظ مقام الثبوت؟ (بيّن
آراء العلماء والفرق بين اللحاظين).
٤. ما هو رأي
المحقّق الخراساني في مسألة تبعيّة القضاء للأداء؟
الباب الثالث
النواهي
وفيه خمس مسائل :
١. مادّة
النهي
والمقصود بها كلمة
«النهي» كمادّة الأمر. وهي عبارة عن طلب العالي من الداني ترك الفعل ، أو فقل ـ على الأصحّ ـ : «إنّها عبارة عن زجر العالي للداني عن الفعل وردعه
عنه » ، ولازم ذلك طلب الترك ، فيكون التفسير الأوّل تفسيرا
باللازم على ما سيأتي توضيحه.
وهي (كلمة النهي)
ككلمة «الأمر» في الدلالة على الإلزام عقلا لا وضعا ، وإنّما الفرق بينهما أنّ
المقصود في الأمر الالزام بالفعل ، والمقصود في النهي الإلزام بالترك.
وعليه ، تكون
مادّة «النهي» ظاهرة في الحرمة ، كما أنّ مادّة الأمر ظاهرة في الوجوب.
__________________
٢. صيغة
النهي
المراد من صيغة
النهي كلّ صيغة تدلّ على طلب الترك. أو فقل ـ على الأصحّ ـ : كلّ صيغة تدلّ على
الزجر عن الفعل وردعه عنه ، كصيغة «لا تفعل» أو «إيّاك أن تفعل» ونحو ذلك.
والمقصود بـ «الفعل»
الحدث الذي يدلّ عليه المصدر وإن لم يكن أمرا وجوديّا ، فيدخل فيها ـ على هذا ـ نحو
قولهم : «لا تترك الصلاة» ؛ فإنّها من صيغ النهي لا من صيغ الأمر. كما أنّ قولهم :
«اترك شرب الخمر» تعدّ من صيغ الأمر لا من صيغ النهي وإن أدّت مؤدّى «لا تشرب
الخمر».
والسرّ في ذلك
واضح ؛ فإنّ المدلول المطابقيّ لقولهم : «لا تترك» هو الزجر والنهي عن ترك الفعل ،
وإن كان لازمه الأمر بالفعل ، فيدلّ عليه بالدلالة الالتزاميّة. والمدلول المطابقي
لقولهم : «اترك» هو الأمر بترك الفعل ، وإن كان لازمه النهي عن الفعل ، فيدلّ عليه
بالدلالة الالتزاميّة.
٣. ظهور
صيغة النهي في التحريم
الحقّ أنّ صيغة النهي ظاهرة في التحريم ، ولكن لا لأنّها موضوعة
لمفهوم الحرمة وحقيقة فيه كما هو المعروف ، بل حالها في
ذلك حال ظهور صيغة «افعل» في الوجوب ، فإنّه قد قلنا هناك : إنّ هذا الظهور إنّما
هو بحكم العقل ، لا أنّ الصيغة موضوعة ومستعملة في مفهوم الوجوب.
وكذلك صيغة «لا
تفعل» ؛ فإنّها أكثر ما تدلّ عليه النسبة الزجريّة بين الناهي والمنهيّ
__________________
عنه والمنهيّ.
فإذا صدرت ممّن تجب طاعته ويجب الانزجار بزجره والانتهاء عمّا نهى عنه ولم ينصب
قرينة على جواز الفعل كان مقتضى وجوب طاعة هذا المولى وحرمة عصيانه عقلا ـ قضاء
لحقّ العبوديّة والمولويّة ـ عدم جواز ترك الفعل الذي نهى عنه إلاّ مع الترخيص من
قبله.
فيكون ـ على هذا ـ
نفس صدور النهي من المولى بطبعه مصداقا لحكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية ،
فيكون النهي مصداقا للتحريم حسب ظهوره الإطلاقيّ ، لا أنّ التحريم ـ الذي هو مفهوم
اسميّ ـ وضعت له الصيغة واستعملت فيه.
والكلام هنا
كالكلام في صيغة «افعل» بلا فرق من جهة الأقوال والاختلافات.
٤. ما المطلوب
في النهي؟
كلّ ما تقدّم ليس
فيه خلاف جديد غير الخلاف الموجود في صيغة «افعل». وإنّما اختصّ النهي في خلاف
واحد ، وهو أنّ المطلوب في النهي هل هو مجرّد الترك أو كفّ النفس عن الفعل ؟. والفرق بينهما أنّ المطلوب على القول الأوّل أمر عدميّ
محض ، والمطلوب على القول الثاني أمر وجوديّ ؛ لأنّ الكفّ فعل من أفعال النفس.
والحقّ هو القول الأوّل.
ومنشأ القول
الثاني توهّم هذا القائل أنّ الترك ـ الذي معناه إبقاء عدم الفعل المنهيّ عنه على
حاله ـ ليس بمقدور للمكلّف ؛ لأنّه أزليّ خارج عن القدرة ، فلا يمكن تعلّق الطلب
به.
والمعقول من النهي
أن يتعلّق فيه الطلب بردع النفس وكفّها عن الفعل ، وهو فعل نفسانيّ يقع تحت
الاختيار.
والجواب عن هذا التوهّم أنّ عدم المقدوريّة في الأزل على العدم لا
ينافي المقدوريّة
__________________
بقاء واستمرارا ؛
إذ القدرة على الوجود تلازم القدرة على العدم ، بل القدرة على العدم على طبع
القدرة على الوجود ، وإلاّ لو كان العدم غير مقدور بقاء لما كان الوجود مقدورا ،
فإنّ المختار القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.
والتحقيق أنّ هذا البحث ساقط من أصله ، فإنّه ـ كما أشرنا إليه فيما
سبق ـ ليس معنى النهي هو الطلب ، حتّى يقال : «إنّ المطلوب هو الترك أو الكفّ؟» ،
وإنّما طلب الترك من لوازم النهي ، ومعنى النهي المطابقيّ هو الزجر والردع. نعم ،
الردع عن الفعل يلزمه عقلا طلب الترك ، كما أنّ البعث نحو الفعل في الأمر يلزمه عقلا الردع عن الترك.
فالأمر والنهي ـ كلاهما
ـ يتعلّقان بنفس الفعل رأسا ، فلا موقع للحيرة والشكّ في أنّ الطلب في النهي
يتعلّق بالترك أو الكفّ.
٥. دلالة
صيغة النهي على الدوام والتكرار
اختلفوا في دلالة
صيغة النهي على التكرار أو المرّة ، كالاختلاف في صيغة «افعل».
والحقّ هنا ما قلناه هناك بلا فرق ، فلا دلالة لصيغة «لا تفعل» ،
لا بهيئتها ، ولا بمادّتها على الدوام والتكرار ، ولا على المرّة ، وإنّما المنهيّ
عنه صرف الطبيعة ، كما أنّ المبعوث نحوه في صيغة «افعل» صرف الطبيعة.
غير أنّ بينهما
فرقا من ناحية عقليّة في مقام الامتثال ، فإنّ امتثال النهي بالانزجار عن فعل
الطبيعة ، ولا يكون ذلك إلاّ بترك جميع أفرادها ، فإنّه لو فعلها مرّة واحدة ، ما
كان ممتثلا. وأمّا امتثال الأمر فيتحقّق بإيجاد أوّل وجود من أفراد الطبيعة ، ولا
تتوقّف طبيعة الامتثال على أكثر من فعل المأمور به مرّة واحدة.
وليس هذا الفرق من
أجل وضع الصيغتين ودلالتهما ، بل ذلك مقتضى طبع النهي والأمر عقلا.
__________________
تنبيه
لم نذكر هنا ما
اعتاد المؤلّفون ذكره من بحثي اجتماع الأمر والنهي ، ودلالة النهي على الفساد ؛
لأنّهما داخلان في «المباحث العقليّة» ، كما سيأتي ، وليس هما من مباحث الألفاظ . وكذلك بحث مقدّمة الواجب ، ومسألة الضدّ ، ومسألة الإجزاء ليست من مباحث
الألفاظ أيضا. وسنذكر الجميع في المقصد الثاني (المباحث العقليّة) إن شاء الله (تعالى).
تمرينات (١٣)
١. ما معنى النهي
بمادّته؟
٢. ما المراد من
صيغة النهي؟
٣. ما الدليل على
أنّ صيغة النهي ظاهرة في التحريم؟
٤. ما المطلوب في
النهي؟
٥. ما الفرق بين
الترك وكفّ النفس عن الفعل؟
٦. ما الجواب عن
توهّم من قال : «إن الترك أمر عدميّ لا يمكن تعلّق الطلب به»؟
٧. هل تدلّ صيغة
النهي على الدوام أو التكرار؟
__________________
الباب الرابع
المفاهيم
تمهيد
في معنى كلمة «المفهوم»
، وفي النزاع في حجيّته ، وفي أقسامه. فهذه ثلاثة مباحث :
١. معنى
كلمة المفهوم
تطلق كلمة «المفهوم»
على ثلاثة معان :
١. المعنى المدلول
للّفظ الذي يفهم منه ، فيساوي كلمة «المدلول» ، سواء كان مدلولا لمفرد أو جملة ،
وسواء كان مدلولا حقيقيّا أو مجازيّا.
٢. ما يقابل
المصداق ، فيراد منه كلّ معنى يفهم وإن لم يكن مدلولا للّفظ ، فيعمّ المعنى الأوّل
وغيره.
٣. ما يقابل
المنطوق ، وهو أخصّ من الأوّلين. وهذا هو المقصود بالبحث هنا. وهو اصطلاح أصوليّ
يختصّ بالمدلولات الالتزاميّة للجمل التركيبيّة ، سواء كانت إنشائيّة أو إخباريّة
، فلا يقال لمدلول المفرد مفهوم وإن كان من المدلولات الالتزاميّة.
أمّا المنطوق :
فمقصودهم منه ما يدلّ عليه اللفظ في حدّ ذاته على وجه يكون اللفظ المنطوق حاملا
لذلك المعنى ، وقالبا له ، فيسمّى المعنى «منطوقا» تسمية للمدلول باسم الدالّ.
ولذلك يختصّ المنطوق بالمدلول المطابقيّ فقط ، وإن كان المعنى مجازا قد استعمل فيه
اللفظ بقرينة.
وعليه ، فالمفهوم
الذي يقابله ما لم يكن اللفظ حاملا له دالاّ عليه بالمطابقة ، ولكن يدلّ
عليه باعتباره
لازما لمفاد الجملة بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ؛ ولأجل هذا يختصّ المفهوم
بالمدلول الالتزاميّ.
مثاله قولهم : «إذا
بلغ الماء كرّا لا ينجّسه شيء». فالمنطوق فيه هو مضمون الجملة وهو عدم تنجّس الماء
البالغ كرّا بشيء من النجاسات. والمفهوم ـ على تقدير أن يكون لمثل هذه الجملة
مفهوم ـ أنّه إذا لم يبلغ كرّا يتنجّس.
وعلى هذا يمكن
تعريفهما بما يلي :
المنطوق «هو حكم دلّ عليه
اللفظ في محلّ النطق».
والمفهوم «هو حكم دلّ عليه
اللفظ لا في محلّ النطق ».
والمراد من الحكم
الحكم بالمعنى الأعمّ ، لا خصوص أحد الأحكام الخمسة.
وعرّفوهما أيضا
بأنّهما حكم مذكور وحكم غير مذكور ؛ وأنّهما حكم
لمذكور وحكم لغير مذكور ، وكلّها لا تخلو عن مناقشات طويلة الذيل . والذي يهوّن الخطب أنّها تعريفات لفظيّة لا يقصد منها الدقّة
في التعريف ،
والمقصود منها واضح كما شرحناه.
٢. النزاع
في حجّيّة المفهوم
لا شكّ أنّ الكلام
إذا كان له مفهوم يدلّ عليه فهو ظاهر فيه ، فيكون حجّة من المتكلّم على السامع ،
ومن السامع على المتكلّم ، كسائر الظواهر الأخرى.
__________________
إذن ، ما معنى
النّزاع في حجيّة المفهوم حينما يقولون مثلا : هل مفهوم الشرط حجّة أو لا؟
وعلى تقديره ، لا
يدخل هذا النزاع في مباحث الألفاظ التي كان الغرض منها تشخيص الظهور في الكلام
وتنقيح صغريات حجيّة الظهور ، بل ينبغي أن يدخل في مباحث الحجّة ، كالبحث عن
حجّيّة الظهور وحجّيّة الكتاب ونحو ذلك.
والجواب أنّ النزاع هنا في الحقيقة إنّما هو في وجود الدلالة على
المفهوم ، ـ أي في أصل ظهور الجملة فيه وعدم ظهورها ـ. وبعبارة أوضح : النزاع هنا
في حصول المفهوم للجملة لا في حجّيّته بعد فرض حصوله.
فمعنى النزاع في
مفهوم الشرط ـ مثلا ـ أنّ الجملة الشرطيّة مع قطع النظر عن القرائن الخاصّة هل
تدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط؟ وهل هي ظاهرة في ذلك؟ لا أنّه بعد
دلالتها على هذا المفهوم وظهورها فيه يتنازع في حجّيته ، فإنّ هذا لا معنى له ،
وإن أوهم ذلك ظاهر بعض تعبيراتهم ، كما يقولون مثلا : «مفهوم الشرط حجّة أم لا؟».
ولكن غرضهم ما ذكرنا.
كما أنّه لا نزاع
في دلالة بعض الجمل على مفهوم لها إذا كانت لها قرينة خاصّة على ذلك المفهوم ،
فإنّ هذا ليس موضع كلامهم ؛ بل موضوع الكلام ومحلّ النزاع في دلالة نوع تلك الجملة
، كنوع الجملة الشرطيّة على المفهوم مع تجرّدها عن القرائن الخاصّة.
٣. أقسام
المفهوم
ينقسم المفهوم إلى
مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة :
١.
مفهوم الموافقة ما كان الحكم في المفهوم موافقا في السنخ للحكم الموجود في المنطوق ، فإن كان
الحكم في المنطوق الوجوب ـ مثلا ـ كان في المفهوم الوجوب أيضا ، وهكذا ، كدلالة
الأولويّة في مثل قوله (تعالى) : (فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍ) على النهي عن الضرب والشتم للأبوين ، ونحو ذلك ممّا هو
أشدّ إهانة وإيلاما من التأفيف المحرّم بحكم الآية.
__________________
وقد يسمّى هذا
المفهوم «فحوى الخطاب».
ولا نزاع في
حجّيّة مفهوم الموافقة ، بمعنى دلالة الأولويّة على تعدّي الحكم إلى ما هو أولى في
علّة الحكم ، وله تفصيل كلام يأتي في موضعه .
٢.
مفهوم المخالفة ما كان الحكم فيه مخالفا في السنخ للحكم الموجود في المنطوق ، وله موارد
كثيرة وقع الكلام فيها نذكرها بالتفصيل ، وهي ستّة :
١. مفهوم الشرط.
٢. مفهوم الوصف.
٣. مفهوم الغاية.
٤. مفهوم الحصر.
٥. مفهوم العدد.
٦. مفهوم اللقب.
تمرينات (١٤)
التمرين الأوّل
١. ما معنى كلمة «المفهوم»؟
٢. ما المقصود من «المفهوم»
في المقام؟
٣. ما هو تعريف
المفهوم والمنطوق؟
٤. ما معنى النزاع
في حجّيّة المفهوم؟
٥. ما هو مفهوم
الموافقة ومفهوم المخالفة؟ ايت بمثال لهما.
التمرين الثاني
١. ما هي الأقوال
في حقيقة المفهوم والمنطوق؟
__________________
الأوّل :
مفهوم الشرط
تحرير محلّ النزاع
لا شكّ في أنّ
الجملة الشرطيّة يدلّ منطوقها ـ بالوضع ـ على تعليق التالي فيها على المقدّم
الواقع موقع الفرض والتقدير. وهي على نحوين :
١. أن تكون مسوقة
لبيان موضوع الحكم ، أي إنّ المقدّم هو نفس موضوع الحكم ، حيث يكون الحكم في
التالي منوطا بالشرط في المقدّم على وجه لا يعقل فرض الحكم بدونه ، نحو قولهم : «إن
رزقت ولدا فاختنه» ؛ فإنّه في المثال لا يعقل فرض ختان الولد إلاّ بعد فرض وجوده.
ومنه قوله (تعالى) : (وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ؛ فإنّه لا يعقل فرض الإكراه على البغاء إلاّ بعد فرض إرادة
التحصّن من قبل الفتيات.
وقد اتّفق
الأصوليّون على أنّه لا مفهوم لهذا النحو من الجملة الشرطيّة ؛ لأنّ انتفاء الشرط
معناه انتفاء موضوع الحكم ، فلا معنى للحكم بانتفاء التالي على تقدير انتفاء
المقدّم إلاّ على نحو السالبة بانتفاء الموضوع. ولا حكم حينئذ بالانتفاء ، بل هو
انتفاء الحكم. فلا مفهوم للشرطيّة في المثالين ، فلا يقال : «إن لم ترزق ولدا فلا
تختنه» ولا يقال : «إن لم يردن تحصّنا فأكرهوهنّ على البغاء».
٢. ألاّ تكون
مسوقة لبيان الموضوع ، حيث يكون الحكم في التالي منوطا بالشرط على وجه يمكن فرض
الحكم بدونه ، نحو قولهم : «إن أحسن صديقك فأحسن إليه» ، فإنّ فرض الإحسان إلى
الصديق لا يتوقّف عقلا على فرض صدور الإحسان منه ، فإنّه يمكن الإحسان إليه ، أحسن
أو لم يحسن.
وهذا النحو الثاني
من الشرطيّة هو محلّ النزاع في مسألتنا ، ومرجعه إلى النزاع في دلالة الشرطيّة على
انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ، بمعنى أنّه هل يستكشف من طبع التعليق على الشرط
انتفاء نوع الحكم المعلّق ـ كالوجوب مثلا ـ على تقدير انتفاء الشرط؟
__________________
وإنّما قلنا : «نوع
الحكم» ؛ لأنّ شخص كلّ حكم في القضيّة الشرطيّة أو غيرها ينتفي
بانتفاء موضوعه ، أو أحد قيود الموضوع ، سواء كان للقضيّة مفهوم ، أو لم يكن.
وفي مفهوم الشرطيّة
قولان : أقواهما أنّها تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء.
المناط في مفهوم
الشرط
إنّ دلالة الجملة
الشرطيّة على المفهوم تتوقّف على دلالتها ـ بالوضع أو بالإطلاق ـ على أمور ثلاثة
مترتّبة :
١. دلالتها على
الارتباط والملازمة بين المقدّم والتالي.
٢. دلالتها ـ زيادة
على الارتباط والملازمة ـ على أنّ التالي معلّق على المقدّم ، ومترتّب عليه ،
وتابع له ، فيكون المقدّم سببا للتالي. والمقصود من السبب هنا هو كلّ ما يترتّب
عليه الشيء وإن كان شرطا ونحوه ، فيكون أعمّ من السبب المصطلح في فنّ المعقول.
٣. دلالتها ـ زيادة
على ما تقدّم ـ على انحصار السببيّة في المقدّم ، بمعنى أنّه لا سبب بديل له
يترتّب عليه التالي.
وتوقّف المفهوم
للجملة الشرطيّة على هذه الأمور الثلاثة واضح ؛ لأنّه لو كانت الجملة اتّفاقيّة أو
كان التالي غير مترتّب على المقدّم أو كان مترتّبا ولكن لا على نحو الانحصار فيه
فإنّه في جميع ذلك لا يلزم من انتفاء المقدّم انتفاء التالي.
وإنّما الذي ينبغي
إثباته هنا هو أنّ الجملة ظاهرة في هذه الأمور الثلاثة وضعا أو إطلاقا ؛ لتكون
حجّة في المفهوم.
والحقّ ظهور الجملة الشرطيّة في هذه الأمور ؛ وضعا في بعضها ؛
وإطلاقا في
__________________
البعض الآخر.
١. أمّا دلالتها
على الارتباط ووجود العلقة اللزوميّة بين الطرفين ، فالظاهر أنّه بالوضع بحكم
التبادر ؛ ولكن لا بوضع خصوص أدوات الشرط حتّى ينكر وضعها
لذلك ، بل بوضع الهيئة التركيبيّة للجملة الشرطيّة بمجموعها . وعليه فاستعمالها في الاتّفاقيّة يكون بالعناية وادّعاء التلازم والارتباط
بين المقدّم والتالي إذا اتّفقت لهما المقارنة في الوجود.
٢. وأمّا دلالتها
على أنّ التالي مترتّب على المقدّم بأيّ نحو من أنحاء الترتّب فهو بالوضع أيضا ،
ولكن لا بمعنى أنّها موضوعة بوضعين : وضع للتلازم ، ووضع آخر للترتّب ، بل بمعنى
أنّها موضوعة بوضع واحد ؛ للارتباط الخاصّ وهو ترتّب التالي على المقدّم.
والدليل على ذلك
هو تبادر ترتّب التالي على المقدّم منها ، فإنّها تدلّ على أنّ المقدّم وضع فيها
موضع الفرض والتقدير ، وعلى تقدير حصوله فالتالي حاصل عنده تبعا ـ أي يتلوه في
الحصول ـ. أو فقل : إنّ المتبادر منها لابديّة الجزاء عند فرض حصول الشرط. وهذا لا
يمكن أن ينكره إلاّ مكابر أو غافل ، فإنّ هذا هو معنى التعليق الذي هو مفاد الجملة
الشرطيّة التي لا مفاد لها غيره. ومن هنا سمّوا الجزء الأوّل منها «شرطا ومقدّما»
، وسمّوا الجزء الثاني «جزاء وتاليا».
فإذا كانت جملة
إنشائيّة ـ أي إنّ التالي متضمّن لإنشاء حكم تكليفيّ أو وضعيّ ـ فإنّها تدلّ على
تعليق الحكم على الشرط ، فتدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط المعلّق عليه
الحكم.
وإذا كانت جملة
خبريّة ـ أي إنّ التالي متضمّن لحكاية خبر ـ فإنّها تدلّ على تعليق حكايته على المقدّم
، سواء كان المحكيّ عنه خارجا وفي الواقع مترتّبا على المقدّم ، فتتطابق الحكاية
مع المحكيّ عنه ، كقولنا : «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود» ، أو مترتّبا عليه
بأن كان العكس كقولنا : «إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة» ، أو كان لا ترتّب
بينهما ، كالمتضايفين في مثل قولنا : «إن كان خالد ابنا لزيد فزيد أبوه».
__________________
٣. وأمّا دلالتها
على أنّ الشرط منحصر ، فبالإطلاق ؛ لأنّه لو كان هناك شرط آخر للجزاء بديل لذلك
الشرط ، وكذا لو كان معه شيء آخر يكونان معا شرطا للحكم ، لاحتاج ذلك إلى بيان
زائد إمّا بالعطف بـ «أو» في الصورة الأولى ، أو العطف بالواو في الصورة الثانية ؛
لأنّ الترتّب على الشرط ظاهر في أنّه بعنوانه الخاصّ مستقلاّ هو الشرط المعلّق
عليه الجزاء ، فإذا أطلق تعليق الجزاء على الشرط فإنّه يستكشف منه أنّ الشرط
مستقلّ لا قيد آخر معه ، وأنّه منحصر لا بديل ، ولا عدل له ، وإلاّ لوجب على
الحكيم بيانه وهو ـ حسب الفرض ـ في مقام البيان. وهذا نظير ظهور صيغة «افعل»
بإطلاقها في الوجوب العينيّ والتعيينيّ .
وإلى هنا تمّ لنا
ما أردنا أن نذهب إليه من ظهور الجملة الشرطية في الأمور التي بها تكون ظاهرة في
المفهوم.
وعلى كلّ حال ،
إنّ ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم ممّا لا ينبغي أن يتطرّق إليه الشكّ ، إلاّ
مع قرينة صارفة ، أو تكون واردة لبيان الموضوع. ويشهد لذلك استدلال إمامنا الصادق عليهالسلام بالمفهوم في رواية أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الشاة تذبح فلا تتحرّك ويهراق منها دم كثير عبيط؟ فقال عليهالسلام : «لا تأكل إنّ عليّا عليهالسلام كان يقول : إذا ركضت الرّجل أو طرفت العين فكل» ، فإنّ استدلال الإمام بقول عليّ عليهالسلام لا يكون إلاّ إذا كان له مفهوم ، وهو إذا لم تركض الرّجل
أو لم تطرف العين فلا تأكل.
إذا تعدّد الشرط
واتّحد الجزاء
ومن لواحق مبحث «مفهوم
الشرط» مسألة ما إذا وردت جملتان شرطيّتان أو أكثر ، وقد تعدّد الشرط فيهما وكان
الجزاء واحدا. وهذا يقع على نحوين :
١. أن يكون الجزاء
غير قابل للتكرار ، نحو التقصير في السفر فيما ورد «إذا خفي الأذان
__________________
فقصّر» ، و «إذا
خفيت الجدران فقصّر».
٢. أن يكون الجزاء
قابلا للتكرار ، كما في نحو «إذا أجنبت فاغتسل» ، «إذا مسست ميّتا فاغتسل».
أمّا
النحو الأوّل : فيقع فيه
التعارض بين الدليلين ، بناء على مفهوم الشرط ، ولكن التعارض إنّما هو بين مفهوم
كلّ منهما مع منطوق الآخر ، كما هو واضح. فلا بدّ من التصرّف فيهما بأحد وجهين :
الوجه
الأوّل : أن نقيّد كلاّ
من الشرطيّتين من ناحية ظهورهما في الاستقلال بالسببيّة ، ذلك الظهور الناشئ من
الإطلاق ـ كما سبق ـ الذي يقابله التقييد بالعطف بالواو ، فيكون الشرط في الحقيقة
هو المركّب من الشرطين ، وكلّ منهما يكون جزء السبب ، والجملتان تكونان حينئذ
كجملة واحدة مقدّمها المركّب من الشرطين ، بأن يكون مؤدّاهما هكذا «إذا خفي الأذان
والجدران معا فقصّر».
وربّما يكون
لهاتين الجملتين معا حينئذ مفهوم واحد ، وهو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرطين معا
، أو أحدهما ، كما لو كانا جملة واحدة.
الوجه
الثاني : أن نقيّدهما من
ناحية ظهورهما في الانحصار ، ذلك الظهور الناشئ من الإطلاق المقابل للتقييد بـ «أو».
وحينئذ يكون الشرط أحدهما على البدليّة أو الجامع بينهما على أن يكون كلّ منهما
مصداقا له ، وذلك حينما يمكن فرض الجامع بينهما ولو كان عرفيّا.
وإذ يدور الأمر
بين الوجهين في التصرّف ، فأيّهما أولى؟ هل الأولى تقييد ظهور الشرطيّتين في
الاستقلال أو تقييد ظهورهما في الانحصار؟ قولان في المسألة.
والأوجه
ـ على الظاهر ـ هو
التصرّف الثاني ؛ لأنّ منشأ التعارض بينهما هو ظهورهما في الانحصار الذي يلزم منه
الظهور في المفهوم ، فيتعارض منطوق كلّ منهما مع مفهوم الأخرى ـ كما تقدّم ـ ، فلا
بدّ من رفع اليد عن ظهور كلّ منهما في الانحصار بالإضافة إلى المقدار الذي دلّ
عليه منطوق الشرطيّة الأخرى ؛ لأنّ ظهور المنطوق أقوى ؛ أمّا ظهور كلّ من
الشرطيّتين في الاستقلال فلا معارض له حتّى ترفع اليد عنه.
وإذا ترجّح القول
الثاني ـ وهو التصرّف في ظهور الشرطيّتين في الانحصار ـ يكون كلّ من الشرطين
مستقلاّ في التأثير ، فإذا انفرد أحدهما كان له التأثير في ثبوت الحكم. وإن حصلا
معا ، فإن كان حصولهما بالتعاقب كان التأثير للسابق ، وإن تقارنا كان الأثر لهما
معا ويكونان كالسبب الواحد ؛ لامتناع تكرار الجزاء حسب الفرض.
وأمّا
النحو الثاني : ـ وهو ما إذا
كان الجزاء قابلا للتكرار ـ : فهو على صورتين :
١. أن يثبت
بالدليل أنّ كلاّ من الشرطين جزء السبب. ولا كلام حينئذ في أنّ الجزاء واحد يحصل
عند حصول الشرطين معا.
٢. أن يثبت من
دليل مستقلّ ، أو من ظاهر دليل الشرط أنّ كلاّ من الشرطين سبب مستقلّ ، سواء كان
للقضيّة الشرطيّة مفهوم أم لم يكن ، فقد وقع الخلاف ـ فيما إذا اتّفق وقوع الشرطين
معا في وقت واحد أو متعاقبين ـ في أنّ القاعدة أيّ شيء تقتضي؟ هل تقتضي تداخل
الأسباب فيكون لها جزاء واحد كما في مثال تداخل موجبات الوضوء من خروج البول أو
الغائط والنوم ونحوهما ، أم تقتضي عدم التداخل فيتكرّر الجزاء بتكرّر الشروط ، كما
في مثال تعدّد وجوب الصلاة بتعدّد أسبابه من دخول وقت اليوميّة وحصول الآيات؟
أقول : لا شبهة في أنّه إذا ورد دليل خاصّ على التداخل أو عدمه وجب الأخذ بذلك الدليل.
وأمّا مع عدم ورود
الدليل الخاصّ فهو محلّ الخلاف. والحقّ أنّ القاعدة فيه عدم التداخل.
بيان ذلك أنّ لكلّ
شرطيّة ظهورين :
١. ظهور الشرط
فيها في الاستقلال بالسببيّة. وهذا الظهور يقتضي أن يتعدّد الجزاء في الشرطيّتين
موضوعتي البحث ، فلا تتداخل الأسباب.
٢. ظهور الجزاء
فيها في أنّ متعلّق الحكم فيه صرف الوجود. ولمّا كان صرف الشيء لا يمكن أن يكون
محكوما بحكمين ، فيقتضي ذلك أن يكون لجميع الأسباب جزاء واحد
__________________
وحكم واحد عند فرض
اجتماعها ، فتتداخل الأسباب.
وعلى هذا ، فيقع
التنافي بين هذين الظهورين ، فإذا قدّمنا الظهور الأوّل لا بدّ أن نقول بعدم
التداخل ، وإذا قدّمنا الظهور الثاني لا بدّ أن نقول بالتداخل ، فأيّهما أولى
بالتقديم؟ والأرجح أنّ الأولى بالتقديم ظهور الشرط على ظهور الجزاء ؛ لأنّ الجزاء
لمّا كان معلّقا على الشرط فهو تابع له ثبوتا وإثباتا ، فإن كان واحدا كان الجزاء
واحدا وإن كان متعدّدا كان متعدّدا. وإذا كان المقدّم متعدّدا ـ حسب فرض ظهور
الشرطيّتين ـ كان الجزاء تابعا له ؛ وعليه ، لا يستقيم للجزاء ظهور في وحدة
المطلوب ؛ فيخرج المقام عن باب التعارض بين الظهورين ، بل يكون الظهور في التعدّد
رافعا للظهور في الوحدة ؛ لأنّ الظهور في الوحدة لا يكون إلاّ بعد فرض سقوط الظهور
في التعدّد ، أو بعد فرض عدمه ، أمّا مع وجوده فلا ينعقد الظهور في الوحدة.
فالقاعدة في
المقام ـ إذن ـ هي «عدم التداخل». وهو مذهب أساطين العلماء الأعلام (قدّس الله
أسرارهم) .
تنبيهان
١. تداخل
المسبّبات
إنّ البحث في
المسألة السابقة إنّما هو عمّا إذا تعدّدت الأسباب فيتساءل فيها عمّا إذا كان
تعدّدها يقتضي المغايرة في الجزاء وتعدّد المسبّبات ـ بالفتح ـ أو لا يقتضي
فتتداخل الأسباب ، وينبغي أن تسمّى بـ «مسألة تداخل الأسباب».
وبعد الفراغ عن
عدم تداخل الأسباب هناك ينبغي أن يبحث أنّ تعدّد المسبّبات إذا
__________________
كانت تشترك في
الاسم والحقيقة ـ كالأغسال ـ هل يصحّ أن يكتفى عنها بوجود واحد لها أو لا يكتفى؟
وهذه مسألة أخرى ،
غير ما تقدّم ، تسمّى بـ «مسألة تداخل المسبّبات» ، وهي من ملحقات الأولى.
والقاعدة فيها
أيضا عدم التداخل.
والسرّ في ذلك أنّ
سقوط الواجبات المتعدّدة بفعل واحد ـ وإن أتي به بنيّة امتثال الجميع ـ يحتاج إلى
دليل خاصّ ، كما ورد في الأغسال بالاكتفاء بغسل الجنابة عن باقي الأغسال ، وورد أيضا جواز الاكتفاء بغسل واحد عن أغسال متعدّدة . ومع عدم ورود الدليل الخاصّ فإنّ كلّ وجوب يقتضي امتثالا خاصّا به ، لا يغني
عنه امتثال الآخر وإن اشتركت الواجبات في الاسم والحقيقة.
نعم ، قد يستثنى
من ذلك ما إذا كان بين الواجبين نسبة العموم والخصوص من وجه ، وكان دليل كلّ منهما
مطلقا بالإضافة إلى مورد الاجتماع ، كما إذا قال ـ مثلا ـ : «تصدّق على مسكين» ،
وقال ـ ثانيا ـ : «تصدّق على ابن سبيل» ، فجمع العنوانين شخص واحد بأن كان مسكينا
وابن سبيل ، فإنّ التصدّق عليه يكون مسقطا للتكليفين.
٢. الأصل العمليّ
في المسألتين
إنّ مقتضى الأصل
العملي عند الشكّ في تداخل الأسباب هو التداخل ؛ لأنّ تأثير السببين في تكليف واحد
متيقّن ، وإنّما الشكّ في تكليف ثان زائد. والأصل في مثله البراءة.
وبعكسه في مسألة
تداخل المسبّبات ؛ فإنّ الأصل يقتضي فيه عدم التداخل كما مرّت الإشارة إليه ؛
لأنّه بعد ثبوت التكاليف المتعدّدة بتعدّد الأسباب يشكّ في سقوط التكاليف الثابتة
لو فعل فعلا واحدا. ومقتضى القاعدة ـ في مثله ـ الاشتغال ، بمعنى أنّ الاشتغال
اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ ، فلا يكتفى بفعل واحد في مقام الامتثال.
__________________
تمرينات (١٥)
التمرين الأوّل
١. ما هو محلّ
النزاع في مفهوم الشرط؟
٢. ما المراد من
قوله : «نوع الحكم»؟
٣. ما المناط في
مفهوم الشرط؟
٤. بيّن وجه ظهور
الجملة الشرطيّة فيما هو المناط في مفهوم الشرط؟
٥. ما العلاج في
المعارضة بين الدليلين إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ولم يكن الجزاء قابلا
للتكرار؟
٦. ما القاعدة
فيما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء وكان الجزاء قابلا للتكرار؟
٧. هل القاعدة في
المسبّبات المشتركة هي التداخل أو عدم التداخل؟
٨. ما هو مقتضى
الأصل العملي عند الشكّ في تداخل الأسباب والمسبّبات؟
التمرين الثاني
١. بيّن كيفيّة
المعارضة بين قولهم «إذا خفي الأذان فقصّر» و «إذا خفي الجدران فقصّر». واذكر ما
ذكر في علاجها.
٢. ما هو رأي
العلاّمة الخوانساريّ والمحقّق الحلّي فيما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء وكان
الجزاء قابلا للتكرار؟
الثاني :
مفهوم الوصف
موضوع البحث
المقصود بالوصف
هنا ما يعمّ النعت وغيره ، فيشمل الحال والتمييز ونحوهما ممّا يصلح أن يكون قيدا
لموضوع التكليف ؛ كما أنّه يختصّ بما إذا كان معتمدا على موصوف ، فلا يشمل ما إذا كان الوصف نفسه موضوعا للحكم ، نحو : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) فإنّ مثل هذا يدخل في باب مفهوم اللقب . والسرّ في ذلك أنّ الدلالة على انتفاء [الحكم عند انتفاء] الوصف لا بدّ فيها
من فرض موضوع ثابت للحكم يقيّد بالوصف مرّة ، ويتجرّد عنه أخرى ، حتّى يمكن فرض نفي
الحكم عنه.
ويعتبر ـ أيضا ـ في
المبحوث عنه هنا أن يكون أخصّ من الموصوف مطلقا أو من وجه ؛ لأنّه لو كان مساويا ،
أو أعمّ مطلقا لا يوجب تضييقا وتقييدا في الموصوف ، حتّى يصحّ فرض انتفاء الحكم عن
الموصوف عند انتفاء الوصف.
وأمّا دخول الأخصّ
من وجه في محلّ البحث فإنّما هو بالقياس إلى مورد افتراق الموصوف عن الوصف ، ففي
مثال : «في الغنم السائمة زكاة» يكون مفهومه ـ لو كان له مفهوم ـ عدم وجوب الزكاة في الغنم
غير السائمة وهي المعلوفة. وأمّا بالقياس إلى مورد افتراق الوصف عن الموصوف فلا
دلالة له على المفهوم قطعا ، فلا يدلّ المثال على عدم الزكاة في غير الغنم السائمة
أو غير السائمة كالإبل ـ مثلا ـ ؛ لأنّ الموضوع ـ وهو الموصوف الذي هو الغنم في
المثال ـ يجب أن يكون محفوظا في المفهوم ، ولا يكون متعرّضا لموضوع آخر ، ولا نفيا
ولا إثباتا.
__________________
فما عن بعض
الشافعيّة من القول بدلالة القضيّة المذكورة على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة لا وجه له قطعا.
الأقوال في
المسألة والحقّ فيها
لا شكّ في دلالة
التقييد بالوصف على المفهوم عند وجود القرينة الخاصّة ، ولا شكّ في عدم الدلالة
عند وجود القرينة على ذلك ، مثل ما إذا ورد الوصف مورد الغالب الذي يفهم منه عدم
إناطة الحكم به وجودا وعدما ، نحو قوله (تعالى) : (وَرَبائِبُكُمُ
اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ) ؛ فإنّه لا مفهوم لمثل هذه القضيّة مطلقا ؛ إذ يفهم منه
أنّ وصف الربائب بأنّها في حجوركم لأنّها غالبا تكون كذلك ، والغرض منه الإشعار
بعلّة الحكم ؛ إذ أنّ اللاّئي تربّى في الحجور تكون كالبنات.
وإنّما الخلاف عند
تجرّد القضيّة عن القرائن الخاصّة ، فإنّهم اختلفوا في أنّ مجرّد التقييد بالوصف
هل يدلّ على المفهوم ـ أي انتفاء حكم الموصوف عند انتفاء الوصف ـ أو لا يدلّ؟ نظير
الاختلاف المتقدّم في التقييد بالشرط. وفي المسألة قولان : والمشهور القول الثاني
، وهو عدم المفهوم .
والسرّ في الخلاف
يرجع إلى أنّ التقييد المستفاد من الوصف هل هو تقييد لنفس الحكم ـ أي إنّ الحكم
منوط به ـ أو أنّه تقييد لنفس موضوع الحكم أو متعلّق الموضوع باختلاف الموارد ،
فيكون الموضوع أو متعلّق الموضوع هو المجموع المؤلّف من الموصوف والوصف؟
فإن كان الأوّل
فإنّ التقييد بالوصف يكون ظاهرا في انتفاء الحكم عند انتفائه بمقتضى
__________________
الإطلاق ؛ لأنّ
الإطلاق يقتضي ـ بعد فرض إناطة الحكم بالوصف ـ انحصاره فيه كما قلنا في التقييد
بالشرط.
وإن كان الثاني
فإنّ التقييد لا يكون ظاهرا في انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ؛ لأنّه حينئذ يكون
من قبيل مفهوم اللقب ؛ إذ إنّه يكون التعبير بالوصف والموصوف لتحديد موضوع الحكم
فقط ، لا أنّ الموضوع ذات الموصوف ، والوصف قيد للحكم عليه ، مثل ما إذا قال
القائل : «اصنع شكلا رباعيّا قائم الزوايا ، متساوي الأضلاع» ، فإنّ المفهوم منه
أنّ المطلوب صنعه هو المربّع ، فعبّر عنه بهذه القيود الدالّة عليه ، حيث يكون
الموضوع هو مجموع المعنى المدلول عليه بالعبارة المؤلّفة من الموصوف والوصف ، وهي
في المثال «شكل رباعيّ قائم الزوايا ، متساوي الأضلاع» ، وهي بمنزلة كلمة مربّع ،
فكما أنّ جملة «اصنع مربّعا» لا تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء ، كذلك ما هو
بمنزلتها لا يدلّ عليه ؛ لأنّه في الحقيقة يكون من قبيل الوصف غير المعتمد على
الموصوف.
إذا عرفت ذلك ،
فنقول : إنّ الظاهر في الوصف ـ لو خلّي وطبعه من دون قرينة ـ أنّه من قبيل الثاني
ـ أي إنّه قيد للموضوع لا للحكم ـ ، فيكون الحكم من جهته مطلقا غير مقيّد ، فلا
مفهوم للوصف.
ومن هذا التقرير
يظهر بطلان ما استدلّوا به لمفهوم الوصف من الأدلّة الآتية :
١. إنّه لو لم
يدلّ الوصف على الانتفاء عند الانتفاء لم تبق فائدة فيه.
والجواب : أنّ الفائدة غير منحصرة برجوعه إلى الحكم. وكفى فائدة
فيه تحديد موضوع الحكم وتقييده به.
٢. إنّ الأصل في
القيود أن تكون احترازيّة.
والجواب : أنّ هذا مسلّم ، ولكن معنى الاحتراز هو تضييق دائرة
الموضوع ، وإخراج ما عدا القيد عن شمول شخص الحكم له. ونحن نقول به ، وليس هذا من
المفهوم في شيء ؛ لأنّ إثبات الحكم لموضوع لا ينفي ثبوت سنخ الحكم لما عداه ، كما
في مفهوم اللقب. والحاصل أنّ كون القيد احترازيّا لا يلزم إرجاعه قيدا للحكم.
٣. إنّ الوصف مشعر
بالعلّية ، فيلزم إناطة الحكم به.
والجواب : أنّ هذا الإشعار وإن كان مسلّما ، إلاّ أنّه ما لم يصل
إلى حدّ الظهور لا ينفع في الدلالة على المفهوم.
٤. الاستدلال
بالجمل التي ثبتت دلالتها على المفهوم ، مثل قوله صلىاللهعليهوآله : «مطل الغنيّ ظلم» .
والجواب : أنّ ذلك على تقديره لا ينفع ؛ لأنّا لا نمنع من دلالة
التقييد بالوصف على المفهوم أحيانا لوجود قرينة ، وإنّما موضوع البحث في اقتضاء
طبع الوصف ـ لو خلّي ونفسه ـ للمفهوم. وفي خصوص المثال نجد القرينة على إناطة
الحكم بالغنى من جهة مناسبة الحكم والموضوع ، فيفهم أنّ السبب في الحكم كون المدين
غنيّا ، فيكون مطله ظلما ، بخلاف المدين الفقير ؛ لعجزه عن أداء الدين ، فلا يكون
مطله ظلما .
تمرينات (١٦)
التمرين الأوّل
١. ما المراد من «الوصف»
في مفهوم الوصف؟
٢. هل في وصف
الربائب باللاتي في الحجور في قوله تعالى : «وربائبكم اللاّتى في حجوركم» مفهوم؟
٣. بيّن وجه عدم
ثبوت المفهوم للوصف عند المصنّف؟
٤. ما دليل المثبتين؟
وما الجواب عنه؟
التمرين الثاني
١. هل موضوع البحث
يختصّ بما إذا اعتمد الوصف على الموصوف أو يعمّ؟ (بيّن آراء العلماء).
__________________
الثالث :
مفهوم الغاية
إذا ورد التقييد
بالغاية نحو (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، ونحو : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» ، فقد وقع خلاف الاصوليّين فيه من جهتين :
الجهة
الأولى : في دخول الغاية
في المنطوق ـ أي في حكم المغيّى ـ. فقد اختلفوا في أنّ الغاية ـ وهي الواقعة بعد
أداة الغاية نحو «إلى» و «حتّى» ـ هل هي داخلة في المغيّى حكما ، أو خارجة عنه
وإنّما ينتهي إليها المغيّى موضوعا وحكما؟ على أقوال :
منها : التفصيل بين كونها من جنس المغيّى فتدخل فيه ، نحو : «صمت
النهار إلى الليل» ، وبين كونها من غير جنسه فلا تدخل ، كمثال «كلّ شيء لك حلال ...»
.
ومنها : التفصيل بين كون الغاية واقعة بعد «إلى» فلا تدخل فيه ،
وبين كونها واقعة بعد «حتّى» فتدخل ، نحو : «كل السمكة حتّى رأسها» .
والظاهر أنّه لا
ظهور لنفس التقييد بالغاية في دخولها في المغيّى ، ولا في عدمه ، بل يتّبع ذلك ،
الموارد والقرائن الخاصّة الحافّة بالكلام.
نعم ، لا ينبغي الخلاف
في عدم دخول الغاية فيما إذا كانت غاية للحكم ، كمثال «كلّ شيء لك حلال ...» ؛
فإنّه لا معنى لدخول معرفة الحرام في حكم الحلال .
__________________
ثمّ إنّ المقصود
من كلمة «حتّى» التي يقع الكلام عنها هي «حتّى» الجارّة ، دون العاطفة ، وإن كانت
تدخل على الغاية أيضا ؛ لأنّ العاطفة يجب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها ؛ لأنّ
هذا هو معنى العطف ، فإذا قلت : «مات الناس حتّى الأنبياء» فإنّ معناه أنّ
الأنبياء ماتوا أيضا. بل «حتّى» العاطفة تفيد أنّ الغاية هو الفرد الفائق على سائر
أفراد المغيّى في القوّة أو الضعف ، فكيف يتصوّر أن لا يكون المعطوف بها داخلا في
الحكم ، بل قد يكون هو الأسبق في الحكم ، نحو : «مات كلّ أب حتّى آدم».
الجهة
الثانية : في مفهوم
الغاية. وهي موضوع البحث هنا ، فإنّه قد اختلفوا في أنّ التقييد بالغاية ـ مع قطع
النظر عن القرائن الخاصّة ـ هل يدلّ على انتفاء سنخ الحكم عمّا وراء الغاية ومن
الغاية نفسها أيضا إذا لم تكن داخلة في المغيّى ، أو لا؟
فنقول : إنّ
المدرك في دلالة الغاية على المفهوم كالمدرك في الشرط والوصف ، فإذا كانت قيدا
للحكم كانت ظاهرة في انتفاء الحكم فيما وراءها ، وأمّا إذا كانت قيدا للموضوع أو
المحمول فقط ، فلا دلالة لها على المفهوم .
وعليه ، فما علم
في التقييد بالغاية أنّه راجع إلى الحكم فلا إشكال في ظهوره في المفهوم ؛ مثل قوله
عليهالسلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه نجس» وكذلك مثال
__________________
«كلّ شيء حلال ...».
وإن لم يعلم ذلك
من القرائن ، فلا يبعد القول بظهور الغاية في رجوعها إلى الحكم ، وأنّها غاية
للنسبة الواقعة قبلها ، وكونها غاية لنفس الموضوع أو نفس المحمول هو الذي يحتاج
إلى البيان والقرينة.
فالقول بمفهوم
الغاية هو المرجّح عندنا.
تمرينات (١٧)
١. ما هو مفهوم
الغاية؟
٢. ما هي الأقوال
في دخول الغاية في حكم المغيّى وخروجه؟
٣. هل تدلّ الغاية
على المفهوم أم لا؟ ما الدليل عليه؟
الرابع :
مفهوم الحصر
معنى الحصر
الحصر له معنيان :
١. القصر
بالاصطلاح المعروف عند علماء البلاغة ، سواء كان من
نوع قصر الصفة على الموصوف ، نحو : «لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ» ، أم من نوع قصر الموصوف على الصفة ، نحو : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ
رَسُولٌ)
، (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرٌ) .
٢. ما يعمّ القصر
والاستثناء الذي لا يسمّى قصرا بالاصطلاح ، نحو : (فَشَرِبُوا مِنْهُ
إِلاَّ قَلِيلاً) . والمقصود به هنا هو هذا المعنى الثاني.
اختلاف مفهوم
الحصر باختلاف أدواته
إنّ مفهوم الحصر
يختلف حاله باختلاف أدوات الحصر كما سترى ، فلذلك كان علينا أن نبحث عنها واحدة
واحدة ، فنقول :
١. «إلاّ» وهي
تأتي لثلاثة وجوه :
أ. صفة بمعنى غير.
ب. استثنائيّة.
ج. أداة حصر بعد
النفي.
أمّا «إلاّ»
الوصفيّة : فهي تقع وصفا لما قبلها ، كسائر الأوصاف الأخرى. فهي تدخل من هذه الجهة
في مفهوم الوصف ، فإن قلنا هناك : إنّ للوصف مفهوما فهي كذلك ، وإلاّ فلا.
__________________
وقد رجّحنا فيما
سبق أنّ الوصف لا مفهوم له ، فإذا قال المقرّ مثلا : «في ذمّتي عشرة دراهم إلاّ
درهم» بجعل «إلاّ درهم» وصفا ، فإنّه يثبت في ذمّته تمام العشرة الموصوفة بأنّها
ليست بدرهم. ولا يصحّ أن تكون استثنائية ؛ لعدم نصب درهم. ولا مفهوم لها حينئذ ،
فلا تدلّ على عدم ثبوت شيء آخر في ذمّته لزيد.
وأمّا «إلاّ»
الاستثنائيّة : فلا ينبغي الشكّ في دلالتها على المفهوم ، وهو انتفاء حكم المستثنى
منه عن المستثنى ؛ لأنّ «إلاّ» موضوعة للإخراج وهو الاستثناء ، ولازم هذا الإخراج
باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ أن يكون المستثنى محكوما بنقيض حكم المستثنى منه.
ولمّا كان هذا اللزوم بيّنا ، ظنّ بعضهم أنّ هذا المفهوم
من باب المنطوق.
وأمّا أداة الحصر
بعد النفي نحو : «لا صلاة إلاّ بطهور» : فهي في الحقيقة من نوع الاستثنائيّة.
فرع : لو شككنا في مورد أنّ كلمة «إلاّ» استثنائيّة أو وصفيّة
، مثل ما لو قال المقرّ : «ليس في ذمّتي لزيد عشرة دراهم إلاّ درهم» ؛ إذ يجوز في
المثال أن تكون «إلاّ» وصفيّة ، ويجوز أن تكون استثنائيّة ، فإنّ الأصل في كلمة «إلاّ»
أن تكون للاستثناء ؛ فيثبت في ذمّته في المثال درهم واحد. أمّا لو كانت وصفيّة
فإنّه لا يثبت في ذمّته شيء ، لأنّه يكون قد نفى العشرة الدراهم كلّها الموصوفة
تلك الدراهم بأنّها ليست بدرهم.
٢. «إنّما» وهي
أداة حصر مثل كلمة «إلاّ» ، فإذا استعملت في حصر الحكم في موضوع معيّن دلّت
بالملازمة البيّنة على انتفائه عن غير ذلك الموضوع ، وهذا واضح.
٣. «بل» وهي
للإضراب ، وتستعمل في وجوه ثلاثة :
الأوّل : للدلالة
على أنّ المضرب عنه وقع عن غفلة أو على نحو الغلط ، ولا دلالة لها حينئذ على الحصر
، وهو واضح.
والثاني : للدلالة
على تأكيد المضرب عنه وتقريره ، نحو : «زيد عالم بل شاعر» ، ولا دلالة لها أيضا
حينئذ على الحصر.
__________________
الثالث : للدلالة
على الردع وإبطال ما ثبت أوّلا ، نحو : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ
جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) . فتدلّ على الحصر ، فيكون لها مفهوم ، وهذه الآية الكريمة
تدلّ على انتفاء مجيئه بغير الحقّ.
٤. وهناك هيئات
غير الأدوات تدلّ على الحصر ، مثل تقدّم المفعول ، نحو : (إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . ومثل تعريف المسند إليه بلام الجنس مع تقديمه ، نحو : «العالم
محمّد» ، و «إنّ القول ما قالت حذام». ونحو ذلك ممّا هو مفصّل في علم البلاغة .
فإنّ هذه الهيئات
ظاهرة في الحصر ، فإذا استفيد منها الحصر فلا ينبغي الشكّ في ظهورها في المفهوم ؛
لأنّه لازم للحصر لزوما بيّنا. وتفصيل الكلام فيها لا يسعه هذا المختصر.
وعلى كلّ حال ،
فإنّ كلّ ما يدلّ على الحصر فهو دالّ على المفهوم بالملازمة البيّنة.
تمرينات (١٨)
١. ما معنى الحصر؟
وما المراد منه في مفهوم الحصر؟
٢. ما هي أقسام «إلاّ»؟
وأيّها يدلّ على المفهوم؟
٣. ما مقتضى الأصل
فيما إذا شككنا في مورد أنّ كلمة «إلاّ» استثنائيّة أو وصفيّة؟
٤. هل كلمة «إنّما»
تدلّ على الحصر؟
٥. ما هي أقسام «بل»؟
وأيّها يدلّ على المفهوم؟
__________________
الخامس :
مفهوم العدد
لا شكّ في أنّ
تحديد الموضوع بعدد خاصّ لا يدلّ على انتفاء الحكم فيما عداه ، فإذا قيل : «صم
ثلاثة أيّام من كلّ شهر» ؛ فإنّه لا يدلّ على عدم استحباب صوم غير الثلاثة الأيّام
، فلا يعارض الدليل على استحباب صوم أيّام أخر.
نعم ، لو كان
الحكم للوجوب ـ مثلا ـ وكان التحديد بالعدد من جهة الزيادة لبيان الحدّ الأعلى ،
فلا شبهة في دلالته على عدم وجوب الزيادة ، كدليل صوم ثلاثين يوما من شهر رمضان ،
ولكن هذه الدلالة من جهة خصوصيّة المورد ، لا من جهة أصل التحديد بالعدد ، حتّى
يكون لنفس العدد مفهوم.
فالحقّ أنّ
التحديد بالعدد لا مفهوم له.
السادس :
مفهوم اللقب
المقصود باللقب
كلّ اسم ـ سواء كان مشتقّا أم جامدا ـ وقع موضوعا للحكم ، كالفقير في قولهم : «أطعم
الفقير» ، وكالسّارق والسّارقة في قوله (تعالى) : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) .
ومعنى مفهوم اللقب
نفي الحكم عمّا لا يتناوله عموم الاسم.
وبعد أن استشكلنا
في دلالة الوصف على المفهوم ، فعدم دلالة اللقب أولى ، فإنّ نفس موضوع الحكم
بعنوانه لا يشعر بتعليق الحكم عليه ، فضلا عن أن يكون له ظهور في الانحصار.
نعم ، غاية ما
يفهم من اللقب عدم تناول شخص الحكم لغير ما يشمله عموم الاسم ، وهذا لا كلام فيه ،
أمّا عدم ثبوت نوع الحكم لموضوع آخر فلا دلالة له عليه أصلا.
وقد قيل : «إنّ
مفهوم اللقب أضعف المفهومات» .
__________________
تمرينات (١٩)
١. ما هو مفهوم
العدد؟
٢. هل للعدد مفهوم؟
٣. ما المراد من «اللقب»
في مفهوم اللقب؟
٤. ما معنى مفهوم
اللقب؟
٥. هل اللقب يدلّ
على المفهوم؟
خاتمة :
في دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة
تمهيد
يجري كثيرا على
لسان الفقهاء والأصوليّين ذكر دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة ، ولم تشرح هذه
الدلالات في أكثر الكتب الأصوليّة المتعارفة. ولذلك رأينا أن نبحث عنها بشيء من
التفصيل لفائدة المبتدئين. والبحث عنها يقع من جهتين : الأولى : في مواقع هذه
الدلالات الثلاث وأنّها من أيّ أقسام الدلالات. والثانية : في حجّيتها.
الجهة الأولى :
مواقع الدلالات الثلاث :
قد تقدّم أنّ
المفهوم هو مدلول الجملة التركيبيّة اللازمة للمنطوق لزوما بيّنا بالمعنى الأخصّ.
ويقابله المنطوق الذي هو مدلول ذات اللفظ بالدلالة المطابقيّة.
ولكن يبقى هناك من
المدلولات ما لا يدخل في المفهوم ولا في المنطوق اصطلاحا ، كما إذا دلّ الكلام
بالدلالة الالتزاميّة على لفظ مفرد أو معنى مفرد ليس مذكورا في المنطوق صريحا ،
أو إذا دلّ الكلام على مفاد جملة لازمة للمنطوق ، إلاّ أنّ اللزوم ليس على نحو
اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ؛ فإنّ هذه كلّها لا تسمّى مفهوما ولا منطوقا ، إذن
ما ذا تسمّى هذه الدلالة في هذه المقامات؟
نقول : الأنسب أن نسمّي مثل هذه الدلالة ـ على وجه العموم ـ «الدلالة
السياقيّة» ، كما ربّما يجري هذا التعبير في لسان جملة من الأساطين لتكون في مقابل
الدلالة المفهوميّة والمنطوقيّة.
والمقصود بها ـ على
هذا ـ أنّ سياق الكلام يدلّ على المعنى المفرد أو المركّب أو اللفظ المقدّر.
وقسّموها إلى الدلالات الثلاث المذكورة : الاقتضاء ، والتنبيه ، والإشارة ، فلنبحث
__________________
عنها واحدة واحدة.
١. دلالة الاقتضاء
وهي أن تكون
الدلالة مقصودة للمتكلّم بحسب العرف ، ويتوقّف صدق الكلام أو صحّته عقلا ، أو شرعا
، أو لغة ، أو عادة عليها.
مثالها قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ، فإنّ صدق
الكلام يتوقّف على تقدير الأحكام والآثار الشرعيّة لتكون هي المنفيّة حقيقة ؛
لوجود الضرر والضرار قطعا عند المسلمين ، فيكون النفي للضرر باعتبار نفي آثاره
الشرعيّة وأحكامه. ومثله «رفع عن أمّتي ما لا يعلمون وما اضطرّوا إليه ...» .
مثال آخر ، قوله عليهالسلام : «لا صلاة لمن جاره المسجد إلاّ في المسجد» ؛ فإنّ صدق الكلام وصحّته تتوقّف على تقدير كلمة «كاملة» محذوفة ليكون
المنفيّ كمال الصلاة ، لا أصل الصلاة.
مثال ثالث قوله (تعالى)
: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، فإنّ صحّته عقلا تتوقّف على تقدير لفظ «أهل» ، فيكون من باب حذف المضاف ،
أو على تقدير معنى «أهل» ، فيكون من باب المجاز في الإسناد.
مثال رابع قولهم :
«أعتق عبدك عنّي على ألف» ، فإنّ صحّة هذا الكلام شرعا تتوقّف على طلب تمليكه
أوّلا له بألف ؛ لأنّه لا عتق إلاّ في ملك ، فيكون التقدير «ملّكني العبد
__________________
بألف ثمّ أعتقه
عنّي».
مثال خامس قول
الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما
|
|
عندك راض والرأي مختلف
|
؛ فإنّ صحّته لغة
تتوقّف على تقدير «راضون» خبرا للمبتدا «نحن» ؛ لأنّ «راض» مفرد لا يصحّ أن يكون
خبرا لنحن.
[مثال سادس ،
قولهم : «رأيت أسدا في الحمّام» ، فإنّ صحّته عادة تتوقّف على إرادة الرجل الشجاع
من لفظ «أسد»] .
وجميع الدلالات
الالتزاميّة على المعاني المفردة ، وجميع المجازات في الكلمة أو في الإسناد ترجع
إلى «دلالة الاقتضاء».
فإن قال قائل :
إنّ دلالة اللفظ على معناه المجازيّ من الدلالة المطابقيّة ، فكيف جعلتم المجاز من
نوع دلالة الاقتضاء؟!
نقول له : هذا
صحيح ، ومقصودنا من كون الدلالة على المعنى المجازيّ من نوع دلالة الاقتضاء هو
دلالة نفس القرينة المحفوف بها الكلام على إرادة المعنى المجازيّ من اللفظ ، لا
دلالة نفس اللفظ عليه بتوسّط القرينة.
والخلاصة أنّ المناط في دلالة الاقتضاء شيئان : الأوّل : أن تكون
الدلالة مقصودة. والثاني : أن يكون الكلام لا يصدق أو لا يصحّ بدونها. ولا يفرق
فيها بين أن يكون لفظا مضمرا أو معنى مرادا ، حقيقيّا أو مجازيّا.
٢. دلالة التنبيه
وتسمّى «دلالة
الإيماء» أيضا ، وهي كالأولى في اشتراط القصد عرفا ، ولكن من غير أن يتوقّف صدق
الكلام أو صحّته عليها ، وإنّما سياق الكلام ما يقطع معه بإرادة ذلك اللازم أو
يستبعد عدم إرادته. وبهذا تفترق عن دلالة الاقتضاء ؛ لأنّها ـ كما تقدّم ـ يتوقّف
صدق الكلام أو صحّته عليها.
__________________
ولدلالة التنبيه
موارد كثيرة نذكر أهمّها :
١. ما إذا أراد
المتكلّم بيان أمر فنبّه عليه بذكر ما يلازمه عقلا أو عرفا ، كما إذا قال القائل :
«دقّت الساعة العاشرة» مثلا ، حيث تكون الساعة العاشرة موعدا له مع المخاطب
لينبّهه على حلول الموعد المتّفق عليه. أو قال : «طلعت الشمس» مخاطبا من قد استيقظ
من نومه حينئذ ، لبيان فوات وقت أداء صلاة الغداة. أو قال : «إنّي عطشان» للدلالة
على طلب الماء.
ومن هذا الباب ذكر
الخبر لبيان لازم الفائدة ، مثل ما لو أخبر المخاطب بقوله : «إنّك صائم» لبيان
أنّه عالم بصومه.
ومن هذا الباب
أيضا الكنايات إذا كان المراد الحقيقيّ مقصودا بالإفادة من اللفظ ، ثمّ كنّى به عن
شيء آخر.
٢. ما إذا اقترن
الكلام بشيء يفيد كونه علّة للحكم ، أو شرطا ، أو مانعا ، أو جزءا ، أو عدم هذه
الأمور ، فيكون ذكر الحكم تنبيها على كون ذلك الشيء علّة ، أو شرطا ، أو مانعا ،
أو جزءا ، أو عدم كونه كذلك.
مثاله قول المفتي
: «أعد الصّلاة» لمن سأله عن الشكّ في أعداد الثنائيّة ؛ فإنّه يستفاد منه أنّ
الشكّ المذكور علّة لبطلان الصّلاة ؛ وللحكم بوجوب الإعادة.
مثال آخر قوله : «كفّر»
لمن قال له : «واقعت أهلي في نهار شهر رمضان» ؛ فإنّه يفيد أنّ الوقاع في الصوم
الواجب موجب للكفّارة.
ومثال ثالث قوله :
«بطل البيع» لمن قال له : «بعت السمك في النهر» ، فيفهم منه اشتراط القدرة على
التسليم في البيع.
ومثال رابع قوله :
«لا تعيد» لمن سأل عن الصلاة في الحمّام ، فيفهم منه عدم مانعيّة الكون في الحمّام
للصلاة ... وهكذا.
٣. ما إذا اقترن
الكلام بشيء يفيد تعيين بعض متعلّقات الفعل ، كما إذا قال القائل : «وصلت إلى
النهر وشربت» ، فيفهم من هذه المقارنة أنّ المشروب هو الماء ، وأنّه من النهر. ومثل
ما إذا قال : «قمت وخطبت» أي خطبت قائما ... وهكذا.
٣. دلالة الإشارة
ويشترط فيها ـ على
عكس الدلالتين السابقتين ـ ألاّ تكون الدلالة مقصودة بالقصد الاستعمالي بحسب العرف
، ولكن مدلولها لازم لمدلول الكلام لزوما غير بيّن ، أو لزوما بيّنا بالمعنى
الأعمّ ، سواء استنبط المدلول من كلام واحد أم من كلامين.
مثال ذلك دلالة
الآيتين على أقلّ الحمل ، وهما آية (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ
ثَلاثُونَ شَهْراً) وآية (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) ؛ فإنّه بطرح الحولين من ثلاثين شهرا يكون الباقي ستّة أشهر ، فيعرف أنّه
أقلّ الحمل.
ومن هذا الباب
دلالة وجوب الشيء على وجوب مقدّمته ؛ لأنّه لازم لوجوب ذي المقدّمة باللزوم البيّن
بالمعنى الأعمّ. ولذلك جعلوا وجوب المقدّمة وجوبا تبعيّا لا أصليّا ؛ لأنّه ليس
مدلولا للكلام بالقصد ، وإنّما يفهم بالتبع ، أي بدلالة الإشارة.
الجهة الثانية :
حجّيّة هذه الدلالات
أمّا دلالة
الاقتضاء والتنبيه : فلا شكّ في حجيّتهما إذا كانت هناك دلالة وظهور ؛ لأنّه من
باب حجيّة الظواهر ، ولا كلام في ذلك.
وأمّا دلالة «الإشارة»
: فحجيّتها من باب حجّية الظواهر محلّ نظر وشكّ ؛ لأنّ تسميتها بالدلالة من باب
المسامحة ؛ إذا المفروض أنّها غير مقصودة والدلالة تابعة للإرادة ، وحقّها أن
تسمّى «إشارة» و «إشعارا» فقط بغير لفظ الدلالة ، فليست هي من الظواهر في شيء حتى
تكون حجّة من هذه الجهة.
نعم ، هي حجّة من
باب الملازمة العقليّة حيث تكون ملازمة ، فيستكشف منها لازمها ، سواء كان حكما أم
غير حكم ، كالأخذ بلوازم إقرار المقرّ وإن لم يكن
__________________
قاصدا لها ، أو
كان منكرا للملازمة. وسيأتي في محلّه في باب الملازمات العقليّة إنّ شاء الله
تعالى .
تمرينات (٢٠)
١. عرّف الدلالة
السياقيّة.
٢. ما معنى دلالة
الاقتضاء؟ ايت بأمثلة لها من الكتاب.
٣. ما معنى دلالة
التنبيه؟ اذكر بعض مواردها.
٤. ما معنى دلالة
الإشارة؟ ايت بمثال من القرآن ومثال من غيره.
٥. هل الدلالات
الثلاث حجّة أم لا؟
__________________
الباب الخامس
العامّ
والخاصّ
تمهيد
العامّ والخاصّ :
هما من المفاهيم الواضحة البديهيّة التي لا تحتاج إلى التعريف إلاّ لشرح اللفظ
وتقريب المعنى إلى الذهن ، فلذلك لا محلّ لتعريفهما بالتعاريف الحقيقيّة.
والقصد من «العامّ»
: اللفظ الشامل بمفهومه لجميع ما يصلح انطباق عنوانه عليه في ثبوت الحكم له. وقد
يقال للحكم : «إنّه عامّ» أيضا باعتبار شموله لجميع أفراد الموضوع أو المتعلّق أو
المكلّف.
والقصد من «الخاصّ»
الحكم الذي لا يشمل إلاّ بعض أفراد موضوعه أو المتعلّق أو المكلّف ، أو أنّه اللفظ
الدالّ على ذلك.
والتخصيص هو إخراج
بعض الأفراد عن شمول الحكم العامّ ، بعد أن كان اللفظ في نفسه شاملا له لو لا
التخصيص.
والتخصّص هو أن
يكون اللفظ من أوّل الأمر ـ بلا تخصيص ـ غير شامل لذلك الفرد غير المشمول للحكم.
أقسام
العامّ
ينقسم العامّ إلى
ثلاثة أقسام باعتبار تعلّق الحكم به :
١. «العموم
الاستغراقيّ» وهو أن يكون الحكم شاملا لكلّ فرد فرد ، فيكون كلّ فرد وحده موضوعا
للحكم ، ولكلّ حكم متعلّق بفرد من الموضوع عصيان خاصّ نحو : «أكرم
كلّ عالم».
٢. «العموم المجموعيّ» وهو أن يكون الحكم ثابتا للمجموع بما هو مجموع ، فيكون
المجموع موضوعا واحدا ، كوجوب الإيمان بالأئمّة عليهمالسلام ، فلا يتحقّق الامتثال إلاّ بالإيمان بالجميع.
٣. «العموم البدليّ» وهو أن يكون الحكم لواحد من الأفراد على البدل ، فيكون
فرد واحد فقط ـ على البدل ـ موضوعا للحكم ، فإذا امتثل فرد واحد سقط التكليف ، نحو
: «أعتق أيّة رقبة شئت».
فإن قال قائل :
إنّ عدّ هذا القسم الثالث من أقسام العموم فيه مسامحة ظاهرة ؛ لأنّ البدليّة تنافي
العموم ؛ إذ المفروض أنّ متعلّق الحكم أو موضوعه ليس إلاّ فردا واحدا فقط.
نقول في جوابه :
العموم في هذا القسم معناه عموم البدليّة ـ أي صلاح كلّ فرد لأن يكون متعلّقا أو
موضوعا للحكم ـ. نعم ، إذا كان استفادة العموم من هذا القسم بمقتضى الإطلاق فهو
يدخل في المطلق لا في العامّ.
وعلى كلّ حال ،
إنّ عموم متعلّق الحكم لأحواله وأفراده إذا كان متعلّقا للأمر الوجوبيّ أو
الاستحبابيّ ، فهو على الأكثر من نوع العموم البدليّ.
إذا عرفت هذا
التمهيد فينبغي أن نشرع في تفصيل مباحث العامّ والخاصّ في فصول :
١. ألفاظ
العموم
لا شكّ أنّ للعموم
ألفاظا تخصّه دالّة عليه إمّا بالوضع ، أو بالإطلاق بمقتضى مقدّمات الحكمة. وهي
إمّا أن تكون ألفاظا مفردة ، مثل «كلّ» وما في معناها ، مثل «جميع» و «تمام» و «أيّ»
و «دائما» ، وإمّا أن تكون هيئات لفظيّة ، كوقوع النكرة في سياق النفي أو النهي ،
وكون اللفظ جنسا محلّى باللام جمعا كان أو مفردا. فلنتكلّم عنها بالتفصيل :
١. لفظة «كلّ» وما
في معناها ، فإنّه من المعلوم دلالتها بالوضع على عموم مدخولها. سواء كان عموما
استغراقيّا أو مجموعيّا ؛ وإنّ العموم معناه الشمول لجميع أفرادها مهما
__________________
كان لها من
الخصوصيّات اللاحقة لمدخولها.
٢. «وقوع النكرة
في سياق النفي أو النهي» ؛ فإنّه لا شكّ في دلالتها على عموم السلب لجميع أفراد
النكرة عقلا ، لا وضعا ؛ لأنّ عدم الطبيعة إنّما يكون بعدم جميع أفرادها. وهذا
واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
٣. «الجمع المحلّى
باللام والمفرد المحلّى بها» ، لا شكّ في استفادة العموم منهما عند عدم العهد ،
ولكنّ الظاهر أنّه ليس ذلك بالوضع في المفرد المحلّى باللام ، وإنّما يستفاد
بالإطلاق بمقتضى الحكمة ، ولا فرق بينهما من جهة العموم في استغراق جميع الأفراد
فردا فردا.
وقد توهّم بعضهم أنّ معنى استغراق الجمع المحلّى وكلّ جمع مثل «أكرم جميع العلماء» هو استغراق
بلحاظ مراتب الجمع ، لا بلحاظ الأفراد فردا فردا ، فيشمل كلّ جماعة جماعة ، ويكون
بمنزلة قول القائل : «أكرم جماعة جماعة» ، فيكون موضوع الحكم كلّ جماعة على حدة لا
كلّ فرد ؛ فإكرام شخص واحد لا يكون امتثالا للأمر. وذلك نظير عموم التثنية ؛ فإنّ
الاستغراق فيها بملاحظة مصاديق التثنية ، فيشمل كلّ اثنين اثنين ، فإذا قال : «أكرم
كلّ عالمين» فموضوع الحكم كلّ اثنين من العلماء ، لا كلّ فرد.
ومنشأ هذا التوهّم
أنّ معنى الجمع ، الجماعة ، كما أنّ معنى التثنية ، الاثنان ، فإذا دخلت أداة
العموم عليه دلّت على العموم بلحاظ كلّ جماعة جماعة ، كما إذا دخلت على المفرد
دلّت على العموم بلحاظ كلّ فرد فرد ، وعلى التثنية دلّت عليه بلحاظ كلّ اثنين
اثنين ؛ لأنّ أداة العموم تفيد عموم مدخولها.
ولكن هذا توهّم
فاسد ؛ للفرق بين التثنية والجمع ؛ لأنّ التثنية تدلّ على الاثنين المحدود من جانب
القلّة والكثرة ، بخلاف الجمع ؛ فإنّه يدلّ على ما هو محدود من جانب القلّة فقط ؛
لأنّ أقلّ الجمع ثلاثة ، وأمّا من جانب الكثرة فغير محدود أبدا. فكلّ ما تفرض لذلك
اللفظ المجموع من أفراد مهما كثرت فهي مرتبة واحدة من الجمع وجماعة واحدة ،
__________________
حتى لو أريد جميع
الأفراد بأسرها ، فإنّها كلّها مرتبة واحدة من الجمع ، لا مجموعة مراتب له. فيكون
معنى استغراق الجمع عدم الوقوف على حدّ خاصّ من حدود الجمع ومرتبة دانية منه ، بل
المقصود أعلى مراتبه. فيذهب استغراقه إلى آخر الآحاد لا إلى آخر المراتب ؛ إذ ليس
هناك بلحاظ جميع الأفراد إلاّ مرتبة واحدة ، لا مراتب متعدّدة ، وليس إلاّ حدّ
واحد هو الحدّ الأعلى ، لا حدود متكثّرة ، فهو من هذه الجهة ـ كاستغراق المفرد ـ معناه
عدم الوقوف على حد خاصّ ، فيذهب إلى آخر الآحاد.
نعم ، الفرق
بينهما إنّما هو في عدم الاستغراق ؛ فإنّ عدم استغراق المفرد يوجب الاقتصار على
واحد ، وعدم استغراق الجمع يوجب الاقتصار على أقلّ الجمع ، وهو ثلاثة.
تمرينات (٢١)
١. ما المراد من
العامّ والخاصّ؟
٢. ما الفرق بين
التخصيص والتخصّص؟
٣. أذكر أقسام
العامّ وعرّفها؟
٤. ألفاظ العموم
أيّها يدلّ على العموم بالوضع وأيّها يدلّ عليه بالإطلاق؟
٥. بيّن ما توهّم
صاحب القوانين ، ومنشأ هذا التوهّم ، والجواب عنه؟
٢.
المخصّص المتّصل والمنفصل
إنّ تخصيص العامّ
على نحوين :
١. أن يقترن به
مخصّصه في نفس الكلام الواحد الملقى من المتكلّم ، كقولنا : «أشهد أن لا إله إلاّ
الله». ويسمّى : «المخصّص المتّصل» ، فيكون قرينة على إرادة ما عدا الخاصّ من
العموم. وتلحق به ـ بل هي منه ـ القرينة الحاليّة المكتنف بها الكلام الدالّة على
إرادة الخصوص على وجه يصحّ تعويل المتكلّم عليها في بيان مراده.
٢. ألاّ يقترن به
مخصّصه في نفس الكلام ، بل يرد في كلام آخر مستقلّ قبله أو بعده. ويسمّى : «المخصّص
المنفصل» ، فيكون أيضا قرينة على إرادة ما عدا الخاصّ من العموم ، كالأوّل.
فإذن لا فرق بين
القسمين من ناحية القرينة على مراد المتكلّم ، وإنّما الفرق بينهما من ناحية أخرى
، وهي ناحية انعقاد الظهور في العموم ، ففي المتّصل لا ينعقد للكلام ظهور إلاّ في
الخصوص ، وفي المنفصل ينعقد ظهور العامّ في عمومه ، غير أنّ الخاصّ ظهوره أقوى ،
فيقدّم عليه من باب تقديم الأظهر على الظاهر أو النصّ على الظاهر.
والسرّ في ذلك أنّ
الكلام مطلقا ـ العامّ وغيره ـ لا يستقرّ له الظهور ولا ينعقد إلاّ بعد الانتهاء
منه والانقطاع عرفا على وجه لا يبقى بحسب العرف مجال لإلحاقه بضميمة تصلح لأن تكون
قرينة تصرفه عن ظهوره الابتدائيّ الأوّليّ ، وإلاّ فالكلام ما دام متّصلا عرفا
فإنّ ظهوره مراعى ، فإن انقطع من دون ورود قرينة على خلافه استقرّ ظهوره الأوّل ،
وانعقد الكلام عليه ، وإن لحقته القرينة الصارفة تبدّل ظهوره الأوّل إلى ظهور آخر
حسب دلالة القرينة ، وانقعد حينئذ على الظهور الثاني. ولذا لو كانت القرينة مجملة
أو إن وجد في الكلام ما يحتمل أن يكون قرينة أوجب ذلك عدم انعقاد الظهور الأوّل ،
ولا ظهور آخر ، فيعود الكلام برمّته مجملا.
هذا من ناحية
كلّيّة في كلّ كلام. ومقامنا من هذا الباب ؛ لأنّ المخصّص ـ كما قلنا ـ من قبيل
القرينة الصارفة ، فالعامّ له ظهور ابتدائيّ ـ أو بدويّ ـ في العموم ، فيكون مراعى
بانقطاع الكلام
وانتهائه ، فإن لم يلحقه ما يخصّصه استقرّه ظهوره الابتدائيّ وانقعد على العموم ،
وإن لحقته قرينة التخصيص قبل الانقطاع تبدّل ظهوره الأوّل ، وانقعد له ظهور آخر
حسب دلالة المخصّص المتّصل.
اذن فالعامّ
المخصّص بالمتّصل لا يستقرّ ولا ينعقد له ظهور في العموم ، بخلاف المخصّص بالمنفصل
؛ لأنّ الكلام بحسب الفرض قد انقطع بدون ورود ما يصلح للقرينة على التخصيص ،
فيستقرّ ظهوره الابتدائيّ في العموم ، غير أنّه إذا ورد المخصّص المنفصل يزاحم
ظهور العامّ ، فيقدّم عليه من باب أنّه قرينة عليه ، كاشفة عن المراد الجديّ.
٣. هل
استعمال العامّ في المخصّص مجاز؟
قلنا : إنّ
المخصّص بقسميه قرينة على إرادة ما عدا الخاصّ من لفظ العموم ، فيكون المراد من
العامّ بعض ما يشمله ظاهره. فوقع الكلام في أنّ هذا الاستعمال هل هو على نحو المجاز
أو الحقيقة؟ واختلف العلماء فيه على أقوال كثيرة :
منها : أنّه مجاز
مطلقا.
ومنها : أنّه
حقيقة مطلقا .
ومنها : التفصيل
بين المخصّص بالمتّصل وبين المخصّص بالمنفصل ، فإن كان التخصيص بالأوّل فهو حقيقة
دون ما كان بالثانى .
__________________
وقيل : بالعكس .
والحقّ عندنا هو القول الثاني ، أيّ إنّه حقيقة مطلقا.
الدليل : أنّ منشأ توهّم القول بالمجاز أنّ أداة العموم لمّا كانت
موضوعة للدلالة على سعة مدخولها وعمومه لجميع أفراده ، فلو أريد منه بعضه فقد
استعملت في غير ما وضعت له ، فيكون الاستعمال مجازا. وهذا التوهّم يدفع بأدنى
تأمّل ؛ لأنّه في التخصيص بالمتّصل كقولك مثلا : «أكرم كلّ عالم إلاّ الفاسقين» لم
تستعمل أداة العموم إلاّ في معناها ، وهو الشمول لجميع أفراد مدخولها ، غاية الأمر
أنّ مدخولها تارة يدلّ عليه لفظ واحد مثل : «أكرم كلّ عادل» ، وأخرى يدلّ عليه
أكثر من لفظ واحد في صورة التخصيص ، فيكون التخصيص معناه أنّ مدخول «كلّ» ليس ما
يصدق عليه لفظ عالم ـ مثلا ـ ، بل هو خصوص العالم العادل في المثال. وأمّا «كلّ»
فهي باقية على ما لها من الدلالة على العموم والشمول ؛ لأنّها تدلّ حينئذ على
الشمول لكلّ عادل من العلماء ، ولذا لا يصحّ أن يوضع مكانها كلمة «بعض» ، فلا
يستقيم المعنى لو قلت : «أكرم بعض العلماء إلاّ الفاسقين» ، وإلاّ لما صحّ
الاستثناء. كما لا يستقيم لو قلت : «أكرم بعض العلماء العدول» ؛ فإنّه لا يدلّ على
تحديد الموضوع كما لو كانت «كلّ» والاستثناء موجودين.
والحاصل أنّ لفظة «كلّ» وسائر أدوات العموم في مورد التخصيص لم
تستعمل إلاّ في معناها ، وهو الشمول.
ولا معنى للقول
بأنّ المجاز في نفس مدخولها ؛ لأنّ مدخولها مثل كلمة «عالم» موضوع لنفس الطبيعة من
حيث هي ، لا الطبيعة بجميع أفرادها أو بعضها. وإرادة الجميع أو البعض إنّما يكون
من دلالة لفظة أخرى كـ «كلّ» ، أو «بعض» ، فإذا قيّد مدخولها وأريد منه المقيّد
بالعدالة في المثال المتقدّم لم يكن مستعملا إلاّ في معناه ، وهو من له العلم ،
وتكون إرادة ما عدا الفاسق من العلماء من دلالة مجموع القيد والمقيّد من باب تعدّد
الدالّ والمدلول. وسيجىء ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ تقييد المطلق لا يوجب مجازا.
__________________
هذا الكلام كلّه
عن المخصّص بالمتّصل. وكذلك الكلام عن المخصّص بالمنفصل ؛ لأنّا قلنا : إنّ
التخصيص بالمنفصل معناه جعل الخاصّ قرينة منفصلة على تقييد مدخول «كلّ» بما عدا
الخاصّ ، فلا تصرّف في أداة العموم ، ولا في مدخولها ، ويكون أيضا من باب تعدّد
الدالّ والمدلول. ولو فرض أنّ المخصّص المنفصل ليس مقيّدا لمدخول أداة العموم ، بل
هو تخصيص للعموم نفسه فانّ هذا لا يلزم منه أن يكون المستعمل فيه في العامّ هو
البعض ، حتى يكون مجازا ، بل إنّما يكشف الخاصّ عن المراد الجدىّ من العامّ.
٤. حجيّة
العامّ المخصّص في الباقي
إذا شككنا في شمول
العامّ المخصّص لبعض أفراد الباقي من العامّ بعد التخصيص ، فهل العامّ حجّة في هذا
البعض فيتمسّك بظاهر العموم لإدخاله في حكم العامّ؟ على أقوال ؛ مثلا اذا قال
المولى : «كلّ ماء طاهر» ، ثمّ استثنى من العموم بدليل متّصل أو منفصل الماء
المتغيّر بالنجاسة ونحن احتملنا استثناء الماء القليل الملاقي للنجاسة بدون تغيّر
، فإذا قلنا بأنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي نطرد هذا الاحتمال بظاهر عموم
العامّ في جميع الباقي ، فنحكم بطهارة الماء الملاقي غير المتغيّر . واذا لم نقل بحجّيّته في الباقي يبقى هذا الاحتمال معلّقا لا دليل عليه من
العامّ ، فنلتمس له دليلا آخر يقول بطهارته أو نجاسته.
والأقوال في
المسألة كثيرة :
منها : التفصيل
بين المخصّص بالمتّصل ، فيكون حجّة في الباقى ، وبين المخصّص بالمنفصل ، فلا يكون
حجّة .
__________________
وقيل بالعكس.
والحقّ في المسألة هو الحجّيّة مطلقا ؛ لأنّ اساس النزاع ناشئ من
النزاع في المسألة السابقة ، وهي أنّ العامّ المخصّص مجاز في الباقي أم لا؟
ومن قال بالمجاز
يستشكل في ظهور العامّ وحجّيّته في جميع الباقي من جهة أنّ المفروض أنّ استعمال
العامّ في تمام الباقى مجاز واستعماله في بعض الباقي مجاز آخر أيضا ، فيقع النزاع
في أنّ المجاز الأوّل أقرب إلى الحقيقة ، فيكون العامّ ظاهرا فيه ، أو أنّ
المجازين متساويان فلا ظهور في أحدهما. فإذا كان المجاز الأوّل هو الظاهر كان
العامّ حجّة في تمام الباقي ، وإلاّ فلا يكون حجّة.
أمّا نحن الذين
نقول بأن العامّ المخصّص حقيقة [في الباقي] ـ كما تقدّم ـ ، ففي راحة من هذا
النزاع ؛ لأنّا قلنا : إنّ أداة العموم باقية على ما لها من معنى الشمول لجميع
أفراد مدخولها ، فإذا خرج من مدخولها بعض الأفراد بالتخصيص بالمتّصل أو المنفصل
فلا تزال دلالتها على العموم باقية على حالها ، وإنّما مدخولها تتضيّق دائرته
بالتخصيص.
فحكم العامّ
المخصّص حكم العامّ غير المخصّص في ظهوره في الشمول لكلّ ما يمكن أن يدخل فيه.
وعلى أيّ حال ،
بعد القول بأنّ العامّ المخصّص حقيقة في الباقي ـ على ما بيّنّاه ـ لا يبقى شك في
حجّيّته في الباقي. وإنّما يقع الشكّ على تقدير القول بالمجازيّة ، فقد نقول إنّه
حجّة في الباقي على هذا التقدير ، وقد لا نقول. لا أنّه كلّ من يقول بالمجازيّة
يقول بعدم الحجّيّة ، كما توهّم ذلك بعضهم .
__________________
تمرينات (٢٢)
١. ما هو المخصّص
المتّصل والمخصّص المنفصل؟
٢. ما الفرق بين
المخصّص المتّصل والمنفصل من ناحية انعقاد الظهور في العموم؟
٣. ما هي الأقوال
في استعمال العامّ في المخصّص؟
٤. ما هو مختار
المصنّف رحمهالله في استعمال العامّ في المخصّص؟ وما دليله؟
٥. بيّن مسألة
حجّيّة العامّ المخصّص في الباقي؟
٦. ما هي الأقوال
في مسألة حجّية العامّ المخصّص في الباقي؟
٧. ما هو مختار
المصنّف في المسألة؟ وما هو دليله؟
٥. هل
يسري إجمال المخصّص إلى العامّ؟
كان البحث السابق
ـ وهو «حجّية العامّ في الباقي» ـ في فرض أنّ الخاصّ مبيّن لا إجمال فيه ، وإنّما
الشكّ في تخصيص غيره ممّا علم خروجه من الخاصّ.
وعلينا الآن أن
نبحث عن حجّيّة العامّ في فرض إجمال الخاصّ. والإجمال على نحوين :
١. «الشبهة المفهوميّة» : وهي في فرض الشكّ في نفس مفهوم الخاصّ بأن كان مجملا ،
نحو قوله عليهالسلام : «كلّ ماء طاهر إلاّ ما تغيّر طعمه أو لونه أو ريحه» الذي يشكّ فيه أنّ المراد من التغيّر خصوص التغيّر الحسّيّ ، أو ما يشمل
التغيّر التقديريّ. ونحو قولنا : «أحسن الظنّ إلاّ بخالد» الذي يشكّ فيه أنّ
المراد من خالد هو خالد بن بكر أو خالد بن سعد ، مثلا.
٢. «الشبهة المصداقيّة» : وهي في فرض الشكّ في دخول فرد من أفراد العامّ في الخاصّ
مع وضوح مفهوم الخاصّ ، بأن كان مبيّنا لا إجمال فيه ، كما إذا شكّ في مثال الماء
السابق أنّ ماء معيّنا أتغيّر بالنجاسة فدخل في حكم الخاصّ أم لم يتغيّر فهو لا
يزال باقيا على طهارته؟
والكلام في
الشبهتين يختلف اختلافا بيّنا. فلنفرد لكلّ منهما بحثا مستقلاّ.
أ) الشبهة
المفهوميّة
الدوران في الشبهة
المفهوميّة تارة يكون بين الأقلّ والأكثر ، كالمثال الأوّل ، فإنّ الأمر دائر فيه
بين تخصيص خصوص التغيّر الحسّيّ أو يعمّ التقديريّ ، فالأقلّ هو التغيّر الحسّيّ ،
وهو المتيقّن ، والأكثر هو الأعمّ منه ومن التقديريّ. وأخرى ، يكون بين المتباينين
، كالمثال الثاني ، فإنّ الأمر دائر فيه بين تخصيص خالد بن بكر وبين خالد بن سعد ،
ولا قدر متيقّن في البين.
__________________
ثمّ على كلّ من
التقديرين ، إمّا أن يكون المخصّص متّصلا أو منفصلا. والحكم في المقام يختلف
باختلاف هذه الأقسام الأربعة في الجملة ، فلنذكرها بالتفصيل :
١ ، ٢. فيما إذا
كان المخصّص متّصلا ، سواء كان الدوران فيه بين الأقلّ والأكثر أو بين المتباينين
؛ فإنّ الحقّ فيه أنّ إجمال المخصّص يسري إلى العامّ ، أي إنّه لا يمكن التمسّك
بأصالة العموم لإدخال المشكوك في حكم العامّ.
وهو واضح على ما
ذكرناه سابقا من أنّ المخصّص المتّصل من نوع قرينة الكلام المتّصلة ، فلا ينعقد
للعامّ ظهور إلاّ فيما عدا الخاصّ ، فإذا كان الخاصّ مجملا سرى إجماله إلى العامّ
؛ لأنّ ما عدا الخاصّ غير معلوم ، فلا ينعقد للعامّ ظهور فيها لم يعلم خروجه عن
عنوان الخاصّ.
٣. في الدوران بين
الأقلّ والأكثر إذا كان المخصّص منفصلا ، فإنّ الحقّ فيه أنّ إجمال الخاصّ لا يسري
إلى العامّ ، أي إنّه يصحّ التمسّك بأصالة العموم لإدخال ما عدا الأقلّ في حكم
العامّ.
والحجّة فيه واضحة
بناء على ما تقدّم في الفصل الثاني من أنّ العامّ
المخصّص بالمنفصل ينعقد له ظهور في العموم ، وإذا كان يقدّم عليه الخاصّ فمن باب
تقديم أقوى الحجّتين ؛ فإذا كان الخاصّ مجملا في الزائد على القدر المتيقّن منه ،
فلا يكون حجّة في الزائد ؛ لأنّه ـ حسب الفرض ـ مجمل لا ظهور له فيه ، وإنّما
تنحصر حجّيّته في القدر المتيقّن وهو الأقل.
فكيف يزاحم العامّ
المنعقد ظهوره في الشمول لجميع أفراده التي منها القدر المتيقّن من الخاصّ ومنها
القدر الزائد عليه المشكوك دخوله في الخاصّ ؛ فإذا خرج القدر المتيقّن بحجّة أقوى
من العامّ يبقى القدر الزائد لا مزاحم لحجّيّة العامّ وظهوره فيه.
٤. في الدوران بين
المتباينين إذا كان المخصّص منفصلا ، فإنّ الحقّ فيه أنّ إجمال الخاصّ يسري إلى
العامّ ، كالمخصّص المتّصل ؛ لأنّ المفروض حصول العلم الإجماليّ بالتخصيص واقعا ،
وإن تردّد بين شيئين ، فيسقط العموم عن الحجّيّة في كلّ واحد منهما.
__________________
والفرق بينه وبين
المخصّص المتّصل المجمل أنّه في المتّصل يرتفع ظهور الكلام في العموم رأسا ، وفي
المنفصل المردّد بين المتباينين ترتفع حجّيّة الظهور ، وإن كان الظهور البدويّ
باقيا ، فلا يمكن التمسّك بأصالة العموم في أحد المردّدين.
بل لو فرض أنّها
تجري بالقياس إلى احدهما فهي تجري أيضا بالقياس إلى الآخر ، ولا يمكن جريانهما معا
؛ لخروج أحدهما عن العموم قطعا ، فيتعارضان ويتساقطان. وإن كان الحقّ أنّ نفس وجود
العلم الإجماليّ يمنع من جريان أصالة العموم في كلّ منهما رأسا ، لا أنّها تجري
فيهما فيحصل التعارض ثمّ التساقط.
ب) الشبهة
المصداقيّة
قلنا : إنّ الشبهة
المصداقيّة تكون في فرض الشكّ في دخول فرد من أفراد ما ينطبق عليه العامّ في
المخصّص ، مع كون المخصّص مبيّنا لا إجمال فيه ، وإنّما الإجمال في المصداق. فلا
يدرى أنّ هذا الفرد متّصف بعنوان الخاصّ ، فخرج عن حكم العامّ ، أم لم يتّصف فهو
مشمول لحكم العامّ ، كالمثال المتقدّم ، وهو الماء المشكوك تغيّره بالنجاسة ،
وكمثال الشكّ في اليد على مال أنّها يد عادية أو يد أمانة ، فيشكّ في شمول العامّ
لها ، وهو قوله صلىاللهعليهوآله : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» ، لأنّها يد عادية ، أو خروجها منه لأنّها يد أمانة ، لما دلّ على عدم ضمان
يد الأمانة المخصّص لذلك العموم.
ربما ينسب إلى
المشهور من العلماء الأقدمين القول بجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، ولذا أفتوا في مثال اليد المشكوكة بالضمان.
وقد يستدلّ لهذا
القول بأنّ انطباق عنوان العامّ على المصداق المردّد معلوم ، فيكون العامّ حجّة
فيه ما لم يعارض بحجّة أقوى ، وأمّا انطباق عنوان الخاصّ عليه فغير معلوم ، فلا
يكون الخاصّ حجّة فيه ، فلا يزاحم حجيّة العامّ .
__________________
وهو نظير ما قلناه
في المخصّص المنفصل في الشبهة المفهوميّة عند الدوران بين الأقلّ والأكثر.
والحقّ عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في المتّصل
والمنفصل معا.
ودليلنا على ذلك :
أنّ المخصّص لمّا كان حجّة أقوى من العامّ ، فإنّه موجب لقصر حكم العامّ على باقي
أفراده ، ورافع لحجّيّة العامّ في بعض مدلوله. والفرد المشكوك مردّد بين دخوله
فيما كان العامّ حجّة فيه وبين خروجه عنه ، مع عدم دلالة العامّ على دخوله فيما هو
حجّة فيه ، فلا يكون العامّ حجّة فيه بلا مزاحم ، كما قيل في دليلهم. ولئن كان
انطباق عنوان العامّ عليه معلوما فليس هو معلوم الانطباق عليه بما هو حجّة.
والحاصل أنّ هناك عندنا حجّتين معلومتين حسب الفرض : إحداهما :
العامّ ، وهو حجّة فيما عدا الخاصّ. وثانيتهما : المخصّص ، وهو حجّة في مدلوله.
والمشتبه مردّد بين دخوله في تلك الحجّة أو هذه الحجّة.
وبهذا يظهر الفرق
بين الشبهة المصداقيّة وبين الشبهة المفهوميّة في المنفصل عند الدوران بين الأقلّ
والأكثر. فإنّ الخاصّ في الشبهة المفهوميّة ليس حجّة إلاّ في الأقلّ ، والزائد
المشكوك ليس مشكوك الدخول فيما كان الخاصّ معلوم الحجّيّة فيه ، بل الخاصّ مشكوك
أنّه جعل حجّة فيه أم لا. ومشكوك الحجّيّة في شيء ليس بحجّة ـ قطعا ـ في ذلك
الشيء. وأمّا العامّ فهو حجّة إلاّ فيما كان الخاصّ حجّة فيه.
وعليه ، لا يكون الأكثر مردّدا بين دخوله في تلك الحجّة أو هذه الحجّة ، كالمصداق
المردّد ، بل هو معلوم أنّ الخاصّ ليس حجّة فيه لمكان الشكّ ، فلا يزاحم حجّيّة
العامّ فيه.
وأمّا فتوى
المشهور بالضمان في اليد المشكوكة أنّها يد عادية أو يد أمانة ، فلا يعلم أنّها
__________________
لأجل القول بجواز
التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، ولعلّ لها وجها آخر ليس المقام محلّ ذكره .
تنبيه : في جواز
التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إذا كان المخصّص لبّيّا
المقصود من
المخصّص اللبّي ما يقابل اللفظيّ ، كالإجماع ودليل العقل اللذين هما دليلان وليسا
من نوع الألفاظ. فقد نسب إلى الشيخ المحقّق الأنصاريّ قدسسره جواز التمسّك
بالعامّ في الشبهة المصداقيّة مطلقا إذا كان المخصّص لبيّا . وتبعه جماعة من المتأخّرين عنه .
وذهب المحقّق شيخ
أساتذتنا (صاحب الكفاية قدسسره) إلى التفصيل بين ما إذا كان المخصّص اللبّيّ ممّا يصحّ أن
يتّكل عليه المتكلّم في بيان مراده بأن كان عقليّا ضروريّا ؛ فإنّه يكون كالمتّصل
، فلا ينعقد للعامّ ظهور في العموم ، فلا مجال للتمسّك بالعامّ في الشبهة
المصداقيّة ، وبين ما إذا لم يكن كذلك ، كما إذا لم يكن التخصيص ضروريّا على وجه
يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم ، فإنّه لا مانع من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة
؛ لبقاء العامّ على ظهوره ، وهو حجّة بلا مزاحم.
واستشهد على ذلك
بما ذكره من الطريقة المعروفة ، والسيرة المستمرّة المألوفة بين العقلاء ، كما إذا
أمر المولى منهم عبده بإكرام جيرانه ، وحصل القطع للعبد بأنّ المولى لا يريد إكرام
من كان عدوّا له من الجيران فإنّ العبد ليس له ألاّ يكرم من يشكّ في عداوته ،
__________________
للمولى أن يؤاخذه
على عدم إكرامه ، ولا يصحّ منه الاعتذار بمجرّد احتمال العداوة ، لأنّ بناء
العقلاء وسيرتهم هي ملاك حجّيّة أصالة الظهور ، فيكون ظهور العامّ ـ في هذا المقام
ـ حجّة بمقتضى بناء العقلاء.
وزاد على ذلك أنّه
يستكشف من عموم العامّ للفرد المشكوك أنّه ليس فردا للخاصّ الذي علم خروجه من حكم
العامّ. ومثّل له بعموم قوله : «لعن الله بني فلان قاطبة» المعلوم منه خروج من كان
مؤمنا منهم ، فإن شكّ في إيمان شخص يحكم بجواز لعنه للعموم. وكلّ من جاز لعنه ليس
مؤمنا. فينتج من الشكل الأوّل : «هذا الشخص ليس مؤمنا». هذا خلاصة رأي صاحب
الكفاية قدسسره
ولكن شيخنا
المحقّق الكبير النائينيّ قدسسره لم يرتض هذا التفصيل ، ولا إطلاق رأي الشيخ قدسسره ، بل ذهب إلى
تفصيل آخر . وخلاصته : أن المخصّص اللبّيّ ، سواء كان عقليّا ضروريّا
يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم في مقام التخاطب أو لم يكن كذلك ، بأن كان عقليّا
نظريّا أو إجماعا ؛ فإنّه كالمخصّص اللفظيّ كاشف عن تقييد المراد الواقعيّ في
العامّ من عدم كون موضوع الحكم الواقعي باقيا على إطلاقه الذي يظهر فيه العامّ ،
فلا مجال للتمسّك بالعامّ في الفرد المشكوك بلا فرق بين اللبّيّ واللفظيّ ؛ لأنّ
المانع من التمسّك بالعامّ مشترك بينهما وهو انكشاف تقييد موضوع الحكم واقعا. ولا
يفرق في هذه الجهة بين أن يكون الكاشف لفظيّا أو لبيّا.
واستثنى من ذلك ما
اذا كان المخصّص اللبّيّ لم يستكشف منه تقييد موضوع الحكم واقعا ، بأن كان العقل
إنّما أدرك ما هو ملاك حكم الشارع واقعا ، أو قام الإجماع على كونه ملاكا لحكم
الشارع ، كما إذا أدرك العقل أو قام الإجماع على أنّ ملاك لعن بني فلان هو كفرهم ، فإنّ ذلك لا يوجب تقييد موضوع الحكم ، لأنّ الملاك لا يصلح
لتقييده ، بل من العموم يستكشف وجود الملاك في جميعهم. فإذا شكّ في وجود الملاك في
فرد ، يكون
__________________
عموم الحكم كاشفا
عن وجوده فيه.
نعم ، لو علم بعدم
وجود الملاك في فرد ، يكون الفرد نفسه خارجا كما لو أخرجه المولى بالنّص عليه ، لا
أنّه يكون كالمقيّد لموضوع العامّ.
وأمّا سكوت المولى
عن بيانه ، فهو إمّا لمصلحة أو لغفلة إذا كان من الموالي العاديّين. نعم ، لو
تردّد الأمر بين أن يكون المخصّص كاشفا عن الملاك أو مقيّدا لعنوان العامّ ؛ فإنّ
التفصيل الذي ذكره صاحب الكفاية قدسسره يكون وجيها.
والحاصل أنّ المخصّص إن أحرزنا أنّه كاشف عن تقييد موضوع العامّ
فلا يجوز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة أبدا ، وإن أحرزنا أنّه كاشف عن
ملاك الحكم فقط من دون تقييد فلا مانع من التمسّك بالعموم ، بل يكون كاشفا عن وجود
الملاك في المشكوك. وإن تردّد أمره ولم يحرز كونه قيدا أو ملاكا فان كان حكم العقل
ضروريّا يمكن الاتّكال عليه في التفهيم فيلحق بالقسم الأوّل ، وإن كان نظريّا أو
اجماعا لا يصحّ الاتّكال عليه فيلحق بالقسم الثاني ، فيتمسّك بالعموم ، لجواز أن
يكون الفرد المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه ، مع احتمال أنّ ما أدركه
العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاكات .
هذا كلّه حكاية
أقوال علمائنا في المسألة. وإنّما أطلت في نقلها ؛ لأنّ هذه المسألة حادثة ،
أثارها شيخنا الأنصاريّ قدسسره مؤسّس الأصول الحديث. واختلف فيها أساطين مشايخنا ، ونكتفى
بهذا المقدار دون بيان ما نعتمد عليه من الأقوال ، لئلاّ نخرج عن الغرض الذي وضعت
له الرسالة.
وبالاختصار إنّ ما ذهب إليه الشيخ قدسسره هو الأولى بالاعتماد. ولكن مع تحرير لقوله على غير ما هو
المعروف عنه .
__________________
...
__________________
__________________
تمرينات (٢٣)
التمرين الأوّل
١. ما الفرق بين
الشبهة المفهوميّة والشبهة المصداقيّة؟
٢. اذكر أقسام
الشبهة المفهوميّة ، وبيّن حكم كلّ من الأقسام.
٣. ما هو رأي
القدماء في الشبهة المصداقيّة؟ وما دليلهم عليه؟
٤. ما هو مختار
المصنّف رحمهالله في الشبهة المصداقيّة؟ وما دليله عليه؟
٥. ما الفرق بين
الشبهة المصداقيّة وبين الشبهة المفهوميّة في المنفصل عند الدوران بين الأقلّ
والأكثر؟
٦. ما الفرق بين
المخصّص اللبّي والمخصّص اللفظي؟
٧. بيّن آراء
الأعلام الثلاثة (الشيخ الأنصاريّ والمحقّق الخراسانيّ والمحقّق النائيني) في
التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إذا كان المخصّص لبّيّا.
التمرين الثاني
١. بيّن ما ذكره
المصنّف رحمهالله في تحرير قول الشيخ الأنصاري رحمهالله ، ووجه أولويّته.
٦. لا
يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص
لا شكّ في أنّ بعض
عمومات القرآن الكريم والسنّة الشريفة ورد لها مخصّصات منفصلة شرحت المقصود من تلك
العمومات. وهذا معلوم من طريقة صاحب الشريعة ، والائمّة الأطهار عليهمالسلام حتّى قيل : «ما من عامّ إلاّ وقد خصّ» . ولذا ورد عن
ائمّتنا ذمّ من استبدّوا برأيهم في الأحكام ، لأنّ في الكتاب المجيد والسنّة عامّا
وخاصّا ومطلقا ومقيّدا ، وهذه الأمور لا تعرف إلاّ من طريق آل البيت عليهمالسلام.
وهذا ما أوجب
التوقّف في التسرّع بالأخذ بعموم العامّ قبل الفحص واليأس من وجود المخصّص ؛ لجواز
أن يكون هذا العامّ من العمومات التي لها مخصّص موجود في السنّة أو في الكتاب لم
يطّلع عليه من وصل إليه العامّ. وقد نقل عدم الخلاف ، بل الإجماع على عدم جواز الأخذ بالعامّ قبل الفحص واليأس. وهو الحقّ.
والسرّ في ذلك
واضح لما قدّمناه ، لأنّه إذا كانت طريقة الشارع في بيان مقاصده أن يعتمد على
القرائن المنفصلة لا يبقى اطمئنان بظهور العامّ في عمومه ، فإنّه يكون ظهورا
بدويّا. وللشارع حجّة على المكلّف إذا قصّر في الفحص عن المخصّص.
أمّا إذا بذل وسعه
وفحص عن المخصّص في مظانّه حتّى حصل له الاطمئنان بعدم وجوده ، فله الأخذ بظهور
العامّ. وليس للشارع حجّة عليه فيما لو كان هناك مخصّص واقعا لم يتمكّن المكلّف من
الوصول إليه عادة بالفحص ، بل للمكلّف أن يحتجّ فيقول : إنّي
__________________
فحصت عن المخصّص
فلم أظفر به ، ولو كان مخصّص هناك كان ينبغي بيانه على وجه لو فحصنا عنه عادة
لوجدناه في مظانّه ، وإلاّ فلا حجّة فيه علينا.
وهذا الكلام جار
في كلّ ظهور ؛ فإنّه لا يجوز الأخذ به إلاّ بعد الفحص عن القرائن المنفصلة. فإذا
فحص المكلّف ولم يظفر بها فله أن يأخذ بالظهور ويكون حجّة عليه.
ومن هنا نستنتج
قاعدة عامّة تأتي في محلّها ونستوفي البحث عنها ـ إن شاء الله تعالى ـ. والمقام من صغرياتها ، وهي «إنّ أصالة الظهور لا تكون حجّة إلاّ بعد الفحص
واليأس عن القرينة».
أمّا بيان مقدار
الفحص الواجب أهو الذي يوجب اليأس على نحو القطع بعدم القرينة أو على نحو الظنّ
الغالب والاطمئنان بعدمها؟ فذلك موكول إلى محلّه. والمختار كفاية الاطمئنان. والذى
يهوّن الخطب في هذه العصور المتأخّرة أنّ علماءنا ـ قدسسرهم ـ قد بذلوا جهودهم على تعاقب العصور في جمع الأخبار
وتبويبها والبحث عنها وتنقيحها في كتب الأخبار والفقه ، حتى أنّ الفقيه أصبح الآن
يسهل عليه الفحص عن القرائن بالرجوع إلى مظانّها المهيّأة ؛ فإذا لم يجدها بعد
الفحص ، يحصل له القطع غالبا بعدمها.
تمرينات (٢٤)
التمرين الأوّل
١. هل يجوز العمل
بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص أم لا؟
٢. ما هو مقدار
الفحص الواجب عن المخصّص؟
التمرين الثاني
١. اذكر أوّل من
عنون مسألة الفحص عن المخصّص.
__________________
٧. تعقيب
العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده
قد يرد عامّ ثمّ
ترد بعده جملة فيها ضمير يرجع إلى بعض أفراد العامّ بقرينة خاصّة. مثل قوله (تعالى)
: (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ...) إلى قوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) ؛ فإنّ «المطلّقات» عامّة للرجعيّات وغيرها ، ولكن الضمير
في «بعولتهنّ» يراد به خصوص الرجعيّات. فمثل هذا الكلام يدور فيه الأمر بين
مخالفتين للظاهر ، إمّا مخالفة ظهور العامّ في العموم ، بأن يجعل مخصوصا بالبعض
الذي يرجع إليه الضمير ، وإمّا مخالفة ظهور الضمير في رجوعه إلى ما تقدّم عليه من
المعنى الذي دلّ عليه اللفظ ، بأن يكون مستعملا على سبيل الاستخدام ، فيراد منه
البعض ، والعامّ يبقى على دلالته على العموم ، فأيّ المخالفتين أولى؟ وقع الخلاف على
أقوال ثلاثة :
الأوّل : أنّ أصالة العموم هي المقدّمة ، فيلتزم بالمخالفة
الثانية .
الثانى : أنّ أصالة عدم الاستخدام هي المقدّمة ، فيلتزم بالمخالفة
الأولى .
الثالث : عدم جريان الأصلين معا ، والرجوع إلى الأصول العمليّة.
أمّا عدم جريان أصالة العموم فلوجود ما يصلح أن يكون قرينة في الكلام ، وهو عود
الضمير إلى البعض ، فلا ينعقد ظهور العامّ في العموم. وأمّا أنّ أصالة عدم
الاستخدام لا تجري فلأنّ الأصول اللفظيّة يشترط في جريانها ـ كما سبق أوّل الكتاب
ـ أن يكون الشكّ في مراد المتكلّم ، فلو كان المراد معلوما ـ كما في المقام ـ وكان
الشكّ في كيفيّة الاستعمال ، فلا تجري قطعا .
والحقّ أن أصالة العموم جارية ولا مانع منها ؛ لأنّا ننكر أن يكون
عود الضمير إلى بعض
__________________
أفراد العامّ
موجبا لصرف ظهور العموم ؛ إذ لا يلزم من تعيّن البعض ـ من جهة مرجعيّة الضمير
بقرينة ـ أن يتعيّن إرادة البعض من جهة حكم العامّ الثابت له بنفسه ؛ لأنّ الحكم
في الجملة المشتملة على الضمير غير الحكم في الجملة المشتملة على العامّ ، ولا
علاقة بينهما ، فلا يكون عود الضمير إلى بعض العامّ من القرائن التي تصرف ظهوره عن
عمومه. واعتبر ذلك في المثال ، فلو قال المولى : «العلماء يجب إكرامهم» ثمّ قال : «وهم
يجوز تقليدهم» وأريد من ذلك «العدول» بقرينة ، فإنّه واضح في هذا المثال أنّ تقييد
الحكم الثاني بالعدول لا يوجب تقييد الحكم الأوّل بذلك ، بل ليس فيه إشعار به. ولا
يفرق في ذلك بين أن يكون التقييد بمتّصل ، كما في مثالنا ، أو بمنفصل كما في
الآية.
٨. تعقيب
الاستثناء لجمل متعدّدة
وقد ترد عمومات
متعدّدة في كلام واحد ثمّ يتعقّبها استثناء في آخرها ، فيشكّ حينئذ في رجوع
الاستثناء لخصوص الجملة الأخيرة أو لجميع الجمل.
مثاله قوله (تعالى)
: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ
لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (*) إِلاَّ
الَّذِينَ تابُوا) ، فإنّه يحتمل أن يكون هذا الاستثناء من الحكم الأخير فقط
، وهو فسق هؤلاء ، ويحتمل أن يكون استثناء منه ومن الحكم بعدم قبول شهادتهم والحكم
بجلدهم الثمانين. واختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال :
١. ظهور الكلام في
رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة ، وإن كان رجوعه إلى غير الأخيرة ممكنا ،
ولكنّه يحتاج إلى قرينة عليه.
٢. ظهوره في رجوعه
إلى جميع الجمل ؛ وتخصيصه بالأخيرة فقط هو الذي يحتاج
__________________
إلى الدليل.
٣. عدم ظهوره في
واحد منهما ، وإن كان رجوعه إلى الأخيرة متيقّنا على كلّ حال. أمّا ما عدا الأخيرة
فتبقى مجملة لوجود ما يصلح للقرينيّة ، فلا ينعقد لها ظهور في العموم ، فلا تجري
أصالة العموم فيها.
٤. التفصيل بين ما
إذا كان الموضوع واحدا للجمل المتعاقبة لم يتكرّر ذكره ، وقد ذكر في صدر الكلام
مثل قولك : «أحسن إلى الناس ، واحترمهم ، واقض حوائجهم إلاّ الفاسقين» ، وبين ما
إذا كان الموضوع متكرّرا ذكره لكلّ جملة ، كالآية الكريمة المتقدّمة ، وإن كان
الموضوع في المعنى واحدا في الجميع. فإن كان من قبيل الأوّل فهو ظاهر في رجوعه إلى
الجميع ؛ لأنّ الاستثناء إنّما هو من الموضوع باعتبار الحكم ، والموضوع لم يذكر
إلاّ في صدر الكلام فقط ، فلا بدّ من رجوع الاستثناء إليه ، فيرجع إلى الجميع ؛
وإن كان من قبيل الثاني فهو ظاهر في الرجوع إلى الأخيرة ؛ لأنّ الموضوع قد ذكر
فيها مستقلاّ ، فقد أخذ الاستثناء محلّه ، ويحتاج تخصيص الجمل السابقة إلى دليل
آخر مفقود بالفرض ، فيتمسّك بأصالة عمومها. .
وأمّا : ما قيل : «أنّ
المقام من باب اكتناف الكلام بما يصلح لأن يكون قرينة فلا ينعقد للجمل الأولى ظهور
في العموم» فلا وجه له ؛ لأنّه لمّا كان المتكلّم حسب الفرض قد كرّر
الموضوع بالذكر ، واكتفى باستثناء واحد ، وهو يأخذ محلّه بالرجوع إلى الأخيرة ،
فلو أراد إرجاعه إلى الجميع ، لوجب أن ينصب قرينة على ذلك وإلاّ كان مخلاّ ببيانه.
وهذا القول الرابع
هو أرجح الأقوال ، وبه يكون الجمع بين كلمات العلماء ، فمن ذهب
__________________
إلى القول برجوعه
إلى خصوص الأخيرة فلعلّه كان ناظرا إلى مثل الآية المباركة التي تكرّر فيها
الموضوع ، ومن ذهب إلى القول برجوعه إلى الجميع فلعلّه كان ناظرا إلى الجمل التي
لم يذكر فيها الموضوع إلاّ في صدر الكلام ، فيكون النزاع على هذا لفظيّا ، ويقع
التصالح بين المتنازعين.
تمرينات (٢٥)
١. ما هو محلّ
النزاع في مسألة تعقيب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده؟
٢. ما هي الأقوال
في مسألة تعقيب العامّ بالضمير؟ وما هو مختار المصنّف رحمهالله؟ وما الدليل على مختاره؟
٣. ما هو محلّ
البحث في مسألة تعقيب الاستثناء لجمل متعدّدة؟ ايت بمثال لها.
٤. اذكر أقوال
العلماء في مسألة تعقيب الاستثناء لجمل متعدّدة. واذكر الراجح منها وسبب رجحانه؟
٩. تخصيص
العامّ بالمفهوم
المفهوم ينقسم ـ كما
تقدّم ـ إلى الموافق والمخالف ، فإذا ورد عامّ ومفهوم أخصّ مطلقا
، فلا كلام في تخصيص العامّ بالمفهوم اذا كان مفهوما موافقا ، مثاله قوله (تعالى)
: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإنّه عامّ يشمل كلّ عقد يقع باللغة العربيّة وغيرها ، فإذا ورد دليل على
اعتبار أن يكون العقد بصيغة الماضي فقد قيل : إنّه يدلّ
بالأولويّة على اعتبار العربيّة في العقد ، لأنّه لمّا دلّ على عدم صحّة العقد
بالمضارع من العربيّة فلئن لم يصحّ من لغة أخرى فمن طريق أولى. ولا شكّ أنّ مثل
هذا المفهوم إن ثبت فإنّه يخصّص العامّ المتقدّم ؛ لأنّه كالنصّ ، أو أظهر من عموم
العامّ فيقدّم عليه.
وأمّا : التخصيص
بالمفهوم المخالف فمثاله قوله (تعالى) : (إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) الدالّ بعمومه على عدم اعتبار كلّ ظنّ حتى الظنّ الحاصل من
خبر العادل. وقد وردت آية أخرى هي : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...) دالّة بمفهوم الشرط على جواز الأخذ بخبر غير الفاسق بغير
تبيّن. فهل يجوز تخصيص ذلك العامّ بهذا المفهوم المخالف؟ قد اختلفوا على أقوال :
فقد قيل بتقديم
العامّ ولا يجوز تخصيصه بهذا المفهوم.
وقيل بتقديم
المفهوم.
__________________
وقيل بعدم تقديم
أحدهما على الآخر ، فيبقى الكلام مجملا.
وفصّل بعضهم
تفصيلات كثيرة يطول الكلام عليها.
والسرّ في هذا
الخلاف أنّه لمّا كان ظهور المفهوم المخالف ليس من القوّة بحيث يبلغ درجة ظهور
المنطوق أو المفهوم الموافق وقع الكلام في أنّه أقوى من ظهور العامّ ، فيقدّم عليه
، أو أنّ العامّ أقوى ، فهو المقدّم ، أو أنّهما متساويان في درجة الظهور فلا
يقدّم أحدهما على الآخر ، أو أنّ ذلك يختلف باختلاف المقامات.
والحقّ أنّ
المفهوم لمّا كان أخصّ من العامّ حسب الفرض فهو قرينة عرفا على المراد من العامّ ،
والقرينة تقدّم على ذي القرينة ، وتكون مفسّرة لما يراد من ذي القرينة ، ولا يعتبر
أن يكون ظهورها أقوى من ظهور ذي القرينة ، نعم ، لو فرض أنّ العامّ كان نصّا في
العموم فإنّه يكون هو قرينة على المراد من الجملة ذات المفهوم ، فلا يكون لها
مفهوم حينئذ ، هذا أمر آخر.
١٠. تخصيص
الكتاب العزيز بخبر الواحد
يبدو من الصعب على
المبتدئ أن يؤمن لأوّل وهلة بجواز تخصيص العامّ الوارد في القرآن الكريم بخبر
الواحد ؛ نظرا إلى أنّ الكتاب المقدّس إنّما هو وحي منزل من الله (تعالى) لا ريب
فيه ، والخبر ظنّيّ يحتمل فيه الخطأ والكذب ، فكيف يقدّم على الكتاب؟! ولكنّ سيرة
العلماء من القديم على العمل بخبر الواحد إذا كان مخصّصا للعامّ القرآنيّ ، بل لا
تجد على الأغلب خبرا معمولا به من بين الأخبار التي بأيدينا في المجاميع إلاّ وهو
مخالف لعامّ ، أو مطلق في القرآن ، ولو مثل عمومات الحلّ ونحوها . بل على الظاهر أنّ
__________________
مسألة تقديم الخبر
الخاصّ على الآية القرآنيّة العامّة من المسائل المجمع عليها من غير خلاف بين
علمائنا ، فما السرّ في ذلك مع ما قلناه؟
نقول : لا ريب في أنّ القرآن الكريم ـ وإن كان قطعيّ السند ـ فيه
متشابه ومحكم ، نصّ على ذلك القرآن نفسه ، والمحكم نصّ
وظاهر ، والظاهر منه عامّ ومطلق ؛ كما لا ريب أيضا في أنّه ورد في كلام النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام ما يخصّص كثيرا من عمومات القرآن ، وما يقيّد كثيرا من
مطلقاته ، وما يقوم قرينة على صرف جملة من ظواهره ، وهذا قطعيّ لا يشكّ فيه أحد.
فإن كان الخبر قطعيّ الصدور فلا كلام في ذلك ، وإن كان غير قطعيّ الصدور وقد قام
الدليل القطعيّ على أنّه حجّة شرعا ، لأنّه خبر عادل ـ مثلا ـ ، وكان مضمون الخبر
أخصّ من عموم الآية القرآنيّة ، فيدور الأمر بين أن نطرح الخبر ـ بمعنى أن نكذّب
راويه ـ وبين أن نتصرّف بظاهر القرآن لأنّه لا يمكن التصرّف بمضمون الخبر ؛ لأنّه
نصّ أو أظهر ، ولا بسند القرآن لأنّه قطعيّ. ومرجع ذلك إلى الدوران ـ في الحقيقة ـ
بين مخالفة الظنّ بصدق الخبر وبين مخالفة الظنّ بعموم الآية. أو فقل : يدور الأمر
بين طرح دليل حجّيّة الخبر وبين طرح أصالة العموم ، فأيّ الدليلين أولى بالطرح؟
وأيّهما أولى بالتقديم؟
فنقول : لا شكّ أنّ الخبر صالح لأن يكون قرينة على التصرّف في
ظاهر الكتاب ؛ لأنّه بدلالته ناظر ومفسّر لظاهر الكتاب بحسب الفرض ؛ وعلى العكس من
ظاهر الكتاب ؛ فإنّه غير صالح لرفع اليد عن دليل حجّيّة الخبر ، لأنّه لا علاقة له
فيه من هذه الجهة ـ حسب الفرض ـ حتى يكون ناظرا ومفسّرا له ؛ فالخبر لسانه لسان
المبيّن للكتاب ، فيقدّم عليه ، وليس الكتاب بظاهره بصدد بيان دليل حجّيّة الخبر
حتّى يقدّم عليه. وإن شئت فقل : إنّ الخبر بحسب الفرض قرينة على الكتاب ، والأصل
الجاري في القرينة ـ وهو هنا أصالة عدم كذب الراوي ـ مقدّم على الأصل الجاري في ذي
القرينة وهو هنا أصالة العموم.
__________________
١١. دوران
بين التخصيص والنسخ
اعلم أنّ العامّ
والخاصّ المنفصل يختلف حالهما من جهة العلم بتأريخهما معا ، أو بتأريخ أحدهما ، أو
الجهل بهما معا. فقد يقال في بعض الأحوال بتعيين أن يكون الخاصّ ناسخا للعام ، أو
منسوخا له ، أو مخصّصا إيّاه. وقد يقع الشكّ في بعض الصور ، ولتفصيل الحال نقول :
إنّ الخاصّ والعامّ من ناحية تأريخ صدورهما لا يخلوان من خمس حالات : فإمّا أن
يكونا معلومي التأريخ ، أو مجهولي التأريخ ، أو أحدهما مجهولا والآخر معلوما ، هذه
ثلاث صور. ثمّ المعلوم تأريخهما : إمّا أن يعلم تقارنهما عرفا ، أو يعلم تقدّم
العامّ ، أو يعلم تأخّر العامّ ؛ فتكون الصور خمسا :
الصورة الأولى
إذا كانا معلومي التأريخ مع العلم
بتقارنهما عرفا ؛ فإنّه لا مجال لتوهّم النسخ فيهما.
الصورة الثانية :
إذا كانا معلومي التاريخ مع تقدّم
العامّ ، فهذه على صورتين :
١. أن يكون ورود
الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ. والظاهر أنّه لا إشكال حينئذ في حمله على التخصيص
بغير كلام ، إمّا لأنّ النسخ لا يكون قبل وقت العمل بالمنسوخ كما قيل ، وإمّا لأنّ الأولى فيه التخصيص ، كما سيأتي في الصورة الآتية.
٢. أن يكون وروده
بعد وقت العمل بالعامّ. وهذه الصورة هي أشكل الصور ، وهي التي وقع فيها الكلام في
أنّ الخاصّ يجب أن يكون ناسخا ، أو يجوز أن يكون مخصّصا ولو في بعض الحالات ؟ ومع الجواز يتكلّم حينئذ في أنّ الحمل على التخصيص
__________________
هو الأولى ، أو
الحمل على النسخ؟
فالذي يذهب إلى
وجوب أن يكون الخاصّ ناسخا فهو ناظر إلى أنّ العامّ لمّا ورد وحلّ وقت العمل به ـ بحسب
الفرض ـ فتأخير الخاصّ عن وقت العمل لو كان مخصّصا ومبيّنا لعموم العامّ يكون من
باب تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح من الحكيم ؛ لأنّ فيه إضاعة للأحكام
ولمصالح العباد بلا مبرّر ، فوجب أن يكون ناسخا للعامّ ، والعامّ باق على عمومه
يجب العمل به إلى حين ورود الخاصّ ، فيجب العمل ثانيا على طبق الخاصّ.
وأمّا من ذهب إلى
جواز كونه مخصّصا فلعلّه ناظر إلى أنّ العامّ يجوز أن يكون واردا لبيان حكم ظاهريّ
صوريّ لمصلحة اقتضت كتمان الحكم الواقعيّ ، ولو مصلحة التقيّة ، أو مصلحة التدرّج
في بيان الأحكام ، كما هو المعلوم من طريقة النبيّ صلىاللهعليهوآله في بيان أحكام الشريعة ، مع أنّ الحكم الواقعيّ التابع
للمصالح الواقعيّة الثابتة للأشياء بعناوينها الأوّلية إنّما هو على طبق الخاصّ ،
فإذا جاء الخاصّ يكون كاشفا عن الحكم الواقعيّ ، فيكون مبيّنا للعامّ ومخصّصا له ،
وأمّا الحكم العامّ الذي ثبت أوّلا ظاهرا وصورة إن كان قد ارتفع وانتهى أمده ،
فإنّه إنّما ارتفع لارتفاع موضوعه ، وليس هو من باب النسخ .
وإذا جاز أن يكون
العامّ واردا على هذا النحو من بيان الحكم ظاهرا وصورة فإن ثبت ذلك ، كان الخاصّ
مخصّصا ، أي كان كاشفا عن الواقع قطعا ، وإن ثبت أنّه في صدد بيان الحكم الواقعيّ
التابع للمصالح الواقعيّة الثابتة للأشياء بعناوينها الأوّليّة ، فلا شكّ في أنّه
يتعيّن كون الخاصّ ناسخا له.
وأمّا لو دار
الأمر بينهما إذ لم يقم دليل على تعيين أحدهما ، فأيّهما أرجح في الحمل؟
فنقول : الأقرب
إلى الصواب هو الحمل على التخصيص.
والوجه
فيه : أنّ أصالة
العموم ـ بما هي ـ لا تثبت أكثر من أنّ ما يظهر من العامّ هو المراد الجدّيّ
للمتكلّم ، ولا شكّ أنّ الحكم الصّوريّ ـ الذي نسمّيه بـ «الحكم الظاهريّ» ـ كالواقعيّ
مراد جدّيّ للمتكلّم ؛ لأنّه مقصود بالتفهيم ؛ فالعامّ ليس ظاهرا إلاّ في أنّ
المراد الجدّي هو العموم ، سواء كان العموم حكما واقعيّا أو صوريّا ؛ أمّا أنّ
الحكم واقعيّ
__________________
فلا يقتضيه الظهور
أبدا حتّى يثبت بأصالة العموم ، لا سيّما أنّ المعلوم من طريقة صاحب الشريعة هو بيان
العمومات مجرّدة عن قرائن التخصيص ، ويكشف المراد الواقعيّ منها بدليل منفصل ، حتى
اشتهر القول بأنّه «ما من عامّ إلاّ وقد خصّ» ، كما سبق .
وعليه ، فلا دليل
من أصالة العموم على أنّ الحكم واقعيّ حتّى نلتجئ إلى الحمل على النسخ ، بل إرادة
الحكم الواقعيّ من العامّ على ذلك الوجه يحتاج إلى مئونة بيان زائد أكثر من ظهور
العموم. ولأجل هذا قلنا : إنّ الحمل على التخصيص أقرب إلى الصواب من الحمل على
النسخ ، وإن كان كلّ منهما ممكنا.
الصورة الثالثة
إذا كانا معلومي
التاريخ مع تقدّم الخاصّ ، فهذه أيضا على صورتين :
١. أن يرد العامّ
قبل وقت العمل بالخاصّ ، فلا ينبغي الإشكال في كون الخاصّ مخصّصا ؛
٢. أن يرد بعد وقت
العمل بالخاصّ ، فلا مجال لتوهّم وجوب الحمل على النسخ من جهة قبح تأخير البيان عن
وقت الحاجة ؛ لأنّه من باب تقديم البيان قبل وقت الحاجة ، ولا قبح فيه أصلا. ومع
ذلك قيل بلزوم الحمل على النسخ ؛ ولعلّ نظر هذا القائل إلى أنّ أصالة العموم جارية ، ولا
مانع منها إلاّ احتمال أن يكون الخاصّ المتقدّم مخصّصا وقرينة على العامّ ، ولكن
أيضا يحتمل أن يكون منسوخا بالعامّ ، فلا يحرز أنّه من باب القرينة. ولا شكّ أنّ
الخاصّ المنفصل إنّما يقدّم على العامّ لأنّه أقوى الحجّتين وقرينة عليه. ومع هذا
الاحتمال لا يكون الخاصّ المنفصل أقوى في الظهور من العامّ.
قلت : الأصوب أن يحمل على التخصيص ، كالصورة السابقة ؛ لما
تقدّم من أنّ العامّ
__________________
لا يدلّ على أكثر
من أنّ المراد جديّ ، ولا يدلّ في نفسه على أنّ الحكم واقعيّ تابع للمصالح
الواقعيّة الثابتة للأشياء بعناوينها الأوّليّة ، وإنّما يكون العامّ ناسخا للخاصّ
إذا كانت دلالته على هذا النحو ، وإلاّ فالعمومات الواردة في الشريعة على الأغلب
ليست كذلك. وأمّا احتمال النسخ فلا يقلّل من ظهور الخاصّ في نفسه قطعا ، كما لا
يرفع حجّيّته فيما هو ظاهر فيه ، فلا يخرجه عن كونه صالحا لتخصيص العامّ ، فيقدّم
عليه ؛ لأنّه أقوى في نفسه ظهورا.
بل يمكن أن يقال :
إنّ العامّ اللاحق للخاصّ لا ينعقد له ظهور في العموم إلاّ بدويّا بالنسبة إلى من
لا يعلم بسبق الخاصّ ، لجواز أن يعتمد المتكلّم في بيان مراده على سبقه ، فيكون
المخصّص السابق كالمخصّص المتّصل أو كالقرينة الحاليّة ، فلا يكون العامّ ظاهرا في
العموم حتّى يتوهّم أنّه ظاهر في ثبوت الحكم الواقعيّ.
الصورتان :
الرابعة والخامسة
إذا كانا مجهولي
التأريخ أو أحدهما فقط كان مجهولا ؛ فإنّه يعلم الحال فيهما ممّا تقدّم ، فيحمل
على التخصيص بلا كلام. ولا وجه لتوهّم النسخ ، لا سيّما بعد أن رجّحنا التخصيص في
جميع الصور ، وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
تمرينات (٢٦)
١. بيّن محلّ
النزاع في مسألة تخصيص العامّ بالمفهوم.
٢. بيّن الأقوال
في المقام ، واذكر الحقّ منها.
٣. هل يجوز تخصيص
عمومات القرآن بخبر الواحد أم لا؟
٤. بيّن صور
العامّ والخاصّ من ناحية تاريخ صدورهما ، واذكر أحكامها مستدلاّ.
الباب السادس
المطلق
والمقيّد
وفيه ستّ مسائل :
المسألة
الأولى : معنى المطلق والمقيّد
عرّفوا المطلق بـ «أنّه
ما دلّ على معنى شائع في جنسه » ويقابله المقيّد. وهذا التعريف قديم بحثوا عنه كثيرا
وأحصوا عليه عدّة مؤاخذات يطول شرحها . ولا فائدة في
ذكرها ما دام أنّ الغرض من مثل هذا التعريف هو تقريب المعنى الذي وضع له اللفظ ؛
لأنّه من التعاريف اللفظيّة .
والظاهر أنّه ليس
للأصوليّين اصطلاح خاصّ في لفظي المطلق والمقيّد ، بل هما مستعملان بما لهما من
المعنى في اللغة ، فإنّ المطلق مأخوذ من «الإطلاق» ، وهو الإرسال والشيوع ،
ويقابله التقييد تقابل الملكة وعدمها ، والملكة : التقييد ، والإطلاق : عدمها ، وقد تقدّم .
غاية الأمر أنّ
إرسال كلّ شيء بحسبه وما يليق به. فإذا نسب الإطلاق والتقييد إلى اللفظ ـ كما هو
المقصود في المقام ـ فإنّما يراد ذلك بحسب ما له من دلالة على المعنى فيكونان
وصفين للّفظ باعتبار المعنى.
__________________
ومن موارد استعمال
لفظ «المطلق» نستطيع أن نأخذ صورة تقريبيّة لمعناه. فمثلا عند ما نعرف العلم
الشخصيّ والمعرّف بلام العهد لا يسمّيان مطلقين باعتبار معناهما ـ لأنّه لا شيوع
ولا إرسال في شخص معيّن ـ لا ينبغي أن نظنّ أنّه لا يجوز أن يسمّى العلم الشخصيّ «مطلقا»
؛ فإنّه إذا قال الآمر : «أكرم محمّدا» وعرفنا أنّ لمحمّد أحوالا مختلفة ولم يقيّد
الحكم بحال من الأحوال ، نستطيع أن نعرف أنّ لفظ «محمّد» هنا أو هذا الكلام
بمجموعه يصحّ أن نصفه بالإطلاق بلحاظ الأحوال ، وإن لم يكن له شيوع باعتبار معناه
الموضوع له. إذن للأعلام الشخصيّة والمعرّف بلام العهد إطلاق ، فلا يختصّ المطلق
بما له معنى شائع في جنسه كاسم الجنس ونحوه. وكذلك عند ما نعرف أنّ العامّ لا
يسمّى «مطلقا» ، فلا ينبغي أنّ نظنّ أنّه لا يجوز أن يسمّى «مطلقا» أبدا ؛ لأنّا
نعرف أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة إلى أفراده ، أمّا بالنسبة إلى أحوال أفراده غير
المفردة فإنّه لا مضايقة في أن نسمّيه «مطلقا». إذن لا مانع من شمول تعريف المطلق المتقدّم
ـ وهو ما دلّ على معنى شائع في جنسه ـ للعامّ باعتبار أحواله ، لا باعتبار أفراده.
وعلى هذا فمعنى
المطلق هو شيوع اللفظ وسعته باعتبار ما له من المعنى وأحواله ؛ ولكن لا على أن
يكون ذلك الشيوع مستعملا فيه اللفظ ، كالشيوع المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي
، وإلاّ كان الكلام عامّا لا مطلقا.
المسألة
الثانية : الإطلاق والتقييد متلازمان
أشرنا إلى أنّ
التقابل بين الإطلاق والتقييد من باب تقابل الملكة وعدمها ؛ لأنّ الإطلاق هو عدم
التقييد فيما من شأنه أن يقيّد ؛ فيتبع الإطلاق التقييد في الإمكان ، أي إنّه إذا أمكن
التقييد في الكلام وفي لسان الدليل ، أمكن الإطلاق ، ولو امتنع ، استحال الإطلاق ،
بمعنى أنّه لا يمكن فرض استكشاف الإطلاق وإرادته من كلام المتكلّم في مورد لا يصحّ
التقييد ، بل يكون مثل هذا الكلام لا مطلقا ولا مقيّدا ، وإن كان في الواقع أنّ
المتكلّم لا بدّ أن يريد أحدهما. وقد تقدّم مثاله في بحث التّوصليّ والتعبّديّ ؛ إذ قلنا : إنّ امتناع تقييد الأمر
__________________
بقصد الامتثال
يستلزم امتناع إطلاقه بالنسبة إلى هذا القيد. وذكرنا هناك كيف يمكن استكشاف إرادة
الإطلاق بإطلاق المقام لا بإطلاق الكلام الواحد.
المسألة الثالثة :
الإطلاق في الجمل
الإطلاق لا يختصّ
بالمفردات ـ كما يظهر من كلمات الاصوليّين ـ ، إذ مثّلوا للمطلق باسم الجنس وعلم
الجنس والنكرة ، بل يكون في الجمل أيضا ، كإطلاق صيغة «افعل» الذي يقتضي
استفادة الوجوب العينيّ والتعيينيّ والنفسيّ ، فإنّ الإطلاق فيها إنّما هو من نوع
إطلاق الجملة. ومثله إطلاق الجملة الشرطيّة في استفادة الانحصار في الشرط.
ولكن محلّ البحث
في المسائل الآتية خصوص الألفاظ المفردة ، ولعلّ عدم شمول البحث عندهم للجمل
باعتبار أن ليس هناك ضابط كلّيّ لمطلقاتها وإن كان الأصحّ
أنّ بحث مقدّمات الحكمة يشملها. وقد بحث عن إطلاق بعض الجمل في مناسباتها ، كإطلاق
صيغة «افعل» والجملة الشرطيّة ونحوها.
تمرينات (٢٧)
١. ما تعريف
المطلق والمقيّد؟ ايت بمثال لكلّ منهما.
٢. التقابل بين
الإطلاق والتقييد من أيّ أقسام التقابل؟
٣. ما الوجه في
عدم شمول البحث لإطلاق الجمل؟
__________________
المسألة
الرابعة : هل الإطلاق بالوضع؟
لا شكّ في أنّ
الإطلاق في الأعلام بالنسبة إلى الأحوال ـ كما قدّمت الإشارة إليه ـ ليس بالوضع ،
بل إنّما يستفاد من مقدّمات الحكمة.
وكذلك إطلاق الجمل
وما شابهها ـ أيضا ـ ليس بالوضع بل بمقدّمات الحكمة ؛ وهذا لا خلاف فيه.
وإنّما الذي وقع
فيه البحث هو أنّ الإطلاق في أسماء الأجناس وما شابهها هل هو بالوضع أو بمقدّمات
الحكمة؟ أي إنّ أسماء الأجناس هل هي موضوعة لمعانيها بما هي شائعة ومرسلة على وجه
يكون الإرسال ـ أي الإطلاق ـ مأخوذا في المعنى الموضوع له اللفظ ـ كما نسب إلى
المشهور من القدماء قبل سلطان العلماء قدسسره ـ أو أنّها موضوعة لنفس المعاني بما هى ، والإطلاق يستفاد
من دالّ آخر ، وهو نفس تجرّد اللفظ من القيد إذا كانت مقدّمات الحكمة متوفّرة فيه؟
وهذا القول الثاني أوّل من صرّح به فيما نعلم سلطان العلماء قدسسره في حاشيته على
معالم الأصول ، وتبعه جميع من تأخّر عنه إلى يومنا هذا.
وعلى القول الأوّل
يكون استعمال اللفظ في المقيّد مجازا ، وعلى القول الثاني يكون حقيقة.
والحقّ ما ذهب إليه سلطان العلماء قدسسره ، بل قيل : «إنّ نسبة القول الأوّل إلى المشهور مشكوك فيها».
ولتوضيح هذا القول وتحقيقه ينبغي بيان أمور ثلاثة تنفع في هذا الباب وفي غير هذا
الباب . وبها تكشف للطالب ما وقع للعلماء الأعلام من الاختلاف في
التعبير
__________________
بل في الرأي والنظر.
وهذه الأمور التي ينبغي بيانها هي كما يلي :
١. اعتبارات
الماهيّة
المشهور أنّ
للماهيّة ثلاثة اعتبارات إذا قيست إلى ما هو خارج عن ذاتها ، كما إذا قيست الرقبة إلى الإيمان عند الحكم عليها بحكم ما ، كوجوب العتق.
وهى :
١. أن تعتبر
الماهيّة مشروطة بذلك الأمر الخارج. وتسمّى حينئذ «الماهيّة بشرط شيء» ، كما إذا
كان يجب عتق الرقبة المؤمنة ، أي بشرط كونها مؤمنة.
٢. أن تعتبر
مشروطة بعدمه. وتسمّى «الماهيّة بشرط لا» ، كما إذا كان
القصر واجبا في الصلاة على المسافر غير العاصي بسفره ، أي بشرط عدم كونه عاصيا لله
بسفره ، فأخذ عدم العصيان قيدا في موضوع الحكم.
٣. ألاّ تعتبر
مشروطة بوجوده ولا بعدمه ، وتسمّى «الماهيّة لا بشرط» ، كوجوب الصلاة على الإنسان
باعتبار كونه حرّا ـ مثلا ـ ، فإنّ الحرّيّة غير معتبرة لا بوجودها ولا بعدمها في
وجوب الصلاة ؛ لأنّ الإنسان بالنظر الى الحرّيّة في وجوب الصلاة عليه غير مشروط
بالحرّيّة ولا بعدمها ، فهو لا بشرط القياس إليها.
ويسمّى هذا
الاعتبار الثالث «اللابشرط القسميّ » في قبال «اللابشرط
المقسميّ» الآتي ذكره. وإنّما سمّي «قسميّا» ؛ لأنّه قسم في مقابل القسمين
الأوّلين ، أي [الماهيّة] بشرط شيء و [الماهيّة] بشرط لا ، وهذا ظاهر لا بحث فيه.
ثم إنّ لهم
اصطلاحين آخرين معروفين :
١. قولهم : «الماهيّة
المهملة».
٢. قولهم : «الماهيّة
لا بشرط مقسميّ».
__________________
أفهذان اصطلاحان
وتعبيران لمدلول واحد ، أو هما اصطلاحان مختلفان في المعنى؟
والذي يلجئنا إلى
هذا الاستفسار ما وقع من الارتباك في التعبير عند كثير من مشايخنا الأعلام فقد
يظهر من بعضهم أنّهما اصطلاحان لمعنى واحد ، كما هو ظاهر كفاية الأصول تبعا لبعض الفلاسفة الأجلاّء .
ولكن التحقيق لا
يساعد على ذلك ، بل هما اصطلاحان مختلفان. وهذا جوابنا على الاستفسار.
وتوضيح ذلك : أنّه
من المتسالم عليه ـ الذي لا اختلاف فيه ولا اشتباه ـ أمران :
الأوّل : أنّ المقصود من «الماهيّة المهملة» الماهيّة من حيث هي ،
أي نفس الماهية بما هي مع قطع النظر عن جميع ما عداها ، فيقتصر النظر على ذاتها
وذاتيّاتها.
الثانى : أنّ المقصود من «الماهيّة لا بشرط مقسميّ» الماهيّة
المأخوذة لا بشرط التي تكون مقسما للاعتبارات الثلاثة المتقدّمة ، وهي ـ أي
الاعتبارات الثلاثة ـ الماهيّة بشرط شيء ، وبشرط لا ، ولا بشرط قسميّ. ومن هنا سمي
: «مقسما».
وإذا ظهر ذلك فلا
يصحّ أن يدّعى أنّ الماهيّة بما هي هي تكون بنفسها مقسما للاعتبارات الثلاثة ؛
وذلك ؛ لأنّ الماهيّة لا تخلو من حالتين ، وهما : أن ينظر إليها ـ بما هي هي ـ غير
مقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها ، وأن ينظر إليها مقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها ،
ولا ثالث لهما.
وفي الحالة الأولى
تسمّى «الماهيّة المهملة» ، كما هو مسلّم. وفي الثانية لا يخلو حالها من أحد
الاعتبارات الثلاثة.
وعلى هذا
فالملاحظة الأولى مباينة لجميع الاعتبارات الثلاثة وتكون قسمية لها ، فكيف يصحّ أن
تكون مقسما لها؟ ولا يصحّ أن يكون الشيء مقسما لاعتبارات نقيضه ؛ لأنّ الماهيّة من
حيث هي ـ كما اتّضح معناها ـ ملاحظتها غير مقيسة إلى الغير ، والاعتبارات الثلاثة
ملاحظتها مقيسة إلى الغير؟! على أنّ اعتبار الماهيّة غير مقيسة اعتبار
__________________
ذهنيّ ، له وجود
مستقلّ في الذهن ، فكيف يكون مقسما لوجودات ذهنيّة أخرى مستقلّة ، والمقسم يجب أن
يكون موجودا بوجود أقسامه ، ولا يعقل أن يكون له وجود في مقابل وجودات الأقسام ،
وإلاّ كان قسيما لها لا مقسما؟!
وعليه ، فنحن
نسلّم أنّ «الماهيّة المهملة» معناها اعتبارها «لا بشرط» ، ولكن ليس هو المصطلح
عليه باللابشرط المقسميّ ، فإنّ لهم في «لا بشرط» ـ على هذا ـ ثلاثة اصطلاحات :
١. لا بشرط أيّ
شيء خارج عن الماهيّة وذاتيّاتها ، وهى الماهيّة بما هي هي التي يقتصر فيها النظر
على ذاتها وذاتيّاتها ، وهي «الماهيّة المهملة».
٢. لا بشرط مقسميّ
، وهو الماهيّة التي تكون مقسما للاعتبارات الثلاثة ، أي الماهيّة المقيسة إلى ما
هو خارج عن ذاتها ؛ والمقصود بلا بشرط هنا لا بشرط شيء من الاعتبارات الثلاثة ـ أي
لا بشرط اعتبار بشرط شيء ، واعتبار بشرط لا ، واعتبار اللابشرط ـ ، لا أنّ المراد
بلا بشرط هنا ، لا بشرط مطلقا من كلّ قيد وحيثيّة. وليس هذا اعتبارا ذهنيّا في
قبال هذه الاعتبارات ، بل ليس له وجود في عالم الذهن إلاّ بوجود واحد من هذه
الاعتبارات ، ولا تعيّن له مستقلّ غير تعيّناتها ، وإلاّ لما كان مقسما.
٣. لا بشرط قسميّ
، وهو الاعتبار الثالث من اعتبارات الماهيّة المقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها.
فاتّضح أنّ «الماهيّة
المهملة» ، شيء و «اللابشرط المقسميّ» ، شيء آخر. كما اتّضح أيضا أنّ الثاني لا
معني لأن يجعل من اعتبارات الماهيّة على وجه يثبت حكم للماهيّة باعتباره ، أو يوضع
له لفظ بحسبه.
٢. اعتبارات
الماهيّة عند الحكم عليها
واعلم أنّ
الماهيّة إذا حكم عليها فإمّا أن يحكم عليها بذاتيّاتها ، وإمّا أن يحكم عليها
بأمر خارج عنها ، ولا ثالث لهما.
وعلى الأوّل : فهو
على صورتين :
١. أن يكون الحكم
بالحمل الأوّليّ ، وذلك في الحدود التامّة خاصّة.
٢. أن يكون بالحمل
الشائع ، وذلك عند الحكم عليها ببعض ذاتيّاتها ، كالجنس وحده أو الفصل وحده.
وعلى كلتا
الصورتين فإنّ النظر إلى الماهيّة مقصور على ذاتيّاتها غير متجاوز فيه إلى ما هو
خارج عنها. وهذا لا كلام فيه.
وعلى الثاني :
فإنّه لا بدّ من ملاحظتها مقيسة إلى ما هو خارج عنها ، فتخرج بذلك عن مقام ذاتها
وحدها من حيث هي ، أي عن تقرّرها الذاتيّ الذي لا ينظر فيه إلاّ إلى ذاتها
وذاتيّاتها. وهذا واضح ؛ لأنّه مع قطع النظر عن كلّ ما عداها لا يجتمع مع الحكم
عليها بأمر خارج عن ذاتها ؛ لأنّهما متناقضان.
وعليه ، لو حكم
عليها بأمر خارج عنها وقد لوحظت مقيسة إلى هذا الغير ، فلا بدّ أن تكون معتبرة
بأحد الاعتبارات الثلاثة المتقدّمة ؛ إذ يستحيل أن يخلو الواقع من أحدها ـ كما
تقدّم ـ ، ولا معنى لاعتبارها باللابشرط المقسميّ ؛ لما تقدّم أنّه ليس هو تعيّنا
مستقلاّ في قبال تلك التعيّنات ، بل هو مقسم لها.
ثمّ إنّ الغير ـ أي
الأمر الخارج عن ذاتها ، الذي لوحظت الماهيّة مقيسة إليه ـ لا يخلو إمّا أن يكون
نفس المحمول أو شيئا آخر ، فإن كان هو المحمول فيتعيّن أن تؤخذ الماهيّة بالقياس
إليه لا بشرط قسميّ ؛ لعدم صحّة الاعتبارين الآخرين.
أمّا أخذها بشرط
شيء ـ أي بشرط المحمول ـ فلا يصحّ ذلك دائما ؛ لأنّه يلزم أن تكون القضيّة ضروريّة
دائما ، لاستحالة انفكاك المحمول عن الموضوع بشرط المحمول. على أنّ أخذ المحمول في
الموضوع يلزم منه حمل الشيء على نفسه وتقدّمه على نفسه ، وهو مستحيل إلاّ إذا كان
هناك تغاير بحسب الاعتبار ، كحمل «الحيوان الناطق» على «الإنسان» فانّهما متغايران
باعتبار الإجمال والتفصيل.
وأمّا أخذها بشرط
لا ـ أي بشرط عدم المحمول ـ فلا يصحّ ؛ لأنّه يلزم التناقض ، فإنّ الإنسان بشرط
عدم الكتابة يستحيل حمل الكتابة عليه.
وإن كان هذا الغير
الخارج هو غير المحمول ، فيجوز أن تكون الماهيّة حينئذ مأخوذة بالقياس إليه بشرط
شيء ، كجواز تقليد المجتهد بشرط العدالة ، أو بشرط لا ، كوجوب
صلاة الظهر يوم
الجمعة بشرط عدم حضور الإمام ، أو لا بشرط ، كجواز السلام على المؤمن مطلقا
بالقياس إلى العدالة مثلا ـ أي لا بشرط وجودها ولا بشرط عدمها ـ ، كما يجوز أن
تكون مهملة غير مقيسة إلى شيء غير محمولها.
ولكن قد يستشكل في
كلّ ذلك بأنّ هذه الاعتبارات الثلاثة اعتبارات ذهنيّة ، لا موطن لها إلاّ الذهن ،
فلو تقيّدت الماهيّة بأحدها عند ما تؤخذ موضوعا للحكم للزم أن تكون جميع القضايا
ذهنيّة عدا حمل الذاتيّات التي قد اعتبرت فيها الماهيّة من حيث هي ، ولبطلت
القضايا الخارجيّة والحقيقيّة ، مع أنّها عمدة القضايا ، بل لاستحال في التكاليف
الامتثال ؛ لأنّ ما موطنه الذهن يمتنع إيجاده في الخارج .
وهذا الإشكال وجيه
لو كان الحكم على الموضوع بما هو معتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة على وجه يكون
الاعتبار قيدا في الموضوع أو نفسه هو الموضوع. ولكن ليس الأمر كذلك ، فإنّ الموضوع
في كلّ تلك القضايا هو ذات الماهيّة المعتبرة ولكن لا بقيد الاعتبار ، بمعنى أنّ
الموضوع في «بشرط شيء» الماهيّة المقترنة بذلك الشيء ، لا المقترنة بلحاظه
واعتباره ، وفي «بشرط لا» الماهيّة المقترنة بعدمه ، لا بلحاظ عدمه ، وفي «لا بشرط»
الماهيّة غير الملاحظ معها الشيء ولا عدمه ، لا الملاحظة بعدم لحاظ الشيء وعدمه ،
وإلاّ لكانت الماهيّة معتبرة في الجميع بشرط شيء فقط ، أي بشرط اللحاظ والاعتبار.
نعم ، هذه
الاعتبارات هي المصحّحة لموضوعيّة الموضوع على الوجه اللازم الذي يقتضيه واقع
الحكم ، لا أنّها مأخوذة قيدا فيه حتّى تكون جميع القضايا ذهنيّة. ولو كان الأمر
كذلك ، لكان الحكم بالذاتيّات أيضا قضيّة ذهنيّة ؛ لأنّ اعتبار الماهيّة من حيث هي
أيضا اعتبار ذهنيّ.
وممّا يقرّب ما
قلناه ـ من كون الاعتبار مصحّحا لموضوعيّة الموضوع لا مأخوذا فيه مع أنّه لا بدّ
منه عند الحكم بشيء ـ أنّ كلّ موضوع ومحمول لا بدّ من تصوّره في مقام
__________________
الحمل ، وإلاّ
لاستحال الحمل ، ولكن هذه اللابدّيّة لا تجعل التصوّر قيدا للموضوع أو المحمول ،
وإنّما التصوّر هو المصحّح للحمل ، وبدونه لا يمكن الحمل.
وكذلك عند استعمال
اللفظ في معناه لا بدّ من تصوّر اللفظ والمعنى ، ولكن التصوّر ليس قيدا للّفظ ،
ولا للمعنى ، فليس اللفظ دالاّ بما هو متصوّر في الذهن وإن كانت دلالته في ظرف
التصوّر ، ولا المعنى مدلولا بما هو متصوّر وإن كان مدلوليّته في ظرف تصوّره. ويستحيل
أن يكون التصوّر قيدا للّفظ أو المعنى ، ومع ذلك لا يصحّ الاستعمال بدونه ،
فالتصوّر مقوّم للاستعمال لا للمستعمل فيه ولا للّفظ. وكذلك هو مقوّم للحمل ومصحّح
له ، لا للمحمول ، ولا للمحمول عليه.
وعلى هذا ، يتّضح
ما نحن بصدد بيانه ، وهو أنّه إذا أردنا أن نضع اللفظ للمعنى ، لا يعقل أن نقصر
اللحاظ على ذات المعنى بما هو هو مع قطع النظر عن كلّ ما عداه ؛ لأنّ الوضع من
المحمولات الواردة عليه ، فلا بدّ أن يلاحظ المعنى حينئذ مقيسا إلى ما هو خارج عن
ذاته ، فقد يؤخذ بشرط شيء ، وقد يؤخذ بشرط لا ، وقد يؤخذ لا بشرط. ولا يلزم أن
يكون الموضوع له هو المعنى بما له من الاعتبار الذهنيّ ، بل الموضوع له نفس
المعتبر وذاته لا بما هو معتبر ، والاعتبار مصحّح للوضع.
٣. الأقوال في
المسألة
قلنا فيما سبق :
إنّ المعروف عن قدماء الأصحاب أنّهم يقولون بأنّ أسماء الأجناس موضوعة للمعاني
المطلقة ، على وجه يكون الإطلاق قيدا للموضوع له ، فلذلك ذهبوا إلى أنّ استعمالها في المقيّد مجاز ، وقد صوّر هذا القول على
نحوين :
الأوّل : أنّ الموضوع له المعنى بشرط الإطلاق على وجه يكون
اعتباره من باب اعتباره بشرط شيء.
الثاني : أنّ الموضوع له المعنى المطلق ، أي المعتبر لا بشرط.
وقد أورد على هذا
القول بتصويريه ـ كما تقدّم ـ بأنّه يلزم على كلا التصويرين أن
__________________
يكون الموضوع له
موجودا ذهنيّا ، فيكون جميع القضايا ذهنيّة ، فلو جعل اللفظ بما له من معناه
موضوعا في القضية الخارجيّة أو الحقيقيّة ، وجب تجريده عن هذا القيد الذهنيّ ،
فيكون مجازا دائما في القضايا المتعارفة. وهذا يكذّبه الواقع.
ولكن
نحن قلنا : إنّ هذا
الإيراد إنّما يتوجّه إذا جعل الاعتبار قيدا في الموضوع له. أمّا لو جعل الاعتبار
مصحّحا للوضع ، فلا يلزم هذا الإيراد كما سبق.
هذا قول القدماء ،
وأمّا المتأخّرون ابتداء من سلطان العلماء قدسسره فإنّهم جميعا اتّفقوا على أنّ الموضوع له ذات المعنى ، لا
المعنى المطلق حتّى لا يكون استعمال اللفظ في المقيّد مجازا. وهذا القول بهذا
المقدار من البيان واضح. ولكنّ العلماء من أساتذتنا اختلفوا في تأدية هذا المعنى
بالعبارات الفنّيّة ممّا أوجب الارتباك على الباحث وإغلاق طريق البحث في المسألة.
لذلك التجأنا إلى تقديم المقدّمتين السابقتين لتوضيح هذه الاصطلاحات والتعبيرات
الفنّيّة التي وقعت في عباراتهم. واختلفوا فيها على أقوال :
١. منهم من قال :
إنّ الموضوع له هو الماهيّة المهملة المبهمة ، أي الماهيّة من حيث هي .
٢. ومنهم من قال :
إنّ الموضوع له الماهيّة المعبّرة باللاشرط المقسميّ .
٣. ومنهم من جعل
التعبير الأوّل نفس التعبير الثاني .
٤. ومنهم من قال :
إنّ الموضوع له ذات المعنى ، لا الماهيّة المهملة ، ولا الماهيّة المعبّرة
باللابشرط المقسميّ ، ولكنّه ملاحظ حين الوضع باعتبار «اللابشرط القسميّ» على أن
يكون هذا الاعتبار مصحّحا للموضوع ، لا قيدا للموضوع له . وعليه ، يكون هذا القول نفس قول القدماء على التصوير الثاني إلاّ أنّه لا
يلزم منه أن يكون استعمال اللفظ في المقيّد
__________________
مجازا ؛ ولكنّ
المنسوب إلى القدماء أنّهم يقولون : بأنّه مجاز في المقيّد ، فينحصر قولهم في
التصوير الأوّل على تقدير صحّة النسبة إليهم.
ويتّضح حال هذه
التعبيرات أو الأقوال من المقدّمتين السابقتين ، فإنّه يعرف منهما :
أوّلا : أنّ الماهيّة بما هي هي غير الماهيّة باعتبار اللابشرط
المقسميّ ؛ لأنّ النظر فيها على الأوّل مقصور على ذاتها وذاتيّاتها ، بخلافه على
الثاني ؛ إذ تلاحظ مقيسة إلى الغير. وبهذا يظهر بطلان القول الثالث.
ثانيا : أنّ الوضع حكم من الأحكام ، وهو محمول على الماهيّة خارج
عن ذاتها وذاتيّاتها ، فلا يعقل أن يلاحظ الموضوع له بنحو الماهيّة بما هي هي ؛
لأنّه لا تجتمع ملاحظتها مقيسة إلى الغير وملاحظتها مقصورة على ذاتها وذاتيّاتها.
وبهذا يظهر بطلان القول الأوّل.
ثالثا : أن اللابشرط المقسميّ ليس اعتبارا مستقلاّ في قبال
الاعتبارات الثلاثة ؛ لأنّ المفروض أنّه مقسم لها ، ولا تحقّق للمقسم إلاّ بتحقّق
أحد أنواعه ـ كما تقدّم ـ ، فكيف يتصوّر أن يحكم باعتبار اللابشرط المقسميّ؟! بل
لا معنى لهذا على ما تقدّم توضيحه. وبهذا يظهر بطلان القول الثاني.
فتعيّن القول
الرابع ، وهو أنّ الموضوع له ذات المعنى ، ولكنّه حين الوضع يلاحظ المعنى بنحو
اللابشرط القسميّ. وهو يطابق القول المنسوب إلى القدماء على التصوير الثاني ، كما
أشرنا إليه ، فلا اختلاف ، ويقع التصالح بين القدماء والمتأخّرين إذا لم يثبت عن
القدماء أنّهم يقولون : «أنّه مجاز في المقيّد» ، وهو مشكوك فيه.
بيان هذا القول
الرابع أنّ ذات المعنى لمّا أراد الواضع أن يحكم عليه بوضع لفظ له ، فمعناه أنّه
قد لاحظه مقيسا إلى الغير ، فهو في هذا الحال لا يخرج عن كونه معتبرا بأحد
الاعتبارات الثلاثة للماهيّة. وإذ يراد تسرية الوضع لذات المعنى بجميع أطواره
وحالاته وقيوده لا بدّ أن يعتبر على نحو اللابشرط القسميّ. ولا منافاة بين كون
الموضوع له ذات
__________________
المعنى ، وبين كون
ذات المعنى ملحوظا في مرحلة الوضع بنحو اللابشرط القسميّ ؛ لأنّ هذا اللحاظ
والاعتبار الذهنيّ ـ كما تقدّم ـ صرف طريق إلى الحكم على ذات المعنى وهو المصحّح
للموضوع له. وحين الاستعمال في ذات المعنى لا يجب أن يكون المعنى ملحوظا بنحو
اللابشرط القسميّ ، بل يجوز أن يعتبر بأيّ اعتبار كان ما دام الموضوع له ذات
المعنى ، فيجوز في مرحلة الاستعمال أن يقصر النظر على نفسه ويلحظه بما هو هو ،
ويجوز أن يلحظه مقيسا إلى الغير فيعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة. وملاحظة ذات
المعنى بنحو اللابشرط القسميّ حين الوضع تصحيحا له لا توجب أن تكون قيدا للموضوع
له.
وعليه ، فلا يكون
الموضوع له موجودا ذهنيّا ، إذا كان له اعتبار اللابشرط القسميّ حين الوضع ؛ لأنّه
ليس الموضوع له هو المعتبر بما هو معتبر ، بل ذات المعتبر ، كما أنّ استعماله في
المقيّد لا يكون مجازا لما تقدّم أنّه يجوز أن يلحظ ذات المعنى حين الاستعمال
مقيسا إلى الغير ، فيعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة التي منها اعتباره بشرط شيء ،
وهو المقيّد.
تمرينات (٢٨)
١. هل الإطلاق في
أسماء الأجناس وما شابهها بالوضع أو بمقدّمات الحكمة؟ ما قول القدماء؟ وما قول
المتأخّرين؟
٢. بيّن
الاعتبارات الثلاثة للماهيّة ، ومثّل لكلّ منها.
٣. ما الفرق بين «اللابشرط
القسميّ» و «اللابشرط المقسميّ»؟
٤. ما الفرق بين «الماهيّة
المهملة» و «اللابشرط المقسميّ»؟
٥. بيّن اعتبارات
الماهيّة عند الحكم عليها ، ومثّل لكلّ منها.
٦. ما الجواب عن
الإشكال بأنّ الاعتبارات الثلاثة اعتبارات ذهنيّة ، فلو تقيّدت الماهيّة بأحدها
عند ما تؤخذ موضوعة للحكم لبطلت القضايا الخارجية واستحال امتثال التكاليف؟
٧. بيّن أقوال
العلماء في بيان ما وضع له أسماء الأجناس ، وأذكر الراجح منها وسبب بطلان غيره.
المسألة
الخامسة : مقدّمات الحكمة
لمّا ثبت أنّ
الألفاظ موضوعة لذات المعاني ، لا للمعاني بما هي مطلقة ، فلا بدّ في إثبات أنّ
المقصود من اللفظ هو المطلق لتسرية الحكم إلى تمام الأفراد والمصاديق من قرينة
خاصّة أو قرينة عامّة تجعل الكلام في نفسه ظاهرا في إرادة الإطلاق.
وهذه القرينة
العامّة إنمّا تحصل إذا توفّرت جملة مقدّمات تسمّى : «مقدّمات الحكمة». والمعروف
أنّها ثلاث :
الأولى : إمكان الإطلاق والتقييد بأن يكون متعلّق الحكم أو موضوعه
قبل فرض تعلّق الحكم به قابلا للانقسام ، فلو لم يكن قابلا للقسمة إلاّ بعد فرض
تعلّق الحكم به ـ كما في باب قصد القربة ـ فإنّه يستحيل فيه التقييد ، فيستحيل فيه
الإطلاق ـ كما تقدّم في بحث التعبّديّ والتوصّليّ ـ ، وهذا واضح.
الثانية : عدم نصب قرينة على التقييد ، لا متّصلة ولا منفصلة ،
لأنّه مع القرينة المتّصلة لا ينعقد ظهور للكلام إلاّ في المقيّد ، ومع المنفصلة
ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق ، ولكنّه
__________________
يسقط عن الحجّيّة
لقيام القرينة المقدّمة عليه والحاكمة ، فيكون ظهوره ظهورا بدويّا ـ كما قلنا في
تخصيص العموم بالخاصّ المنفصل ـ ، ولا تكون للمطلق الدلالة التصديقيّة الكاشفة عن
مراد المتكلّم ، بل الدلالة التصديقيّة إنمّا هي على إرادة التقييد واقعا.
الثالثة : أن يكون المتكلّم في مقام البيان ، فإنّه لو لم يكن في
هذا المقام بأن كان في مقام التشريع فقط أو كان في مقام الإهمال ، إمّا رأسا أو
لأنّه في صدد بيان حكم آخر ، فيكون في مقام الإهمال من جهة مورد الإطلاق ـ وسيأتي
مثاله ـ فإنّه في كلّ ذلك لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق ؛ أمّا في مقام التشريع
بأن كان في مقام بيان الحكم لا للعمل به فعلا بل لمجرّد تشريعه ، فيجوز ألاّ يبيّن
تمام مراده ، مع أنّ الحكم في الواقع مقيّد بقيد لم يذكره في بيانه انتظارا لمجيء
وقت العمل ، فلا يحرز أنّ المتكلّم في صدد بيان جميع مراده. وكذلك إذا كان
المتكلّم في مقام الإهمال رأسا ؛ فإنّه لا ينعقد معه ظهور في الإطلاق ، كما لا
ينعقد للكلام ظهور في أيّ مرام. ومثله ما إذا كان في صدد حكم آخر ، مثل قوله (تعالى)
: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) الوارد في مقام بيان حلّ صيد الكلاب المعلّمة من جهة كونه ميتة ، وليس هو في
مقام بيان مواضع الإمساك أنّها تتنجّس ، فيجب تطهيرها أم لا ، فلم يكن هو في مقام
بيان هذه الجهة ، فلا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق من هذه الجهة.
ولو شكّ في أنّ
المتكلّم في مقام البيان أو الإهمال ، فإنّ الأصل العقلائيّ يقتضي بأن يكون في
مقام البيان ، فإنّ العقلاء كما يحملون المتكلّم على أنّه ملتفت غير
غافل وجادّ غير هازل عند الشكّ في ذلك ، كذلك يحملونه على أنّه في مقام البيان
والتفهيم ، لا في مقام الإهمال والإيهام.
وإذا تمّت هذه
المقدّمات الثلاث فإنّ الكلام المجرّد عن القيد يكون ظاهرا في الإطلاق ، وكاشفا عن
أنّ المتكلّم لا يريد المقيّد ، وإلاّ لو كان قد أراده واقعا ، لكان عليه البيان ،
والمفروض أنّه حكيم ملتفت جادّ غير هازل ، وهو في مقام البيان ، ولا مانع
__________________
من التقييد حسب
الفرض ، وإذا لم يبيّن ولم يقيّد كلامه فيعلم أنّه أراد الإطلاق وإلاّ لكان مخلاّ
بغرضه.
فاتّضح من ذلك أنّ
كلّ كلام صالح للتقييد ولم يقيّده المتكلّم مع كونه حكيما ملتفتا جادّا وفي مقام
البيان والتفهيم ، فإنّه يكون ظاهرا في الإطلاق ويكون حجّة على المتكلّم والسامع.
تنبيهان
التنبيه الأوّل :
القدر المتيقّن في مقام التخاطب
إنّ الشيخ المحقّق
صاحب الكفاية قدسسره أضاف إلى مقدّمات الحكمة مقدّمة أخرى غير ما تقدّم ، وهي
ألاّ يكون هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب والمحاورة ، وإن كان لا يضرّ وجود القدر المتيقّن خارجا في التمسّك بالإطلاق . ومرجع ذلك إلى أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام المحاورة يكون بمنزلة
القرينة اللفظيّة على التقييد ، فلا ينعقد للّفظ ظهور في الإطلاق مع فرض وجوده.
ولتوضيح البحث
نقول : إنّ كون المتكلّم في مقام البيان يتصوّر على نحوين :
١. أن يكون
المتكلّم في صدد بيان تمام موضوع حكمه ، بأن يكون غرض المتكلّم يتوقّف على أن
يبيّن للمخاطب ويفهمه ما هو تمام الموضوع ، وأنّ ما ذكره هو تمام موضوعه لا غيره.
٢. أن يكون
المتكلّم في صدد بيان تمام موضوع الحكم واقعا ، ولو لم يفهم المخاطب أنّه تمام
الموضوع فليس له غرض إلاّ بيان ذات موضوع الحكم بتمامه حتى يحصل من المكلّف
الامتثال ؛ وإن لم يفهم المكلّف تفصيل الموضوع بحدوده.
فإن كان المتكلّم
في مقام البيان على النحو الأوّل فلا شكّ في أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام
المحاورة لا يضرّ في ظهور المطلق في إطلاقه ، فيجوز التمسّك بالإطلاق ؛ لأنّه
__________________
لو كان القدر المتيقّن
المفروض هو تمام الموضوع ، لوجب بيانه ، وترك البيان اتّكالا على وجود القدر
المتيقّن إخلال بالغرض ؛ لأنّه لا يكون مجرّد ذلك بيانا لكونه تمام الموضوع.
وإن كان المتكلّم
في مقام البيان على النحو الثاني ، فإنّه يجوز أن يكتفي بوجود القدر المتيقّن في
مقام التخاطب لبيان تمام موضوعه واقعا ، ما دام أنّه ليس له غرض إلاّ أن يفهم
المخاطب ذات الموضوع بتمامه لا بوصف التمام ، أي أن يفهم ما هو تمام الموضوع
بالحمل الشائع. وبذلك يحصل التبليغ للمكلّف ويمتثل في الموضوع الواقعيّ ؛ لأنّه هو
المفهوم عنده في مقام المحاورة. ولا يجب في مقام الامتثال أن يفهم أنّ الذي فعله
هو تمام الموضوع أو الموضوع أعمّ منه ومن غيره.
مثلا : لو قال
المولى : «اشتر اللحم» ، وكان القدر المتيقّن في مقام المحاورة هو لحم الغنم ،
وكان هو تمام موضوعه واقعا ، فإنّ وجود هذا القدر المتيقّن كاف لانبعاث المكلّف
وشرائه للحم الغنم ، فيحصل موضوع حكم المولى ، فلو أنّ المولى ليس له غرض أكثر من
تحقيق موضوع حكمه ، فيجوز له الاعتماد على القدر المتيقّن لتحقيق غرضه ولبيانه ،
ولا يحتاج إلى أن يبيّن أنّه تمام الموضوع ؛ أمّا لو كان غرضه أكثر من ذلك بأن كان
غرضه أن يفهم المكلّف تحديد الموضوع بتمامه فلا يجوز له الاعتماد على القدر
المتيقّن ، وإلاّ لكان مخلاّ بغرضه ، فإذا لم يبيّن وأطلق الكلام استكشف أنّ تمام
موضوعه هو المطلق الشامل للقدر المتيقّن وغيره.
إذا عرفت هذا
التقرير فينبغي أن نبحث عمّا ينبغي للآمر أن يكون بصدد بيانه ، هل إنّه على النحو
الأوّل أو الثاني؟
والذي يظهر من
الشيخ صاحب الكفاية قدسسره أنّه لا ينبغي من الآمر أكثر من النحو الثاني ؛ نظرا إلى
أنّه إذا كان بصدد بيان موضوع حكمه حقيقة كفاه ذلك لتحصيل مطلوبه وهو الامتثال.
ولا يجب عليه مع ذلك بيان أنّه تمام الموضوع.
نعم ، إذا كان
هناك قدر متيقّن في مقام المحاورة وكان تمام الموضوع هو المطلق ، فقد يظنّ المكلّف
أنّ القدر المتيقّن هو تمام الموضوع ، وأنّ المولى أطلق كلامه اعتمادا
__________________
على وجوده ؛ فإنّ
المولى دفعا لهذا الوهم يجب عليه أن يبيّن أنّ المطلق هو تمام موضوعه ، وإلاّ كان
مخلاّ بغرضه.
ومن هذا ينتج أنّه
إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام المحاورة وأطلق المولى ولم يبيّن أنّه تمام
الموضوع فإنّه يعرف منه أنّ موضوعه هو القدر المتيقّن.
هذا خلاصة ما ذهب
إليه في الكفاية مع تحقيقه وتوضيحه ، ولكن شيخنا النائينيّ قدسسره ـ على ما يظهر من
التقريرات ـ لم يرتضه ، والأقرب إلى الصحّة ما في الكفاية . ولا نطيل بذكر هذه المناقشة والجواب عنها.
التنبيه الثاني :
الانصراف
اشتهر أنّ انصراف
الذهن من اللفظ إلى بعض مصاديق معناه أو بعض أصنافه يمنع من التمسّك بالإطلاق وإن
تمّت مقدّمات الحكمة ، مثل انصراف المسح في آيتي التيمّم والوضوء إلى المسح باليد وبباطنها خاصّة.
والحقّ أن يقال : إنّ انصراف الذهن إن كان ناشئا من ظهور اللفظ في
المقيّد بمعنى أنّ نفس اللفظ ينصرف إلى المقيّد لكثرة استعماله فيه وشيوع إرادته
منه ، فلا شكّ في أنّه حينئذ لا مجال للتمسّك بالإطلاق ، لأنّ هذا الظهور يجعل
اللفظ بمنزلة المقيّد بالتقييد اللفظيّ ، ومعه لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق
حتّى يتمسّك بأصالة الإطلاق التي هي مرجعها في الحقيقة إلى أصالة الظهور.
وأمّا إذا كان الانصراف
غير ناشئ من اللفظ ، بل كان من سبب خارجيّ ، كغلبة وجود الفرد المنصرف إليه أو
تعارف الممارسة الخارجيّة له ، فيكون مألوفا قريبا إلى الذهن من دون أن يكون للّفظ
تأثير في هذا الانصراف ، كانصراف الذهن من لفظ الماء في العراق
__________________
ـ مثلا ـ إلى ماء
دجلة أو الفرات ، فالحقّ أنّه لا أثر لهذا الانصراف في ظهور اللفظ في إطلاقه ، فلا
يمنع من التمسّك بأصالة الإطلاق ؛ لأنّ هذا الانصراف قد يجتمع مع القطع بعدم إرادة
المقيّد بخصوصه من اللفظ. ولذا يسمّى هذا الانصراف باسم «الانصراف البدويّ» ؛
لزواله عند التأمّل ومراجعة الذهن.
وهذا كلّه واضح لا
ريب فيه. وإنّما الشأن في تشخيص الانصراف أنّه من أيّ النحوين ، فقد يصعب التمييز
أحيانا بينهما للاختلاط على الإنسان في منشأ هذا الانصراف. وما أسهل دعوى الانصراف
على لسان غير المتثبّت ، وقد لا يسهل إقامة الدليل على أنّه من أيّ نوع.
فعلى الفقيه أن
يتثبّت في مواضع دعوى الانصراف ، وهو يحتاج إلى ذوق عال وسليقة مستقيمة. وقلّما
تخلو آية كريمة أو حديث شريف في مسألة فقهيّة عن انصرافات تدّعى. وهنا تظهر قيمة
التضلّع باللغة وفقهها وآدابها. وهو باب يكثر الابتلاء به ، وله الأثر الكبير في
استنباط الأحكام من أدلّتها.
ألا ترى أنّ المسح
في الآيتين ينصرف إلى المسح باليد ، وكون هذا الانصراف مستندا إلى اللفظ لا شكّ
فيه ، وينصرف أيضا إلى المسح بخصوص باطن اليد. ولكن قد يشكّ في كون هذا الانصراف
مستندا إلى اللفظ ؛ فإنّه غير بعيد أنّه ناشئ من تعارف المسح بباطن اليد لسهولته ؛
ولأنّه مقتضى طبع الإنسان في مسحه وليس له علاقة باللفظ. ولذا إنّ جملة من الفقهاء
أفتوا بجواز المسح بظهر اليد عند تعذّر المسح بباطنها تمسّكا بإطلاق الآية ، ولا معنى للتمسّك بالإطلاق لو كان للّفظ ظهور في المقيّد. وأمّا عدم
تجويزهم للمسح بظاهر اليد عند الاختيار فلعلّه للاحتياط ؛ إذ إنّ المسح بالباطن هو
القدر المتيقّن ، والمفروض حصول الشكّ في كون هذا الانصراف بدويّا ، فلا يطمأنّ
كلّ الاطمئنان بالتمسّك بالإطلاق عند الاختيار ، وطريق النجاة هو الاحتياط بالمسح
بالباطن.
__________________
تمرينات (٢٩)
التمرين الأوّل
١. ما هي مقدّمات
الحكمة؟
٢. ما الأصل
العقلائي فيما إذا شكّ في أنّ المتكلّم في مقام البيان أو الإهمال؟
٣. بيّن ما ذهب
إليه المحقّق الخراساني في بيان مقدّمات الحكمة تحقيقا.
٤. هل انصراف
الذهن إلى بعض مصاديق معناه أو بعض أصنافه يمنع من التمسّك بالإطلاق وإن تمّت
مقدّمات الحكمة؟
التمرين الثاني
١. ما هي الأقوال
في مقدّمات الحكمة؟
المسألة
السادسة : المطلق والمقيّد المتنافيان
معنى التنافي بين
المطلق والمقيّد أنّ التكليف في المطلق لا يجتمع مع التكليف في المقيّد مع فرض
المحافظة على ظهورهما معا ، أي أنّهما يتكاذبان في ظهورهما ، مثل قول الطبيب مثلا
: «اشرب لبنا» ، ثمّ يقول : «اشرب لبنا حلوا» ، وظاهر الثاني تعيين شرب الحلو منه
، وظاهر الأوّل جواز شرب غير الحلو حسب إطلاقه.
وإنّما يتحقّق
التنافي بين المطلق والمقيّد إذا كان التكليف فيهما واحدا ، كالمثال المتقدّم ،
فلا يتنافيان لو كان التكليف في أحدهما معلّقا على شيء وفي الآخر معلّقا على شيء
آخر ، كما إذا قال الطبيب في المثال : «إذا أكلت فاشرب لبنا ، وعند الاستيقاظ من
النوم اشرب لبنا حلوا». وكذلك لا يتنافيان لو كان التكليف في المطلق إلزاميّا ،
وفي المقيّد على نحو الاستحباب ، ففي المثال لو وجب أصل شرب اللبن فإنّه لا ينافيه
رجحان الحلو منه باعتبار أنّه أحد أفراد الواجب. وكذا لا يتنافيان لو فهم من
التكليف في المقيّد أنّه تكليف في وجود ثان غير المطلوب من التكليف الأوّل ، كما
إذا فهم من المقيّد في المثال طلب شرب اللبن الحلو ثانيا بعد شرب لبن ما.
إذا فهمت ما سقناه
لك من معنى التنافي ، فنقول : لو ورد في لسان الشارع مطلق ومقيّد متنافيان ، سواء
تقدّم أو تأخّر ، وسواء كان مجيء المتأخّر بعد وقت العمل بالمتقدّم أو قبله ،
فإنّه لا بدّ من الجمع بينهما إمّا بالتصرّف في ظهور المطلق فيحمل على المقيّد ،
أو بالتصرّف في المقيّد على وجه لا ينافي الإطلاق ، فيبقى ظهور المطلق على حاله.
وينبغي البحث هنا
في أنّه أيّ التصرّفين أولى بالأخذ؟ فنقول : هذا يختلف باختلاف الصور فيهما ، فإنّ
المطلق والمقيّد إمّا أن يكونا مختلفين في الإثبات أو النفي ، وإمّا أن يكونا
متّفقين.
الأوّل : أن يكونا مختلفين ، فلا شكّ حينئذ في حمل المطلق على
المقيّد ؛ لأنّ المقيّد يكون قرينة على المطلق ، فإذا قال : «اشرب اللبن» ، ثمّ
قال : «لا تشرب اللبن الحامض» ، فإنّه يفهم منه أنّ المطلوب هو شرب اللبن غير
الحامض. وهذا لا يفرق فيه بين أن يكون
إطلاق المطلق
بدليّا ، نحو قوله : «أعتق رقبة» ، وبين أن يكون شموليّا مثل قوله : «في الغنم
زكاة» ، المقيّد بقوله : «ليس في الغنم المعلوفة زكاة».
الثاني : أن يكونا متّفقين ، وله مقامان : المقام الأوّل : أن
يكون الإطلاق بدليّا ، والمقام الثاني : أن يكون شموليّا.
فإن كان الإطلاق
بدليّا ؛ فإنّ الأمر فيه يدور بين التصرّف في ظاهر المطلق بحمله على المقيّد ،
وبين التصرّف في ظاهر المقيّد. والمعروف أنّ التصرّف
الأوّل هو الأولى ؛ لأنّه لو كانا مثبتين مثل قوله : «أعتق رقبة» و «أعتق رقبة
مؤمنة» فإنّ المقيّد ظاهر في أنّ الأمر فيه للوجوب التعيينيّ ، فالتصرّف فيه إمّا
بحمله على الاستحباب ـ أي أنّ الأمر بعتق الرقبة المؤمنة بخصوصها باعتبار أنّها
أفضل الأفراد ـ أو بحمله على الوجوب التخييريّ ، أي إنّ الأمر بعتق الرقبة المؤمنة
باعتبار أنّه أحد أفراد الواجب ، لا لخصوصيّة فيها حتّى خصوصيّة الأفضليّة.
وهذان التصرّفان
وإن كانا ممكنين ، لكن ظهور المقيّد في الوجوب التعيينيّ مقدّم على ظهور المطلق في
إطلاقه ؛ لأنّ المقيّد صالح لأن يكون قرينة للمطلق ، ولعلّ
المتكلّم اعتمد عليه في بيان مرامه ، ولو في وقت آخر ، لا سيّما مع احتمال أنّ
المطلق الوارد كان محفوفا بقرينة متّصلة غابت عنّا ، فيكون المقيّد كاشفا عنها.
وإن كان الإطلاق
شموليّا ، مثل قوله : «في الغنم زكاة» وقوله : «في الغنم السائمة زكاة» ، فلا
تتحقّق المنافاة بينهما حتّى يجب التصرّف في أحدهما ؛ لأنّ وجوب الزكاة في الغنم
السائمة بمقتضى الجملة الثانية لا ينافي وجوب الزكاة في غير السائمة ، إلاّ على
القول بدلالة الوصف على المفهوم ، وقد عرفت أنّه لا مفهوم للوصف. وعليه فلا منافاة
بين الجملتين لنرفع بها اليد عن إطلاق المطلق.
__________________
تمرينات (٣٠)
١. ما معنى
التنافي بين المطلق والمقيّد؟
٢. بيّن صور
التنافي بين المطلق والمقيّد ، واذكر حكم كلّ منها.
٣. بيّن وجه عدم
التنافي في الجملتين التاليتين :
ألف) قال الطبيب :
«إذا أكلت فاشرب لبنا» ثمّ قال : «عند الاستيقاظ من النوم اشرب لبنا حلوا».
ب) قال : «في
الغنم زكاة» ثمّ قال : «في الغنم السائمة زكاة».
الباب السابع
المجمل
والمبيّن
وفيه مسألتان :
١. معنى
المجمل والمبيّن
عرّفوا المجمل
اصطلاحا بـ «أنّه ما لم تتّضح دلالته » ، ويقابله
المبيّن. وقد ناقشوا هذا التعريف بوجوه لا طائل في ذكرها. والمقصود من المجمل ـ على
كلّ حال ـ ما جهل فيه مراد المتكلّم ومقصوده إذا كان لفظا ، وما جهل فيه مراد
الفاعل ومقصوده إذا كان فعلا ؛ ومرجع ذلك إلى أنّ المجمل هو اللفظ أو الفعل الذي
لا ظاهر له ، وعليه يكون المبيّن ما كان له ظاهر يدلّ على مقصود قائله
أو فاعله على وجه الظنّ أو اليقين. فالمبيّن يشمل الظاهر والنصّ معا.
ومن هذا البيان
نعرف أنّ المجمل يشمل اللفظ والفعل اصطلاحا ، وإن قيل : إنّ المجمل اصطلاحا مختصّ
بالألفاظ ، ومن باب التسامح يطلق على الفعل ، ومعنى كون الفعل مجملا أن يجهل وجه
وقوعه ، كما لو توضّأ الإمام ـ مثلا ـ بحضور واحد يتّقي منه أو
يحتمل أنّه يتّقيه ، فيحتمل أنّ وضوءه وقع على وجه التقيّة ، فلا يستكشف مشروعيّة
الوضوء على الكيفيّة التي وقع عليها ، ويحتمل أنّه وقع على وجه الامتثال للأمر الواقعيّ
فيستكشف منه
__________________
مشروعيّته. ومثل
ما إذا فعل الإمام شيئا في الصلاة كجلسة الاستراحة ـ مثلا ـ فلا يدرى أنّ فعله كان
على وجه الوجوب أو الاستحباب ، فمن هذه الناحية يكون مجملا ، وإن كان من ناحية
دلالته على جواز الفعل في مقابل الحرمة مبيّنا.
وأمّا اللفظ :
فإجماله يكون لأسباب كثيرة قد يتعذّر إحصاؤها ؛ فإذا كان مفردا
فقد يكون إجماله لكونه لفظا مشتركا ولا قرينة على أحد معانيه ، كلفظ «عين» ، وكلمة
«تضرب» المشتركة بين المخاطب والغائبة ، و «المختار» المشترك بين اسم الفاعل واسم
المفعول.
وقد يكون إجماله
لكونه مجازا ، أو لعدم معرفة عود الضمير فيه الذي هو من نوع «مغالطة المماراة» ،
مثل قول القائل لمّا سئل عن أفضل أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فقال : «من بنته في بيته» وكقول عقيل : «أمرني معاوية أن
أسبّ عليّا. ألا فالعنوه! ».
وقد يكون الإجمال
لاختلال التركيب كقوله :
وما مثله في
الناس إلاّ مملّكا
|
|
أبو أمّه حيّ
أبوه يقاربه
|
وقد يكون الإجمال
لوجود ما يصلح للقرينة ، كقوله (تعالى) : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) الآية ، فإنّ هذا الوصف في الآية يدلّ على عدالة جميع من كان مع النبيّ صلىاللهعليهوآله من أصحابه ، إلاّ أنّ ذيل الآية (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) صالح لأن يكون قرينة على أنّ المراد بجملة «والّذين معه» بعضهم لا جميعهم ،
فتصبح الآية مجملة من هذه الجهة.
وقد يكون الإجمال
لكون المتكلّم في مقام الإهمال والإجمال ، إلى غير ذلك من موارد الإجمال ممّا لا
فائدة كبيرة في إحصائه وتعداده هنا.
__________________
ثمّ اللفظ قد يكون
مجملا عند شخص ، مبيّنا عند شخص آخر ، ثمّ المبيّن قد يكون في نفسه مبيّنا ، وقد
يكون مبيّنا بكلام آخر يوضح المقصود منه.
٢. المواضع التي
وقع الشكّ في إجمالها
لكلّ من المجمل
والمبيّن أمثلة من الآيات والروايات والكلام العربيّ لا حصر لها ، ولا تخفى على
العارف بالكلام. إلاّ أنّ بعض المواضع قد وقع الشكّ في كونها مجملة أو مبيّنة ،
والمتعارف عند الأصوليّين أن يذكروا بعض الأمثلة من ذلك لشحذ الذهن والتمرين ،
ونحن نذكر بعضها اتّباعا لهم ولا تخلو من فائدة للطلاّب المبتدئين.
فمنها : قوله (تعالى) : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ).
فقد ذهب جماعة إلى أنّ الآية من المجمل المتشابه ، إمّا من جهة لفظ «القطع» باعتبار أنّه
يطلق على الإبانة ، ويطلق على الجرح كما يقال لمن جرح يده بالسكين : «قطعها» ، كما
يقال لمن أبانها كذلك. وإمّا من جهة لفظ «اليد» باعتبار أنّ «اليد» تطلق على العضو
المعروف كلّه ، وعلى الكفّ إلى أصول الأصابع ، وعلى العضو إلى الزند ، وإلى المرفق
، فيقال ـ مثلا ـ : «تناولت بيدي» ، وإنّما تناول بالكفّ بل بالأنامل فقط.
والحقّ أنّها من ناحية لفظ «القطع» ليست مجملة ؛ لأنّ المتبادر من
لفظ «القطع» هو الإبانة والفصل ، وإذا أطلق على الجرح فباعتبار أنّه أبان قسما من
اليد ، فتكون المسامحة في لفظ «اليد» عند وجود القرينة ، لا أنّ القطع استعمل في
مفهوم الجرح ؛ فيكون المراد في المثال من اليد بعضها ، كما تقول : «تناولت بيدي»
وفي الحقيقة إنّما تناولت ببعضها.
وأمّا من ناحية «اليد»
فإنّ الظاهر أنّ اللفظ ـ لو خلّي ونفسه ـ يستفاد منه إرادة تمام العضو المخصوص ،
ولكنّه غير مراد يقينا في الآية ، فيتردّد بين المراتب العديدة من الأصابع إلى
المرفق ؛ لأنّه بعد فرض عدم إرادة تمام العضو لم تكن ظاهرة في واحدة من
__________________
هذه المراتب ،
فتكون الآية مجملة في نفسها من هذه الناحية ، وإن كانت مبيّنة بالأحاديث عن آل
البيت عليهمالسلام الكاشفة عن إرادة القطع من أصول الأصابع.
ومنها : قوله صلىاللهعليهوآله : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » وأمثاله من المركّبات التي تشتمل على كلمة «لا» التي لنفي الجنس نحو : «لا
صلاة إلاّ بطهور » ، و «لا بيع إلاّ في ملك » ، و «لا صلاة لمن جاره المسجد إلاّ في المسجد » ، و «لا غيبة لفاسق » ، و «لا جماعة في نافلة » ، ونحو ذلك.
فإنّ النفي في مثل
هذه المركّبات موجّه ظاهرا لنفس الماهيّة والحقيقة ، وقالوا : إنّ إرادة نفي
الماهيّة متعذّر فيها ، فلا بدّ أن يقدّر ـ بطريق المجاز ـ وصف للماهيّة هو
المنفيّ حقيقة ، نحو : الصحّة ، والكمال ، والفضيلة ، والفائدة ، ونحو ذلك. ولمّا
كان المجاز مردّدا بين عدّة معان ، كان الكلام مجملا ، ولا قرينة في نفس اللفظ
تعيّن واحدا منها ، فإنّ نفي الصحّة ليس بأولى من نفي الكمال أو الفضيلة ، ولا نفي
الكمال بأولى من نفي الفائدة ... وهكذا.
وأجاب بعضهم بأنّ هذا إنّما يتمّ إذا كانت ألفاظ العبادات والمعاملات موضوعة للأعمّ ، فلا
يمكن فيها نفي الحقيقة.
وأمّا : إذا قلنا
بالوضع للصحيح فلا يتعذّر نفي الحقيقة ، بل هو المتعيّن على الأكثر ، فلا إجمال.
وأمّا : في غير
الألفاظ الشرعيّة مثل قولهم : «لا علم إلاّ بعمل» فمع عدم القرينة يكون
__________________
اللفظ مجملا ؛ إذ
يتعذّر نفي الحقيقة.
أقول : والصحيح في توجيه البحث أن يقال : إنّ «لا» في هذه
المركّبات لنفي الجنس ، فهي تحتاج إلى اسم وخبر على حسب ما تقتضيه القواعد
النحويّة ؛ ولكنّ الخبر محذوف حتّى في مثل : «لا غيبة لفاسق» ، فإنّ «لفاسق» ظرف
مستقرّ متعلّق بالخبر المحذوف ؛ وهذا الخبر المحذوف لا بدّ له من قرينة ، سواء كان
كلمة «موجود» أو «صحيح» أو «مفيد» أو «كامل» أو «نافع» أو نحوها ، وليس هو مجازا
في واحد من هذه الأمور التي يصحّ تقديرها.
والقصد أنّه سواء
كان المراد نفي الحقيقة أو نفي الصحّة ونحوها ؛ فإنّه لا بدّ من تقدير خبر محذوف
بقرينة ، وإنّما يكون مجملا إذا تجرّد عن القرينة ؛ ولكنّ الظاهر أنّ القرينة
حاصلة على الأكثر ، وهي القرينة العامّة في مثله ؛ فإنّ الظاهر من نفي الجنس أنّ
المحذوف فيه هو لفظ «موجود» وما بمعناه من نحو لفظ «ثابت» و «متحقّق».
فإذا تعذّر تقدير
هذا اللفظ العامّ لأيّ سبب كان ، فإنّ هناك قرينة موجودة غالبا وهي مناسبة الحكم
والموضوع ؛ فإنّها تقتضي غالبا تقدير لفظ خاصّ مناسب مثل «لا علم إلاّ بعمل» ؛
فإنّ المفهوم منه أنّه لا علم نافع ، والمفهوم من
نحو : «لا غيبة لفاسق» لا غيبة محرّمة ، والمفهوم من نحو : «لا رضاع بعد فطام » لا رضاع سائغ ، ومن نحو : «لا جماعة في نافلة » لا جماعة مشروعة ، ومن نحو : «لا إقرار لمن أقرّ بنفسه على الزنا» لا إقرار
نافذ ومعتبر ، ومن نحو : «لا صلاة إلاّ بطهور» ـ بناء على الوضع للأعمّ ـ لا صلاة
صحيحة ، ومن نحو : «لا صلاة لحاقن » لا صلاة كاملة ـ
بناء على قيام الدليل على أنّ الحاقن لا تفسد صلاته ـ ... وهكذا.
وهذه القرينة ـ وهي
قرينة مناسبة الحكم للموضوع ـ لا تقع تحت ضابطة معيّنة ، ولكنّها
__________________
موجودة على الأكثر
، ويحتاج إدراكها إلى ذوق سليم.
تنبيه وتحقيق
ليس من البعيد أن
يقال : إنّ المحذوف في جميع مواقع «لا» التي هي لنفي الجنس هو كلمة «موجود» أو ما
هو بمعناها ، غاية الأمر أنّه في بعض الموارد تقوم القرينة على عدم إرادة نفي
الوجود والتحقّق حقيقة ، فلا بدّ حينئذ من حملها على نفي التحقّق ادّعاء وتنزيلا ،
بأن ننزّل الموجود منزلة المعدوم باعتبار عدم حصول الأثر المرغوب فيه أو المتوقّع
منه ـ يعني يدّعى أنّ الموجود الخارجيّ ليس من أفراد الجنس الذي تعلّق به النفي
تنزيلا ، وذلك لعدم حصول الأثر المطلوب منه ـ ، فمثل «لا علم إلاّ بعمل» معناه أنّ
العلم بلا عمل كلا علم ؛ إذ لم تحصل الفائدة المترقّبة منه ، ومثل «لا إقرار لمن
أقرّ بنفسه على الزنا» معناه أنّ إقراره كلا إقرار باعتبار عدم نفوذه عليه ، ومثل «لا
سهو لمن كثر عليه السهو» معناه أنّ سهوه كلا سهو باعتبار عدم ترتّب آثار السهو
عليه من سجود أو صلاة أو بطلان الصّلاة.
هذا إذا كان النفي
من جهة تكوين الشيء.
وأمّا : إذا كان
النفي راجعا إلى عالم التشريع فإن كان النفي متعلّقا بالفعل ، دلّ نفيه على عدم
ثبوت حكمه في الشريعة ، مثل «لا رهبانيّة في الإسلام » فإنّ معنى عدم ثبوتها عدم تشريع الرهبانيّة وأنّه غير مرخّص بها ، ومثل «لا
غيبة لفاسق» ، فإنّ معنى عدم ثبوتها عدم حرمة غيبة الفاسق ، وكذلك نحو : [«لا نجش
في الإسلام»] «ولا غشّ في الإسلام» ، و «لا عمل في
الصّلاة» ، و «لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ » ، و «لا جماعة في نافلة» ، فإنّ كلّ ذلك معناه عدم مشروعيّة هذه الأفعال.
وإن كان النفي
متعلّقا بعنوان يصحّ انطباقه على الحكم ، فيدلّ النفي على عدم تشريع
__________________
حكم ينطبق عليه
هذا العنوان ، كما في قوله صلىاللهعليهوآله : «لا حرج في الدين » و «لا ضرر ولا
ضرار في الإسلام ».
وعلى كلّ حال ،
فإنّ مثل هذه الجمل والمركّبات ليست مجملة في حدّ
أنفسها ، وقد يتّفق لها أن تكون مجملة إذا جرّدت عن القرينة التي تعيّن أنّها لنفي
تحقّق الماهيّة حقيقة أو لنفيها ادّعاء وتنزيلا.
ومنها : مثل قوله (تعالى) : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ ) وقوله (تعالى) : (أُحِلَّتْ
لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) ممّا أسند الحكم
فيه ـ كالتحريم والتحليل ـ إلى العين.
فقد قال بعضهم بإجمالها ؛ نظرا إلى أنّ إسناد التحريم والتحليل لا يصحّ إلاّ إلى الأفعال
الاختياريّة. أمّا : الأعيان فلا معنى لتعلّق الحكم بها ، بل يستحيل. ولذا تسمّى
الأعيان «موضوعات للأحكام» ، كما أنّ الأفعال تسمّى «متعلّقات».
وعليه ، فلا بدّ
أن يقدّر في مثل هذه المركّبات فعل تصحّ إضافته إلى العين المذكورة في الجملة ،
ويصحّ أن يكون متعلّقا للحكم ، ففي مثل الآية الأولى يقدّر كلمة «نكاح» مثلا ، وفي
الثانية «أكل» ، وفي مثل (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ
ظُهُورُها ) يقدّر «ركوبها» ،
وفي مثل (النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ ) يقدّر «قتلها» ... وهكذا.
ولكنّ التركيب في
نفسه ليس فيه قرينة على تعيين نوع المحذوف ، فيكون في حدّ نفسه مجملا ، فلا يدرى
فيه هل إنّ المقدّر كلّ فعل تصحّ إضافته إلى العين المذكورة في
__________________
الجملة ، ويصحّ
تعلّق الحكم به ، أو أنّ المقدّر فعل مخصوص كما قدّرناه في الأمثلة المتقدّمة؟
والصحيح في هذا
الباب أن يقال : إنّ نفس التركيب ـ مع قطع النظر عن ملاحظة الموضوع والحكم وعن
أيّة قرينة خارجيّة ـ هو في نفسه يقتضي الإجمال لو لا أنّ الإطلاق يقتضي تقدير كلّ
فعل صالح للتقدير ، إلاّ إذا قامت قرينة خاصّة على تعيين نوع الفعل المقدّر.
وغالبا لا يخلو مثل هذا التركيب من وجود القرينة الخاصّة ولو قرينة مناسبة الحكم
والموضوع. ويشهد لذلك أنّا لا نتردّد في تقدير الفعل المخصوص في الأمثلة المذكورة
في صدر البحث ومثيلاتها ، وما ذلك إلاّ لما قلناه من وجود القرينة الخاصّة ولو
مناسبة الحكم والموضوع.
ويشبه أن يكون هذا
الباب نظير باب «لا» المحذوف خبرها.
ألهمنا الله (تعالى)
الصواب ، ودفع عنّا الشبهات ، وهدانا الصراط المستقيم.
تمرينات (٣١)
١. ما تعريف
المجمل والمبيّن؟
٢. اذكر خمسة
أسباب من أسباب إجمال اللفظ ، ومثّل لكلّ منها.
٣. الإجمال في
قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُما) من جهة لفظ «اليد» أو من جهة لفظ «القطع»؟
٤. ما المراد من
قرينة مناسبة الحكم والموضوع؟
٥. ما هو المقدّر
فيما يلي؟
أ) قوله تعالى : (حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ).
ب) قوله تعالى : (أُحِلَّتْ
لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ).
ج) قوله تعالى : (أَنْعامٌ
حُرِّمَتْ ظُهُورُها).
د) قوله تعالى : (النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللهُ).
المقصد الثاني
الملازمات
العقليّة
بسم الله
الرحمن الرحيم
تمهيد
من الأدلّة على
الحكم الشرعيّ عند الأصوليّين الإماميّة «العقل» ، إذ
يذكرون أنّ الأدلّة على الأحكام الشرعيّة الفرعيّة أربعة : الكتاب ، والسنّة ،
والإجماع ، والعقل.
وسيأتي في «مباحث
الحجّة» وجه حجيّة العقل .
أمّا هنا فإنّما
يبحث عن تشخيص صغريات ما يحكم به العقل المفروض أنّه حجّة ، أي يبحث هنا عن مصاديق
أحكام العقل الذي هو دليل على الحكم الشرعيّ. وهذا نظير البحث في المقصد الأوّل (مباحث
الألفاظ) عن مصاديق أصالة الظهور التي هي حجّة ، وحجّيتها إنّما يبحث عنها في
مباحث الحجّة.
وتوضيح ذلك أنّ
هنا مسألتين :
١. إنّه إذا حكم
العقل على شيء أنّه حسن شرعا أو يلزم فعله شرعا ، أو يحكم على شيء أنّه قبيح شرعا
أو يلزم تركه شرعا بأيّ طريق من الطرق التي سيأتي بيانها ، هل يثبت بهذا الحكم العقليّ حكم الشرع؟ أي إنّه من حكم العقل هذا هل يستكشف
أنّ الشارع واقعا قد حكم بذلك؟ ومرجع ذلك إلى أنّ حكم العقل هذا هل هو حجّة أو لا؟
وهذا البحث ـ كما قلنا ـ إنّما يذكر في مباحث الحجّة ، وليس هنا موقعه. وسيأتي
بيان إمكان
__________________
حصول القطع بالحكم
الشرعيّ من غير الكتاب والسنّة ، وإذا حصل ، كيف يكون حجّة؟
٢. إنّه هل للعقل
أن يدرك بطريق من الطرق أنّ هذا الشيء مثلا حسن شرعا أو قبيح أو يلزم فعله أو تركه
عند الشارع؟ يعني أنّ العقل بعد إدراكه لحسن الأفعال أو لزومها ، ولقبح الأشياء أو
لزوم تركها في أنفسها بأيّ طريق من الطرق ... هل يدرك مع ذلك أنّها كذلك عند
الشارع؟
وهذا المقصد
الثاني ـ الذي سمّيناه : «بحث الملازمات العقليّة» ـ عقدناه لأجل بيان ذلك في
مسائل على النحو الذي سيأتى إن شاء الله (تعالى) ، ويكون فيه تشخيص صغريات حجيّة
العقل المبحوث عنها في المقصد الثالث (مباحث الحجّة).
ثمّ لا بدّ ـ قبل
تشخيص هذه الصغريات في مسائل ـ من ذكر أمرين يتعلّقان بالأحكام العقليّة مقدّمة
للبحث ، نستعين بها على المقصود ، وهما :
١. أقسام
الدليل العقليّ
إنّ الدليل
العقليّ ـ أو فقل : ما يحكم به العقل الذي يثبت به الحكم الشرعيّ ـ ينقسم إلى
قسمين : ما يستقلّ به العقل ، وما لا يستقلّ به.
وبتعبير آخر نقول
: إنّ الأحكام العقليّة على قسمين : مستقلات ، وغير مستقلاّت.
وهذه التعبيرات
كثيرا ما تجري على ألسنة الأصوليّين ويقصدون بها المعنى الذي سنوضّحه. وإن كان قد
يقولون : «إنّ هذا ممّا يستقلّ به العقل» ولا يقصدون هذا المعنى ، بل يقصدون به
معنى آخر ، وهو ما يحكم به العقل بالبداهة وإن كان ليس من المستقلاّت العقليّة
بالمعنى الآتي.
__________________
__________________
وعلى كلّ حال ،
فإنّ هذا التقسيم يحتاج إلى شيء من التوضيح ، فنقول :
إنّ العلم بالحكم
الشرعيّ ، كسائر العلوم لا بدّ له من علّة ؛ لاستحالة وجود الممكن بلا علّة. وعلّة
العلم التصديقيّ لا بدّ أن تكون من أحد أنواع الحجّة الثلاثة : القياس ، أو
الاستقراء ، أو التمثيل. وليس الاستقراء ممّا يثبت به الحكم الشرعيّ ، وهو واضح.
والتمثيل ليس بحجّة عندنا ؛ لأنّه هو القياس المصطلح عليه عند الأصوليّين الذي هو
ليس من مذهبنا.
فيتعيّن أن تكون
العلّة للعلم بالحكم الشرعيّ هي خصوص القياس باصطلاح المناطقة ، وإذا كان كذلك
فإنّ كلّ قياس لا بدّ أن يتألّف من مقدّمتين ، سواء كان استثنائيّا أو اقترانيّا. وهاتان
المقدّمتان قد تكونان معا غير عقليّتين ، فالدليل الذي يتألّف منهما يسمّى «دليلا
شرعيّا» في قبال الدليل العقليّ. ولا كلام لنا في هذا القسم هنا. وقد تكون كلّ
منهما أو إحداهما عقليّة ـ أي ممّا يحكم العقل به من غير اعتماد على حكم شرعيّ ـ ،
فإنّ الدليل الذي يتألّف منهما يسمّى «عقليّا» ، وهو على قسمين :
١. أن تكون
المقدّمتان معا عقليّتين ، كحكم العقل بحسن شيء أو قبحه ، ثمّ حكمه بأنّه كلّ ما
حكم به العقل حكم به الشرع على طبقه. وهو القسم الأوّل من الدليل العقليّ ، وهو
قسم «المستقلاّت العقليّة».
٢. أن تكون إحدى
المقدّمتين غير عقليّة والأخرى عقليّة ، كحكم العقل بوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها
، فهذه مقدّمة عقليّة صرفة ، وينضمّ إليها حكم الشرع بوجوب ذي المقدّمة. وانّما
يسمّى الدليل الذي يتألّف منهما «عقليّا» لأجل تغليب جانب المقدّمة العقليّة. وهذا
هو القسم الثاني من الدليل العقليّ ، وهو قسم «غير المستقلاّت العقليّة». وانّما
سمّي بذلك ؛ لأنّه ـ من الواضح ـ أنّ العقل لم يستقلّ وحده في الوصول إلى النتيجة
، بل استعان بحكم الشرع في إحدى مقدّمتي القياس.
٢. لما ذا
سمّيت هذه المباحث بالملازمات العقليّة؟
المراد بالملازمة
العقليّة هنا ، هو حكم العقل بالملازمة بين حكم الشرع وبين أمر آخر ، سواء كان
حكما عقليّا أو شرعيّا أو غيرهما ، مثل : الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ
الذي يلزمه عقلا
سقوط الأمر الاختياريّ لو زال الاضطرار في الوقت أو خارجه على ما سيأتي ذلك في
مبحث «الإجزاء» .
وقد يخفى على
الطالب لأوّل وهلة الوجه في تسمية مباحث الأحكام العقليّة بـ «الملازمات العقليّة»
، لا سيّما فيما يتعلّق بالمستقلاّت العقليّة ، ولذلك وجب علينا أن نوضّح ذلك ،
فنقول :
١. أمّا في
المستقلاّت العقليّة : فيظهر بعد بيان المقدّمتين اللتين يتألّف منهما الدليل
العقليّ ، وهما ـ مثلا ـ :
الأولى : «العدل يحسن فعله عقلا». وهذه قضيّة عقليّة صرفة هي صغرى
القياس. وهي من المشهورات التي تطابقت عليها آراء العقلاء التي تسمّى «الآراء
المحمودة». وهذه قضيّة تدخل في مباحث علم الكلام عادة ، وإذا بحث عنها هنا فمن باب
المقدّمة للبحث عن الكبرى الآتية.
الثانية : «كلّ ما يحسن فعله عقلا يحسن فعله شرعا». وهذه قضيّة
عقليّة أيضا يستدلّ عليها بما سيأتي في محلّه ، وهي كبرى للقياس ، ومضمونها
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وهذه الملازمة مأخوذة من دليل عقليّ ، فهي
ملازمة عقليّة ، وما يبحث عنه في علم الأصول فهو هذه الملازمة ، ومن أجل هذه
الملازمة تدخل المستقلاّت العقليّة في الملازمات العقليّة.
ولا ينبغي أن
يتوهّم الطالب أنّ هذه الكبرى معناها حجّيّة العقل ، بل نتيجة هاتين المقدّمتين
هكذا : «العدل يحسن فعله شرعا» ، وهذا الاستنتاج بدليل عقليّ. وقد ينكر المنكر
أنّه يلزم شرعا ترتيب الأثر على هذا الاستنتاج والاستكشاف ، وسنذكر إن شاء الله (تعالى) في حينه الوجه في هذا الانكار الذي مرجعه إلى
إنكار حجّيّة العقل .
__________________
والحاصل نحن نبحث في المستقلاّت العقليّة عن مسألتين : إحداهما :
الصغرى ، وهي بيان المدركات العقليّة في الأفعال الاختياريّة [و] أنّه أيّها ينبغي
فعله وأيّها لا ينبغي فعله؟ ثانيتهما : الكبرى ، وهي بيان أنّ ما يدركه العقل هل
لا بدّ أن يدركه الشرع ، أي يحكم على طبق ما يحكم به العقل؟ وهذه هي المسألة
الأصوليّة التي هي من الملازمات العقليّة. ومن هاتين المسألتين نهيّئ موضوع مبحث
حجّيّة العقل.
٢. وأمّا في «غير
المستقلاّت العقليّة» فأيضا يظهر الحال فيها بعد بيان المقدّمتين اللتين يتألّف
منهما الدليل العقليّ. وهما ـ مثلا ـ :
الأولى : «هذا الفعل واجب» أو «هذا المأتيّ به ، مأمور به في حال
الاضطرار». فمثل هذه القضايا تثبت في علم الفقه ، فهي شرعيّة.
الثانية : «كلّ فعل واجب شرعا يلزمه عقلا وجوب مقدّمته شرعا» أو «يلزمه
عقلا حرمة ضدّه شرعا» أو «كلّ مأتيّ به ـ وهو مأمور به حال الاضطرار ـ يلزمه عقلا
الإجزاء عن المأمور به حال الاختيار» ... وهكذا. فإنّ أمثال هذه القضايا أحكام
عقليّة مضمونها الملازمة العقليّة بين ما يثبت شرعا في القضيّة الأولى وبين حكم
شرعيّ آخر. وهذه الأحكام العقليّة هي التي يبحث عنها في علم الأصول. ومن أجل هذا
تدخل في باب الملازمات العقليّة.
الخلاصة
ومن جميع ما ذكرنا
يتّضح أنّ المبحوث عنه في الملازمات العقليّة هو إثبات الكبريات العقليّة التي تقع
في طريق إثبات الحكم الشرعيّ ، سواء كانت الصغرى عقليّة ، كما في المستقلاّت
العقليّة ، أو شرعيّة ، كما في غير المستقلاّت العقليّة.
أمّا الصغرى :
فدائما يبحث عنها في علم آخر غير علم الأصول ، كما أنّ الكبرى يبحث عنها في علم
الأصول ، وهي عبارة عن ملازمة حكم الشرع لشيء آخر بالملازمة العقليّة ،
سواء كان ذلك الشيء الآخر حكما شرعيّا أم حكما عقليّا أم غيرهما. والنتيجة من
__________________
الصغرى والكبرى
هاتين تقع صغرى لقياس آخر كبراه حجّيّة العقل ، ويبحث عن هذه الكبرى في مباحث
الحجّة.
وعلى هذا فينحصر
بحثنا هنا في بابين : «باب المستقلاّت العقليّة» ، و «باب غير المستقلاّت العقليّة»
، فنقول :
تمرينات (٣٢)
١. ما هو محلّ
البحث في الملازمات العقليّة؟
٢. ما الفرق بين
المستقلاّت العقليّة وغير المستقلاّت العقليّة؟
٣. لما ذا سمّيت
هذه المباحث بالملازمات العقليّة؟
الباب الأوّل
المستقلاّت
العقليّة
تمهيد
الظاهر انحصار
المستقلاّت العقليّة ـ التي يستكشف منها الحكم الشرعيّ ـ في مسألة واحدة ، وهي
مسألة التحسين والتقبيح العقليّين. وعليه ، يجب علينا أن نبحث عن هذه المسألة من
جميع أطرافها بالتفصيل ، لا سيّما أنّه لم يبحث عنها في كتب الأصول الدارجة ،
فنقول :
وقع البحث هنا في
أربعة أمور متلاحقة :
١. إنّه هل تثبت
للأفعال ـ مع قطع النظر عن حكم الشارع وتعلّق خطابه بها ـ أحكام عقليّة من حسن
وقبح؟ أو إن شئت فقل : للأفعال حسن وقبح بحسب ذواتها ، ولها قيم ذاتيّة في نظر العقل
قبل فرض حكم الشارع عليها ، أو ليس لها ذلك ، وإنّما الحسن ما حسّنه الشارع
والقبيح ما قبّحه ، والفعل مطلقا في حدّ نفسه من دون حكم الشارع ليس حسنا ولا
قبيحا؟
وهذا هو الخلاف
الأصيل بين الأشاعرة والعدليّة ، وهو مسألة التحسين والتقبيح العقليّين المعروفة
في علم الكلام ، وعليها تترتّب مسألة الاعتقاد بعدالة الله (تعالى) وغيرها. وإنّما
سمّيت العدليّة «عدليّة» لقولهم بأنّه (تعالى) عادل ، بناء على مذهبهم في ثبوت
الحسن والقبح العقليّين.
ونحن نبحث عن هذه
المسألة هنا باعتبار أنّها من المبادئ لمسألتنا الأصوليّة كما أشرنا إلى ذلك فيما
سبق.
٢. إنّه بعد فرض
القول بأنّ للأفعال في حدّ أنفسها حسنا وقبحا ، هل يتمكّن العقل من إدراك وجوه
الحسن والقبح مستقلاّ عن تعليم الشارع وبيانه أو لا؟ وعلى تقدير تمكّنه ، هل
للمكلّف أن يأخذ به بدون بيان الشارع وتعليمه أو ليس له ذلك إمّا مطلقا أو في بعض
الموارد؟
وهذه المسألة هي
إحدى نقط الخلاف المعروفة بين الأصوليّين وجماعة من الأخباريّين ، وفيها تفصيل من بعضهم على ما يأتي . وهي أيضا ليست
من مباحث علم الأصول ، ولكنّها من المبادئ لمسألتنا الأصوليّة الآتية ؛ لأنّه بدون
القول بأنّ العقل يدرك وجوه الحسن والقبح لا تتحقّق عندنا صغرى القياس التي
تكلّمنا عنها سابقا.
ولا ينبغي أن يخفى
عليكم أنّ تحرير هذه المسألة سببه المغالطة التي وقعت لبعضهم ، وإلاّ فبعد تحرير المسألة الأولى على وجهها الصحيح ـ كما سيأتي ـ لا يبقى
مجال لهذا النزاع. فانتظر توضيح ذلك في محلّه القريب.
٣. إنّه بعد فرض
أنّ للأفعال حسنا وقبحا وأنّ العقل يدرك الحسن والقبح ، يصحّ أن ننتقل إلى التساؤل
عمّا إذا كان العقل يحكم أيضا بالملازمة بين حكمه وحكم الشرع ، بمعنى أنّ العقل
إذا حكم بحسن شيء أو قبحه هل يلزم عنده عقلا أن يحكم الشارع على طبق حكمه؟
وهذه هي المسألة
الأصوليّة المعبّر عنها بمسألة الملازمة التي وقع فيها النزاع ، فأنكر
__________________
الملازمة جملة من
الأخباريّين وبعض الأصوليّين كصاحب الفصول .
٤. إنّه بعد ثبوت
الملازمة وحصول القطع بأنّ الشارع لا بدّ أن يحكم على طبق ما حكم به العقل فهل هذا
القطع حجّة شرعا؟
ومرجع هذا النزاع
إلى ثلاث نواح :
الأولى : في إمكان أن ينفي الشارع حجيّة هذا القطع وينهى عن الأخذ
به.
الثانية : بعد فرض إمكان نفي الشارع حجيّة القطع هل نهى عن الأخذ
بحكم العقل وإن استلزم القطع كقول الإمام عليهالسلام : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» على تقدير تفسيره بذلك؟
والنزاع في هاتين
الناحيتين وقع مع الأخباريّين جلّهم أو كلّهم.
الثالثة : بعد فرض عدم إمكان نفي الشارع حجّيّة القطع هل معنى حكم
الشارع على طبق حكم العقل هو أمره ونهيه ، أو أنّ حكمه إدراكه وعلمه بأنّ هذا
الفعل ينبغي فعله أو تركه ، وهو شيء آخر غير أمره ونهيه ، فإثبات أمره ونهيه يحتاج
إلى دليل آخر ، ولا يكفي القطع بأنّ الشارع حكم بما حكم به العقل؟
وعلى كلّ حال ،
فإنّ الكلام في هذه النواحي سيأتي في مباحث الحجّة (المقصد الثالث) وهو النزاع في حجّيّة العقل. وعليه ، فنحن نتعرّض هنا للمباحث الثلاثة الأولى
، ونترك المبحث الرابع بنواحيه إلى المقصد الثالث.
المبحث
الأوّل : التحسين والتقبيح العقليّان
اختلف الناس في
حسن الأفعال وقبحها هل إنّهما عقليّان أو شرعيّان ، بمعنى أنّ الحاكم بهما هل هو
العقل أو الشرع؟
فقالت الأشاعرة :
لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها ، وليس الحسن والقبح عائدين
__________________
إلى أمر حقيقيّ
حاصل فعلا قبل ورود بيان الشارع ، بل إنّ ما حسّنه الشارع فهو حسن وما قبّحه
الشارع فهو قبيح ، فلو عكس الشارع القضيّة فحسّن ما قبّحه وقبّح ما حسّنه لم يكن
ممتنعا وانقلب الأمر فصار القبيح حسنا والحسن قبيحا ، ومثّلوا لذلك بالنسخ من
الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة .
وقالت العدليّة :
إنّ للأفعال قيما ذاتيّة عند العقل مع قطع النظر عن حكم الشارع ، فمنها : ما هو
حسن في نفسه ، ومنها : ما هو قبيح في نفسه ، ومنها : ما ليس له هذان الوصفان. والشارع
لا يأمر إلاّ بما هو حسن ، ولا ينهى إلاّ عمّا هو قبيح ، فالصدق في نفسه حسن
ولحسنه أمر الله (تعالى) به ، لا أنّه أمر الله (تعالى) به فصار حسنا ، والكذب في
نفسه قبيح ولذلك نهى الله (تعالى) عنه ، لا أنّه نهى عنه فصار قبيحا .
هذه خلاصة
الرأيين. وأعتقد عدم اتّضاح رأي الطرفين بهذا البيان ، ولا تزال نقط غامضة في
البحث إذا لم نبيّنها بوضوح لا نستطيع أن نحكم لأحد الطرفين. وهو أمر ضروريّ
مقدّمة للمسألة الأصوليّة ، ولتوقّف وجوب المعرفة عليه. فلا بدّ من بسط البحث
بأوسع ممّا أخذنا على أنفسنا من الاختصار في هذا الكتاب ؛ لأهمّيّة هذا الموضوع من
جهة ؛ ولعدم إعطائه حقّه من التنقيح في أكثر الكتب الكلاميّة والأصوليّة من جهة
أخرى.
وأكلّفكم قبل
الدخول في هذا البحث بالرجوع إلى ما حرّرته في الجزء الثالث من المنطق عن القضايا
المشهورات ؛ لتستعينوا به على ما هنا.
والآن أعقد البحث
هنا في أمور :
١. معنى الحسن
والقبح وتصوير النزاع فيهما
إنّ الحسن والقبح
لا يستعملان بمعنى واحد ، بل لهما ثلاثة معان ، فأيّ هذه المعاني هو
__________________
موضوع النزاع؟
فنقول :
أوّلا : قد يطلق الحسن والقبح ويراد بهما الكمال والنقص. ويقعان
وصفا بهذا المعنى للأفعال الاختياريّة ولمتعلّقات الأفعال ، فيقال ـ مثلا ـ : «العلم
حسن ، والتعلّم حسن» ، وبضدّ ذلك يقال : «الجهل قبيح ، وإهمال التعلّم قبيح».
ويراد بذلك أنّ العلم والتعلّم كمال للنفس وتطوّر في وجودها ، وأنّ الجهل وإهمال
التعلّم نقصان فيها وتأخّر في وجودها.
وكثير من الأخلاق
الإنسانيّة حسنها وقبحها باعتبار هذا المعنى ، فالشجاعة والكرم والحلم والعدالة
والإنصاف ونحو ذلك إنّما حسنها باعتبار أنّها كمال للنفس وقوّة في وجودها. وكذلك
أضدادها قبيحة ؛ لأنّها نقصان في وجود النفس وقوّتها. ولا ينافي ذلك أنّه يقال
للأولى : «حسنة» وللثانية : «قبيحة» باعتبار معنى آخر من المعنيين الآتيين.
وليس للأشاعرة
ظاهرا نزاع في الحسن والقبح بهذا المعنى ، بل جملة منهم يعترفون بأنّهما عقليّان ؛ لأنّ هذه من القضايا اليقينيّات التي وراءها واقع خارجيّ تطابقه ، على ما
سيأتي .
ثانيا : إنّهما قد يطلقان ويراد بهما الملاءمة للنفس والمنافرة
لها ، ويقعان وصفا بهذا المعنى أيضا للأفعال ومتعلّقاتها من أعيان وغيرها.
فيقال في
المتعلّقات : «هذا المنظر حسن جميل» ، «هذا الصوت حسن مطرب» ، «هذا المذوق حلو حسن»
... وهكذا.
ويقال في الأفعال
: «نوم القيلولة حسن» ، «الأكل عند الجوع حسن» و «الشرب بعد العطش حسن» ... وهكذا.
وكلّ هذه الأحكام
لأنّ النفس تلتذّ بهذه الأشياء وتتذوّقها لملاءمتها لها. وبضدّ ذلك يقال في
المتعلّقات والأفعال : «هذا المنظر قبيح» ، «ولولة النائحة قبيحة» ، «النوم على
الشبع
__________________
قبيح» ... وهكذا.
وكلّ ذلك ؛ لأنّ النفس تتألّم أو تشمئزّ من ذلك.
فيرجع معنى الحسن
والقبح ـ في الحقيقة ـ إلى معنى اللذّة والألم ، أو فقل : «إلى معنى الملاءمة
للنفس وعدمها» ، ما شئت فعبّر ، فإنّ المقصود واحد.
ثمّ إنّ هذا المعنى
من الحسن والقبح يتّسع إلى أكثر من ذلك ؛ فإنّ الشيء قد لا يكون في نفسه ما يوجب
لذّة أو ألما ، ولكنّه بالنظر إلى ما يعقبه من أثر تلتذّ به النفس أو تتألّم منه
يسمّى أيضا : «حسنا» أو «قبيحا» ، بل قد يكون الشيء في نفسه قبيحا تشمئزّ منه
النفس ، كشرب الدواء المرّ ، ولكنّه باعتبار ما يعقبه من الصحّة والراحة ـ التي هي
أعظم بنظر العقل من ذلك الألم الوقتيّ ـ يدخل فيما يستحسن ، كما قد يكون الشيء
بعكس ذلك حسنا تلتذّ به النفس ، كالأكل اللذيذ المضرّ بالصحّة ، ولكن باعتبار ما
يعقبه ـ من مرض أعظم من اللذّة الوقتيّة ـ يدخل فيما يستقبح.
والإنسان بتجاربه
الطويلة وبقوّة تمييزه العقليّ يستطيع أن يصنّف الأشياء والأفعال إلى ثلاثة أصناف
: ما يستحسن ، وما يستقبح ، وما ليس له هاتان المزيّتان. ويعتبر هذا التقسيم بحسب
ما له من الملاءمة والمنافرة ولو بالنظر إلى الغاية القريبة أو البعيدة التي هي قد
تسمو عند العقل على ما له من لذّة وقتيّة أو ألم وقتيّ ، كمن
يتحمّل المشاقّ الكثيرة ويقاسي الحرمان في سبيل طلب العلم ، أو الجاه ، أو الصحّة
، أو المال ، وكمن يستنكر بعض اللذّات الجسديّة استكراها لشؤم عواقبها.
وكلّ ذلك يدخل في
الحسن والقبح بمعنى الملائم وغير الملائم ، قال القوشجيّ في شرحه للتجريد عن هذا
المعنى : «وقد يعبّر عنهما ـ أي الحسن والقبح ـ بالمصلحة والمفسدة فيقال : الحسن
ما فيه مصلحة ، والقبيح ما فيه مفسدة ، وما خلا منهما لا يكون شيئا منهما» .
وهذا راجع إلى ما
ذكرناه ، وليس المقصود أنّ للحسن والقبح معنى آخر ـ بمعنى ما له المصلحة أو
المفسدة ـ غير معنى الملاءمة والمنافرة ، فإنّ استحسان المصلحة إنّما يكون
__________________
للملاءمة واستقباح
المفسدة للمنافرة.
وهذا المعنى من
الحسن والقبح أيضا ليس للأشاعرة فيه نزاع ، بل هما عندهم بهذا المعنى عقليّان ، أي ممّا يدركه العقل من غير توقّف على حكم الشرع. ومن توهّم أنّ النزاع بين
القوم في هذا المعنى ، فقد ارتكب شططا ولم يفهم كلامهم.
ثالثا : أنّهما يطلقان ويراد بهما المدح والذمّ ، ويقعان وصفا
بهذا المعنى للأفعال الاختياريّة فقط. ومعنى ذلك : أنّ الحسن ما استحقّ فاعله عليه
المدح والثواب عند العقلاء كافّة ، والقبيح ما استحقّ عليه فاعله الذمّ والعقاب
عندهم كافّة.
وبعبارة أخرى :
إنّ الحسن ما ينبغي فعله عند العقلاء ـ أي إنّ العقل عند الكلّ يدرك أنّه ينبغي
فعله ـ ، والقبيح ما ينبغي تركه عندهم ، أي إنّ العقل عند الكلّ يدرك أنّه لا
ينبغي فعله أو ينبغي تركه.
وهذا الإدراك
للعقل هو معنى حكمه بالحسن والقبح ، وسيأتي توضيح هذه النقطة ، فإنّها مهمّة جدّا
في الباب.
وهذا المعنى
الثالث هو موضوع النزاع فالأشاعرة أنكروا أن يكون للعقل إدراك ذلك من دون الشرع ،
وخالفتهم العدليّة ، فأعطوا للعقل هذا الحقّ من الإدراك.
تنبيه : وممّا يجب أن يعلم هنا أنّ الفعل الواحد قد يكون حسنا أو
قبيحا بجميع المعاني الثلاثة ، كالتعلّم والحلم والإحسان ، فإنّها كمال للنفس ،
وملائمة لها باعتبار ما لها من نفع ومصلحة ، وممّا ينبغي أن يفعلها الإنسان عند
العقلاء.
وقد يكون الفعل
حسنا بأحد المعاني ، قبيحا أو ليس بحسن بالمعنى الآخر ، كالغناء ـ مثلا ـ ، فإنّه
حسن بمعنى الملاءمة للنفس ، ولذا يقولون عنه : «إنّه غذاء للروح» ، وليس حسنا بالمعنى الأوّل أو الثالث ، فإنّه لا يدخل عند العقلاء بما هم
عقلاء فيما ينبغي أن يفعل
__________________
وليس كمالا للنفس
، وإن كان هو كمالا للصوت بما هو صوت ، فيدخل في المعنى الأوّل للحسن من هذه الجهة
؛ ومثله التدخين أو ما تعتاده النفس من المسكرات والمخدّرات ، فإنّ هذه حسنة بمعنى
الملاءمة فقط ، وليس كمالا للنفس ولا ممّا ينبغي فعلها عند العقلاء بما هم عقلاء.
٢. واقعيّة الحسن
والقبح في معانيهما ورأى الأشاعرة
إنّ الحسن بالمعنى
الأوّل ـ أي الكمال ـ ، وكذا مقابله ـ أي القبح ـ أمر واقعيّ خارجيّ لا يختلف
باختلاف الأنظار والأذواق ، ولا يتوقّف على وجود من يدركه ويعقله ، بخلاف الحسن [والقبح]
بالمعنيين الأخيرين.
وهذا ما يحتاج إلى
التوضيح والتفصيل ، فنقول :
١. أمّا الحسن
بمعنى الملاءمة ، وكذا ما يقابله ، فليس له في نفسه إزاء في الخارج يحاذيه ويحكي
عنه ، وإن كان منشؤه قد يكون أمرا خارجيّا ، كاللون والرائحة والطعم وتناسق
الأجزاء ونحو ذلك.
بل حسن الشيء
يتوقّف على وجود الذوق العامّ أو الخاصّ ، فإنّ الإنسان هو الذي يتذوّق المنظور أو
المسموع أو المذوق بسبب ما عنده من ذوق يجعل هذا الشيء ملائما لنفسه فيكون حسنا
عنده ، أو غير ملائم فيكون قبيحا عنده. فإذا اختلفت الأذواق في الشيء كان حسنا عند
قوم ، قبيحا عند آخرين. وإذا اتّفقوا في ذوق عامّ ، كان ذلك الشيء حسنا عندهم
جميعا ، أو قبيحا كذلك.
والحاصل : أنّ الحسن ـ بمعنى الملائم ـ ليس صفة واقعيّة للأشياء
كالكمال ، وليس واقعيّة هذه الصفة إلاّ إدراك الإنسان وذوقه ، فلو لم يوجد إنسان
يتذوّق ولا من يشبهه في ذوقه لم يكن للأشياء في حدّ أنفسها حسن بمعنى الملاءمة.
وهذا مثل ما
يعتقده الرأي الحديث في الألوان ، إذ يقال : إنّها لا واقع لها ، بل هي تحصل من
انعكاسات أطياف الضوء على الأجسام ، ففي الظلام حيث لا ضوء ليست هناك ألوان
__________________
موجودة بالفعل ،
بل الموجود حقيقة أجسام فيها صفات حقيقيّة هي منشأ لانعكاس الأطياف عند وقوع الضوء
عليها ، وليس كلّ واحد من الألوان إلاّ طيفا أو أطيافا فأكثر تركّبت.
وهكذا نقول في حسن
الأشياء وجمالها بمعنى الملاءمة ، والشيء الواقعيّ فيها ما هو منشأ الملاءمة في
الأشياء ، كالطعم والرائحة ونحوهما ، الذي هو كالصفة في الجسم ، إذ تكون منشأ
لانعكاس أطياف الضوء. كما أنّ نفسي اللذّة والألم أيضا أمران واقعيّان ، ولكن ليسا
هما الحسن والقبح اللذين هما من صفات الأشياء ، واللذّة والألم من صفات النفس
المدركة للحسن والقبح.
٢. وأمّا الحسن
بمعني ما ينبغي أن يفعل عند العقل ، فكذلك ليس له واقعيّة إلاّ إدراك العقلاء ، أو
فقل : «تطابق آراء العقلاء». والكلام فيه كالكلام في الحسن بمعنى الملاءمة. وسيأتي
تفصيل معنى تطابق العقلاء على المدح والذمّ أو إدراك العقل للحسن والقبح .
وعلى هذا ، فإن
كان غرض الأشاعرة من إنكار الحسن والقبح إنكار واقعيّتهما بهذا المعنى من
الواقعيّة فهو صحيح ، ولكن هذا بعيد من أقوالهم ؛ لأنّه لمّا كانوا يقولون بحسن
الأفعال وقبحها بعد حكم الشارع فإنّه يعلم منه أنّه ليس غرضهم ذلك ؛ لأنّ حكم
الشارع لا يجعل لهما واقعيّة وخارجيّة ؛ كيف؟ وقد رتّبوا على ذلك بأنّ وجوب
المعرفة والطاعة ليس بعقليّ بل شرعيّ. وإن كان غرضهم إنكار إدراك العقل ـ كما هو
الظاهر من أقوالهم ـ فسيأتي تحقيق الحقّ فيه ، وأنّهم ليسوا
على صواب في ذلك.
٣. العقل العمليّ
والنظريّ
إنّ المراد من
العقل ـ إذ يقولون : إنّ العقل يحكم بحسن الشيء أو قبحه بالمعنى الثالث من الحسن
والقبح ـ هو «العقل العمليّ» في مقابل «العقل النظريّ».
وليس الاختلاف بين
العقلين إلاّ بالاختلاف بين المدركات ، فإن كان المدرك ـ بالفتح ـ
__________________
ممّا ينبغي أن
يفعل أو لا يفعل مثل «حسن العدل وقبح الظلم» ، فيسمّى إدراكه : «عقلا عمليّا» ،
وإن كان المدرك ممّا ينبغي أن يعلم مثل قولهم : «الكلّ أعظم من الجزء» الذي لا
علاقة له بالعمل فيسمّى إدراكه : «عقلا نظريّا».
ومعنى حكم العقل ـ
على هذا ـ ليس إلاّ إدراك أنّ الشيء ممّا ينبغي أن يفعل أو يترك. وليس للعقل إنشاء
بعث وزجر ، ولا أمر ونهي ، إلاّ بمعنى أنّ هذا الإدراك يدعو العقل إلى العمل ، أي
يكون سببا لحدوث الإرادة في نفسه للعمل وفعل ما ينبغي ؛ إذن ، المراد من الأحكام
العقليّة هي مدركات العقل العمليّ وآراؤه.
ومن هنا تعرف أنّ
المراد من العقل المدرك للحسن والقبح بالمعنى الأوّل هو العقل النظريّ ؛ لأنّ الكمال
والنقص ممّا ينبغي أن يعلم ، لا ممّا ينبغي أن يعمل. نعم ، إذا أدرك العقل كمال
الفعل أو نقصه ، فإنّه يدرك معه أنّه ينبغي فعله أو تركه ، فيستعين العقل العمليّ
بالعقل النظريّ. أو فقل : «يحصّل العقل العمليّ فعلا بعد حصول العقل النظريّ».
وكذا المراد من
العقل المدرك للحسن والقبح بالمعنى الثاني هو العقل النظريّ ؛ لأنّ الملاءمة
وعدمها ، أو المصلحة والمفسدة ممّا ينبغي أن يعلم ، ويستتبع ذلك إدراك أنّه ينبغي
الفعل أو الترك على طبق ما علم.
ومن العجيب ما جاء
في جامع السعادات ؛ إذ يقول ـ ردّا على الشيخ الرئيس خرّيت هذه الصناعة ـ : «إنّ
مطلق الإدراك والإرشاد إنّما هو من العقل النظريّ ، فهو بمنزلة المشير الناصح ،
والعقل العمليّ بمنزلة المنفّذ المجري لإشاراته» .
وهذا منه خروج عن
الاصطلاح ، وما ندري ما يقصد من العقل العمليّ إذا كان الإرشاد والنصح للعقل
النظريّ؟ وليس هناك عقلان في الحقيقة كما قدّمنا ، بل هو عقل واحد ، ولكنّ
الاختلاف في مدركاته ومتعلّقاته ، وللتمييز بين الموارد يسمّى تارة : «عمليّا»
وأخرى «نظريّا» ؛ وكأنّه يريد من العقل العمليّ نفس التصميم والإرادة للعمل ،
وتسمية الإرادة عقلا وضع جديد في اللغة.
__________________
٤. أسباب حكم
العقل العمليّ بالحسن والقبح
إنّ الإنسان إذ
يدرك أنّ الشيء ينبغي فعله فيمدح فاعله ، أو لا ينبغي فعله فيذمّ فاعله ، لا يحصل
له الإدراك جزافا واعتباطا ، وهذا شأن كلّ ممكن حادث ، بل لا بدّ له من سبب ؛
وسببه بالاستقراء أحد أمور خمسة نذكرها هنا لنذكر ما يدخل منها في محلّ النزاع في
مسألة التحسين والتقبيح العقليّين ، فنقول :
الأوّل : أن يدرك أنّ هذا الشيء كمال للنفس أو نقص لها ، فإنّ
إدراك العقل لكماله أو نقصه يدفعه للحكم بحسن فعله أو قبحه ، كما تقدّم قريبا ؛ تحصيلا لذلك الكمال أو دفعا لذلك النقص.
الثاني : أن يدرك ملاءمة الشيء للنفس أو عدمها إمّا بنفسه أو لما
فيه من نفع عامّ أو خاصّ ، فيدرك حسن فعله أو قبحه تحصيلا للمصلحة أو دفعا
للمفسدة.
وكلّ من هذين
الإدراكين ـ أعني إدراك الكمال أو النقص ، وإدراك الملاءمة أو عدمها ـ يكون على
نحوين :
١. أن يكون
الإدراك لواقعة جزئيّة خاصّة ، فيكون حكم الإنسان بالحسن والقبح بدافع المصلحة
الشخصيّة. وهذا الإدراك لا يكون بقوّة العقل ؛ لأنّ العقل شأنه إدراك الأمور
الكلّيّة لا الأمور الجزئيّة ، بل إنّما يكون إدراك الجزئيّة بقوّة الحسّ أو الواهم
أو الخيال ، وإن كان مثل هذا الإدراك قد يستتبع مدحا أو ذمّا لفاعله ولكن هذا
المدح أو الذّم لا ينبغي أن يسمّى «عقليّا» ، بل قد يسمّى ـ بالتعبير الحديث ـ «عاطفيّا»
؛ لأنّ سببه تحكيم العاطفة الشخصيّة ، ولا بأس بهذا التعبير.
٢. أن يكون
الإدراك لأمر كلّيّ ، فيحكم الإنسان بحسن الفعل لكونه كمالا للنفس ، كالعلم
والشجاعة ، أو لكونه فيه مصلحة نوعيّة ، كمصلحة العدل لحفظ النظام وبقاء النوع
الإنسانيّ. فهذا الإدراك إنّما يكون بقوّة العقل بما هو عقل ، فيستتبع مدحا من
جميع العقلاء.
وكذا في إدراك قبح
الشيء باعتبار كونه نقصا للنفس ، كالجهل ، أو لكونه فيه مفسدة
__________________
نوعيّة ، كالظلم ،
فيدرك العقل بما هو عقل ذلك ويستتبع ذمّا من جميع العقلاء. فهذا المدح والذمّ إذا
تطابقت عليه آراء جميع العقلاء باعتبار تلك المصلحة أو المفسدة النوعيّتين ، أو
باعتبار ذلك الكمال أو النقص النوعيّين فإنّه يعتبر من الأحكام العقليّة التي هي
موضع النزاع. وهو معنى الحسن والقبح العقليّين الذي هو محلّ النفي والإثبات.
وتسمّى هذه الأحكام العقليّة العامّة «الآراء المحمودة» و «التأديبات الصلاحيّة».
وهي من قسم القضايا المشهورات التي هي قسم برأسه في مقابل القضايا الضروريّات.
فهذه القضايا غير معدودة من قسم الضروريّات ، كما توهّمه بعض الناس ومنهم الأشاعرة ، كما سيأتي في دليلهم . وقد أوضحت ذلك
في الجزء الثالث من المنطق في مبادئ القياسات ، فراجع .
ومن هنا يتّضح لكم
جيّدا أنّ العدليّة ـ إذ يقولون بالحسن والقبح العقليّين ـ يريدون أنّ الحسن
والقبح من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة المعدودة من التأديبات الصلاحيّة ،
وهي التي تطابقت عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء.
والقضايا المشهورة
ليس لها واقع وراء تطابق الآراء ـ أي إنّ واقعها ذلك ـ. فمعنى حسن العدل أو العلم
عندهم أنّ فاعله ممدوح لدى العقلاء ، ومعنى قبح الظلم والجهل أنّ فاعله مذموم
لديهم.
ويكفينا شاهدا على
ما نقول ـ من دخول أمثال هذه القضايا في المشهورات الصرفة التي لا واقع لها إلاّ
الشهرة ، وأنّها ليست من قسم الضروريّات ـ ما قاله الشيخ الرّئيس في منطق الإشارات
: «ومنها الآراء المسمّاة بالمحمودة. وربّما خصّصناها باسم المشهورة ؛ إذ لا عمدة
لها إلاّ الشهرة ، وهي آراء لو خلّي الإنسان وعقله المجرّد ووهمه وحسّه ولم يؤدّب
بقبول قضاياها والاعتراف بها ... لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو
__________________
حسّه ، مثل حكمنا
بأنّ سلب مال الإنسان قبيح ، وأنّ الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه ...» . وهكذا وافقه شارحها العظيم الخواجه نصير الدين الطوسي .
الثالث : ومن أسباب الحكم بالحسن والقبح «الخلق الإنسانيّ»
الموجود في كلّ إنسان على اختلافهم في أنواعه ، نحو خلق الكرم والشجاعة ، فإنّ
وجود هذا الخلق يكون سببا لإدراك أنّ أفعال الكرم ـ مثلا ـ ممّا ينبغي فعلها فيمدح
فاعلها ، وأفعال البخل ممّا ينبغي تركها فيذمّ فاعلها.
وهذا الحكم من
العقل قد لا يكون من جهة المصلحة العامّة أو المفسدة العامّة ولا من جهة الكمال
للنفس أو النقص ، بل بدافع الخلق الموجود.
وإذا كان هذا
الخلق عامّا بين جميع العقلاء ، يكون هذا الحسن والقبح مشهورين بينهم تتطابق
عليهما آراؤهم. ولكن إنّما يدخل في محلّ النزاع إذا كان الخلق من جهة أخرى فيه
كمال للنفس أو مصلحة عامّة نوعيّة ، فيدعو ذلك إلى المدح والذمّ. ويجب الرجوع في
هذا القسم إلى ما ذكرته من «الخلقيّات» في المنطق لتعرف توجيه قضاء الخلق الإنسانيّ بهذه المشهورات.
الرابع : ومن أسباب الحكم بالحسن والقبح «الانفعال النفسانيّ» ،
نحو الرقّة والرحمة والشفقة والحياء والأنفة والحميّة والغيرة ... إلى غير ذلك من
انفعالات النفس التي لا يخلو منها إنسان غالبا.
فنرى الجمهور يحكم
بقبح تعذيب الحيوان اتّباعا لما في الغريزة من الرقّة والعطف. والجمهور يمدح من
يعين الضعفاء والمرضى ويعني برعاية الأيتام والمجانين بل الحيوانات ؛ لأنّه مقتضى
الرحمة والشفقة. ويحكم بقبح كشف العورة والكلام البذيء ؛ لأنّه مقتضى الحياء.
ويمدح المدافع عن الأهل والعشيرة والوطن والأمّة ؛ لأنّه مقتضى الغيرة والحميّة ...
إلى غير ذلك من أمثال هذه الأحكام العامّة بين الناس.
__________________
ولكن هذا الحسن
والقبح لا يعدّان حسنا وقبحا عقليّين ، بل ينبغي أن يسمّيا «عاطفيّين» أو «انفعاليّين».
وتسمّى القضايا هذه عند المنطقيّين بـ «الانفعاليّات». ولأجل هذا لا يدخل هذا
الحسن والقبح في محلّ النزاع مع الأشاعرة ، ولا نقول نحن بلزوم متابعة الشرع
للجمهور في هذه الأحكام ؛ لأنّه ليس للشارع هذه الانفعالات ؛ بل يستحيل وجودها فيه
؛ لأنّها من صفات الممكن. وإنّما نحن نقول بملازمة حكم الشارع لحكم العقل بالحسن
والقبح في الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحيّة ـ على ما سيأتي ـ ، فباعتبار أنّ الشارع من العقلاء بل رئيسهم ، بل خالق العقل فلا بدّ أن
يحكم بحكمهم بما هم عقلاء ، ولكن لا يجب أن يحكم بحكمهم بما هم عاطفيّون. ولا نقول
: إنّ الشارع يتابع الناس في أحكامهم متابعة مطلقة.
الخامس : ومن الأسباب «العادة عند الناس» ، كاعتيادهم احترام
القادم ـ مثلا ـ بالقيام له ، واحترام الضيف بالطعام ، فيحكمون لأجل ذلك بحسن
القيام للقادم وإطعام الضيف.
والعادات العامّة
كثيرة ومتنوّعة ، فقد تكون العادة تختصّ بأهل بلد أو قطر أو أمّة ، وقد تعمّ جميع
الناس في جميع العصور أو في عصر. فتختلف لأجل ذلك ، القضايا التي يحكم بها بحسب
العادة ، فتكون مشهورة عند القوم الذين لهم تلك العادة دون غيرهم.
وكما يمدح الناس
المحافظين على العادات العامّة يذمّون المستهينين بها ، سواء كانت العادة حسنة من
ناحية عقليّة أو عاطفيّة أو شرعيّة ، أو سيّئة قبيحة من إحدى هذه النواحي ، فتراهم
يذمّون من يرسل لحيته إذا اعتادوا حلقها ويذمّون الحليق إذا اعتادوا إرسالها ،
وتراهم يذمّون من يلبس غير المألوف عندهم لمجرّد أنّهم لم يعتادوا لبسه ، بل ربّما
يسخرون به أو يعدّونه مارقا.
وهذا الحسن والقبح
أيضا ليسا عقليّين ، بل ينبغي أن يسمّيا «عاديّين» ؛ لأنّ منشأهما العادة. وتسمّى
القضايا فيهما في عرف المناطقة «العاديّات». ولذا لا يدخل أيضا هذا الحسن والقبح
في محلّ النزاع. ولا نقول نحن ـ أيضا ـ بلزوم متابعة الشارع للناس في أحكامهم هذه
؛ لأنّهم لم يحكموا فيها بما هم عقلاء بل بما هم معتادون ، أي بدافع العادة.
__________________
نعم ، بعض العادات
قد يكون موضوعا لحكم الشارع ، مثل حكمه بحرمة لباس الشهرة ، أي اللباس غير المعتاد
لبسه عند الناس ، ولكن هذا الحكم لا لأجل المتابعة لحكم الناس ، بل لأنّ مخالفة
الناس في زيّهم على وجه يثير فيهم السخريّة والاشمئزاز فيها مفسدة موجبة لحرمة هذا
اللباس شرعا ، وهذا شيء آخر غير ما نحن فيه.
فتحصّل من جميع ما
ذكرنا ـ وقد أطلنا الكلام لغرض كشف الموضوع كشفا تامّا ـ أنّه ليس كلّ حسن وقبح
بالمعنى الثالث موضوعا للنزاع مع الأشاعرة ، بل خصوص ما كان سببه إدراك كمال الشيء
أو نقصه على نحو كلّي ، وما كان سببه إدراك ملاءمته أو عدمها على نحو كلّي أيضا من
جهة مصلحة نوعيّة أو مفسدة نوعيّة ؛ فإنّ الأحكام العقليّة الناشئة من هذه الأسباب
هي أحكام للعقلاء بما هم عقلاء ، وهي التي ندّعي فيها أنّ الشارع لا بدّ أن
يتابعهم في حكمهم. وبهذا تعرف ما وقع من الخلط في كلام جملة من الباحثين عن هذا
الموضوع.
٥. معنى الحسن
والقبح الذاتيّين
إنّ الحسن والقبح
بالمعنى الثالث ينقسمان إلى ثلاثة أقسام :
١. ما هو علّة
للحسن والقبح ، ويسمّى الحسن والقبح فيه بـ «الذاتيّين» ، مثل العدل والظلم ،
والعلم والجهل ؛ فإنّ العدل بما هو عدل لا يكون إلاّ حسنا أبدا ، أي إنّه متى ما
صدق عنوان العدل فإنّه لا بدّ أن يمدح عليه فاعله عند العقلاء ويعدّ عندهم محسنا ،
وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلاّ قبيحا ، أي إنّه متى ما صدق عنوان الظلم فإنّ
فاعله مذموم عندهم ويعدّ مسيئا.
٢. ما هو مقتض
لهما ، ويسمّى الحسن والقبح فيه بـ «العرضيّين» ، مثل تعظيم الصديق وتحقيره ، فإنّ
تعظيم الصديق ـ لو خلّي ونفسه ـ فهو حسن ممدوح عليه ، وتحقيره كذلك قبيح لو خلّي
ونفسه ؛ ولكن تعظيم الصديق بعنوان أنّه تعظيم الصديق يجوز أن يكون قبيحا مذموما ،
كما إذا كان سببا لظلم ثالث ، بخلاف العدل فإنّه يستحيل أن يكون قبيحا مع بقاء صدق
عنوان العدل. كذلك تحقير الصديق بعنوان أنّه تحقير له يجوز أن يكون حسنا
ممدوحا عليه ، كما
إذا كان سببا لنجاته ، ولكن يستحيل أن يكون الظلم حسنا مع بقاء صدق عنوان الظلم.
٣. ما لا علّية له
ولا اقتضاء فيه في نفسه للحسن والقبح أصلا ، وإنّما قد يتّصف بالحسن تارة إذا
انطبق عليه عنوان حسن ، كالعدل ، وقد يتّصف بالقبح أخرى إذا انطبق عليه عنوان قبيح
، كالظلم. وقد لا ينطبق عليه عنوان أحدهما فلا يكون حسنا ولا قبيحا ، كالضرب ـ مثلا
ـ ، فإنّه حسن للتأديب ، وقبيح للتشفّي ، ولا حسن ولا قبيح كضرب غير ذي الروح.
ومعنى كون الحسن
أو القبح ذاتيّا أنّ العنوان المحكوم عليه بأحدهما بما هو في نفسه وفي حدّ ذاته
يكون محكوما به ، لا من جهة اندراجه تحت عنوان آخر. فلا يحتاج إلى واسطة في
اتّصافه بأحدهما.
ومعنى كونه مقتضيا
لأحدهما أنّ العنوان ليس في حدّ ذاته متّصفا به ، بل بتوسّط عنوان آخر ، ولكنّه ـ لو
خلّي وطبعه ـ كان داخلا تحت العنوان الحسن أو القبيح ، ألا ترى تعظيم الصديق ـ لو
خلّي ونفسه ـ يدخل تحت عنوان العدل الذي هو حسن في ذاته ، أي بهذا الاعتبار تكون
له مصلحة نوعيّة عامّة ؛ أمّا لو كان سببا لهلاك نفس محترمة كان قبيحا ؛ لأنّه
يدخل حينئذ بما هو تعظيم الصديق تحت عنوان الظلم ولا يخرج عن عنوان كونه تعظيما
للصديق.
وكذلك يقال في
تحقير الصديق ، فإنّه ـ لو خلّي ونفسه ـ يدخل تحت عنوان الظلم الذي هو قبيح بحسب
ذاته ، أي بهذا الاعتبار تكون له مفسدة نوعيّة عامّة ؛ فلو كان سببا لنجاة نفس
محترمة كان حسنا ؛ لأنّه يدخل حينئذ تحت عنوان العدل ، ولا يخرج عن عنوان كونه
تحقيرا للصديق.
وأمّا العناوين
التي من القسم الثالث فليست في حدّ ذاتها لو خلّيت وأنفسها داخلة تحت عنوان حسن أو
قبيح ، فلذلك لا تكون لها علّيّة ولا اقتضاء.
وعلى هذا يتّضح
معنى العلّيّة والاقتضاء هنا ، فإنّ المراد من العلّيّة أنّ العنوان بنفسه هو تمام
موضوع حكم العقلاء بالحسن أو القبح. والمراد من الاقتضاء أنّ العنوان ـ لو خلّي
وطبعه ـ يكون داخلا فيما هو موضوع لحكم العقلاء بالحسن أو القبح. وليس المراد من
العلّيّة
والاقتضاء ما هو معروف من معناهما أنّه بمعنى التأثير والإيجاد ، فإنّه من
البديهيّ أنّه لا علّيّة ولا اقتضاء لعناوين الأفعال في أحكام العقلاء إلاّ من باب
علّيّة الموضوع لمحموله.
٦. أدلّة الطرفين
بتقديم الأمور
السابقة نستطيع أن نواجه أدلّة الطرفين بعين بصيرة ؛ لنعطي الحكم العادل لأحدهما
ونأخذ النتيجة المطلوبة. ونحن نبحث عن ذلك في عدّة موادّ ، فنقول :
١. إنّا ذكرنا أنّ
قضيّة الحسن والقبح من القضايا المشهورات ، وأشرنا إلى ما كنتم درستموه في الجزء
الثالث من المنطق من أنّ المشهورات قسم يقابل الضروريّات الستّ كلّها. ومنه نعرف
المغالطة في دليل الأشاعرة ، وهو أهمّ أدلّتهم ؛ إذ يقولون :
«لو كانت قضيّة
الحسن والقبح ممّا يحكم به العقل لما كان فرق بين حكمه في هذه القضيّة وبين حكمه
بأنّ الكلّ أعظم من الجزء. ولكنّ الفرق موجود قطعا ؛ إذ الحكم الثاني لا يختلف فيه
اثنان مع وقوع الاختلاف في الأوّل» .
وهذا الدليل من
نوع القياس الاستثنائيّ قد استثني فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدّم.
والجواب
عنه : أنّ المقدّمة
الأولى ـ وهي الجملة الشرطيّة ـ ممنوعة ، ومنعها يعلم ممّا تقدّم آنفا ؛ لأنّ
قضيّة الحسن والقبح ـ كما قلنا ـ من المشهورات ، وقضيّة أنّ الكلّ أعظم من الجزء
من الأوّليّات اليقينيّات ، فلا ملازمة بينهما. وليس هما من باب واحد حتّى يلزم من
كون القضيّة الأولى ممّا يحكم به العقل ألاّ يكون فرق بينها وبين القضية الثانية. وينبغي
أن نذكر جميع الفروق بين المشهورات هذه وبين الأوّليّات ، ليكون أكثر وضوحا بطلان
قياس إحداهما على الأخرى. والفارق من وجوه ثلاثة :
الأوّل : أنّ الحاكم في قضايا التأديبات العقل العمليّ ، والحاكم
في الأوّليّات العقل النظريّ.
__________________
الثاني : أنّ القضيّة التأديبيّة لا واقع لها إلاّ تطابق آراء
العقلاء ، والأوّليّات لها واقع خارجيّ.
الثالث : أنّ القضيّة التأديبيّة لا يجب أن يحكم بها كلّ عاقل لو
خلّي ونفسه ، ولم يتأدّب بقبولها والاعتراف بها ، كما قال الشيخ الرئيس على ما
نقلناه من عبارته فيما سبق في الأمر الثاني ، وليس كذلك القضيّة الأوّليّة التي
يكفي تصوّر طرفيها في الحكم ، فإنّه لا بدّ ألاّ يشكّ عاقل في الحكم بها لأوّل
وهلة.
٢. ومن أدلّتهم
على إنكار الحسن والقبح العقليّين أن قالوا : إنّه لو كان ذلك عقليّا لما اختلف
حسن الأشياء وقبحها باختلاف الوجوه والاعتبارات ، كالصدق ؛ إذ يكون مرّة ممدوحا
عليه وأخرى مذموما عليه إذا كان فيه ضرر كبير. وكذلك الكذب بالعكس يكون [مرّة]
مذموما عليه و [أخرى] ممدوحا عليه إذا كان فيه نفع كبير ؛ كالضرب والقيام والقعود
ونحوها ممّا يختلف حسنه وقبحه .
والجواب عن هذا الدليل وأشباهه يظهر ممّا ذكرناه من أنّ حسن
الأشياء وقبحها على أنحاء ثلاثة ، فما كان ذاتيّا لا يقع فيه اختلاف ؛ فإنّ العدل
بما هو عدل لا يكون قبيحا أبدا ، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون حسنا أبدا ، أي
إنّه ما دام عنوان العدل صادقا فهو ممدوح ، وما دام عنوان الظلم صادقا فهو مذموم.
وأمّا : ما كان
عرضيّا فإنّه يختلف بالوجوه والاعتبارات ، فمثلا الصدق إن دخل تحت عنوان العدل كان
ممدوحا ، وإن دخل تحت عنوان الظلم كان قبيحا. وكذلك الكذب وما ذكر من الأمثلة.
والخلاصة أنّ العدليّة لا يقولون بأنّ جميع الأشياء لا بدّ أن تتّصف
بالحسن أبدا أو بالقبح أبدا ، حتّى يلزم ما ذكر من الإشكال.
٣. وقد استدلّ
العدليّة على مذهبهم بما خلاصته «أنّه من المعلوم ضرورة حسن الإحسان وقبح الظلم
عند كلّ عاقل من غير اعتبار شرع ، فإنّ ذلك يدركه حتّى منكر الشرائع» .
__________________
وأجيب
عنه بأنّ الحسن
والقبح في ذلك بمعنى الملاءمة والمنافرة أو بمعنى صفة الكمال والنقص ، وهو مسلّم
لا نزاع فيه. وأمّا بالمعنى المتنازع فيه فإنّا لا نسلّم جزم العقلاء به.
ونحن
نقول : إنّ من يدّعي
ضرورة حكم العقلاء بحسن الإحسان وقبح الظلم يدّعي ضرورة مدحهم لفاعل الإحسان
وذمّهم لفاعل الظلم. ولا شكّ في أنّ هذا المدح والذمّ من العقلاء ضروريّان ؛
لتواترهما عن جميع الناس ، ومنكرهما مكابر. والذي يدفع العقلاء لهذا ـ كما قدّمنا
ـ شعورهم بأنّ العدل كمال للعادل ، وملاءمته لمصلحة النوع الإنسانيّ وبقائه ،
وشعورهم بنقص الظلم ، ومنافرته لمصلحة النوع الإنسانيّ وبقائه.
٤. واستدلّ
العدليّة أيضا بأنّ الحسن والقبح لو كانا لا يثبتان إلاّ من طريق الشرع ، فهما لا
يثبتان أصلا حتّى من طريق الشرع.
وقد صوّر بعضهم هذه الملازمة على النحو الآتي :
إنّ الشارع إذا
أمر بشيء فلا يكون حسنا إلاّ مدح مع ذلك الفاعل عليه ، وإذا نهى عن شيء فلا يكون
قبيحا إلاّ إذا ذمّ الفاعل عليه. ومن أين تعرف أنّه يجب أن يمدح الشارع فاعل
المأمور به ويذمّ فاعل المنهيّ عنه ، إلاّ إذا كان ذلك واجبا عقلا؟ فتوقّف حسن
المأمور به وقبح المنهيّ عنه على حكم العقل ، وهو المطلوب.
ثمّ لو ثبت أنّ
الشارع مدح فاعل المأمور به وذمّ فاعل المنهيّ عنه ، والمفروض أنّ مدح الشارع
ثوابه وذمّه عقابه ، فمن أين نعرف أنّه صادق في مدحه وذمّه ، إلاّ إذا ثبت أنّ
الكذب قبيح عقلا يستحيل عليه؟ فيتوقّف ثبوت الحسن والقبح شرعا على ثبوتهما عقلا ،
فلو لم يكن لهما ثبوت عقلا فلا ثبوت لهما شرعا.
وقد أجاب بعض
الأشاعرة عن هذا التصوير بأنّه يكفي في كون الشيء حسنا أن يتعلّق
__________________
به الأمر ، وفي
كونه قبيحا أن يتعلّق به النهي ـ حسب الفرض ـ ، [وهما] ثابتان وجدانا ، ولا حاجة
إلى فرض ثبوت مدح وذمّ من الشارع.
وهذا الكلام ـ في
الحقيقة ـ يرجع إلى أصل النزاع في معنى الحسن والقبح ، فيكون الدليل وجوابه صرف
دعوى ومصادرة على المطلوب ؛ لأنّ المستدلّ يرجع قوله إلى أنّه يجب المدح والذمّ
عقلا ، لأنّهما واجبان في اتّصاف الشيء بالحسن والقبح ، والمجيب يرجع قوله إلى
أنّهما لا يجبان عقلا ، لأنّهما غير واجبين في الحسن والقبح.
والأحسن تصوير
الدليل على وجه آخر ، فنقول :
إنّه من المسلّم
عند الطرفين وجوب طاعة الأوامر والنواهي الشرعيّة ، وكذلك وجوب المعرفة. وهذا
الوجوب عند الأشاعرة وجوب شرعيّ حسب دعواهم ، فنقول لهم : من أين يثبت هذا الوجوب؟
لا بدّ أن يثبت بأمر من الشارع ؛ فننقل الكلام إلى هذا الأمر ، فنقول لهم : من أين
تجب طاعة هذا الأمر؟ فإن كان هذا الوجوب عقليّا فهو المطلوب ، وإن كان شرعيّا أيضا
فلا بدّ له من أمر ولا بدّ له من طاعة ، فننقل الكلام إليه ... وهكذا نمضي إلى غير
النهاية ، ولا نقف حتّى ننتهي إلى طاعة وجوبها عقليّ لا يتوقّف على أمر الشارع ،
وهو المطلوب.
بل ثبوت الشرائع
من أصلها يتوقّف على التحسين والتقبيح العقليّين ، ولو كان ثبوتها من طريق شرعيّ ،
لاستحال ثبوتها ؛ لأنّا ننقل الكلام إلى هذا الطريق الشرعيّ فيتسلسل إلى غير
النهاية.
والنتيجة أنّ ثبوت الحسن والقبح شرعا يتوقّف على ثبوتهما عقلا.
المبحث
الثاني : إدراك العقل للحسن والقبح
بعد ما تقدّم من
ثبوت الحسن والقبح العقليّين في الأفعال ، فقد نسب بعضهم إلى جماعة
__________________
من الأخباريّين ـ على ما يظهر من كلمات بعضهم ـ إنكار أن يكون
للعقل حقّ إدراك ذلك الحسن والقبح ، فلا يثبت شيء من الحسن والقبح الواقعيّين
بإدراك العقل.
والشيء الثابت
قطعا عندهم على الإجمال القول بعدم جواز الاعتماد على شيء من الإدراكات العقليّة
في إثبات الأحكام الشرعيّة. وقد فسّر هذا القول بأحد وجوه ثلاثة حسب اختلاف عبارات الباحثين منهم :
١. إنكار إدراك
العقل للحسن والقبح الواقعيّين. وهذه هي مسألتنا التي عقدنا لها هذا المبحث
الثاني.
٢. ـ بعد الاعتراف
بثبوت إدراك العقل ـ إنكار الملازمة بينه وبين حكم الشرع. وهذه هي المسألة الآتية
في «المبحث الثالث».
٣. ـ بعد الاعتراف
بثبوت إدراك العقل وثبوت الملازمة ـ إنكار وجوب إطاعة الحكم الشرعيّ الثابت من
طريق العقل ، ومرجع ذلك إلى إنكار حجّيّة العقل. وسيأتي البحث عن ذلك في الجزء
الثالث من هذا الكتاب (مباحث الحجّة).
وعليه ، فإن
أرادوا التفسير الأوّل بعد الاعتراف بثبوت الحسن والقبح العقليّين فهو كلام لا
معنى له ؛ لأنّه قد تقدّم أنّه لا واقعيّة للحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه مع
الأشاعرة ـ وهو المعنى الثالث ـ إلاّ إدراك العقلاء لذلك وتطابق آرائهم على مدح
فاعل الحسن
__________________
وذمّ فاعل القبيح
على ما أوضحناه فيما سبق.
وإذا اعترفوا
بثبوت الحسن والقبح بهذا المعنى فهو اعتراف بإدراك العقل. ولا معنى للتفكيك بين
ثبوت الحسن والقبح وبين إدراك العقل لهما إلاّ إذا جاز تفكيك الشيء عن نفسه.
نعم ، إذا فسّروا
الحسن والقبح بالمعنيين الأوّلين جاز هذا التفكيك ولكنّهما ليسا موضع النزاع
عندهم.
وهذا الأمر واضح
لا يحتاج إلى أكثر من هذا البيان بعد ما قدّمناه في المبحث الأوّل.
المبحث
الثالث : ثبوت الملازمة العقليّة بين حكم العقل وحكم الشرع
ومعنى الملازمة
العقليّة هنا ـ على ما تقدّم ـ أنّه إذا حكم العقل بحسن شيء أو قبحه هل يلزم عقلا
أن يحكم الشرع على طبقه؟
وهذه هي المسألة
الأصوليّة التي تخصّ علمنا ، وكلّ ما تقدّم من الكلام كان كالمقدّمة لها. وقد قلنا
سابقا : إنّ الأخباريّين فسّر كلامهم ـ في أحد الوجوه الثلاثة
المقدّمة الذي يظهر من كلام بعضهم ـ بإنكار هذه الملازمة. وأمّا الأصوليّون فقد
أنكرها منهم صاحب الفصول ، ولم نعرف له موافقا. وسيأتي توجيه كلامه وكلام
الأخباريّين.
والحقّ أنّ الملازمة ثابتة عقلا ، فإنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو
قبحه ـ أي إنّه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعا بما هم عقلاء على حسن شيء لما فيه
من حفظ النظام وبقاء النوع ، أو على قبحه لما فيه من الإخلال بذلك ـ فإنّ الحكم
هذا يكون بادئ رأي الجميع ، فلا بدّ أن يحكم الشارع بحكمهم ؛ لأنّه منهم بل رئيسهم
، فهو بما هو عاقل ـ بل خالق العقل ـ كسائر العقلاء ، لا بدّ أن يحكم بما يحكمون.
ولو فرضنا أنّه لم يشاركهم في حكمهم ، لما كان ذلك الحكم بادئ رأي الجميع ، وهذا
خلاف الفرض.
__________________
وبعد ثبوت ذلك
ينبغي أن نبحث هنا عن مسألة أخرى ، وهي أنّه لو ورد من الشارع أمر في مورد حكم
العقل ، كقوله (تعالى) : (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فهذا الأمر من الشارع هل هو أمر مولويّ ـ أي إنّه أمر منه
بما هو مولى ـ أو إنّه أمر إرشاديّ ، أي إنّه أمر لأجل الإرشاد إلى ما حكم به
العقل ، أي إنّه أمر منه بما هو عاقل؟ وبعبارة أخرى : إنّ النزاع هنا في أنّ مثل
هذا الأمر من الشارع هل هو أمر تأسيسيّ ـ وهذا معنى أنّه مولويّ ـ أو أنّه أمر
تأكيديّ ، وهو معنى أنّه إرشاديّ؟
لقد وقع الخلاف في
ذلك ، والحقّ أنّه للإرشاد حيث يفرض أنّ حكم العقل هذا كاف لدعوة المكلّف إلى الفعل
الحسن واندفاع إرادته للقيام به ، فلا حاجة إلى جعل الداعي من قبل المولى ثانيا ،
بل يكون عبثا ولغوا ، بل هو مستحيل ؛ لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل.
وعليه ، فكلّ ما
يرد في لسان الشرع من الأوامر في موارد المستقلاّت العقليّة لا بدّ أن يكون تأكيدا
لحكم العقل لا تأسيسا.
نعم ، لو قلنا
بأنّ ما تطابقت عليه آراء العقلاء هو استحقاق المدح والذمّ فقط على وجه لا يلزم
منه استحقاق الثواب والعقاب من قبل المولى ، أو أنّه يلزم منه ذلك بل هو عينه ولكن لا يدرك ذلك كلّ أحد ، فيمكن ألاّ يكون نفس إدراك استحقاق المدح والذمّ كافيا
لدعوة كلّ أحد إلى الفعل إلاّ للأفذاذ من الناس ، فلا
يستغني أكثر الناس عن الأمر من المولى ، المترتّب على موافقته الثواب وعلى مخالفته
العقاب في مقام الدعوة إلى الفعل وانقياده ؛ فإذا ورد أمر من المولى في مورد حكم
العقل المستقلّ فلا مانع من حمله على
__________________
الأمر المولويّ ،
إلاّ إذا لزم منه محال التسلسل ، كالأمر بالطاعة والأمر بالمعرفة ؛ بل مثل هذه
الموارد لا معنى لأن يكون الأمر فيها مولويّا ؛ لأنّه لا يترتّب على موافقته غير
ما يترتّب على متعلّق المأمور به ، نظير الأمر بالاحتياط في أطراف العلم
الإجماليّ.
توضيح وتعقيب
والحقّ
أنّ الالتزام
بالتحسين والتقبيح العقليّين هو نفس الالتزام بتحسين الشارع وتقبيحه ، وفقا لحكم
العقلاء ؛ لأنّه من جملتهم ، لا أنّهما شيئان أحدهما يلزم الآخر ، وإن توهّم ذلك
بعضهم.
ولذا ترى أكثر الأصوليّين
والكلاميّين لم يجعلوهما مسألتين بعنوانين ، بل لم يعنونوا إلاّ مسألة واحدة هي
مسألة «التحسين والتقبيح العقليّين».
وعليه ، فلا وجه
للبحث عن ثبوت الملازمة بعد فرض القول بالتحسين والتقبيح وأمّا نحن فإنّما جعلنا
الملازمة مسألة مستقلّة فللخلاف الذي وقع فيها بتوهّم التفكيك.
ومن العجيب ما عن
صاحب الفصول رحمهالله من إنكاره للملازمة ، مع قوله بالتحسين والتقبيح العقليّين
، وكأنّه ظنّ أنّ كلّ ما أدركه العقل من المصالح والمفاسد
ـ ولو بطريق نظريّ أو من غير سبب عامّ من الأسباب المتقدّمة ذكرها ـ يدخل في مسألة
التحسين والتقبيح ، وأنّ القائل بالملازمة يقول بالملازمة أيضا في مثل ذلك.
ولكن نحن قلنا :
إنّ قضايا التحسين والتقبيح هي القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء كافّة بما
هم عقلاء ، وهي بادئ رأي الجميع ، وفي مثلها نقول بالملازمة لا مطلقا. فليس كلّ ما
أدركه العقل من أيّ سبب كان ـ ولو لم تتطابق عليه الآراء ، أو تطابقت ولكن لا بما
هم عقلاء ـ يدخل في هذه المسألة.
وقد ذكرنا نحن
سابقا : أنّ ما يدركه العقل من الحسن والقبح بسبب العادة أو
الانفعال و
__________________
نحوهما ، وما
يدركه لا من سبب عامّ للجميع ، لا يدخل في موضوع مسألتنا.
ونزيد هذا بيانا
وتوضيحا هنا ، فنقول :
إنّ مصالح الأحكام
الشرعيّة المولويّة ـ التي هي نفسها ملاكات أحكام الشارع ـ لا تندرج تحت ضابط نحن
ندركه بعقولنا ؛ إذ لا يجب فيها أن تكون هي بعينها المصالح العموميّة المبنيّ
عليها حفظ النظام العامّ وإبقاء النوع التي هي ـ أعني هذه المصالح العموميّة ـ مناطات
الأحكام العقليّة في مسألة التحسين والتقبيح العقليّين.
وعلى هذا ، فلا
سبيل للعقل بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعيّة ، فإذا أدرك العقل
المصلحة في شيء أو المفسدة في آخر ولم يكن إدراكه مستندا إلى إدراك المصلحة أو
المفسدة العامّتين اللتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء ؛ فإنّه ـ أعني العقل ـ
لا سبيل له إلى الحكم بأنّ هذا المدرك يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل ،
إذ يتحمل أنّ هناك ما هو مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل ، أو أنّ هناك مانعا
يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل ، وإن كان ما أدركه مقتضيا لحكم
الشارع.
ولأجل هذا نقول :
إنّه ليس كلّ ما حكم به الشرع يجب أن يحكم به العقل ؛ وإلى هذا يرمى قول إمامنا
الصادق عليهالسلام : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقل» ؛ ولأجل هذا أيضا نحن لا نعتبر القياس والاستحسان من الأدلّة الشرعيّة على
الأحكام.
وعلى هذا التقدير
، فإن كان ما أنكره صاحب الفصول والأخباريّون من الملازمة هي الملازمة في مثل تلك
المدركات العقليّة التي هي ليست من المستقلاّت العقليّة التي تطابقت عليها آراء
العقلاء ـ بما هم عقلاء ـ فإنّ إنكارهم في محلّه ، وهم على حقّ فيه ، لا نزاع لنا
معهم فيه. ولكن هذا أمر أجنبيّ عن الملازمة المبحوث عنها في المستقلاّت العقليّة.
وإن كان ما أنكروه هو مطلق الملازمة حتّى في المستقلاّت العقليّة ـ كما قد يظهر
__________________
من بعض تعبيراتهم ـ فهم ليسوا على حقّ فيما أنكروا ، ولا مستند لهم.
وعلى هذا ، فيمكن
التصالح بين الطرفين بتوجيه كلام الأخباريّين وصاحب الفصول بما يتّفق ما أوضحناه ،
ولعلّه لا يأباه بعض كلامهم.
تمرينات (٣٣)
١. بيّن الأمور
الأربعة المتلاحقة التي هي المبحوث عنها في المستقلاّت العقليّة.
٢. اذكر معاني
الحسن والقبح تفصيلا ، وبيّن المعنى الذي هو موضوع النزاع.
٣. ما واقعيّة
الحسن والقبح في معانيه؟ هل لها إزاء ومطابق في الخارج أم لا؟
٤. ما الفرق بين
العقل العمليّ والعقل النظريّ؟
٥. اذكر أسباب حكم
العقل العمليّ بالحسن والقبح ، وبيّن أيّها يدخل في محلّ النزاع في مسألة التحسين
والتقبيح العقليّين؟
٦. ما الفرق بين
الحسن والقبح الذاتيّين والحسن والقبح العرضيّين؟ مثل لكلّ منهما.
٧. ما هو رأي
الأشاعرة في الحسن والقبح؟ وما هو رأي العدليّة؟
٨. ما هي أدلّة
الأشاعرة؟ وما الجواب عنها؟
٩. ما هي أدلّة
العدليّة؟
١٠. هل يتمكّن
العقل من إدراك وجوه الحسن والقبح مستقلاّ أو لا؟
١١. إذا حكم العقل
بحسن شيء أو قبحه هل يلزم عقلا أن يحكم الشرع على طبقه؟ اذكر أقوال العلماء ،
وبيّن دليل ثبوت الملازمة.
١٢. لو ورد من
الشارع أمر في مورد حكم العقل ، هل هذا الأمر أمر مولويّ أو أمر إرشادي؟
١٣. كيف يقع
التصالح بين منكري الملازمة ومثبتيها؟
__________________
الباب الثاني
غير
المستقلاّت العقليّة
تمهيد
سبق أن قلنا : إنّ
المراد من «غير المستقلاّت العقليّة» هو ما لم يستقلّ العقل به وحده في الوصول إلى
النتيجة ، بل يستعين بحكم شرعيّ في إحدى مقدّمتي القياس وهي الصغرى ، والمقدّمة الأخرى ـ وهي
الكبرى ـ.
الحكم العقليّ
الذي هو عبارة عن حكم العقل بالملازمة عقلا بين الحكم في المقدّمة الأولى وبين حكم
شرعيّ آخر. مثاله حكم العقل بالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة شرعا وبين وجوب
المقدّمة شرعا.
وهذه الملازمة
العقليّة لها عدّة موارد وقع فيها البحث وصارت موضعا للنزاع ، ونحن ذاكرون هنا
أهمّ هذه المواضع في مسائل :
المسألة
الأولى : الإجزاء
تصدير
لا شكّ في أنّ
المكلّف إذا أتى بما أمر به مولاه على الوجه المطلوب ـ أي أتى
__________________
بالمطلوب على طبق
ما أمر به جامعا لجميع ما هو معتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، شرعيّة أو عقليّة ـ فإنّ
هذا الفعل منه يعتبر امتثالا لنفس ذلك الأمر ، سواء كان الأمر اختياريّا واقعيّا ،
أو اضطراريّا ، أو ظاهريّا. وليس في هذا خلاف ، أو لا يمكن أن يقع فيه الخلاف.
وكذا لا شكّ ولا
خلاف في أنّ هذا الامتثال على تلك الصفة يجزئ ويكتفى به عن امتثال آخر ؛ لأنّ
المكلّف ـ حسب الفرض ـ قد جاء بما عليه من التكليف على الوجه المطلوب. وكفى!
وحينئذ ، يسقط
الأمر الموجّه إليه ، لأنّه قد حصل بالفعل ما دعا إليه ، وانتهى أمده ، ويستحيل أن
يبقى بعد حصول غرضه وما كان قد دعا إليه ؛ لانتهاء أمد
دعوته بحصول غايته الداعية إليه ، إلاّ إذا جوّزنا المحال ، وهو حصول المعلول بلا
علّة.
__________________
__________________
وإنّما وقع الخلاف
ـ أو يمكن أن يقع ـ في مسألة الإجزاء فيما إذا كان هناك أمران : أمر أوّليّ واقعيّ
لم يمتثله المكلّف إمّا لتعذّره عليه أو لجهله به ، وأمر ثانويّ إمّا اضطراريّ في
صورة تعذّر الأوّل ، وإمّا ظاهريّ في صورة الجهل بالأوّل ؛ فإنّه إذا امتثل
المكلّف هذا الأمر الثانويّ الاضطراريّ أو الظاهريّ ثمّ زال العذر والاضطرار أو
زال الجهل وانكشف الواقع ، صحّ الخلاف في كفاية ما أتى به امتثالا للأمر الثاني عن
امتثال الأمر الأوّل ، وإجزائه عنه إعادة في الوقت وقضاء في خارجه.
ولأجل هذا عقدت
هذه المسألة : «مسألة الإجزاء».
وحقيقتها هي البحث
عن ثبوت الملازمة ـ عقلا ـ بين الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ
، وبين الإجزاء والاكتفاء به عن امتثال الأمر الأوّليّ الاختياريّ الواقعيّ.
وقد عبّر بعض
علماء الأصول المتأخّرين عن هذه المسألة بقوله : «هل الإتيان بالمأمور به على وجهه
يقتضي الإجزاء أو لا يقتضي؟»
والمراد من «الاقتضاء»
في كلامه الاقتضاء بمعنى العلّيّة والتأثير ، أي إنّه هل
يلزم ـ عقلا ـ من الإتيان بالمأمور به سقوط التكليف شرعا أداء وقضاء؟
ومن هنا تدخل هذه
المسألة في باب الملازمات العقليّة ، على ما حرّرنا البحث في صدر هذا المقصد عن
المراد بالملازمة العقليّة . ولا وجه لجعلها من باب مباحث الألفاظ ، لأنّ ذلك ليس من شئون الدلالة اللفظيّة.
وعلينا أن نعقد
البحث في مقامين : الأوّل : في إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراريّ. الثاني : في
إجزاء المأمور به بالأمر الظاهريّ :
__________________
المقام الأوّل :
الأمر الاضطراريّ
وردت في الشريعة
المطهّرة أوامر لا تحصى تختصّ بحال الضرورات وتعذّر امتثال الأوامر الأوّليّة أو
بحال الحرج في امتثالها ، مثل التيمّم ، ووضوء الجبيرة وغسلها ، وصلاة العاجز عن
القيام أو القعود ، وصلاة الغريق.
ولا شكّ في أنّ
الاضطرار ترتفع به فعليّة التكليف ؛ لأنّ الله (تعالى) لا يكلّف نفسا إلاّ وسعها.
وقد ورد في الحديث النبويّ صلىاللهعليهوآله المشهور الصحيح : «رفع عن أمّتي ما اضطرّوا إليه» .
غير أنّ الشارع
المقدّس ـ حرصا على بعض العبادات لا سيّما الصّلاة التي لا تترك بحال ـ أمر عباده بالاستعاضة عمّا اضطرّوا إلى تركه بالإتيان ببدل عنه ، فأمر ـ مثلا
ـ بالتيمّم بدلا عن الوضوء أو الغسل ، وقد جاء في الحديث : «يكفيك عشر سنين». وأمر بالمسح على الجبيرة بدلا عن غسل بشرة العضو في الوضوء والغسل . وأمر بالصّلاة من جلوس بدلا عن الصّلاة من قيام ... وهكذا فيما لا يحصى من الأوامر الواردة في حال اضطرار المكلّف وعجزه عن
امتثال الأمر الأوّليّ الاختياريّ ، أو في حال الحرج في امتثاله.
ولا شكّ في أنّ
هذه الأوامر الاضطراريّة هي أوامر واقعيّة حقيقيّة ذات مصالح ملزمة ، كالأوامر
الأوّليّة ، وقد تسمّى «الأوامر الثانويّة» تنبيها على أنّها واردة لحالات طارئة
ثانويّة على المكلّف ، وإذا امتثلها المكلّف أدّى ما عليه في هذا الحال ، وسقط عنه
التكليف بها.
__________________
ولكن يقع البحث
والتساؤل فيما لو ارتفعت تلك الحالة الاضطراريّة الثانويّة ورجع المكلّف إلى حالته
الأولى من التمكّن من أداء ما كان عليه واجبا في حالة الاختيار ، فهل يجزئه ما كان
قد أتى به في حال الاضطرار ، أو لا يجزئه ، بل لا بدّ له من إعادة الفعل في الوقت
أداء إذا كان ارتفاع الاضطرار قبل انتهاء وقت الفعل وكنّا قلنا بجواز البدار ، أو إعادته خارج الوقت قضاء إذا كان ارتفاع الاضطرار بعد الوقت؟
إنّ هذا أمر يصحّ
فيه الشكّ والتساؤل ، وإن كان المعروف بين الفقهاء في فتاويهم القول بالإجزاء
مطلقا أداء وقضاء.
غير أنّ إطباقهم
على القول بالإجزاء ليس مستندا إلى دعوى أنّ البديهيّة العقليّة تقضي به ؛ لأنّه
هنا يمكن تصوّر عدم الإجزاء بلا محذور عقليّ ، أعني يمكننا أن نتصوّر عدم الملازمة
بين الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ وبين الإجزاء به عن الأمر الواقعيّ
الاختياريّ.
توضيح
ذلك أنّه لا إشكال في
أنّ المأتيّ به في حال الاضطرار أنقص من المأمور به حال الاختيار ، والقول
بالإجزاء فيه معناه كفاية الناقص عن الكامل مع فرض حصول التمكّن من أداء الكامل في
الوقت أو خارجه. ولا شكّ في أنّ العقل لا يرى بأسا بالأمر بالفعل ثانيا بعد زوال
الضرورة ؛ تحصيلا للكامل الذي قد فات منه ؛ بل قد يلزم العقل بذلك إذا كان في
الكامل مصلحة ملزمة لا يفي بها الناقص ولا يسدّ مسدّ الكامل في تحصيلها.
والمقصود الذي
نريد أن نقوله بصريح العبارة «أنّ الإتيان بالناقص بالنظرة الأولى ممّا [لا] يقتضي
عقلا الإجزاء عن الكامل».
فلا بدّ أن يكون
ذهاب الفقهاء إلى الإجزاء لسرّ هناك : إمّا لوجود ملازمة بين الإتيان بالناقص وبين
الإجزاء عن الكامل ، وإمّا لغير ذلك من الأسباب ، فيجب أن نتبيّن ذلك ، فنقول :
هناك وجوه أربعة يصلح أن يكون كلّها أو بعضها مستندا للقول بالإجزاء
__________________
نذكرها كلّها :
١. إنّه من
المعلوم أنّ الأحكام الواردة في حال الاضطرار واردة للتخفيف على المكلّفين ،
والتوسعة عليهم في تحصيل مصالح التكاليف الأصليّة الأوّليّة (يُرِيدُ
اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
وليس من شأن
التخفيف والتوسعة أن يكلّفهم ثانيا بالقضاء أو الأداء ، وإن كان الناقص لا يسدّ
مسدّ الكامل في تحصيل مصلحته الملزمة.
٢. إنّ أكثر
الأدلّة الواردة في التكاليف الاضطراريّة مطلقة ، مثل قوله (تعالى) : (فَلَمْ
تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) أي إنّ ظاهرها بمقتضى الإطلاق الاكتفاء بالتكليف الثاني لحال الضرورة ، وأنّ
التكليف منحصر فيه وليس وراءه تكليف آخر ، فلو أنّ الأداء أو القضاء واجب أيضا
لوجب البيان والتنصيص على ذلك وإذ لم يبيّن ذلك علم أنّ الناقص يجزئ عن أداء
الكامل أداء وقضاء ، لا سيّما مع ورود مثل قوله صلىاللهعليهوآله : «إنّ التراب يكفيك عشر سنين».
٣. إنّ القضاء
بالخصوص إنّما يجب فيما إذا صدق الفوت ، ويمكن أن يقال : «إنّه لا يصدق الفوت في
المقام ؛ لأنّ القضاء إنّما يفرض فيما إذا كانت الضرورة مستمرّة في جميع وقت
الأداء». وعلى هذا التقدير ، لا أمر بالكامل في الوقت ، وإذا لم يكن أمر فقد يقال
: «إنّه لا يصدق بالنسبة إليه فوت الفريضة ، إذ لا فريضة».
وأمّا الأداء :
فإنّما يفرض فيما يجوز البدار به ، وقد ابتدر المكلّف ـ حسب الفرض ـ إلى فعل
الناقص في الأزمنة الأولى من الوقت ، ثمّ زالت الضرورة قبل انتهاء الوقت. ونفس
الرخصة في البدار ـ لو ثبتت ـ تشير إلى مسامحة الشارع في تحصيل الكامل عند التمكّن
، وإلاّ لفرض عليه الانتظار تحصيلا للكامل.
٤. إذا كنّا قد
شككنا في وجوب الأداء والقضاء ، والمفروض أنّ وجوبهما لم ننفه
__________________
بإطلاق ونحوه ،
فإنّ هذا شكّ في أصل التكليف. وفي مثله ، تجري أصالة البراءة القاضية بعدم
وجوبهما.
فهذه الوجوه
الأربعة كلّها أو بعضها أو نحوها هي سرّ حكم الفقهاء بالإجزاء قضاء أو أداء.
والقول بالإجزاء ـ على هذا ـ أمر لا مفرّ منه. ويتأكّد ذلك في الصّلاة التي هي
العمدة في الباب.
المقام الثاني :
الأمر الظاهريّ
تمهيد
للحكم الظاهريّ
اصطلاحان : أحدهما : ما تقدّم في أوائل الجزء الأوّل. وهو المقابل للحكم الواقعيّ ، وإن كان الواقعيّ مستفادا من الأدلّة
الاجتهاديّة الظنيّة ، فيختصّ الظاهريّ بما ثبت بالأصول العمليّة. وثانيهما : كلّ
حكم ثبت ظاهرا عند الجهل بالحكم الواقعيّ الثابت في علم الله (تعالى) ، فيشمل
الحكم الثابت بالأمارات والأصول معا ، فيكون الحكم الظاهريّ بالمعنى الثاني أعمّ
من الأوّل.
وهذا المعنى
الثاني العامّ هو المقصود هنا بالبحث ، فالأمر الظاهريّ : ما تضمّنه الأصل أو
الأمارة.
ثمّ إنّه لا شكّ
في أنّ الأمر الواقعيّ في موردي الأصل والأمارة غير منجّز على المكلّف ـ بمعنى
أنّه لا عقاب على مخالفته بسبب العمل بالأمارة والأصل لو اتّفق مخالفتهما له ـ ؛ لأنّه من الواضح أنّ كلّ تكليف غير واصل إلى المكلّف بعد الفحص واليأس
غير منجّز عليه ؛ ضرورة أنّ التكليف إنّما يتنجّز بوصوله بأيّ نحو من أنحاء الوصول
، ولو بالعلم الإجماليّ.
هذا كلّه لا كلام
فيه ، وسيأتي في مباحث الحجّة تفصيل الحديث عنه . وإنّما الذي
__________________
يحسن أن نبحث عنه
هنا في هذا الباب هو أنّ الأمر الواقعيّ المجهول لو انكشف فيه بعد ذلك خطأ الأمارة
أو الأصل ، وقد عمل المكلّف ـ حسب الفرض ـ على خلافه اتّباعا للأمارة الخاطئة أو
الأصل المخالف للواقع ، فهل يجب على المكلّف امتثال الأمر الواقعيّ في الوقت أداء
وفي خارج الوقت قضاء ، أو أنّه لا يجب شيء عليه بل يجزئ ما أتى به على طبق الأمارة
أو الأصل ويكتفي به؟
ثمّ إنّ العمل على
خلاف الواقع ـ كما سبق ـ تارة يكون بالأمارة وأخرى بالأصل. ثمّ الانكشاف على نحوين
: انكشاف على نحو اليقين. وانكشاف بمقتضى حجّة معتبرة. فهذه أربع صور.
ولاختلاف البحث في
هذه الصور مع اتّفاق صورتين منها في الحكم ـ وهما صورتا الانكشاف بحجّة معتبرة مع
العمل على طبق الأمارة ومع العمل بمقتضى الأصل ـ نعقد البحث في ثلاث مسائل :
١. الإجزاء في
الأمارة مع انكشاف الخطأ يقينا
إنّ قيام الأمارة
تارة يكون في الأحكام ، كقيام الأمارة على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة حال الغيبة
بدلا عن صلاة الجمعة ، وأخرى في الموضوعات ، كقيام البيّنة على طهارة ثوب صلّى به
، أو ماء توضّأ منه ، ثمّ بانت نجاسته.
والمعروف عند
الإماميّة عدم الإجزاء مطلقا ، في الأحكام والموضوعات .
أمّا في «الأحكام»
: فلأجل اتّفاقهم على مذهب التخطئة ، أي إنّ المجتهد
يخطئ ويصيب ؛ لأنّ لله (تعالى) أحكاما ثابتة في الواقع يشترك فيها العالم والجاهل
، أي إنّ
__________________
الجاهل مكلّف بها
كالعالم ، غاية الأمر أنّها غير منجّزة بالفعل بالنسبة إلى الجاهل القاصر حين جهله ، وإنّما يكون معذورا في المخالفة لو اتّفقت له باتّباع الأمارة ؛
إذ لا تكون الأمارة عندهم إلاّ طريقا محضا لتحصيل الواقع.
ومع انكشاف الخطأ
لا يبقى مجال للعذر ، بل يتنجّز الواقع حينئذ في حقّه من دون أن يكون قد جاء بشيء
يسدّ مسدّه ويغني عنه.
ولا يصحّ القول
بالإجزاء إلاّ إذا قلنا : إنّه بقيام الأمارة على وجوب شيء تحدث فيه مصلحة ملزمة
على أن تكون هذه المصلحة وافية بمصلحة الواقع ، يتدارك بها مصلحة الواجب الواقعيّ
، فتكون الأمارة مأخوذة على نحو الموضوعيّة للحكم ؛ ضرورة أنّه مع هذا الفرض يكون
ما أتى به على طبق الأمارة مجزئا عن الواقع ؛ لأنّه قد أتى بما يسدّ مسدّه ، ويغني
عنه في تحصيل مصلحة الواقع.
ولكن هذا معناه
التصويب المنسوب إلى المعتزلة ، أي إنّ أحكام الله (تعالى) تابعة لآراء المجتهدين وإن
كانت له أحكام واقعيّة ثابتة في نفسها ، فإنّه يكون ـ عليه ـ كلّ رأي أدّى إليه
نظر المجتهد قد أنشأ الله (تعالى) على طبقه حكما من الأحكام. والتصويب بهذا المعنى
قد أجمعت الإماميّة على بطلانه ، وسيأتي البحث عنه في «مباحث الحجّة».
وأمّا : القول
بالمصلحة السلوكيّة ـ أي إنّ نفس متابعة الأمارة فيها مصلحة ملزمة
__________________
يتدارك بها ما فات
من مصلحة الواقع ، وإن لم تحدث مصلحة في نفس الفعل الذي أدّت الأمارة إلى وجوبه ـ فهذا قول لبعض الإماميّة ؛ لتصحيح جعل الطرق والأمارات في فرض التمكّن من تحصيل
العلم ، على ما سيأتي بيانه في محلّه إن شاء الله (تعالى).
ولكنّه ـ على
تقدير صحّة هذا القول ـ لا يقتضي الإجزاء أيضا ؛ لأنّه على فرضه تبقى مصلحة الواقع
على ما هي عليه عند انكشاف خطأ الأمارة في الوقت أو في خارجه.
توضيح
ذلك أنّ المصلحة
السلوكيّة المدّعاة هي مصلحة تدارك الواقع باعتبار أنّ الشارع لمّا جعل الأمارة في
حال تمكّن المكلّف من تحصيل العلم بالواقع ؛ فإنّه قد فوّت عليه الواقع ، فلا بدّ
من فرض تداركه بمصلحة تكون في نفس اتّباع الأمارة ، واللازم من المصلحة التي
يتدارك بها الواقع أن تقدّر بقدر ما فات من الواقع من مصلحة لا أكثر. وعند انكشاف
الخطأ في الوقت لم يفت من مصلحة الواقع إلاّ مصلحة فضيلة أوّل الوقت ، وعند انكشاف
الخطأ في خارج الوقت لم تفت إلاّ مصلحة الوقت. أمّا مصلحة أصل الفعل فلم تفت من
المكلّف ؛ لإمكان تحصيلها بعد الانكشاف ، فما هو الملزم للقول بحصول مصلحة يتدارك
بها أصل مصلحة الفعل حتّى يلزم الإجزاء؟!
وأمّا في «الموضوعات»
: فالظاهر أنّ المعروف عندهم أنّ الأمارة فيها قد أخذت على
نحو «الطريقية» ، كقاعدة اليد ، والصحّة ، وسوق المسلمين ، ونحوها ، فإن
أصابت الواقع فذاك ، وإن أخطأت فالواقع على حاله ، ولا تحدث بسببها مصلحة يتدارك
بها مصلحة
__________________
الواقع ، غاية
الأمر أنّ المكلّف معها معذور عند الخطأ وشأنها في ذلك شأن الأمارة في الأحكام.
والسرّ في حملها على
«الطريقيّة» ، هو أنّ الدليل الذي دلّ على حجّيّة الأمارة في الأحكام هو نفسه دلّ
على حجّيّتها في الموضوعات بلسان واحد في الجميع ، لا أنّ القول بالموضوعيّة هنا
يقتضي محذور التصويب المجمع على بطلانه عند الإماميّة ، كالأمارة في الأحكام.
وعليه ، فالأمارة
في الموضوعات أيضا لا تقتضي الإجزاء بلا فرق بينها وبين الأمارة في الأحكام.
٢. الإجزاء في
الأصول مع انكشاف الخطأ يقينا
لا شكّ في أنّ
العمل بالأصل إنّما يصحّ إذا فقد المكلّف الدليل الاجتهاديّ على الحكم. فيرجع إليه
باعتبار أنّه وظيفة للجاهل لا بدّ منها للخروج من الحيرة.
فالأصل ـ في
حقيقته ـ وظيفة للجاهل الشاكّ ينتهي إليه في مقام العمل ؛ إذ لا سبيل له غير ذلك
لرفع الحيرة ، وعلاج حالة الشكّ.
ثمّ إنّ الأصل على
قسمين :
١. أصل عقليّ :
والمراد منه ما يحكم به العقل ، ولا يتضمّن جعل حكم ظاهريّ من الشارع ، كالاحتياط
، وقاعدة التخيير ، والبراءة العقليّة التي مرجعها إلى حكم العقل بنفي العقاب بلا
بيان ، فهي لا مضمون لها إلاّ رفع العقاب ، لا جعل حكم بالإباحة من الشارع.
٢. أصل شرعيّ :
وهو المجعول من الشارع في مقام الشكّ والحيرة ، فيتضمّن جعل حكم ظاهريّ ،
كالاستصحاب والبراءة الشرعيّة التي مرجعها إلى حكم الشارع بالإباحة ، ومثلها أصالة
الطهارة والحلّيّة.
إذا عرفت ذلك
فنقول :
أوّلا : إنّ بحث الإجزاء لا يتصوّر في قاعدة الاحتياط مطلقا ،
سواء كانت عقليّة أو
__________________
شرعيّة ؛ لأنّ
المفروض في الاحتياط هو العمل بما يحقّق امتثال التكليف الواقعيّ ، فلا يتصوّر فيه
تفويت المصلحة.
وثانيا : كذلك لا يتصوّر بحث الإجزاء في الأصول العقليّة الأخرى ،
كالبراءة ، وقاعدة التخيير ؛ لأنّها ـ حسب الفرض ـ لا تتضمّن حكما
ظاهريّا ، حتّى يتصوّر فيها الإجزاء والاكتفاء بالمأتيّ به عن الواقع ، بل إنّ
مضمونها هو سقوط العقاب والمعذوريّة المجرّدة.
وعليه ، فينحصر
البحث في خصوص الأصول الشرعيّة عدا الاحتياط ، كالاستصحاب ، وأصالة البراءة ، والحلّيّة ، وأصالة الطهارة.
وهي لأوّل وهلة لا
مجال لتوهّم الإجزاء فيها ، لا في الأحكام ولا في الموضوعات ؛ فإنّها أولى من
الأمارات في عدم الإجزاء ، باعتبار أنّها ـ كما ذكرنا في صدر البحث ـ وظيفة عمليّة
يرجع إليها الجاهل الشاكّ لرفع الحيرة في مقام العمل والعلاج الوقتيّ. أمّا الواقع
فهو على واقعيّته ، فيتنجّز حين العلم به وانكشافه ، ولا مصلحة في العمل بالأصل
غير رفع الحيرة عند الشكّ ، فلا يتصوّر فيه مصلحة وافية يتدارك بها مصلحة الواقع حتّى يقتضي الإجزاء والاكتفاء به عن الواقع.
ولذا أفتى علماؤنا
المتقدّمون بعدم الإجزاء في الأصول العمليّة.
ومع هذا ، فقد قال
قوم من المتأخّرين بالإجزاء ، منهم : شيخنا صاحب الكفاية ، وتبعه تلميذه أستاذنا الشيخ محمد حسين الأصفهانيّ قدسسره . ولكن ذلك في خصوص الأصول الجارية لتنقيح موضوع التكليف
وتحقيق متعلّقه ، كقاعدة الطهارة ، وأصالة الحلّيّة ، واستصحابهما ، دون الأصول
الجارية في نفس الأحكام.
__________________
ومنشأ هذا الرأي
عنده اعتقاده بأنّ دليل الأصل في موضوعات الأحكام موسّع لدائرة
الشرط أو الجزء المعتبر في موضوع التكليف ومتعلّقه ، بأن يكون مثل قوله عليهالسلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» يدلّ على أنّ كلّ
شيء قبل العلم بنجاسته محكوم بالطهارة ، والحكم بالطهارة حكم بترتيب آثارها وإنشاء
لأحكامها التكليفيّة والوضعيّة التي منها الشرطيّة ، فتصحّ الصلاة بمشكوك الطهارة
، كما تصحّ بالطاهر الواقعيّ.
ويلزم من ذلك أن
يكون الشرط في الصلاة ـ حقيقة ـ أعمّ من الطهارة الواقعيّة والطهارة الظاهريّة.
وإذا كان الأمر
كذلك فإذا انكشف الخلاف لا يكون ذلك موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، بل يكون
بالنسبة إليه من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل. فلا يتصوّر حينئذ معنى لعدم
الإجزاء بالنسبة إلى ما أتى به حين الشكّ ، والمفروض أنّ ما أتى به يكون واجدا
لشرطه المعتبر فيه تحقيقا ، باعتبار أنّ الشرط هو الأعمّ من الطهارة الواقعيّة
والظاهريّة حين الجهل ، فلا يكون فيه انكشاف للخلاف ولا فقدان للشرط.
وقد ناقشه شيخنا
الميرزا النّائينيّ بعدّة مناقشات يطول ذكرها ، ولا يسعها هذا المختصر.
والموضوع من المباحث الدقيقة التي هي فوق مستوى كتابنا .
٣. الإجزاء في
الأمارات والأصول مع انكشاف الخطأ بحجّة معتبرة
وهذه أهمّ مسألة
في الإجزاء من جهة عموم البلوى بها للمكلّفين ؛ فإنّ المجتهدين كثيرا ما يحصل لهم
تبدّل في الرأي بما يوجب فساد أعمالهم السابقة ظاهرا. وبتبعهم المقلّدون لهم.
والمقلّدون أيضا قد ينتقلون من تقليد شخص إلى تقليد شخص آخر
__________________
يخالف الأوّل في
الرأي بما يوجب فساد الأعمال السابقة.
فنقول في هذه
الأحوال :
إنّه بعد قيام
الحجّة المعتبرة اللاحقة بالنسبة إلى المجتهد أو المقلّد لا إشكال في وجوب الأخذ
بها في الوقائع اللاحقة غير المرتبطة بالوقائع السابقة.
ولا إشكال ـ أيضا
ـ في مضيّ الوقائع السابقة التي لا يترتّب عليها أثر أصلا في الزمن اللاحق.
وإنّما الإشكال في
الوقائع اللاحقة المرتبطة بالوقائع السابقة ، مثل ما لو انكشف الخطأ اجتهادا أو
تقليدا في وقت العبادة ، وقد عمل بمقتضى الحجّة السابقة ، أو انكشف الخطأ في خارج
الوقت ، وكان عمله ممّا يقضى ، كالصلاة ، ومثل ما لو تزوّج زوجة بعقد غير عربيّ
اجتهادا أو تقليدا ، ثمّ قامت الحجّة عنده على اعتبار اللفظ العربيّ ، والزوجة لا
تزال موجودة.
فإنّ المعروف في
الموضوعات الخارجيّة عدم الإجزاء .
أمّا في الأحكام :
فقد قيل بقيام الإجماع على الإجزاء ، لا سيّما في الأمور العباديّة ، كالمثال
الأوّل المتقدّم. ولكنّ العمدة في الباب أن نبحث عن القاعدة ما ذا تقتضي هنا؟
هل تقتضي الإجزاء
أو لا تقتضيه؟ والظاهر أنّها لا تقتضي الإجزاء.
وخلاصة ما ينبغي
أن يقال : إنّ من يدّعي الإجزاء لا بدّ أن يدّعي أنّ المكلّف لا يلزمه في الزمان
اللاحق إلاّ العمل على طبق الحجّة الأخيرة التي قامت عنده. وأمّا : عمله السابق
فقد كان على طبق حجّة ماضية عليه في حينها.
ولكن يقال له :
إنّ التبدّل الذي حصل له ، إمّا أن يدّعى أنّه تبدّل في الحكم الواقعيّ أو
__________________
تبدّل في الحجّة
عليه. ولا ثالث لهما.
أمّا : دعوى
التبدّل في الحكم الواقعيّ فلا إشكال في بطلانها ؛ لأنّها تستلزم القول بالتصويب ،
وهو ظاهر.
وأمّا : دعوى
التبدّل في الحجّة ، فإن أراد أنّ الحجّة الأولى هي حجّة بالنسبة إلى الأعمال
السابقة ، وبالنظر إلى وقتها فقط فهذا لا ينفع في الإجزاء بالنسبة إلى الأعمال
اللاحقة وآثار الأعمال السابقة ، وإن أراد أنّ الحجّة الأولى هي حجّة مطلقا حتّى
بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة وآثار الأعمال السابقة فالدعوى باطلة قطعا ؛ لأنّه في
تبدّل الاجتهاد ينكشف بحجّة معتبرة أنّ المدرك السابق لم يكن حجّة مطلقا حتّى
بالنسبة إلى أعماله اللاحقة ، أو أنّه تخيّله حجّة وهو ليس بحجّة ، لا أنّ المدرك
الأوّل حجّة مطلقا ، وهذا الثاني حجّة أخرى.
وكذلك الكلام في
تبدّل التقليد ، فإنّ مقتضى التقليد الثاني هو انكشاف بطلان الأعمال الواقعة على
طبق التقليد الأوّل ، فلا بدّ من ترتيب الأثر على طبق الحجّة الفعليّة ، فإنّ
الحجّة السابقة ـ أي التقليد الأوّل ـ كلا حجّة بالنسبة إلى الآثار اللاحقة ، وإن
كانت حجّة عليه في وقته ، والمفروض عدم التبدّل في الحكم الواقعيّ ، فهو باق على
حاله ؛ فيجب العمل على طبق الحجّة الفعليّة وما تقتضيه. فلا إجزاء إلاّ إذا ثبت
الإجماع عليه.
وتفصيل الكلام في
هذا الموضوع يحتاج إلى سعة من القول فوق مستوى هذا المختصر.
تنبيه في تبدّل
القطع
لو قطع المكلّف
بأمر خطأ فعمل على طبق قطعه ، ثمّ بان له يقينا خطؤه ، فإنّه لا ينبغي الشكّ في
عدم الإجزاء ، والسرّ واضح ؛ لأنّه عند القطع الأوّل لم يفعل ما استوفى مصلحة
الواقع بأيّ وجه من وجوه الاستيفاء ، فكيف يسقط التكليف الواقعيّ؟! لأنّه في
الحقيقة لا أمر موجّه إليه ، وإنّما كان يتخيّل الأمر. وعليه ، فيجب امتثال الواقع
في الوقت أداء وفي خارجه قضاء.
نعم ، لو أنّ
العمل الذي قطع بوجوبه كان من باب الاتّفاق محقّقا لمصلحة الواقع فإنّه لا بدّ أن
يكون مجزئا. ولكن هذا أمر آخر اتّفاقيّ ليس من جهة كونه مقطوع الوجوب.
تمرينات (٣٤)
١. ما هو الإجزاء؟
٢. كيف تدخل مسألة
الإجزاء في باب الملازمات العقليّة؟
٣. ما السرّ في
ذهاب الفقهاء إلى الإجزاء في الأمر الاضطراريّ؟
٤. ما المراد من
الحكم الظاهريّ في المقام؟
٥. لو كان الأمر
الظاهريّ هو الأمارة فهل يجزئ عن الأمر الواقعي مع انكشاف الخطأ يقينا؟ وعلى أيّ
التقديرين ما الوجه في ذلك؟
٦. لو كان الأمر
الظاهريّ هو الأصل فهل يجزئ عن الأمر الواقعي مع انكشاف الخطأ يقينا؟ اذكر قول المتقدّمين
والمتأخّرين.
٧. ما هو منشأ
ذهاب المتأخّرين إلى الإجزاء في الأصول مع انكشاف الخطأ يقينا؟
٨. لو كان الأمر
الظاهريّ هو الأمارة أو الأصل فهل يجزئ عن الأمر الواقعي مع انكشاف الخطأ بحجّة
معتبرة؟ بيّن الوجه في ذلك؟
٩. لو قطع المكلّف
بأمر خطأ ، فعمل على طبقه ثمّ بان له يقينا خطؤه فهل يجزئ أم لا؟
المسألة
الثانية : مقدّمة الواجب
تحرير [محلّ]
النزاع
كلّ عاقل يجد من
نفسه أنّه إذا وجب عليه شيء وكان حصوله يتوقّف على مقدّمات فإنّه لا بدّ له من تحصيل تلك المقدّمات ليتوصّل إلى فعل ذلك الشيء بها .
وهذا الأمر بهذا
المقدار ليس موضعا للشكّ والنزاع ، وإنّما الذي وقع موضعا للشكّ وجرى فيه النزاع
عند الأصوليّين هو أنّ هذه اللابدّيّة العقليّة للمقدّمة التي لا يتمّ الواجب إلاّ
بها هل يستكشف منها اللابدّيّة شرعا أيضا؟ يعني أنّ الواجب هل يلزم عقلا من وجوبه
الشرعيّ وجوب مقدّمته شرعا؟ أو فقل على نحو العموم : كلّ فعل واجب عند مولى من
الموالي هل يلزم منه عقلا وجوب مقدّمته أيضا عند ذلك المولى؟. وبعبارة رابعة أكثر
وضوحا : إنّ العقل ـ لا شكّ ـ يحكم بوجوب مقدّمة الواجب ـ أي يدرك لزومها ـ ، ولكن
هل يحكم أيضا بأنّها واجبة أيضا عند من أمر بما يتوقّف عليها؟
وعلى هذا البيان
فالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع هي موضع البحث في هذه المسألة.
مقدّمة الواجب من
أيّ قسم من المباحث الأصوليّة؟
وإذا اتّضح ما
تقدّم في تحرير محلّ النزاع نستطيع أن نفهم أنّه في أيّ قسم من أقسام المباحث
الأصوليّة ينبغي أن تدخل هذه المسألة.
وتوضيح ذلك أنّ هذه الملازمة ـ على تقدير القول بها ـ تكون على أنحاء
ثلاثة : إمّا
__________________
ملازمة غير بيّنة
، أو بيّنة بالمعنى الأعمّ ، أو بيّنة بالمعنى الأخصّ.
فإن كانت هذه
الملازمة ـ في نظر القائل بها ـ غير بيّنة ، أو بيّنة بالمعنى الأعمّ فإثبات
اللازم ـ وهو وجوب المقدّمة شرعا ـ لا يرجع إلى دلالة اللفظ أبدا ، بل إثباته
إنّما يتوقّف على حجّيّة هذا الحكم العقليّ بالملازمة ، وإذا تحقّقت هناك دلالة
فهي من نوع دلالة الإشارة. وعلى هذا فيجب أن تدخل المسألة في بحث الملازمات العقليّة
غير المستقلّة ، ولا يصحّ إدراجها في مباحث الألفاظ.
وإن كانت هذه
الملازمة ـ في نظر القائل بها ـ ملازمة بيّنة بالمعنى الأخصّ فإثبات اللازم يكون
لا محالة بالدلالة اللفظيّة ، وهي الدلالة الالتزاميّة خاصّة . والدلالة الالتزاميّة من الظواهر التي هي حجّة.
ولعلّه لأجل هذا
أدخلوا هذه المسألة في مباحث الألفاظ ، وجعلوها من مباحث الأوامر بالخصوص . وهم على حقّ في ذلك إذا كان القائل بالملازمة لا يقول بها إلاّ لكونها
ملازمة بيّنة بالمعنى الأخصّ ، ولكنّ الأمر ليس كذلك.
إذن ، يمكننا أن
نقول : إنّ هذه المسألة ذات جهتين باختلاف الأقوال فيها : يمكن أن تدخل في مباحث
الألفاظ على بعض الأقوال ، ويمكن أن تدخل في الملازمات العقليّة على البعض الآخر.
ولكن لأجل الجمع
بين الجهتين ناسب إدخالها في الملازمات العقليّة ـ كما صنعنا ـ ؛ لأنّ البحث فيها
على كلّ حال في ثبوت الملازمة ، غاية الأمر أنّه على أحد الأقوال تدخل
__________________
صغرى لحجّيّة الظهور كما تدخل صغرى لحجّيّة العقل. وعلى القول الآخر تتمحّض في
الدخول صغرى لحجّيّة العقل. والجامع بينهما هو جعلها صغرى لحجيّة العقل.
ثمرة النزاع
إنّ ثمرة النزاع
المتصوّرة ـ أوّلا وبالذات ـ لهذه المسألة هي استنتاج وجوب المقدّمة شرعا بالإضافة
إلى وجوبها العقليّ الثابت. وهذا المقدار كاف في ثمرة المسألة الأصوليّة ؛ لأنّ
المقصود من علم الأصول هو الاستعانة بمسائله على استنباط الأحكام من أدلّتها.
ولكنّ هذه ثمرة
غير عمليّة باعتبار أنّ المقدّمة بعد فرض وجوبها العقليّ ، ولابدّيّة الإتيان بها
لا فائدة في القول بوجوبها شرعا ، أو بعدم وجوبها ؛ إذ لا مجال للمكلّف أن يتركها
بحال ما دام هو بصدد امتثال ذي المقدّمة.
وعليه ، فالبحث عن
هذه المسألة لا يكون بحثا عمليّا مفيدا ، بل يبدو لأوّل وهلة أنّه لغو من القول لا
طائل تحته ، مع أنّ هذه المسألة من أشهر مسائل هذا العلم ، وأدقّها ، وأكثرها
بحثا.
ومن أجل هذا أخذ
بعض الأصوليّين المتأخّرين يفتّشون عن فوائد عمليّة لهذا البحث غير ثمرة أصل
الوجوب. وفي الحقيقة أنّ كلّ ما ذكروه من ثمرات لا تسمن ولا تغني من جوع. (راجع
عنها المطوّلات إن شئت) .
فيا ترى هل كان
البحث عنها كلّه لغوا؟ وهل من الأصحّ أن نترك البحث عنها؟ نقول : لا ؛ إنّ للمسألة
فوائد علميّة كثيرة وإن لم تكن لها فوائد عمليّة ، ولا يستهان بتلك الفوائد ، كما
سترى ، ثمّ هي ترتبط بكثير من المسائل ذات الشأن العمليّ في الفقه ، كالبحث عن
الشرط المتأخّر ، والمقدّمات المفوّتة ، وعباديّة بعض المقدّمات ، كالطهارات
الثلاث ممّا لا يسع الأصوليّ أن يتجاهلها ، ويغفلها. وهذا كلّه ليس بالشيء القليل
وإن لم تكن هي
__________________
من المسائل
الأصوليّة.
ولذا تجد أنّ أهمّ
مباحث مسألتنا هي هذه الأمور المنوّه عنها وأمثالها. أمّا نفس البحث عن أصل
الملازمة فيكاد يكون بحثا على الهامش ، بل آخر ما يشغل بال الأصوليّين.
هذا ، ونحن
اتّباعا لطريقتهم نضع التمهيدات قبل البحث عن أصل المسألة في أمور تسعة :
١. الواجب النفسيّ
والغيريّ
تقدّم في الجزء
الأوّل معنى الواجب النفسيّ والغيريّ ، ويجب توضيحهما الآن ؛
فإنّه هنا موضع الحاجة لبحثهما ؛ لأنّ الوجوب الغيريّ هو نفس وجوب المقدّمة ـ على
تقدير القول بوجوبها ـ ، وعليه فنقول في تعريفهما :
الواجب
النفسيّ ما وجب لنفسه لا
لواجب آخر.
الواجب
الغيريّ ما وجب لواجب
آخر.
وهذان التعريفان
أسدّ التعريفات لهما وأحسنها ، ولكن يحتاجان إلى بعض من التوضيح ، فإنّ قولنا : «ما وجب
لنفسه» قد يتوّهم منه المتوهّم لأوّل نظرة أنّ العبارة تعطي أنّ معناها أن يكون
وجوب الشيء علّة لنفسه في الواجب النفسيّ ، وذلك بمقتضى المقابلة لتعريف الواجب
الغيريّ إذ يستفاد منه أنّ وجوب الغير علّة لوجوبه ، كما عليه المشهور . ولا شكّ في أنّ هذا محال في الواجب النفسيّ ؛ إذ كيف يكون الشيء علّة لنفسه؟!
ويندفع هذا
التوهّم بأدنى تأمّل ، فإنّ ذلك التعبير عن الواجب النفسيّ صحيح لا غبار عليه ،
وهو نظير تعبيرهم عن الله (تعالى) بأنّه «واجب الوجود لذاته» ؛ فإنّ غرضهم منه أنّ
وجوده ليس مستفادا من الغير ولا لأجل الغير كالممكن ، لا أنّ معناه أنّه معلول
لذاته.
__________________
وكذلك هنا نقول في
الواجب النفسيّ ؛ فإنّ معنى «ما وجب لنفسه» أنّ وجوبه غير مستفاد من الغير ولا
لأجل الغير في قبال الواجب الغيريّ الذي وجوبه لأجل الغير ، لا أنّ وجوبه مستفاد
من نفسه.
وبهذا يتّضح معنى
تعريف الواجب الغيريّ «ما وجب لواجب آخر» ؛ فإنّ معناه أنّ وجوبه لأجل الغير وتابع
للغير ؛ لكونه مقدّمة لذلك الغير الواجب. وسيأتي في البحث الآتي توضيح معنى
التبعيّة هذه ليتجلّى لنا المقصود من الوجوب الغيريّ في الباب.
٢. معنى التبعيّة
في الوجوب الغيريّ :
قد شاع في
تعبيراتهم كثيرا قولهم : «إنّ الواجب الغيريّ تابع في وجوبه لوجوب غيره» ، ولكن
هذا التعبير مجمل جدّا ؛ لأنّ التبعيّة في الوجوب يمكن أن تتصوّر لها معان أربعة ،
فلا بدّ من بيانها ، وبيان المعنى المقصود منها هنا ، فنقول :
١. أن يكون معنى
الوجوب التبعيّ هو الوجوب بالعرض. ومعنى ذلك أنّه ليس في الواقع إلاّ وجوب واحد
حقيقيّ ـ وهو الوجوب النفسيّ ـ ينسب إلى ذي المقدّمة أوّلا وبالذات ، وإلى
المقدّمة ثانيا وبالعرض. وذلك نظير الوجود بالنسبة إلى اللفظ والمعنى حينما يقال :
«المعنى موجود باللفظ» ، فإنّ المقصود بذلك أنّ هناك وجودا واحدا حقيقيّا ينسب إلى
اللفظ أوّلا وبالذات ، وإلى المعنى ثانيا وبالعرض.
ولكن هذا الوجه من
التبعيّة لا ينبغي أن يكون هو المقصود من التبعيّة هنا ؛ لأنّ المقصود من الوجوب
الغيريّ وجوب حقيقيّ آخر يثبت للمقدّمة غير وجوب ذيها النفسيّ ، بأن يكون لكلّ من
المقدّمة وذيها وجوب قائم به حقيقة. ومعنى التبعيّة في هذا الوجه أنّ الوجوب
الحقيقيّ واحد ويكون الوجوب الثاني وجوبا مجازيّا. على أنّ هذا الوجوب بالعرض ليس
وجوبا يزيد على اللابدّيّة العقليّة للمقدّمة حتّى يمكن فرض النزاع فيه نزاعا
عمليّا.
٢. أن يكون معنى
التبعيّة صرف التأخّر في الوجود ، فيكون ترتّب الوجوب الغيريّ على الوجوب النفسيّ
نظير ترتّب أحد الوجودين المستقلّين على الآخر ، بأن يفرض البعث الموجّه للمقدّمة
بعثا مستقلاّ ، ولكنّه بعد البعث نحو ذيها ، مرتّب عليه في الوجود ، فيكون
من قبيل الأمر
بالحجّ المرتّب وجودا على حصول الاستطاعة ، ومن قبيل الأمر بالصلاة بعد حصول
البلوغ أو دخول الوقت.
ولكن هذا الوجه من
التبعيّة أيضا لا ينبغي أن يكون هو المقصود هنا ؛ فإنّه لو كان ذلك هو المقصود ،
لكان هذا الوجوب للمقدّمة ـ في الحقيقة ـ وجوبا نفسيّا آخر في مقابل وجوب ذي
المقدّمة ، وإنّما يكون وجوب ذي المقدّمة له السبق في الوجود فقط. وهذا ينافي
حقيقة المقدّميّة ؛ فإنّها لا تكون إلاّ موصلة إلى ذي المقدّمة في وجودها وفي
وجوبها معا.
٣. أن يكون معنى
التبعيّة ترشّح الوجوب الغيريّ من الوجوب النفسيّ لذي المقدّمة على وجه يكون
معلولا له ومنبعثا منه انبعاث الأثر من مؤثّره التكوينيّ ، كانبعاث الحرارة من
النار.
وكأنّ هذا الوجه
من التبعيّة هو المقصود للقوم ، ولذا قالوا بأنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها
إطلاقا واشتراطا لمكان هذه المعلوليّة ؛ لأنّ المعلول لا يتحقّق إلاّ حيث
تتحقّق علّته ، وإذا تحقّقت العلّة لا بدّ من تحقّقه بصورة لا يتخلّف عنها. وأيضا
علّلوا امتناع وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها بامتناع وجود المعلول قبل وجود علّته.
ولكن هذا الوجه لا
ينبغي أن يكون هو المقصود من تبعيّة الوجوب الغيريّ ، وإن اشتهر على الألسنة ؛
لأنّ الوجوب النفسيّ لو كان علّة للوجوب الغيريّ فلا يصحّ فرضه إلاّ علّة فاعليّة
تكوينيّة دون غيرها من العلل ؛ فإنّه لا معنى لفرضه علّة صوريّة ، أو مادّيّة ، أو
غائية ، ولكن فرضه علّة فاعليّة أيضا باطل جزما ؛ لوضوح أنّ العلّة الفاعليّة
الحقيقيّة للوجوب هو الآمر ؛ لأنّ الأمر فعل الآمر.
والظاهر أنّ السبب
في اشتهار معلوليّة الوجوب الغيريّ هو أنّ شوق الآمر للمقدّمة هو الذي يكون منبعثا
من الشوق إلى ذي المقدّمة ؛ لأنّ الإنسان إذا اشتاق إلى فعل شيء اشتاق بالتبع إلى
فعل كلّ ما يتوقّف عليه. ولكنّ الشوق إلى فعل الشيء من الغير ليس هو الوجوب ،
وإنّما الشوق إلى فعل الغير يدفع الآمر إلى الأمر به إذا لم يحصل ما يمنع من الأمر
به ، فإذا صدر منه الأمر ـ وهو أهل له ـ انتزع منه الوجوب.
__________________
والحاصل : ليس الوجوب الغيريّ معلولا للوجوب النفسيّ في ذي
المقدّمة ، ولا ينتهي إليه في سلسلة العلل ، وإنّما ينتهي الوجوب الغيريّ في سلسلة
علله إلى الشوق إلى ذي المقدّمة إذا لم يكن هناك مانع لدى الآمر من الأمر
بالمقدّمة ، لأنّ الشوق ـ على كلّ حال ـ ليس علّة تامّة إلى فعل ما يشتاق إليه.
فتذكّر هذا ، فإنّه سينفعك في وجوب المقدّمة المفوّتة وفي أصل وجوب المقدّمة ،
فإنّه بهذا البيان سيتّضح كيف يمكن فرض وجوب المقدّمة المفوّتة قبل وجوب ذيها؟ ،
وبهذا البيان سيتّضح أيضا كيف إنّ المقدّمة مطلقا ليست واجبة بالوجوب المولويّ؟.
٤. أن يكون معنى
التبعيّة هو ترشّح الوجوب الغيريّ من الوجوب النفسيّ ولكن لا بمعنى أنّه معلول له
، بل بمعنى أنّ الباعث للوجوب الغيريّ ـ على تقدير القول به ـ هو الوجوب النفسيّ
باعتبار أنّ الأمر بالمقدّمة والبعث نحوها إنّما هو لغاية التوصّل إلى ذيها الواجب
وتحصيله ، فيكون وجوبها وصلة وطريقا إلى تحصيل ذيها ، ولو لا أنّ ذاها كان مرادا
للمولى لما أوجب المقدّمة.
ويشير إلى هذا
المعنى من التبعيّة تعريفهم للواجب الغيريّ بأنّه : «ما وجب لواجب آخر» ، أي لغاية
واجب آخر ولغرض تحصيله والتوصّل إليه ، فيكون الغرض من وجوب المقدّمة ـ على تقدير
القول به ـ هو تحصيل ذيها الواجب.
وهذا المعنى هو
الذي ينبغي أن يكون معنى التبعيّة المقصودة في الوجوب الغيريّ. ويلزمها أن يكون
الوجوب الغيريّ تابعا لوجوبه إطلاقا واشتراطا.
وعليه ، فالوجوب
الغيريّ وجوب حقيقيّ ولكنّه وجوب تبعيّ توصّليّ آليّ ، وشأن وجوب المقدّمة شأن نفس
المقدّمة. فكما أنّ المقدّمة بما هي مقدّمة لا يقصد فاعلها إلاّ التوصّل إلى ذيها
، كذلك وجوبها إنّما هو للتوصّل إلى تحصيل ذيها ، كالآلة الموصلة التي لا تقصد
بالأصالة والاستقلال.
وسرّ هذا واضح ،
فإنّ المولى ـ بناء على القول بوجوب المقدّمة ـ إذا أمر بذي المقدّمة ، فإنّه لا
بدّ له لغرض تحصيله من المكلّف أن يدفعه ويبعثه نحو مقدّماته ، فيأمره بها توصّلا
إلى غرضه.
فيكون البعث نحو
المقدّمة ـ على هذا ـ بعثا حقيقيّا ، لا أنّه يتبع البعث إلى ذيها على وجه ينسب
إليها بالعرض ، كما في الوجه الأوّل ، ولا أنّه يبعثه ببعث مستقلّ لنفس المقدّمة
ولغرض فيها بعد البعث نحو ذيها ، كما في الوجه الثاني ، ولا أنّ البعث نحو
المقدّمة من آثار البعث نحو ذيها على وجه يكون معلولا له كما في الوجه الثالث.
وسيأتي تتمّة للبحث في المقدّمات المفوّتة.
٣. خصائص الوجوب
الغيريّ
بعد ما اتّضح معنى
التبعيّة في الوجوب الغيريّ تتّضح لنا خصائصه التي بها يمتاز عن الوجوب النفسيّ ،
وهي أمور :
١. إنّ الواجب
الغيريّ كما لا بعث استقلاليّ له ـ كما تقدّم ـ لا إطاعة استقلاليّة له ، وإنّما
إطاعته كوجوبه لغرض التوصّل إلى ذي المقدّمة ، بخلاف الواجب النفسيّ ؛ فإنّه واجب
لنفسه ويطاع لنفسه.
٢. إنّه بعد أن
قلنا : إنّه لا إطاعة استقلاليّة للوجوب الغيريّ ، وإنّما إطاعته كوجوبه لصرف
التوصّل إلى ذي المقدّمة ، فلا بدّ ألاّ يكون له ثواب على إطاعته غير الثواب الذي يحصل على إطاعة وجوب ذي المقدّمة ، كما لا عقاب على عصيانه
غير العقاب على عصيان وجوب ذي المقدّمة. ولذا نجد أنّ من ترك الواجب بترك مقدّماته
لا يستحقّ أكثر من عقاب واحد على نفس الواجب النفسيّ ، لا أنّه يستحقّ عقابات
متعدّدة بعدد مقدّماته المتروكة.
وأمّا : ما ورد في
الشريعة ـ من الثواب على بعض المقدّمات مثل ما ورد من الثواب
__________________
__________________
على المشي على
القدم إلى الحجّ أو زيارة الحسين عليهالسلام وأنّه في كلّ خطوة كذا من الثواب ـ فينبغي ـ على هذا ـ أن
يحمل على توزيع ثواب نفس العمل على مقدّماته باعتبار «أنّ أفضل الأعمال أحمزها» ، وكلّما كثرت مقدّمات العمل وزادت صعوبتها كثرت حمازة العمل ومشقّته ، فينسب
الثواب إلى المقدّمة مجازا ثانيا وبالعرض ، باعتبار أنّها السبب في زيادة مقدار
الحمازة والمشقّة في نفس العمل ، فتكون السبب في زيادة الثواب ، لا أنّ الثواب على
نفس المقدّمة.
ومن أجل أنّه لا ثواب
على المقدّمة استشكلوا في استحقاق الثواب على فعل بعض المقدّمات ، كالطهارات
الثلاث ، الظاهر منه أنّ الثواب على نفس المقدّمة بما هي. وسيأتي حلّه إن شاء الله
(تعالى).
٣. إنّ الوجوب
الغيريّ لا يكون إلاّ توصّليّا ، أي لا يكون في حقيقته عباديّا ، ولا يقتضي في
نفسه عباديّة المقدّمة ، إذا لا يتحقّق فيه قصد الامتثال على نحو الاستقلال ، كما
قلنا في الخاصّة الأولى : أنّه لا إطاعة استقلاليّة له ، بل إنّما يؤتى بالمقدّمة
بقصد التوصّل إلى ذيها ، وإطاعة أمر ذيها ، فالمقصود بالامتثال به نفس أمر ذيها.
ومن هنا استشكلوا
في عباديّة بعض المقدّمات ، كالطهارات الثلاث. وسيأتي حلّه إن شاء الله (تعالى).
٤. إنّ الوجوب
الغيريّ تابع لوجوب ذي المقدّمة إطلاقا واشتراطا ، وفعليّة وقوّة ، قضاء لحقّ
التبعيّة ، كما
تقدّم. ومعنى ذلك
: أنّه كلّ ما هو شرط في وجوب ذي المقدّمة فهو
__________________
شرط في وجوب
المقدّمة ، وما ليس بشرط لا يكون شرطا لوجوبها ، كما أنّه كلّما تحقّق وجوب ذي
المقدّمة تحقّق معه وجوب المقدّمة. وعلى هذا قيل : يستحيل تحقّق وجوب فعليّ
للمقدّمة قبل تحقّق وجوب ذيها ؛ لاستحالة حصول التابع قبل حصول متبوعه ، أو
لاستحالة حصول المعلول قبل حصول علّته بناء على أنّ وجوب المقدّمة معلول لوجوب
ذيها.
ومن هنا استشكلوا
في وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها في المقدّمات المفوّتة ، كوجوب الغسل ـ مثلا ـ قبل
الفجر لإدراك الصوم على طهارة حين طلوع الفجر ، فعدم تحصيل الغسل قبل الفجر يكون
مفوّتا للواجب في وقته ، ولهذا سمّيت : «مقدّمة مفوّتة» باعتبار أنّ تركها قبل
الوقت يكون مفوّتا للواجب في وقته ، فقالوا بوجوبها قبل الوقت مع أنّ الصوم لا يجب
قبل وقته ، فكيف تفرض فعليّة وجوب مقدّمته؟!
وسيأتي إن شاء
الله (تعالى) حلّ هذا الإشكال في بحث المقدّمات المفوّتة .
تمرينات (٣٥)
التمرين الأوّل
١. ما هو محلّ
النزاع في مقدّمة الواجب؟
٢. كيف تدخل مسألة
مقدّمة الواجب في باب الملازمات العقليّة؟ ولما ذا أدرجها الأكثر في مباحث الألفاظ؟
٣. ما هي ثمرة
النزاع في مقدّمة الواجب ، عمليّة وعلميّة.
٤. ما تعريف
الواجب النفسيّ والغيريّ؟
٥. كيف يدفع
الاعتراض على تعريف الواجب النفسيّ بأنّه يلزم كون الشيء علّة لنفسه؟
٦. اذكر معاني
التبعيّة في الوجوب ، وبيّن المعنى المقصود منها في الوجوب الغيريّ.
٧. ما هي خصائص
الوجوب الغيريّ؟
التمرين الثاني
١. بيّن آراء
العلماء في أنّ مسألة مقدّمة الواجب هل هي من المسائل الأصوليّة أم لا؟
__________________
٤. مقدّمة الوجوب
قسّموا المقدّمة
إلى قسمين مشهورين :
١. مقدّمة الوجوب
وتسمّى «المقدّمة الوجوبيّة» ، وهي : ما يتوقّف عليها نفس الوجوب ، بأن تكون شرطا
للوجوب على قول مشهور . وقيل : إنّها تؤخذ في الواجب على وجه تكون مفروضة التحقّق
والوجود على قول آخر ، ومع ذلك تسمّى «مقدّمة الوجوب». ومثالها الاستطاعة
بالنسبة إلى الحجّ ، وكالبلوغ ، والعقل ، والقدرة بالنسبة إلى جميع الواجبات ،
ويسمّى الواجب بالنسبة إليها «الواجب المشروط».
٢. مقدّمة الواجب
وتسمّى «المقدّمة الوجوديّة» ، وهي ما يتوقّف عليها وجود الواجب بعد فرض عدم تقييد
الوجوب بها ؛ بل يكون الوجوب بالنسبة إليها مطلقا ، ولا تؤخذ
بالنسبة إليه مفروضة الوجود ، بل لا بدّ من تحصيلها مقدّمة لتحصيله ،
كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، والسفر بالنسبة إلى الحجّ ونحو ذلك. ويسمّى الواجب
بالنسبة إليها «الواجب المطلق» .
والمقصود من ذكر
هذا التقسيم بيان أنّ محلّ النزاع في مقدّمة الواجب هو خصوص القسم الثاني ، أعني
المقدّمة الوجوديّة ، دون المقدّمة الوجوبيّة. والسرّ واضح ؛ لأنّه إذا كانت
المقدّمة الوجوبيّة مأخوذة على أنّها مفروضة الحصول فلا معنى لوجوب تحصيلها ،
فإنّه خلف ، فلا يجب تحصيل الاستطاعة لأجل الحجّ ، بل إن اتّفق حصول
الاستطاعة ، وجب
__________________
الحجّ عندها. وذلك
نظير الفوت في قوله عليهالسلام : «اقض ما فات كما فات» ؛ فإنّه لا يجب تحصيله لأجل امتثال الأمر بالقضاء ، بل إن اتّفق الفوت وجب
القضاء.
٥. المقدّمة
الداخليّة
تنقسم المقدّمة
الوجوديّة إلى قسمين : داخليّة وخارجيّة.
١. «المقدّمة
الداخليّة» هي جزء الواجب المركّب ، كالصلاة. وإنّما اعتبروا الجزء مقدّمة ،
فباعتبار أنّ المركّب متوقّف في وجوده على أجزائه ، فكلّ جزء في نفسه هو مقدّمة
لوجود المركّب ، كتقدّم الواحد على الاثنين. وإنّما سمّيت : «داخليّة» فلأجل أنّ
الجزء داخل في قوام المركّب ، وليس للمركّب وجود مستقلّ غير نفس وجود الأجزاء.
٢. «المقدّمة
الخارجيّة» وهي كلّ ما يتوقّف عليه الواجب وله وجود مستقلّ خارج عن وجود الواجب.
والغرض من ذكر هذا
التقسيم هو بيان أنّ النزاع في مقدّمة الواجب هل يشمل المقدّمة الداخليّة أو أنّ
ذلك يختصّ بالخارجيّة؟
ولقد أنكر جماعة
شمول النزاع للداخليّة . وسندهم في هذا الإنكار أحد أمرين :
الأوّل : إنكار
المقدّميّة للجزء رأسا ، باعتبار أنّ المركّب نفس الأجزاء بالأسر فكيف يفرض توقّف
الشيء على نفسه؟!
__________________
الثاني : بعد
تسليم أنّ الجزء مقدّمة ، ولكن يستحيل اتّصافه بالوجوب الغيريّ ما دام أنّه واجب
بالوجوب النفسيّ ؛ لأنّ المفروض أنّه جزء الواجب بالوجوب النفسيّ ، وليس المركّب
إلاّ أجزاءه بالأسر ، فينبسط الوجوب على الأجزاء. وحينئذ لو وجب الجزء بالوجوب
الغيريّ أيضا ، لاتّصف الجزء بالوجوبين.
وقد اختلفوا في
بيان وجه استحالة اجتماع الوجوبين ، ولا يهمّنا
بيان الوجه فيه بعد الاتّفاق على الاستحالة.
ولمّا كان هذا
البحث لا نتوقّع منه فائدة عمليّة حتّى مع فرض الفائدة العمليّة في مسألة وجوب
المقدّمة ، مع أنّه بحث دقيق يطول الكلام حوله ، فنحن نطوي عنه صفحا محيلين الطالب
إلى المطوّلات إن شاء .
٦. الشرط الشرعيّ
إنّ المقدّمة
الخارجيّة تنقسم إلى قسمين : عقليّة وشرعيّة.
١. «المقدّمة
العقليّة» هي كلّ أمر يتوقّف عليه وجود الواجب توقّفا واقعيّا يدركه العقل بنفسه
من دون استعانة بالشرع ، كتوقّف الحجّ على قطع المسافة.
٢. «المقدّمة
الشرعيّة» هي كلّ أمر يتوقّف عليه الواجب توقّفا لا يدركه العقل بنفسه ،
__________________
بل يثبت ذلك من
طريق الشرع ، كتوقّف الصلاة على الطهارة ، واستقبال القبلة ، ونحوهما. ويسمّى هذا
الأمر أيضا «الشرط الشرعيّ» باعتبار أخذه شرطا وقيدا في المأمور به عند الشارع ،
مثل قوله عليهالسلام : «لا صلاة إلاّ بطهور» المستفادة منه شرطيّة الطهارة للصلاة.
والغرض من ذكر هذا
التقسيم بيان أنّ النزاع في مقدّمة الواجب هل يشمل الشرط الشرعيّ؟
ولقد ذهب بعض
أعاظم مشايخنا ـ على ما يظهر من بعض تقريرات درسه ـ إلى أنّ الشرط الشرعيّ كالجزء لا يكون واجبا بالوجوب الغيريّ ، وسمّاه : «مقدّمة
داخليّة بالمعنى الأعم» ، باعتبار أنّ التقيّد لمّا كان داخلا في المأمور به وجزءا
له فهو واجب بالوجوب النفسيّ. ولمّا كان انتزاع التقيّد إنّما
يكون من القيد ـ أي منشأ انتزاعه هو القيد ـ والأمر بالعنوان المنتزع أمر بمنشإ
انتزاعه ؛ إذ لا وجود للعنوان المنتزع إلاّ بوجود منشأ انتزاعه ، فيكون الأمر
النفسيّ المتعلّق بالتقيّد متعلّقا بالقيد ؛ وإذا كان القيد واجبا نفسيّا فكيف
يكون مرّة أخرى واجبا بالوجوب الغيريّ؟!
ولكن هذا كلام لا
يستقيم عند شيخنا المحقّق الأصفهانيّ رحمهالله ، وقد ناقشه في مجلس بحثه بمناقشات مفيدة. وهو على حقّ في
مناقشاته :
أمّا
أوّلا : فلأنّ هذا
التقيّد المفروض دخوله في المأمور به لا يخلو : إمّا أن يكون دخيلا في أصل الغرض
من المأمور به ، وإمّا أن يكون دخيلا في فعليّة الغرض منه ، ولا ثالث لهما.
فإن كان من قبيل
الأوّل فيجب أن يكون مأمورا به بالأمر النفسيّ ، ولكن بمعنى أنّ متعلّق الأمر لا
بدّ أن يكون الخاصّ بما هو خاصّ ، وهو المركّب من المقيّد والقيد ، فيكون
__________________
القيد والتقيّد
معا داخلين. والسرّ في ذلك واضح ؛ لأنّ الغرض يدعو بالأصالة إلى إرادة ما هو واف
بالغرض ، وما يفي بالغرض ـ حسب الفرض ـ هو الخاصّ بما هو خاصّ ـ أي المركّب من
المقيّد والقيد ـ ، لا أنّ الخصوصيّة تكون خصوصيّة في المأمور به المفروغ عن كونه
مأمورا به ؛ لأنّ المفروض أنّ ذات المأمور به ذي الخصوصيّة ليس وحده دخيلا في
الغرض. وعلى هذا فيكون هذا القيد جزءا من المأمور به كسائر أجزائه الأخرى ، ولا
فرق بين جزء وجزء في كونه من جملة المقدّمات الداخليّة ؛ فتسمية مثل هذا الجزء
بالمقدّمة الداخليّة بالمعنى الأعمّ ، بلا وجه ، بل هو مقدّمة داخليّة بقول مطلق ،
كما لا وجه لتسميته بالشرط.
وإن كان من قبيل
الثاني فهذا هو شأن الشرط ، سواء كان شرطا شرعيّا أو عقليّا ، ومثل هذا لا يعقل أن
يدخل في حيّز الأمر النفسيّ ، لأنّ الغرض ـ كما قلنا ـ لا يدعو بالأصالة إلاّ إلى
إرادة ذات ما يفي بالغرض ويقوم به في الخارج ، وأمّا ما له دخل في تأثير السبب ـ أي
في فعليّة الغرض ـ فلا يدعو إليه الغرض في عرض ذات السبب ، بل الذي يدعو إلى إيجاد
شرط التأثير لا بدّ أن يكون غرضا تبعيّا يتبع الغرض الأصليّ وينتهي إليه.
ولا فرق بين الشرط
الشرعيّ وغيره في ذلك ، وإنّما الفرق أنّ الشرط الشرعيّ لمّا كان لا يعلم دخله في
فعليّة الغرض إلاّ من قبل المولى ، كالطهارة والاستقبال ونحوهما بالنسبة إلى
الصلاة ، فلا بدّ أن ينبّه المولى على اعتباره ولو بأن يأمر به ، إمّا بالأمر
المتعلّق بالمأمور به ، أي يأخذه قيدا فيه ، كأن يقول مثلا : «صلّ عن طهارة» ، أو
بأمر مستقلّ كأن يقول مثلا : «تطهّر للصلاة» ، وعلى جميع الأحوال لا تكون الإرادة
المتعلّقة به في عرض إرادة ذات السبب حتّى يكون مأمورا به بالأمر النفسيّ ، بل
الإرادة فيه تبعيّة وكذا الأمر به.
فإن
قلتم : على هذا يلزم
سقوط الأمر المتعلّق بذات السبب الواجب إذا جاء به المكلّف من دون الشرط.
قلت : من لوازم الاشتراط عدم سقوط الأمر بالسبب بفعله من دون
شرطه ، وإلاّ كان الاشتراط لغوا وعبثا.
وأمّا
ثانيا : فلو سلّمنا
دخول التقيّد في الواجب على وجه يكون جزءا منه ؛ فإنّ هذا
لا يوجب أن يكون
نفس القيد والشرط ـ الذي هو حسب الفرض منشأ لانتزاع التقيّد ـ مقدّمة داخليّة ، بل
هو مقدّمة خارجيّة ، فإنّ وجود الطهارة ـ مثلا ـ يوجب حصول تقيّد الصلاة بها ،
فتكون مقدّمة خارجيّة للتقيّد الذي هو جزء حسب الفرض. وهذا يشبه المقدّمات
الخارجيّة لنفس أجزاء المأمور بها الخارجيّة ، فكما أنّ مقدّمة الجزء ليست بجزء
فكذلك مقدّمة التقيّد ليست جزءا.
والحاصل
أنّه لمّا فرضتم
في الشرط أنّ التقيّد داخل وهو جزء تحليليّ فقد فرضتم معه أنّ القيد خارج ، فكيف
تفرضون مرّة أخرى أنّه داخل في المأمور به المتعلّق بالمقيّد؟!
٧. الشرط المتأخّر
لا شكّ في أنّ من
الشروط الشرعيّة ما هو متقدّم في وجوده زمانا على المشروط ، كالوضوء والغسل
بالنسبة إلى الصلاة ونحوها ، بناء على أنّ الشرط نفس الأفعال لا أثرها الباقي إلى
حين الصلاة.
ومنها : ما هو
مقارن للمشروط في وجوده زمانا ، كالاستقبال وطهارة اللباس للصلاة.
وإنّما وقع الشكّ
في الشرط المتأخّر ، أي إنّه هل يمكن أن يكون الشرط الشرعيّ متأخّرا في وجوده
زمانا عن المشروط أو لا يمكن؟
ومن قال بعدم
إمكانه قاس الشرط الشرعيّ على الشرط العقليّ ، فإنّ المقدّمة
العقليّة يستحيل فيها أن تكون متأخّرة عن ذي المقدّمة ؛ لأنّه لا يوجد الشيء إلاّ
بعد فرض وجود علّته التامّة المشتملة على كلّ ما له دخل في وجوده ؛ لاستحالة وجود
المعلول بدون علّته التامّة. وإذا وجد الشيء فقد انتهى ، فأيّة حاجة له تبقى إلى
ما سيوجد بعد.
ومنشأ هذا الشكّ
والبحث ورود بعض الشروط الشرعيّة التي ظاهرها تأخّرها في الوجود عن المشروط ، وذلك
مثل الغسل الليليّ للمستحاضة الكبرى الذي هو شرط ـ عند بعضهم ـ لصوم النهار السابق على الليل. ومن هذا الباب إجازة بيع الفضوليّ بناء
__________________
على أنّها كاشفة
عن صحّة البيع لا ناقلة.
ولأجل ما ذكرنا من
استحالة الشرط المتأخّر في العقليّات اختلف العلماء في الشرط الشرعيّ اختلافا
كثيرا جدّا ، فبعضهم ذهب إلى إمكان الشرط المتأخّر في الشرعيّات ، وبعضهم ذهب إلى استحالته قياسا على الشرط العقليّ كما ذكرنا آنفا ، والذاهبون إلى الاستحالة أوّلوا ما ورد في الشريعة بتأويلات كثيرة يطول
شرحها.
وأحسن ما قيل في
توجيه إمكان الشرط المتأخّر في الشرعيّات ما عن بعض مشايخنا الأعاظم قدسسرهم في بعض تقريرات
درسه . وخلاصته : «أنّ الكلام تارة يكون في شرط المأمور به ،
وأخرى في شرط الحكم ، سواء كان تكليفيّا أم وضعيّا.
أمّا : في شرط
المأمور به ، فإنّ مجرّد كونه شرطا شرعيّا للمأمور به لا مانع منه ؛
__________________
لأنّه ليس معناه
إلاّ أخذه قيدا في المأمور به على أن تكون الحصّة الخاصّة من المأمور به هي المطلوبة.
وكما يجوز ذلك في الأمر السابق والمقارن فإنّه يجوز في اللاحق بلا فرق. نعم ، إذا
رجع الشرط الشرعيّ إلى شرط واقعيّ ، كرجوع شرط الغسل الليليّ للمستحاضة إلى أنّه
رافع للحدث في النهار ، فإنّه يكون حينئذ واضح الاستحالة ، كالشرط الواقعيّ بلا
فرق.
وسرّ ذلك أنّ
المطلوب لمّا كان هو الحصّة الخاصّة من طبيعيّ المأمور به ، فوجود القيد المتأخّر
لا شأن له إلاّ الكشف عن وجود تلك الحصّة في ظرف كونها مطلوبة. ولا محذور في ذلك ،
إنّما المحذور في تأثير المتأخّر في المتقدّم.
وأمّا : في شرط
الحكم ، سواء كان الحكم تكليفيّا أم وضعيّا ، فإنّ الشرط فيه معناه أخذه مفروض
الوجود والحصول في مقام جعل الحكم وإنشائه ، وكونه مفروض الوجود لا يفرق فيه بين
أن يكون متقدّما ، أو مقارنا ، أو متأخّرا ، كأن يجعل الحكم في الشرط المتأخّر على
الموضوع المقيّد بقيد أخذ مفروض الوجود بعد وجود الموضوع.
ويتقرّب ذلك إلى
الذهن بقياسه على الواجب المركّب التدريجيّ الحصول ، فإنّ التكليف في فعليّته في
الجزء الأوّل وما بعده يبقى مراعى إلى أن يحصل الجزء الأخير من المركّب ، وقد بقيت
ـ إلى حين حصول كمال الأجزاء ـ شرائط التكليف من الحياة والقدرة ونحوهما.
وهكذا يفرض الحال
فيما نحن فيه ، فإنّ الحكم في الشرط المتأخّر يبقى في فعليّته مراعى إلى أن يحصل
الشرط الذي أخذ مفروض الحصول ، فكما أنّ الجزء الأوّل من المركّب التدريجيّ الواجب
في فرض حصول جميع الأجزاء يكون واجبا وفعليّ الوجوب من أوّل الأمر ، لا أنّ
فعليّته تكون بعد حصول جميع الأجزاء ، وكذا باقي الأجزاء لا تكون فعليّة وجوبها
بعد حصول الجزء الأخير ، بل حين حصولها ولكن في فرض حصول الجميع ، فكذلك [في] ما
نحن فيه يكون الواجب المشروط بالشرط المتأخّر فعليّ الوجوب من أوّل الأمر في فرض
حصول الشرط في ظرفه ، لا أنّ فعليّته تكون متأخّرة إلى حين الشرط.»
هذا خلاصة رأي
شيخنا المعظّم ، ولا يخلو عن مناقشة ، والبحث عن
الموضوع بأوسع ممّا ذكرنا لا يسعه هذا المختصر.
تمرينات (٣٦)
التمرين الأوّل
١. ما الفرق بين
مقدّمة الوجوب وبين مقدّمة الواجب؟ ايت لكلّ منهما بمثال.
٢. ما السّر في
عدم دخول مقدّمة الوجوب في محلّ النزاع؟
٣. ما الفرق بين
المقدّمة الداخليّة والمقدّمة الخارجيّة؟ وهل يختصّ النزاع في مقدّمة الواجب
بالخارجيّة أو يعمّ؟
٤. ما تعريف
المقدّمة العقليّة والمقدّمة الشرعيّة؟
٥. بيّن آراء
العلماء في أنّ النزاع في مقدّمة الواجب هل يشمل الشرط الشرعيّ أو لا؟
٦. ما المراد من
الشرط المتأخّر؟ اذكر مثالا له.
٧. ما هي الأقوال
في إمكان الشرط المتأخّر وعدمه؟
٨. ما هو بيان
المحقّق النائيني رحمهالله في توجيه إمكان الشرط المتأخّر؟
التمرين الثاني
١. ما هو مستند
سلطان العلماء في إثبات عدم شمول النزاع للمقدّمة الداخليّة؟ وما وجه استحالة
اجتماع الوجوبين؟
٢. ما هو تعريف
المقدّمة الداخليّة بالمعنى الاعمّ؟ وما تعريفها بالمعنى الأخصّ؟
٣. ما الفرق بين
المقدّمة الخارجيّة بالمعنى الأعمّ وبين المقدّمة الخارجيّة بالمعنى الأخصّ؟
٤. اذكر بعض
التأويلات الذي ذكره الذاهبون إلى استحالة الشرط المتأخّر لما ورد في الشريعة ،
كالوضوء والغسل بالنسبة إلى الصلاة.
__________________
٨. المقدّمات
المفوّتة
ورد في الشريعة
المطهّرة وجوب بعض المقدّمات قبل زمان ذيها في الموقّتات ، كوجوب قطع المسافة
للحجّ قبل حلول أيّامه ، ووجوب الغسل من الجنابة للصوم قبل الفجر ، ووجوب الوضوء
أو الغسل ـ على قول ـ قبل وقت الصلاة عند العلم بعدم التمكّن منه بعد دخول
وقتها ... وهكذا.
وتسمّى هذه
المقدّمات باصطلاحهم : «المقدّمات المفوّتة» باعتبار أنّ تركها موجب لتفويت الواجب
في وقته كما تقدّم.
ونحن نقول : لو لم
يحكم الشارع المقدّس بوجوب مثل هذه المقدّمات فإنّ العقل يحكم بلزوم الإتيان بها ؛
لأنّ تركها موجب لتفويت الواجب في ظرفه ، ويحكم أيضا بأنّ التارك لها يستحقّ
العقاب على تفويت الواجب في ظرفه بسبب تركها.
ولأوّل وهلة يبدو
أنّ هذين الحكمين العقليّين الواضحين لا ينطبقان على القواعد العقليّة البديهيّة
في الباب من جهتين :
أمّا
أوّلا : فلأنّ وجوب
المقدّمة تابع لوجوب ذيها على أيّ نحو فرض من أنحاء التبعيّة ، لا سيّما إذا كان
من نحو تبعيّة المعلول لعلّته على ما هو المشهور. فكيف يفرض الوجوب التابع في زمان
سابق على زمان فرض الوجوب المتبوع؟!
وأمّا
ثانيا : فلأنّه كيف
يستحقّ العقاب على ترك الواجب بترك مقدّمته قبل حضور وقته ، مع أنّه حسب الفرض لا
وجوب له فعلا؟! وأمّا في ظرفه فينبغي أن يسقط وجوبه ؛ لعدم القدرة عليه بترك
مقدّمته ، والقدرة شرط عقليّ في الوجوب.
ولأجل التوفيق بين
هاتيك البديهيّات العقليّة التي تبدو كأنّها متعارضة ـ وإن كان يستحيل التعارض في
الأحكام العقليّة وبديهيّات العقل ـ حاول جماعة من أعلام الأصوليّين المتأخّرين
تصحيح ذلك بفرض انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب و
__________________
تقدّمه عليه ،
إمّا في خصوص الموقّتات أو في مطلق الواجبات ، على اختلاف
المسالك. وبذلك يحصل لهم التوفيق بين تلك الأحكام العقليّة ؛ لأنّه حينما يفرض
تقدّم وجوب ذي المقدّمة على زمانه فلا مانع من فرض وجوب المقدّمة قبل وقت الواجب ،
وكان استحقاق العقاب على ترك الواجب على القاعدة ؛ لأنّ وجوبه كان فعليّا حين ترك
المقدّمة.
أمّا كيف يفرض
تقدّم زمان الوجوب على زمان الواجب؟ وبأيّ مناط؟ فهذا ما اختلف فيه الأنظار
والمحاولات.
فأوّل
المحاولين لحلّ هذه الشبهة
ـ فيما يبدو ـ صاحب الفصول الذي قال بجواز تقدّم زمان الوجوب على طريقة الواجب
المعلّق الذي اخترعه ، كما أشرنا إليه في الجزء الأوّل . وذلك في خصوص الموقّتات ، بفرض أنّ الوقت في الموقّتات وقت للواجب فقط ، لا
للوجوب ، أي إنّ الوقت ليس شرطا وقيدا للوجوب ، بل هو قيد للواجب ، فالوجوب ـ على
هذا الفرض ـ متقدّم على الوقت ولكنّ الواجب معلّق على حضور وقته. والفرق بين هذا
النوع وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف في المشروط للوجوب وفي المعلّق للفعل.
وعليه ، لا مانع من فرض وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها .
ولكن نقول : على
تقدير إمكان فرض تقدّم زمان الوجوب على زمان الواجب ، فإنّ فرض رجوع القيد إلى
الواجب لا إلى الوجوب يحتاج إلى دليل ، ونفس ثبوت وجوب المقدّمة المفوّتة قبل زمان
وجوب ذيها لا يكون وحده دليلا على ثبوت الواجب المعلّق ؛ لأنّ الطريق في تصحيح
وجوب المقدّمة المفوّتة لا ينحصر فيه ، كما سيأتي بيان الطريق الصحيح.
والمحاولة
الثانية : ما نسب إلى
الشيخ الأنصاريّ قدسسره من رجوع القيد في جميع شرائط الوجوب إلى المادّة ، وإن اشتهر القول برجوعها إلى الهيئة ؛ سواء كان الشرط هو الوقت أو غيره ،
كالاستطاعة للحجّ والقدرة والبلوغ والعقل ونحوها من الشرائط العامّة لجميع
__________________
التكاليف. ومعنى
ذلك أنّ الوجوب الذي هو مدلول الهيئة في جميع الواجبات مطلق دائما غير مقيّد بشرط
أبدا ، وكلّ ما يتوهّم من رجوع القيد إلى الوجوب فهو راجع في الحقيقة إلى الواجب
الذي هو مدلول المادّة ؛ غاية الأمر أنّ بعض القيود مأخوذ في الواجب على وجه يكون
مفروض الحصول والوقوع ، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ ، ومثل هذا لا يجب تحصيله
ويكون حكمه حكم ما لو كان شرطا للوجوب ؛ وبعضها لا يكون مأخوذا على وجه يكون مفروض
الحصول ، بل يجب تحصيله توصّلا إلى الواجب ؛ لأنّ الواجب يكون هو المقيّد بما هو
مقيّد بذلك القيد.
وعلى هذا التصوير
، فالوجوب يكون دائما فعليّا قبل مجيء وقته ، وشأنه في ذلك شأن الوجوب على القول
بالواجب المعلّق ، لا فرق بينهما في الموقّتات بالنسبة إلى الوقت ، فإذا كان
الواجب استقباليّا فلا مانع من وجوب المقدّمة المفوّتة قبل زمان ذيها.
والمحاولة
الثالثة : ما نسب إلى
بعضهم من أنّ الوقت شرط للوجوب ، لا للواجب كما في المحاولتين الأوليين ، ولكنّه
مأخوذ فيه على نحو الشرط المتأخّر . وعليه ، فالوجوب
يكون سابقا على زمان الواجب نظير القول بالمعلّق ، فيصحّ فرض وجوب المقدّمة المفوّتة
قبل زمان ذيها ؛ لفعليّة الوجوب قبل زمانه ، فتجب مقدّمته.
وكلّ هذه
المحاولات مذكورة في كتب الأصول المطوّلة ، وفيها مناقشات
وأبحاث طويلة لا يسعها هذا المختصر ، ومع الغضّ عن المناقشة في إمكانها في أنفسها
لا دليل عليها إلاّ ثبوت وجوب المقدّمة قبل زمان [وجوب] ذيها ، إذ كلّ صاحب محاولة
منها يعتقد أنّ التخلّص من إشكال وجوب المقدّمة قبل زمان [وجوب] ذيها ينحصر في
المحاولة التي يتصوّرها ، فالدليل الذي يدلّ على وجوب المقدّمة المفوّتة قبل وقت
الواجب لا محالة يدلّ عنده على محاولته.
والذي أعتقده أنّه
لا موجب لكلّ هذه المحاولات لتصحيح وجوب المقدّمة قبل زمان
__________________
ذيها ، فإنّ
الصحيح ـ كما أفاده شيخنا الأصفهانيّ رحمهالله ـ أنّ وجوب المقدّمة ليس معلولا لوجوب ذيها ، ولا مترشّحا
منه ، فليس هناك إشكال في وجوب المقدّمة المفوّتة قبل زمان ذيها حتّى نلتجئ إلى
إحدى هذه المحاولات لفكّ الإشكال ، وكلّ هذه الشبهة إنما جاءت من هذا الفرض ، وهو
فرض معلوليّة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها ، وهو فرض لا واقع له أبدا ، وإن كان هذا
القول يبدو غريبا على الأذهان المشبعة بفرض أنّ وجوب ذي المقدّمة علّة لوجوب
المقدّمة ، بل نقول أكثر من ذلك : إنّه يجب في المقدّمة المفوّتة أن يتقدّم وجوبها
على وجوب ذيها ، إذا كنّا نقول بأنّ مقدّمة الواجب واجبة ، وإن كان الحقّ ـ وسيأتي
ـ عدم وجوبها مطلقا.
ولبيان عدم
معلوليّة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها نذكر أنّ الأمر ـ في الحقيقة ـ هو فعل الآمر ،
سواء كان الأمر نفسيّا أم غيريّا ، فالآمر هو العلّة الفاعليّة له دون سواه ، ولكن
كلّ أمر إنّما يصدر عن إرادة الآمر ؛ لأنّه فعله الاختياريّ ، والإرادة بالطبع
مسبوقة بالشوق إلى فعل المأمور به ـ أي إنّ الآمر لا بدّ أن يشتاق أوّلا إلى فعل
الغير على أن يصدر من الغير ـ ، فإذا اشتاقه لا بدّ أن يدعو الغير ويدفعه ويحثّه
على الفعل ، فيشتاق إلى الأمر به ، وإذا لم يحصل مانع من الأمر فلا محالة يشتدّ
الشوق إلى الأمر حتّى يبلغ الإرادة الحتميّة ، فيجعل الداعي في نفس الغير للفعل
المطلوب ، وذلك بتوجيه الأمر نحوه.
هذا حال كلّ مأمور
به ، ومن جملته «مقدّمة الواجب» ؛ فإنّه إذا ذهبنا إلى وجوبها من قبل المولى لا
بدّ أن نفرض حصول الشوق أوّلا في نفس الآمر إلى صدورها من المكلّف ، غاية الأمر
أنّ هذا الشوق تابع للشوق إلى فعل ذي المقدّمة ومنبثق منه ؛ لأنّ المختار إذا
اشتاق إلى تحصيل شيء وأحبّه اشتاق وأحبّ بالتبع كلّ ما يتوقّف عليه ذلك الشيء على
نحو الملازمة بين الشوقين. وإذا لم يكن هناك مانع من الأمر بالمقدّمات حصلت لدى
الآمر ـ ثانيا ـ الإرادة الحتميّة التي تتعلّق بالأمر بها ، فيصدر حينئذ الأمر.
إذا عرفت ذلك ،
فإنّك تعرف أنّه إذا فرض أنّ المقدّمة متقدّمة بالوجود الزمانيّ على ذيها على وجه
لا يحصل ذوها في ظرفه وزمانه إلاّ إذا حصلت هي قبل حلول زمانه ، كما في أمثلة
المقدّمات المفوّتة ، فإنّه لا شكّ في أنّ الآمر يشتاقها أن تحصل في ذلك الزمان
المتقدّم ، وهذا
الشوق بالنسبة إلى المقدّمة يتحوّل إلى الإرادة الحتميّة بالأمر ، إذ لا مانع من
البعث نحوها حينئذ ، والمفروض أنّ وقتها قد حان فعلا ، فلا بدّ أن يأمر بها فعلا.
أمّا ذو المقدّمة فحسب الفرض لا يمكن البعث نحوه ، والأمر به قبل وقته ؛ لعدم حصول
ظرفه ، فلا أمر قبل الوقت ، وإن كان الشوق إلى الأمر به حاصل حينئذ ، ولكن لا يبلغ
مبلغ الفعليّة ؛ لوجود المانع.
والحاصل
أنّ الشوق إلى ذي
المقدّمة والشوق إلى المقدّمة حاصلان قبل وقت ذي المقدّمة ، والشوق الثاني منبعث
ومنبثق من الشوق الأوّل ، ولكنّ الشوق إلى المقدّمة يؤثّر أثره ، ويصير إرادة
حتميّة ؛ لعدم وجود ما يمنع من الأمر ، دون الشوق إلى ذي المقدّمة ؛ لوجود المانع
من الأمر.
وعلى هذا ، فتجب
المقدّمة المفوّتة قبل وجوب ذيها ولا محذور فيه ، بل هو أمر لا بدّ منه ، ولا يصحّ
أن يقع غير ذلك.
ولا تستغرب ذلك ،
فإنّ هذا أمر مطّرد حتّى بالنسبة إلى أفعال الإنسان نفسه ، فإنّه إذا اشتاق إلى
فعل شيء اشتاق إلى مقدّماته تبعا ، ولمّا كانت المقدّمات متقدّمة بالوجود زمانا
على ذيها فإنّ الشوق إلى المقدّمات يشتدّ حتى يبلغ درجة الإرادة الحتميّة المحرّكة
للعضلات فيفعلها ، مع أنّ ذا المقدّمة لم يحن وقته بعد ، ولم تحصل له الإرادة
الحتميّة المحرّكة للعضلات ، وإنّما يمكن أن تحصل له الإرادة الحتميّة إذا حان
وقته بعد طيّ المقدّمات.
فإرادة الفاعل
التكوينيّة للمقدّمة متقدّمة زمانا على إرادة ذيها ، وعلى قياسها الإرادة
التشريعيّة ، فلا بدّ أن تحصل للمقدّمة المتقدّمة زمانا قبل أن تحصل لذيها
المتأخّر زمانا ، فيتقدّم الوجوب الفعليّ للمقدّمة على الوجوب الفعليّ لذيها زمانا
، على العكس ممّا اشتهر ولا محذور فيه بل هو المتعيّن.
وهذا حال كلّ
متقدّم بالنسبة إلى المتأخّر ، فإنّ الشوق يصير شيئا فشيئا قصدا وإرادة ، كما في
الأفعال التدريجيّة الوجود .
__________________
وقد تقدّم معنى
تبعيّة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها ، فلا نعيد ، وقلنا : إنّه ليس معناه معلوليّته
لوجوب ذي المقدّمة ، وتبعيّته له وجودا ، كما اشتهر على لسان الأصوليّين .
فان
قلت : إنّ وجوب
المقدّمة ـ كما سبق ـ تابع لوجوب ذي المقدّمة إطلاقا واشتراطا ، ولا شكّ في
أنّ الوقت ـ على الرأي المعروف ـ شرط لوجوب ذي المقدّمة ، فيجب أن يكون أيضا وجوب
المقدّمة مشروطا به ؛ قضاء لحقّ التبعيّة.
قلت : إنّ الوقت على التحقيق ليس شرطا للوجوب بمعنى أنّه دخيل
في مصلحة الأمر ، كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ ، وإن كان دخيلا في مصلحة
المأمور به ، ولكنّه لا يتحقّق البعث قبله ، فلا بدّ أن يؤخذ مفروض الوجود بمعنى
عدم الدعوة إليه ؛ لأنّه غير اختياريّ للمكلّف. أمّا عدم تحقّق وجوب الموقّت قبل
الوقت فلامتناع البعث قبل الوقت.
والسرّ واضح ؛
لأنّ البعث ـ حتى الجعليّ منه ـ يلازم الانبعاث إمكانا ووجودا ، فإذا أمكن
الانبعاث أمكن البعث وإلاّ فلا ، وإذ يستحيل الانبعاث قبل الوقت استحال البعث نحوه
حتّى الجعليّ. ومن أجل هذا نقول بامتناع الواجب المعلّق ، لأنّه يلازم انفكاك
الانبعاث عن البعث.
وهذا بخلاف
المقدّمة قبل وقت الواجب ، فإنّه يمكن الانبعاث نحوها ، فلا مانع من فعليّة البعث
بالنظر إليها لو ثبت ، فعدم فعليّة الوجوب قبل زمان الواجب إنّما هو لوجود المانع
لا لفقدان الشرط ، وهذا المانع موجود في ذي المقدّمة قبل وقته ، مفقود في
المقدّمة.
ويتفرّع على هذا
فرع فقهيّ ، وهو : أنّه حينئذ لا مانع في المقدّمة المفوّتة العباديّة ـ كالطهارات
الثلاث ـ من قصد الوجوب في النيّة قبل وقت الواجب لو قلنا بأنّ مقدّمة الواجب
واجبة.
والحاصل
أنّ العقل يحكم
بلزوم الإتيان بالمقدّمة المفوّتة قبل وقت ذيها ، ولا مانع عقليّ من ذلك.
هذا كلّه من جهة
إشكال انفكاك وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها. وأمّا من جهة
__________________
إشكال استحقاق
العقاب على ترك الواجب بترك مقدّمته مع عدم فعليّة وجوبه فيعلم دفعه ممّا سبق ؛
فإنّ التكليف بذي المقدّمة الموقّت يكون تامّ الاقتضاء ، وإن لم يصر فعليّا لوجود
المانع ، وهو عدم حضور وقته. ولا ينبغي الشكّ في أنّ دفع التكليف مع تماميّة
اقتضائه تفويت لغرض المولى المعلوم الملزم ، وهذا يعدّ ظلما في حقّه ، وخروجا عن
زيّ الرقّيّة ، وتمرّدا عليه ، فيستحقّ عليه العقاب واللوم من هذه الجهة ، وإن لم يكن
فيه مخالفة للتكليف الفعليّ المنجّز.
وهذا لا يشبه دفع
مقتضي التكليف ، كعدم تحصيل الاستطاعة للحجّ ، فإنّ مثله لا يعدّ ظلما ، وخروجا عن
زيّ الرقّيّة ، وتمرّدا على المولى ؛ لأنّه ليس فيه تفويت لغرض المولى المعلوم
التامّ الاقتضاء. والمدار في استحقاق العقاب هو تحقّق عنوان الظلم للمولى ، القبيح
عقلا.
تمرينات (٣٧)
التمرين الأوّل
١. ما هي
المقدّمات المفوّتة؟ ولم سمّيت بالمقدّمات المفوّتة؟
٢. كيف حاول صاحب
الفصول تصحيح تقدّم زمان الوجوب على زمان الواجب في المقدّمات المفوّتة؟
وما وجه ضعف هذه
المحاولة؟
٣. كيف حاول الشيخ
الأنصاريّ لتصحيح تقدّم زمان الوجوب على زمان الواجب في المقدّمات المفوّتة؟
٤. ما هي المحاولة
المنسوبة إلى المحقّق الخراساني لتصحيح الشبهة المذكورة؟
٥. بيّن ما ذهب
إليه المحقّق الأصفهاني في تصحيح وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها.
التمرين الثاني
١. اذكر ما ذهب
إليه المحقّق الأردبيلي وما ذهب إليه العلاّمة الأراكي في تصحيح وجوب المقدّمة قبل
زمان ذيها.
٩. المقدّمة
العباديّة
ثبت بالدليل أنّ
بعض المقدّمات الشرعيّة لا تقع مقدّمة إلاّ إذا وقعت على وجه عباديّ ، وثبت أيضا ترتّب
الثواب عليها بخصوصها. ومثالها منحصر في الطهارات الثلاث : الوضوء ، والغسل ،
والتيمّم.
وقد سبق في الأمر
الثاني الإشكال فيها من جهتين : من جهة أنّ الواجب الغيريّ لا
يكون إلاّ توصّليّا ، فكيف يجوز أن تقع المقدّمة بما هي مقدّمة عبادة؟! ومن جهة
ثانية : أنّ الواجب الغيريّ بما هو واجب غيريّ لا استحقاق للثواب عليه.
وفي الحقيقة إنّ
هذا الإشكال ليس إلاّ إشكالا على أصولنا التي أصّلناها للواجب الغيريّ ، فنقع في
حيرة في التوفيق بين ما فهمناه عن الواجب الغيريّ ، وبين عباديّة هذه المقدّمات
الثابتة عباديّتها ، وإلاّ فكون هذه المقدّمات عباديّة يستحقّ الثواب عليها أمر
مفروغ عنه ، لا يمكن رفع اليد عنه.
فإذن ، لا بدّ لنا
من توضيح ما أصّلناه في الواجب الغيريّ بتوجيه عباديّة المقدّمة على وجه يلائم
توصّليّة الأمر الغيريّ ، وقد ذهبت الآراء أشتاتا في توجيه ذلك.
ونحن نقول على
الاختصار : إنّه من المتيقّن ـ الذي لا ينبغي أن يتطرّق إليه الشكّ من أحد ـ أنّ
الصلاة ـ مثلا ـ ثبت من طريق الشرع توقّف صحّتها على إحدى الطهارات الثلاث ، ولكن
لا تتوقّف على مجرّد أفعالها كيفما اتّفق وقوعها ، بل إنّما تتوقّف على فعل
الطهارة إذا وقع على الوجه العباديّ ، أي إذا وقع متقرّبا به إلى الله (تعالى) ،
فالوضوء العباديّ ـ مثلا ـ هو الشرط ، وهو المقدّمة التي تتوقّف صحّة الصلاة
عليها.
وعليه ، فلا بدّ
أن يفرض الوضوء عبادة قبل فرض تعلّق الأمر الغيريّ به ؛ لأنّ الأمر الغيريّ ـ حسبما
فرضناه ـ إنّما يتعلّق بالوضوء العباديّ بما هو عبادة ، لا بأصل الوضوء بما هو ؛
فلم تنشأ عباديّته من الأمر الغيريّ حتّى يقال : «إنّ عباديّته لا تلائم توصّليّة
الأمر
__________________
الغيريّ» ، بل
عباديّته لا بدّ أن تكون مفروضة التحقّق قبل فرض تعلّق الأمر الغيريّ به. ومن هنا
يصحّ استحقاق الثواب عليه ؛ لأنّه عبادة في نفسه.
ولكن ينشأ من هذا
البيان إشكال آخر ، وهو أنّه إذا كانت عباديّة الطهارات غير ناشئة من الأمر
الغيريّ ، فما هو الأمر المصحّح لعباديّتها ، والمعروف أنّه لا يصحّ فرض العبادة
عبادة إلاّ بتعلّق أمر بها ليمكن قصد امتثاله ؛ لأنّ قصد امتثال الأمر هو المقوّم
لعباديّة العبادة عندهم ، وليس لها في الواقع إلاّ الأمر الغيريّ ، فرجع الأمر
بالأخير إلى الغيريّ لتصحيح عباديّتها ؟
على أنّه يستحيل
أن يكون الأمر الغيريّ هو المصحّح لعباديّتها ؛ لتوقّف عباديّتها ـ حينئذ ـ على
سبق الأمر الغيريّ ، والمفروض أنّ الأمر الغيريّ متأخّر عن فرض عباديّتها ؛ لأنّه
إنّما تعلّق بها بما هي عبادة ، فيلزم تقدّم المتأخّر وتأخّر المتقدّم ، وهو خلف
محال أو دور على ما قيل .
وقد أجيب عن هذه
الشبهة بوجوه كثيرة .
وأحسنها فيما أرى
ـ بناء على ثبوت الأمر الغيريّ ، أي وجوب مقدّمة الواجب ، وبناء على أنّ عباديّة
العبادة لا تكون إلاّ بقصد الأمر المتعلّق بها ـ هو أنّ المصحّح لعباديّة الطهارات
هو الأمر النفسيّ الاستحبابيّ لها في حدّ ذاتها السابق على تعلّق الأمر الغيريّ
بها. وهذا الاستحباب باق حتّى بعد فرض الأمر الغيريّ ، ولكن لا بحدّ الاستحباب
الذي هو جواز الترك ؛ إذ المفروض أنّه قد وجب فعلها ، فلا يجوز تركها ، وليس
الاستحباب إلاّ مرتبة ضعيفة بالنسبة إلى الوجوب ، فلو طرأ عليه الوجوب لا ينعدم ،
بل يشتدّ وجوده ؛ فيكون الوجوب استمرارا له كاشتداد السواد والبياض من مرتبة ضعيفة
إلى مرتبة أقوى ، وهو وجود واحد مستمرّ. وإذا كان الأمر كذلك فالأمر الغيريّ حينئذ
يدعو إلى ما هو
__________________
عبادة في نفسه ،
فليست عباديّتها متأتّية من الأمر الغيريّ حتّى يلزم الإشكال .
ولكن هذا الجواب ـ
على حسنه ـ غير كاف بهذا المقدار من البيان لدفع الشبهة. وسرّ ذلك أنّه لو كان
المصحّح لعباديّتها هو الأمر الاستحبابيّ النفسيّ بالخصوص لكان يلزم ألاّ تصحّ هذه
المقدّمات إلاّ إذا جاء بها المكلّف بقصد امتثال الأمر الاستحبابيّ فقط ، مع أنّه
لا يفتي بذلك أحد ، ولا شكّ في أنّها تقع صحيحة لو أتي بها بقصد امتثال أمرها
الغيريّ ، بل بعضهم اعتبر قصده في صحّتها بعد دخول وقت الواجب المشروط بها.
فنقول إكمالا للجواب
: إنّه ليس مقصود المجيب من كون استحبابها النفسيّ مصحّحا لعباديّتها أنّ المأمور
به بالأمر الغيريّ هو الطهارة المأتيّ بها بداعي امتثال الأمر الاستحبابيّ. كيف
وهذا المجيب قد فرض عدم بقاء الاستحباب بحدّه بعد ورود الأمر الغيريّ ، فكيف يفرض أنّ المأمور به هو المأتيّ به بداعي امتثال الأمر الاستحبابيّ؟!
بل مقصود المجيب أنّ الأمر الغيريّ لمّا كان متعلّقه هو الطهارة بما هي عبادة ،
ولا يمكن أن تكون عباديّتها ناشئة من نفس الأمر الغيريّ بما هو أمر غيريّ ، فلا
بدّ من فرض عباديّتها لا من جهة الأمر الغيريّ وبفرض سابق عليه ، وليس هو إلاّ
الأمر الاستحبابيّ النفسيّ المتعلّق بها ، وهذا يصحّح عباديّتها قبل فرض تعلّق
الأمر الغيريّ بها ، وإن كان حين توجّه الأمر الغيريّ لا يبقى ذلك الاستحباب بحدّه
وهو جواز الترك ، ولكن لا تذهب بذلك عباديّتها ؛ لأنّ المناط في عباديّتها ليس جواز
الترك كما هو واضح ، بل المناط مطلوبيّتها الذاتيّة ورجحانها النفسيّ ، وهي باقية
بعد تعلّق الأمر الغيريّ. وإذا صحّ تعلّق الأمر الغيريّ بها بما هي عبادة واندكاك
الاستحباب فيه ـ بمعنى أنّ الأمر الغيريّ يكون استمرارا لتلك المطلوبيّة ـ فإنّه
حينئذ لا يبقى إلاّ الأمر الغيريّ صالحا للدعوة إليها ، ويكون هذا الأمر
__________________
__________________
الغيريّ نفسه أمرا
عباديّا ، غاية الأمر أنّ عباديّته لم تجئ من أجل نفس كونه أمرا غيريّا ، بل من
أجل كونه امتدادا لتلك المطلوبيّة النفسيّة وذلك الرجحان الذاتيّ الذي حصل من
ناحية الأمر الاستحبابيّ النفسيّ السابق .
وعليه ، فينقلب
الأمر الغيريّ عباديّا ، ولكنّه عباديّ بالعرض لا بالذات حتّى يقال : «إنّ الأمر
الغيريّ توصّليّ لا يصلح للعباديّة».
من هنا لا يصحّ
الإتيان بالطهارة بقصد الاستحباب بعد دخول الوقت للواجب المشروط بها ؛ لأنّ
الاستحباب بحدّه قد اندكّ في الأمر الغيريّ ، فلم يعد موجودا حتّى يصحّ قصده.
نعم ، يبقى أن
يقال : إنّ الأمر الغيريّ إنّما يدعو إلى الطهارة الواقعة على وجه العبادة ؛ لأنّه
حسب الفرض متعلّقه هو الطهارة بصفة العبادة ، لا ذات الطهارة ، والأمر لا يدعو
إلاّ إلى ما تعلّق به ، فكيف صحّ أن يؤتى بذات العبادة بداعي امتثال أمرها الغيريّ
، ولا أمر غيريّ بذات العبادة؟!
ولكن ندفع هذا
الإشكال بأن نقول : إذا كان الوضوء ـ مثلا ـ مستحبّا نفسيّا فهو قابل لأن يتقرّب
به من المولى ، وفعليّة التقرّب تتحقّق بقصد الأمر الغيريّ المندكّ فيه الأمر
الاستحبابيّ.
وبعبارة أخرى : قد
فرضنا الطهارات عبادات نفسيّة في مرتبة سابقة على الأمر الغيريّ المتعلّق بها ،
والأمر الغيريّ إنّما يدعو إلى ذلك ، فإذا جاء المكلّف بها بداعي الأمر الغيريّ
المندكّ فيه الاستحباب ـ والمفروض [أنّه] ليس هناك أمر موجود غيره ـ صحّ التقرّب
به ، ووقعت عبادة لا محالة ، فيتحقّق ما هو شرط الواجب ومقدّمته.
هذا كلّه بناء على
ثبوت الأمر الغيريّ بالمقدّمة ، وبناء على أنّ مناط عباديّة العبادة هو قصد الأمر
المتعلّق بها.
وكلا المبنيين نحن
لا نقول به.
أمّا الأوّل :
فسيأتي في البحث الآتي الدليل على عدم وجوب مقدّمة الواجب ، فلا أمر
__________________
غيريّ أصلا.
وأمّا الثاني :
فلأنّ الحقّ أنّه يكفي في عباديّة الفعل ارتباطه بالمولى ، والإتيان به متقرّبا
إليه (تعالى). غاية الأمر أنّ العبادات قد ثبت أنّها توقيفيّة ، فما لم يثبت رضا
المولى بالفعل ، وحسن الانقياد ، وقصد وجه الله بالفعل لا يصحّ الإتيان بالفعل
عبادة ، بل يكون تشريعا محرّما. ولا يتوقّف ذلك على تعلّق أمر المولى بنفس الفعل
على أن يكون أمرا فعليّا من المولى ، ولذا قيل : «يكفي في عباديّة العبادة حسنها
الذاتيّ ومحبوبيّتها الذّاتيّة للمولى حتّى لو كان هناك مانع من توجّه الأمر
الفعليّ بها ».
وإذا ثبت ذلك ،
فنقول في تصحيح عباديّة الطهارات : إنّ فعل المقدّمة بنفسه يعدّ شروعا في امتثال
ذي المقدّمة ـ الذي هو حسب الفرض في المقام عبادة في نفسه مأمور بها ـ فيكون
الإتيان بالمقدّمة بنفسه يعدّ امتثالا للأمر النفسيّ بذي المقدّمة العباديّ. ويكفي
في عباديّة الفعل ـ كما قلنا ـ ارتباطه بالمولى والإتيان به متقرّبا إليه (تعالى)
مع عدم ما يمنع من التعبّد به. ولا شكّ في أنّ قصد الشروع بامتثال الأمر النفسيّ
بفعل مقدّماته قاصدا بها التوصّل إلى الواجب النفسيّ العباديّ يعدّ طاعة وانقيادا
للمولى .
وبهذا تصحّح
عباديّة المقدّمة ، وإن لم نقل بوجوبها الغيريّ ، ولا حاجة إلى فرض طاعة الأمر
الغيريّ.
ومن هنا يصحّ أن
تقع كلّ مقدّمة عبادة ، ويستحقّ عليها الثواب بهذا الاعتبار ، وإن لم تكن في نفسها
معتبرا فيها أن تقع على وجه العبادة ، كتطهير الثوب ـ مثلا ـ مقدّمة للصلاة ، أو
كالمشي حافيا مقدّمة للحجّ أو الزيارة ، غاية الأمر أنّ الفرق بين المقدّمات
العباديّة وغيرها أنّ غير العباديّة لا يلزم فيها أن تقع على وجه قربيّ ، بخلاف
المقدّمات المشروط فيها أن تقع عبادة ، كالطهارات الثلاث.
ويؤيّد ذلك ما ورد
من الثواب على بعض المقدّمات ، ولا حاجة إلى التأويل الذي ذكرناه سابقا في الأمر
الثالث ـ من أنّ الثواب على ذي المقدّمة يوزّع على المقدّمات
__________________
باعتبار دخالتها
في زيادة حمازة الواجب ـ ، فإنّ ذلك التأويل مبنيّ على فرض ثبوت الأمر الغيريّ
وأنّ عباديّة المقدّمة واستحقاق الثواب عليها لا ينشئان إلاّ من جهة الأمر الغيريّ
؛ اتّباعا للمشهور المعروف بين القوم.
فإن
قلت : إنّ الأمر لا
يدعو إلاّ إلى ما تعلّق به ، فلا يعقل أن يكون الأمر بذي المقدّمة داعيا بنفسه إلى
المقدّمة إلاّ إذا قلنا بترشّح أمر آخر منه بالمقدّمة ، فيكون هو الداعي ، وليس
هذا الأمر الآخر المترشّح إلاّ الأمر الغيريّ ، فرجع الإشكال جذعا.
قلت : نعم ، الأمر لا يدعو إلاّ إلى ما تعلّق به ، ولكنّا لا
ندّعي أنّ الأمر بذي المقدّمة هو الذي يدعو إلى المقدّمة ، بل نقول : إنّ العقل هو
الدّاعي إلى فعل المقدّمة توصّلا إلى فعل الواجب ، وسيأتي أنّ هذا الحكم العقليّ لا يستكشف منه ثبوت أمر غيريّ من المولى ،
ولا يلزم أن يكون هناك أمر بنفس المقدّمة لتصحيح عباديّتها ، ويكون داعيا إليها .
والحاصل
أنّ الدّاعي إلى
فعل المقدّمة هو حكم العقل ، والمصحّح لعباديّتها شيء آخر ، هو قصد التقرّب بها ،
ويكفي في التقرّب بها إلى الله أن يأتي بها بقصد التوصّل إلى ما هو عبادة ، لا أنّ
الداعي إلى فعل المقدّمة هو نفس المصحّح لعباديّتها ، ولا أنّ المصحّح لعباديّة
العبادة منحصر في قصد الأمر المتعلّق بها ، وقد سبق توضيح ذلك.
وعليه ، فإن كانت
المقدّمة ذات الفعل كالتطهير من الخبث ، فالعقل لا يحكم إلاّ بإتيانها على أيّ وجه
وقعت ، ولكن لو أتى بها المكلّف متقرّبا بها إلى الله توصّلا إلى العبادة صحّت
ووقعت على صفة العباديّة ، واستحقّ عليها الثواب. وإن كانت المقدّمة عملا عباديّا
كالطهارة من الحدث ، فالعقل يلزم بالإتيان بها كذلك ، والمفروض أنّ المكلّف متمكّن
من ذلك ، سواء كان هناك أمر غيريّ أم لم يكن ، وسواء كانت المقدّمة في نفسها
مستحبّة أم لم تكن.
فلا إشكال من جميع
الوجوه في عباديّة الطهارات.
__________________
النتيجة
مسألة مقدّمة
الواجب والأقوال فيها
بعد تقديم تلك
التمهيدات نرجع إلى أصل المسألة ، وهو البحث عن وجوب مقدّمة الواجب ، الذي قلنا :
إنّه آخر ما يشغل بال الأصوليّين.
وقد عرفت في مدخل
المسألة موضع البحث فيها ببيان تحرير [محلّ] النزاع ، وهو ـ كما قلنا ـ الملازمة
بين حكم العقل وحكم الشرع ؛ إذ قلنا : إنّ العقل يحكم بوجوب مقدّمة الواجب ـ أي
إنّه يدرك لزومها ـ ، ولكن وقع البحث في أنّه هل يحكم أيضا بأنّ المقدّمة واجبة
أيضا عند من أمر بما يتوقّف عليها؟
لقد تكثّرت
الأقوال جدّا في هذه المسألة على مرور الزمن ، نذكر أهمّها ، ونذكر ما هو الحقّ
منها ، وهي :
١. القول بوجوبها
مطلقا .
٢. القول بعدم
وجوبها مطلقا ، وهو الحقّ وسيأتي دليله.
٣. التفصيل بين
السبب فلا يجب ، وبين غيره كالشرط وعدم المانع والمعدّ فيجب .
٤. التفصيل بين
السبب وغيره أيضا ، ولكن بالعكس أي يجب السبب دون غيره .
٥. التفصيل بين
الشرط الشرعيّ ، فلا يجب بالوجوب الغيريّ باعتبار أنّه واجب بالوجوب النفسيّ ،
نظير جزء الواجب ، وبين غيره ، فيجب بالوجوب الغيريّ. وهو القول
__________________
المعروف عن شيخنا
المحقّق النائينيّ .
٦. التفصيل بين
الشرط الشرعيّ وغيره أيضا ، ولكن بالعكس ، أي يجب الشرط الشرعيّ بالوجوب المقدّميّ
دون غيره .
٧. التفصيل بين
المقدّمة الموصلة ـ أي التي يترتّب عليها الواجب النفسيّ ـ فتجب ، وبين المقدّمة
غير الموصلة فلا تجب ، وهو المذهب المعروف لصاحب الفصول .
٨. التفصيل بين ما
قصد به التوصّل من المقدّمات فيقع على صفة الوجوب ، وبين ما لم يقصد به ذلك فلا
يقع واجبا. وهو القول المنسوب إلى الشيخ الأنصاريّ قدسسره .
٩. التفصيل المنسوب
إلى صاحب المعالم الذي أشار إليه في مسألة الضدّ ، وهو اشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذيها ، فلا تكون المقدّمة واجبة على تقدير
عدم إرادته.
١٠. التفصيل بين
المقدّمة الداخليّة ـ أي الجزء ـ فلا تجب ، وبين المقدّمة الخارجيّة فتجب .
وهناك تفصيلات أخرى
عند المتقدّمين ، لا حاجة إلى ذكرها.
وقد قلنا : إنّ
الحقّ في المسألة ـ كما عليه جماعة من المحقّقين المتأخّرين ـ
__________________
القول الثاني ،
وهو عدم وجوبها مطلقا.
والدليل عليه واضح
بعد ما قلنا ـ من أنّه في موارد حكم العقل بلزوم شيء على وجه يكون حكما داعيا
للمكلّف إلى فعل الشيء لا يبقى مجال للأمر المولويّ فإنّ هذه المسألة من ذلك الباب من جهة العلّة ؛ وذلك لأنّه إذا كان الأمر بذي
المقدّمة داعيا للمكلّف إلى الإتيان بالمأمور به فإنّ دعوته هذه ـ لا محالة بحكم
العقل ـ تحمله وتدعوه إلى الإتيان بكلّ ما يتوقّف عليه المأمور به تحصيلا له. ومع
فرض وجود هذا الداعي في نفس المكلّف لا تبقى حاجة إلى داع آخر من قبل المولى ، مع
علم المولى ـ حسب الفرض ـ بوجود هذا الداعي ، لأنّ الأمر المولويّ ـ سواء كان
نفسيّا أم غيريّا ـ إنّما يجعله المولى لغرض تحريك المكلّف نحو فعل المأمور به ،
إذ يجعل الداعي في نفسه حيث لا داعي. بل يستحيل في هذا الفرض جعل الداعي الثاني من
المولى ؛ لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل.
وبعبارة أخرى :
إنّ الأمر بذي المقدّمة لو لم يكن كافيا في دعوة المكلّف إلى الإتيان بالمقدّمة
فأيّ أمر بالمقدّمة لا ينفع ، ولا يكفي للدعوة إليها بما هي مقدّمة ، ومع كفاية
الأمر بذي المقدّمة لتحريكه إلى المقدّمة ، وللدعوة إليها ، فأيّة حاجة تبقى إلى
الأمر بها من قبل المولى؟ ، بل يكون عبثا ولغوا ، بل يمتنع ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.
وعليه ، فالأوامر
الواردة في بعض المقدّمات يجب حملها على الإرشاد ، وبيان شرطيّة متعلّقها للواجب
وتوقّفه عليها ، كسائر الأوامر الإرشاديّة في موارد حكم العقل ، وعلى هذا يحمل
قوله عليهالسلام : «إذا زالت الشمس ، فقد وجب الطهور والصلاة» .
__________________
__________________
ومن هذا البيان
نستحصل على النتيجة الآتية :
«إنّه لا وجوب
غيريّ أصلا ، وينحصر الوجوب المولويّ بالواجب النفسيّ فقط. فلا موقع إذن لتقسيم
الواجب إلى النفسيّ والغيريّ. فليحذف ذلك من سجلّ الأبحاث الأصوليّة».
تمرينات (٣٨)
١. ما هو توجيه
عباديّة المقدّمات الثلاث على وجه يلائم توصّليّة الأمر الغيريّ؟
٢. ما هو الأمر
المصحّح لعباديّة الطهارات الثلاث؟
٣. ما هي الأقوال
في وجوب مقدّمة الواجب؟ وما هو الحقّ عند المصنّف؟
المسألة الثالثة :
مسألة الضدّ
تحرير محلّ النزاع
اختلفوا في أنّ
الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا يقتضي؟ على أقوال.
ولأجل توضيح محلّ
النزاع وتحريره نشرح مرادهم من الألفاظ التي وردت على لسانهم في تحرير محلّ النزاع
هذا ، وهي ثلاثة :
١. «الضدّ» ، فإنّ مرادهم من هذه الكلمة مطلق المعاند والمنافي ،
فيشمل نقيض الشيء ، أي إنّ الضدّ عندهم أعمّ من الأمر الوجوديّ والعدميّ . وهذا اصطلاح خاصّ للأصوليّين في خصوص هذا الباب ، وإلاّ فالضدّ مصطلح فلسفيّ
يراد به ـ في باب التقابل ـ خصوص الأمر الوجوديّ الذي له مع وجوديّ آخر تمام
المعاندة والمنافرة ، وله معه غاية التباعد .
ولذا قسّم
الأصوليّون الضدّ إلى «ضدّ عامّ» وهو الترك ـ أي النقيض ـ ، و «ضدّ خاصّ» وهو مطلق
المعاند الوجوديّ.
وعلى هذا ، فالحقّ
أن تنحلّ هذه المسألة إلى مسألتين : موضوع إحداهما الضدّ العامّ ، وموضوع الأخرى
الضدّ الخاصّ ، لا سيّما مع اختلاف الأقوال في الموضوعين.
٢. «الاقتضاء» ، ويراد به لابدّيّة ثبوت النهي عن الضدّ عند الأمر
بالشيء ، إمّا لكون الأمر يدلّ عليه بإحدى الدلالات الثلاث : المطابقة ، والتضمّن
، والالتزام ، وإمّا لكونه
__________________
يلزمه عقلا النهي
عن الضدّ من دون أن يكون لزومه بيّنا بالمعنى الأخصّ حتّى يدلّ عليه بالالتزام.
فالمراد من الاقتضاء عندهم أعمّ من كلّ ذلك .
٣. «النهي» ، ويراد به النهي المولويّ من الشارع وإن كان تبعيّا ،
كوجوب المقدّمة الغيريّ التبعيّ . والنهي معناه المطابقيّ ـ كما سبق في مبحث النواهي ـ هو الزجر والردع عمّا تعلّق به. وفسّره المتقدّمون بطلب الترك ، وهو تفسير بلازم معناه ، ولكنّهم فرضوه كأنّ ذلك هو معناه المطابقيّ ، ولذا
اعترض بعضهم على ذلك فقال : «إنّ طلب الترك محال ، فلا بدّ أن يكون المطلوب الكفّ»
. وهكذا تنازعوا في أنّ المطلوب بالنهي الترك أو الكفّ؟ ولا
معنى لنزاعهم هذا إلاّ إذا كانوا قد فرضوا أنّ معنى النهي هو الطلب ، فوقعوا في
حيرة في أنّ المطلوب به أيّ شيء هو؟ الترك ، أو الكفّ؟
ولو كان المراد من
النهي هو طلب الترك ـ كما ظنّوا ـ لما كان معنى لنزاعهم في الضدّ العامّ ؛ فإنّ
النهي عنه معناه ـ على حسب ظنّهم ـ طلب ترك ترك المأمور به. ولمّا كان نفي النفي
إثباتا فيرجع معنى النهي عن الضدّ العامّ إلى معنى طلب فعل المأمور به ، فيكون
قولهم : «الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ» تبديلا للفظ بلفظ آخر بمعناه ،
ويكون عبارة أخرى عن القول بـ «أنّ الأمر بالشيء يقتضي نفسه». وما أشدّ سخف مثل
هذا البحث!
ولعلّه لأجل هذا
التوهّم ـ أي توهّم أنّ النهي معناه طلب الترك ـ ذهب بعضهم إلى عينيّة الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ العامّ.
وبعد بيان هذه
الأمور الثلاثة في تحرير محلّ النزاع يتّضح موضع النزاع ، وكيفيّته أنّ النزاع
معناه يكون أنّه إذا تعلّق أمر بشيء هل إنّه لا بدّ أن يتعلّق نهي المولى بضدّه
العامّ أو
__________________
الخاصّ؟ فالنزاع
يكون في ثبوت النهي المولويّ عن الضدّ بعد فرض ثبوت الأمر بالشيء ، وبعد فرض ثبوت
النهي فهناك نزاع آخر في كيفيّة إثبات ذلك.
وعلى كلّ حال ،
فإنّ مسألتنا ـ كما قلنا ـ تنحلّ إلى مسألتين : إحداهما : في الضدّ العامّ. والثانية
: في الضدّ الخاصّ ، فينبغي البحث عنهما في بابين :
١. الضدّ العامّ
لم يكن اختلافهم
في الضدّ العامّ من جهة أصل الاقتضاء وعدمه ، فإنّ الظاهر أنّهم متّفقون على
الاقتضاء ، وإنّما اختلافهم في كيفيّته :
فقيل
: إنّه على نحو العينيّة ، أي إنّ الأمر بالشيء عين النهي
عن ضدّه العامّ ، فيدلّ عليه حينئذ بالدلالة المطابقيّة.
وقيل : إنّه على نحو الجزئيّة ، فيدلّ عليه بالدلالة التضمّنيّة
، باعتبار أنّ الوجوب ينحلّ إلى طلب الشيء مع المنع من الترك ، فيكون المنع من
الترك جزءا تحليليّا في معنى الوجوب.
وقيل : إنّه على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، فيدلّ عليه بالدلالة الالتزاميّة .
وقيل : إنّه على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ، أو غير
البيّن ، فيكون اقتضاؤه له
__________________
عقليّا صرفا.
والحقّ
أنّه لا يقتضيه
بأيّ نحو من أنحاء الاقتضاء ، أي إنّه ليس هناك نهي مولويّ عن الترك يقتضيه نفس الأمر
بالفعل على وجه يكون هناك نهي مولويّ وراء نفس الأمر بالفعل.
والدليل
عليه أنّ الوجوب ـ سواء
كان مدلولا لصيغة الأمر ، أو لازما عقليّا لها كما هو الحقّ ـ ليس معنى مركّبا ،
بل هو معنى بسيط وحدانيّ ، هو لزوم الفعل ، ولازم كون الشيء واجبا المنع من تركه.
ولكن هذا المنع
اللازم للوجوب ليس منعا مولويّا ، ونهيا شرعيّا ، بل هو منع عقليّ تبعيّ من غير أن
يكون هناك من الشارع منع ونهي وراء نفس الوجوب. وسرّ ذلك واضح ، فإنّ نفس الأمر
بالشيء على وجه الوجوب كاف في الزجر عن تركه ، فلا حاجة إلى جعل للنهي عن الترك من
الشارع زيادة على الأمر بذلك الشيء.
فإن كان مراد
القائلين بالاقتضاء في المقام أنّ نفس الأمر بالفعل يكون زاجرا عن تركه ، فهو
مسلّم ، بل لا بدّ منه ؛ لأنّ هذا هو مقتضى الوجوب ؛ ولكن ليس هذا هو موضع النزاع
في المسألة ، بل موضع النزاع هو النهي المولويّ زائدا على الأمر بالفعل ؛ وإن كان
مرادهم أنّ هناك نهيا مولويّا عن الترك يقتضيه الأمر بالفعل ـ كما هو موضع النزاع
ـ فهو غير مسلّم ، ولا دليل عليه ، بل هو ممتنع.
وبعبارة أوضح
وأوسع : أنّ الأمر والنهي متعاكسان ـ بمعنى أنّه إذا تعلّق الأمر بشيء فعلى طبع
ذلك يكون نقيضه بالتبع ممنوعا منه ، وإلاّ لخرج الواجب عن كونه واجبا ؛ وإذا تعلّق
النهي بشيء فعلى طبع ذلك يكون نقيضه بالتبع مدعوّا إليه ، وإلاّ لخرج المحرّم عن
كونه محرّما ... ، ولكن ليس معنى هذه التبعيّة في الأمر أن يتحقّق ـ فعلا ـ نهي
مولويّ عن ترك المأمور به بالإضافة إلى الأمر المولويّ بالفعل ، كما أنّه ليس معنى
هذه التبعيّة في النهي أن يتحقّق ـ فعلا ـ أمر مولويّ بترك المنهيّ عنه بالإضافة
إلى النهي
__________________
المولويّ عن
الفعل.
والسرّ ما قلناه :
إنّ نفس الأمر بالشيء كاف في الزجر عن تركه ، كما أنّ نفس النهي عن الفعل كاف
للدعوة إلى تركه ، بلا حاجة إلى جعل جديد من المولى في المقامين ، بل لا يعقل
الجعل الجديد كما قلنا في مقدّمة الواجب حذو القذّة بالقذّة ، فراجع.
ولأجل هذه
التبعيّة الواضحة اختلط الأمر على كثير من المحرّرين لهذه المسألة ، فحسبوا أنّ
هناك نهيا مولويّا عن ترك المأمور به وراء الأمر بالشيء اقتضاه الأمر على نحو
العينيّة ، أو التضمّن ، أو الالتزام ، أو اللزوم العقليّ. كما حسبوا ـ هنا في
مبحث النهي ـ أنّ معنى النهي هو الطلب إمّا للترك أو الكفّ ، وقد تقدّمت الإشارة
إلى ذلك في تحرير النزاع .
وهذان التوهّمان
في النهي والأمر من واد واحد. وعليه ، فليس هناك طلب للترك وراء الردع عن الفعل في
النهي ، ولا نهي عن الترك وراء طلب الفعل في الأمر.
نعم ، يجوز للآمر
بدلا من الأمر بالشيء أن يعبّر عنه بالنهي عن الترك ، كأن يقول ـ مثلا ـ بدلا من
قوله «صلّ» : «لا تترك الصلاة». ويجوز له بدلا من النهي عن الشيء أن يعبّر عنه
بالأمر بالترك ، كأن يقول ـ مثلا ـ بدلا من قوله «لا تشرب الخمر» : «اترك شرب
الخمر» ، فيؤدّي التعبير الثاني في المقامين مؤدّى التعبير الأوّل المبدل منه ، أي
إنّ التعبير الثاني يحقّق الغرض من التعبير الأوّل.
فإذا كان مقصود
القائل بأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ هذا المعنى ـ أي إنّ أحدهما
يصحّ أن يوضع موضع الآخر ، ويحلّ محلّه في أداء غرض الآمر ـ فلا بأس به وهو صحيح ،
ولكن هذا غير العينيّة المقصودة في المسألة على الظاهر.
٢. الضدّ الخاصّ
إنّ القول باقتضاء
الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ يبتني ويتفرّع على القول باقتضائه للنهي عن
ضدّه العامّ.
ولمّا ثبت ـ حسبما
تقدّم ـ أنّه لا نهي مولويّ عن الضدّ العامّ ، فبالطريق الأولى نقول :
__________________
إنّه لا نهي
مولويّ عن الضدّ الخاصّ ؛ لما قلنا من ابتنائه وتفرّعه عليه.
وعلى هذا ، فالحقّ
أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه مطلقا ، سواء كان عامّا أو خاصّا.
أمّا كيف يبتني
القول بالنهي عن الضدّ الخاصّ على القول بالنهي عن الضدّ العامّ ويتفرّع عليه فهذا
ما يحتاج إلى شيء من البيان ، فنقول :
إنّ القائلين
بالنهي عن الضدّ الخاصّ لهم مسلكان لا ثالث لهما ، وكلاهما يبتني ويتفرّع على ذلك
:
الأوّل : مسلك
التلازم
وخلاصته أنّ حرمة أحد المتلازمين تستدعي وتستلزم حرمة ملازمه
الآخر. والمفروض أنّ فعل الضدّ الخاصّ يلازم ترك المأمور به ـ أي الضدّ العامّ ـ ،
كالأكل ـ مثلا ـ الملازم فعله لترك الصلاة المأمور بها. وعندهم أنّ الضدّ العامّ
محرّم منهيّ عنه ـ وهو ترك الصلاة في المثال ـ ، فيلزم على هذا أن يحرم الضدّ
الخاصّ ـ وهو الأكل في المثال ـ ؛ فابتنى النهي عن الضدّ الخاصّ بمقتضى هذا المسلك
على ثبوت النهي عن الضدّ العامّ.
أمّا نحن فلمّا
ذهبنا إلى أنّه لا نهي مولويّ عن الضدّ العامّ ، فلا موجب لدينا من جهة الملازمة
المدّعاة للقول بكون الضدّ الخاصّ منهيّا عنه بنهي مولويّ ؛ لأنّ ملازمه ليس
منهيّا عنه حسب التحقيق الذي مرّ.
على أنّا نقول
ثانيا ـ بعد التنازل عن ذلك والتسليم بأنّ الضدّ العامّ منهي عنه ـ : إنّ هذا
المسلك ليس صحيحا في نفسه ، يعنى أنّ كبراه غير مسلّمة ، وهي «أنّ حرمة أحد
المتلازمين تستلزم حرمة ملازمه الآخر» ؛ فإنّه لا يجب اتّفاق المتلازمين في الحكم ،
لا في الوجوب ، ولا الحرمة ، ولا غيرهما من الأحكام ، ما دام أنّ مناط الحكم غير
موجود في الملازم الآخر. نعم ، القدر المسلّم في المتلازمين أنّه لا يمكن أن
يختلفا في الوجوب والحرمة على وجه يكون أحدهما واجبا والآخر محرّما ؛ لاستحالة
امتثالهما حينئذ من المكلّف ، فيستحيل التكليف من المولى بهما ، فإمّا أن يحرم
أحدهما ، أو يجب الآخر.
يرجع ذلك إلى باب
التزاحم الذي سيأتي التعرّض له.
وبهذا تبطل «شبهة
الكعبيّ» المعروفة التي أخذت قسطا وافرا من أبحاث الأصوليّين إذا كان مبناها هذه
الملازمة المدّعاة ؛ فإنّه نسب إليه القول بنفي المباح بدعوى أنّ كلّ ما يظنّ من الأفعال أنّه مباح فهو واجب في الحقيقة ؛ لأنّ فعل
كلّ مباح ملازم قهرا لواجب وهو ترك محرّم واحد من المحرّمات على الأقلّ.
الثاني : مسلك
المقدّميّة
وخلاصته دعوى أنّ ترك الضدّ الخاصّ مقدّمة لفعل المأمور به ، ففي
المثال المتقدّم يكون ترك الأكل مقدّمة لفعل الصلاة ، ومقدّمة الواجب واجبة ، فيجب
ترك الضدّ الخاصّ.
وإذا وجب ترك
الأكل حرم تركه ، ـ أي ترك ترك الأكل ـ ؛ لأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ
العامّ ؛ وإذا حرم ترك ترك الأكل ، فإنّ معناه حرمة فعله ؛ لأنّ نفي النفي إثبات ؛
فيكون الضدّ الخاصّ منهيّا عنه. هذا خلاصة مسلك المقدّميّة.
وقد رأيت كيف
ابتنى النهي عن الضدّ الخاصّ على ثبوت النهي عن الضدّ العامّ. ونحن إذ قلنا بأنّه
لا نهي مولويّ عن الضدّ العامّ فلا يحرم ترك ترك الضدّ الخاصّ حرمة مولويّة ـ أي
لا يحرم فعل الضدّ الخاص ـ ، فثبت المطلوب.
على أنّ مسلك
المقدّميّة غير صحيح من وجهين آخرين :
أحدهما
: أنّه بعد
التنزّل عمّا تقدّم ، وتسليم حرمة الضدّ العامّ ، فإنّ هذا المسلك كما هو واضح
يبتني على وجوب مقدّمة الواجب ، وقد سبق أن أثبتنا أنّها ليست واجبة بوجوب مولويّ ، وعليه ، لا يكون ترك الضدّ الخاصّ واجبا بالوجوب الغيريّ المولويّ حتى
__________________
يحرم فعله.
ثانيهما
: أنّا لا نسلّم
أنّ ترك الضدّ الخاصّ مقدّمة لفعل المأمور به ، وهذه المقدّميّة ـ أعني مقدّميّة
ترك الضدّ الخاصّ ـ لا تزال مثارا للبحث عند المتأخّرين حتى أصبحت من المسائل
الدقيقة المطوّلة ، ونحن في غنى عن البحث عنها بعد ما تقدّم.
ولكن لحسم مادّة
الشبهة لا بأس بذكر خلاصة ما يرفع المغالطة في دعوى مقدّميّة ترك الضدّ ، فنقول :
إنّ المدّعي
لمقدّميّة ترك الضدّ لضدّه تبتني دعواه على أنّ عدم الضدّ من باب عدم المانع
بالنسبة إلى الضدّ الآخر للتمانع بين الضدّين ـ أي لا يمكن اجتماعهما معا ـ ، ولا
شكّ في أنّ عدم المانع من المقدّمات ؛ لأنّه من متمّمات العلّة ، فإنّ العلّة
التامّة ـ كما هو معروف ـ تتألّف من المقتضي وعدم المانع.
فيتألّف دليله من
مقدّمتين :
١.
الصغرى : إنّ عدم الضدّ
من باب «عدم المانع» لضدّه ؛ لأنّ الضدّين متمانعان.
٢.
الكبرى : إنّ «عدم
المانع» من المقدّمات.
فينتج من الشكل
الأوّل أنّ عدم الضدّ من المقدّمات لضدّه.
وهذه الشبهة إنّما
نشأت من أخذ كلمة «المانع» مطلقة. فتخيّلوا أنّ لها معنى واحدا في الصغرى والكبرى
، فانتظم عندهم القياس الذي ظنّوه منتجا ، بينما أنّ الحقّ أنّ التمانع له معنيان
، ومعناه في الصغرى غير معناه في الكبرى ، فلم يتكرّر الحدّ الأوسط ، فلم يتألّف
قياس صحيح.
بيان
ذلك أنّ التمانع تارة
يراد منه التمانع في الوجود ، وهو امتناع الاجتماع وعدم الملاءمة بين الشيئين ،
وهو المقصود من التمانع بين الضدّين ؛ إذ هما لا يجتمعان في الوجود ولا يتلاءمان ؛
وأخرى يراد منه التمانع في التأثير وإن لم يكن بينهما تمانع وتناف في الوجود ، وهو
الذي يكون بين المقتضيين لأثرين متمانعين في الوجود ؛ وإذ يكون
__________________
المحلّ غير قابل
إلاّ لتأثير أحد المقتضيين ، فإنّ المقتضيين حينئذ يتمانعان في تأثيرهما ، فلا
يؤثّر أحدهما إلاّ بشرط عدم المقتضي الآخر ؛ وهذا هو المقصود من المانع في الكبرى
، فإنّ المانع الذي يكون عدمه شرطا لتأثير المقتضي هو المقتضي الآخر الذي يقتضي
ضدّ أثر الأوّل. وعدم المانع إمّا لعدم وجوده أصلا أو لعدم بلوغه مرتبة الغلبة على
الآخر في التأثير.
وعليه ، فنحن
نسلّم أنّ عدم الضدّ من باب عدم المانع ، ولكنّه عدم المانع في الوجود ، وما هو من
المقدّمات عدم المانع في التأثير ، فلم يتكرّر الحدّ الأوسط ؛ فلا نستنتج من
القياس أنّ عدم الضدّ من المقدّمات.
وأعتقد أنّ هذا
البيان لرفع المغالطة فيه الكفاية للمتنبّه ، وإصلاح هذا البيان بذكر بعض الشبهات
فيه ودفعها يحتاج إلى سعة من القول لا تتحمّلها الرسالة. ولسنا بحاجة إلى نفي
المقدّمة لإثبات المختار ، بعد ما قدّمناه .
ثمرة المسألة
إنّ ما ذكروه من
الثمرات لهذه المسألة مختصّ بالضدّ الخاصّ فقط ، وأهمّها
والعمدة فيها هي صحّة الضدّ إذا كان عبادة على القول بعدم الاقتضاء ، وفساده على
القول بالاقتضاء .
بيان ذلك أنّه قد
يكون هناك واجب ـ أيّ واجب كان ، عبادة أو غير عبادة ـ ، وضدّه عبادة ، وكان
الواجب أرجح في نظر الشارع من ضدّه العباديّ ؛ فإنّه لمكان التزاحم بين الأمرين
للتضادّ بين متعلّقيهما ، والأوّل أرجح في نظر الشارع ، لا محالة يكون الأمر
الفعليّ
__________________
المنجّز هو الأوّل
دون الثاني.
وحينئذ ، فإن قلنا
بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فإنّ الضدّ العباديّ يكون منهيّا
عنه في الفرض ، والنهي في العبادة يقتضي الفساد ، فإذا أتي به وقع فاسدا. وإن قلنا
بأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فإنّ الضدّ العباديّ لا يكون
منهيّا عنه ، فلا مقتضي لفساده.
وأرجحيّة الواجب
على ضدّه الخاصّ العباديّ تتصوّر في أربعة موارد :
١. أن يكون الضدّ
العباديّ مندوبا ، ولا شكّ في أنّ الواجب مقدّم على المندوب ، كاجتماع الفريضة مع
النافلة ؛ فإنّه بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه لا يصحّ الاشتغال
بالنافلة مع حلول وقت الفريضة ، ولا بدّ أن تقع النافلة فاسدة. نعم ، لا بدّ أن
تستثنى من ذلك نوافل الوقت ؛ لورود الأمر بها في خصوص وقت الفريضة ، كنافلتي الظهر
والعصر.
وعلى هذا ، فمن
كان عليه قضاء الفوائت لا تصحّ منه النوافل مطلقا ، بناء على النهي عن الضدّ ،
بخلاف ما إذا لم نقل بالنهي عن الضدّ ؛ فإنّ عدم جواز فعل النافلة حينئذ يحتاج إلى
دليل خاصّ.
٢. أن يكون الضدّ
العباديّ واجبا ، ولكنّه أقلّ أهميّة عند الشارع من الأوّل ، كما في مورد اجتماع
إنقاذ نفس محترمة من الهلكة مع الصلاة الواجبة.
٣. أن يكون الضدّ
العباديّ واجبا ، ولكنه موسّع الوقت ، والأوّل مضيّق ، ولا شكّ في أنّ المضيّق
مقدّم على الموسّع وإن كان الموسّع أكثر أهميّة منه. مثاله : اجتماع قضاء الدين
الفوريّ مع الصلاة في سعة وقتها. وإزالة النجاسة عن المسجد مع الصلاة في سعة
الوقت.
٤. أن يكون الضدّ
العباديّ واجبا أيضا ، ولكنّه مخيّر ، والأوّل واجب معيّن ، ولا شكّ في أنّ
المعيّن مقدّم على المخيّر وإن كان المخيّر أكثر أهميّة منه ؛ لأنّ المخيّر ، له
بدل دون المعيّن. مثاله : اجتماع سفر منذور في يوم معيّن مع [الصوم من] خصال
الكفّارة ، فلو ترك المكلّف السفر واختار الصوم من خصال الكفّارة ، فإن كان الأمر
بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه كان الصوم منهيّا عنه فاسدا.
هذه خلاصة بيان
ثمرة المسألة مع بيان موارد ظهورها ، ولكن هذا المقدار من البيان لا يكفي في
تحقيقها ؛ فإنّ ترتّبها وظهورها يتوقّف على أمرين :
الأوّل : القول بأنّ النهي في العبادة يقتضي فسادها حتّى النهي
الغيريّ التبعيّ ؛ لأنّه إذا قلنا بأنّ النهي مطلقا لا يقتضي فساد العبادة أو خصوص
النهي التبعيّ لا يقتضي الفساد ، فلا تظهر الثمرة أبدا. وهو واضح ؛ لأنّ الضدّ
العباديّ حينئذ يكون صحيحا ، سواء قلنا بالنهي عن الضدّ أم لم نقل.
والحقّ
أنّ النهي في
العبادة يقتضي فسادها حتّى النهي الغيريّ على الظاهر. وسيأتي تحقيق ذلك في موضعه
إن شاء الله (تعالى) .
واستعجالا في بيان
هذا الأمر نشير إليه إجمالا ، فنقول : إنّ أقصى ما يقال في عدم اقتضاء النهي
التبعيّ للفساد هو : أنّ النهي التبعيّ لا يكشف عن وجود مفسدة في المنهيّ عنه ،
وإذا كان الأمر كذلك فالمنهيّ عنه باق على ما هو عليه من مصلحة بلا مزاحم لمصلحته
، فيمكن التقرّب فيه إذا كان عبادة بقصد تلك المصلحة المفروضة فيه.
وهذا ليس بشيء ـ وإن
صدر من بعض أعاظم مشايخنا ـ ؛ لأنّ المدار في القرب والبعد في العبادة ليس على وجود
المصلحة والمفسدة فقط ؛ فإنّه من الواضح أنّ المقصود من القرب والبعد من المولى
القرب والبعد المعنويّان ؛ تشبيها بالقرب والبعد المكانيّين ، وما لم يكن الشيء
مرغوبا فيه للمولى فعلا لا يصلح للتقرّب به إليه ، ومجرّد وجود مصلحة فيه لا يوجب
مرغوبيّته له مع فرض نهيه وتبعيده.
وبعبارة أخرى : لا
وجه للتقرّب إلى المولى بما أبعدنا عنه ، والمفروض أنّ النهي التبعيّ نهي مولويّ ،
وكونه تبعيّا لا يخرجه عن كونه زجرا ، وتنفيرا ، وتبعيدا عن الفعل وإن كان التبعيد
لمفسدة في غيره ، أو لفوات مصلحة الغير.
نعم ، لو قلنا
بأنّ النهي عن الضدّ ليس نهيا مولويّا ، بل هو نهي يقتضيه العقل الذي
__________________
لا يستكشف منه حكم
الشرع ـ كما اخترناه في المسألة ـ فإنّ هذا النهي العقليّ لا يقتضي تبعيدا عن
المولى إلاّ إذا كشف عن مفسدة مبغوضة للمولى. وهذا شيء آخر لا يقتضيه حكم العقل في
نفسه.
الثاني : أنّ صحّة العبادة والتقرّب لا يتوقّف على وجود الأمر
الفعليّ بها ، بل يكفي في التقرّب بها إحراز محبوبيّتها الذاتيّة للمولى ، وإن لم
يكن هناك أمر فعليّ بها لمانع.
أمّا إذا قلنا
بأنّ عباديّة العبادة لا تتحقّق إلاّ إذا كانت مأمورا بها بأمر فعليّ فلا تظهر هذه
الثمرة أبدا ؛ لأنّه قد تقدّم أنّ الضدّ العباديّ ـ سواء كان مندوبا أو واجبا أقلّ
أهمّية أو موسّعا أو مخيّرا ـ لا يكون مأمورا به فعلا ، لمكان المزاحمة بين الأمرين ، ومع عدم الأمر به لا يقع عبادة صحيحة وإن
قلنا بعدم النهي عن الضدّ .
والحقّ
هو الأوّل ـ أي
إنّ عباديّة العبادة لا تتوقّف على تعلّق الأمر بها فعلا ، بل إذا أحرز أنّها
محبوبة في نفسها للمولى ، مرغوبة لديه ؛ فإنّه يصحّ التقرّب بها إليه وإن لم يأمر
بها فعلا لمانع ـ ، لأنّه ـ كما أشرنا إلى ذلك في مقدّمة الواجب ـ يكفي في عباديّة الفعل ارتباطه بالمولى ، والإتيان به متقرّبا به إليه مع
ما يمنع من التعبّد به من كون فعله تشريعا ، أو كونه منهيّا عنه ، ولا تتوقّف
عباديّته على قصد امتثال الأمر ، كما مال إليه صاحب الجواهر قدسسره .
هذا ، وقد يقال في
المقام ـ نقلا عن المحقّق الثاني (تغمّده الله برحمته) ـ : إنّ هذه الثمرة تظهر حتى مع القول بتوقّف العبادة على تعلّق الأمر بها ،
ولكن ذلك في خصوص التزاحم بين الواجبين : الموسّع ، والمضيّق ونحوهما ، دون
التزاحم بين الأهمّ والمهمّ المضيّقين.
__________________
والسرّ في ذلك :
أنّ الأمر في الموسّع إنّما يتعلّق بصرف وجود الطبيعة على أن يأتي به المكلّف في
أيّ وقت شاء من الوقت الوسيع المحدّد له. أمّا الأفراد بما لها من الخصوصيّات
الوقتيّة ، فليست مأمورا بها بخصوصها ، والأمر بالمضيّق إذا لم يقتض النهي عن ضدّه
فالفرد المزاحم له من أفراد ضدّه الواجب الموسّع لا يكون مأمورا به لا محالة من
أجل المزاحمة ، ولكنّه لا يخرج بذلك عن كونه فردا من الطبيعة المأمور بها. وهذا
كاف في حصول امتثال الأمر بالطبيعة ؛ لأنّ انطباقها على هذا الفرد المزاحم قهريّ ،
فيتحقّق به الامتثال قهرا ، ويكون مجزئا عقلا عن امتثال الطبيعة في فرد آخر ؛
لأنّه لا فرق من جهة انطباق الطبيعة المأمور بها بين فرد وفرد.
وبعبارة أوضح أنّه
لو كان الوجوب في الواجب الموسّع ينحلّ إلى وجوبات متعدّدة بتعدّد أفراده الطوليّة
الممكنة في مدّة الوقت المحدّد على وجه يكون التخيير بينها شرعيّا ، فلا محالة لا
أمر بالفرد المزاحم للواجب المضيّق ، ولا أمر آخر يصحّحه ، فلا تظهر الثمرة ،
ولكنّ الأمر ليس كذلك ؛ فإنّه ليس في الواجب الموسّع إلاّ وجوب واحد يتعلّق بصرف
وجود الطبيعة ، غير أنّ الطبيعة لمّا كانت لها أفراد طوليّة متعدّدة يمكن انطباقها
على كلّ واحد منها ، فلا محالة يكون المكلّف مخيّرا عقلا بين الأفراد ـ أي يكون
مخيّرا بين أن يأتي بالفعل في أوّل الوقت ، أو ثانيه ، أو ثالثه ، وهكذا إلى آخر
الوقت ـ ، وما يختاره من الفعل في أيّ وقت يكون هو الذي ينطبق عليه المأمور به ،
وإن امتنع أن يتعلّق الأمر به بخصوصه لمانع ، بشرط أن يكون المانع من غير جهة نفس
شمول الأمر المتعلّق بالطبيعة له ، بل من جهة شيء خارج عنه وهو المزاحمة مع
المضيّق في المقام.
هذا خلاصة توجيه ما نسب إلى المحقّق الثانيّ رحمهالله في المقام ، ولكنّ شيخنا المحقّق النائينيّ رحمهالله لم يرتضه ؛ لأنّه يرى أنّ المانع من تعلّق الأمر بالفرد المزاحم
يرجع إلى نفس شمول الأمر المتعلّق بالطبيعة له ، يعني أنّه يرى أنّ الطبيعة
المأمور بها بما هي مأمور بها
__________________
لا تنطبق على
الفرد المزاحم ولا تشمله ، وانطباق الطبيعة لا بما هي مأمور بها على الفرد المزاحم
لا ينفع ولا يكفي في امتثال الأمر بالطبيعة. والسرّ في ذلك واضح ، فإنّا إذ نسلّم
أنّ التخيير بين أفراد الطبيعة تخيير عقليّ نقول : إنّ التخيير إنّما هو بين أفراد
الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها ، فالفرد المزاحم خارج عن نطاق هذه الأفراد
التي بينها التخيير.
أمّا : أنّ الفرد
المزاحم خارج عن نطاق أفراد الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها ، فلأنّ الأمر
إنّما يتعلّق بالطبيعة المقدورة للمكلّف بما هي مقدورة : لأنّ القدرة شرط في
المأمور به ، مأخوذة في الخطاب ، لا أنّها شرط عقليّ محض ، والخطاب في نفسه عامّ شامل في إطلاقه للأفراد المقدورة وغير المقدورة.
بيان
ذلك أنّ الأمر إنّما
هو لجعل الداعي في نفس المكلّف ، وهذا المعنى بنفسه يقتضي كون متعلّقه مقدورا ؛
لاستحالة جعل الداعي إلى ما هو ممتنع ؛ فيعلم من هذا أنّ القدرة مأخوذة في متعلّق
الأمر ويفهم ذلك من نفس الخطاب ، بمعنى أنّ الخطاب لمّا كان يقتضي القدرة على
متعلّقه ، فتكون سعة دائرة المتعلّق على قدر سعة دائرة القدرة عليه ، لا تزيد ولا
تنقص ، أي تدور سعته وضيقه مدار سعة القدرة وضيقها.
وعلى هذا ، فلا
يكون الأمر شاملا لما هو ممتنع من الأفراد ؛ إذ يكون المطلوب به الطبيعة بما هي
مقدورة ، والفرد غير المقدور خارج عن أفرادها بما هي مأمور بها.
نعم ، لو كان
اعتبار القدرة بملاك قبح تكليف العاجز فهي شرط عقليّ لا يوجب تقييد متعلّق الخطاب
؛ لأنّه ليس من اقتضاء نفس الخطاب ، فيكون متعلّق الأمر هي الطبيعة بما هي ، لا
بما هي مقدورة ، وإن كان بمقتضى حكم العقل لا بدّ أن يقيّد الوجوب بها ، فالفرد
المزاحم ـ على هذا ـ هو أحد أفراد الطبيعة بما هي التي تعلّق بها كذلك.
وتشييد ما أفاده
أستاذنا ومناقشته يحتاج إلى بحث أوسع لسنا بصدده الآن ، راجع عنه تقريرات تلامذته .
__________________
الترتّب
وإذ امتدّ البحث إلى هنا ، فهناك مشكلة فقهيّة تنشأ من الخلاف المتقدّم لا بدّ من
التعرّض لها بما يليق بهذه الرسالة.
وهي أنّ كثيرا من
الناس نجدهم يحرصون ـ بحسب تهاونهم ـ على فعل بعض العبادات المندوبة في ظرف وجوب شيء هو ضدّ للمندوب ، فيتركون الواجب ويفعلون
المندوب ، كمن يذهب للزيارة ، أو يقيم مأتم الحسين عليهالسلام وعليه دين واجب الأداء ؛ كما نجدهم يفعلون بعض الواجبات
العباديّة في حين أنّ هناك عليهم واجبا أهمّ فيتركونه ، أو واجبا مضيّق الوقت مع
أنّ الأوّل موسّع فيقدّمون الموسّع على المضيّق ، أو واجبا معيّنا مع أنّ الأوّل
مخيّر فيقدّمون المخيّر على المعيّن ... وهكذا.
ويجمع الكلّ تقديم
فعل المهمّ العباديّ على الأهمّ ، فإنّ المضيّق أهمّ من الموسّع ، والمعيّن أهمّ
من المخيّر ، كما أنّ الواجب أهمّ من المندوب. ومن الآن سنعبّر بالأهمّ والمهمّ
ونقصد ما هو أعمّ من ذلك كلّه.
فإذا قلنا بأنّ
صحّة العبادة لا تتوقّف على وجود أمر فعليّ متعلّق به ، وقلنا بأنّه لا نهي عن
الضدّ ، أو النهي عنه لا يقتضي الفساد فلا إشكال ولا مشكلة ؛ لأنّ فعل المهمّ
العباديّ يقع صحيحا حتّى مع فعليّة الأمر بالأهمّ ، غاية الأمر يكون المكلّف عاصيا
بترك الأهمّ من دون أن يؤثّر ذلك على صحّة ما فعله من العبادة.
وإنّما المشكلة
فيما إذا قلنا بالنهي عن الضدّ ، وأنّ النهي يقتضي الفساد ، أو قلنا بتوقّف
__________________
صحّة العبادة على
الأمر بها ـ كما هو المعروف عن الشيخ صاحب الجواهر قدسسره ـ ، فإنّ أعمالهم هذه كلّها باطلة ولا يستحقّون عليها
ثوابا ؛ لأنّه إمّا منهيّ عنها والنهي يقتضي الفساد ، وإمّا لا أمر بها وصحّتها
تتوقّف على الأمر.
فهل هناك طريقة
لتصحيح فعل المهمّ العباديّ مع وجود الأمر بالأهمّ؟
ذهب جماعة إلى
تصحيح العبادة في المهمّ بنحو «الترتّب» بين الأمرين : الأمر بالأهمّ والأمر
بالمهمّ ، مع فرض القول بعدم النهي عن الضدّ وأنّ صحّة العبادة تتوقّف على وجود
الأمر.
والظاهر أنّ أوّل
من أسّس هذه الفكرة ، وتنبّه لها المحقّق الثاني ، وشيّد أركانها السيّد الميرزا
الشيرازيّ ، كما أحكمها ونقّحها شيخنا المحقّق النائينيّ قدسسره .
وهذه الفكرة
وتحقيقها من أروع ما انتهى إليه البحث الأصوليّ تصويرا وعمقا.
وخلاصة فكرة «الترتّب»
أنّه لا مانع عقلا من أن يكون الأمر بالمهمّ فعليّا عند عصيان الأمر بالأهمّ ،
فإذا عصى المكلّف وترك الأهمّ فلا محذور في أن يفرض الأمر بالمهمّ حينئذ ؛ إذ لا
يلزم منه طلب الجمع بين الضدّين ، كما سيأتي توضيحه.
وإذا لم يكن مانع
عقليّ من هذا الترتّب ؛ فإنّ الدليل يساعد على وقوعه ، والدليل هو نفس الدليلين
المتضمّنين للأمر بالمهمّ والأمر بالأهمّ ، وهما كافيان لإثبات وقوع الترتّب.
وعليه ، ففكرة
الترتّب وتصحيحها يتوقّف على شيئين رئيسين في الباب : أحدهما : إمكان الترتّب في
نفسه. وثانيهما : الدليل على وقوعه.
أمّا
الأوّل : ـ وهو إمكانه
في نفسه ـ فبيانه أنّ أقصى ما يقال في إبطال الترتّب و
__________________
استحالته هو :
دعوى لزوم المحال منه ، وهو فعليّة الأمر بالضدّين في آن واحد ؛ لأنّ القائل
بالترتّب يقول بإطلاق الأمر بالأهمّ ، وشموله لصورتي فعل الأهمّ وتركه ، ففي حال
فعليّة الأمر بالمهمّ ـ وهو حال ترك الأهمّ ـ يكون الأمر
بالأهمّ فعليّا على قوله ، والأمر بالضدّين في آن واحد محال.
ولكن هذه الدعوى ـ
عند القائل بالترتّب ـ باطلة ؛ لأنّ قوله : «الأمر بالضدّين في آن واحد محال» فيه
مغالطة ظاهرة ، فإنّ قيد «في آن واحد» يوهم أنّه راجع إلى «الضدّين» ، فيكون محالا
؛ إذ يستحيل الجمع بين الضدّين ، بينما هو في الحقيقة راجع إلى الأمر ، ولا
استحالة في أن يأمر المولى في آن واحد بالضدّين ، إذا لم يكن المطلوب الجمع بينهما
في آن واحد ؛ لأنّ المحال هو الجمع بين الضدّين ، لا الأمر بهما في آن واحد وإن لم
يستلزم الجمع بينهما.
أمّا : أنّ قيد «في
آن واحد» راجع إلى الأمر لا إلى الضدّين فواضح ؛ لأنّ المفروض أنّ الأمر بالمهمّ
مشروط بترك الأهمّ ، فالخطاب الترتّبيّ ليس فقط لا يقتضي الجمع بين الضدّين ، بل
يقتضي عكس ذلك ؛ لأنّه في حال انشغال المكلّف بامتثال الأمر بالأهمّ وإطاعته ، لا
أمر في هذا الحال إلاّ بالأهمّ ، ونسبة المهمّ إليه حينئذ كنسبة المباحات إليه ،
وأمّا : في حال ترك الأهمّ والانشغال بالمهمّ فإنّ الأمر بالأهمّ نسلّم أنّه يكون
فعليّا وكذلك الأمر بالمهمّ ، ولكن خطاب المهمّ حسب الفرض مشروط بترك الأهمّ وخلوّ
الزمان منه ، ففي هذا الحال المفروض يكون الأمر بالمهمّ داعيا للمكلّف إلى فعل
المهمّ في حال ترك الأهمّ ، فكيف يكون داعيا إلى الجمع بين الأهمّ والمهمّ في آن
واحد؟!
وبعبارة أوضح :
إنّ إيجاب الجمع لا يمكن أن يتصوّر إلاّ إذا كان هناك مطلوبان في عرض واحد ، على
وجه لو فرض إمكان الجمع بينهما ، لكان كلّ منهما مطلوبا ، وفي الترتّب لو فرض
محالا إمكان الجمع بين الضدّين فإنّه لا يكون المطلوب إلاّ الأهمّ ، ولا يقع
المهمّ في هذا الحال على صفة المطلوبيّة أبدا ، لأنّ طلبه حسب الفرض مشروط
__________________
بترك الأهمّ ، فمع
فعله لا يكون مطلوبا.
وأمّا
الثاني : ـ وهو الدليل
على وقوع الترتّب وأنّ الدليل هو نفس دليلي الأمرين ـ فبيانه أنّ المفروض أنّ لكلّ
من الأهمّ والمهمّ ـ حسب دليل كلّ منهما ـ حكما مستقلاّ مع قطع النظر عن وقوع
المزاحمة بينهما ، كما أنّ المفروض أنّ دليل كلّ منهما مطلق بالقياس إلى صورتي فعل
الآخر وعدمه. فإذا وقع التزاحم بينهما اتّفاقا ، فبحسب إطلاقهما يقتضيان إيجاب
الجمع بينهما ، ولكن ذلك محال ، فلا بدّ أن ترفع اليد عن إطلاق أحدهما ، ولكنّ
المفروض أنّ الأهمّ أولى وأرجح ، ولا يعقل تقديم المرجوح على الراجح والمهمّ على
الأهمّ ، فيتعيّن رفع اليد عن إطلاق دليل الأمر بالمهمّ فقط ، ولا يقتضي ذلك رفع
اليد عن أصل دليل المهمّ. لأنه إنّما نرفع اليد عنه من جهة تقديم إطلاق الأهمّ
لمكان المزاحمة بينهما وأرجحيّة الأهمّ ، والضرورات إنّما تقدّر بقدرها.
وإذا رفعنا اليد
عن إطلاق دليل المهمّ مع بقاء أصل الدليل فإنّ معنى ذلك اشتراط خطاب المهمّ بترك
الأهمّ. وهذا هو معنى الترتّب المقصود.
والحاصل
أنّ معنى الترتّب
المقصود هو اشتراط الأمر بالمهمّ بترك الأهمّ ، وهذا الاشتراط حاصل فعلا بمقتضى
الدليلين ، مع ضمّ حكم العقل بعدم إمكان الجمع بين امتثالهما معا ، وبتقديم الراجح
على المرجوح الذي لا يرفع إلاّ إطلاق دليل المهمّ ، فيبقى أصل دليل الأمر بالمهمّ
على حاله في صورة ترك الأهمّ ، فيكون الأمر الذي يتضمّنه الدليل مشروطا بترك
الأهمّ.
وبعبارة أوضح أنّ
دليل المهمّ في أصله مطلق يشمل صورتين : صورة فعل الأهمّ ، وصورة تركه ، ولمّا
رفعنا اليد عن شموله لصورة فعل الأهمّ لمكان المزاحمة وتقديم الراجح فيبقى شموله
لصورة ترك الأهمّ بلا مزاحم ، وهذا معنى اشتراطه بترك الأهمّ.
فيكون هذا
الاشتراط مدلولا لدليلي الأمرين معا بضميمة حكم العقل ، ولكن هذه الدلالة من نوع
دلالة الإشارة .
__________________
هذه خلاصة فكرة «الترتّب»
على علاتها ، وهناك فيها جوانب تحتاج إلى مناقشة وإيضاح تركناها إلى المطوّلات ، وقد وضع لها شيخنا المحقّق النائينيّ خمس مقدّمات لسدّ ثغورها ، راجع عنها
تقريرات تلامذته .
تمرينات (٣٩)
التمرين الأوّل
١. بيّن مراد
الأصوليّين من الألفاظ التالية : ألف) الضدّ. ب) الاقتضاء. ج) النهي.
٢. ما الفرق بين
الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ؟
٣. ما هو محلّ
النزاع في مسألة الضدّ؟
٤. اذكر الأقوال
في كيفيّة اقتضاء الأمر بالشيء. للنهي عن ضدّه العامّ ، وبيّن ما هو الحقّ والدليل
عليه.
٥. هل الأمر
بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ الخاصّ؟
٦. ما الفرق بين
مسلك التلازم ومسلك المقدّميّة؟
٧. ما هي شبهة
الكعبيّ؟ وبم تبطل؟
٨. ما الدليل على
بطلان مسلك التلازم ومسلك المقدّميّة؟
٩. ما هي الثمرة
لمسألة الضدّ؟ وما هي موارد ظهورها؟
١٠. بيّن ما نسب
إلى المحقّق الثاني في المقام. واذكر كلام المحقق النائيني في ردّه.
١١. ما هو محلّ
البحث في مسألة الترتّب؟
التمرين الثاني
١. ما هي الأقوال
في المقدّميّة؟
__________________
المسألة
الرابعة : اجتماع الأمر والنهي
تحرير محلّ النزاع
واختلف الأصوليّون
من القديم في أنّه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد أو لا يجوز ؟
ذهب إلى الجواز
أغلب الأشاعرة ، وجملة من أصحابنا ، أوّلهم الفضل بن شاذان على ما هو
المعروف عنه ، وعليه جماعة من محقّقي المتأخّرين . وذهب إلى الامتناع أكثر المعتزلة ، وأكثر أصحابنا .
__________________
وكأنّ المسألة ـ فيما
يبدو من عنوانها ـ من الأبحاث التافهة ؛ إذ لا يمكن أن
نتصوّر النزاع في إمكان اجتماع الأمر والنهى في واحد حتى لو قلنا بعدم امتناع
التكليف بالمحال ، كما تقوله الأشاعرة ؛ لأنّ التكليف هنا نفسه محال ، وهو الأمر
والنهي بشيء واحد. وامتناع ذلك من أوضح الواضحات ، وهو محلّ وفاق بين الجميع.
إذن ، فكيف صحّ
هذا النزاع من القوم؟! وما معناه؟
والجواب أنّ التعبير باجتماع الأمر والنهي من خداع العناوين ، فلا
بدّ من توضيح مقصودهم من البحث بتوضيح الكلمات الواردة في هذا العنوان ، وهي كلمة «الاجتماع
، الواحد ، الجواز». ثمّ ينبغي أن نبحث أيضا عن قيد آخر لتصحيح النزاع ، وهو قيد «المندوحة»
الذي أضافه بعض المؤلّفين ، وهو على حقّ. وعليه نقول :
١. «الاجتماع» والمقصود منه هو الالتقاء الاتفاقيّ بين المأمور به
والمنهيّ عنه في شيء واحد. ولا يفرض ذلك إلاّ حيث يفرض تعلّق الأمر بعنوان ،
وتعلّق النهي بعنوان آخر لا ربط له بالعنوان الأوّل ، ولكن قد يتّفق نادرا أن
يلتقي العنوانان في شيء واحد ويجتمعا فيه ، وحينئذ يجتمع ـ أي يلتقي ـ الأمر
والنهي.
ولكن هذا الاجتماع
والالتقاء بين العنوانين على نحوين :
أ ـ أن يكون
اجتماعا مورديّا ، يعني أن لا يكون هنا فعل واحد مطابقا لكلّ من العنوانين ، بل
يكون هنا فعلان تقارنا وتجاورا في وقت واحد ، أحدهما يكون مطابقا لعنوان الواجب ،
وثانيهما مطابقا لعنوان المحرّم ، مثل النظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة ، فلا
النظر هو مطابق عنوان الصلاة ولا الصلاة مطابق عنوان النظر إلى الأجنبيّة ، ولا
هما ينطبقان على فعل واحد ؛ فإنّ مثل هذا الاجتماع المورديّ لم يقل أحد بامتناعه ،
وليس هو داخلا في مسألة الاجتماع هذه ، فلو جمع المكلّف بينهما بأن نظر إلى
الأجنبيّة في أثناء
__________________
الصلاة فقد عصى
وأطاع في آن واحد ، ولا تفسد صلاته.
ب ـ أن يكون
اجتماعا حقيقيّا ، وإن كان ذلك في النظر العرفيّ ، وفي بادئ الرأي ـ يعني أنّه فعل
واحد يكون مطابقا لكلّ من العنوانين ، كالمثال المعروف «الصلاة في المكان المغصوب»
، فإنّ مثل هذا المثال هو محلّ النزاع في مسألتنا ، المفروض فيه أنّه لا ربط
لعنوان الصلاة المأمور به بعنوان الغصب المنهيّ عنه ؛ ولكن قد يتّفق للمكلّف صدفة
أن يجمع بينهما بأن يصلّي في مكان مغصوب ، فيلتقي العنوان المأمور به ـ وهو الصلاة
ـ مع العنوان المنهيّ عنه ـ وهو الغصب ـ ، وذلك في الصلاة المأتيّ بها في مكان
مغصوب ، فيكون هذا الفعل الواحد مطابقا لعنوان الصلاة ولعنوان الغصب معا. وحينئذ
إذا اتّفق ذلك للمكلّف فإنّه يكون هذا الفعل الواحد داخلا فيما هو مأمور به من جهة
، فيقتضي أن يكون المكلّف مطيعا للأمر ممتثلا ، وداخلا فيما هو منهيّ عنه من جهة
أخرى ، فيقتضي أن يكون المكلّف عاصيا به مخالفا.
٢. «الواحد» والمقصود منه الفعل الواحد باعتبار أنّ له وجودا واحدا
يكون ملتقى ومجمعا للعنوانين في مقابل المتعدّد بحسب الوجود ، كالنظر إلى
الأجنبيّة والصلاة ، فإنّ وجود أحدهما غير وجود الآخر ، فإنّ الاجتماع في مثل هذا
يسمّى «الاجتماع المورديّ» كما تقدّم.
والفعل الواحد بما
له من الوجود الواحد إذا كان ملتقى للعنوانين ، فإنّ التقاء العناوين فيه لا يخلو
من حالتين : إحداهما : أن يكون الالتقاء بسبب ماهيّته الشخصيّة. وثانيتهما : أن
يكون الالتقاء بسبب ماهيّته الكلّية ، كأن يكون الكلّي نفسه مجمعا للعنوانين ،
كالكون الكلّي الذي ينطبق عليه أنّه صلاة وغصب.
وعليه ، فالمقصود
من الواحد في المقام الواحد في الوجود ، فلا معنى
لتخصيص النزاع بالواحد الشخصيّ .
وبما ذكرنا يظهر
خروج الواحد بالجنس عن محلّ الكلام ؛ والمراد به ما إذا كان
__________________
المأمور به
والمنهيّ عنه متغايرين وجودا ، ولكنّهما يدخلان تحت ماهيّة واحدة ، كالسجود لله
والسجود للصنم ، فإنّهما واحد بالجنس باعتبار أنّ كلاّ منهما داخل تحت عنوان
السجود ، ولا شكّ في خروج ذلك عن محلّ النزاع.
٣. «الجواز» والمقصود منه الجواز العقليّ ـ أي الإمكان المقابل
للامتناع ـ وهو واضح ؛ ويصحّ أن يراد منه الجواز العقليّ المقابل للقبح العقليّ ،
وهو قد يرجع إلى الأوّل باعتبار أنّ القبيح ممتنع على الله (تعالى).
والجواز له معان
أخر ، كالجواز المقابل للوجوب والحرمة الشرعيّين ، والجواز بمعنى الاحتمال ؛
وكلّها غير مرادة قطعا.
إذا عرفت تفسير
هذه الكلمات الثلاث الواردة في عنوان المسألة يتّضح لك جيّدا تحرير النزاع فيها ،
فإنّ حاصل النزاع في المسألة يكون أنّه في مورد التقاء عنواني المأمور به ،
والمنهيّ عنه في واحد وجودا هل يجوز اجتماع الأمر والنهي؟
ومعنى ذلك : أنّه
هل يصحّ أن يبقى الأمر متعلّقا بذلك العنوان المنطبق على ذلك الواحد ، ويبقى النهي
كذلك متعلّقا بالعنوان المنطبق على ذلك الواحد ، فيكون المكلّف مطيعا وعاصيا معا
في الفعل الواحد ، أو أنّه يمتنع ذلك ولا يجوز ، فيكون ذلك المجتمع للعنوانين إمّا
مأمورا به فقط ، أم منهيّا عنه فقط ، أي إنّه إمّا أن يبقى الأمر على فعليّته فقط
، فيكون المكلّف مطيعا لا غير ، أو يبقى النهي على فعليّته فقط ، فيكون المكلّف
عاصيا لا غير.
والقائل بالجواز
لا بدّ أن يستند في قوله إلى أحد رأيين :
١. أن يرى أنّ
العنوان بنفسه هو متعلّق التكليف ، ولا يسري الحكم إلى المعنون ، فانطباق عنوانين
على فعل واحد لا يلزم منه أن يكون ذلك الواحد متعلّقا للحكمين ، فلا يمتنع
الاجتماع ـ أي اجتماع عنوان المأمور به مع عنوان المنهيّ عنه في واحد ـ ؛ لأنّه لا
يلزم منه اجتماع نفس الأمر والنهي في واحد.
٢. أن يرى أنّ
المعنون ـ على تقدير تسليم أنّه هو متعلّق الحكم حقيقة لا العنوان ـ ، يكون
متعدّدا واقعا ، إذا تعدّد العنوان ؛ لأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون
بالنظر الدقيق الفلسفيّ ، ففي الحقيقة ـ وإن كان فعل واحد في ظاهر الحال صار
مطابقا للعنوانين ـ هناك
معنونان كلّ واحد
منهما مطابق لأحد العنوانين ، فيرجع اجتماع الوجوب والحرمة بالدقّة العقليّة إلى
الاجتماع المورديّ الذي قلنا : إنّه لا بأس فيه من الاجتماع.
وعلى هذا ، فليس
هناك واحد بحسب الوجود يكون مجمعا بين العنوانين في الحقيقة ، بل ما هو مأمور به
في وجوده غير ما هو منهيّ عنه في وجوده. ولا تلزم سراية الأمر إلى ما تعلّق به
النهي ، ولا سراية النهي إلى ما تعلّق به الأمر ، فيكون المكلّف في جمعه بين
العنوانين مطيعا وعاصيا في آن واحد ، كالناظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة.
وبهذا يتّضح معنى
القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، وفي الحقيقة ليس هو قولا باجتماع الأمر والنهي
في واحد ، بل إمّا أنّه يرجع إلى القول باجتماع عنوان المأمور به والمنهيّ عنه في
واحد دون أن يكون هناك اجتماع بين الأمر والنهي ، وإمّا أن يرجع إلى القول
بالاجتماع المورديّ فقط ، فلا يكون اجتماع بين الأمر والنهي ، ولا بين المأمور به
والمنهيّ عنه.
وأمّا القائل
بالامتناع : فلا بدّ أن يذهب إلى أنّ الحكم يسري من العنوان إلى المعنون وأنّ
تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ؛ فإنّه لا يمكن حينئذ بقاء الأمر والنهي معا
وتوجّههما متعلّقين بذلك المعنون الواحد بحسب الوجود ؛ لأنّه يلزم اجتماع نفس
الأمر والنهي في واحد ، وهو مستحيل ، فإمّا أن يبقى الأمر ولا نهي ، أو يبقى النهي
ولا أمر.
ولقد أحسن صاحب
المعالم في تحرير النزاع ؛ إذ عبّر بكلمة «التوجّه» بدلا عن كلمة «الاجتماع» فقال
: «الحقّ امتناع توجّه الأمر والنهي إلى شيء واحد ...» .
المسألة من
الملازمات العقليّة غير المستقلّة
ومن التقرير
المتقدّم لبيان محلّ النزاع يظهر كيف أنّ المسألة هذه ينبغي أن تدخل في
__________________
الملازمات
العقليّة غير المستقلّة ، فإنّ معنى القول بالامتناع هو تنقيح صغرى الكبرى
العقليّة القائلة بامتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد حقيقيّ.
توضيح ذلك أنّه
إذا قلنا بأنّ الحكم يسري من العنوان إلى المعنون ، وأنّ تعدّد العنوان لا يوجب
تعدّد المعنون ؛ فإنّه يتنقّح عندنا موضوع اجتماع الأمر والنهي في واحد الثابتين
شرعا ، فيقال على نهج القياس الاستثنائيّ هكذا : «إذا التقى عنوان المأمور به
والمنهيّ عنه في واحد بسوء الاختيار ، فإن بقي الأمر والنهي فعليّين معا ، فقد
اجتمع الأمر والنهي في واحد». وهذه هي الصغرى.
ومستند هذه
الملازمة في الصغرى هو سراية الحكم من العنوان إلى المعنون ، وأنّ تعدّد العنوان
لا يوجب تعدّد المعنون. وإنّما تفرض هذه الملازمة حيث يفرض ثبوت الأمر والنهي شرعا
بعنوانيهما.
ثمّ نقول : «ولكنّه
يستحيل اجتماع الأمر والنهي في واحد». وهذه هي الكبرى. وهذه الكبرى عقليّة تثبت في
غير هذه المسألة.
وهذا القياس
استثنائيّ قد استثني فيه نقيض التالي ، فيثبت به نقيض المقدّم ، وهو عدم بقاء
الأمر والنهي فعليّين معا.
وأمّا بناء على
الجواز : فيخرج هذا المورد من مورد الالتقاء عن أن يكون صغرى لتلك الكبرى
العقليّة.
ولا يجب في كون
المسألة أصوليّة من المستقلاّت العقليّة وغيرها أن تقع صغرى للكبرى العقليّة على
تقدير جميع الأقوال ، بل يكفي أن تقع صغرى على أحد الأقوال فقط ، فإنّ هذا شأن
جميع المسائل الأصوليّة المتقدّمة اللفظيّة والعقليّة ، ألا ترى أنّ المباحث
اللفظيّة كلّها لتنقيح صغرى أصالة الظهور ، مع أنّ المسألة لا تقع صغرى لأصالة
الظهور على جميع الأقوال فيها ، كمسألة دلالة صيغة «افعل» على الوجوب ، فإنّه على
القول بالاشتراك اللفظيّ أو المعنويّ لا يبقى لها ظهور في الوجوب أو غيره.
ولا وجه لتوهّم
كون هذه المسألة فقهيّة ، أو كلاميّة ، أو أصوليّة لفظيّة ، وهو واضح بعد ما
قدّمناه من شرح تحرير النزاع ، وبعد ما ذكرناه سابقا في أوّل هذا الجزء من مناط
كون
المسألة الأصوليّة
من باب غير المستقلاّت العقليّة .
مناقشة الكفاية في
تحرير النزاع
وبعد ما حرّرناه
من بيان النزاع في المسألة يتّضح ابتناء القول بالجواز فيها على أحد رأيين : إمّا القول
بأنّ متعلّق الأحكام هي نفس العنوانات دون معنوناتها ، وإمّا القول بأنّ تعدّد
العنوان يستدعي تعدّد المعنون .
فتكون مسألة تعدّد
المعنون بتعدّد العنوان وعدم تعدّده حيثيّة تعليليّة في مسألتنا ومن المبادئ
التصديقيّة لها على أحد احتمالين ، لا أنّها هي نفس محلّ النزاع في الباب ، فإنّ
البحث هنا ليس إلاّ عن نفس الجواز وعدمه ، كما عبّر بذلك كلّ من بحث عن هذه
المسألة من القديم.
ومن هنا تتجلّى
المناقشة فيما أفاده في كفاية الأصول من رجوع محلّ البحث هنا إلى البحث عن استدعاء
تعدّد العنوان لتعدّد المعنون وعدمه ، فإنّه فرق عظيم
بين ما هو محلّ النزاع وبين ما يبتني عليه النزاع في أحد احتمالين ؛ فلا وجه للخلط
بينهما وإرجاع أحدهما إلى الآخر ، وإن كان في هذه المسألة لا بدّ للأصوليّ من
البحث عن أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون؟ باعتبار أنّ هذا البحث ليس
ممّا يذكر في موضع آخر.
قيد المندوحة
ذكرنا فيما سبق
أنّ بعضهم قيّد النزاع هنا بأن تكون هناك مندوحة في مقام الامتثال .
ومعنى «المندوحة»
أن يكون المكلّف متمكّنا من امتثال الأمر في مورد آخر غير مورد الاجتماع.
__________________
ونظر إلى ذلك كلّ
من قيّد موضع النزاع بما إذا كان الجمع بين العنوانين بسوء اختيار المكلّف.
وإنّما قيّد بها
موضع النزاع للاتّفاق بين الطرفين على عدم جواز الاجتماع في صورة عدم وجود
المندوحة ، وذلك فيما إذا انحصر امتثال الأمر في مورد الاجتماع ، لا بسوء اختيار
المكلّف.
والسرّ واضح ؛
فإنّه عند الانحصار تستحيل فعليّة التكليفين ؛ لاستحالة امتثالهما معا ؛ لأنّه إن
فعل ما هو مأمور به فقد عصى النهي ، وإن تركه فقد عصى الأمر ، فيقع التزاحم حينئذ
بين الأمر والنهي.
وظاهر أنّ اعتبار
قيد المندوحة لازم لما ذكرناه ؛ إذ ليس النزاع جهتيّا ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية
ـ ، أي من جهة كفاية تعدّد العنوان في تعدّد المعنون وعدمه
وإن لم يجز الاجتماع من جهة أخرى ، حتّى لا نحتاج إلى هذا القيد ، بل النزاع ـ كما
تقدّم ـ هو في جواز الاجتماع وعدمه من أيّة جهة فرضت وليس
جهتيّا. وعليه ، فما دام النزاع غير واقع في عدم الجواز في صورة عدم المندوحة فهذه
الصورة لا تدخل في محلّ النزاع في مسألتنا.
فوجب ـ إذن ـ تقييد
عنوان المسألة بقيد المندوحة كما صنع بعضهم .
الفرق بين بابي
التعارض والتزاحم ومسألة الاجتماع
من المسائل
العويصة مشكلة التفرقة بين باب التعارض وباب التزاحم ، ثمّ بينهما وبين مسألة
الاجتماع. ولا بدّ من بيان فرق بينها لتنكشف جيّدا حقيقة النزاع في مسألتنا «مسألة
الاجتماع».
وجه الإشكال في
التفرقة أنّه لا شبهة في أنّ من موارد التعارض بين الدليلين ما إذا كان
__________________
بين دليلي الأمر
والنهي عموم وخصوص من وجه ، وذلك من أجل العموم من وجه بين متعلّقي الأمر والنهي ـ
أي العموم من وجه الذي يقع بين عنوان المأمور به ، وعنوان المنهيّ عنه ـ ، بينما
أنّ التزاحم بين الوجوب والحرمة من موارده أيضا العموم من وجه بين الأمر والنهي من
هذه الجهة. وكذلك مسألة الاجتماع موردها منحصر فيما إذا كان بين عنواني المأمور به
والمنهيّ عنه عموم من وجه.
فيتّضح أنّه مورد واحد
ـ وهو مورد العموم من وجه بين متعلّقي الأمر والنهي ـ يصحّ أن يكون موردا للتعارض
وباب التزاحم ومسألة الاجتماع ، فما المائز والفارق؟
فنقول : إنّ العموم من وجه إنّما يفرض بين متعلّقي الأمر والنهي
فيما إذا كان العنوانان يلتقيان في فعل واحد ، سواء كان العنوان بالنسبة إلى الفعل
من قبيل العنوان ومعنونه ، أو من قبيل الكلّي ، وفرده ؛ وهذا بديهيّ ، ولكنّ العنوان المأخوذ في متعلّق الخطاب من
__________________
__________________
جهة عمومه على
نحوين :
١. أن يكون ملحوظا
في الخطاب ، فانيا في مصاديقه على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات
والمميّزات ، فيكون شاملا في سعته لموضع الالتقاء مع العنوان المحكوم بالحكم الآخر
، فيعدّ في حكم المتعرّض لحكم خصوص موضع الالتقاء ، ولو من جهة كون موضع الالتقاء
متوقّع الحدوث على وجه يكون من شأنه أن ينبّه عليه المتكلّم في خطابه ، فيكون أخذ
العنوان على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات والمميّزات لهذا الغرض من
التنبيه ونحوه. ولا نضايقك أن تسمّي مثل هذا العموم «العموم الاستغراقيّ» ، كما
صنع بعضهم .
والمقصود أنّ
العنوان إذا أخذ في الخطاب على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات والمميّزات
، يكون في حكم المتعرّض لحكم كلّ فرد من أفراده ، فيكون نافيا بالدلالة
الالتزاميّة لكلّ حكم مناف لحكمه.
٢. أن يكون
العنوان ملحوظا في الخطاب ، فانيا في مطلق الوجود المضاف إلى طبيعة العنوان من دون
ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد ـ أي لم تلحظ فيه الكثرات والمميّزات في
مقام الأمر بوجود الطبيعة ، ولا في مقام النهي عن وجود الطبيعة الأخرى ـ ، فيكون
المطلوب في الأمر والمنهيّ عنه في النهي صرف وجود الطبيعة. وليسمّ مثل هذا العموم «العموم
البدليّ» ، كما صنع بعضهم .
فإن كان العنوان
مأخوذا في الخطاب على النحو الأوّل فإنّ موضع الالتقاء يكون العامّ حجّة فيه ،
كسائر الأفراد الأخرى ، بمعنى أن يكون متعرّضا بالدلالة الالتزاميّة لنفي أيّ حكم
آخر ، مناف لحكم العامّ بالنسبة إلى الأفراد وخصوصيّات المصاديق.
وفي هذه الصورة لا
بدّ أن يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي في مقام الجعل والتشريع ؛ لأنّهما
يتكاذبان بالنسبة إلى موضع الالتقاء من جهة الدلالة الالتزاميّة في كلّ منهما على
نفي الحكم الآخر بالنسبة إلى موضع الالتقاء.
__________________
والتحقيق
أنّ التعارض بين
العامّين من وجه إنّما يقع بسبب دلالة كلّ منهما بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء
حكم الآخر ، ومن أجلها يتكاذبان ، وإلاّ فالدلالتان المطابقيّتان بأنفسهما في
العامّين من وجه لا يتكاذبان ، فلا تتعارضان ما لم يلزم من ثبوت مدلول إحداهما نفي
مدلول الأخرى ، فليس التنافي بين المدلولين المطابقيّين إلاّ تنافيا بالعرض لا
بالذات.
ومن هنا يعلم أنّ
هذا الفرض ـ وهو فرض كون العنوان مأخوذا في الخطاب على النحو الأوّل ـ ينحصر في
كونه موردا للتعارض بين الدليلين ، ولا تصل النوبة إلى فرض التزاحم بين الحكمين
فيه ، ولا إلى النزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ؛ لأنّ مقتضى القاعدة في
باب التعارض هو تساقط الدليلين عن حجّيتهما بالنسبة إلى مورد الالتقاء ، فلا يجوز
فيه الوجوب ولا الحرمة. ولا يفرض التزاحم ، أو مسألة النزاع في جواز الاجتماع إلاّ
حيث يفرض شمول الدليلين لمورد الالتقاء وبقاء حجّيتهما بالنسبة إليه ، أي إنّه لم
يكن تعارض بين الدليلين في مقام الجعل والتشريع.
وإن كان العنوان
مأخوذا على النحو الثاني ، فهو مورد التزاحم ، أو مسألة الاجتماع ، ولا يقع بين
الدليلين تعارض حينئذ. وذلك مثل قوله : «صلّ» ، وقوله : «لا تغصب» ، باعتبار أنّه
لم يلحظ في كلّ من خطاب الأمر والنهي الكثرات والمميّزات على وجه يسع العنوان جميع
الأفراد ، وإن كان نفس العنوان في حدّ ذاته وإطلاقه شاملا لجميع الأفراد ؛ فإنّه
في مثله يكون الأمر متعلّقا بصرف وجود الطبيعة للصلاة ، وامتثاله يكون بفعل أيّ
فرد من الأفراد ، فلم يكن ظاهرا في وجوب الصلاة حتى في مورد الغصب على وجه يكون
دالاّ بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكم آخر في هذا المورد ليكون نافيا لحرمة
الغصب في المورد. وكذلك النهي يكون متعلّقا بصرف طبيعة الغصب ، فلم يكن ظاهرا في
حرمة الغصب حتّى في مورد الصلاة على وجه يكون دالاّ بالدلالة الالتزاميّة على
انتفاء حكم آخر في هذا المورد ؛ ليكون نافيا لوجوب الصلاة.
وفي مثل هذين
الدليلين ـ إذا كانا على هذا النحو ـ يكون كلّ منهما أجنبيّا في عموم عنوان متعلّق
الحكم فيه عن عنوان متعلّق الحكم الآخر ـ أي إنّه غير متعرّض بدلالته
الالتزاميّة لنفي
الحكم الآخر ـ ، فلا يتكاذبان في مقام الجعل والتشريع ، فلا يقع التعارض بينهما ،
إذ لا دلالة التزاميّة لكلّ منهما على نفي الحكم الآخر في مورد الالتقاء ، ولا
تعارض بين الدلالتين المطابقيّتين بما هما ؛ لأنّ المفروض أنّ المدلول المطابقيّ
من كلّ منهما هو الحكم المتعلّق بعنوان أجنبيّ في نفسه عن العنوان المتعلّق للحكم
الآخر.
وحينئذ إذا صادف
أن ابتلي المكلّف بجمعهما على نحو الاتّفاق فحاله لا يخلو عن أحد أمرين : إمّا أن
تكون له مندوحة من الجمع بينهما ، ولكنّه هو الذي جمع بينهما بسوء اختياره وتصرّفه
، وإمّا أن لا تكون له مندوحة من الجمع بينهما.
فإن كان الأوّل
فإنّ المكلّف حينئذ يكون قادرا على امتثال كلّ من التكليفين ، فيصلّي ويترك الغصب
، وقد يصلّي ويغصب في فعل آخر. فإذا جمع بينهما بسوء اختياره بأن صلّى في مكان
مغصوب ، فهنا يقع النزاع في جواز الاجتماع بين الأمر والنهي ، فإن قلنا بالجواز
كان مطيعا وعاصيا في آن واحد ، وإن قلنا بعدم الجواز فإنّه : إمّا أن يكون مطيعا
لا غير إذا رجّحنا جانب الأمر ، أو عاصيا لا غير إذا رجّحنا جانب النهي ؛ لأنّه
حينئذ يقع التزاحم بين التكليفين فيرجع فيه إلى أقوى الملاكين.
وإن كان الثاني
فإنّه لا محالة يقع التزاحم بين التكليفين الفعليّين ؛ لأنّه ـ حسب الفرض ـ لا
معارضة بين الدليلين في مقام الجعل والإنشاء بل المنافاة وقعت من عدم قدرة المكلّف
على التفريق بين الامتثالين ، فيدور الأمر حينئذ بين امتثال الأمر وبين امتثال
النهي ؛ إذ لا يمكنه امتثالهما معا من جهة عدم المندوحة.
هذا هو الحقّ الذي
ينبغي أن يعوّل عليه في سرّ التفريق بين بابي التعارض والتزاحم ، وبينهما وبين
مسألة الاجتماع في مورد العموم من وجه بين متعلّقي الخطابين ـ خطاب الوجوب والحرمة
ـ ، ولعلّه يمكن استفادته من مطاوي كلماتهم وإن كانت عباراتهم تضيق عن التصريح
بذلك ، بل اختلفت كلمات أعلام أساتذتنا رحمهمالله في وجه التفريق.
فقد ذهب صاحب
الكفاية إلى «أنّه لا يكون المورد من باب الاجتماع إلاّ إذا أحرز في كلّ واحد من
متعلّقي الإيجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا ، حتّى في مورد التصادق والاجتماع ،
وأمّا إذا لم يحرز مناط كلّ من الحكمين في مورد التصادق مع العلم بمناط أحد
الحكمين بلا تعيين
فالمورد يكون من باب التعارض ؛ للعلم الإجماليّ حينئذ بكذب أحد الدليلين الموجب
للتنافي بينهما عرضا ».
هذا خلاصة رأية رحمهالله ، فجعل إحراز مناط الحكمين في مورد الاجتماع وعدمه هو المناط في التفرقة بين
مسألة الاجتماع وباب التعارض ، بينما أنّ المناط عندنا في التفرقة بينهما هو دلالة
الدليلين بالدلالة الالتزاميّة على نفي الحكم الآخر وعدمها ، فمع هذه الدلالة يحصل
التكاذب بين الدليلين ، فيتعارضان ، وبدونها لا تعارض ، فيدخل المورد في مسألة
الاجتماع.
ويمكن دعوى
التلازم بين المسلكين في الجملة ؛ لأنّه مع تكاذب الدليلين من ناحية دلالتهما
الالتزاميّة لا يحرز وجود مناط الحكمين في مورد الاجتماع ، كما أنّه مع عدم
تكاذبهما يمكن إحراز وجود المناط لكلّ من الحكمين في مورد الاجتماع ، بل لا بدّ من
إحراز مناط الحكمين بمقتضى إطلاق الدليلين في مدلولهما المطابقيّ.
وأمّا شيخنا
النائينيّ : فقد ذهب إلى «أنّ مناط دخول المورد في باب التعارض أن تكون الحيثيّتان
في العامّين من وجه حيثيّتين تعليليّتين ؛ لأنّه حينئذ يتعلّق الحكم في كلّ منهما
بنفس ما يتعلّق به الآخر ، فيتكاذبان ، وأمّا إذا كانتا تقييديّتين : فلا يقع
التعارض بينهما ، ويدخلان حينئذ في مسألة الاجتماع مع المندوحة ، وفي باب التزاحم
مع عدم المندوحة ».
ونحن
نقول : في الحيثيّتين
التقييديّتين إذا كان بين الدلالتين تكاذب من أجل دلالتهما الالتزاميّة على نفي
الحكم الآخر ـ على نحو ما فصّلناه ـ فإنّ التعارض بينهما لا محالة واقع ، ولا تصل
النوبة في هذا المورد للدخول في مسألة الاجتماع.
ولنا مناقشة معه
في صورة الحيثية التعليليّة ، يطول شرحها ، ولا يهمّ التعرّض لها الآن ، وفيما
ذكرناه الكفاية ، وفوق الكفاية للطالب المبتدئ.
__________________
الحقّ في المسألة
بعد ما قدّمنا ـ من
توضيح تحرير النزاع وبيان موضع النزاع ـ نقول : إنّ الحقّ في المسألة هو «الجواز».
وقد ذهب إلى ذلك جمع من المحقّقين المتأخّرين .
وسندنا يبتني على
توضيح واختيار ثلاثة أمور مترتّبة :
أوّلا
: أنّ متعلّق
التكليف ـ سواء كان أمرا أو نهيا ـ ليس هو المعنون ، أي الفرد الخارجيّ للعنوان بما له من الوجود الخارجيّ ؛ فإنّه يستحيل ذلك ،
بل متعلّق التكليف دائما وأبدا هو العنوان ، على ما سيأتي توضيحه .
واعتبر ذلك بالشوق
، فإنّ الشوق يستحيل أن يتعلّق بالمعنون ؛ لأنّه إمّا أن يتعلّق به حال عدمه أو
حال وجوده ، وكلّ منهما لا يكون ؛ أمّا الأوّل : فيلزم تقوّم الموجود بالمعدوم ،
وتحقّق المعدوم بما هو معدوم ـ لأنّ المشتاق إليه له نوع من التحقّق بالشوق إليه ـ
وهو محال واضح ؛ وأمّا الثاني : فلأنّه يكون الاشتياق إليه تحصيلا للحاصل وهو محال
؛ فإذن لا يتعلّق الشوق بالمعنون لا حال وجوده ، ولا حال عدمه.
مضافا إلى أنّ
الشوق من الأمور النفسيّة ، ولا يعقل أن يتشخّص ما في النفس بدون متعلّق ما ،
كجميع الأمور النفسيّة ، كالعلم ، والخيال ، والوهم ، والإرادة ، ونحوها ، ولا
يعقل أن يتشخّص بما هو خارج عن أفق النفس من الأمور العينيّة ؛ فلا بدّ أن يتشخّص
بالشيء المشتاق إليه بما له من الوجود العنوانيّ الفرضيّ ، وهو المشتاق إليه أوّلا
وبالذات ، وهو الموجود بوجود الشوق ، لا بوجود آخر وراء الشوق ، ولكن لمّا كان
يؤخذ العنوان بما هو حاك ومرآة عمّا في الخارج ـ أي عن المعنون ـ فإنّ المعنون
يكون مشتاقا إليه ثانيا و
__________________
بالعرض ، نظير
العلم ؛ فإنّه لا يعقل أن يتشخّص بالأمر الخارجيّ ، والمعلوم بالذات دائما وأبدا
هو العنوان الموجود بوجود العلم ، ولكن بما هو حاك ومرآة عن المعنون.
وأمّا المعنون
لذلك العنوان فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فيه.
وفي الحقيقة إنّما
يتعلّق الشوق بشيء إذا كان له جهة وجدان وجهة فقدان ، فلا يتعلّق بالمعدوم من جميع
الجهات ، ولا بالموجود من جميع الجهات. وجهة الوجدان في المشتاق إليه هو العنوان
الموجود بوجود الشوق في أفق النفس باعتبار ما له من وجود عنوانيّ فرضيّ. وجهة
الفقدان في المشتاق إليه هو عدمه الحقيقيّ في الخارج ، ومعنى الشوق إليه هو الرغبة
في إخراجه من حدّ الفرض والتقدير إلى حدّ الفعليّة والتحقيق.
وإذا كان الشوق
على هذا النحو ، فكذلك حال الطلب والبعث بلا فرق ، فيكون حقيقة طلب الشيء هو
تعلّقه بالعنوان لإخراجه من حدّ الفرض والتقدير إلى حدّ الفعليّة والتحقيق .
ثانيا
: أنّا لمّا قلنا
بأنّ متعلّق التكليف هو العنوان لا المعنون لا نعني أنّ العنوان بما له من الوجود
الذهنيّ يكون متعلّقا للطلب ؛ فإنّ ذلك باطل بالضرورة ؛ لأنّ مثار الآثار ومتعلّق
الغرض والذي تترتّب عليه المصلحة والمفسدة هو المعنون لا العنوان ؛ بل نعني أنّ
المتعلّق هو العنوان حال وجوده الذهنيّ ، لا أنّه بما له من الوجود الذهنيّ أو هو
مفهوم ، ومعنى تعلّقه بالعنوان حال وجوده الذهنيّ أنّه يتعلّق به نفسه باعتبار
أنّه مرآة عن المعنون وفان فيه ، فتكون التخلية فيه عن الوجود الذهنيّ عين التحلية
به.
ثالثا : أنّا إذ نقول : «إنّ المتعلّق للتكليف هو العنوان بما هو
مرآة عن المعنون ، وفان فيه» لا نعني أنّ المتعلّق الحقيقيّ للتكليف هو المعنون ،
وأنّ التكليف يسري من العنوان إلى المعنون باعتبار فنائه فيه ـ كما قيل ـ ، فإنّ ذلك باطل بالضرورة أيضا ؛ لما تقدّم أنّ المعنون يستحيل أن يكون
متعلّقا للتكليف بأيّ حال من الأحوال ، وهو محال حتّى لو كان بتوسّط العنوان ،
فإنّ توسّط العنوان لا يخرجه عن استحالة تعلّق التكليف به ؛ بل نعني
__________________
ونقول : إنّ
الصحيح أنّ متعلّق التكليف هو العنوان بما هو مرآة وفان في المعنون على أن يكون
فناؤه في المعنون هو المصحّح لتعلّق التكليف به فقط ؛ إذ إنّ الغرض إنّما يقوم بالمعنون
المفنيّ فيه ، لا أنّ الفناء يجعل التكليف ساريا إلى المعنون ومتعلّقا به. وفرق
كبير بين ما هو مصحّح لتعلّق التكليف بشيء ، وبين ما هو بنفسه متعلّق التكليف.
وعدم التفرقة بينهما هو الذي أوهم القائلين بأنّ التكليف يسري إلى المعنون باعتبار
فناء العنوان فيه ، ولا يزال هذا الخلط بين ما هو بالذات وما هو بالعرض مثار كثير
من الاشتباهات التي تقع في علمي الأصول والفلسفة. والفناء والآليّة في الملاحظة هو
الذي يوقع الاشتباه والخلط ، فيعطى ما للعنوان للمعنون وبالعكس.
وإذا عسر عليك
تفهّم ما نرمي إليه فاعتبر ذلك في مثال الحرف حينما نحكم عليه بأنّه لا يخبر عنه ؛
فإنّ عنوان الحرف ومفهومه اسم يخبر عنه ، كيف وقد أخبر بأنّه لا يخبر عنه؟ ولكن
إنّما صحّ الإخبار عنه بذلك فباعتبار فنائه في المعنون ؛ لأنّه هو الذي له هذه
الخاصيّة ، ويقوم به الغرض من الحكم ، ومع ذلك لا يجعل ذلك كون المعنون ـ وهو
الحرف الحقيقيّ ـ موضوعا للحكم حقيقة أوّلا وبالذات ؛ فإنّ الحرف الحقيقيّ يستحيل
أن يكون موضوعا للحكم وطرفا للنسبة بأيّ حال من الأحوال ولو بتوسّط شيء ، كيف
وحقيقته النسبة والربط ، وخاصّته أنّه لا يخبر عنه؟. وعليه ، فالمخبر عنه أوّلا
وبالذات هو عنوان الحرف ، لكن لا بما هو مفهوم موجود في الذهن ؛ فإنّه بهذا
الاعتبار يخبر عنه ، بل بما هو فان في المعنون وحاك عنه ، فالمصحّح للإخبار عنه
بأنّه لا يخبر عنه هو فناؤه في معنونه ، فيكون الحرف الحقيقيّ المعنون مخبرا عنه
ثانيا وبالعرض ، وإن كان الغرض من الحكم إنّما يقوم بالمفنيّ فيه ، وهو الحرف
الحقيقيّ.
وعلى هذا يتّضح
جليّا كيف أنّ دعوى سراية الحكم أوّلا وبالذات من العنوان إلى المعنون منشؤها
الغفلة [عن التفرقة] بين ما هو المصحّح للحكم على موضوع باعتبار قيام الغرض بذلك
المصحّح ، فيجعل الموضوع عنوانا حاكيا عنه ، وبين ما هو الموضوع للحكم القائم به
الغرض ، فالمصحّح للحكم شيء والمحكوم عليه والمجعول موضوعا شيء آخر. ومن العجيب أن
يصدر مثل هذه الغفلة من بعض أهل الفنّ في المعقول.
نعم ، إذا كان
القائل بالسراية يقصد أنّ العنوان يؤخذ فانيا في المعنون ، وحاكيا عنه ، وأنّ الغرض
إنّما يقوم بالمعنون فذلك حقّ ونحن نقول به ، ولكن ذلك لا ينفعه في الغرض الذي
يهدف إليه ؛ لأنّا نقول بذلك من دون أن نجعل متعلّق التكليف نفس المعنون ، وإنّما
يكون متعلّقا له ثانيا وبالعرض ، كالمعلوم بالعرض ـ كما أشرنا إليه فيما سبق ـ ،
فإنّ العلم إنّما يتعلّق بالمعلوم بالذات ، ويتقوّم به ، وليس هو إلاّ العنوان
الموجود بوجود علميّ ، ولكن باعتبار فنائه في معنونه يقال للمعنون : «إنّه معلوم»
، ولكنّه في الحقيقة هو معلوم بالعرض لا بالذات ، وهذا الفناء هو الذي يخيّل
الناظر أنّ المتعلّق الحقيقيّ للعلم هو المعنون ، ولقد أحسنوا في تعريف العلم
بأنّه «حصول صورة الشيء لدى العقل ، لا حصول نفس الشيء» ، فالمعلوم بالذات هو
الصورة ، والمعلوم بالعرض نفس الشيء الذي حصلت صورته لدى العقل.
وإذا ثبت ما تقدّم
، واتّضح ما رمينا إليه ـ من أنّ متعلّق التكليف أوّلا وبالذات هو العنوان وأنّ
المعنون متعلّق له بالعرض ـ يتّضح لك الحقّ جليّا في مسألتنا «مسألة اجتماع الأمر
والنهي» ، وهو أنّ الحقّ جواز الاجتماع.
ومعنى جواز
الاجتماع أنّه لا مانع من أن يتعلّق الإيجاب بعنوان ، ويتعلّق التحريم بعنوان آخر
، وإذا جمع المكلّف بينهما صدفة بسوء اختياره فإنّ ذلك لا يجعل الفعل الواحد
المعنون لكلّ من العنوانين متعلّقا للإيجاب والتحريم إلاّ بالعرض ، وليس ذلك بمحال
؛ فإنّ المحال إنّما هو أن يكون الشيء الواحد بذاته متعلّقا للإيجاب والتحريم.
وعليه ، فيصحّ أن
يقع الفعل الواحد امتثالا للأمر من جهة باعتبار انطباق العنوان المأمور به عليه ،
وعصيانا للنهي من جهة أخرى باعتبار انطباق عنوان المنهيّ عنه عليه. ولا محذور في
ذلك ما دام أنّ ذلك الفعل الواحد ليس بنفسه وبذاته متعلّقا للأمر وللنهي ليكون ذلك
محالا ، بل العنوانان الفانيان هما المتعلّقان للأمر والنهي ، غاية الأمر أنّ
تطبيق العنوان المأمور به على هذا الفعل يكون هو الداعي إلى إتيان الفعل ، ولا فرق
بين فرد وفرد في انطباق العنوان عليه ، فالفرد الذي ينطبق عليه العنوان المنهيّ
عنه كالفرد الخالي من ذلك في كون كلّ منهما ينطبق عليه العنوان المأمور به بلا جهة
خلل في الانطباق.
ولا فرق في ذلك
بين أن يكون تعدّد العنوان موجبا لتعدّد المعنون ، أو لم يكن ما دام أنّ المعنون
ليس هو متعلّق التكليف بالذات.
نعم ، لو كان
العنوان مأخوذا في المأمور به والمنهيّ عنه على وجه يسع جميع الأفراد حتّى موضع
الاجتماع ـ وهو الفرد الذي ينطبق عليه العنوانان ـ ، ولو كان ذلك من جهة إطلاق
الدليل ؛ فإنّه حينئذ تكون لكلّ من الدليلين الدلالة الالتزاميّة على نفي حكم
الآخر في موضع الالتقاء ، فيتكاذبان ، وعليه ، يقع التعارض
بينهما ويخرج المورد عن مسألة الاجتماع كما سبق بيان ذلك مفصّلا.
كما أنّه لو كانت
القدرة على الفعل مأخوذة في متعلّق الأمر على وجه يكون الواجب هو العنوان المقدور
بما هو مقدور فإنّ عنوان المأمور به حينئذ لا يسع ولا يعمّ الفرد غير المقدور ،
فلا ينطبق عنوان المأمور به بما هو مأمور به على موضع الاجتماع ، ولا يكون هذا
الفرد غير المقدور شرعا من أفراد الطبيعة بما هي مأمور بها.
بخلاف ما إذا كانت
القدرة مصحّحة فقط لتعلّق التكليف بالعنوان ، فإنّ عنوان المأمور به يكون مقدورا
عليه ولو بالقدرة على فرد واحد من أفراده ؛ ولهذا قلنا : إنّه لو انحصر تطبيق
المأمور به في خصوص موضع الاجتماع ـ كما في مورد عدم المندوحة ـ يقع التزاحم بين
الحكمين في موضع الاجتماع ؛ لأنّه لا يصحّ تطبيق المأمور به على هذا الفرد ـ وهو
موضع الاجتماع ـ إلاّ إذا لم يكن النهي فعليّا ، كما لا يصحّ تطبيق عنوان المنهيّ
عنه عليه إلاّ إذا لم يكن الأمر فعليّا ، فلا بدّ من رفع اليد عن فعليّة أحد الحكمين
، وتقديم الأهمّ منهما.
ولقد ذهب بعض
أعلام أساتذتنا إلى أنّ القدرة مأخوذة في متعلّق التكليف ، باعتبار أنّ
الخطاب بالتكليف نفسه يقتضي ذلك ؛ لأنّ الأمر إنّما هو لتحريك المكلّف نحو الفعل
على أن يصدر منه بالاختيار ، وهذا نفسه يقتضي كون متعلّقه مقدورا ؛ لامتناع جعل
الداعي نحو الممتنع وإن كان الامتناع من ناحية شرعيّة.
ولكنّنا لم نتحقّق
صحّة هذه الدعوى ؛ لأنّ صحّة التكليف بطبيعة الفعل لا تتوقّف على أكثر
__________________
من القدرة على صرف
وجود الطبيعة ولو بالقدرة على فرد من أفرادها ، فالعقل هو الذي يحكم بلزوم القدرة
في متعلّق التكليف ، وذلك لا يقتضي القدرة على كلّ فرد من أفراد الطبيعة إلاّ إذا
قلنا بأنّ التكليف يتعلّق بالأفراد أوّلا وبالذات ، وقد تقدّم توضيح فساد هذا
الوهم .
تعدّد العنوان لا
يوجب تعدّد المعنون
بعد ما تقدّم من
البيان من أنّ التكليف إنّما يتعلّق بالعنوان بما هو مرآة عن أفراده لا بنفس
الأفراد ، فإنّ القول بالجواز لا يتوقّف على القول بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد
المعنون ـ كما أشرنا إليه فيما سبق ـ ؛ لأنّه سواء كان المعنون متعدّدا بتعدّد
العنوان أو غير متعدّد ، فإنّ ذلك لا يرتبط بمسألتنا نفيا وإثباتا ما دام أنّ
المعنون ليس متعلّقا للتكليف أبدا. وعلى كلّ حال فالحقّ هو الجواز ، تعدّد المعنون
أو لم يتعدّد.
ولو سلّمنا جدلا
بأنّ التكليف يتعلّق بالمعنون باعتبار سراية التكليف من العنوان إلى المعنون ـ كما
هو المعروف ـ ، فإنّ الحقّ أنّه لا يجب تعدّد المعنون بتعدّد العنوان ، فقد يتعدّد
وقد لا يتعدّد ، فليس هناك قاعدة عامّة تقضي بأن نحكم بأنّ تعدّد العنوان يوجب
تعدّد المعنون ، كما تكلّف بتنقيحها بعض أعاظم مشايخنا ، وكأنّ نظره الشريف يرمي إلى أنّ العامّين من وجه يمتنع صدقهما على شيء واحد
من جهة واحدة ، وإلاّ لما كانا عامّين من وجه ، فلا بدّ أن يفرض هناك جهتان
موجودتان في المجمع : إحداهما : هو الواجب ، وثانيتهما : هو المحرّم ، فيكون
التركيب بين الحيثيّتين تركيبا انضماميّا لا اتّحاديّا ، إلاّ إذا كانت الحيثيّتان
المفروضتان تعليليّتين لا تقييديّتين ؛ فإنّ الواجب والمحرّم على هذا الفرض يكونان
شيئا واحدا وهو ذات المحيّث بهاتين الحيثيّتين. وحينئذ يقع التعارض بين دليلي
العامّين ، ويخرج المورد عن مسألتنا.
وفي هذا التقرير
ما لا يخفى على الفطن.
أمّا
أوّلا : فإنّ العنوان
بالنسبة إلى معنونه تارة يكون منتزعا منه باعتبار ضمّ حيثيّة زائدة
__________________
على الذات ،
مباينة لها ماهية ووجودا ، كالأبيض بالقياس إلى الجسم ، فإنّ صدق الأبيض عليه
باعتبار عرض صفة البياض عليه الخارجة عن مقام ذاته ؛ وأخرى يكون منتزعا
منه باعتبار نفس ذاته بلا ضمّ حيثيّة زائدة على الذات ، كالأبيض بالقياس إلى نفس
البياض ؛ فإنّ نفس البياض ذاته بذاته منشأ لانتزاع الأبيض منه بلا حاجة إلى ضمّ
بياض آخر إليه ؛ لأنّه بنفس ذاته أبيض لا ببياض آخر. ومثل ذلك صفات الكمال لذات
واجب الوجود ؛ فإنّها منتزعة من مقام نفس الذات لا بضمّ حيثيّة أخرى زائدة على
الذات.
وعليه ، فلا يجب
في كلّ عنوان منتزع أن يكون انتزاعه من الذات باعتبار ضمّ حيثيّة زائدة على الذات.
وأمّا
ثانيا : فإنّ العنوان
لا يجب فيه أن يكون كاشفا عن حقيقة متأصّلة على وجه يكون انطباق العنوان أو مبدئه
عليه من باب انطباق الكلّي على فرده ، بل من العناوين ما هو مجعول ومعتبر لدى
العقل لصرف الحكاية والكشف عن المعنون ، من دون أن يكون بإزائه في الخارج حقيقة
متأصّلة ، مثل عنوان «العدم» و «الممتنع» ، بل مثل عنوان «الحرف» و «النسبة» ؛
فإنّه لا يجب في مثله فرض حيثيّة متأصّلة ينتزع منها العنوان. ومثل هذا العنوان
المعتبر قد يكون عامّا يصحّ انطباقه على حقائق متعدّدة ، من دون أن يكون بإزائه
حيثيّة واقعية غير تلك الحقائق المتأصّلة. ولعلّ عنوان الغصب من هذا الباب في
انطباقه على الصلاة ـ التي تتألّف من حقائق متباينة ـ وعلى غيرها من سائر
التصرّفات ، فكلّ تصرّف في مال الغير بدون رضاه غصب مهما كانت حقيقة ذلك التصرّف ،
ومن أيّة مقولة كانت.
ثمرة المسألة
من الواضح ظهور
ثمرة النزاع فيما إذا كان المأمور به عبادة ؛ فإنّه بناء على القول بالامتناع ،
وترجيح جانب النهي ـ كما هو المعروف ـ تقع العبادة فاسدة مع العلم بالحرمة ،
والعمد بالجمع بين المأمور به والمنهيّ عنه ـ كما هو المفروض في المسألة ـ ؛ لأنّه
لا أمر مع ترجيح جانب النهي ، وليس هناك في ذات المأتيّ به ما يصلح للتقرّب به مع
فرض
__________________
النهي الفعليّ ؛
لامتناع التقرّب بالمبعّد وإن كان ذات المأتيّ به مشتملا على المصلحة الذاتيّة ،
وقلنا بكفاية قصد المصلحة الذاتيّة في صحّة العبادة.
نعم ، إذا وقع
الجمع بين المأمور به والمنهيّ عنه عن جهل بالحرمة قصورا لا تقصيرا أو عن نسيان
وكان قد أتى بالفعل على وجه القربة فالمشهور أنّ العبادة تقع صحيحة ؛ ولعلّ الوجه فيه هو القول بكفاية رجحانها الذاتيّ واشتمالها على المصلحة
الذاتيّة في التقرّب بها مع قصد ذلك وإن لم يكن الأمر فعليّا.
وقيل : إنّه لا يبقى مصحّح في هذه الصورة للعبادة ، فتقع فاسدة
؛ نظرا إلى أنّ دليلي الوجوب والحرمة على القول بالامتناع يصبحان متعارضين ، وإن
لم يكونا في حدّ أنفسهما متعارضين ، فإذا قدّم جانب النهي فكما لا يبقى أمر كذلك
لا يحرز وجود المقتضي له وهو المصلحة الذاتيّة في المجمع ؛ إذ تخصيص دليل الأمر
بما عدا المجمع يجوز أن يكون لوجود المانع في المجمع عن شمول الأمر له ، ويجوز أن
يكون لانتفاء المقتضي للأمر فلا يحرز وجود المقتضي.
هذا بناء على
الامتناع وتقديم جانب النهي ، وأمّا بناء على الامتناع وتقديم جانب الأمر فلا شبهة
في وقوع العبادة صحيحة ؛ إذ لا نهي حتّى يمنع من صحّتها ، لا سيّما إذا قلنا
بتعارض الدليلين ؛ بناء على الامتناع ؛ فإنّه لا يحرز معه المفسدة الذاتيّة في
المجمع.
وكذلك الحقّ هو
صحّة العبادة إذا قلنا بالجواز ؛ فإنّه كما جاز توجّه الأمر والنهي إلى عنوانين
مختلفين مع التقائهما في المجمع فقلنا بجواز الاجتماع في مقام التشريع ، فكذلك
نقول : لا مانع من الاجتماع في مقام الامتثال أيضا ـ كما أشرنا إليه في تحرير محلّ
النزاع ـ ، حتّى لو كان المعنون للعنوانين واحدا وجودا ، ولم يوجب
تعدّد العنوان تعدّده ؛
__________________
لما عرفت سابقا من أنّ المعنون لا يقع بنفسه متعلّقا للتكليف ، لا قبل وجوده ولا بعد وجوده ،
وإنّما يكون الداعي إلى إتيان الفعل هو تطبيق العنوان المأمور به عليه الذي ليس
بمنهيّ عنه ، لا أنّ الداعي إلى إتيانه تعلّق الأمر به ذاته ، فيكون المكلّف في
فعل واحد بالجمع بين عنواني الأمر والنهي مطيعا للأمر من جهة انطباق العنوان
المأمور به [عليه] ، وعاصيا من جهة انطباق العنوان المنهيّ عنه [عليه] ، نظير
الاجتماع المورديّ ، كما تقدّم توضيحه في تحرير محلّ النزاع .
وقيل
: إنّ الثمرة في
مسألتنا هو إجراء أحكام المتعارضين على دليلي الأمر والنهي بناء على الامتناع ،
وإجراء أحكام التزاحم بينهما بناء على الجواز .
ولكن إجراء أحكام
التزاحم بينهما بناء على الجواز إنّما يلزم إذا كان القائل بالجواز إنّما يقول
بالجواز في مقام الجعل والإنشاء ، دون مقام الامتثال ، بل يمتنع الاجتماع في مقام
الامتثال ، وحينئذ لا محالة يقع التزاحم بين الأمر والنهي.
أمّا : إذا قلنا
بالجواز في مقام الامتثال أيضا ـ كما أوضحناه ـ فلا موجب للتزاحم بين الحكمين ، مع
وجود المندوحة ، بل يكون مطيعا عاصيا في فعل واحد ، كالاجتماع المورديّ بلا فرق ؛
إذ لا دوران حينئذ بين امتثال الأمر ، وامتثال النهي.
اجتماع الأمر
والنهي مع عدم المندوحة
تقدّم الكلام كلّه
في اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك مندوحة من الجمع بين المأمور به
والمنهيّ عنه ، وقد جمع المكلّف بينهما في فعل واحد بسوء اختياره. ويلحق به ما كان
الجمع بينهما عن غفلة أو جهل. وقد ذهبنا إلى جواز الاجتماع في مقامي الجعل
والامتثال.
__________________
وبقي الكلام في
اجتماعهما مع عدم المندوحة ، وذلك بأن يكون المكلّف مضطرّا إلى هذا الجمع بينهما.
والاضطرار على نحوين :
الأوّل
: أن يكون بدون
سبق اختيار للمكلّف في الجمع ، كمن اضطرّ لإنقاذ غريق إلى التصرّف في أرض مغصوبة ،
فيكون تصرّفه في الأرض واجبا من جهة إنقاذ الغريق ، وحراما من جهة التصرّف في
المغصوب.
فإنّه في هذا
الفرض لا بدّ أن يقع التزاحم بين الواجب والحرام في مقام الامتثال ؛ إذ لا مندوحة
للمكلّف حسب الفرض ، فلا بدّ في مقام إطاعة الأمر بإنقاذ الغريق من الجمع ؛
لانحصار امتثال الواجب في هذا الفرد المحرّم ، فيدور الأمر بين أن يعصي الأمر أو
يعصي النهي. وفي مثله يرجع إلى أقوى الملاكين ، فإن كان ملاك الأمر أقوى ـ كما في
المثال المذكور ـ قدّم جانب الأمر ، ويسقط النهي عن الفعليّة ، وإن كان ملاك النهي
أقوى قدّم جانب النهي ، كمن انحصر عنده إنقاذ حيوان محترم من الهلكة بهلاك إنسان.
تنبيه :
ممّا يلحق بهذا
الباب ويتفرّع عليه ما لو اضطرّ إلى ارتكاب فعل محرّم لا بسوء اختياره ، ثمّ اضطرّ
إلى الإتيان بالعبادة على وجه يكون ذلك الفعل المحرّم مصداقا لتلك العبادة ، بمعنى
أنّه اضطرّ إلى الإتيان بالعبادة مجتمعة مع فعل الحرام الذي قد اضطرّ إليه. ومثاله
المحبوس في مكان مغصوب ، فيضيّق عليه وقت الصلاة ، ولا يسعه الإتيان بها خارج
المكان المغصوب. فهل في هذا الفرض يجب عليه الإتيان بالعبادة وتقع صحيحة ، أو لا؟
نقول : لا ينبغي
الشكّ في أنّ عبادته على هذا التقدير تقع صحيحة ؛ لأنّه مع الاضطرار إلى الفعل
الحرام لا تبقى فعليّة للنهي ؛ لاشتراط القدرة في التكليف ، فالأمر لا مزاحم
لفعليّته ، فيجب عليه أداء الصلاة ، ولا بدّ أن تقع حينئذ صحيحة.
نعم ، يستثنى من
ذلك ما لو كان دليل الأمر ودليل النهي متعارضين بأنفسهما من أوّل الأمر ، وقد
رجّحنا جانب النهي بأحد مرجّحات باب التعارض ؛ فإنّه في هذه الصورة لا وجه لوقوع
العبادة صحيحة ؛ لأنّ العبادة لا تقع صحيحة إلاّ إذا قصد بها امتثال الأمر الفعليّ
بها
ـ إن كان ـ أو قصد
بها الرجحان الذاتيّ قربة إلى الله (تعالى). والمفروض أنّه هنا لا أمر فعليّ ؛
لعدم شمول دليله بما هو حجّة لمورد الاجتماع ؛ لأنّ المفروض تقديم جانب النهي.
وقيل : «إنّ النهي إذا زالت فعليّته من جهة الاضطرار ، لم يبق
مانع من التمسّك بعموم الأمر». وهذه غفلة ظاهرة ،
فإنّ دليل الأمر بما هو حجّة لا يكون شاملا لمورد الاجتماع ، لمكان التعارض بين
الدليلين وتقديم دليل النهي ، فإذا اضطرّ المكلّف إلى فعل المنهيّ عنه لا يلزم منه
أن يعود دليل الأمر حجّة في مورد الاجتماع مرّة ثانية. وإنّما يتصوّر أن يعود
الأمر فعليّا إذا كان تقديم النهي من باب التزاحم ، فإذا زال التزاحم عاد الأمر
فعليّا.
وأمّا الرجحان
الذاتيّ : فإنّه بعد فرض التعارض بين الدليلين وتقديم جانب النهي لا يكون الرجحان
محرزا في مورد الاجتماع ؛ لأنّ عدم شمول دليل الأمر بما هو حجّة لمورد الاجتماع
يحتمل فيه وجهان : وجود المانع مع بقاء الملاك ، وانتفاء المقتضي وهو الملاك ، فلا
يحرز وجود الملاك حتّى يصحّ قصده متقرّبا به إلى الله (تعالى).
الثاني : أن يكون الاضطرار بسوء الاختيار ، كمن دخل منزلا مغصوبا
متعمّدا ، فبادر إلى الخروج تخلّصا من استمرار الغصب ، فإنّ هذا التصرّف في المنزل
في الخروج لا شكّ في أنّه تصرّف غصبيّ أيضا ، وهو مضطرّ إلى ارتكابه للتخلّص من
استمرار فعل الحرام ، وكان اضطراره إليه بمحض اختياره ، إذ دخل المنزل غاصبا
باختياره.
وتعرف هذه المسألة
في لسان المتأخّرين بمسألة «التوسّط في المغصوب» ، والكلام يقع فيها من ناحيتين :
١. في حرمة هذا
التصرّف الخروجيّ أو وجوبه.
٢. في صحّة الصلاة
المأتيّ بها حال الخروج.
حرمة الخروج من
المغصوب أو وجوبه
أمّا
الناحية الأولى : فقد تعدّدت الأقوال فيها ، فقيل بحرمة التصرّف الخروجيّ فقط .
__________________
وقيل بوجوبه فقط ،
ولكن يعاقب فاعله . وقيل بوجوبه فقط ، ولا يعاقب فاعله . وقيل بحرمته ووجوبه معا . وقيل : لا هذا ولا ذاك ، ومع ذلك يعاقب عليه .
فينبغي أن نبحث عن
وجه القول بالحرمة ، وعن وجه القول بالوجوب ؛ ليتّضح الحقّ في المسألة ، وهو القول
الأوّل.
أمّا وجه الحرمة :
فمبنيّ على أنّ التصرّف بالغصب ، بأيّ نحو من أنحاء التصرّف ـ دخولا ، وبقاء ،
وخروجا ـ محرّم من أوّل الأمر قبل الابتلاء بالدخول ، فهو قبل أن يدخل منهيّ عن
كلّ تصرّف في المغصوب ، حتّى هذا التصرّف الخروجيّ ؛ لأنّه كان متمكّنا من تركه
بترك الدخول.
ومن يقول بعدم
حرمته فإنّه يقول به ؛ لأنّه يجد أنّ هذا المقدار من التصرّف مضطرّ إليه ، سواء
خرج الغاصب أو بقي ، فيمتنع عليه تركه ، ومع فرض امتناع تركه كيف يبقى على صفة
الحرمة؟!
ولكنّا
نقول له : إنّ هذا
الامتناع هو الذي أوقع نفسه فيه بسوء اختياره ، وكان متمكّنا من تركه بترك الدخول ،
والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فهو مخاطب من أوّل الأمر بترك التصرّف
حتّى يخرج ، فالخروج في نفسه ـ بما هو تصرّف ـ داخل من أوّل الأمر في أفراد
العنوان المنهيّ عنه ، أي إنّ العنوان المنهيّ عنه ـ وهو التصرّف بمال الغير بدون
رضاه ـ يسع في عمومه كلّ تصرّف متمكّن من تركه حتّى الخروج ، وامتناع ترك هذا
التصرّف بسوء اختياره لا يخرجه عن عموم العنوان. ونحن لا نقول ـ كما سبق ـ : إنّ المعنون بنفسه هو متعلّق الخطاب ، حتّى يقال لنا : إنّه يمتنع تعلّق
الخطاب بالممتنع تركه ، وإن كان الامتناع بسوء الاختيار.
__________________
وأمّا وجه الوجوب
: فقد قيل : «إنّ الخروج واجب نفسيّ ، باعتبار أنّ الخروج معنون بعنوان التخلّص عن
الحرام ، والتخلّص عن الحرام في نفسه عنوان حسن عقلا ، وواجب شرعا». وقد نسب هذا
الوجه إلى الشيخ الأعظم الأنصاريّ قدسسره على ما يظهر من تقريرات درسه .
وقيل : «إنّ
الخروج واجب غيريّ ـ كما يظهر من بعض التعبيرات في تقريرات الشيخ أيضا ـ باعتبار أنّه مقدّمة للتخلّص من الحرام ، وهو الغصب الزائد الذي كان يتحقّق
لو لم يخرج».
والحقّ
أنّه ليس بواجب
نفسيّ ؛ ولا غيريّ.
أمّا : أنّه ليس
بواجب نفسيّ ؛ فلأنّه :
أوّلا
: أنّ التخلّص عن
الشيء بأيّ معنى فرض عنوان مقابل لعنوان الابتلاء به ، بديل له ، لا يجتمعان ،
وهما من قبيل الملكة وعدمها. وهذا واضح.
وحينئذ نقول له :
ما مرادك من التخلّص الذي حكمت عليه بأنّه عنوان حسن؟ إن كان المراد به التخلّص من
أصل الغصب فهو بالخروج ـ أي الحركات الخروجيّة ـ مبتلى بالغصب ، لا أنّه متخلّص
منه ؛ لأنّه تصرّف بالمغصوب. وإن كان المراد به التخلّص من الغصب الزائد الذي يقع
لو لم يخرج فهو لا ينطبق على الحركات الخروجيّة ؛ وذلك لأنّ التخلّص لمّا كان
مقابلا للابتلاء بديلا له ـ كما قدّمنا ـ فالزمان الذي يصلح أن يكون زمانا
للابتلاء لا بدّ أن يكون هو الذي يصدق عليه عنوان التخلّص ، مع أنّ زمان الحركات
الخروجيّة سابق على زمان الغصب الزائد عليها لو لم يخرج ، فهو في حال الحركات
الخروجيّة لا مبتلى بالغصب الزائد ، ولا متخلّص منه ، بل الغاصب مبتلى بالغصب من
حين
__________________
دخوله إلى حين
خروجه ، وبعد خروجه يصدق عليه أنّه متخلّص من الغصب.
وثانيا
: أنّ التخلّص لو
كان عنوانا يصدق على الخروج ، فلا ينبغي أن يراد من الخروج نفس الحركات الخروجيّة
، بل على تقديره ينبغي أن يراد منه ما تكون الحركات الخروجيّة مقدّمة له أو بمنزلة
المقدّمة ؛ فلا ينطبق ـ إذن ـ عنوان التخلّص على التصرّف بالمغصوب المحرّم ، كما
يريد أن يحقّقه هذا القائل.
والسرّ واضح ؛
فإنّ الخروج يقابل الدخول ، ولمّا كان الدخول عنوانا للكون داخل الدار المسبوق
بالعدم فلا بدّ أن يكون الخروج بمقتضى المقابلة عنوانا للكون خارج الدار المسبوق
بالعدم ، أمّا نفس التصرّف بالمغصوب بالحركات الخروجيّة التي منها يكون الخروج فهو
مقدّمة أو شبه المقدّمة للخروج لا نفسه.
وثالثا
: لو سلّمنا أنّ
التخلّص عنوان ينطبق على الحركات الخروجيّة فلا نسلّم بوجوبه النفسيّ ؛ لأنّ
التخلّص عن الحرام ليس هو إلاّ عبارة أخرى عن ترك الحرام ، وترك الحرام ليس واجبا
نفسيّا على وجه يكون ذا مصلحة نفسيّة في مقابل المفسدة النفسيّة في الفعل. نعم ،
هو مطلوب بتبع النهي عن الفعل ، وقد تقدّم ذلك في مبحث النواهي في الجزء الأوّل وفي مسألة الضدّ في الجزء الثاني ، فكما أنّ الأمر
بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ـ أي نقيضه وهو الترك ـ كذلك أنّ النهي عن
الشيء لا يقتضي الأمر بضدّه العام ـ أي نقيضه وهو الترك ـ. ولذا قلنا في مبحث
النواهي : «إنّ تفسير النهي بطلب الترك ـ كما وقع للقوم ـ ليس في محلّه ، وإنّما هو تفسير للشيء بلازم المعنى العقليّ ، فإنّ مقتضى
الزجر عن الفعل طلب تركه عقلا ، لا على أن يكون الترك ذا مصلحة نفسيّة في مقابل
مفسدة الفعل ؛ وكذلك في الأمر ، فإنّ مقتضى الدعوة إلى الفعل الزجر عن تركه عقلا
لا على أن يكون الترك ذا مفسدة نفسيّة في مقابل مصلحة الفعل ، بل ليس في النهي
إلاّ مفسدة الفعل ،
__________________
وليس في الأمر
إلاّ مصلحة الفعل.
وأمّا : أنّ
الخروج ليس بواجب غيريّ ؛ فلأنّه :
أوّلا
: قد تقدّم أنّ
مقدّمة الواجب ليست بواجبة على تقدير القول بأنّ التخلّص واجب نفسيّ.
وثانيا : أنّ الخروج ـ الذي هو عبارة عن الحركات الخروجيّة في
مقصود هذا القائل ـ ليس مقدّمة لنفس التخلّص عن الحرام ، بل على التحقيق إنّما هو
مقدّمة للكون في خارج الدار ، والكون في خارج الدار ملازم لعنوان التخلّص عن
الحرام لا نفسه ، ولا يلزم من فرض وجوب التخلّص فرض وجوب ملازمه ، فإنّ الملازمين
لا يجب أن يشتركا في الحكم ـ كما تقدّم في مسألة الضدّ ـ. وإذا لم يجب الكون خارج الدار كيف تجب مقدّمته؟!
وثالثا
: لو سلّمنا أنّ
التخلّص واجب نفسيّ ، وأنّه نفس الكون خارج الدار فتكون الحركات الخروجيّة مقدّمة
له ، وأنّ مقدّمة الواجب واجبة ـ لو سلّمنا كلّ ذلك ـ ، فإنّ مقدّمة الواجب إنّما
تكون واجبة حيث لا مانع من ذلك ، كما لو كانت محرّمة في نفسها ، كركوب المركب
الحرام في طريق الحجّ ؛ فإنّه لا يقع على صفة الوجوب وإن توصّل به إلى الواجب. وهنا
الحركات الخروجيّة تقع على صفة الحرمة ـ كما قدّمنا ـ باعتبار أنّها من أفراد
الحرام ، وهو التصرّف بالمغصوب ، فلا تقع على صفة الوجوب من باب المقدّمة.
فإن
قلت : إنّ المقدّمة
المحرّمة إنّما لا تقع على صفة الوجوب حيث لا تكون منحصرة ، وأمّا مع انحصار
التوصّل بها إلى الواجب فإنّه يقع التزاحم بين حرمتها ووجوب ذيها ؛ لأنّ الأمر
يدور حينئذ بين امتثال الوجوب وبين امتثال الحرمة ، فلو كان الوجوب أهمّ قدّم على
حرمة المقدّمة فتسقط حرمتها. وهنا الأمر كذلك ؛ فإنّ المقدّمة منحصرة ، والواجب ـ وهو
ترك الغصب الزائد ـ أهمّ.
قلت
: هذا صحيح لو كان
الدوران لم يقع بسوء اختيار المكلّف ؛ فإنّه حينئذ يكون
__________________
الدوران في مقام
التشريع. وأمّا لو كان الدوران واقعا بسوء اختيار المكلّف ـ كما هو مفروض في
المقام ـ ، فإنّ المولى في مقام التشريع قد استوفى غرضه من أوّل الأمر بالنهي عن
الغصب مطلقا ، ولا دوران فيه حتّى يقال : «يقبح من المولى تفويت غرضه الأهمّ». وإنّما
الدوران وقع في مقام استيفاء الغرض استيفاء خارجيّا بسبب سوء اختيار المكلّف بعد
فرض أنّ المولى من أوّل الأمر ـ قبل أن يدخل المكلّف في المحلّ المغصوب ـ قد
استوفى كلّ غرضه في مقام التشريع ؛ إذ نهى عن كلّ تصرّف بالمغصوب ، فليس هناك
تزاحم في مقام التشريع ؛ فالمكلّف يجب عليه أن يترك الغصب الزائد بالخروج عن
المغصوب ، ونفس الحركات الخروجيّة تكون أيضا محرّمة يستحقّ عليها العقاب ؛ لأنّها
من أفراد ما هو منهيّ عنه ، وقد وقع في هذا المحذور والدوران بسوء اختياره.
صحّة الصلاة حال
الخروج
وأمّا
الناحية الثانية : وهي صحّة الصلاة حال الخروج ؛ فإنّها تبتني على اختيار أحد الأقوال في
الناحية الأولى.
فإن قلنا بأنّ
الخروج يقع على صفة الوجوب فقط ؛ فإنّه لا مانع من الإتيان بالصلاة حالته ، سواء
ضاق وقتها أم لم يضق ، ولكن بشرط ألاّ يستلزم أداء الصلاة تصرّفا زائدا على
الحركات الخروجيّة ، فإنّ هذا التصرّف الزائد حينئذ يقع محرّما منهيّا عنه.
فإذا استلزم أداء
الصلاة تصرّفا زائدا فإن كان الوقت ضيقا فلا بدّ أن يؤدّي الصلاة حال الخروج ، ولا
بدّ أن يقتصر منها على أقلّ الواجب ، فيصلّي إيماء بدل الركوع والسجود. وإن كان
الوقت متّسعا لأدائها بعد الخروج وجب أن ينتظر بها إلى ما بعد الخروج.
وإن قلنا بوقوع
الخروج على صفة الحرمة فإنّه مع سعة الوقت لا بدّ أن يؤدّيها بعد الخروج ، سواء
استلزمت تصرّفا زائدا أم لم تستلزم ، ومع ضيق الوقت يقع التزاحم بين الحرام
الغصبيّ والصلاة الواجبة ، والصلاة لا تترك بحال ، فيجب أداؤها مع ترك ما يستلزم
منها تصرّفا زائدا ، فيصلّي إيماء للركوع والسجود ويقرأ ماشيا ، فيترك الاطمئنان
الواجب وهكذا.
وإن قلنا بعدم
وقوع الخروج على صفة الحرمة ولا صفة الوجوب فلا مانع من أداء الصلاة حال الخروج
إذا لم تستلزم تصرّفا زائدا حتّى مع سعة الوقت على النحو الذي تقدّم.
تمرينات (٤٠)
التمرين الأوّل
١. ما هو محلّ
النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي؟
٢. ما هي الأقوال
في المقام؟
٣. ما المراد من
كلمة «الاجتماع» في محلّ النزاع؟
٤. ما المراد من
كلمة «الواحد» في المقام؟ وهل الواحد الشخصي والواحد بالجنس يدخلان في محلّ النزاع؟
٥. ما المقصود من
كلمة «الجواز» في المقام؟
٦. كيف تدخل
المسألة في الملازمات العقليّة غير المستقلّة؟
٧. ما هي مسألة
تعدّد المعنون بتعدّد العنوان وعدمه؟ وهل تعدّده يوجب تعدّد المعنون؟
٨. بيّن ما أفاد
المحقّق الخراساني رحمهالله في محلّ النزاع وما فيه.
٩. ما المراد من
قيد «المندوحة» في المقام؟ وهل هو معتبر أم لا؟
١٠. ما الفرق بين
باب التعارض والتزاحم ، وبينهما وبين مسألة الاجتماع؟ بيّنه تفصيلا.
١١. ما هو مختار
المصنّف رحمهالله في مسألة الاجتماع؟ وما دليله عليه؟
١٢. ما هي ثمرة
النزاع في مسألة الاجتماع؟
١٣. ما هي الأقوال
في مسألة «الخروج من المغصوب»؟ وما وجه القول بالوجوب ووجه القول بالحرمة؟ وما هو
الحق؟
١٤. كيف دفع القول
بأنّ الخروج من المغصوب واجب غيريّ.
١٥. هل الصلاة حال
الخروج صحيحة أم لا؟
التمرين الثاني
١. هل مسألة «الاجتماع»
من المسائل الأصوليّة التي تدخل في باب الملازمات العقليّة غير مستقلّة أم لا؟ بيّن
أقوال العلماء وما فيها.
المسألة
الخامسة : دلالة النهي على الفساد
تحرير محلّ النزاع
هذه المسألة من
أمّهات المسائل الأصوليّة التي بحثت من القديم. ولأجل تحرير محلّ النزاع فيها
وتوضيحه ، علينا أن نشرح الألفاظ الواردة في عنوانها ، وهي كلمة الدلالة ، النهي ،
الفساد.
ولا بدّ من ذكر
المراد من الشيء المنهيّ عنه أيضا ؛ لأنّه مدلول عليه بكلمة «النهي» ؛ إذ النهي لا
بدّ له من متعلّق. إذن ينبغي البحث عن أربعة أمور :
١. الدلالة ، فإنّ ظاهر اللفظة يعطي أنّ المراد منها الدلالة اللفظيّة
، ولعلّه لأجل هذا الظهور البدويّ أدرج بعضهم هذه المسألة في مباحث الألفاظ ، ولكنّ المعروف أنّ مرادهم منها ما يؤدّي إليه لفظ «الاقتضاء» ، حسبما يفهم
من بحثهم المسألة وجملة من الأقوال فيها ، لا سيّما المتأخّرون من الأصوليّين.
وعليه ، فيكون
المراد من الدلالة خصوص الدلالة العقليّة ؛ وحينئذ يكون
المقصود من النزاع «البحث عن اقتضاء طبيعة النهي عن الشيء فساد المنهيّ عنه عقلا»
، ومن هنا يعلم أنّه لا يشترط في النهي أن يكون مستفادا من دليل لفظيّ. وفي
الحقيقة يكون النزاع هنا عن ثبوت الملازمة العقليّة بين النهي عن الشيء وفساده ،
أو عن الممانعة والمنافرة عقلا بين النهي عن الشيء وصحّته ، ولا فرق بين
التعبيرين.
ولأجل هذا أدرجنا
نحن هذه المسألة في قسم الملازمات العقليّة.
نعم ، قد يدّعي
بعضهم أنّ هذه الملازمة ـ على تقدير ثبوتها ـ من نوع الملازمات
البيّنة بالمعنى الأخصّ. وحينئذ يكون اللفظ الدالّ بالمطابقة على النهي دالاّ
بالدلالة الالتزاميّة
__________________
على فساد المنهيّ
عنه ، فيصحّ أن يراد من الدلالة ما هو أعمّ من الدلالة اللفظيّة والعقليّة.
ونحن نقول : هذا
صحيح على هذا القول ، ولا بأس بتعميم الدلالة إلى اللفظيّة والعقليّة في العنوان
حينئذ ، ولكنّ النزاع مع هذا القائل أيضا يقع في الملازمة العقليّة قبل فرض
الدلالة اللفظيّة الالتزاميّة ، فالبحث معه أيضا يرجع إلى البحث عن الاقتضاء
العقليّ. فالأولى أن يراد من الدلالة في العنوان الاقتضاء العقليّ ؛ فإنّه يجمع
جميع الأقوال والاحتمالات ، لا سيّما أنّ البحث يشمل كلّ نهي وإن لم يكن مستفادا
من دليل لفظيّ.
والعبارة تكون
أكثر استقامة لو عبّر عن عنوان المسألة بما عبّر به صاحب الكفاية قدسسره بقوله : «اقتضاء
النهي الفساد» ، فأبدل كلمة «الدلالة» بكلمة «الاقتضاء» ، ولكن نحن
عبّرنا بما جرت عليه عادة القدماء في عنوان المسألة متابعة لهم.
٢. النهي ، إنّ كلمة «النهي» ظاهرة ـ كما تقدّم في الجزء الأوّل ـ في خصوص الحرمة ، وقلنا هناك : «إنّ الظهور ليس من جهة الوضع بل بمقتضى حكم
العقل» ، أمّا نفس الكلمة من جهة الوضع فهي تشمل النهي التحريميّ والنهي التنزيهيّ
ـ أي الكراهة ـ ، ولعلّ كلمة «النهي» في مثل عنوان المسألة ليس فيها ما يقتضي عقلا
ظهورها في الحرمة ، فلا بأس من تعميم النهي في العنوان لكلّ من القسمين بعد أن كان
النزاع قد وقع في كلّ منهما .
وكذلك كلمة «النهي»
ـ بإطلاقها ـ ظاهرة في خصوص الحرمة النفسيّة دون الغيريّة ، ولكنّ النزاع أيضا وقع
في كلّ منهما ؛ فإذن ينبغي تعميم كلمة «النهي» في العنوان للتحريميّ والتنزيهيّ ،
وللنفسيّ والغيريّ ، كما صنع صاحب الكفاية قدسسره .
وشيخنا النائينيّ قدسسره جزم باختصاص
النهي في عنوان المسألة بخصوص التحريميّ النفسيّ ؛ لأنّه يجزم بأنّ التنزيهيّ لا يقتضي الفساد ، وكذا الغيريّ.
__________________
والذي ينبغي أن
يقال له : أنّ الاختيار شيء وعموم النزاع في المسألة شيء آخر ، فإنّ اختياركم بأنّ
النهي التنزيهيّ والغيريّ لا يقتضيان الفساد ليس معناه اتّفاق الكلّ على ذلك ،
حتّى يكون النزاع في المسألة مختصّا بما عداهما ، والمفروض أنّ هناك من يقول بأنّ
النهي التنزيهيّ والغيريّ يقتضيان الفساد. فتعميم كلمة «النهي» في العنوان هو
الأولى.
٣. الفساد : إنّ الفساد كلمة ظاهرة المعنى ، والمراد منها ما يقابل
الصحّة تقابل العدم والملكة على الأصحّ ، لا تقابل النقيضين ، ولا تقابل الضدّين. وعليه ، فما له قابليّة أن يكون
صحيحا يصحّ أن يتّصف بالفساد ، وما ليس له ذلك لا يصحّ وصفه بالفساد.
وصحّة كلّ شيء
بحسبه ، فمعنى صحّة العبادة مطابقتها لما هو المأمور به من جهة تمام أجزائها ،
وجميع ما هو معتبر فيها ، ومعنى فسادها عدم مطابقتها له من جهة نقصان فيها. ولازم
عدم مطابقتها لما هو مأمور به عدم سقوط الأمر ، وعدم سقوط الأداء والقضاء.
ومعنى صحّة
المعاملة مطابقتها لما هو المعتبر فيها من أجزاء وشرائط ونحوها ، ومعنى فسادها عدم
مطابقتها لما هو معتبر فيها. ولازم عدم مطابقتها عدم ترتّب أثرها المرغوب فيه
عليها من نحو : النقل ، والانتقال في عقد البيع والإجارة ، ومن نحو : العلقة
الزوجيّة في عقد النكاح ... وهكذا.
__________________
__________________
٤. متعلّق النهي ، لا شكّ في أنّ متعلّق النهي ـ هنا ـ يجب أن يكون ممّا
يصحّ أن يتّصف بالصّحّة والفساد ليصحّ النزاع فيه ، وإلاّ فلا معنى لأن يقال ـ مثلا
ـ : إنّ النهي عن شرب الخمر يقتضي الفساد أو لا يقتضي.
وعليه ، فليس كلّ
ما هو متعلّق للنهي يقع موضعا للنزاع في هذه المسألة ، بل خصوص ما يقبل وصفي
الصحّة والفساد. وهذا واضح.
ثمّ إنّ متعلّق
النهي يعمّ العبادة والمعاملة اللتين يصحّ وصفهما بالفساد ، فلا اختصاص للمسألة
بالعبادة ، كما ربّما ينسب إلى بعضهم .
وإذا اتّضح
المقصود من الكلمات التي وردت في العنوان يتّضح المقصود من النزاع ومحلّه هنا ؛
فإنّه يرجع إلى النزاع في الملازمة العقليّة بين النهي عن الشيء وفساده ، فمن يقول
بالاقتضاء فإنّما يقول بأنّ النهي يستلزم عقلا فساد متعلّقه ، وقد يقول مع ذلك
بأنّ اللفظ الدالّ على النهي دالّ على فساد المنهيّ عنه بالدلالة الالتزاميّة. ومن
يقول بعدمه إنّما يقول بأنّ النهي عن الشيء لا يستلزم عقلا فساده.
أو فقل : إنّ
النزاع هنا يرجع إلى النزاع في وجود الممانعة والمنافرة عقلا بين كون الشيء صحيحا
وبين كونه منهيّا عنه ، أي إنّه هل هناك ممانعة من الجمع بين صحّة الشيء والنهي
عنه أو لا؟
ولأجل هذا تدخل
هذه المسألة في بحث الملازمات العقليّة ، كما صنعنا.
ولمّا كان البحث
يختلف اختلافا كثيرا في كلّ واحدة من العبادة والمعاملة عقدوا البحث في موضعين :
العبادة ، والمعاملة ، فينبغي البحث عن كلّ منهما مستقلاّ في مبحثين :
المبحث الأوّل :
النهي عن العبادة
المقصود من
العبادة التي هي محلّ النزاع في المقام العبادة بالمعنى الأخصّ ـ أي خصوص ما يشترط
في صحّتها قصد القربة ـ ، أو فقل : هي خصوص الوظيفة التي شرعها الله (تعالى) لأجل
التقرّب بها إليه.
__________________
ولا يشمل النزاع
العبادة بالمعنى الأعمّ ، مثل غسل الثوب من النجاسة ؛ لأنّه ـ وإن صحّ أن يقع
عبادة متقرّبا به إلى الله (تعالى) ـ لا يتوقّف حصول أثره المرغوب فيه ـ وهو زوال
النجاسة ـ على وقوعه قربيّا ، فلو فرض وقوعه منهيّا عنه كالغسل بالماء المغصوب
فإنّه يقع به الامتثال ، ويسقط الأمر به ، فلا يتصوّر وقوعه فاسدا من أجل تعلّق
النهي به.
نعم ، إذا وقع
محرّما منهيّا عنه فإنّه لا يقع عبادة متقرّبا به إلى الله (تعالى) ؛ فإذا قصد من
الفساد هذا المعنى فلا بأس في أن يقال : «إنّ النهي عن العبادة بالمعنى الأعمّ
يقتضي الفساد» ؛ فإنّ من يدّعي الممانعة بين الصحّة والنهي يمكن أن يدّعي الممانعة
بين وقوع غسل الثوب صحيحا ـ أي عبادة متقرّبا به إلى الله (تعالى) ـ وبين النهي
عنه.
وليس معنى العبادة
هنا أنّها ما كانت متعلّقة للأمر فعلا ؛ لأنّه مع فرض تعلّق النهي بها فعلا لا
يعقل فرض تعلّق الأمر بها أيضا ، وليس ذلك كـ «باب اجتماع الأمر والنهي» الذي فرض
فيه تعلّق النهي بعنوان غير العنوان الذي تعلّق به الأمر ؛ فإنّه إن جاز هناك
اجتماع الأمر والنهي فلا يجوز هنا ؛ لعدم تعدّد العنوان ، وإنّما العنوان الذي
تعلّق به الأمر هو نفسه صار متعلّقا للنهي.
وعلى هذا ، فلا
بدّ أن يراد بالعبادة المنهيّ عنها ما كانت طبيعتها متعلّقة للأمر ، وإن لم تكن
شاملة ـ بما هي مأمور بها ـ لما هو متعلّق النهي ، أو ما كانت من شأنها أن يتقرّب
بها لو تعلّق بها أمر.
وبعبارة أخرى
جامعة أن يقال : إنّ المقصود بالعبادة هنا هي الوظيفة التي لو شرعها الشارع لشرعها
لأجل التعبّد بها وإن لم يتعلّق بها أمر فعليّ لخصوصيّة المورد.
ثمّ إنّ النهي عن
العبادة يتصوّر على أنحاء :
أحدها
: أن يتعلّق النهي
بأصل العبادة ، كالنهي عن صوم العيدين ، وصوم الوصال ، وصلاة الحائض والنفساء.
وثانيها
: أن يتعلّق بجزئها
، كالنهي عن قراءة سورة من سور العزائم في الصلاة.
وثالثها
: أن يتعلّق بشرطها
أو بشرط جزئها ، كالنهي عن الصلاة باللباس المغصوب ،
أو المتنجّس.
ورابعها
: أن يتعلّق بوصف
ملازم لها أو لجزئها ، كالنهي عن الجهر بالقراءة في موضع الإخفات ، والنهي عن
الإخفات في موضع الجهر .
والحقّ
أنّ النهي عن
العبادة يقتضي الفساد ، سواء كان نهيا عن أصلها ، أو جزئها ، أو شرطها ، أو وصفها
؛ للتمانع الظاهر بين العبادة التي يراد بها التقرّب إلى الله (تعالى) ومرضاته ،
وبين النهي عنها المبعّد عصيانه عن الله (تعالى) ، والمثير لسخطه ، فيستحيل
التقرّب بالمبعّد ، والرضا بما يسخطه ، ويستحيل أيضا التقرّب بما يشتمل على
المبعّد المبغوض المسخط له ، أو بما هو مقيّد بالمبعّد ، أو بما هو موصوف بالمبعّد
.
ومن الواضح أنّ
المقصود من القرب والبعد من المولى القرب والبعد المعنويّان ، وهما يشبهان القرب
والبعد المكانيّين ، فكما يستحيل التقرّب المكاني بما هو مبعّد مكانا كذلك يستحيل
التقرّب المعنويّ بما هو مبعّد معنى.
ونحن إذ نقول ذلك
في النهي عن الجزء والشرط والوصف ، نقول به ، لا لأجل أنّ النهي عن هذه الامور
يسري إلى أصل العبادة ، وأنّ ذلك واسطة في الثبوت ، أو واسطة في العروض ـ كما قيل ـ ، ولا لأجل أنّ
جزء العبادة وشرطها عبادة ، فإذا فسد الجزء والشرط استلزم فسادهما فساد المركّب
والمشروط ، بل نحن لا نستند في قولنا في الجزء والشرط والوصف إلى
ذلك ؛ لأنّه لا حاجة إلى مثل هذه التعليلات ، ولا تصل النوبة إليها بعد ما قلناه
من أنّه يستحيل التقرّب بما يشتمل على المبعّد ، أو بما هو مقيّد أو موصوف
بالمبعّد ، كما يستحيل التقرّب بنفس المبعّد بلا فرق.
__________________
على أنّ في هذه التعليلات من المناقشة ما لا يسعه هذا المختصر
، ولا حاجة إلى مناقشتها بعد ما ذكرناه. هذا كلّه في النهي النفسيّ.
أمّا النهي
الغيريّ المقدّميّ : فحكمه حكم النفسيّ بلا فرق ، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم ؛ فإنّه أشرنا هناك إلى الوجه الذي ذكره بعض أعاظم مشايخنا قدسسرهم للفرق بينهما بأنّ النهي الغيريّ لا يكشف عن وجود مفسدة
وحزازة في المنهيّ عنه ، فيبقى المنهيّ عنه على ما كان عليه من المصلحة الذاتيّة
بلا مزاحم لها من مفسدة للنهي ، فيمكن التقرّب به بقصد تلك المصلحة الذاتيّة
المفروضة ، بخلاف النهي النفسيّ الكاشف عن المفسدة والحزازة في المنهيّ عنه ، المانعة
من التقرّب به.
وقد ناقشناه هناك
بأنّ التقرّب والابتعاد ليسا يدوران مدار المصلحة والمفسدة الذاتيّتين حتّى يتمّ
هذا الكلام ، بل ـ كما ذكرناه هناك ـ أنّ الفعل المبعّد عن المولى في حال كونه
مبعّدا لا يعقل أن يكون متقرّبا به إليه ، كالتقرّب والابتعاد المكانيّين ، والنهي
وإن كان غيريّا يوجب البعد ومبغوضيّة المنهيّ عنه وإن لم يشتمل على مفسدة نفسيّة.
ويبقى الكلام في
النهي التنزيهيّ ـ أي الكراهة ـ ، فالحقّ أيضا أنّه يقتضي الفساد ، كالنهي
التحريميّ ، لنفس التعليل السابق من استحالة التقرّب بما هو مبعّد بلا فرق ، غاية
الأمر أنّ مرتبة البعد في التحريميّ أشدّ وأكثر منها في التنزيهيّ ، كاختلاف مرتبة
القرب في موافقة الأمر الوجوبيّ والاستحبابيّ. وهذا الفرق لا يوجب تفاوتا في
استحالة التقرّب بالمبعّد. ولأجل هذا حمل الأصحاب الكراهة في العبادة على أقلّيّة
الثواب مع ثبوت صحّتها شرعا لو أتى بها المكلّف ، لا الكراهة الحكميّة الشرعيّة ،
ومعنى حمل الكراهة على أقلّيّة الثواب أنّ النهي الوارد فيها يكون مسوقا لبيان هذا
المعنى ، وبداعي الإرشاد إلى أقلّيّة الثواب ، وليس مسوقا لبيان الحكم التكليفيّ
المقابل للأحكام الأربعة الباقية بداعي الزجر عن الفعل والردع عنه.
وعليه ، فلو أحرز
بدليل خاصّ أنّ النهي بداعي الزجر التنزيهيّ ، ولم يحرز من
__________________
دليل خاصّ صحّة
العبادة المكروهة فلا محالة لا نقول بصحّة العبادة المنهيّ عنها بالنهي التنزيهيّ.
هذا فيما إذا كان
النهي التنزيهيّ عن نفس عنوان العبادة ، أو جزئها ، أو شرطها ، أو وصفها ؛ أمّا :
لو كان النهي عن عنوان آخر غير عنوان المأمور به ، كما لو كان بين المنهيّ عنه
والمأمور به عموم وخصوص من وجه ؛ فإنّ هذا المورد يدخل في باب الاجتماع ، وقد قلنا
هناك بجواز الاجتماع في الأمر والنهي التحريميّ ، فضلا عن الأمر والنهي التنزيهيّ
، وليس هو من باب النهي عن العبادة إلاّ إذا ذهبنا إلى امتناع الاجتماع فيدخل في
مسألتنا.
تنبيه
إنّ النهي الذي هو
موضع النزاع ـ والذي قلنا باقتضائه الفساد في العبادة ـ هو النهي بالمعنى الظاهر
من مادّته وصيغته ـ أعني ما يتضمّن حكما تحريميّا أو تنزيهيّا ـ بأن يكون إنشاؤه
بداعي الردع والزجر.
أمّا : النهي بداع
آخر ، كداعي بيان أقلّيّة الثواب ، أو داعي الإرشاد إلى مانعيّة الشيء ، مثل النهي
عن لبس جلد الميتة في الصلاة ، أو نحو ذلك من الدواعي فإنّه ليس موضع النزاع في
مسألتنا ، ولا يقتضي الفساد بما هو نهي ، إلاّ أن يتضمّن اعتبار شيء في المأمور به
، فمع فقد ذلك الشيء لا ينطبق المأتيّ به على المأمور به ، فيقع فاسدا ، كالنهي
بداعي الإرشاد إلى مانعيّة شيء ، فيستفاد منه أنّ عدم ذلك الشيء يكون شرطا في
المأمور به. ولكن هذا شيء آخر لا يرتبط بمسألتنا ، فإنّ هذا يجري حتّى في الواجبات
التوصّلية ، فإنّ فقد أحد شروطها يوجب فسادها.
المبحث الثاني :
النهي عن المعاملة
إنّ النهي في
المعاملة على نحوين ـ كالنهي عن العبادة ـ ؛ فإنّه تارة يكون النهي بداعي بيان
مانعيّة الشيء المنهيّ عنه ، أو بداع آخر مشابه له ، وأخرى يكون بداعي الردع
والزجر من أجل مبغوضيّة ما تعلّق به النهي ، ووجود الحزازة فيه.
فإن كان الأوّل
فهو خارج عن مسألتنا ـ كما تقدّم في التنبيه السابق ـ ؛ إذ لا شكّ في أنّه لو كان
النهي بداعي الإرشاد إلى مانعيّة الشيء في المعاملة فإنّه يكود دالاّ على فسادها
عند الإخلال ؛ لدلالة النهي على اعتبار عدم المانع فيها ، فتخلّفه تخلّف للشرط
المعتبر في صحّتها. وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان.
وإن كان الثاني
فإنّ النهي إمّا أن يكون عن ذات السبب ـ أي عن العقد الإنشائي ـ ، أو فقل : عن
التسبيب به لإيجاد المعاملة ، كالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة في قوله (تعالى)
: (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ...) ؛ وإمّا أن يكون عن ذات المسبّب ـ أي عن نفس وجود المعاملة ـ كالنهي عن بيع
الآبق وبيع المصحف.
فإن كان النهي على
النحو الأوّل ـ أي عن ذات السبب ـ ، فالمعروف أنّه لا يدلّ على فساد المعاملة ؛ إذ لم تثبت المنافاة لا عقلا ولا عرفا بين مبغوضيّة العقد والتسبيب به ،
وبين إمضاء الشارع له بعد أن كان العقد مستوفيا لجميع الشروط المعتبرة فيه ، بل
ثبت خلافها ، كحرمة الظهار التي لم تناف ترتّب الأثر عليه من الفراق.
وإن كان النهي على
النحو الثاني ـ أي عن المسبّب ـ ، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنّ النهي في هذا القسم يقتضي الفساد.
وأقصى ما يمكن
تعليل ذلك بما ذكره بعض أعاظم مشايخنا من أنّ صحّة كلّ
معاملة مشروطة بأن يكون العاقد مسلّطا على المعاملة في حكم الشارع ، غير محجور
عليه من قبله من التصرّف في العين التي تجري عليها المعاملة. ونفس النهي عن
المسبّب يكون معجّزا مولويا للمكلّف عن الفعل ، ورافعا لسلطنته عليه ، فيختلّ به
ذلك الشرط المعتبر في
__________________
صحّة المعاملة ،
فلا محالة يترتّب على ذلك فسادها.
هذا غاية ما يمكن
أن يقال في بيان اقتضاء النهي عن المسبّب لفساد المعاملة ، ولكنّ التحقيق أن يقال
:
إنّ استناد الفساد
إلى النهي إنّما يصحّ أن يفرض ويتنازع فيه فيما إذا كان العقد بشرائطه موجودا حتّى
بشرائط المتعاقدين ، وشرائط العوضين ، وأنّه ليس في البين إلاّ المبغوضيّة الصرفة
المستفادة من النهي. وحينئذ يقع البحث في أنّ هذه المبغوضيّة هل تنافي صحّة
المعاملة أو لا تنافيها؟
أمّا : إذا كان
النهي دالاّ على اعتبار شيء في المتعاقدين والعوضين أو العقد ، مثل النهي عن أن
يبيع السفيه ، والمجنون ، والصغير الدالّ على اعتبار [الرشد و] العقل والبلوغ في
البائع ، وكالنهي عن بيع الخمر ، والميتة ، والآبق ، ونحوها الدالّ على اعتبار
إباحة المبيع والتمكّن من التصرّف منه ، وكالنهي عن العقد بغير العربيّة ـ مثلا ـ الدالّ
على اعتبارها في العقد ، فإنّ هذا النهي في كلّ ذلك لا شكّ في كونه دالاّ على فساد
المعاملة ؛ لأنّ هذا النهي في الحقيقة يرجع إلى القسم الأوّل الذي ذكرناه ، وهو ما
كان النهي بداعي الإرشاد إلى اعتبار شيء في المعاملة ، وقد تقدّم أنّ هذا ليس موضع
الكلام من منافاة نفس النهي بداعي الردع والزجر لصحّة المعاملة.
فالعمدة هو الكلام
في هذه المنافاة ، وليس من دليل عليها حتّى تثبت الملازمة بين النهي وفساد
المعاملة ؛ وكون النهي عن المسبّب يكون معجّزا مولويّا للمكلّف عن الفعل ، ورافعا
لسلطنته عليه ، فإنّ معنى ذلك أنّ النهي في المعاملة شأنه أن يدلّ على اختلال شرط
في المعاملة بارتكاب المنهيّ عنه ، وهذا لا كلام لنا فيه.
وفي هذا القدر من
البحث في هذه المسألة الكفاية ، وفّقنا الله (تعالى) لمراضيه.
تمرينات
(٤١)
١. ما هو محلّ
النزاع في مسألة «دلالة النهي على الفساد»؟
٢. ما المراد من «الدلالة»
في محلّ النزاع؟
٣. ما المراد من
كلمة «النهي» في المقام؟
٤. ما هو رأي
المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني في المراد من كلمة «النهي» في المقام؟
٥. ما المراد من
كلمة «الفساد» في المقام؟
٦. ما المراد من
الشيء المنهيّ عنه؟
٧. كيف تدخل هذه
المسألة في بحث الملازمات العقليّة؟
٨. ما المراد من
العبادة التى هي محلّ النزاع؟
٩. اذكر أنحاء
تعلّق النهي بالعبادة ، ومثّل لكلّ منها.
١٠. هل النهي عن
العبادة يقتضي فسادها أم لا؟
١١. ما هو رأي
المحقّق النائيني في النهي عن العبادة؟
١٢. هل النهي
التنزيهي يقتضي الفساد؟ ما الدليل عليه؟
١٣. هل النهي عن
المعاملة يقتضي الفساد أم لا؟
المقصد الثالث
مباحث
الحجّة
بسم الله
الرّحمن الرّحيم
تمهيد :
إنّ مقصودنا من
هذا البحث ـ وهو «مباحث الحجّة» ـ تنقيح ما يصلح أن يكون دليلا وحجّة على الأحكام
الشرعيّة ، لنتوصّل إلى الواقع من أحكام الله (تعالى).
فإن أصبنا بالدليل
ذلك الواقع ـ كما أردنا ـ فذلك هو الغاية القصوى والمقصد الأعلى ، وإن أخطأناه ،
فنحن نكون معذورين غير معاقبين في مخالفة الواقع.
والسرّ في كوننا
معذورين عند الخطأ هو أنّنا قد بذلنا جهدنا وقصارى وسعنا في البحث عن الطرق
الموصلة إلى الواقع من أحكام الله (تعالى) ، حتى ثبت لدينا ـ على سبيل القطع ـ أنّ
هذا الدليل المعيّن ـ كخبر الواحد مثلا ـ قد ارتضاه الشارع لنا طريقا إلى أحكامه ،
وجعله حجّة عليها ، فالخطأ الذي نقع فيه إنّما جاء من [قبل] الدليل ـ الذي نصبه
وارتضاه لنا ـ لا من قبلنا.
وسيأتي بيان [أنّه] كيف نكون معذورين؟ وكيف يصحّ وقوع الخطأ في الدليل المنصوب حجّة
، مع أنّ الشارع هو الذي نصبه وجعله حجّة؟
ولا شكّ في أنّ
هذا المقصد هو غاية الغايات من مباحث علم أصول الفقه ، وهو العمدة فيها ؛ لأنّه هو
الذي يحصّل كبريات مسائل المقصدين السابقين (الأوّل والثاني) ، فإنّه لمّا كان
يبحث في المقصد الأوّل عن تشخيص صغريات الظواهر اللفظيّة ، فإنّه في هذا
__________________
__________________
المقصد يبحث عن
حجّيّة مطلق الظواهر اللفظيّة بنحو العموم ، فتتألّف الصغرى من نتيجة المقصد
الأوّل ، والكبرى من نتيجة هذا المقصد ؛ ليستنتج من ذلك الحكم الشرعيّ ، فيقال ـ مثلا
ـ :
صيغة «افعل»
ظاهرة في الوجوب
|
(الصغرى)
|
وكلّ ظاهر حجّة
|
(الكبرى)
|
فينتج : صيغة «افعل»
حجّة في الوجوب
|
(النتيجة)
|
فإذا وردت صيغة «افعل»
في آية أو حديث استنتج من ذلك وجوب متعلّقها.
وهكذا يقال في
المقصد الثاني ؛ إذ يبحث فيه عن تشخيص صغريات أحكام العقل ، وفي هذا المقصد يبحث عن حجّيّة حكم العقل ، فتتألّف منهما صغرى وكبرى.
وقد أوضحنا كلّ
ذلك في تمهيد المقصدين. فراجع.
__________________
__________________
وعليه ، فلا بدّ
أن نستقصي في بحثنا عن كلّ ما قيل أو يمكن أن يقال باعتباره وحجّيّته ؛ لنستوفي
البحث ، ولنعذر عند الله (تعالى) في اتّباع ما يصحّ اتّباعه ، وطرح ما لا يثبت
اعتباره.
وينبغي لنا أيضا ـ
من باب التمهيد والمقدّمة ـ أن نبحث عن موضوع هذا المقصد ، وعن معنى الحجّيّة ،
وخصائصها ، والمناط فيها ، وكيفيّة اعتبارها ، وما يتعلّق بذلك ، فنضع المقدّمة في
عدّة مباحث ، كما نضع المقصد في عدّة أبواب :
تمرينات
(٤٢)
التمرين الأوّل :
١. ما المقصود من
البحث عن المقصد الثالث «مباحث الحجّة»؟
٢. ما السرّ في
كوننا معذورين عند الخطأ؟
٣. كيف يستنتج
الحكم الشرعي من نتيجة المقصد الأوّل ، ونتيجة المقصد الثالث؟ اذكر مثالا.
التمرين الثاني :
١. ما هو رأي
المحقّق العراقيّ في مناط كون المسألة أصوليّة؟
٢. كيف يستنتج
الحكم الشرعي من نتيجة المقصد الثاني ونتيجة هذا المقصد؟ اذكر مثالا.
المقدّمة
وفيها مباحث :
١. موضوع المقصد
الثالث
من التمهيد
المتقدّم في بيان المقصود من «مباحث الحجّة» يتبيّن لنا أنّ الموضوع لهذا المقصد ـ
الذي يبحث فيه عن لواحق ذلك الموضوع ومحمولاته ـ هو «كلّ شيء يصلح أن يدّعى ثبوت
الحكم الشرعيّ به ، ليكون دليلا وحجّة عليه».
فإن استطعنا في
هذا المقصد أن نثبت بدليل قطعيّ أنّ هذا الطريق ـ مثلا ـ حجّة أخذنا به ورجعنا إليه لإثبات
الأحكام الشرعيّة ، وإلاّ طرحناه وأهملناه ، وبصريح العبارة
نقول :
إنّ الموضوع لهذا
المقصد في الحقيقة هو «ذات الدليل» بما هو في نفسه ، لا بما هو دليل.
وأمّا محمولاته
ولواحقه ـ التي نفحصها ونبحث عنها لإثباتها له ـ فهي كون ذلك الشيء دليلا وحجّة ،
فإمّا أن نثبت ذلك أو ننفيه.
ولا يصحّ أن نجعل
موضوعه «الدليل بما هو دليل» ، أو «الحجّة بما هي حجّة» ،
__________________
أي بصفة كونه
دليلا وحجّة ، كما نسب ذلك إلى المحقّق القمّي رحمهالله في قوانينه ؛ إذ جعل موضوع علم الأصول الأدلّة الأربعة بما
هي أدلّة .
ولو كان الأمر كما
ذهب إليه رحمهالله ، لوجب أن تخرج مسائل هذا المقصد كلّها عن علم الأصول ؛ لأنّها
تكون حينئذ من مبادئه التصوّريّة ، لا من مسائله. وذلك واضح ؛ لأنّ البحث عن
حجّيّة الدليل يكون بحثا عن أصل وجود الموضوع وثبوته الذي هو مفاد «كان» التامّة ،
لا بحثا عن لواحق الموضوع الذي هو مفاد «كان» الناقصة. والمعروف عند أهل الفنّ أنّ
البحث عن وجود الموضوع ـ أيّ موضوع كان ، سواء كان موضوع العلم أو موضوع أحد
أبوابه ومسائله ـ معدود من مبادئ العلم التصوّريّة ، لا من مسائله.
ولكن هنا ملاحظة ينبغي التنبيه عليها في هذا الصدد ، وهي : أنّ تخصيص
موضوع علم الأصول بالأدلّة الأربعة ـ كما فعل الكثير من مؤلّفينا ـ يستدعي أن يلتزموا بأنّ الموضوع هو الدليل بما هو دليل ، كما فعل صاحب
القوانين ؛ وذلك لأنّ هؤلاء لمّا خصّصوا الموضوع بهذه الأربعة فإنّما خصّصوه بها ؛
لأنّها معلومة الحجّيّة عندهم ، فلا بدّ أنّهم لاحظوها موضوعا للعلم بما هي أدلّة
، لا بما هي هي ، وإلاّ لجعلوا الموضوع شاملا لها ولغيرها ممّا هو غير معتبر عندهم
، كالقياس ، والاستحسان ، ونحوهما ، وما كان وجه لتخصيصه بالأدلّة الأربعة.
وحينئذ لا مخرج
لهم من الإشكال المتقدّم ، وهو لزوم خروج عمدة مسائل علم الأصول عنه.
وعلى هذا ، فيتّضح
أنّ مناقشة صاحب الفصول لصاحب القوانين ليست في محلّها ؛ لأنّ دعواه هذه لا بدّ من
الالتزام بها بعد الالتزام بأنّ الموضوع خصوص الأدلّة الأربعة ، وإن لزم عليه
إشكال خروج أهمّ المسائل عنه.
__________________
ولو كان الموضوع
هي الأدلّة بما هي هي ـ كما ذهب إليه صاحب الفصول ـ لما كان معنى لتخصيصه بخصوص
الأربعة ، ولوجب تعميمه لكلّ ما يصلح أن يبحث عن دليليّته ، وإن ثبت بعد البحث
أنّه ليس بدليل.
والخلاصة
أنّه إمّا أن
نخصّص الموضوع بالأدلّة الأربعة فيجب أن نلتزم بما التزم به صاحب القوانين ، فتخرج
مباحث هذا المقصد الثالث عن علم الأصول ، وإمّا أن نعمّم الموضوع ـ كما هو الصحيح
ـ لكلّ ما يصلح أن يدّعى أنّه دليل فلا يختصّ بالأربعة ، وحينئذ يصحّ أن نلتزم بما
التزم به صاحب الفصول ، وتدخل مباحث هذا المقصد في مسائل العلم.
فالالتزام بأنّ
الموضوع هي [الأدلّة] الأربعة فقط ، ثمّ الالتزام بأنّها بما هي هي ، لا يجتمعان.
وهذا أحد الشواهد على تعميم موضوع علم الأصول لغير الأدلّة الأربعة ، وهو الذي
نريد إثباته هنا. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
والنتيجة أنّ الموضوع ـ الذي يبحث عنه في هذا المقصد ـ هو «كلّ شيء
يصلح أن يدّعى أنّه دليل وحجّة» ، فيعمّ البحث كلّ ما [يصلح أن] يقال : إنّه حجّة
، فيدخل فيه البحث عن حجّيّة خبر الواحد ، والظواهر ، والشهرة ، والإجماع المنقول
، والقياس ، والاستحسان ، ونحو ذلك ، بالإضافة إلى البحث عن أصل الكتاب ، والسنّة
، والإجماع ، والعقل.
فما ثبت أنّه حجّة
من هذه الأمور أخذنا به ، وما لم يثبت طرحناه.
كما يدخل فيه أيضا
البحث عن مسألة التعادل والتراجيح ؛ لأنّ البحث فيها ـ في الحقيقة ـ عن تعيين ما
هو حجّة ودليل من بين المتعارضين ، فتكون المسألة من مسائل مباحث الحجّة.
__________________
ونحن جعلناها في
الجزء الأوّل خاتمة لعلم الأصول ؛ اتّباعا لمنهج القوم ، ورأينا الآن العدول عن ذلك ؛
رعاية لواقعها ، وللاختصار.
تمرينات
(٤٣)
١. ما هو موضوع
المقصد الثالث؟
٢. لم لا يصحّ أن
يجعل موضوع هذا المقصد الدليل بما هو دليل ، أو الحجّة بما هي حجّة؟
٣. ما الفرق بين
مفاد «كان» التامّة ، و «كان» الناقصة؟
٤. ما هو رأي صاحب
الفصول في موضوع علم الأصول؟
٥. ما الدليل على
تعميم موضوع علم الأصول لغير الأدلّة الأربعة؟
٦. كيف تدخل مسألة
التعادل والتراجيح في مباحث الحجّة؟
__________________
٢. معنى الحجّة
١. الحجّة لغة :
كلّ شيء يصلح أن يحتجّ به على الغير.
وذلك بأن يكون به
الظفر على الغير عند الخصومة معه. والظفر على الغير على نحوين : إمّا بإسكاته وقطع
عذره وإبطاله ، وإمّا بأن يلجئه إلى [قبول] عذر صاحب الحجّة ، فتكون الحجّة معذّرة
له لدى الغير.
٢. وأمّا الحجّة
في الاصطلاح العلميّ فلها معنيان أو اصطلاحان :
أ : ما عند
المناطقة. ومعناها : «كلّ ما يتألّف من قضايا تنتج مطلوبا» ، أي مجموع القضايا
المترابطة التي يتوصّل بتأليفها وترابطها إلى العلم بالمجهول ، سواء كان في مقام
الخصومة مع أحد أم لم يكن. وقد يطلقون الحجّة أيضا على نفس «الحدّ الأوسط» في القياس.
ب : ما عند
الأصوليّين. ومعناها عندهم حسب تتبّع استعمالها : «كلّ شيء يثبت متعلّقه ولا يبلغ
درجة القطع» ، أي لا يكون سببا للقطع بمتعلّقه ، وإلاّ فمع القطع يكون القطع هو
الحجّة ، ولكن هو حجّة بمعناها اللغويّ. أو قل بتعبير آخر : «الحجّة : كلّ شيء
يكشف عن شيء آخر ، ويحكي عنه على وجه يكون مثبتا له».
ونعني بكونه مثبتا
له : أنّ إثباته له يكون بحسب الجعل من الشارع لا بحسب ذاته. ويكون معنى «إثباته
له» حينئذ أنّه يثبت الحكم الفعليّ في حقّ المكلّف بعنوان أنّه هو الواقع. وإنّما يصحّ ذلك ويكون مثبتا له بضميمة الدليل على اعتبار ذلك
الشيء الكاشف الحاكي ، وعلى أنّه حجّة من قبل الشارع.
وسيأتي إن شاء
الله (تعالى) تحقيق معنى الجعل للحجيّة ، و [أنّه] كيف يثبت
__________________
الحكم بالحجّة؟
وعلى هذا ،
فالحجّة بهذا الاصطلاح لا تشمل القطع ـ أي : إنّ القطع لا يسمّى حجّة بهذا المعنى
، بل بالمعنى اللغويّ ؛ لأنّ طريقيّة القطع ـ كما سيأتي ـ ذاتيّة غير مجعولة من قبل أحد.
وتكون الحجّة بهذا
المعنى الأصوليّ مرادفة لكلمة «الأمارة» ، كما أنّ كلمة «الدليل» ، وكلمة «الطريق»
تستعملان في هذا المعنى ، فتكونان مرادفتين لكلمة «الأمارة» ، و «الحجّة» ، أو
كالمرادفتين.
وعليه ، فلك أن
تقول في عنوان هذا المقصد بدل كلمة «مباحث الحجّة» : مباحث الأمارات ، أو مباحث الأدلّة ، أو مباحث الطرق. وكلّها يؤدّي
معنى واحدا.
وممّا ينبغي
التنبيه عليه في هذا الصدد أنّ استعمال كلمة «الحجّة» في المعنى الذي تؤدّيه كلمة «الأمارة»
مأخوذ من المعنى اللغويّ من باب تسمية الخاصّ باسم العامّ ؛ نظرا إلى أنّ الأمارة
ممّا يصحّ أن يحتجّ المكلّف بها إذا عمل بها وصادفت مخالفة الواقع ، فتكون معذّرة
له ، كما أنّها ممّا يصحّ أن يحتجّ بها المولى على المكلّف إذا لم يعمل بها ، ووقع
في مخالفة الحكم الواقعيّ ، فيستحقّ العقاب على المخالفة.
__________________
تمرينات
التمرين الأوّل :
١. ما هو معنى
الحجّة لغة؟
٢. ما هو معنى
الحجّة عند المناطقة؟
٣. ما هو معنى
الحجّة عند الأصوليّين؟
التمرين الثاني :
١. ما الفرق بين
المرادف وبين كالمرادف في عبارة المصنّف؟
٢. اذكر أقوال
العلماء في عنوان المقصد الثالث؟
٣. مدلول كلمة «الأمارة»
و «الظنّ المعتبر»
بعد أن قلنا : إنّ
الأمارة مرادفة لكلمة «الحجّة» باصطلاح الأصوليّين ، ينبغي أن ننقل الكلام إلى
كلمة «الأمارة» لنتسقّط بعض استعمالاتها ، كما سنستعملها بدل كلمة «الحجّة» في
المباحث الآتية ، فنقول :
إنّه كثيرا ما
يجري على ألسنة الأصوليّين إطلاق كلمة «الأمارة» على معنى ما تؤدّيه كلمة «الظنّ»
، ويقصدون من الظنّ «الظنّ المعتبر» ، أي الذي اعتبره الشارع ، وجعله حجّة ، ويوهم
ذلك أنّ الأمارة والظنّ المعتبر لفظان مترادفان يؤدّيان معنى واحدا ، مع أنّهما
ليسا كذلك.
وفي الحقيقة أنّ
هذا تسامح في التعبير منهم على نحو المجاز في الاستعمال ، لا أنّه وضع آخر لكلمة «الأمارة».
وإنّما مدلول الأمارة الحقيقي هو كلّ شيء اعتبره الشارع لأجل أنّه يكون سببا للظنّ ،
كخبر الواحد والظواهر.
والمجاز هنا إمّا
من جهة إطلاق السبب على مسبّبه فيسمّى الظنّ المسبّب «أمارة» ؛ وإمّا من جهة إطلاق
المسبّب على سببه فتسمّى الأمارة ـ التي هي سبب للظنّ ـ : «ظنّا» ، فيقولون : «الظنّ
المعتبر» ، و «الظنّ الخاصّ» ، والاعتبار والخصوصيّة إنّما هما لسبب الظنّ.
ومنشأ هذا التسامح
في الإطلاق هو أنّ السرّ في اعتبار الأمارة وجعلها حجّة وطريقا هو إفادتها للظنّ
دائما أو على الأغلب ، ويقولون للثاني ـ الذي يفيد الظنّ على الأغلب ـ : «الظنّ
النوعيّ» على ما سيأتي بيانه.
٤. الظنّ النوعيّ
ومعنى «الظنّ
النوعيّ» : أنّ الأمارة تكون من شأنها أن تفيد الظنّ عند غالب الناس ونوعهم.
واعتبارها عند الشارع إنّما يكون من هذه الجهة ، فلا يضرّ في اعتبارها وحجيّتها
ألاّ يحصل منها ظنّ فعليّ للشخص الذي قامت عنده الأمارة ، بل تكون حجّة عند
__________________
هذا الشخص أيضا
حيث إنّ دليل اعتبارها دلّ على أنّ الشارع إنّما اعتبرها حجّة ورضي بها طريقا ؛
لأنّ من شأنها أن تفيد الظنّ ، وإن لم يحصل الظنّ الفعليّ منها لدى بعض الأشخاص.
ثمّ لا يخفى عليك
أنّا قد نعبّر فيما يأتي تبعا للأصوليّين فنقول : «الظنّ الخاصّ» ، أو «الظنّ
المعتبر» ، أو «الظنّ الحجّة» ، وأمثال هذه التعبيرات ، والمقصود منها دائما سبب
الظنّ ـ أعني الأمارة المعتبرة وإن لم تفد ظنّا فعليّا ـ ، فلا يشتبه عليك الحال.
٥. الأمارة والأصل
العمليّ
واصطلاح الأمارة
لا يشمل «الأصل العمليّ» ، كالبراءة ، والاحتياط ، والتخيير ، والاستصحاب ، بل هذه
الأصول تقع في جانب والأمارة في جانب آخر مقابل له ، فإنّ المكلّف إنّما يرجع إلى
الأصول إذا افتقد الأمارة ، أي إذا لم تقم عنده الحجّة على الحكم الشرعيّ الواقعيّ
على ما سيأتي توضيحه ، وبيان السرّ فيه.
ولا ينافي ذلك أنّ
هذه الأصول أيضا قد يطلق عليها أنّها حجّة ، فإنّ إطلاق الحجّة عليها ليس بمعنى
الحجّة في باب الأمارات ، بل بالمعنى اللغويّ باعتبار أنّها معذّرة للمكلّف إذا
عمل بها وأخطأ الواقع ، ويحتجّ بها المولى على المكلّف إذا خالفها ولم يعمل بها
ففوّت الواقع المطلوب ؛ ولأجل هذا جعلنا باب «الأصول العمليّة» بابا آخر مقابل باب
«مباحث الحجّة».
وقد أشير في تعريف
«الأمارة» إلى خروج الأصول العمليّة بقولهم : «يثبت متعلّقه» ؛ لأنّ الأصول
العمليّة لا تثبت متعلّقاتها ؛ لأنّه ليس لسانها لسان إثبات الواقع والحكاية عنه ،
وإنّما هي في حقيقتها مرجع للمكلّف في مقام العمل عند الحيرة والشكّ في الواقع ،
وعدم ثبوت حجّة عليه. وغاية شأنها أنّها تكون معذّرة للمكلّف.
ومن هنا اختلفوا
في الاستصحاب ، هل إنّه أمارة أو أصل؟ باعتبار أنّ له شأن الحكاية عن الواقع ،
وإحرازه في الجملة ؛ لأنّ اليقين السابق غالبا ما يورث الظنّ ببقاء المتيقّن في
__________________
الزمان اللاحق ؛
ولأنّ حقيقته ـ كما سيأتي في موضعه ـ البناء على
اليقين السابق بعد الشكّ ، كأنّ المتيقّن السابق لم يزل ولم يشكّ في بقائه. ولأجل
هذا سمّي الاستصحاب عند من يراه أصلا : «أصلا محرزا».
فمن لاحظ في
الاستصحاب جهة ما له من إحراز وأنّه يوجب الظنّ ، واعتبر حجّيّته من هذه الجهة
عدّه من الأمارات. ومن لاحظ فيه أنّ الشارع إنّما جعله مرجعا للمكلّف عند
الشكّ والحيرة ، واعتبر حجّيّته من جهة دلالة الأخبار عليه عدّه من جملة الأصول. وسيأتي إن شاء الله (تعالى) شرح ذلك في محلّه مع بيان الحقّ فيه.
تمرينات
(٤٥)
١. ما معنى «الظنّ
المعتبر»؟
٢. ما هو مدلول
الأمارة؟
٣. ما هو الوجه المصحّح
لإطلاق كلمة «الأمارة» على الظنّ المعتبر وبالعكس؟
٤. ما معنى «الظنّ
النوعيّ»؟
٥. ما الفرق بين
الأمارة والأصل العملي؟
٦. هل الاستصحاب
أمارة أو أصل؟ اذكر آراء العلماء.
__________________
٦. المناط في
إثبات حجّيّة الأمارة
ممّا يجب أن نعرفه
ـ قبل البحث والتفتيش عن الأمارات التي هي حجّة ـ [أنّ] المناط في إثبات حجّيّة
الأمارة [ما هو؟] وأنّه بأيّ شيء يثبت لنا أنّها حجّة يعوّل عليها؟ وهذا هو أهمّ
شيء تجب معرفته قبل الدخول في المقصود ، فنقول :
إنّه لا شكّ في
أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا يصحّ أن يكون هو المناط في حجّيّة الأمارة ، ولا يجوز أن
يعوّل عليه في إثبات الواقع ؛ لقوله (تعالى) : (إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) . وقد ذمّ الله (تعالى) في كتابه المجيد من يتّبع الظنّ بما
هو ظنّ ، كقوله (تعالى) : (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) ، وقال (تعالى) : (قُلْ آللهُ أَذِنَ
لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) .
وفي هذه الآية
الأخيرة ـ بالخصوص ـ قد جعل ما أذن به أمرا مقابلا للافتراء عليه ، فما لم يأذن به
لا بدّ أن يكون افتراء بحكم المقابلة بينهما ، فلو نسبنا الحكم إلى الله (تعالى)
من دون إذن منه فلا محالة يكون افتراء محرّما ، مذموما بمقتضى الآية. ولا شكّ في
أنّ العمل بالظنّ والالتزام به على أنّه من الله (تعالى) ومثبت لأحكامه يكون من
نوع نسبة الحكم إليه من دون إذن منه ، فيدخل في قسم الافتراء المحرّم.
وعلى هذا التقرير
، فالقاعدة تقتضي أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا يجوز العمل على مقتضاه ، ولا الأخذ به
لإثبات أحكام الله (تعالى) مهما كان سببه ؛ لأنّه لا يغني من الحقّ شيئا ، فيكون
خرصا باطلا ، وافتراء محرّما.
هذا مقتضى القاعدة
الأوّليّة في الظنّ بمقتضى هذه الآيات الكريمة ، ولكن لو ثبت بدليل قطعيّ وحجّة
يقينيّة أنّ الشارع قد جعل ظنّا خاصّا من سبب مخصوص طريقا لأحكامه ،
__________________
واعتبره حجّة
عليها ، وارتضاه أمارة يرجع إليها ، وجوّز لنا الأخذ بذلك السبب المحقّق للظنّ ،
فإنّ هذا الظنّ يخرج عن مقتضى تلك القاعدة الأوّليّة ؛ إذ لا يكون خرصا ، وتخمينا
، ولا افتراء.
وخروجه من القاعدة
يكون تخصيصا بالنسبة إلى آية النهي عن اتّباع الظنّ ، ويكون تخصّصا بالنسبة إلى
آية الافتراء ؛ لأنّه يكون حينئذ من قسم ما أذن الله (تعالى) به ، وما أذن به ليس
افتراء.
وفي الحقيقة أنّ
الأخذ بالظنّ المعتبر ـ الذي ثبت على سبيل القطع أنّه حجّة ـ لا يكون أخذا بالظنّ
بما هو ظنّ ، وإن كان اعتباره عند الشارع من جهة كونه ظنّا ، بل يكون أخذا بالقطع
واليقين ، ذلك القطع الذي قام على اعتبار ذلك السبب المحقّق للظنّ ، وسيأتي أنّ
القطع حجّة بذاته ، لا يحتاج إلى جعل من أحد.
ومن هنا يظهر
الجواب عمّا شنع به جماعة من الأخباريّين على الأصوليّين من أخذهم ببعض
الأمارات الظنّيّة الخاصّة ، كخبر الواحد ونحوه ، إذ شنعوا عليهم بأنّهم أخذوا
بالظنّ الذي لا يغني من الحقّ شيئا.
وقد فاتهم أنّ
الأصوليّين إذ أخذوا بالظنون الخاصّة لم يأخذوا بها من جهة أنّها ظنون فقط ، بل
أخذوا بها من جهة أنّها معلومة الاعتبار على سبيل القطع بحجيّتها ، فكان أخذهم بها
في الحقيقة أخذا بالقطع واليقين ، لا بالظنّ والخرص والتخمين ؛ ولأجل هذا سمّيت
الأمارات المعتبرة بـ «الطرق العلميّة» ؛ نسبة إلى العلم القائم على اعتبارها
وحجّيّتها ؛ لأنّ حجّيّتها ثابتة بالعلم.
إلى هنا يتّضح ما
أردنا أن نرمي إليه ، وهو أنّ المناط في إثبات حجّيّة الأمارات ، ومرجع اعتبارها ،
وقوامها ما هو؟ إنّه العلم القائم على اعتبارها وحجّيّتها ، فإذا لم يحصل العلم
بحجّيّتها واليقين بإذن الشارع بالتعويل عليها والأخذ بها لا يجوز الأخذ بها وإن
أفادت ظنّا غالبا ؛ لأنّ الأخذ بها يكون حينئذ خرصا وافتراء على الله (تعالى) ؛
ولأجل
__________________
هذا قالوا : يكفي
في طرح الأمارة أن يقع الشكّ في اعتبارها ، أو فقل على الأصحّ : يكفي ألاّ يحصل
العلم باعتبارها ؛ فإنّ نفس عدم العلم بذلك كاف في حصول العلم بعدم اعتبارها ، أي
بعدم جواز التعويل عليها والاستناد إليها. وذلك كالقياس والاستحسان وما إليهما وإن
أفادت ظنّا قويّا.
ولا نحتاج في مثل
هذه الأمور إلى الدليل على عدم اعتبارها ، وعدم حجّيّتها ، بل بمجرّد عدم حصول
القطع بحجّيّة الشيء يحصل القطع بعدم جواز الاستناد إليه في مقام العمل ، وبعدم
صحّة التعويل عليه ، فيكون القطع مأخوذا في موضوع حجّيّة الأمارة.
ويتحصّل من ذلك
كلّه أنّ أماريّة الأمارة وحجّيّة الحجّة إنّما تحصل وتتحقّق بوصول علمها إلى
المكلّف ، وبدون العلم بالحجّيّة لا معنى لفرض كون الشيء أمارة وحجّة ، ولذا قلنا
: «إنّ مناط إثبات الحجّيّة وقوامها العلم» ، فهو مأخوذ في موضوع الحجيّة ؛ فإنّ العلم تنتهي إليه حجّيّة كلّ حجّة.
ولزيادة الإيضاح
لهذا الأمر ، ولتمكين النفوس المبتدئة من الاقتناع بهذه الحقيقة البديهيّة نقول من
طريق آخر لإثباتها :
أوّلا
: إنّ الظنّ بما
هو ظنّ ليس حجّة بذاته.
وهذه مقدّمة واضحة
قطعيّة ، وإلاّ لو كان الظنّ حجة بذاته ، لما جاز النهي عن اتّباعه والعمل به ،
ولو في بعض الموارد على نحو الموجبة الجزئيّة ؛ لأنّ ما هو بذاته حجّة يستحيل
النهي عن الأخذ به ، كما سيأتي في حجّيّة القطع (المبحث الآتي) ، ولا شكّ في وقوع
النهي عن اتّباع الظنّ في الشريعة الإسلاميّة المطهّرة ، ويكفي في إثبات ذلك قوله (تعالى)
: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ...)
ثانيا
: إذا لم يكن
الظنّ حجّة بذاته فحجّيّته تكون عرضيّة ـ أي إنّها تكون مستفادة من الغير ـ ؛
فننقل الكلام إلى ذلك الغير المستفادة منه حجّيّة الظنّ ؛ فإن كان هو القطع ، فذلك
هو
__________________
المطلوب ؛ وإن لم
يكن قطعا ، فما هو؟
وليس يمكن فرض شيء
آخر غير نفس الظنّ ؛ فإنّه لا ثالث لهما يمكن فرض حجّيّته.
ولكنّ الظنّ
الثاني القائم على حجّيّة الظنّ الأوّل أيضا ليس حجّة بذاته ؛ إذ لا فرق بين ظنّ
وظنّ من هذه الناحية ؛ فننقل الكلام إلى هذا الظنّ الثاني ، ولا بدّ أن تكون
حجّيّته أيضا مستفادة من الغير ، فما هو ذلك الغير؟ فإن كان هو القطع فذلك هو
المطلوب ؛ وإن لم يكن قطعا فظنّ ثالث. فننقل الكلام إلى هذا الظنّ الثالث ، فيحتاج
إلى ظنّ رابع ، وهكذا إلى غير النهاية ، ولا ينقطع التسلسل إلاّ بالانتهاء إلى ما
هو حجّة بذاته ، وليس هو إلاّ العلم.
ثالثا
: فانتهى الأمر
بالأخير إلى العلم ، فتمّ المطلوب.
وبعبارة أسدّ
وأخصر ، نقول :
إنّ الظنّ لمّا
كانت حجّيّته ليست ذاتيّة ، فلا تكون إلاّ بالعرض ؛ وكلّ ما بالعرض لا بدّ أن
ينتهي إلى ما هو بالذات ، ولا مجاز بلا حقيقة ؛ وما هو حجّة بالذات ليس إلاّ «العلم»
؛ فانتهى الأمر بالأخير إلى «العلم».
وهذا ما أردنا
إثباته ، وهو أنّ قوام الأمارة والمناط في إثبات حجّيّتها هو العلم ؛ فإنّه تنتهي
إليه حجّيّة كلّ حجّة ؛ لأنّ حجّيّته ذاتيّة.
تمرينات
(٤٦)
١. ما هو مقتضى
القاعدة الأوّلية في الظنّ؟
٢. ما المناط في
إثبات حجيّة الأمارة؟ بيّن المقدّمات الثلاث التي ذكرها المصنّف في المقام.
٣. اذكر ما شنع به
الأخباريّون على الأصوليين ، والجواب عنه.
٧. حجّية العلم
ذاتيّة
كرّرنا في البحث
السابق القول بأنّ «حجّيّة العلم ذاتيّة» ، ووعدنا ببيانها ، وقد حلّ هنا الوفاء
بالوعد ؛ فنقول :
قد ظهر ممّا سبق
معنى كون الشيء حجّيّته ذاتيّة ؛ فإنّ معناه أنّ
حجّيّته منبعثة من نفس طبيعة ذاته ، فليست مستفادة من الغير ، ولا تحتاج إلى جعل
من الشارع ، ولا إلى صدور أمر منه باتّباعه ، بل العقل هو الذي يكون حاكما بوجوب
اتّباع ذلك الشيء ؛ وما هذا شأنه ليس هو إلاّ العلم.
ولقد أحسن الشيخ
العظيم الأنصاريّ قدسسره مجلّي هذه الأبحاث في تعليل وجوب متابعة القطع ، فإنّه بعد أن ذكر أنّه «لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام
موجودا» علّل ذلك بقوله : «لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع. وليست طريقيّته قابلة
لجعل الشارع إثباتا أو نفيا».
وهذا الكلام فيه
شيء من الغموض بعد أن اختلفت تعبيرات الأصوليّين من بعده ، فنقول لبيانه
:
إنّ هنا شيئين أو
تعبيرين :
أحدهما : وجوب
متابعة القطع والأخذ به.
ثانيهما : طريقيّة
القطع للواقع.
فما المراد من كون
القطع حجّة بذاته؟ هل المراد أنّ وجوب متابعته أمر ذاتيّ له ،
__________________
كما وقع في
تعبيرات بعض الأصوليّين المتأخّرين ، أم أنّ المراد
أنّ طريقيّته ذاتيّة؟
وإنّما صحّ أن
يسأل هذا السؤال ، فمن أجل قياسه على الظنّ حينما نقول : «إنّه حجّة» ، فإنّ فيه
جهتين :
١.
جهة طريقيّته للواقع : فحينما نقول : «إنّ حجّيّته مجعولة» ، نقصد أنّ طريقيّته مجعولة ؛ لأنّها
ليست ذاتيّة له ؛ لوجود احتمال الخلاف. فالشارع يجعله طريقا إلى الواقع ؛ بإلغاء
احتمال الخلاف ، كأنّه لم يكن ، فتتمّ بذلك طريقيّته الناقصة ليكون كالقطع في
الإيصال إلى الواقع. وهذا المعنى هو المجعول للشارع.
٢.
جهة وجوب متابعته : فحينما نقول : «إنّه حجّة» ، نقصد أنّ الشارع أمر بوجوب متابعة ذلك الظنّ ،
والأخذ به ، أمرا مولويّا ؛ فينتزع من هذا الأمر أنّ هذا الظنّ موصل إلى الواقع ،
ومنجّز له ؛ فيكون المجعول هذا الوجوب ، ويكون هذا معنى حجّيّة الظنّ.
وإذا كان هذا حال
الظنّ فالقطع ينبغي أن يكون له أيضا هاتان الجهتان ، فنلاحظهما حينما نقول ـ مثلا
ـ : «إنّ حجّيّته ذاتيّة» إمّا من جهة كونه طريقا بذاته ، وإمّا من جهة وجوب
متابعته لذاته.
ولكن في الحقيقة
أنّ التعبير بوجوب متابعة القطع لا يخلو عن مسامحة ظاهرة ، منشؤها ضيق العبارة عن
المقصود ؛ إذ يقاس على الظنّ. والسرّ في ذلك واضح ؛ لأنّه ليس للقطع متابعة
مستقلّة غير الأخذ بالواقع المقطوع به ، فضلا عن أن يكون لهذه المتابعة وجوب
مستقلّ غير نفس وجوب الأخذ بالواقع المقطوع به ـ أي وجوب طاعة الواقع المنكشف
بالقطع من وجوب ، أو حرمة ، أو نحوهما ـ ؛ إذ ليس وراء انكشاف الواقع شيء ينتظره
الإنسان ، فإذا انكشف الواقع له فلا بدّ أن يأخذ به.
وهذه اللابدّيّة
لابدّيّة عقليّة منشؤها أنّ القطع بنفسه طريق إلى الواقع ، وعليه ، فيرجع
__________________
__________________
التعبير بوجوب
متابعة القطع إلى معنى كون القطع بنفسه طريقا إلى الواقع ، وأنّ نفسه نفس انكشاف
الواقع ، فالجهتان فيه جهة واحدة في الحقيقة.
وهذا هو السرّ في
تعليل الشيخ الأعظم الأنصاريّ رحمهالله لوجوب متابعته بكونه طريقا بذاته ،
ولم يتعرّض في التعليل لنفس الوجوب. ومن أجل هذا ركز البحث كلّه على طريقيّته
الذاتيّة.
ويظهر لنا ـ حينئذ
ـ أنّه لا معنى لأن يقال في تعليل حجّيّته الذاتيّة : «إنّ وجوب متابعته أمر ذاتيّ
له».
وإذا اتّضح ما
تقدّم وجب علينا توضيح معنى كون القطع طريقا ذاتيّا ، وهو كلّ البحث عن حجّيّة
القطع ، وما وراءه من الكلام فكلّه فضول ، وعليه فنقول :
تقدّم أنّ القطع
حقيقته انكشاف الواقع ؛ لأنّه حقيقة نوريّة محضة لا غطش فيها ، ولا احتمال للخطإ يرافقها ؛ فالعلم نور لذاته [و] نور لغيره ، فذاته
نفس الانكشاف لا أنّه شيء له الانكشاف.
وقد عرفتم في
مباحث الفلسفة أنّ الذات أو الذاتيّ يستحيل جعله بالجعل التأليفيّ ؛ لأنّ جعل شيء لشيء إنّما يصحّ أن يفرض فيما يمكن فيه التفكيك بين المجعول
والمجعول له. وواضح أنّه يستحيل التفكيك بين الشيء وذاته ـ أي بين الشيء ونفسه ـ وكذا
بينه وبين ذاتيّاته. وهذا معنى قولهم المشهور : «الذاتيّ لا يعلّل» وإنّما المعقول من
__________________
جعل القطع هو جعله
بالجعل البسيط ، أي خلقه وإيجاده.
وعليه ، فلا معنى
لفرض جعل الطريقيّة للقطع جعلا تأليفيّا ، بأيّ نحو فرض للجعل ، سواء كان جعلا
تكوينيّا أم جعلا تشريعيّا ؛ فإنّ ذلك مساوق لجعل القطع لنفس القطع ، وجعل الطريق
لذات الطريق.
وعلى تقدير
التنزّل عن هذا والقول مع من قال : «إنّ القطع شيء له الطريقيّة والكاشفيّة عن
الواقع» ـ كما وقع في تعبيرات بعض الأصوليّين المتأخّرين عن الشيخ ـ فعلى الأقلّ تكون الطريقيّة من لوازم ذاته ، التي لا تنفكّ عنه ، كالزوجيّة
بالنسبة إلى الأربعة. ولوازم الذات كالذات يستحيل أيضا جعلها بالجعل التأليفيّ على
ما هو الحقّ ، وإنّما يكون جعلها بنفس جعل الذات جعلا بسيطا ، لا بجعل آخر وراء
جعل الذات. وقد أوضحنا ذلك في مباحث الفلسفة .
وإذا استحال جعل
الطريقيّة للقطع استحال نفيها عنه ؛ لأنّه كما يستحيل جعل الذات ولوازمها يستحيل
نفي الذات ولوازمها عنها ، وسلبها بالسلب التأليفيّ ؛ بل نحن إنّما نعرف استحالة
جعل الذات والذاتيّ ولوازم الذات بالجعل التأليفيّ ؛ لأنّا نعرف أوّلا امتناع
انفكاك الذات عن نفسها ، وامتناع انفكاك لوازمها عنها ، كما تقدّم بيانه.
على أنّ نفي
الطريقيّة عن القطع يلزم منه التناقض بالنسبة إلى القاطع وفي نظره ، فإنّه ـ مثلا
ـ حينما يقطع بأنّ هذا الشيء واجب ، يستحيل عليه أن يقطع ثانيا بأنّ هذا القطع ليس
طريقا موصلا إلى الواقع ؛ فإنّ معنى هذا أن يقطع ثانيا بأنّ ما قطع بأنّه واجب ليس
بواجب مع فرض بقاء قطعه الأوّل على حاله. وهذا تناقض بحسب نظر القاطع ووجدانه ،
يستحيل أن يقع منه ، حتّى لو كان في الواقع على خطأ في قطعه الأوّل ، ولا يصحّ هذا
إلاّ إذا تبدّل قطعه وزال ، وهذا شيء آخر غير ما نحن في صدده.
والحاصل
أنّ اجتماع
القطعين بالنفي والإثبات محال ، كاجتماع النفي والإثبات ، بل يستحيل في حقّه حتّى
احتمال أنّ قطعه ليس طريقا إلى الواقع ؛ فإنّ هذا الاحتمال مساوق
__________________
لانسلاخ القطع
عنده ، وانقلابه إلى الظنّ ، فما فرض أنّه قطع لا يكون قطعا ، وهو خلف محال.
وهذا الكلام لا
ينافي أن يحتمل الإنسان ، أو يقطع أنّ بعض علومه على الإجمال ـ غير المعيّن في نوع
خاصّ ، ولا في زمن من الأزمنة ـ كان على خطأ ، فإنّه بالنسبة إلى كلّ قطع فعليّ
بشخصه لا يتطرّق إليه الاحتمال بخطئه ، وإلاّ لو اتّفق له ذلك لانسلخ عن كونه قطعا
جازما.
نعم ، لو احتمل
خطأ أحد علوم محصورة ومعيّنة في وقت واحد فإنّه لا بدّ أن ينسلخ كلّها عن كونها
اعتقادا جازما ؛ فإنّ بقاء قطعه في جميعها وتطرّق احتمال خطأ واحد منها لا على
التعيين ، لا يجتمعان.
والخلاصة أنّ القطع يستحيل جعل الطريقيّة له [جعلا] تكوينيّا
وتشريعيّا ، ويستحيل نفيها عنه ، مهما كان السبب الموجب له [ولو كان من خفقان جناح
أو مرور هواء].
وعليه ، فلا يعقل
التصرّف فيه بأسبابه ، كما نسب ذلك إلى بعض الأخباريّين من حكمهم بعدم جواز الأخذ
بالقطع إذا كان سببه من مقدّمات عقليّة ، وقد أشرنا إلى
ذلك في الجزء الثاني .
وكذلك لا يمكن
التصرّف فيه من جهة الأشخاص ، بأن يعتبر قطع شخص ولا يعتبر قطع آخر ، كما قيل بعدم
الاعتبار بقطع القطّاع قياسا على كثير الشكّ الذي حكم شرعا
__________________
بعدم الاعتبار
بشكّه في ترتّب أحكام الشكّ.
وكذلك ، لا يمكن
التصرّف فيه من جهة الأزمنة ، ولا من جهة متعلّقه بأن يفرّق في اعتباره بين ما إذا
كان متعلّقه الحكم فلا يعتبر ، وبين ما إذا كان متعلّقه موضوع الحكم أو متعلّقه
فيعتبر ؛ فإنّ القطع في كلّ ذلك طريقيّته ذاتيّة غير قابلة للتصرّف فيها بوجه من
الوجوه ، وغير قابلة لتعلّق الجعل بها نفيا وإثباتا. وإنّما الذي يصحّ ويمكن أن
يقع في الباب هو أن يلفت نظر الخاطئ في قطعه إلى الخلل في مقدّمات قطعه ، فإذا
تنبّه إلى الخلل في سبب قطعه فلا محالة أنّ قطعه سيتبدّل إمّا إلى احتمال الخلاف
أو إلى القطع بالخلاف ، ولا ضير في ذلك ، وهذا واضح.
تمرينات
(٤٧)
التمرين الأوّل :
١. ما معنى قولهم
: «حجيّة العلم ذاتيّة»؟
٢. بيّن ما علّل
به الشيخ وجوب متابعة القطع؟
٣. ما هو منشأ
المسامحة في التعبير بوجوب متابعة القطع؟
٤. ما معنى كون
القطع طريقا ذاتيّا؟ بيّن وجه استحالة جعل الطريقيّة للقطع ، ووجه استحالة نفيها
عنه.
التمرين الثاني :
١. قال المصنّف : «وهذا
الكلام فيه شيء من الغموض» بيّن وجه الغموض.
٢. اذكر أقوال
المتأخّرين في معنى وجوب متابعة القطع.
٣. اذكر الأقوال
في حقيقة القطع ، واذكر القول الراجح عند المصنّف.
٤. ما الفرق بين
الجعل التأليفي ، والجعل التشريعي؟
٥. ما معنى قولهم
: «الذاتي لا يعلّل»؟
٦. اذكر ما نسب
إلى بعض الأخباريّين في الأخذ بالقطع ، واذكر وجه النظر في هذه النسبة.
٧. من هو القائل
بعدم اعتبار قطع القطّاع؟
٨. موطن حجّيّة
الأمارات
قد أشرنا في مبحث
الإجزاء إلى أنّ جعل الطرق والأمارات يكون في فرض التمكّن من تحصيل
العلم ، وأحلنا بيانه إلى محلّه ، وهذا هو محلّه ، فنقول :
إنّ غرضنا من ذلك
القول هو أنّنا إذ نقول : «إنّ الأمارة حجّة» كخبر الواحد ـ مثلا ـ ، فإنّما نعني
أنّ تلك الأمارة مجعولة حجّة مطلقا ، أي إنّها في
نفسها حجّة مع قطع النظر عن كون الشخص ـ الذي قامت عنده تلك الأمارة ـ متمكّنا من
تحصيل العلم بالواقع أو غير متمكّن منه ، فهي حجّة يجوز الرجوع إليها لتحصيل
الأحكام مطلقا ، حتى في موطن يمكن فيه أن يحصل القطع بالحكم لمن قامت عنده الأمارة
ـ أي كان باب العلم بالنسبة إليه مفتوحا ـ. فمثلا ، إذا قلنا بحجّيّة خبر الواحد
فإنّا نقول : إنّه حجّة حتى في زمان يسع المكلّف أن يرجع إلى المعصوم رأسا ، فيأخذ
الحكم منه مشافهة على سبيل اليقين ، فإنّه في هذا الحال لو كان خبر الواحد حجّة
يجوز للمكلّف أن يرجع إليه ، ولا يجب عليه أن يرجع إلى المعصوم.
وعلى هذا ، فلا
يكون موطن حجّيّة الأمارات خصوص مورد تعذّر حصول العلم ، أو امتناعه ، ـ أي ليس في
خصوص مورد انسداد باب العلم ـ بل الأعمّ من ذلك ، فيشمل حتى موطن التمكّن من تحصيل
العلم وانفتاح بابه.
نعم ، مع حصول
العلم بالواقع فعلا لا يبقى موضع للرجوع إلى الأمارة ، بل لا معنى لحجّيّتها حينئذ
، لا سيّما مع مخالفتها للعلم ؛ لأنّ معنى ذلك انكشاف خطئها.
ومن هنا كان هذا
الأمر موضع حيرة الأصوليّين وبحثهم ؛ إذ للسائل ـ كما سيأتي ـ أن يسأل : كيف جاز
أن تفرضوا صحّة الرجوع إلى الأمارات الظنّيّة مع انفتاح باب العلم بالأحكام ؛ إذ
قد يوجب سلوكها تفويت الواقع عند خطئها؟! ولا يحسن من الشارع أن يأذن بتفويت
الواقع مع التمكّن من تحصيله ، بل ذلك قبيح يستحيل في حقّه.
__________________
ولأجل هذا السؤال
المحرّج سلك الأصوليّون عدّة طرق للجواب عنه ، وتصحيح جعل حجّيّة الأمارات. وسيأتي
بيان هذه الطرق والصحيح منها في المبحث (١٢) .
وغرضنا من ذكر هذا
التنبيه هو أنّ هذا التصحيح شاهد على ما أردنا الإشارة إليه هنا ، من أنّ موطن
حجّيّة الأمارات وموردها ما هو أعمّ من فرض التمكّن من تحصيل العلم وانفتاح بابه
ومن فرض انسداد بابه.
ومن هنا نعرف وجه
المناقشة في استدلال بعضهم على حجّيّة خبر الواحد ، بالخصوص بدليل انسداد باب
العلم ، كما صنع صاحب المعالم ، فإنّه لمّا كان المقصود إثبات حجّيّة خبر الواحد في نفسه
ـ حتى مع فرض انفتاح باب العلم ـ لا يبقى معنى للاستدلال على حجّيّته بدليل
الانسداد.
على أنّ دليل
الانسداد إنّما يثبت به حجّيّة مطلق الظنّ من حيث هو ظنّ ـ كما سيأتي بيانه ـ ، فلا يثبت به حجّيّة ظنّ خاصّ بما هو ظنّ خاصّ.
نعم ، استدلّ
بعضهم على حجّيّة خبر الواحد بدليل الانسداد الصغير ، ولا يبعد
صحّة ذلك ، ويعنون به انسداد باب العلم في خصوص الأخبار التي بأيدينا التي نعلم
على الإجمال بأنّ بعضها موصل إلى الواقع ومحصّل له ، ولا يتميّز الموصل إلى الواقع
من غيره ، مع انحصار السنّة في هذه الأخبار التي بأيدينا ؛ وحينئذ نلتجئ إلى الاكتفاء
بما يفيد الظنّ والاطمئنان من هذه الأخبار ، وهذا ما نعنيه بخبر الواحد.
والفرق بين دليل
الانسداد الكبير والصغير أنّ الكبير هو انسداد باب العلم في جميع
__________________
الأحكام من جهة
السنّة وغيرها ، والصغير هو انسداد باب العلم [من جهة] السنّة مع انفتاح باب العلم
في الطرق الأخرى ، والمفروض أنّه ليس لدينا إلاّ هذه الأخبار التي لا يفيد أكثرها
العلم ، وبعضها حجّة قطعا وموصل إلى الواقع.
تمرينات
(٤٨)
التمرين الأوّل :
١. ما هو موطن
حجيّة الأمارات؟
٢. بيّن وجه
المناقشة في استدلال صاحب المعالم على حجيّة خبر الواحد بدليل الانسداد.
٣. بيّن استدلال
الشيخ الأنصاري على حجيّة خبر الواحد بدليل الانسداد الصغير.
٤. ما الفرق بين
دليل الانسداد الكبير والصغير؟
التمرين الثاني :
١. ما هو رأي
المحقّق النائينيّ في الفرق بين الانسداد الكبير والصغير؟ وما هو رأي المحقّق
العراقي في ذلك؟
__________________
٩. الظنّ الخاصّ
والظنّ المطلق
تكرّر منّا
التعبير بالظنّ الخاصّ والظنّ المطلق ، وهو اصطلاح للأصوليّين المتأخّرين ، فينبغي
بيان ما يعنون بهما ، فنقول :
١. يراد من الظنّ
الخاصّ كلّ ظنّ قام دليل قطعيّ على حجّيّته واعتباره بخصوصه غير دليل الانسداد
الكبير.
وعليه ، فيكون
المراد منه الأمارة التي هي حجّة مطلقا ، حتى مع انفتاح باب العلم ، ويسمّى أيضا «الطريق
العلميّ» ، نسبة إلى العلم باعتبار قيام العلم على حجّيّته ، كما تقدّم .
٢. يراد من الظنّ
المطلق كلّ ظنّ قام دليل الانسداد الكبير على حجّيّته واعتباره ، فيكون المراد منه
الأمارة التي هي حجّة في خصوص حالة انسداد باب العلم والعلميّ ، أي انسداد باب نفس
العلم بالأحكام ، وباب الطرق العلميّة المؤدّية إليها.
ونحن في هذا
المختصر لا نبحث إلاّ عن الظنون الخاصّة فقط ، أمّا الظنون المطلقة فلا نتعرّض لها
؛ لثبوت حجّيّة جملة من الأمارات المغنية عندنا عن فرض انسداد باب العلم والعلميّ
، فلا تصل النوبة إلى هذا الفرض حتى نبحث عن دليل الانسداد لإثبات حجّيّة مطلق
الظنّ.
ولكن بعد أن
انتهينا إلى هنا ينبغي ألاّ يخلو هذا المختصر من الإشارة إلى مقدّمات دليل
الانسداد على نحو الاختصار ؛ تنويرا لذهن الطالب ، فنقول :
١٠. مقدّمات دليل
الانسداد
إنّ الدليل
المعروف بـ «دليل الانسداد» يتألّف من مقدّمات أربع ، إذا تمّت يترتّب عليها حكم
العقل بلزوم العمل بما قام عليه الظنّ في الأحكام ، أيّ ظنّ كان ، عدا الظنّ
الثابت فيه ـ على نحو القطع ـ عدم جواز العمل به كالقياس مثلا.
__________________
ونحن نذكر
بالاختصار هذه المقدّمات :
١.
المقدّمة الأولى : دعوى انسداد باب العلم والعلميّ في معظم أبواب الفقه في عصورنا المتأخّرة عن
عصر أئمّتنا عليهمالسلام. وقد علمت أنّ أساس المقدّمات كلّها هي هذه المقدّمة ، وهي
دعوى قد ثبت عندنا عدم صحّتها ؛ لثبوت انفتاح باب الظنّ الخاصّ ، بل العلم في معظم
أبواب الفقه ، فانهار هذا الدليل من أساسه.
٢.
المقدّمة الثانية : أنّه لا يجوز إهمال امتثال الأحكام الواقعيّة المعلومة إجمالا ، ولا يجوز
طرحها في مقام العمل. وإهمالها وطرحها يقع بفرضين : إمّا بأن نعتبر أنفسنا
كالبهائم والأطفال لا تكليف علينا ؛ وإمّا بأن نرجع إلى أصالة البراءة ، وأصالة
عدم التكليف في كلّ موضع لا يعلم وجوبه وحرمته. وكلا الفرضين ضروريّ البطلان.
٣.
المقدّمة الثالثة : أنّه بعد فرض وجوب التعرّض للأحكام المعلومة إجمالا فإنّ الأمر لتحصيل فراغ
الذمّة منها يدور بين حالات أربع ، لا خامسة لها :
أ : تقليد من يرى
انفتاح باب العلم.
ب : الأخذ
بالاحتياط في كلّ مسألة.
ج : الرجوع إلى
الأصل العمليّ الجاري في كلّ مسألة ، من نحو البراءة ، والاحتياط ، والتخيير
والاستصحاب ، حسبما يقتضيه حال المسألة.
د : الرجوع إلى
الظنّ في كلّ مسألة فيها ظنّ بالحكم ، وفيما عداها يرجع إلى الأصول العمليّة.
ولا يصحّ الأخذ
بالحالات الثلاث الأولى ، فتتعيّن الرابعة.
أمّا الأولى : ـ وهي
تقليد الغير في انفتاح باب العلم ـ فلا يجوز ؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف يعتقد
بالانسداد ، فكيف يصحّ له الرجوع إلى من يعتقد بخطئه وأنّه على جهل؟!.
وأمّا الثانية : ـ
وهي الأخذ بالاحتياط ـ فإنّه يلزم منه العسر والحرج الشديدان ، بل يلزم اختلال
النظام لو كلّف جميع المكلّفين بذلك.
وأمّا الثالثة : ـ
وهي الأخذ بالأصل الجاري ـ فلا يصحّ أيضا ؛ لوجود العلم الإجماليّ
__________________
بالتكاليف ، ولا
يمكن ملاحظة كلّ مسألة على حدة ، غير منضمّة إلى غيرها من المسائل الأخرى المجهولة
الحكم. والحاصل أنّ وجود العلم الإجماليّ بوجود المحرّمات والواجبات في جميع
المسائل المشكوكة الحكم يمنع من إجراء أصل البراءة ، والاستصحاب ، ولو في بعضها.
٤.
المقدّمة الرابعة : أنّه ـ بعد أن أبطلنا الرجوع إلى الحالات الثلاث ـ ينحصر الأمر في الرجوع
إلى الحالة الرابعة في المسائل التي يقوم فيها الظنّ ، وفيها يدور الأمر بين
الرجوع إلى الطرف الراجح في الظنّ ، وبين الرجوع إلى الطرف المرجوح ـ أي الموهوم
ـ. ولا شكّ في أنّ الأخذ بطرف المرجوح ترجيح للمرجوح على الراجح ، وهو قبيح عقلا.
وعليه ، فيتعيّن
الأخذ بالظنّ ما لم يقطع بعدم جواز الأخذ به ، كالقياس ، وهو المطلوب.
وفي فرض الظنّ
المقطوع بعدم حجيّته يرجع إلى الأصول العمليّة ، كما يرجع إليها في المسائل
المشكوكة التي لا يقوم فيها ظنّ أصلا.
ولا ضير حينئذ
بالرجوع إلى الأصول العمليّة ؛ لانحلال العلم الإجماليّ بقيام الظنّ في معظم
المسائل الفقهيّة إلى علم تفصيليّ بالأحكام التي قامت عليها الحجّة ، وشكّ بدويّ
في الموارد الأخرى ، فتجري فيها الأصول.
هذه خلاصة «مقدّمات
دليل الانسداد» ، وفيها أبحاث دقيقة ، طويلة الذيل ، لا حاجة لنا بها ، ويكفي عنها ما ذكرناه بالاختصار.
تمرينات
(٤٩)
١. ما المراد من
الظن الخاصّ والظنّ المطلق؟
٢. ما هي مقدّمات
دليل الانسداد؟
__________________
١١. اشتراك الأحكام
بين العالم والجاهل
قام إجماع
الإماميّة على أنّ أحكام الله (تعالى) مشتركة بين العالم والجاهل بها ، أي إنّ حكم
الله ثابت لموضوعه في الواقع ، سواء علم به المكلّف أم لم يعلم ، فإنّه مكلّف به
على كلّ حال. فالصّلاة ـ مثلا ـ واجبة على جميع المكلّفين ، سواء علموا بوجوبها أم
جهلوه ، فلا يكون العلم دخيلا في ثبوت الحكم أصلا.
وغاية ما نقوله في
دخالة العلم في التكليف دخالته في تنجّز الحكم التكليفيّ ، بمعنى أنّه لا يتنجّز
على المكلّف على وجه يستحقّ على مخالفته العقاب إلاّ إذا علم به ، سواء كان العلم
تفصيليّا أو إجماليّا أو قامت لديه حجّة معتبرة على الحكم تقوم مقام العلم.
فالعلم أو ما يقوم
مقامه يكون ـ على ما هو التحقيق ـ شرطا لتنجّز التكليف ، لا علّة تامّة ؛ خلافا
للشيخ الآخوند صاحب الكفاية قدسسره ؛ فإذا لم يحصل العلم ولا ما يقوم مقامه بعد الفحص واليأس لا
يتنجّز عليه التكليف الواقعيّ ، يعني لا يعاقب المكلّف لو وقع في مخالفته عن جهل ،
وإلاّ لكان العقاب عليه عقابا بلا بيان ، وهو قبيح عقلا ، وسيأتي إن شاء الله (تعالى)
في أصل البراءة شرح ذلك.
وفي قبال هذا
القول زعم من يرى أنّ الأحكام إنّما تثبت لخصوص العالم بها ، أو من قامت عنده
الحجّة ، فمن لم يعلم بالحكم ولم تقم لديه الحجّة عليه لا حكم في حقّه حقيقة وفي
الواقع.
__________________
ومن هؤلاء من يذهب
إلى تصويب المجتهد ؛ إذ يقول : «إنّ كلّ مجتهد مصيب» . وسيأتي بيانه في محلّه إن شاء الله (تعالى) في هذا الجزء .
وعن الشيخ
الأنصاريّ رحمهالله ، وعن غيره أيضا ـ كصاحب الفصول رحمهالله ـ : أنّ أخبارنا متواترة معنى في اشتراك الأحكام بين
العالم والجاهل. وهو كذلك. والدليل على هذا الاشتراك ـ مع قطع النظر عن الإجماع
وتواتر الأخبار ـ واضح ، وهو أن نقول :
١. إنّ الحكم لو
لم يكن مشتركا لكان مختصّا بالعالم به ؛ إذ لا يجوز أن يكون مختصّا بالجاهل به ،
وهو واضح.
٢. وإذا ثبت أنّه
مختصّ بالعالم به فإنّ معناه تعليق الحكم على العلم به.
٣. ولكن تعليق
الحكم على العلم به محال ؛ لأنّه يلزم منه الخلف.
٤. إذن يتعيّن أن
يكون مشتركا بين العالم والجاهل.
بيان لزوم الخلف
أنّه لو كان الحكم معلّقا على العلم به ، كوجوب الصلاة ـ مثلا ـ ، فإنّه يلزم ـ بل
هو نفس معنى التعليق ـ عدم الوجوب لطبيعيّ الصلاة ؛ إذ الوجوب يكون حسب الفرض
للصلاة المعلومة الوجوب بما هي معلومة الوجوب ، بينما أنّ تعلّق العلم بوجوب
الصلاة لا يمكن فرضه إلاّ إذا كان الوجوب متعلّقا بطبيعيّ الصلاة. فما فرضناه
متعلّقا بطبيعيّ الصلاة لم يكن متعلّقا بطبيعيّها ، بل بخصوص المعلومة الوجوب.
وهذا هو الخلف المحال.
وببيان آخر في وجه
استحالة تعليق الحكم على العلم به ، نقول :
إنّ تعليق الحكم
على العلم به يستلزم المحال ، وهو استحالة العلم بالحكم ، والذي يستلزم المحال
محال ، فيستحيل نفس الحكم. وذلك لأنّه قبل حصول العلم لا حكم
__________________
ـ حسب الفرض ـ فإذا
أراد أن يعلم ، يعلم بما ذا؟ فلا يعقل حصول العلم لديه بغير متعلّق مفروض الحصول ،
وإذا استحال حصول العلم استحال حصول الحكم المعلّق عليه ؛ لاستحالة ثبوت الحكم
بدون موضوعه. وهو واضح.
وعلى هذا ،
فيستحيل تقييد الحكم بالعلم به. وإذا استحال ذلك ، تعيّن أن يكون الحكم مشتركا بين
العالم والجاهل ، ـ أي [القول] بثبوته واقعا في صورتي العلم والجهل ـ ، وإن كان
الجاهل القاصر معذورا ، أي إنّه لا يعاقب على المخالفة. وهذا شيء آخر غير نفس عدم
ثبوت الحكم في حقّه.
ولكنّه قد يستشكل
في استكشاف اشتراك الأحكام من هذا الدليل بما تقدّم منّا في الجزء الأوّل ، من أنّ الإطلاق والتقييد متلازمان في مقام الإثبات ؛ لأنّهما من قبيل العدم
والملكة ، فإذا استحال التقييد في مورد استحال معه الإطلاق أيضا. فكيف ـ إذن ـ نستكشف
اشتراك الأحكام من إطلاق أدلّتها لامتناع تقييدها بالعلم؟! ، والإطلاق كالتقييد
محال بالنسبة إلى قيد العلم في أدلّة الأحكام.
وقد أصرّ شيخنا
النائينيّ رحمهالله على امتناع الإطلاق في ذلك ، وقال ـ بما محصّله ـ : إنّه
لا يمكن أن نحكم بالاشتراك من نفس أدلّة الأحكام ، بل لا بدّ لإثباته من دليل آخر
سمّاه «متمّم الجعل» ، على أن يكون الاشتراك من باب «نتيجة الإطلاق» ، كاستفادة
تقييد الأمر العباديّ بقصد الامتثال من دليل ثان متمّم للجعل ، على أن يكون ذلك من
باب «نتيجة التقييد» ، وكاستفادة تقييد وجوب الجهر ، والإخفات ، والقصر ، والإتمام
بالعلم بالوجوب من دليل آخر متمّم للجعل ، على أن يكون ذلك أيضا من باب «نتيجة
التقييد».
وقال ـ بما خلاصته
ـ : «يمكن استفادة الإطلاق في المقام من الأدلّة التي ادّعى الشيخ الأنصاريّ
تواترها ، فتكون هي المتمّمة للجعل».
أقول : ويمكن
الجواب عن الإشكال المذكور ـ بما محصّله ـ : إنّ هذا الكلام صحيح لو كانت استفادة
اشتراك الأحكام متوقّفة على إثبات إطلاق أدلّتها بالنسبة إلى العالم بها ،
__________________
غير أنّ المطلوب
الذي ينفعنا هو نفس عدم اختصاص الأحكام بالعالم على نحو السالبة المحصّلة ، فيكون
التقابل بين اشتراك الأحكام واختصاصها بالعالم من قبيل تقابل السلب والإيجاب ، لا
من باب تقابل العدم والملكة ؛ لأنّ المراد من الاشتراك نفس عدم الاختصاص بالعالم.
وهذا السلب يكفي
في استفادته من أدلّة الأحكام نفس إثبات امتناع الاختصاص ، ولا يحتاج إلى مئونة زائدة لإثبات الإطلاق ، أو إثبات نتيجة الإطلاق بمتمّم الجعل من إجماع أو
أدلّة أخرى ؛ لأنّه من نفس امتناع التقييد نعلم أنّ الحكم مشترك ، لا يختصّ
بالعالم.
نعم ، يتمّ ذلك
الإشكال لو كان امتناع التقييد ليس إلاّ من جهة بيانيّة ، وفي مرحلة الإنشاء في
دليل نفس الحكم ، وإن كان واقعه يمكن أن يكون مقيّدا ، أو مطلقا ، مع قطع النظر عن
أدائه باللفظ ؛ فإنّه ـ حينئذ ـ لا يمكن بيانه بنفس دليله الأوّل ، فنحتاج إلى
استكشاف الواقع المراد من دليل آخر ، نسمّيه «متمّم الجعل» : ولأجل ذلك نسمّيه بـ «المتمّم
للجعل» ، فتحصل لنا نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد ، من دون أن يحصل تقييد أو
إطلاق المفروض أنّهما مستحيلان ، كما كان الحال في تقييد الوجوب بقصد الامتثال في
الواجب التعبّديّ.
أمّا لو كان نفس
الحكم واقعا ـ مع قطع النظر عن أدائه بأيّة عبارة كانت ، كما فيما نحن فيه ـ يستحيل
تقييده ، سواء أدّى ذلك ببيان واحد ، أو ببيانين ، أو بألف بيان ؛ فإنّ واقعه لا
محالة ينحصر في حالة واحدة ، وهو أن يكون في نفسه شاملا لحالتي وجود القيد المفروض
وعدمه.
وعليه ، فلا حاجة
في مثله إلى استكشاف الاشتراك من نفس إطلاق دليله الأوّل ، ولا من دليل ثان متمّم
للجعل. ولا نمانع أن نسمّي ذلك «نتيجة الإطلاق» إذا حلا لكم هذا التعبير.
ويبقى الكلام ـ حينئذ
ـ في وجه تقييد وجوب الجهر ، والإخفات ، والقصر ، والإتمام
__________________
بالعلم ، مع فرض
امتناعه ، حتى بمتمّم الجعل ، والمفروض أنّ هذا التقييد ثابت في الشريعة ، فكيف
تصحّحون ذلك؟! فنقول :
إنّه لمّا امتنع
تقييد الحكم بالعلم فلا بدّ أن نلتمس توجيها لهذا الظاهر من الأدلّة ، وينحصر
التوجيه في أن نفرض أن يكون هذا التقييد من باب إعفاء الجاهل بالحكم في هذين
الموردين عن الإعادة ، والقضاء ، وإسقاطهما عنه ، اكتفاء بما وقع ، كإعفاء الناسي
، وإن كان الوجوب واقعا غير مقيّد بالعلم. والإعادة والقضاء بيد الشارع رفعهما
ووضعهما.
ويشهد لهذا
التوجيه أنّ بعض الروايات ـ في البابين ـ عبّرت بسقوط الإعادة عنه ، كالرواية عن
أبي جعفر عليهالسلام فيمن صلّى في السفر أربعا : «إن كان قرئت عليه آية التقصير
، وفسّرت له فصلّى أربعا أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه ،
ولم يعلمها فلا إعادة».
تمرينات
(٥٠)
١. اذكر أقوال
العلماء في اشتراك الأحكام ، وعدمه.
٢. ما الدليل على
الاشتراك ـ بعد الإجماع وتواتر الأخبار ـ؟ واذكر الجواب عن الإشكال الذي قد يرد
عليه.
٣. ما هو مراد
العلاّمة النائيني من دليل متمّم الجعل؟
٤. ما هو التوجيه
في تقييد وجوب الجهر والإخفات ، والقصر والإتمام بالعلم؟
__________________
١٢. تصحيح جعل
الأمارة
بعد ما ثبت أنّ
جعل الأمارة يشمل فرض انفتاح باب العلم ـ مع ما ثبت من اشتراك الأحكام بين العالم
والجاهل ـ تنشأ «شبهة عويصة» في صحّة جعل الأمارة قد أشرنا إليها فيما سبق ، وهي أنّه في فرض التمكّن من تحصيل الواقع والوصول إليه كيف جاز أن يأذن
الشارع باتّباع الأمارة الظنّية ، وهي ـ حسب الفرض ـ تحتمل الخطأ المفوّت للواقع ،
والإذن في تفويته قبيح عقلا ؛ لأنّ الأمارة لو كانت دالّة على جواز الفعل ـ مثلا ـ
وكان الواقع هو الوجوب أو الحرمة ، فإنّ الإذن باتّباع الأمارة ـ في هذا الفرض ـ يكون
إذنا بترك الواجب ، أو فعل الحرام ، مع أنّ الفعل لا يزال باقيا على وجوبه
الواقعيّ ، أو حرمته الواقعيّة ، مع تمكّن المكلّف من الوصول إلى معرفة الواقع حسب
الفرض ، ولا شكّ في قبح ذلك من الحكيم؟!
وهذه الشبهة هي
التي ألجأت بعض الأصوليّين إلى القول بأنّ الأمارة مجعولة على نحو «السببيّة» ، إذ عجزوا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو «الطريقيّة» التي هي الأصل في
الأمارة على ما سيأتي شرح ذلك قريبا.
والحقّ
معهم ؛ إذا نحن
عجزنا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو الطريقيّة ؛ لأنّ المفروض أنّ الأمارة قد ثبتت
حجّيّتها قطعا ، فلا بدّ أن يفرض ـ حينئذ ـ في قيام الأمارة ، أو في اتّباعها
مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير خطئها ، حتى لا يكون إذن
الشارع بتفويت الواقع قبيحا ، ما دام أنّ تفويته له يكون لمصلحة أقوى وأجدى أو مساوية لمصلحة الواقع ، فينشأ على طبق مؤدّى الأمارة حكم ظاهريّ بعنوان أنّه
الواقع ، إمّا أن يكون مماثلا للواقع عند الإصابة ، أو مخالفا له عند الخطأ.
__________________
ونحن ـ بحمد الله (تعالى)
ـ نرى أنّ الشبهة يمكن دفعها على تقدير الطريقيّة ، فلا حاجة إلى فرض السببيّة.
والوجه في دفع
الشبهة أنّه بعد أن فرضنا أنّ القطع قام على أنّ الأمارة الكذائيّة ، كخبر الواحد
حجّة يجوز اتّباعها مع التمكّن من تحصيل العلم ، فلا بدّ أن يكون الإذن من الشارع
ـ العالم بالحقائق الواقعيّة ـ لأمر علم به ، وغاب عنّا علمه. ولا يخرج هذا الأمر
عن أحد شيئين ، لا ثالث لهما ، وكلّ منهما جائز عقلا ، لا مانع منه :
١. أن يكون قد علم
بأنّ إصابة الأمارة للواقع مساوية لإصابة العلوم التي تتّفق للمكلّفين ، أو أكثر
منها ، بمعنى أنّ العلوم التي يتمكّن المكلّفون من تحصيلها يعلم الشارع بأنّ خطأها
سيكون مساويا لخطأ الأمارة المجعولة ، أو أكثر خطأ منها.
٢. أن يكون قد علم
بأنّ في عدم جعل أمارات خاصّة لتحصيل الأحكام ، والاقتصار على العلم ، تضييقا على
المكلّفين ومشقّة عليهم ، لا سيّما بعد أن كانت تلك الأمارات قد اعتادوا سلوكها
والأخذ بها في شئونهم الخاصّة وأمورهم الدنيويّة ، وبناء العقلاء كلّهم كان عليها.
وهذا الاحتمال
الثاني قريب إلى التصديق جدّا ؛ فإنّه لا نشكّ في أنّ تكليف كلّ واحد من الناس
بالرجوع إلى المعصوم أو الأخبار المتواترة في تحصيل جميع الأحكام أمر ، فيه ما لا
يوصف من الضيق والمشقّة ، لا سيّما أنّ ذلك على خلاف ما جرت عليه طريقتهم في معرفة
ما يتعلّق بشئونهم الدنيويّة.
وعليه ، فمن
القريب ـ جدّا ـ أنّ الشارع إنّما رخّص في اتّباع الأمارات الخاصّة لغرض تسهيل
الأخذ بأحكامه ، والوصول إليها. ومصلحة التسهيل من المصالح النوعيّة المتقدّمة في
نظر الشارع على المصالح الشخصيّة التي قد تفوت أحيانا على بعض المكلّفين عند العمل
بالأمارة لو أخطأت. وهذا أمر معلوم من طريقة الشريعة الإسلاميّة التي بنيت في
تشريعها على التيسير والتسهيل.
__________________
وعلى التقديرين
والاحتمالين ؛ فإنّ الشارع في إذنه باتّباع الأمارة ـ طريقا إلى الوصول إلى الواقع
من أحكامه ـ لا بدّ أن يفرض فيه أنّه قد تسامح في التكاليف الواقعيّة عند خطأ
الأمارة ـ أي إنّ الأمارة تكون معذّرة للمكلّف ، فلا يستحقّ العقاب في مخالفة
الحكم ، كما لا يستحقّ ذلك عند المخالفة في خطأ القطع ـ ، لا أنّه بقيام الأمارة
يحدث حكم آخر ثانويّ ، بل شأنها في هذه الجهة شأن القطع ، بلا فرق.
ولذا ، إنّ الشارع
ـ في الموارد التي يريد فيها المحافظة على تحصيل الواقع على كلّ حال ـ أمر باتّباع
الاحتياط ، ولم يكتف بالظنون فيها ، وذلك كموارد الدماء ، والفروج.
١٣. الأمارة طريق
أو سبب؟
قد أشرنا في البحث
السابق إلى مذهبي السببيّة والطريقيّة في الأمارة ، وقد عقدنا هذا البحث لبيان هذا
الخلاف ؛ فإنّ ذلك من الأمور التي وقعت أخيرا موضع البحث ، والردّ والبدل عند
الأصوليّين ، فاختلفوا في أنّ الأمارة هل هي حجّة مجعولة على نحو الطريقيّة ، أو
أنّها حجّة مجعولة على نحو السببيّة ، أي إنّها طريق أو سبب؟
والمقصود من كونها
«طريقا» أنّها مجعولة لتكون موصلة فقط إلى الواقع للكشف عنه ؛ فإن أصابته فإنّه
يكون منجّزا بها وهي منجّزة له ، وإن أخطأته فإنّها حينئذ تكون صرف معذّرة للمكلّف
في مخالفة الواقع.
والمقصود من كونها
«سببا» أنّها تكون سببا لحدوث مصلحة في مؤدّاها تقاوم تفويت مصلحة الأحكام
الواقعيّة على تقدير الخطأ ، فينشئ الشارع حكما ظاهريّا على طبق ما أدّت إليه
الأمارة.
والحقّ
أنها مأخوذة على
نحو «الطريقيّة».
والسرّ في ذلك
واضح بعد ما تقدّم ؛ فإنّ القول بالسببيّة ـ كما قلنا ـ مترتّب على القول
بالطريقيّة ، يعني أنّ منشأ قول من قال بالسببيّة هو العجز عن تصحيح جعل الطرق على
__________________
نحو الطريقيّة ،
فيلتجئ إلى فرض السببيّة.
أمّا : إذا أمكن
تصحيح الطريقيّة فلا يبقى دليل على السببيّة ، ويتعيّن كون الأمارة طريقا محضا ؛
لأنّ الطريقيّة هي الأصل فيها.
ومعنى أنّ
الطريقيّة هي الأصل أنّ طبع الأمارة ـ لو خلّيت ونفسها ـ يقتضي أن تكون طريقا محضا
إلى مؤدّاها ؛ لأنّ لسانها التعبير عن الواقع ، والحكاية والكشف عنه ؛ على أنّ
العقلاء إنّما يعتبرونها ، ويستقرّ بناؤهم عليها ، لأجل كشفها عن الواقع ، ولا
معنى لأن يفرض في بناء العقلاء أنّه على نحو السببيّة ، وبناء العقلاء هو الأساس
الأوّل في حجّيّة الأمارة ، كما سيأتي.
نعم ، إذا منع
مانع عقليّ من فرض الأمارة طريقا من جهة الشبهة المتقدّمة أو نحوها ، فلا بدّ أن
تخرج على خلاف طبعها ، ونلتجئ إلى فرض السببيّة.
ولمّا كنّا دفعنا
الشبهة في جعلها على نحو الطريقيّة فلا تصل النوبة إلى التماس دليل على سببيّتها ،
أو طريقيّتها ؛ إذ لا موضع للترديد والاحتمال لنحتاج إلى الدليل ، هذا.
وقد يلتمس الدليل
على السببيّة من نفس دليل حجّيّة الأمارة ، بأن يقال : إنّ دليل الحجّيّة لا شكّ
أنّه يدلّ على وجوب اتّباع الأمارة. ولمّا كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في
متعلّقاتها فلا بدّ أن تكون في اتّباع الأمارة مصلحة تقتضي وجوب اتّباعها ، وإن
كانت على خطأ في الواقع. وهذه هي السببيّة بعينها.
أقول : والجواب عن ذلك واضح ؛ فإنّا نسلّم أنّ الأحكام تابعة
للمصالح والمفاسد ، ولكن لا يلزم في المقام أن تكون في نفس اتّباع الأمارة مصلحة ،
بل يكفي أن ينبعث الوجوب من نفس مصلحة الواقع ، فيكون جعل وجوب اتّباع الأمارة
لغرض تحصيل مصلحة الواقع ، بل يجب أن يكون الحال فيها كذلك ؛ لأنّه لا شكّ أنّ
الغرض من جعل الأمارة هو الوصول بها إلى الواقع ، فالمحافظة على الواقع والوصول
إليه هو الباعث على جعل الأمارة ؛ لغرض تنجيزه وتحصيله ، فيكون الأمر باتّباع
الأمارة طريقا إلى تحصيل الواقع.
ولذا نقول : إذا
لم تصب الواقع لا تكليف هناك ، ولا تدارك لما فات من الواقع ، وما هي
__________________
إلاّ المعذّريّة
في مخالفته ، ورفع العقاب على المخالفة ، لا أكثر ، وهذه المعذّريّة يقتضيها نفس
الرخصة في اتّباع الأمارة التي قد تخطأ.
وعلى هذا ، فليس
لهذا الأمر الطريقيّ المتعلّق باتّباع الأمارة ـ بما هو أمر طريقيّ ـ مخالفة ، ولا
موافقة ؛ لأنّه في الحقيقة ليس فيه جعل للداعي إلى الفعل الذي هو مؤدّى الأمارة
مستقلاّ عن الأمر الواقعيّ ؛ وإنّما هو جعل للأمارة ؛ منجّزة للأمر الواقعيّ ، فهو
موجب لدعوة الأمر الواقعيّ ، فلا بعث حقيقيّ في مقابل البعث الواقعيّ ، فلا تكون
له مصلحة إلاّ مصلحة الواقع ، ولا طاعة غير طاعة الواقع. إذ لا بعث فيه إلاّ بعث
الواقع.
١٤. المصلحة
السلوكيّة
ذهب الشيخ
الأنصاريّ قدسسره إلى فرض المصلحة السلوكيّة في الأمارات ؛ لتصحيح جعلها ـ كما
تقدّمت الإشارة إلى ذلك في مبحث الإجزاء ـ ، وحمل عليه
كلام الشيخ الطوسيّ في «العدّة» والعلاّمة في «النهاية».
وإنّما ذهب إلى
هذا الفرض ؛ لأنّه لم يتمّ عنده تصحيح جعل الأمارة على نحو الطريقيّة المحضة ،
ووجد أيضا أنّ القول بالسببيّة المحضة يستلزم القول بالتصويب المجمع على بطلانه
عند الإماميّة ، ، فسلك طريقا وسطا ، لا يذهب به إلى الطريقيّة المحضة ،
ولا إلى السببيّة المحضة ، وهو أن يفرض المصلحة في نفس سلوك الأمارة وتطبيق العمل
على ما أدّت إليه ، وبهذه المصلحة يتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع عند الخطأ ؛
فتكون الأمارة من ناحية لها شأن الطريقيّة إلى الواقع ، ومن ناحية أخرى لها شأن
السببيّة.
وغرضه من فرض
المصلحة السلوكيّة أنّ نفس سلوك طريق الأمارة والاستناد إليها في العمل بمؤدّاها
فيه مصلحة تعود لشخص المكلّف ، يتدارك بها ما يفوته من مصلحة
__________________
الواقع عند الخطأ
، من دون أن تحدث في نفس المؤدّى ـ أي في ذات الفعل والعمل ـ مصلحة ، حتى تستلزم
إنشاء حكم آخر غير الحكم الواقعيّ على طبق ما أدّت إليه الأمارة الذي هو نوع من
التصويب.
قال رحمهالله في رسائله فيما قال : «ومعنى وجوب العمل على طبق الأمارة وجوب ترتيب أحكام
الواقع على مؤدّاها ، من دون أن تحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع».
ولا ينبغي أن
يتوهّم أنّ القول بالمصلحة السلوكيّة هو نفس ما ذكرناه في أحد وجهي تصحيح
الطريقيّة من فرض مصلحة التسهيل ؛ لأنّ الغرض من القول بالمصلحة السلوكيّة أن تحدث
مصلحة في سلوك الأمارة ، تعود تلك المصلحة لشخص المكلّف لتدارك ما يفوته من مصلحة
الواقع ، بينما أنّ غرضنا من مصلحة التسهيل مصلحة نوعيّة قد لا تعود لشخص من قامت
عنده الأمارة ، وتلك المصلحة النوعيّة مقدّمة في مقام المزاحمة عند الشارع على
مصلحة الواقع التي قد تفوت على شخص المكلّف.
وإذا اتّضح الفرق
بينهما ، نقول : إنّ القول بالمصلحة السلوكيّة وفرضها يأتي بالمرتبة الثانية للقول
بمصلحة التسهيل ، يعني : أنّه إذا لم تثبت عندنا مصلحة التسهيل ، أو قلنا بعدم
تقديم المصلحة النوعيّة على المصلحة الشخصيّة ، ولم يصح عندنا أيضا احتمال مساواة
خطأ الأمارات للعلوم فإنّا نلتجئ إلى ما سلكه الشيخ من المصلحة السلوكيّة ؛ إذا
استطعنا تصحيحها ؛ فرارا من الوقوع في التصويب الباطل.
__________________
وأمّا نحن ، فإذ
ثبت عندنا أنّ هناك مصلحة التسهيل في جعل الأمارة تفوق المصالح الشخصيّة ومقدّمة
عليها عند الشارع أصبحنا في غنى عن فرض المصلحة السلوكيّة ؛ على أنّ المصلحة
السلوكيّة إلى الآن لم نتحقّق مراد الشيخ منها ، ولم نجد الوجه لتصحيحها في نفسها
؛ فإنّ في عبارته شيئا من الاضطراب والإيهام ، وكفى أن تقع في بعض النسخ زيادة
كلمة «الأمر» على قوله : «إلاّ أنّ العمل على طبق تلك الأمارة» ، فتصير العبارة
هكذا «إلاّ أنّ الأمر بالعمل ...» ، فلا يدرى مقصوده
، هل إنّه في نفس العمل مصلحة سلوكيّة أو في الأمر به؟. وقيل : «إنّ هذا التصحيح
وقع من بعض تلامذته ؛ إذ أوكل إليه أمر تصحيح العبارة بعد مناقشات تلاميذه لها في
مجلس البحث».
وعلى كلّ حال ،
فالظاهر أنّ الفارق عنده بين السببيّة المحضة وبين المصلحة السلوكيّة ـ بمقتضى
عبارته قبل التصحيح المذكور ـ أنّ المصلحة على الأوّل تكون قائمة بذات الفعل ،
وعلى الثاني قائمة بعنوان آخر هو السلوك ، فلا تزاحم مصلحته مصلحة الفعل.
ولكنّنا لم نتعقّل
هذا الفارق المذكور ؛ لأنّه إنّما يتمّ إذا استطعنا أن نتعقّل لعنوان السلوك
عنوانا مستقلاّ في وجوده عن ذات الفعل ، لا ينطبق عليه ، ولا يتّحد معه ، حتى لا
تزاحم مصلحته مصلحة الفعل ، وتصوير هذا في غاية الإشكال. ولعلّ هذا هو السرّ في
مناقشة تلاميذه له ، فحمل بعضهم على إضافة كلمة «الأمر» ، ليجعل المصلحة تعود إلى نفس الأمر ، لا إلى متعلّقه ، فلا يقع التزاحم بين
المصلحتين.
وجه الإشكال :
أوّلا : أنّنا لا نفهم من عنوان السلوك والاستناد إلى الأمارة إلاّ عنوانا للفعل
الذي تؤدّي إليه الأمارة بأيّ معنى فسّرنا السلوك والاستناد ؛ إذ ليس للسلوك
ومتابعة الأمارة وجود آخر مستقلّ ، غير نفس وجود الفعل المستند إلى الأمارة.
__________________
نعم ، إذا أردنا
من الاستناد إلى الأمارة معنى آخر ، وهو الفعل القصديّ من النفس ، فإنّ له وجودا
آخر غير وجود الفعل ؛ لأنّه فعل قلبيّ جوانحيّ لا وجود له إلاّ وجودا قصديّا. ولكنّه
من البعيد جدّا أن يكون ذلك غرض الشيخ من السلوك ؛ لأنّ هذا الفعل القلبيّ إنّما
يصحّ أن يفرض وجوبه في خصوص الأمور العباديّة ؛ ولا معنى للالتزام بوجوب القصد في
جميع أفعال الإنسان المستند فعلها إلى الأمارة.
ثانيا : على تقدير تسليم اختلافهما وجودا ؛ فإنّ قيام المصلحة
بشيء إنّما يدعو إلى تعلّق الأمر به ، لا بشيء آخر غيره وجودا ، وإن كانا متلازمين
في الوجود. فمهما فرضنا من معنى للسلوك ـ وإن كان بمعنى الفعل القلبيّ ـ فإنّه إذا
كانت المصلحة المقتضية للأمر قائمة به ، فكيف يصحّ توجيه الأمر إلى ذات الفعل ،
والمفروض أنّ له وجودا آخر لم تقم به المصلحة؟!
وأمّا : إضافة
كلمة «الأمر» على عبارة الشيخ فهي بعيدة جدّا عن مراده وعباراته الأخرى.
تمرينات (٥١)
التمرين الأوّل :
١. ما هي الشبهة
العويصة في صحّة جعل الأمارة؟ وما الجواب عنها؟
٢. ما هو غرض
الشارع في الترخيص في اتّباع الأمارات الخاصّة؟
٣. ما هو معنى كون
الأمارة طريقا؟ وما هو معنى كونها سببا؟
٤. هل الأمارة
حجّة على نحو الطريقيّة ، أو أنّها حجّة على نحو السببيّة؟ وعلى أيّ تقدير ، فما
الدليل عليه؟
٥. ما معنى قول
المصنّف : «إنّ الطريقيّة هي الأصل»؟
٦. اذكر ما يستدلّ
به على السببيّة ، واذكر الجواب عنه.
٧. ما هو القول
بالمصلحة السلوكيّة؟ وهل يكون مصحّحا لجعل الأمارة؟
٨. ما الفرق بين المصلحة
السلوكية ، ومصلحة التسهيل؟
التمرين الثاني :
١. ما هو معنى
التصويب؟ وما الفرق بين التصويب الأشعري وبين التصويب المعتزلي؟ أيّهما كان تصويبا
باطلا؟
١٥. الحجّيّة أمر
اعتباريّ أو انتزاعيّ؟
من الأمور التي
وقعت موضع البحث أيضا عند المتأخّرين مسألة أنّ الحجّيّة هل هي من الأمور
الاعتباريّة المجعولة بنفسها وذاتها ، أو أنّها من الانتزاعيّات التي تنتزع من
المجعولات؟
وهذا النزاع في
الحجّيّة فرع ـ في الحقيقة ـ على النزاع في أصل الأحكام الوضعيّة. وهذا النزاع في
خصوص الحجّيّة ـ على الأقلّ ـ لم أجد له ثمرة عمليّة في الأصول.
على أنّ هذا
النزاع في أصله غير محقّق ، ولا مفهوم له ؛ لأنّ لكلمتي : «الاعتباريّة» و «الانتزاعيّة»
مصطلحات كثيرة ، في بعضها تكون الكلمتان متقابلتين ، وفي البعض الآخر متداخلتين.
وتفصيل ذلك يخرجنا عن وضع الرسالة.
ونكتفي أن نقول ـ على
سبيل الاختصار ـ : إنّ الذي يظهر من أكثر كلمات المتنازعين في المسألة أنّ المراد
من الأمر الانتزاعيّ هو المجعول ثانيا وبالعرض في مقابل المجعول أوّلا وبالذات ،
بمعنى أنّ الإيجاد والجعل الاعتباريّ ينسب أوّلا وبالذات إلى شيء هو المجعول حقيقة
، ثمّ ينسب الجعل ثانيا وبالعرض إلى شيء آخر ، فالمجعول الأوّل هو الأمر
الاعتباريّ ، والثاني هو الأمر الانتزاعيّ ، فيكون هناك جعل واحد ينسب إلى الأوّل
بالذات ، وإلى الثاني بالعرض ، لا أنّه هناك جعلان واعتباران ينسب أحدهما إلى شيء
ابتداء وينسب ثانيهما إلى آخر بتبع الأوّل ؛ فإنّ هذا ليس مراد المتنازعين قطعا.
فيقال في الملكيّة
مثلا ـ التي هي من جملة موارد النزاع ـ : إنّ المجعول أوّلا وبالذات هو إباحة
تصرّف الشخص بالشيء المملوك ، فينتزع منها أنّه مالك ـ أي إنّ الجعل ينسب ثانيا
وبالعرض إلى الملكيّة ـ. فالملكيّة يقال لها : «إنّها مجعولة بالعرض». ويقال لها :
«إنّها منتزعة من الإباحة». هذا إذا قيل : «إنّ الملكية انتزاعيّة» ، أمّا : إذا
قيل : «إنّها اعتبارية» فتكون عندهم هي المجعولة أوّلا وبالذات للشارع أو العرف.
وعلى هذا ، فإذا
أريد من الانتزاعيّ هذا المعنى فالحقّ أنّ الحجّيّة أمر اعتباريّ ، وكذلك
__________________
الملكيّة ،
والزوجيّة ، ونحوها من الأحكام الوضعيّة. وشأنها في ذلك شأن الأحكام التكليفيّة
المسلّم فيها أنّها من الاعتباريّات الشرعيّة.
توضيح ذلك أنّ
حقيقة الجعل هو الإيجاد. والإيجاد على نحوين :
١. ما يراد منه
إيجاد الشيء حقيقة في الخارج. ويسمّى : «الجعل التكوينيّ» أو «الخلق».
٢. ما يراد منه
إيجاد الشيء اعتبارا وتنزيلا ، وذلك بتنزيله منزلة الشيء الخارجيّ الواقعيّ من جهة
ترتيب أثر من آثاره ، أو لخصوصيّة فيه من خصوصيّات الأمر الواقعيّ. ويسمّى «الجعل
الاعتباريّ» ، أو «التنزيليّ» ، وليس له واقع إلاّ الاعتبار والتنزيل ، وإن كان
نفس الاعتبار أمرا واقعيّا حقيقيّا ، لا اعتباريّا ، مثلا حينما يقال : «زيد أسد»
، فإنّ الأسد مطابقه الحقيقيّ هو الحيوان المفترس المخصوص ، وهو ـ طبعا ـ مجعول
ومخلوق بالجعل والخلق التكوينيّ. ولكنّ العرف يعتبرون الشجاع أسدا ، فزيد أسد
اعتبارا وتنزيلا من قبل العرف من جهة ما فيه من خصوصيّة الشجاعة كالأسد الحقيقيّ.
ومن هذا المثال
يظهر كيف أنّ الأحكام التكليفيّة اعتبارات شرعيّة ؛ لأنّ الآمر حينما يريد من شخص
أن يفعل فعلا ما فبدلا عن أن يدفعه بيده ـ مثلا ـ ليحرّكه نحو العمل ينشئ الأمر
بداعي جعل الداعي في دخيلة نفس المأمور. فيكون هذا الإنشاء للآمر دفعا وتحريكا
اعتباريّا ؛ تنزيلا له منزلة الدفع الخارجيّ باليد مثلا. وكذلك النهي زجر اعتباريّ
؛ تنزيلا له منزلة الردع والزجر الخارجيّ باليد مثلا.
وكذلك يقال في
حجّيّة الأمارة المجعولة ؛ فإنّ القطع لمّا كان موصلا إلى الواقع حقيقة ، وطريقا
بنفسه إليه فالشارع يعتبر الأمارة الظنّيّة طريقا إلى الواقع ؛ تنزيلا لها منزلة
القطع بالواقع بإلغاء احتمال الخلاف ، فتكون الأمارة قطعا اعتباريّا ، وطريقا
تنزيليّا.
ومتى صحّ وأمكن أن
تكون الحجّيّة هي المعتبرة أوّلا وبالذات فما الذي يدعو إلى فرضها مجعولة ثانيا
وبالعرض ، حتى تكون أمرا انتزاعيّا؟! إلاّ أن يريدوا من الانتزاعيّ
__________________
معنى آخر ، وهو ما
يستفاد من دليل الحكم على نحو الدلالة الالتزاميّة ، كأن تستفاد الحجّيّة للأمارة
من الأمر باتّباعها ، مثل ما لو قال الإمام عليهالسلام : «صدّق العادل» الذي يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على
حجّيّة خبر العادل ، واعتباره عند الشارع. وهذا المعنى للانتزاعيّ صحيح ، ولا مانع
من أن يقال للحجّيّة : «إنّها أمر انتزاعيّ بهذا المعنى» ، ولكنّه بعيد عن مرامهم
؛ لأنّ هذا المعنى من الانتزاعيّة لا يقابل الاعتباريّة بالمعنى الذي شرحناه.
وعلى كلّ حال ،
فدعوى انتزاعيّة الحجّيّة ـ بأيّ معنى للانتزاعيّ ـ لا موجب لها ، لا سيّما إن لم
يتّفق ورود أمر من الشارع باتّباع أمارة من الأمارات في جميع ما بأيدينا من الآيات
والروايات ، حتى يفرض أنّ الحجّيّة منتزعة من ذلك الأمر.
هذا كلّ ما أردنا
بيانه من المقدّمات قبل الدخول في المقصود. والآن نشرع في البحث عن المقصود ، وهو
تشخيص الأدلّة التي هي حجّة على الأحكام الشرعيّة من قبل الشارع المقدّس. ونضعها
في أبواب.
تمرينات
(٥٢)
١. هل الحجيّة أمر
اعتباريّ ، أو انتزاعيّ؟
٢. ما الفرق بين
الجعل التكوينيّ والجعل الاعتباريّ؟
الباب الأوّل
الكتاب
العزيز
تمهيد
إنّ القرآن الكريم
هو المعجز الخالد لنبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله ، والموجود بأيدي الناس بين الدفّتين هو الكتاب المنزل إلى
الرسول بالحقّ ، لا ريب فيه ، هدى ، ورحمة (وَما كانَ هذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ).
فهو ـ إذن ـ الحجّة
القاطعة بيننا وبينه (تعالى) ، التي لا شكّ ولا ريب فيها ، وهو المصدر الأوّل
لأحكام الشريعة الإسلاميّة بما تضمّنته آياته من بيان ما شرعه الله (تعالى) للبشر.
وأمّا ما سواه ـ من سنّة أو إجماع أو عقل ـ فإليه ينتهي ، ومن منبعه يستقي.
ولكنّ الذي يجب أن
يعلم أنّه قطعيّ الحجّة من ناحية الصدور فقط ؛ لتواتره عند المسلمين جيلا بعد جيل.
وأمّا من ناحية الدلالة فليس قطعيّا كلّه ؛ لأنّ فيه متشابها ، ومحكما.
ثمّ «المحكم» منه
ما هو نصّ ـ أي قطعيّ الدلالة ـ ، ومنه ما هو ظاهر تتوقّف حجّيّته على القول
بحجّيّة الظواهر.
ومن الناس من لم
يقل بحجّيّة ظاهره خاصّة ، وإن كانت الظواهر حجّة.
ثمّ إنّ فيه ناسخا
ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومطلقا ومقيّدا ، ومجملا ومبيّنا ، وكلّ ذلك لا يجعله
قطعيّ الدلالة في كثير من آياته.
__________________
ومن أجل ذلك وجب
البحث عن هذه النواحي لتكميل حجّيّته. وأهمّ ما يجب البحث عنه من ناحية أصوليّة في
أمور ثلاثة :
١. في حجّيّة
ظواهره. وهذا بحث ينبغي أن يلحق بمباحث الظواهر ، الآتية ، فلنرجئه إلى هناك.
٢. في جواز تخصيصه
وتقييده بحجّة أخرى ، كخبر الواحد ونحوه. وقد تقدّم البحث عنه.
٣. في جواز نسخه.
والبحث عن ذلك ليس فيه كثير فائدة في الفقه ، كما ستعرف ، ومع ذلك ينبغي ألاّ يخلو
كتابنا من الإشارة إليه بالاختصار ، فنقول :
نسخ الكتاب العزيز
حقيقة النسخ
النسخ اصطلاحا :
رفع ما هو ثابت في الشريعة من الأحكام ونحوها.
والمراد من «الثبوت
في الشريعة» الثبوت الواقعيّ الحقيقيّ في مقابل الثبوت الظاهريّ بسبب الظهور
اللفظيّ. ولذلك ، فرفع الحكم ـ الثابت بظهور العموم أو الإطلاق ـ بالدليل المخصّص أو
المقيّد لا يسمّى نسخا ، بل يقال له : «تخصيص» ، أو «تقييد» ، أو نحوهما ، باعتبار
أنّ هذا الدليل الثاني المقدّم على ظهور الدليل الأوّل يكون قرينة عليه ، وكاشفا
عن المراد الواقعيّ للشارع ، فلا يكون رافعا للحكم إلاّ ظاهرا ، ولا رفع فيه للحكم
حقيقة ، بخلاف النسخ.
ومن هنا يظهر
الفرق الحقيقيّ بين النسخ وبين التخصيص والتقييد. وسيأتي مزيد إيضاح لهذه الناحية
في جواب الاعتراضات على النسخ.
و [أمّا] قولنا : «من
الأحكام ونحوها» ، فلبيان تعميم النسخ للأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، ولكلّ أمر
بيد الشارع رفعه ووضعه بالجعل التشريعيّ بما هو شارع.
__________________
وعليه ، فلا يشمل
النسخ الاصطلاحيّ المجعولات التكوينيّة التي بيده رفعها ووضعها بما هو خالق
الكائنات.
والنسخ بهذا
التعبير يشمل نسخ تلاوة القرآن الكريم على القول به ؛ باعتبار أنّ القرآن من
المجعولات الشرعيّة التي ينشئها الشارع بما هو شارع ، وإن كان لنا كلام في دعوى
نسخ التلاوة من القرآن ، ليس هذا موضع تفصيله ، ولكن ـ بالاختصار ـ نقول : إنّ نسخ
التلاوة ـ في الحقيقة ـ يرجع إلى القول بالتحريف ؛ لعدم ثبوت نسخ التلاوة بالدليل
القطعيّ ، سواء كان نسخا لأصل التلاوة ، أو نسخا لها ولما تضمّنته من حكم معا ، وإن كان في القرآن الكريم ما يشعر بوقوع نسخ التلاوة ، كقوله (تعالى) : (وَإِذا
بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما
أَنْتَ مُفْتَرٍ) ، وقوله (تعالى) : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) . ولكن ليستا صريحتين بوقوع ذلك ، ولا ظاهرتين ، وإنّما أكثر ما تدلّ عليه
الآيتان إمكان وقوعه.
إمكان نسخ القرآن
قد وقعت عند بعض
الناس شبهات في إمكان أصل النسخ ، ثمّ في إمكان نسخ القرآن خاصّة. وتنويرا للأذهان نشير إلى أهمّ الشبه
ودفعها ، فنقول :
١.
قيل : «إنّ المرفوع في
النسخ إمّا حكم ثابت ، أو ما لا ثبات له. والثابت يستحيل
__________________
رفعه ، وما لا
ثبات له لا حاجة إلى رفعه. وعلى هذا ، فلا بدّ أن يؤوّل النسخ بمعنى رفع مثل الحكم
، لا رفع عينه ، أو بمعنى انتهاء أمد الحكم».
والجواب : أنّا نختار الشقّ الأوّل ـ وهو أنّ المرفوع ما هو ثابت ـ
، ولكن ليس معنى رفع الثابت رفعه بما هو عليه من حالة الثبوت وحين فرض ثبوته ، حتى
يكون ذلك مستحيلا ، بل هو من باب إعدام الموجود ، وليس إعدام الموجود بمستحيل.
والأحكام لمّا
كانت مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة فإنّ قوام الحكم يكون بفرض الموضوع موجودا
، ولا يتوقّف على ثبوته خارجا تحقيقا ، فإذا أنشئ الحكم كذلك فهو ثابت في عالم
التشريع والاعتبارات بثبوت الموضوع فرضا ، ولا يرتفع إلاّ برفعه تشريعا.
وهذا هو معنى رفع
الحكم الثابت ، وهو النسخ.
٢.
وقيل : «إنّ ما أثبته
الله (تعالى) من الأحكام لا بدّ أن يكون لمصلحة أو مفسدة في متعلّق الحكم. وما له
مصلحة في ذاته لا ينقلب ، فيكون ذا مفسدة ، وكذلك العكس ، وإلاّ لزم انقلاب الحسن
قبيحا ، والقبيح حسنا ، وهو محال. وحينئذ يستحيل النسخ ؛ لأنّه يلزم منه هذا
الانقلاب المستحيل ، أو عدم حكمة الناسخ ، أو جهله بوجه الحكمة. والأخيران
مستحيلان بالنسبة إلى الشارع المقدّس».
والجواب واضح ، بعد معرفة ما ذكرناه في الجزء الثاني في المباحث
العقليّة من معاني الحسن والقبيح ؛ فإنّ المستحيل
انقلاب الحسن والقبيح الذاتيّين ، ولا معنى لقياسهما على المصالح والمفاسد التي
تتبدّل وتتغيّر بحسب اختلاف الأحوال والأزمان. ولا يبعد أن يكون الشيء ذا مصلحة في
زمان ، ذا مفسدة في زمان آخر وإن كان لا يعلم ذلك إلاّ من قبل الشارع العالم
المحيط بحقائق الأشياء. وهذا غير معنى الحسن والقبح اللذين نقول فيهما : إنّه
يستحيل فيهما الانقلاب.
مضافا إلى أنّ
الأشياء تختلف فيها وجوه الحسن والقبح باختلاف الأحوال ممّا لم يكن الحسن والقبح فيه ذاتيّين ـ كما تقدّم هناك ـ ، وإذا كان الأمر كذلك فمن الجائز أن يكون
__________________
[متعلّق] الحكم
المنسوخ ذا مصلحة ، ثمّ زالت في الزمان الثاني فنسخ ، أو كان ينطبق عليه عنوان حسن
ثمّ زال عنه [ذلك] العنوان في الزمان الثاني فنسخ. فهذه هي الحكمة في النسخ.
٣.
وقيل : «إذا كان النسخ
ـ كما قلتم ـ لأجل انتهاء أمد المصلحة فينتهي أمد الحكم بانتهائها ، فإنّه ـ والحال
هذه ـ إمّا أن يكون الشارع الناسخ قد علم بانتهاء أمد المصلحة من أوّل الأمر ،
وإمّا أن يكون جاهلا به. لا مجال للثاني ؛ لأنّ ذلك مستحيل في حقّه (تعالى) ، وهو
البداء الباطل المستحيل ، فيتعيّن الأوّل. وعليه ، فيكون الحكم في الواقع موقّتا
وإن أنشأه الناسخ مطلقا في الظاهر ، ويكون الدليل على النسخ في الحقيقة مبيّنا
وكاشفا عن مراد الناسخ. وهذا هو معنى التخصيص ، غاية الأمر يكون تخصيصا بحسب الأوقات
لا الأحوال ، فلا يكون فرق بين النسخ والتخصيص إلاّ بالتسمية.»
والجواب : نحن نسلّم أنّ الحكم المنسوخ ينتهي أمده في الواقع ،
والله (تعالى) عالم بانتهائه ، ولكن ليس معنى ذلك أنّه موقّت ـ أي مقيّد إنشاء
بالوقت ـ بل هو قد أنشئ على طبق المصلحة مطلقا على نحو القضايا الحقيقيّة ، فهو
ثابت ما دامت المصلحة ، كسائر الأحكام المنشأة على طبق مصالحها ، فلو قدّر للمصلحة
أن تستمرّ لبقي الحكم مستمرّا ، غير أنّ الشارع لمّا علم بانتهاء أمد المصلحة ،
رفع الحكم ونسخه وهذا نظير أن يخلق الله (تعالى) الشيء ، ثمّ يرفعه بإعدامه ، وليس
معنى ذلك أن يخلقه موقّتا على وجه يكون التوقيت قيدا للخلق والمخلوق بما هو مخلوق
، وإن علم به من الأوّل أنّ أمده ينتهي.
ومن هنا يظهر
الفرق ـ جليّا ـ بين النسخ والتخصيص ؛ فإنّه في «التخصيص» يكون الحكم من أوّل
الأمر أنشئ مقيّدا ، ومخصّصا ، ولكنّ اللفظ كان عامّا بحسب الظاهر ، فيأتي الدليل
المخصّص ، فيكون كاشفا عن المراد ، لا أنّه مزيل ورافع لما هو ثابت في الواقع.
وأمّا : في «النسخ»
فإنّه لمّا أنشئ الحكم مطلقا فمقتضاه أن يدوم لو لم يرفعه النسخ ، فالنسخ يكون
محوا لما هو ثابت (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ...) ، لا أنّ الدوام والاستمرار مدلول لظاهر الدليل بحسب إطلاقه وعمومه ، والمنشأ
في الواقع الحكم الموقّت ، ثمّ يأتي
__________________
الدليل الناسخ ،
فيكشف عن المراد من الدليل الأوّل ويفسّره ، بل الدوام من اقتضاء نفس ثبوت الحكم
من دون أن يكون لفظ دليل الحكم دالاّ عليه بعموم أو إطلاق. يعني : أنّ الحكم
المنشأ ـ لو خلّي وطبعه مع قطع النظر عن دلالة دليله ـ لدام واستمرّ ما لم يأت ما
يزيله ويرفعه ، كسائر الموجودات التي تقتضي بطبيعتها الاستمرار والدوام.
٤.
وقيل : «إنّ كلام الله (تعالى)
قديم ، والقديم لا يتصوّر رفعه».
والجواب : ـ بعد تسليم هذا الفرض وهو قدم كلام الله ـ : أنّ هذا يختصّ بنسخ التلاوة ، فلا يكون دليلا على بطلان أصل النسخ. مع أنّه
قد تقدّم من نصّ القرآن الكريم ما يدلّ على إمكان نسخ التلاوة ، وإن لم يكن صريحا
في وقوعه ، كقوله (تعالى) : (وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ ...) ، فهو إمّا أن يدلّ على أنّ كلامه (تعالى) غير قديم ، أو
أنّ القديم يمكن رفعه. مضافا إلى أنّه ليس معنى نسخ التلاوة رفع أصل الكلام ، بل
رفع تبليغه ، وقطع علاقة المكلّفين بتلاوته.
وقوع نسخ القرآن ،
وأصالة عدم النسخ
هذا هو الأمر الذي
يهمّنا إثباته من ناحية أصوليّة. ولا شكّ في أنّه قد أجمع علماء الأمّة الإسلاميّة
على أنّه لا يصحّ الحكم بنسخ آية من القرآن إلاّ بدليل قطعيّ ، سواء كان بقرآن
أيضا ، أو بسنّة ، أو بإجماع ، كما أنّه ممّا أجمع عليه العلماء أيضا أنّ في القرآن
الكريم ناسخا ومنسوخا. وكلّ هذا قطعيّ لا شكّ فيه.
ولكنّ الذي هو
موضع البحث والنظر تشخيص موارد الناسخ والمنسوخ في القرآن. وإذا لم يحصل القطع
بالنسخ بطل موضع الاستدلال عليه بالأدلّة الظنّيّة ، للإجماع المتقدّم.
__________________
وأمّا : ما ثبت
فيه النسخ منه على سبيل الجزم فهو موارد قليلة جدّا ، لا تهمّنا كثيرا من ناحية
فقهيّة استدلاليّة ؛ لمكان القطع فيها.
وعلى هذا ،
فالقاعدة الأصوليّة التي ننتفع بها ونستخلصها هنا هي أنّ الناسخ إن كان قطعيّا
أخذنا به واتّبعناه ، وإن كان ظنّيّا فلا حجّة فيه ، ولا يصحّ الأخذ به ؛ لما
تقدّم من الإجماع على عدم جواز الحكم بالنسخ إلاّ بدليل قطعيّ.
ولذا أجمع الفقهاء
من جميع طوائف المسلمين على أنّ «الأصل عدم النسخ» عند الشكّ في النسخ ، وإجماعهم
هذا ليس من جهة ذهابهم إلى حجّيّة الاستصحاب ، كما ربما يتوهّمه بعضهم ، بل حتى من لا يذهب إلى حجّيّة الاستصحاب يقول بأصالة عدم النسخ ، وما ذلك
إلاّ من جهة هذا الإجماع على اشتراط العلم في ثبوت النسخ.
تمرينات (٥٣)
١. ما هي حقيقة
النسخ؟
٢. ما الفرق بين
النسخ وبين التخصيص والتقييد؟
٣. اذكر الشبهات
في إمكان أصل النسخ ، واذكر الجواب عنها؟
٤. اذكر الشبهات
في إمكان نسخ القرآن ، واذكر الجواب عنها؟
٥. ما المراد من
أصالة عدم النسخ؟
__________________
الباب الثاني
السنّة
تمهيد
السنّة في اصطلاح الفقهاء : «قول النبيّ أو فعله أو تقريره» .
ومنشأ هذا
الاصطلاح أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله باتّباع سنّته ، فغلبت كلمة «السنّة»
حينما تطلق ـ مجرّدة عن نسبتها إلى أحد ـ على خصوص ما يتضمّن بيان حكم من الأحكام
من النبيّ صلىاللهعليهوآله ، سواء كان ذلك بقول أو فعل أو تقرير ، على ما سيأتي من
ذكر مدى ما يدلّ الفعل والتقرير على بيان الأحكام.
أمّا : فقهاء
الإماميّة بالخصوص فلمّا ثبت لديهم أنّ المعصوم من آل البيت عليهمالسلام يجري قوله مجرى قول النبيّ صلىاللهعليهوآله ، من كونه حجّة على العباد واجب الاتّباع ، فقد توسّعوا في
اصطلاح السنّة إلى ما يشمل قول كلّ واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره ، فكانت
السنّة باصطلاحهم : «قول المعصوم أو فعله أو تقريره».
والسرّ في ذلك أنّ
الأئمّة من آل البيت عليهمالسلام ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله والمحدّثين عنه ليكون قولهم حجّة من جهة أنّهم ثقاة في الرواية ، بل لأنّهم
هم المنصوبون
__________________
من الله (تعالى)
على لسان النبيّ صلىاللهعليهوآله لتبليغ الأحكام الواقعيّة ، فلا يحكون إلاّ عن الأحكام الواقعيّة عند الله (تعالى) كما هي ، وذلك من طريق
الإلهام ، كالنبيّ صلىاللهعليهوآله من طريق الوحي ، أو من طريق التلقّي من المعصوم قبله ، كما
قال مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام : «علّمني رسول الله صلىاللهعليهوآله ألف باب من العلم ينفتح لي من كلّ باب ألف باب».
وعليه ، فليس
بيانهم للأحكام من نوع رواية السنّة وحكايتها ، ولا من نوع الاجتهاد في الرأي
والاستنباط من مصادر التشريع ، بل هم أنفسهم مصدر للتشريع ، فقولهم سنّة ، لا
حكاية السنّة.
وأمّا : ما يجيء
على لسانهم أحيانا من روايات وأحاديث عن نفس النبيّ صلىاللهعليهوآله فهي إمّا لأجل نقل النصّ عنه ، كما يتّفق في نقلهم لجوامع
كلمه ، وإمّا لأجل إقامة الحجّة على الغير ، وإمّا لغير ذلك من الدواعي.
وأمّا : إثبات
إمامتهم وأنّ قولهم يجري مجرى قول الرسول صلىاللهعليهوآله فهو بحث يتكفّل به علم الكلام.
وإذا ثبت أنّ
السنّة ـ بما لها من المعنى الواسع الذي عندنا ـ هي مصدر من مصادر التشريع
الإسلاميّ ، فإن حصل عليها الإنسان بنفسه بالسماع من نفس المعصوم ومشاهدته فقد أخذ
الحكم الواقعيّ من مصدره الأصليّ على سبيل الجزم واليقين من ناحية السند ، كالأخذ
من القرآن الكريم ثقل الله الأكبر ، والأئمّة من آل البيت عليهمالسلام ثقله الأصغر.
__________________
أمّا : إذا لم
يحصل ذلك لطالب الحكم الواقعيّ ـ كما في العهود المتأخّرة عن عصرهم ـ فإنّه لا بدّ
له في أخذ الأحكام من طريق أن يرجع ـ بعد القرآن الكريم ـ إلى الأحاديث التي تنقل
السنّة ، إمّا من طريق التواتر ، أو من طريق أخبار الآحاد على الخلاف الذي سيأتي
في مدى حجّيّة أخبار الآحاد.
وعلى هذا ،
فالأحاديث ليست هي السنّة ، بل هي الناقلة لها ، والحاكية عنها ، ولكن قد تسمّى
بالسنّة ، توسّعا من أجل كونها مثبتة لها.
ومن أجل هذا
يلزمنا البحث عن الأخبار في باب السنّة ؛ لأنّه يتعلّق ذلك بإثباتها.
ونعقد الفصل في
مباحث أربعة :
١. دلالة فعل
المعصوم
لا شكّ في أنّ فعل
المعصوم ـ بحكم كونه معصوما ـ يدلّ على إباحة الفعل على الأقلّ ، كما أنّ تركه
لفعل يدلّ على عدم وجوبه على الأقلّ. ولا شكّ في أنّ هذه الدلالة بهذا الحدّ أمر
قطعيّ ليس موضعا للشبهة بعد ثبوت عصمته.
ثمّ نقول بعد هذا
: إنّه قد يكون لفعل المعصوم من الدلالة ما هو أوسع من ذلك ، وذلك فيما إذا صدر
منه الفعل محفوفا بالقرينة ، كأن يحرز أنّه في مقام بيان حكم من الأحكام ، أو
عبادة من العبادات ، كالوضوء ، والصّلاة ، ونحوها ؛ فإنّه حينئذ يكون لفعله ظهور
في وجه الفعل من كونه واجبا ، أو مستحبّا ، أو غير ذلك ، حسبما تقتضيه القرينة.
ولا شبهة في أنّ
هذا الظهور حجّة ، كظواهر الألفاظ بمناط واحد ، وكم استدلّ الفقهاء على حكم أفعال
الوضوء ، والصلاة ، والحجّ ، وغيرها ، وكيفيّاتها بحكاية فعل النبيّ صلىاللهعليهوآله ، أو الإمام في هذه الأمور.
كلّ هذا لا كلام
ولا خلاف لأحد فيه. وإنّما وقع الكلام للقوم في موضعين :
__________________
١ ـ في دلالة فعل
المعصوم ، المجرّد عن القرائن على أكثر من إباحة الفعل. فقد قال
بعضهم : «إنّه يدلّ بمجرّده على وجوب الفعل بالنسبة إلينا» . وقيل : «يدلّ على استحبابه» . وقيل : «لا
دلالة له على شيء منهما ، أي إنّه لا يدلّ على أكثر من إباحة الفعل في حقّنا» .
والحقّ
هو الأخير ؛ لعدم
ما يصلح أن يجعل له مثل هذه الدلالة.
وقد يظنّ ظانّ أنّ
قوله (تعالى) في سورة الأحزاب (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ) يدلّ على وجوب التأسّي والاقتداء برسول الله صلىاللهعليهوآله في أفعاله. ووجوب الاقتداء بفعله يلزم منه وجوب كلّ فعل يفعله في حقّنا وإن
كان بالنسبة إليه لم يكن واجبا ، إلاّ ما دلّ الدليل الخاصّ على عدم وجوبه في
حقّنا .
وقيل : «إنّه إن لم تدلّ الآية على وجوب الاقتداء فعلى الأقلّ
تدلّ على حسن الاقتداء ، به واستحبابه» .
وقد أجاب العلاّمة
الحلّيّ قدسسره عن هذا الوهم ، فأحسن ـ كما نقل عنه ـ ، إذ قال : «إنّ الأسوة : عبارة عن
الإتيان بفعل الغير ؛ لأنّه فعله على الوجه الذي فعله ، فإن كان واجبا تعبّدنا
بإيقاعه واجبا ، وإن كان مندوبا تعبّدنا بإيقاعه مندوبا ، وإن كان مباحا تعبّدنا
__________________
باعتقاد إباحته».
وغرضه قدسسره من التعبّد
باعتقاد إباحته فيما إذا كان مباحا ، ليس مجرّد الاعتقاد ، حتى يرد عليه ـ كما في
الفصول ـ بأنّ ذلك أسوة في الاعتقاد لا الفعل ، بل يريد ـ كما هو
الظاهر من صدر كلامه ـ أنّ معنى الأسوة في المباح هو أن نتخيّر في الفعل والترك ـ أي
لا نلتزم بالفعل ولا بالترك ـ ، إذ الأسوة في كلّ شيء بحسب ما له من الحكم ، فلا
تتحقّق الأسوة في المباح بالنسبة إلى الإتيان بفعل الغير إلاّ بالاعتقاد بالإباحة.
ثمّ نزيد على ما
ذكره العلاّمة ، فنقول : إنّ الآية الكريمة لا دلالة لها على أكثر من رجحان الأسوة
وحسنها ، فلا نسلّم دلالتها على وجوب التأسّي ؛ مضافا إلى أنّ الآية نزلت في واقعة
الأحزاب ، فهي واردة مورد الحثّ على التأسّي به في الصبر على القتال ، وتحمّل
مصائب الجهاد في سبيل الله ، فلا عموم لها بلزوم التأسّي ، أو حسنه في كلّ فعل ،
حتى الأفعال العاديّة. وليس معنى هذا أنّنا نقول بأنّ المورد يقيّد المطلق أو
يخصّص العامّ ، بل إنّما نقول : إنّه يكون عقبة في إتمام مقدّمات الحكمة للتمسّك
بالإطلاق ، فهو يضرّ بالإطلاق من دون أن يكون له ظهور في التقييد ، كما نبّهنا على
ذلك في أكثر من مناسبة.
والخلاصة أنّ دعوى دلالة هذه الآية الكريمة على وجوب فعل ما يفعله
النبيّ صلىاللهعليهوآله مطلقا ، أو استحبابه مطلقا ، بالنسبة إلينا بعيدة كلّ
البعد عن التحقيق.
وكذلك دعوى دلالة
الآيات الآمرة بإطاعة الرسول أو باتّباعه على وجوب كلّ ما
يفعله في حقّنا ، فإنّها أوهن من أن نذكرها لردّها.
٢ ـ في حجّيّة فعل
المعصوم بالنسبة إلينا ؛ فإنّه قد وقع كلام للأصوليّين في أنّ فعله إذا
__________________
ظهر وجهه أنّه على
نحو الإباحة ، أو الوجوب ، أو الاستحباب ـ مثلا ـ هل هو حجّة بالنسبة إلينا؟ أي
إنّه هل يدلّ على اشتراكنا معه وتعدّيه إلينا ، فيكون مباحا لنا ، كما كان مباحا
له ، أو واجبا علينا ، كما كان واجبا عليه ... وهكذا؟
ومنشأ الخلاف أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله اختصّ بأحكام لا تتعدّى إلى غيره ، ولا يشترك [فيها] معه
باقي المسلمين ، مثل : وجوب التهجّد في الليل ، وجواز العقد على أكثر من أربع
زوجات.
وكذلك له من
الأحكام ما يختصّ بمنصب الولاية العامّة ، فلا تكون لغير النبيّ صلىاللهعليهوآله أو الإمام باعتبار أنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
فإن علم أنّ الفعل
الذي وقع من المعصوم من مختصّاته فلا شكّ في أنّه لا مجال لتوهّم تعدّيه إلى غيره
، وإن علم عدم اختصاصه به بأيّ نحو من أنحاء الاختصاص ، فلا شكّ في أنّه يعمّ جميع المسلمين ، فيكون فعله حجّة علينا.
هذا كلّه ليس موضع
الكلام ، وإنّما موضع الشبهة في الفعل الذي لم يظهر حاله في كونه من مختصّاته ، أو
ليس من مختصّاته ، ولا قرينة تعيّن أحدهما ، فهل هذا بمجرّده كاف للحكم بأنّه من
مختصّاته ، أو للحكم بعمومه للجميع ، أو أنّه غير كاف ، فلا ظهور له أصلا في كلّ
من النحوين؟ وجوه ، بل أقوال.
والأقرب هو الوجه
الثاني.
والوجه في ذلك أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله بشر مثلنا ، له ما لنا ، وعليه ما علينا ، وهو مكلّف من
الله (تعالى) بما كلّف به الناس ، إلاّ ما قام الدليل الخاصّ على اختصاصه ببعض
الأحكام ، إمّا من جهة شخصه بذاته ، وإمّا من جهة منصب الولاية ، فما لم يخرجه
الدليل فهو كسائر الناس في التكليف ؛ هذا مقتضى عموم أدلّة اشتراكه معنا في
التكليف ؛ فإذا صدر منه فعل
__________________
ولم يعلم اختصاصه
به فالظاهر في فعله أنّ حكمه فيه حكم سائر الناس ؛ فيكون فعله حجّة علينا ، وحجّة
لنا ، لا سيّما مع ما دلّ على عموم حسن التأسّي به.
ولا نقول ذلك من
جهة قاعدة الحمل على الأعمّ الأغلب ، فإنّا لا نرى حجّيّة مثل هذه القاعدة في كلّ
مجالاتها. وإنّما ذلك من باب التمسّك بالعامّ في الدوران في التخصيص بين الأقلّ
والأكثر.
٢. دلالة تقرير
المعصوم
المقصود من تقرير
المعصوم أن يفعل شخص بمشهد المعصوم وحضوره فعلا ، فيسكت المعصوم عنه ، مع توجّهه
إليه ، وعلمه بفعله ، وكان المعصوم بحالة يسعه تنبيه الفاعل لو كان مخطئا. والسعة
تكون من جهة عدم ضيق الوقت عن البيان ، ومن جهة عدم المانع منه ، كالخوف ،
والتقيّة ، واليأس من تأثير الإرشاد ، والتنبيه ، ونحو ذلك ؛ فإنّ سكوت المعصوم عن
ردع الفاعل ، أو عن بيان شيء حول الموضوع لتصحيحه يسمّى تقريرا للفعل ، أو إقرارا
عليه ، أو إمضاء له ، ما شئت فعبّر.
وهذا التقرير ـ إذا
تحقّق بشروطه المتقدّمة ـ فلا شكّ في أنّه يكون ظاهرا في كون الفعل جائزا فيما إذا
كان محتمل الحرمة ، كما أنّه يكون ظاهرا في كون الفعل مشروعا صحيحا فيما إذا كان
عبادة أو معاملة ؛ لأنّه لو كان في الواقع محرّما أو كان فيه خلل لكان على المعصوم
نهيه عنه وردعه إذا كان الفاعل عالما عارفا بما يفعل ، وذلك من باب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، ولكان عليه بيان الحكم ووجه الفعل ؛ إذا كان الفاعل جاهلا
بالحكم ، وذلك من باب وجوب تعليم الجاهل.
ويلحق بتقرير
الفعل تقرير بيان الحكم ، كما لو بيّن شخص بمحضر المعصوم حكما ، أو كيفيّة عبادة ،
أو معاملة ، وكان بوسع المعصوم البيان فإنّ سكوت الإمام يكون ظاهرا في كونه إقرارا
على قوله ، وتصحيحا وإمضاء له.
وهذا كلّه واضح ،
ليس فيه موضع للخلاف.
__________________
تمرينات
(٥٤)
١. ما هو معنى
السنّة في اصطلاح فقهاء العامّة؟ وما هو منشأ هذا الاصطلاح؟
٢. ما هو معنى
السنّة في اصطلاح فقهاء الإماميّة؟ وما هو منشأ هذا الاصطلاح؟
٣. ما الفرق بين
الحديث والسنّة؟
٤. اذكر الأقوال
في دلالة فعل المعصوم المجرّد عن القرائن على أكثر من إباحة الفعل. واذكر الحقّ
منها.
٥. ما هو دليل
القائلين بدلالة فعل المعصوم على وجوب الفعل بالنسبة إلينا؟ وما هو جواب العلاّمة
الحلّي والمصنّف عنه؟
٦. اذكر الأقوال
في حجّيّة فعل المعصوم بالنسبة إلينا. واذكر الراجح منها ، والوجه في رجحانه.
٧. ما هو المقصود
من تقرير المعصوم؟
٨. هل تقرير
المعصوم حجّة أو لا؟
٩. ما الفرق بين
تقرير الفعل ، وتقرير بيان الحكم؟
٣. الخبر المتواتر
إنّ الخبر على
قسمين رئيسين : خبر متواتر ، وخبر واحد.
و «المتواتر» : ما أفاد سكون النفس سكونا يزول معه الشكّ ، ويحصل الجزم
القاطع من أجل إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب. ويقابله «خبر الواحد» في
اصطلاح الأصوليّين ، وإن كان المخبر أكثر من واحد ، ولكن لم يبلغ المخبرون حدّ
التواتر ، وقد شرحنا حقيقة التواتر في كتاب المنطق ، فراجع .
والذي ينبغي ذكره
هنا أنّ الخبر قد يكون له وسائط كثيرة في النقل ، كالأخبار التي تصلنا عن الحوادث
القديمة ؛ فإنّه يجب ـ ليكون الخبر متواترا موجبا للعلم ـ أن تتحقّق شروط التواتر
في كلّ طبقة طبقة من وسائط الخبر ، وإلاّ فلا يكون الخبر متواترا في الوسائط
المتأخّرة ؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات.
والسرّ في ذلك
واضح ؛ لأنّ الخبر ذا الوسائط يتضمّن في الحقيقة عدّة أخبار متتابعة ؛ إذ إنّ كلّ
طبقه تخبر عن خبر الطبقة السابقة عليها ، فحينما يقول جماعة : «حدّثنا جماعة عن
كذا» ، بواسطة واحدة ـ مثلا ـ ، فإنّ خبر الطبقة الأولى الناقلة لنا يكون في
الحقيقة خبرها ليس عن نفس الحادثة ، بل عن خبر الطبقة الثانية عن الحادثة. وكذلك
إذا تعدّدت الوسائط إلى أكثر من واحدة ، فهذه الوسائط هي خبر عن خبر ، حتى تنتهي
إلى الواسطة الأخيرة التي تنقل عن نفس الحادثة ، فلا بدّ أن تكون الجماعة الأولى
خبرها متواترا عن خبر متواتر عن متواتر وهكذا ؛ إذ كلّ خبر من هذه الأخبار له حكمه
في نفسه. ومتى اختلّ شرط التواتر في طبقة واحدة خرج الخبر جملة عن كونه متواترا ،
وصار من أخبار الآحاد.
وهكذا الحال في
أخبار الآحاد ؛ فإنّ الخبر الصحيح ذا الوسائط إنّما يكون صحيحا إذا توفّرت شروط الصحّة في كلّ واسطة من وسائطه ، وإلاّ فالنتيجة تتبع أخسّ المقدّمات.
__________________
٤. خبر الواحد
إنّ خبر الواحد ـ وهو
ما لا يبلغ حدّ التواتر من الأخبار ـ قد يفيد علما وإن كان المخبر شخصا واحدا ؛
وذلك فيما إذا احتفّ خبره بقرائن توجب العلم بصدقه ، ولا شكّ في أنّ مثل هذا الخبر
حجّة. وهذا لا بحث لنا فيه ؛ لأنّه مع حصول العلم تحصل الغاية القصوى ؛ إذ ليس
وراء العلم غاية في الحجّيّة ، وإليه تنتهي حجّيّة كلّ حجّة ، كما تقدّم .
وأمّا : إذا لم
يحتفّ بالقرائن الموجبة للعلم بصدقه ـ وإن احتفّ بالقرائن الموجبة للاطمئنان إليه
دون مرتبة العلم ـ فقد وقع الخلاف العظيم في حجّيّته وشروط حجّيّته ، والخلاف في
الحقيقة ـ عند الإماميّة بالخصوص ـ يرجع إلى الخلاف في قيام الدليل القطعيّ على
حجّيّة خبر الواحد ، وعدم قيامه ، وإلاّ فمن المتّفق عليه عندهم أنّ خبر الواحد ـ بما
هو خبر مفيد للظنّ الشخصيّ أو النوعيّ ـ لا عبرة به ؛ لأنّ الظنّ في نفسه ليس حجّة
عندهم قطعا ، فالشأن كلّ الشأن عندهم في حصول هذا الدليل القطعيّ ، ومدى دلالته.
فمن ينكر حجّيّة
خبر الواحد ، كالسيّد الشريف المرتضى ، ومن اتّبعه إنّما ينكر وجود هذا الدليل
القطعيّ ؛ ومن يقول بحجّيّته ، كالشيخ الطوسيّ ، وباقي العلماء يرى وجود الدليل
القاطع. ولأجل أن يتّضح ما نقول ننقل نصّ أقوال الطرفين في ذلك :
قال الشيخ الطوسيّ
في «العدّة» : «من عمل بخبر الواحد فإنّما يعمل به إذا دلّ [دليل] على وجوب العمل
به ، إمّا من الكتاب ، أو السنّة ، أو الإجماع ، فلا يكون قد عمل بغير علم» .
وصرّح بذلك السيّد
المرتضى في «الموصليّات» حسبما نقله عنه الشيخ ابن إدريس في مقدّمة كتابه «السرائر»
فقال : «لا بدّ في الأحكام الشرعيّة من طريق يوصل إلى العلم»
إلى أن قال : «ولذلك أبطلنا في الشريعة العمل بأخبار الآحاد ؛ لأنّها لا توجب علما
ولا عملا ،
__________________
وأوجبنا أن يكون
العمل تابعا للعلم ؛ لأنّ خبر الواحد إذا كان عدلا ، فغاية ما يقتضيه الظنّ بصدقه ، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا».
وأصرح منه قوله
بعد ذلك : «والعقل يمنع من العبادة بالقياس والعمل بخبر الواحد. ولو تعبّد الله (تعالى)
بذلك ، لساغ ولدخل في باب الصحّة ؛ لأنّ عبادته بذلك لا توجب العلم الذي لا بدّ أن
يكون العمل تابعا له».
وعلى هذا ، فيتّضح
أنّ المسلّم فيه عند الجميع أنّ خبر الواحد ـ لو خلّي ونفسه ـ لا يجوز الاعتماد
عليه ؛ لأنّه لا يفيد إلاّ الظنّ الذي لا يغني من الحقّ شيئا . وإنّما موضع النزاع هو قيام الدليل القطعيّ على حجّيّته.
وعلى هذا ، فقد
وقع الخلاف في ذلك على أقوال كثيرة :
فمنهم : من أنكر
حجّيّته مطلقا ، وقد حكي هذا القول عن السيّد المرتضى ، والقاضي وابن زهرة ، والطبرسيّ وابن إدريس ، وادّعوا في ذلك الإجماع. ولكن هذا القول منقطع الآخر ،
فإنّه لم يعرف موافق لهم بعد عصر ابن إدريس إلى يومنا هذا.
ومنهم : من قال : «إنّ
الأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة ـ لا سيّما الكتب الأربعة ـ مقطوعة الصدور».
وهذا ما ينسب إلى جماعة من متأخّري الأخباريّين . قال الشيخ الأنصاريّ
__________________
تعقيبا على ذلك : «وهذا
قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه إلاّ التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم ، كما
حصل لهم ، وإلاّ فمدّعي القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه ...» .
وأمّا : القائلون
بحجّيّة الخبر الواحد فقد اختلفوا أيضا ، فبعضهم يرى أنّ المعتبر من الأخبار هو
كلّ ما في الكتب الأربعة ، بعد استثناء ما كان فيها مخالفا للمشهور . وبعضهم يرى أنّ المعتبر بعضها ، والمناط في الاعتبار عمل الأصحاب ، كما يظهر
ذلك من المنقول عن المحقّق في «المعارج» . وقيل : المناط
فيه عدالة الراوي أو مطلق وثاقتة ، أو مجرّد الظنّ
بالصدور من غير اعتبار صفة في الراوي ... إلى غير ذلك من
التفصيلات.
والمقصود لنا الآن
بيان إثبات حجّيّته بالخصوص ـ في الجملة ـ في مقابل السلب الكلّيّ ، ثمّ ننظر في
مدى دلالة الأدلّة على ذلك. فالعمدة أن ننظر أوّلا : في الأدلّة التي ذكروها من
الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، وبناء العقلاء ، ثمّ في مدى دلالتها :
أ. أدلّة حجّيّة
خبر الواحد من الكتاب العزيز
تمهيد
لا يخفى أنّ من
يستدلّ على حجّيّة خبر الواحد بالآيات الكريمة لا يدّعي أنّها نصّ قطعيّ الدلالة
على المطلوب ، وإنّما أقصى ما يدّعيه أنّها ظاهرة فيه.
وإذا كان الأمر
كذلك فقد يشكل الخصم بأنّ الدليل على حجّيّة الحجّة يجب أن يكون
__________________
قطعيّا ـ كما
تقدّم ـ فلا يصحّ الاستدلال بالآيات التي هي ظنّيّة الدلالة ؛
لأنّ ذلك استدلال بالظنّ على حجّيّة الظنّ ، ولا ينفع كونها قطعيّة الصدور.
ولكنّ الجواب عن
هذا الوهم واضح ؛ لأنّه قد ثبتت بالدليل القطعيّ حجّيّة ظواهر الكتاب العزيز ـ كما
سيأتي ـ ، فالاستدلال بها ينتهي بالأخير إلى العلم ، فلا يكون
استدلالا بالظنّ على حجّيّة الظنّ ، ونحن على هذا المبنى نذكر الآيات التي ذكروها
على حجّيّة خبر الواحد ، فنكتفي بإثبات ظهورها في المطلوب :
الآية الأولى :
آية النبأ
وهي قوله (تعالى)
في سورة الحجرات : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما
فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) .
وقد استدلّ بهذه
الآية الكريمة من جهة مفهوم الوصف ، ومن جهة مفهوم الشرط ، والذي يبدو أنّ
الاستدلال بها من جهة مفهوم الشرط كاف في المطلوب .
وتقريب الاستدلال
يتوقّف على شرح ألفاظ الآية أوّلا ، فنقول :
١. «التبيّن» ، إنّ لهذه المادّة معنيين :
الأوّل : بمعنى الظهور ، فيكون فعلها لازما ، فنقول : «تبيّن
الشيء» إذا ظهر وبان. ومنه قوله (تعالى) : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ، (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) .
__________________
والثاني : بمعنى الظهور عليه ـ يعني العلم به واستكشافه ، أو
التصدّي للعلم به وطلبه ـ فيكون فعلها متعدّيا ، فتقول : «تبيّنت الشيء» إذا علمته
، أو إذا تصدّيت للعلم به وطلبته.
وعلى المعنى
الثاني ـ وهو التصدّي للعلم به ـ يتضمّن معنى التثبّت فيه والتأنّي فيه لكشفه وإظهاره والعلم به. ومنه قوله (تعالى) في سورة النساء : (إِذا
ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) ؛ ومن أجل هذا قرئ بدل (فَتَبَيَّنُوا) : «فتثبّتوا». ومنه
كذلك هذه الآية التي نحن بصددها (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...)
، وكذلك قرئ فيها «فتثبّتوا»
، فإنّ هذه القراءة ممّا تدلّ على أنّ المعنيين ـ وهما
التبيّن والتثبّت ـ متقاربان.
٢. (أَنْ
تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ)
، يظهر من كثير من
التفاسير أنّ هذا المقطع من الآية كلام مستأنف ، جاء لتعليل وجوب التبيّن . وتبعهم على ذلك بعض الأصوليّين الذين بحثوا [عن] هذه الآية هنا .
ولأجل ذلك قدّروا
لكلمة (فَتَبَيَّنُوا) مفعولا ، فقالوا
ـ مثلا ـ : «معناه : فتبيّنوا صدقه من كذبه» ، كما قدّروا
لتحقيق نظم الآية وربطها ـ لتصلح هذه الفقرة أن تكون تعليلا ـ كلمة تدلّ على
التعليل ، بأن قالوا : «معناها : خشية أن تصيبوا قوما بجهالة ، أو حذرا أن تصيبوا
، أو لئلاّ تصيبوا قوما ...» ونحو ذلك .
وهذه التقديرات
كلّها تكلّف وتمحّل ، لا تساعد عليها قرينة ولا قاعدة عربيّة. ومن العجيب أن يؤخذ
ذلك بنظر الاعتبار ويرسل إرسال المسلّمات.
والذي أرجّحه أنّ
مقتضى سياق الكلام والاتّساق مع أصول القواعد العربيّة أن يكون
__________________
قوله (تعالى) : (أَنْ
تُصِيبُوا قَوْماً ...) مفعولا لـ «تبيّنوا» ، فيكون معناه : «فتثبّتوا ، واحذروا
إصابة قوم بجهالة».
والظاهر أنّ قوله (تعالى)
: (فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً
بِجَهالَةٍ) يكون كناية عن لازم معناه ، وهو عدم حجّيّة خبر الفاسق ؛
لأنّه لو كان حجّة لما دعا إلى الحذر من إصابة قوم بجهالة عند العمل به ، ثمّ من
الندم على العمل به.
٣. «الجهالة» اسم مأخوذ من الجهل ، أو مصدر ثان له ، قال عنها أهل
اللغة : «الجهالة : أن تفعل فعلا بغير العلم» ، ثمّ هم فسّروا
الجهل بأنّه المقابل للعلم ، عبّروا عنه تارة بتقابل التضاد ، وأخرى بتقابل النقيض ، وإن كان الأصحّ في التعبير العلميّ أنّه من تقابل العدم
والملكة.
والذي يبدو لي من
تتبّع استعمال كلمة «الجهل» ومشتقّاتها في أصول اللغة العربيّة أنّ إعطاء لفظ «الجهل»
معنى يقابل العلم ـ بهذا التحديد الضيّق لمعناه ـ جاء مصطلحا جديدا عند المسلمين
في عهدهم ؛ لنقل الفلسفة اليونانيّة إلى العربيّة الذي استدعى تحديد معاني كثير من
الألفاظ ، وكسبها إطارا يناسب الأفكار الفلسفيّة ، وإلاّ فالجهل في أصل اللغة كان
يعطي معنى يقابل الحكمة ، والتعقّل ، والرويّة ، فهو يؤدّي
تقريبا معنى السفه ، أو الفعل السفهيّ عند ما يكون عن غضب ـ مثلا ـ وحماقة ، وعدم
بصيرة ، وعلم.
وعلى كلّ حال ، هو
بمعناه الواسع اللغويّ يلتقي مع معنى الجهل المقابل للعلم الذي صار مصطلحا علميّا
بعد ذلك. ولكنّه ليس هو إيّاه. وعليه ، فيكون معنى «الجهالة» أن تفعل فعلا بغير
حكمة ، وتعقّل ، ورويّة الذي لازمه عادة إصابة عدم الواقع والحقّ.
__________________
إذا عرفت هذه
الشروح لمفردات الآية الكريمة يتّضح لك معناها ، وما تؤدّي إليه من دلالة على
المقصود في المقام أنّها تعطي أنّ النبأ من شأنه أن يصدّق به عند الناس ، ويؤخذ به
من جهة أنّ ذلك من سيرتهم ، وإلاّ فلما ذا نهى عن الأخذ بخبر الفاسق من جهة أنّه
فاسق؟
فأراد (تعالى) أن
يلفت أنظار المؤمنين إلى أنّه لا ينبغي أن يعتمدوا على كلّ خبر من أيّ مصدر كان ،
بل إذا جاء به فاسق ينبغي ألاّ يؤخذ به بلا تروّ ، وإنّما يجب فيه أن يتثبّتوا [من] أن يصيبوا قوما بجهالة ، أي بفعل ما فيه سفه وعدم حكمة قد
يضرّ بالقوم. والسرّ في ذلك أنّ المتوقّع من الفاسق ألاّ يصدق في خبره ، فلا ينبغي
أن يصدّق ويعمل بخبره.
فتدلّ الآية ـ بحسب
المفهوم ـ على أنّ خبر العادل يتوقّع منه الصدق ، فلا يجب فيه الحذر والتثبّت من
إصابة قوم بجهالة. ولازم ذلك أنّه حجّة.
والذي نقوله
ونستفيده وله دخل في استفادة المطلوب من الآية أنّ النبأ في مفروض الآية ممّا
يعتمد عليه عند الناس ، وتعارفوا الأخذ به بلا تثبّت ، وإلاّ لما كانت حاجة للأمر
فيه بالتبيّن في خبر الفاسق ، إذا كان النبأ من جهة ما هو نبأ لا يعمل به الناس.
ولمّا علّقت الآية
وجوب التبيّن والتثبّت على مجيء الفاسق يظهر منه بمقتضى مفهوم الشرط أنّ خبر
العادل ليس له هذا الشأن ، بل الناس لهم أن يبقوا فيه على سجيّتهم من الأخذ به
وتصديقه من دون تثبّت وتبيّن لمعرفة صدقه من كذبه ، من جهة خوف إصابة قوم بجهالة.
وطبعا لا يكون ذلك إلاّ من جهة اعتبار خبر العادل وحجّيّته ؛ لأنّ المترقّب منه
الصدق ، فيكشف ذلك عن حجّيّة قول العادل عند الشارع ، وإلغاء احتمال الخلاف فيه.
والظاهر أنّه بهذا
البيان للآية يرتفع كثير من الشكوك التي قيلت على الاستدلال بها على المطلوب ، فلا
نطيل في ذكرها وردّها.
الآية الثانية :
آية النفر
وهي قوله (تعالى)
في سورة التوبة : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِ
__________________
فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .
إنّ الاستدلال
بهذه الآية الكريمة على المطلوب يتمّ بمرحلتين من البيان :
١ ـ الكلام في صدر
الآية : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً ؛) تمهيدا للاستدلال ؛ فإنّ الظاهر من هذه الفقرة نفي وجوب
النفر على المؤمنين كافّة ، والمراد من النفر ـ بقرينة باقي الآية ـ النفر إلى
الرسول للتفقّه في الدين ، لا النفر إلى الجهاد ، وإن كانت الآيات التي قبلها
واردة في الجهاد ؛ فإنّ ذلك وحده غير كاف ليكون قرينة مع ظهور باقي الآية في النفر
إلى التعلّم والتفقّه ، فإنّ الكلام الواحد يفسّر بعضه بعضا.
وهذه الفقرة إمّا
جملة خبريّة يراد بها إنشاء نفي الوجوب فتكون في الحقيقة جملة إنشائيّة ، وإمّا
جملة خبريّة يراد بها الإخبار جدّا عن عدم وقوعه من الجميع ؛ إمّا لاستحالته عادة ، أو لتعذّره اللازم له عدم وجوب النفر
عليهم جميعا ، فتكون دالّة بالدلالة الالتزاميّة على عدم جعل مثل هذا الوجوب من
الشارع. وعلى كلا الحالين فهي تدلّ على عدم تشريع وجوب النفر على كلّ واحد واحد ،
إمّا إنشاء ، أو إخبارا.
ولكن ليس من شأن
الشارع بما هو شارع أن ينفي وجوب شيء ، إنشاء أو إخبارا ، إلاّ إذا كان في مقام
رفع توهّم الوجوب لذلك الشيء أو اعتقاده. واعتقاد وجوب النفر أمر متوقّع لدى
العقلاء ؛ لأنّ التعلّم واجب عقليّ على كلّ أحد ، وتحصيل اليقين فيه المنحصر عادة
في مشافهة الرسول أيضا واجب عقليّ. فحقّ أن يعتقد المؤمنون بوجوب النفر إلى الرسول
شرعا لتحصيل المعرفة بالأحكام.
ومن جهة أخرى ،
فإنّه ممّا لا شبهة فيه أنّ نفر جميع المؤمنين في جميع أقطار الإسلام إلى الرسول
لأخذ الأحكام منه بلا واسطة ـ كلّما عنت حاجة وعرضت لهم مسألة ـ أمر ليس
__________________
عمليّا من جهات
كثيرة ، ؛ فضلا عمّا فيه من مشقّة عظيمة لا توصف ، بل هو مستحيل
عادة.
إذا عرفت ذلك ،
فنقول : إنّ الله (تعالى) أراد بهذه الفقرة ـ والله العالم ـ أن يرفع عنهم هذه
الكلفة والمشقّة برفع وجوب النفر ؛ رحمة بالمؤمنين. ولكن هذا التخفيف ليس معناه أن
يستلزم رفع أصل وجوب التفقّه ، بل الضرورات تقدّر بقدرها. ولا شكّ أنّ التخفيف
يحصل برفع الوجوب على كلّ واحد واحد ، فلا بدّ من علاج لهذا الأمر اللازم تحقّقه
على كلّ حال ـ وهو التعلّم ـ بتشريع طريقة أخرى للتعلّم غير طريقة التعلّم
اليقينيّ من نفس لسان الرسول. وقد بيّنت بقيّة الآية هذا العلاج وهذه الطريقة ،
وهو قوله (تعالى) : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ
كُلِّ فِرْقَةٍ ...) والتفريع بالفاء شاهد على أنّ هذا علاج متفرّع على نفي
وجوب النفر على الجميع.
ومن هذا البيان
يظهر أنّ هذه الفقرة (صدر الآية) لها الدخل الكبير في فهم الباقي من الآية الذي هو
موضع الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد. وقد أغفل هذه الناحية المستدلّون بهذه
الآية على المطلوب ، فلم يوجّهوا الارتباط بين صدر الآية وبقيّتها للاستدلال بها ،
على نحو ما يأتي.
٢ ـ الكلام عن نفس
موقع الاستدلال من الآية على حجّيّة خبر الواحد المتفرّع هذا الموقع على صدرها ؛
لمكان فاء التفريع ، فإنّه (تعالى) ـ بعد أن بيّن عدم وجوب النفر على كلّ واحد ،
تخفيفا عليهم ـ حرّضهم على اتّباع طريقة أخرى بدلالة «لو لا» التي هي للتحضيض ،
والطريقة هي أن ينفر قسم من كلّ قوم ليرجعوا إلى قومهم فيبلّغوهم الأحكام بعد أن
يتفقّهوا في الدين ، ويتعلّموا الأحكام ، وهو في الواقع خير علاج لتحصيل التعليم ،
بل الأمر منحصر فيه.
فالآية الكريمة
بمجموعها تقرّر أمرا عقليّا ، وهو وجوب المعرفة والتعلّم ، وإذ تعذّرت المعرفة
اليقينيّة بنفر كلّ واحد إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله ليتفقّه في الدين فلم يجب ، رخّص الله (تعالى) لهم لتحصيل
تلك الغاية ـ أعني التعلّم ـ بأن تنفر طائفة من كلّ فرقة. والطائفة المتفقّهة هي
التي تتولّى حينئذ تعليم الباقين من قومهم ، بل إنّه لم يكن قد رخّصهم فقط بذلك ،
وإنّما
__________________
أوجب عليهم أن
تنفر طائفة من كلّ قوم ، ويستفاد الوجوب من «لو لا» التحضيضيّة ، ومن الغاية من
النفر ـ وهي التفقّه لإنذار القوم الباقين لأجل أن يحذروا من العقاب ـ ؛ مضافا إلى
أنّ أصل التعلّم واجب عقليّ ، كما قرّرنا.
كلّ ذلك شواهد
ظاهرة على وجوب تفقّه جماعة من كلّ قوم ؛ لأجل تعليم قومهم الحلال والحرام. ويكون
ذلك ـ طبعا ـ وجوبا كفائيّا.
وإذا استفدنا وجوب
تفقّه كلّ طائفة من كلّ قوم ، أو تشريع ذلك بالترخيص فيه على الأقلّ لغرض إنذار
قومهم إذا رجعوا إليهم ، فلا بدّ أن نستفيد من ذلك أنّ نقلهم للأحكام قد جعله الله
(تعالى) حجّة على الآخرين ، وإلاّ لكان تشريع هذا النفر على نحو الوجوب ، أو
الترخيص لغوا بلا فائدة بعد أن نفى وجوب النفر على الجميع. بل لو لم يكن نقل
الأحكام حجّة ، لما بقيت طريقة لتعلّم الأحكام تكون معذّرة للمكلّف ، وحجّة له ،
أو عليه.
والحاصل
أنّ رفع وجوب
النفر على الجميع والاكتفاء بنفر قسم منهم ليتفقّهوا في الدين ويعلّموا الآخرين هو
بمجموعه دليل واضح على حجّيّة نقل الأحكام في الجملة ، وإن لم يستلزم العلم
اليقينيّ ؛ لأنّ الآية ـ من ناحية اشتراط الإنذار بما يوجب العلم ـ مطلقة ، فكذلك
تكون مطلقة من ناحية قبول الإنذار والتعليم ، وإلاّ كان هذا التدبير الذي شرّعه
الله (تعالى) لغوا ، وبلا فائدة ، وغير محصّل للغرض الذي من أجله كان النفر
وتشريعه.
هكذا ينبغي أن
تفهم الآية الكريمة في الاستدلال على المطلوب ، وبهذا البيان يندفع كثير ممّا أورد
على الاستدلال بها للمطلوب.
وينبغي ألاّ يخفى
عليكم أنّه لا يتوقّف الاستدلال بها على أن يكون نفر الطائفة من كلّ قوم واجبا ،
بل يكفي ثبوت أنّ هذه الطريقة مشرّعة من قبل الله (تعالى) ، وإن كان بنحو الترخيص
بها ؛ لأنّ نفس تشريعها يستلزم تشريع حجّيّة نقل الأحكام من المتفقّه. فلذلك لا
تبقى حاجة إلى التطويل في استفادة الوجوب.
كما أنّ الاستدلال
بها لا يتوقّف على كون الحذر عند إنذار النافرين المتفقّهين واجبا ، واستفادة ذلك
من «لعلّ» أو من أصل حسن الحذر ، بل الأمر بالعكس ؛ فإنّ نفس جعل حجّيّة قول
النافرين المتفقّهين المستفاد من الآية يكون دليلا على وجوب الحذر.
نعم ، يبقى شيء ،
وهو أنّ الواجب أن تنفر من كلّ فرقة طائفة ، والطائفة ثلاثة فأكثر ، أو أكثر من
ثلاثة. وحينئذ لا تشمل الآية خبر الشخص الواحد أو الاثنين.
ولكن يمكن دفع ذلك
بأنّه لا دلالة في الآية على أنّه يجب في الطائفة أن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم
مجتمعين بشرط الاجتماع ، فالآية من هذه الناحية مطلقة ، وبمقتضى إطلاقها يكون خبر
الواحد ـ لو انفرد بالإخبار ـ حجّة أيضا. يعني أنّ العموم فيها أفراديّ لا مجموعيّ
.
تنبيه
إنّ هذه الآية
الكريمة تدلّ أيضا على وجوب قبول فتوى المجتهد بالنسبة إلى العاميّ ، كما دلّت على
وجوب قبول خبر الواحد ، وذلك ظاهر ؛ لأنّ كلمة «التفقّه» عامّة للطرفين ، وقد أفاد
ذلك شيخنا النائينيّ قدسسره ، كما في تقريرات بعض الأساطين من تلامذته ، فإنّه قال : «إنّ
التفقّه في الأعصار المتأخّرة وإن كان هو استنباط الحكم الشرعيّ بتنقيح جهات ثلاث
: الصدور ، وجهة الصدور ، والدلالة ، ومن المعلوم أنّ تنقيح الجهتين الأخيرتين
ممّا يحتاج إلى إعمال النظر والدقّة ، إلاّ أنّ التفقّه في الصدر الأوّل لم يكن
محتاجا إلاّ إلى إثبات الصدور ليس إلاّ ، لكن اختلاف محقّق التفقّه باختلاف
الأزمنة لا يوجب اختلافا في مفهومه ، فكما أنّ العارف بالأحكام الشرعيّة بإعمال
النظر والفكر يصدق عليه الفقيه ، كذلك العارف بها من دون إعمال النظر والفكر يصدق
عليه الفقيه حقيقة» .
وبمقتضى عموم
التفقّه ، فإنّ الآية الكريمة ـ أيضا ـ تدلّ على وجوب الاجتهاد في العصور
المتأخّرة عن عصور المعصومين وجوبا كفائيّا ، بمعنى أنّه يجب على كلّ قوم أن ينفر
منهم طائفة فيرحلوا لتحصيل التفقّه ـ وهو الاجتهاد ـ لينذروا قومهم إذا رجعوا
إليهم ، كما تدلّ أيضا بالملازمة ـ التي سبق ذكرها ـ على حجّيّة قول المجتهد على
الناس الآخرين ، ووجوب قبول فتواه عليهم.
__________________
الآية الثالثة :
آية حرمة الكتمان
وهي قوله (تعالى)
في سورة البقرة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا
مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ
أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ ...) .
وجه الاستدلال بها
يشبه الاستدلال بآية النفر ، فإنّه لمّا حرّم الله (تعالى) كتمان البيّنات والهدى
، وجب أن يقبل قول من يظهر البيّنات والهدى ، ويبيّنه للناس ، وإن كان ذلك المظهر
والمبيّن واحدا لا يوجب قوله العلم ، وإلاّ لكان تحريم الكتمان لغوا وبلا فائدة لو
لم يكن قوله حجّة مطلقا.
والحاصل
أنّ هناك ملازمة
عقليّة بين وجوب الإظهار ووجوب القبول ، وإلاّ لكان وجوب الإظهار لغوا وبلا فائدة.
ولمّا كان وجوب الإظهار لم يشترط فيه أن يكون الإظهار موجبا للعلم فكذلك لازمه ـ وهو
وجوب القبول ـ لا بدّ أن يكون مطلقا من هذه الناحية ، غير مشترط فيه بما يوجب
العلم. وعلى هذا الأساس من الملازمة قلنا بدلالة آية النفر على حجّيّة خبر الواحد
، وحجّيّة فتوى المجتهد.
ولكنّ الإنصاف أنّ
الاستدلال لا يتمّ بهذه الآية الكريمة ، بل هي أجنبيّة جدّا عمّا نحن فيه ؛ لأنّ
ما نحن فيه ـ وهو حجّيّة خبر الواحد ـ أن يظهر المخبر شيئا لم يكن ظاهرا ، ويعلّم
ما تعلّم من أحكام غير معلومة للآخرين ، كما في آية النفر ، فإذا وجب التعليم
والإظهار ، وجب قبوله على الآخرين ، وإلاّ كان وجوب التعليم والإظهار لغوا.
وأمّا : هذه الآية
فهي واردة في مورد كتمان ما هو ظاهر وبيّن للناس جميعا ، بدليل قوله (تعالى) : (مِنْ
بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) لا إظهار ما هو
خفيّ على الآخرين.
والغرض أنّ هذه
الآية واردة في مورد ما هو بيّن واجب القبول ، سواء كتم أم أظهر ، لا في مورد يكون
قبوله من جهة الإظهار ، حتى تكون ملازمة بين وجوب القبول وحرمة الكتمان ، فيقال : «لو
لم يقبل لما حرم الكتمان». وبهذا يظهر الفرق بين هذه الآية وآية النفر.
وينسق على هذه
الآية باقي الآيات الأخر التي ذكرت للاستدلال بها على المطلوب ،
__________________
فلا نطيل بذكرها.
ب. دليل حجّيّة
خبر الواحد من السنّة
من البديهيّ أنّه
لا يصحّ الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد بنفس خبر الواحد ؛ فإنّه دور ظاهر ، بل
لا بدّ أن تكون الأخبار المستدلّ بها على حجّيّته معلومة الصدور من المعصومين ،
إمّا بتواتر ، أو قرينة قطعيّة.
ولا شكّ في أنّه
ليس في أيدينا من الأخبار ما هو متواتر بلفظه في هذا المضمون ، وإنّما كلّ ما قيل
هو تواتر الأخبار معنى في حجّيّة خبر الواحد إذا كان ثقة مؤتمنا في الرواية ، كما
رآه الشيخ الحرّ صاحب الوسائل. وهذه دعوى غير بعيدة ، فإنّ المتتبّع يكاد يقطع جازما
بتواتر الأخبار في هذا المعنى ، بل هي بالفعل متواترة لا ينبغي أن يعتري فيها الريب
للمنصف.
وقد ذكر الشيخ
الأنصاريّ (قدّس الله نفسه) طوائف من الأخبار ، يحصل بانضمام
__________________
__________________
بعضها إلى بعض
العلم بحجّيّة خبر الواحد الثقة المأمون من الكذب في الشريعة ، وأنّ هذا أمر مفروغ عنه عند آل البيت عليهمالسلام.
ونحن نشير إلى هذه
الطوائف على الإجمال ، وعلى الطالب أن يرجع إلى الوسائل (كتاب القضاء) وإلى رسائل الشيخ في حجّيّة خبر الواحد ؛ للاطّلاع على تفاصيلها :
الطائفة
الأولى : ما ورد في الخبرين
المتعارضين في الأخذ بالمرجّحات ، كالأعدل ، والأصدق ، والمشهور ، ثمّ التخيير عند
التساوي. وسيأتي ذكر بعضها في باب التعادل والتراجيح. ولو لا أنّ خبر الواحد الثقة حجّة لما كان معنى لفرض التعارض بين الخبرين ،
ولا معنى للترجيح بالمرجّحات المذكورة والتخيير عند عدم المرجّح ، كما هو واضح.
الطائفة
الثانية : ما ورد في
إرجاع آحاد الرواة إلى آحاد أصحاب الأئمّة عليهمالسلام ، على وجه يظهر فيه عدم الفرق في الإرجاع بين الفتوى
والرواية ، مثل إرجاعه عليهالسلام إلى زرارة بقوله : «إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس» يشير بذلك إلى زرارة. ومثل قوله عليهالسلام ـ لمّا قال له عبد العزيز بن المهتدي : ربما أحتاج ولست
ألقاك في كلّ وقت ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ ـ : «نعم» .
قال الشيخ الأعظم قدسسره : «وظاهر هذه
الرواية أنّ قبول قول الثقة كان أمرا مفروغا عنه عند
__________________
الراوي ، فسأل عن
وثاقة يونس ؛ ليرتّب عليه أخذ المعالم عنه».
إلى غير ذلك من
الروايات التي تنسق على هذا المضمون ونحوه.
الطائفة
الثالثة : ما دلّ على
وجوب الرجوع إلى الرواة ، والثقات ، والعلماء ، مثل قوله عليهالسلام : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ؛ فإنّهم حجّتي عليكم
، وأنا حجّة الله عليهم» ... إلى ما شاء الله من الروايات في أمثال هذا المعنى.
الطائفة
الرابعة : ما دلّ على
الترغيب في الرواية ، والحثّ عليها ، وكتابتها ، وإبلاغها ، مثل الحديث النبويّ المستفيض ، بل المتواتر : «من حفظ على أمّتي أربعين حديثا
بعثه الله فقيها عالما ، يوم القيامة» الذي لأجله صنّف
كثير من العلماء الأربعينيّات ؛ ومثل قوله عليهالسلام للراوي : «اكتب وبثّ علمك في بني عمّك ؛ فإنّه يأتي زمان
هرج لا يأنسون إلاّ بكتبهم» إلى غير ذلك من الأحاديث.
الطائفة
الخامسة : ما دلّ على ذمّ
الكذب عليهم ، والتحذير من الكذّابين عليهم ، فإنّه لو لم يكن
الأخذ بأخبار الآحاد أمرا معروفا بين المسلمين ، لما كان مجال للكذب عليهم ، ولما
كان مورد للخوف من الكذب عليهم ، ولا التحذير من الكذّابين ؛ لأنّه لا أثر للكذب
لو كان خبر الواحد على كلّ حال غير مقبول عند المسلمين.
__________________
قال
الشيخ الأعظم ـ بعد نقله لهذه
الطوائف من الأخبار ، وهو على حقّ فيما قال ـ : «إلى غير ذلك من الأخبار التي
يستفاد من مجموعها رضى الأئمّة عليهمالسلام بالعمل بالخبر وإن لم يفد القطع. وقد ادّعى في الوسائل
تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة ، إلاّ أنّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة
الذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجه لا يعتني به العقلاء ، ويقبّحون التوقّف فيه ؛
لأجل ذلك الاحتمال ، كما دلّ عليه ألفاظ : «الثقة» و «المأمون» و «الصادق» وغيرها الواردة
في الأخبار المتقدّمة ، وهي أيضا منصرف إطلاق غيرها».
وأضاف : «وأمّا :
العدالة فأكثر الأخبار المتقدّمة خالية عنها ، بل وفي كثير منها التصريح بخلافه».
ج. دليل حجّيّة
خبر الواحد من الإجماع
حكى جماعة كبيرة ـ
تصريحا وتلويحا ـ الإجماع من قبل علماء الإماميّة على حجّيّة خبر الواحد إذا كان
ثقة مأمونا في نقله وإن لم يفد خبره العلم. وعلى رأس الحاكين للإجماع شيخ الطائفة
الطوسيّ رحمهالله في كتابه «العدّة» ، لكنّه اشترط فيما
اختاره من الرأي ، وحكى عليه الإجماع أن يكون خبر الواحد واردا من طريق أصحابنا
القائلين بالإمامة ، وكان ذلك مرويّا عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، أو عن الواحد من الأئمّة عليهمالسلام ، وكان ممّن لا يطعن في روايته ، ويكون سديدا في نقله.
وتبعه على ذلك في التصريح بالإجماع السيّد رضيّ الدين بن طاوس ، والعلاّمة الحلّي في «النهاية» ، ، والمحدّث
المجلسيّ في بعض رسائله ، كما حكى ذلك عنهم الشيخ الأعظم في «الرسائل».
وفي مقابل ذلك حكى
جماعة أخرى إجماع الإماميّة على عدم الحجّيّة. وعلى رأسهم
__________________
السيّد الشريف
المرتضى رحمهالله ، وجعله بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب
الشيعة . وتبعه على ذلك الشيخ ابن إدريس في «السرائر» ، ونقل كلاما
للسيّد المرتضى في المقدّمة ، وانتقد في أكثر من موضع في كتابه الشيخ الطوسيّ في
عمله بخبر الواحد ، وكرّر تبعا للسيّد قوله : «إنّ خبر الواحد لا يوجب علما ولا
عملا». وكذلك نقل عن الطبرسيّ صاحب «مجمع البيان» قدسسره تصريحه في نقل
الإجماع على عدم العمل بخبر الواحد.
والغريب في الباب
وقوع مثل هذا التدافع بين نقل الشيخ والسيّد عن إجماع الإماميّة ، مع أنّهما
متعاصران ، بل الأوّل تلمذ على الثاني ، وهما الخبيران العالمان بمذهب الإماميّة ،
وليس من شأنهما أن يحكيا مثل هذا الأمر بدون تثبّت وخبرة كاملة.
فلذلك وقع
الباحثون في حيرة عظيمة من أجل التوفيق بين نقليهما. وقد حكى الشيخ الأعظم في «الرسائل»
وجوها للجمع ، مثل أن يكون مراد السيّد المرتضى من خبر الواحد ـ الذي حكى الإجماع
على عدم العمل به ـ هو خبر الواحد الذي يرويه مخالفونا ، والشيخ يتّفق معه على
ذلك.
وقيل : «يجوز أن يكون مراده من خبر الواحد ما يقابل المأخوذ من
الثقات المحفوظ في الأصول ، المعمول بها عند جميع خواصّ الطائفة ، وحينئذ يتقارب
مع الشيخ في الحكاية عن الإجماع».
وقيل : «يجوز أن يكون مراد الشيخ من خبر الواحد خبر الواحد ،
المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم بصدقه ، فيتّفق حينئذ نقله مع نقل السيّد».
وهذه الوجوه من
التوجيهات قد استحسن الشيخ الأنصاريّ منها الأوّل ، ثمّ الثاني. ولكنّه
__________________
يرى أنّ الأرجح من
الجميع ما ذكره هو من الوجه وأكّد عليه أكثر من مرّة ، فقال : «ويمكن الجمع بينهما
بوجه آخر ، وهو أنّ مراد السيّد من العلم الذي ادّعاه في صدق الأخبار هو مجرّد
الاطمئنان ، فإنّ المحكيّ عنه في تعريف العلم أنّه ما اقتضى سكون النفس ، وهو الذي
ادّعى بعض الأخباريّين أنّ مرادنا من العلم بصدور الأخبار هو هذا المعنى ، لا
اليقين الذي لا يقبل الاحتمال رأسا.
فمراد الشيخ من
تجرّد هذه الأخبار عن القرائن تجرّدها عن القرائن الأربع التي ذكرها أوّلا ، وهي
موافقة الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والدليل العقليّ.
ومراد السيّد من
القرائن ـ التي ادّعى في عبارته المتقدّمة احتفاف أكثر
الأخبار بها ـ هي الأمور الموجبة للوثوق بالراوي أو بالرواية ، بمعنى سكون النفس
بهما ، وركونها إليهما».
ثمّ قال : «ولعلّ
هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بين كلامي الشيخ والسيّد ، خصوصا مع ملاحظة تصريح
السيّد في كلامه بأنّ أكثر الأخبار متواترة ، أو محفوفة ، وتصريح الشيخ في كلامه
المتقدّم بإنكار ذلك».
هذا ما أفاده
الشيخ الأنصاريّ في توجيه كلام هذين العلمين ، ولكنّي لا أحسب أنّ السيّد المرتضى
يرتضي بهذا الجمع ؛ لأنّه صرّح في عبارته المنقولة في مقدّمة السرائر بأنّ مراده
من العلم القطع الجازم ، قال :
«اعلم أنّه لا بدّ
في الأحكام الشرعيّة من طريق يوصل إلى العلم بها ؛ لأنّه متى لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنّه مصلحة ، جوّزنا كونه مفسدة» .
__________________
__________________
وأصرح منه قوله بعد ذلك : «ولذلك أبطلنا في الشريعة العمل بأخبار الآحاد ؛ لأنّها لا
توجب علما ولا عملا ، وأوجبنا أن يكون العمل تابعا للعلم ؛ لأنّ خبر الواحد إذا
كان عدلا ، فغاية ما يقتضيه الظنّ بصدقه ، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا وإن
ظننت به الصدق ؛ فإنّ الظنّ لا يمنع من التجويز ، فعاد الأمر في العمل بأخبار
الآحاد إلى أنّه إقدام على ما لا نأمن من كونه فسادا ، أو غير صلاح».
هذا ، ويحتمل ـ احتمالا
بعيدا ـ أنّ السيّد لم يرد من «التجويز» ـ الذي قال عنه : إنّه لا يمنع منه الظنّ
ـ كلّ تجويز حتى الضعيف الذي لا يعتني به العقلاء ويجتمع مع اطمئنان النفس ، بل
أراد منه التجويز الذي لا يجتمع مع اطمئنان النفس ، ويرفع الأمان بصدق الخبر.
وإنّما قلنا : «إنّ
هذا الاحتمال بعيد» ؛ لأنّه يدفعه أنّ السيّد حصر في بعض عباراته ما يثبت الأحكام
ـ عند من نأى عن المعصومين ، أو وجد بعدهم ـ في خصوص الخبر المتواتر
المفضي إلى العلم وإجماع الفرقة المحقّة ، لا غيرهما.
وأمّا : تفسيره
للعلم بسكون النفس فهذا تفسير شائع في عبارات المتقدّمين ، ومنهم : الشيخ نفسه في «العدّة».
والظاهر أنّهم يريدون من سكون النفس الجزم القاطع ، لا
مجرّد الاطمئنان وإن لم يبلغ القطع ، كما هو متعارف التعبير به في لسان
المتأخّرين.
نعم ، لقد عمل
السيّد المرتضى على خلاف ما أصّله هنا ، وكذلك ابن إدريس الذي تابعة في هذا القول
؛ لأنّه كان كثيرا ما يأخذ بأخبار الآحاد الموثوقة المرويّة في كتب أصحابنا. ومن
العسير عليه وعلى غيره أن يدّعي تواترها جميعا ، أو احتفافها بقرائن توجب القطع
بصدورها. وعلى ذلك جرت استنباطاته الفقهيّة ، وكذلك ابن إدريس في «السرائر». ولعلّ
__________________
عمله هذا يكون
قرينة على مراده من ذلك الكلام ، ومفسّرا له على نحو ما احتمله الشيخ الأنصاريّ.
وعلى كلّ حال ـ سواء
استطعنا تأويل كلام السيّد بما يوافق كلام الشيخ أو لم نستطع ـ فإنّ دعوى الشيخ
إجماع الطائفة على اعتبار خبر الواحد الموثوق به المأمون من الكذب ـ وإن لم يكن
عادلا بالمعنى الخاصّ ، ولم يوجب قوله العلم القاطع ـ دعوى مقبولة ، ومؤيّدة ، يؤيّدها
عمل جميع العلماء من لدن الصدر الأوّل إلى اليوم ، حتى نفس السيّد ، وابن إدريس ،
كما ذكرنا ، بل السيّد نفسه اعترف في بعض كلامه بعمل الطائفة بأخبار الآحاد ، إلاّ
أنّه ادّعى أنّه لمّا كان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجرّدة ، كعدم عملهم
بالقياس فلا بدّ من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة بالقرائن ، قائلا : «ليس
ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة المشهورة المقطوع عليها ـ ويقصد بالأمور
المعلومة ، عدم عملهم بالظنون ـ إلى ما هو مشتبه ، وملتبس ، ومجمل ـ ويقصد
بالمشتبه المجمل ، وجه عملهم بأخبار الآحاد ـ ، وقد علم كلّ موافق ومخالف أنّ
الشيعة الإماميّة تبطل القياس في الشريعة ، حيث لا يؤدّي إلى العلم ، وكذلك نقول
في أخبار الآحاد».
ونحن نقول للسيّد
المرتضى : صحيح أنّ المعلوم من طريقة الشيعة الإماميّة عدم عملهم بالظنون بما هي
ظنون ، ولكن خبر الواحد الثقة المأمون وما سواه من الظنون المعتبرة ـ كالظواهر ـ إذا
كانوا قد عملوا بها فإنّهم لم يعملوا بها إلاّ لأنّها ظنون قام الدليل القاطع على
اعتبارها وحجّيّتها ، فلم يكن العمل بها عملا بالظنّ ، بل يكون ـ بالأخير ـ عملا
بالعلم.
وعليه ، فنحن نقول
معه : «إنّه لا بدّ في الأحكام الشرعيّة من طريق يوصل إلى العلم بها ؛ لأنّه متى
لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنّه مصلحة جوّزنا كونه مفسدة» ، و [لكن] خبر الواحد الثقة المأمون لمّا ثبت اعتباره فهو طريق يوصل إلى
العلم بالأحكام ، ونقطع بالعلم ـ على حدّ تعبيره ـ على أنّه مصلحة لا نجوّز كونه
مفسدة.
ويؤيّد أيضا دعوى
الشيخ للإجماع قرائن كثيرة ، ذكر جملة منها الشيخ الأنصاريّ
__________________
في «الرسائل» :
منها : ما ادّعاه الكشّي من إجماع العصابة
على تصحيح ما يصحّ عن جماعة ؛ فإنّه من المعلوم أنّ معنى التصحيح المجمع عليه هو
عدّ خبره صحيحا ، بمعنى عملهم به ، لا القطع بصدوره ؛ إذ الإجماع وقع على التصحيح
لا على الصّحة.
ومنها : دعوى النجاشيّ أنّ مراسيل ابن
أبي عمير مقبولة عند الأصحاب. وهذه العبارة من النجاشيّ تدلّ دلالة صريحة على عمل
الأصحاب بمراسيل مثل ابن أبي عمير ، لا من أجل القطع بالصدور ، بل لعلمهم أنّه لا
يروي ولا يرسل إلاّ عن ثقة. إلى غير ذلك من القرائن التي ذكرها الشيخ الأنصاريّ من
هذا القبيل.
وعليك بمراجعة
الرسائل في هذا الموضوع ، فقد استوفت البحث أحسن استيفاء ، وأجاد فيها الشيخ فيما
أفاد ، وألمّ بالموضوع من جميع أطرافه ، كعادته في جميع أبحاثه. وقد ختم
البحث بقوله السديد : «والإنصاف أنّه لم يحصل في مسألة ـ يدّعى فيها الإجماع من
الإجماعات المنقولة ، والشهرة العظيمة ، والأمارات الكثيرة الدالّة على العمل ـ ما
حصل في هذه المسألة ، فالشاكّ في تحقّق الإجماع في هذه المسألة لا أراه يحصل له
الإجماع في مسألة من المسائل الفقهيّة ، اللهمّ إلاّ في ضروريّات المذهب».
وأضاف «لكنّ
الإنصاف أنّ المتيقّن من هذا كلّه الخبر المفيد للاطمئنان ، لا مطلق الظنّ» . ونحن له من المؤيّدين. جزاه الله خير ما يجزي العلماء العاملين.
د. دليل حجّيّة
خبر الواحد من بناء العقلاء
إنّه من المعلوم
قطعا ـ الذي لا يعتريه الريب ـ استقرار بناء العقلاء طرّا ، واتّفاق سيرتهم
العمليّة ـ على اختلاف مشاربهم وأذواقهم ـ على الأخذ بخبر من يثقون بقوله
ويطمئنّون
__________________
إلى صدقه ويأمنون
كذبه ، وعلى اعتمادهم في تبليغ مقاصدهم على الثقات. وهذه السيرة العمليّة جارية
حتى في الأوامر الصادرة من ملوكهم ، وحكّامهم ، وذوي الأمر منهم.
وسرّ هذه السيرة
أنّ الاحتمالات الضعيفة المقابلة ملغاة بنظرهم لا يعتنون بها ، فلا يلتفتون إلى
احتمال تعمّد الكذب من الثقة ، كما لا يلتفتون إلى احتمال خطئه ، واشتباهه ، أو
غفلته.
وكذلك أخذهم
بظواهر الكلام وظواهر الأفعال ؛ فإنّ بناءهم العمليّ على إلغاء الاحتمالات الضعيفة
المقابلة. وذلك من كلّ ملّة ونحلة.
وعلى هذه السيرة
العمليّة قامت معايش الناس ، وانتظمت حياة البشر ، ولولاها لاختلّ نظامهم
الاجتماعيّ ، ولسادهم الاضطراب ؛ لقلّة ما يوجب العلم القطعيّ من الأخبار
المتعارفة ، سندا ومتنا.
والمسلمون بالخصوص
ـ كسائر الناس ـ جرت سيرتهم العمليّة على مثل ذلك في استفادة الأحكام الشرعيّة من
القديم إلى يومنا هذا ؛ لأنّهم متّحدو المسلك والطريقة مع سائر البشر ، كما جرت
سيرتهم بما هم عقلاء على ذلك في غير الأحكام الشرعيّة. ألا ترى هل كان يتوقّف
المسلمون في أخذ أحكامهم الدينيّة من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله أو من أصحاب الأئمّة عليهمالسلام الموثوقين عندهم؟ وهل ترى يتوقّف المقلّدون اليوم وقبل
اليوم في العمل بما يخبرهم الثقات عن رأي المجتهد الذي يرجعون إليه؟ وهل ترى
تتوقّف الزوجة في العمل بما يحكيه لها زوجها ـ الذي تطمئنّ إلى خبره ـ عن رأي
المجتهد في المسائل التي تخصّها ، كالحيض مثلا؟
وإذا ثبتت سيرة
العقلاء من الناس بما فيهم المسلمون على الأخذ بخبر الواحد الثقة ـ فإنّ الشارع
المقدّس متّحد المسلك معهم ؛ لأنّه منهم ، بل هو رئيسهم ـ فلا بدّ أن نعلم بأنّه متّخذ لهذه الطريقة العقلائيّة ، كسائر الناس ما دام أنّه لم يثبت لنا أنّ له
في تبليغ الأحكام
__________________
طريقا خاصّا مخترعا
منه غير طريق العقلاء ، ولو كان له طريق خاصّ قد اخترعه غير مسلك العقلاء لأذاعه وبيّنه للناس ، ولظهر واشتهر ، ولما جرت سيرة المسلمين على طبق سيرة باقي
البشر.
وهذا الدليل قطعيّ
لا يداخله الشكّ ؛ لأنّه مركّب من مقدّمتين قطعيّتين :
١ ـ ثبوت بناء
العقلاء على الاعتماد على خبر الثقة والأخذ به.
٢ ـ كشف هذا
البناء منهم عن موافقة الشارع لهم واشتراكه معهم ؛ لأنّه متّحد المسلك معهم.
قال شيخنا
النائينيّ قدسسره ـ كما في تقريرات تلميذه الكاظميّ قدسسره ـ : «وأمّا طريقة العقلاء فهي عمدة أدلّة الباب ، بحيث لو
فرض أنّه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلّة ، فلا سبيل إلى المناقشة في
الطريقة العقلائيّة القائمة على الاعتماد على خبر الثقة والاتّكال عليه في
محاوراتهم».
وأقصى ما قيل في الشكّ في هذا الاستدلال هو : أنّ الشارع لئن كان متّحد المسلك مع العقلاء
فإنّما يستكشف موافقته لهم ، ورضاه بطريقتهم ، إذا لم يثبت الردع منه عنها. وتكفي في الردع الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ وما وراء العلم التي ذكرناها
سابقا في البحث السادس من المقدّمة ؛ ؛ لأنّها بعمومها
تشمل خبر الواحد غير المفيد للعلم.
وقد عالجنا هذا
الأمر فيما يتعلّق بشمول هذه الآيات الناهية للاستصحاب في الجزء
__________________
الرابع (مبحث
الاستصحاب) فقلنا : إنّ هذه الآيات غير صالحة للردع عن الاستصحاب الذي
جرت سيرة العقلاء على الأخذ به ؛ لأنّ المقصود من النهي عن اتّباع غير العلم النهي
عنه إذ يراد به إثبات الواقع ، كقوله (تعالى) : (إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ، بينما أنّه ليس المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع
والحقّ ، بل هو أصل وقاعدة عمليّة يرجع إليها في مقام العمل عند الشكّ في الواقع
والحقّ. فيخرج الاستصحاب عن عموم هذه الآيات موضوعا.
وهذا العلاج ـ طبعا
ـ لا يجري في مثل خبر الواحد ؛ لأنّ المقصود به كسائر الأمارات الأخرى إثبات
الواقع وتحصيل الحقّ.
ولكن مع ذلك نقول
: إنّ خبر الواحد خارج عن عموم هذه الآيات تخصّصا ، كالظواهر التي حجّيّتها أيضا
مستندة إلى بناء العقلاء على ما سيأتي .
وذلك بأن يقال ـ حسبما
أفاده أستاذنا المحقّق الاصفهانيّ قدسسره في حاشيته على الكفاية ـ : «إنّ لسان النهي عن اتّباع
الظنّ ، وأنّه لا يغني من الحقّ شيئا ليس لسان التعبّد بأمر على خلاف الطريقة
العقلائيّة ، بل من باب إيكال الأمر إلى عقل المكلّف من جهة أنّ الظنّ بما هو ظنّ
لا مسوّغ للاعتماد عليه والركون إليه ، فلا نظر [في الآيات الناهية] إلى ما
استقرّت عليه سيرة العقلاء بما هم عقلاء على اتّباعه من حيث كونه خبر الثقة. ولذا
كان الرواة يسألون عن وثاقة الراوي للفراغ عن لزوم اتّباع روايته بعد فرض وثاقته».
أو يقال ـ حسبما
أفاده شيخنا النائينيّ قدسسره على ما في تقريرات الكاظمي قدسسره ـ : «إنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا تشمل خبر
الثقة [حتى يتوهّم أنّها تكفي للردع عن الطريقة العقلائية] ؛ لأنّ العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم ، بل
هو من أفراد العمل بالعلم ؛ لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع ؛ لما قد
جرت على ذلك
__________________
طباعهم واستقرّت
عليه عادتهم ، فهو خارج عن العمل بالظنّ موضوعا. فلا تصلح أن تكون الآيات الناهية
عن العمل بما وراء العلم أن تكون رادعة عن العمل بخبر الثقة ، بل الردع يحتاج إلى
قيام الدليل عليه بالخصوص».
وعلى كلّ حال ، لو
كانت هذه الآيات صالحة للردع عن مثل خبر الواحد والظواهر التي جرت سيرة العقلاء
على العمل بها ، ومنهم : المسلمون ، لعرف ذلك بين المسلمين ، وانكشف لهم ، ولما
أطبقوا على العمل بها ، و [لما] جرت سيرتهم عليه.
فهذا دليل قطعيّ
على عدم صلاحية هذه الآيات للردع عن العمل بخبر الواحد ، فلا نطيل بذكر الدور الذي
أشكلوا به في المقام ، والجواب عنه. وإن شئت الاطّلاع فراجع الرسائل وكفاية الأصول.
تمرينات
(٥٥)
١. ما هو الخبر
المتواتر ، وخبر الواحد؟
٢. اذكر الأقوال
في حجّيّة خبر الواحد.
٣. اذكر إشكال
الخصم على الاستدلال بالآيات على حجّيّة خبر الواحد. واذكر الجواب عنه.
٤. بيّن تقريب
الاستدلال بآية النبأ على حجّيّة خبر الواحد.
٥. بيّن تقريب
الاستدلال بآية النفر على حجّيّة خبر الواحد.
٦. هل يتمّ
الاستدلال بآية حرمة الكتمان على حجّيّة خبر الواحد؟ ما وجه الاستدلال بها؟ وما
وجه عدم تماميّته؟
٧. لم لا يصحّ
الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد بنفس خبر الواحد؟
٨. اذكر طائفتين
من الروايات الدالة على حجيّة خبر الواحد. واذكر تقريب الاستدلال بها.
٩. بيّن تقريب
الاستدلال بالإجماع على حجّيّة خبر الواحد ، مع أنّه قد يدّعى الإجماع على عدم
حجّيّته.
١٠. بيّن تقريب
الاستدلال ببناء العقلاء على حجّيّة خبر الواحد.
١١. اذكر ما قيل
في الإيراد على الاستدلال ببناء العقلاء ، واذكر جواب المحقّقين الأصفهانيّ ،
والنائيني عنه.
__________________
الباب الثالث
الإجماع
تمهيد
الإجماع أحد
معانيه في اللغة : «الاتّفاق». والمراد منه في الاصطلاح : «اتّفاق خاصّ» ، وهو
إمّا اتّفاق الفقهاء من المسلمين على حكم شرعيّ ، ، أو اتّفاق أهل الحلّ والعقد من المسلمين على الحكم ، ، أو اتّفاق أمّة محمّد صلىاللهعليهوآله على الحكم ، على اختلاف
التعريفات عندهم.
ومهما اختلفت هذه
التعبيرات فإنّها ـ على ما يظهر ـ ترمي إلى معنى جامع بينها ، وهو اتّفاق جماعة
لاتّفاقهم شأن في إثبات الحكم الشرعيّ. ولذا استثنوا من المسلمين
سواد الناس وعوامّهم ؛ لأنّهم لا شأن لآرائهم في استكشاف الحكم
الشرعيّ ، وإنّما هم تبع للعلماء ولأهل الحلّ والعقد.
وعلى كلّ حال ،
فإنّ هذا الإجماع بما له من هذا المعنى قد جعله الأصوليّون من أهل السنّة أحد
الأدلّة الأربعة ، أو الثلاثة على الحكم
الشرعيّ ، في مقابل الكتاب والسنّة.
__________________
أمّا : الإماميّة
فقد جعلوه أيضا أحد الأدلّة على الحكم الشرعيّ ، ولكن من ناحية شكليّة واسميّة فقط
؛ مجاراة للنهج الدراسيّ في أصول الفقه عند السنّيّين ، أي إنّهم لا
يعتبرونه دليلا مستقلاّ في مقابل الكتاب والسنّة ، بل إنّما يعتبرونه إذا كان
كاشفا عن السنّة ، أي عن قول المعصوم ؛ فالحجّيّة والعصمة ليستا للإجماع ، بل
الحجّة في الحقيقة هو قول المعصوم الذي يكشف عنه الإجماع عند ما تكون له أهليّة
هذا الكشف.
ولذا توسّع
الإماميّة في إطلاق كلمة «الإجماع» على اتّفاق جماعة قليلة لا يسمّى اتّفاقهم في
الاصطلاح إجماعا ، باعتبار أنّ اتّفاقهم يكشف كشفا قطعيّا عن قول المعصوم ، فيكون
له حكم الإجماع ، بينما لا يعتبرون الإجماع الذي لا يكشف عن قول المعصوم وإن سمّي
إجماعا بالاصطلاح. وهذه نقطة خلاف جوهريّة في الإجماع ينبغي أن نجلّيها ، ونلتمس
الحقّ فيها ، فإنّ لها كلّ الأثر في تقييم الإجماع من جهة حجّيّته.
ولأجل أن نتوصّل
إلى الغرض المقصود لا بدّ من توجيه بعض الأسئلة لأنفسنا لنلتمس الجواب عليها :
أوّلا : من أين انبثق للأصوليّين القول
بالإجماع ، فجعلوه حجّة ودليلا مستقلاّ على الحكم الشرعيّ في مقابل الكتاب والسنّة؟
ثانيا : هل المعتبر عند من يقول بالإجماع اتّفاق جميع الأمّة ،
أو اتّفاق جميع العلماء في عصر من العصور ، أو بعض منهم يعتدّ به؟ ومن هم الذين
يعتدّ بأقوالهم؟
أمّا السؤال
الأوّل :
فإنّ الذي يثيره في النفس ويجعلها في موضع الشكّ فيه أنّ إجماع الناس جميعا على
__________________
شيء ، أو إجماع
أمّة من الأمم بما هو إجماع واتّفاق لا قيمة علميّة له في استكشاف حكم الله (تعالى)
؛ لأنّه لا ملازمة بينه وبين حكم الله (تعالى) ، فالعلم به لا يستلزم العلم بحكم
الله (تعالى) بأيّ وجه من وجوه الملازمة.
نعم ، الشيء الذي
يجب ألاّ يفوتنا التنبيه عليه في الباب أنّا قد قلنا فيما سبق في الجزء الثاني وسيأتي : إنّ تطابق آراء العقلاء بما هم عقلاء في القضايا المشهورة
العمليّة التي نسمّيها «الآراء المحمودة» ، والتي تتعلّق بحفظ النظام والنوع ،
يستكشف به الحكم الشرعيّ ؛ لأنّ الشارع من العقلاء ، بل رئيسهم ، وهو خالق العقل ،
فلا بدّ أن يحكم بحكمهم.
ولكن هذا التطابق
ليس من نوع الإجماع المقصود ، بل هو نفس الدليل العقليّ الذي نقول بحجّيّته في
مقابل الكتاب ، والسنّة ، والإجماع. وهو من باب التحسين والتقبيح العقليّين الذي ينكره هؤلاء الذاهبون إلى حجّيّة الإجماع.
أمّا : إجماع
الناس ـ الذي لا يدخل في تطابق آراء العقلاء بما هم عقلاء ـ فلا سبيل إلى اتّخاذه
دليلا على الحكم الشرعيّ ؛ لأنّ اتّفاقهم قد يكون بدافع العادة ، أو العقيدة ، أو
الانفعال النفسيّ ، أو الشبهة ، أو نحو ذلك. وكلّ هذه الدوافع من خصائص البشر ، لا
يشاركهم الشارع فيها ؛ لتنزّهه عنها. فإذا حكموا بشيء بأحد هذه الدوافع لا يجب أن
يحكم الشارع بحكمهم ، فلا يستكشف من اتّفاقهم على حكم ـ بما هو اتّفاق ـ أنّ هذا
الحكم واقعا هو حكم الشارع.
ولو أنّ إجماع
الناس بما هو إجماع ـ كيفما كان وبأيّ دافع كان ـ هو حجّة ودليل لوجب أن يكون
إجماع الأمم الأخرى غير المسلمة أيضا حجّة ودليلا. ولا يقول بذلك واحد ممّن يرى
حجّيّة الإجماع.
إذن ، كيف اتّخذ
الأصوليّون إجماع المسلمين بالخصوص حجّة؟! وما الدليل لهم على ذلك؟
__________________
وللجواب عن هذا
السؤال علينا أن نرجع القهقرى إلى أوّل إجماع اتّخذ دليلا في تأريخ المسلمين. إنّه
الإجماع المدّعى على بيعة أبي بكر ؛ خليفة للمسلمين ، فإنّه إذا وقعت البيعة له ـ والمفروض
أنّه لا سند لها من طريق النصّ القرآنيّ ، والسنّة النبويّة ـ اضطرّوا إلى
تصحيح شرعيّتها من طريق الإجماع ، فقالوا :
أوّلا : إنّ المسلمين من أهل المدينة أو أهل الحلّ والعقد منهم
أجمعوا على بيعته.
وثانيا : إنّ الإمامة من الفروع لا من الأصول.
وثالثا : إنّ الإجماع حجّة في مقابل الكتاب والسنّة ، أي إنّه
دليل ثالث ، غير الكتاب والسنّة.
ثمّ منه توسّعوا ،
فاعتبروه دليلا في جميع المسائل الشرعيّة الفرعيّة. وسلكوا لإثبات حجّيّته ثلاثة
مسالك : الكتاب ، والسنّة ، والعقل.
ومن الطبيعي ألاّ
يجعلوا الإجماع من مسالكه ؛ لأنّه يؤدّي إلى إثبات الشيء بنفسه ، وهو دور باطل.
أمّا مسلك الكتاب
: فآيات استدلّوا بها [وهي] لا تنهض دليلا على مقصودهم. وأولاها بالذكر آية سبيل
المؤمنين ، وهي قوله (تعالى) : (وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) . فإنّها توجب اتّباع سبيل المؤمنين ، فإذا أجمع المؤمنون على حكم فهو سبيلهم
، فيجب اتّباعه. وبهذه الآية تمسّك الشافعيّ على ما نقل عنه.
ويكفينا في ردّ
الاستدلال بها ما استظهره الشيخ الغزاليّ منها ؛ إذ قال : «الظاهر أنّ المراد
__________________
بها أنّ من يقاتل
الرسول ويشاقّه ويتّبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه
نولّه ما تولّى ؛ فكأنّه لم يكتف بترك المشاقّة حتى تنضمّ إليه متابعة سبيل
المؤمنين في نصرته ، والذبّ عنه ، والانقياد له فيما يأمر وينهى». ثمّ قال : «وهذا
هو الظاهر السابق إلى الفهم».
وهو كذلك كما
استظهره.
أمّا : الآيات
الأخرى فقد اعترف الغزاليّ كغيره بعدم ظهورها في حجّيّة الإجماع ، فلا نطيل بذكرها ،
ومناقشة الاستدلال بها.
وأمّا مسلك السنّة
: فهي أحاديث رووها بما يؤدّي مضمون الحديث «لا تجتمع أمّتي على الخطأ» ، وقد ادّعوا تواترها معنى ، فاستنبطوا منه عصمة الأمّة الإسلاميّة من الخطأ
والضلالة ، ، فيكون إجماعها كقول المعصوم حجّة ومصدرا مستقلاّ لمعرفة
حكم الله (تعالى).
وهذه الأحاديث ـ على تقدير التسليم بصحّتها ، وأنّها توجب العلم ؛ لتواترها معنى ـ لا تنفع
في تصحيح دعواهم ؛ لأنّ المفهوم من اجتماع الأمّة كلّ الأمّة ، لا بعضها ، فلا
تثبت بهذه الأحاديث عصمة البعض من الأمّة ، بينما أنّ مقصودهم من الإجماع ، إجماع
خصوص الفقهاء ، أو أهل الحلّ والعقد في عصر من العصور ، بل خصوص الفقهاء المعروفين
، بل خصوص المعروفين من فقهاء طائفة خاصّة ، وهي طائفة أهل السنّة ، بل يكتفون
باتّفاق جماعة ، ويطمئنّون إليهم ، كما هو الواقع في بيعة السقيفة.
فأنّى لنا أن نحصل
على إجماع جميع الأمّة بجميع طوائفها وأشخاصها في جميع
__________________
العصور إلاّ في
ضروريّات الدين ، مثل وجوب الصلاة ، والزكاة ، ونحوهما. وهذه ضروريّات الدين ليست
من نوع الإجماع المبحوث عنه. ولا نحتاج في إثبات الحكم بها إلى القول بحجّيّة
الإجماع.
وأمّا مسلك العقل
الذي عبّر عنه بعضهم بالطريق المعنويّ ـ : فغاية ما يقال في توجيهه أنّ الصحابة
إذا قضوا بقضيّة ، وزعموا أنّهم قاطعون بها فلا يقطعون بها إلاّ عن مستند قاطع ،
وإذا كثروا كثرة تنتهي إلى حدّ التواتر فالعادة تحيل عليهم قصد الكذب ، وتحيل
عليهم الغلط. فقطعهم في غير محلّ القطع محال في العادة. والتابعون وتابعو التابعين
إذا قطعوا بما قطع به الصحابة ، فيستحيل في العادة أن يشذّ عن جميعهم الحقّ مع
كثرتهم.
ومثل هذا الدليل
يصحّ أن يناقش فيه بأنّ إجماعهم هذا إن كان يعلم بسببه قول المعصوم فلا شكّ في أنّ
هذا علم قطعيّ بالحكم الواقعيّ ، فيكون حجّة ؛ لأنّه قطع بالسنّة ، ولا كلام لأحد
فيه ؛ لأنّ هذا الإجماع يكون من طرق إثبات السنّة.
وأمّا : إذا لم
يعلم بسببه قول المعصوم ـ كما هو المقصود من فرض الإجماع حجّة مستقلّة ، ودليلا في
مقابل الكتاب والسنّة ـ فإنّ قطع المجمعين ـ مهما كانوا ـ لئن كان يستحيل في
العادة قصدهم الكذب في ادّعاء القطع ، كما في الخبر المتواتر ، فإنّه لا يستحيل في
حقّهم الغفلة ، أو الاشتباه ، أو الغلط ، كما لا يستحيل أن يكون إجماعهم بدافع
العادة ، أو العقيدة ، أو أيّ دافع من الدوافع الأخرى التي أشرنا إليها سابقا.
ولأجل ذلك اشترطنا
في التواتر الموجب للعلم ألاّ يتطرّق إليه احتمال خطأ المخبرين في فهم الحادثة ،
واشتباههم ، كما شرحناه في كتاب المنطق.
ولا عجب في تطرّق
احتمال الخطأ في اتّفاق الناس على رأي ، بل تطرّق الاحتمال إلى ذلك أكثر من تطرّقه
إلى الاتّفاق في النقل ؛ لأنّ أسباب الاشتباه والغلط فيه أكثر.
ثمّ إنّ هذا
الطريق العقليّ أو المعنويّ لو تمّ فأيّ شيء يخصّصه بخصوص الصحابة ،
__________________
أو المسلمين ، أو
علماء طائفة خاصّة ، من دون باقي الناس ، وسائر الأمم؟ إلاّ إذا ثبت من دليل آخر
اختصاص المسلمين ، أو بعض منهم بمزيّة خاصّة ليست للأمم الأخرى ، وهي العصمة من
الخطأ. فإذن ، ـ على هذا التقدير ـ لا يكون الدليل على الإجماع إلاّ هذا الدليل
الذي يثبت العصمة للأمّة المسلمة ، أو بعضها ، لا الطريق العقلي المدّعى. وهذا
رجوع إلى المسلك الأوّل والثاني ، وليس هو مسلكا مستقلاّ عنهما.
وبالختام نقول :
إذا كانت هذه المسالك الثلاثة لم تتمّ لنا أدلّة على حجّيّة الإجماع من أصله من
جهة أنّه إجماع فلا يظهر للإجماع قيمة من ناحية كونه حجّة ، ومصدرا للتشريع
الإسلاميّ مهما بالغ الناس في الاعتماد عليه. وإنّما يصحّ الاعتماد عليه إذا كشف
لنا عن قول المعصوم ، فيكون حينئذ كالخبر المتواتر الذي تثبت به السنّة. وسيأتي
البحث عن ذلك.
وأمّا السؤال
الثاني :
فالذي يثيره أنّ
ظاهر تلك المسالك الثلاثة المتقدّمة يقضي بأنّ الحجّة إنّما هو إجماع الأمّة كلّها
، أو جميع المؤمنين بدون استثناء ، فمتى ما شذّ واحد منهم ـ أيّ [مخالف] كان ـ فلا
يتحقّق الإجماع الذي قام الدليل على حجّيّته ؛ فإنّه مع وجود المخالف ـ وإن كان واحدا
ـ لا يحصل القطع بحجّيّة إجماع من عداه مهما كان شأنهم ؛ لأنّ العصمة ـ على تقدير
ثبوتها بالأدلّة المتقدّمة ـ إنّما ثبتت لجميع الأمّة ، لا لبعضها.
ولكن ما توقّعوه
من ذهابهم إلى حجّيّة الإجماع ـ وهو إثبات شرعيّة بيعة أبي بكر ـ لم يحصل لهم ؛
لأنّه قد ثبتت من طريق التواتر مخالفة عليّ عليهالسلام وجماعة كبيرة من بني هاشم وباقي المسلمين ، ولئن التجأ
أكثرهم بعد ذلك إلى البيعة ، فإنّه بقي منهم من لم يبايع حتى مات ، مثل سعد بن
عبادة (قتيل الجنّ!).
ولأجل هذه
المفارقة بين أدلّة الإجماع وواقعه الذي أرادوا تصحيحه كثرت الأقوال
__________________
في هذا الباب
لتوجيهها ، فقال مالك ـ على ما نسب إليه ـ : «إنّ الحجّة هو إجماع أهل المدينة فقط». وقال قوم : «الحجّة إجماع أهل
الحرمين : مكّة ، والمدينة. والمصرين : الكوفة ، والبصرة ». وقال قوم : «المعتبر إجماع أهل الحلّ والعقد ». وقال بعض : «المعتبر إجماع الفقهاء الأصوليّين خاصّة ». وقال بعض : «الاعتبار بإجماع أكثر المسلمين ». واشترط بعض في المجمعين أن يحقّقوا عدد التواتر. وقال آخرون : «الاعتبار بإجماع الصحابة فقط دون غيرهم ممّن جاءوا بعد عصرهم»
، كما نسب ذلك إلى داود وشيعته . إلى غير ذلك من الأقوال التي يطول ذكرها ، المنقولة في
جملة من كتب الأصول.
وكلّ هذه الأقوال
تحكّمات ، لا سند لها ولا دليل ، ولا ترفع الغائلة من تلك المفارقة الصارخة. والذي
دفع أولئك القائلين بتلك المقالات أمور وقعت في تأريخ بيعة الخلفاء ، يطول شرحها ،
أرادوا تصحيحها بالإجماع.
هذه هي الجذور
العميقة للمسألة التي أوقعت القائلين بحجّيّة الإجماع في حيص بيص لتصحيحه وتوجيهه
، وإلاّ فتلك المسالك الثلاثة ـ إن سلّمت ـ لا تدلّ على أكثر من حجّيّة
__________________
إجماع الكلّ بدون
استثناء ، فتخصيص حجّيّته ببعض الأمّة دون بعض بلا مخصّص. نعم ، المخصّص هو الرغبة
في إصلاح أصل المذهب ، والمحافظة عليه على كلّ حال.
الإجماع عند
الإماميّة
إنّ الإجماع بما
هو إجماع لا قيمة علميّة له عند الإماميّة ما لم يكشف عن قول المعصوم ، كما تقدّم
وجهه . فإذا كشف على نحو القطع عن قوله فالحجّة في الحقيقة هو
المنكشف لا الكاشف ، فيدخل حينئذ في السنّة ، ولا يكون دليلا مستقلاّ في مقابلها.
وقد تقدّم أنّه لم
تثبت عندنا عصمة الأمّة عن الخطأ ، وإنّما أقصى ما
يثبت عندنا من اتّفاق الأمّة أنّه يكشف عن رأي من له العصمة ، فالعصمة في المنكشف
لا في الكاشف.
وعلى هذا ، فيكون
الإجماع منزلته منزلة الخبر المتواتر ، الكاشف بنحو القطع عن قول المعصوم ، فكما
أنّ الخبر المتواتر ليس بنفسه دليلا على الحكم الشرعيّ رأسا ، بل هو دليل على
الدليل على الحكم ، فكذلك الإجماع ليس بنفسه دليلا ، بل هو دليل
على الدليل.
غاية الأمر أنّ
هناك فرقا بين الإجماع والخبر المتواتر : إنّ الخبر دليل لفظيّ على قول المعصوم ،
أي إنّه يثبت به نفس كلام المعصوم ولفظه فيما إذا كان التواتر للّفظ.
أمّا : الإجماع
فهو دليل قطعيّ على نفس رأي المعصوم ، لا على لفظ خاصّ له ؛ لأنّه لا يثبت به ـ في
أيّ حال ـ أنّ المعصوم قد تلفّظ بلفظ خاصّ معيّن في بيانه للحكم ؛ ولأجل هذا يسمّى
الإجماع بـ «الدليل اللبّيّ» ، نظير الدليل العقليّ. يعني : أنّه يثبت بهما نفس
المعنى والمضمون من الحكم الشرعيّ الذي هو كاللبّ بالنسبة إلى اللفظ الحاكي عنه
الذي هو كالقشر له.
والثمرة بين
الدليل اللفظيّ واللبّيّ تظهر في المخصّص إذا كان لبّيّا أو لفظيّا ، على ما ذكره
الشيخ الأنصاريّ ـ كما تقدّم ـ لذهابه إلى جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة
__________________
المصداقيّة ، إذا
كان المخصّص لبّيّا ، دون ما إذا كان لفظيا.
وإذا كان الإجماع
حجّة من جهة كشفه عن قول المعصوم فلا يجب فيه اتّفاق الجميع بغير استثناء ، كما هو
مصطلح أهل السنّة على مبناهم ، بل يكفي اتّفاق كلّ من يستكشف من اتّفاقهم قول
المعصوم ، كثروا أم قلّوا ، إذا كان العلم باتّفاقهم يستلزم العلم بقول المعصوم ،
كما صرّح بذلك جماعة من علمائنا.
قال المحقّق في «المعتبر»
ـ بعد أن أناط حجّيّة الإجماع بدخول المعصوم ـ : «فلو خلا المائة من فقهائنا من
قوله لما كان حجّة ، ولو حصل في اثنين كان قولهما حجّة» .
وقال السيّد
المرتضى ـ على ما نقل عنه ـ : «إذا كان علّة كون الإجماع حجّة كون الإمام فيهم
فكلّ جماعة ـ كثرت أو قلّت ـ كان الإمام في أقوالها فإجماعها حجّة».
إلى غير ذلك من
التصريحات المنقولة عن جماعة كثيرة من علمائنا. ولكن سيأتي أنّه على بعض المسالك في الإجماع لا بدّ من إحراز اتّفاق الجميع.
وعلى هذا ، فيكون
تسمية اتّفاق جماعة من علماء الإماميّة بالإجماع مسامحة ظاهرة ؛ فإنّ الإجماع
حقيقة عرفيّة في اتّفاق جميع العلماء من المسلمين على حكم شرعيّ. ولا يلزم من كون
مثل اتّفاق الجماعة القليلة حجّة أن يصحّ تسميتها بالإجماع. ولكن قد شاع هذا
التسامح في لسان الخاصّة من علماء الإماميّة على وجه أصبح لهم اصطلاح آخر فيه ،
فيراد من الإجماع عندهم كلّ اتّفاق يستكشف منه قول المعصوم ، سواء كان اتّفاق
الجميع أو البعض ، فيعمّ القسمين.
والخلاصة [أنّ] التي نريد
أن ننصّ عليها ، وتعنينا من البحث أنّ الإجماع إنّما يكون حجّة إذا علم بسببه ـ على
سبيل القطع ـ قول المعصوم ، فما لم يحصل العلم بقوله ـ وإن
__________________
حصل الظنّ منه ـ فلا
قيمة له عندنا ، ولا دليل على حجّيّة مثله.
أمّا : كيف يستكشف
من الإجماع على سبيل القطع قول المعصوم؟ فهذا ما ينبغي البحث عنه. وقد ذكروا لذلك
طرائق ، أنهاها المحقّق الشيخ أسد الله التستريّ في رسالته في المواسعة والمضايقة
ـ على ما نقل عنه ـ إلى اثنتي عشرة طريقة. ونحن نكتفي بذكر الطرائق المعروفة
، وهي ثلاث ، بل أربع :
١.
طريقة الحسّ : وبها يسمّى
الإجماع «الإجماع الدخوليّ» ، وتسمّى «الطريقة التضمّنيّة». وهي الطريقة المعروفة
عند قدماء الأصحاب التي اختارها السيّد المرتضى وجماعة سلكوا مسلكه .
وحاصلها : أن يعلم
بدخول الإمام في ضمن المجمعين على سبيل القطع ، من دون أن يعرف بشخصه من بينهم.
وهذه الطريقة
إنّما تتصوّر إذا استقصى الشخص المحصّل للإجماع بنفسه وتتبّع أقوال العلماء فعرف
اتّفاقهم ، ووجد من بينها أقوالا متميّزة معلومة لأشخاص مجهولين ، حتى حصل له
العلم بأنّ الإمام من جملة أولئك المتّفقين ؛ أو يتواتر لديهم النقل عن أهل بلد أو
عصر فعلم أنّ الإمام كان من جملتهم ، ولم يعلم قوله بعينه من بينهم ، فيكون من نوع
الإجماع المنقول بالتواتر.
ومن الواضح أنّ
هذه الطريقة لا تتحقّق غالبا إلاّ لمن كان موجودا في عصر الإمام. أمّا : بالنسبة
إلى العصور المتأخّرة فبعيدة التحقّق ، لا سيّما في الصورة الأولى ، وهي السماع من
نفس الإمام.
وقد ذكروا أنّه لا
يضرّ في حجّيّة الإجماع ـ على هذه الطريقة ـ مخالفة معلوم النسب ، وإن كثروا ممّن
يعلم أنّه غير الإمام ، بخلاف مجهول النسب ، على وجه يحتمل أنّه الإمام ؛ فإنّه في
هذه الصورة لا يتحقّق العلم بدخول الإمام في المجمعين.
__________________
٢.
طريقة قاعدة اللطف : وهي أن يستكشف عقلا رأي المعصوم من اتّفاق من عداه من العلماء الموجودين في عصره خاصّة ، أو في العصور المتأخّرة ، مع عدم ظهور
ردع من قبله لهم بأحد وجوه الردع الممكنة ، خفيّة أو ظاهرة ، إمّا بظهوره نفسه ،
أو بإظهار من يبيّن الحقّ في المسألة. فإنّ قاعدة اللطف ـ كما اقتضت نصب الإمام
وعصمته ـ تقتضي أيضا أن يظهر الإمام الحقّ في المسألة التي يتّفق المفتون فيها على
خلاف الحقّ ، وإلاّ للزم سقوط التكليف بذلك الحكم ، أو إخلال الإمام بأعظم ما وجب
عليه ونصب لأجله ، وهو تبليغ الأحكام المنزّلة.
وهذه الطريقة هي
التي اختارها الشيخ الطوسيّ ، ومن تبعه ، بل يرى انحصار
استكشاف قول الإمام من الإجماع فيها. وربما يستظهر من كلام السيّد المرتضى ـ المنقول
في «العدّة» عنه في ردّ هذه الطريقة ـ كونها معروفة قبل الشيخ أيضا.
ولازم هذه الطريقة
عدم قدح المخالفة مطلقا ، سواء كانت من معلوم النسب ، أو مجهوله ، مع العلم بعدم
كونه الإمام ، ولم يكن معه برهان يدلّ على صحّة فتواه.
ولازم هذه الطريقة
أيضا عدم كشف الإجماع إذا كان هناك آية ، أو سنّة قطعيّة على خلاف المجمعين ، وإن
لم يفهموا دلالتها على الخلاف ؛ إذ يجوز أن يكون الإمام قد اعتمد عليها في تبليغ
الحقّ.
٣.
طريقة الحدس : وهي أن يقطع
بكون ما اتّفق عليه فقهاء الإماميّة وصل إليهم من رئيسهم وإمامهم يدا بيد ، فإنّ
اتّفاقهم ـ مع كثرة اختلافهم في أكثر المسائل ـ يعلم منه أنّ الاتّفاق كان مستندا
إلى رأي إمامهم ، لا عن اختراع للرأي من تلقاء أنفسهم اتّباعا للأهواء ؛ أو
استقلالا بالفهم. كما يكون ذلك في اتّفاق أتباع سائر ذوي الآراء والمذاهب ، فإنّه
لا نشكّ فيها أنّها مأخوذة من متبوعهم ورئيسهم الذي يرجعون إليه.
والذي يظهر ، أنّه
قد ذهب إلى هذه الطريقة أكثر المتأخّرين. ولازمها أنّ
الاتّفاق
__________________
ينبغي أن يقع في
جميع العصور من عصر الأئمّة إلى العصر الذي نحن فيه ؛ لأنّ اتّفاق أهل عصر واحد ـ مع
مخالفة من تقدّم ـ يقدح في حصول القطع ، بل يقدح فيه مخالفة معلوم النسب ممّن
يعتدّ بقوله ، فضلا عن مجهول النسب.
٤.
طريقة التقرير : وهي أن يتحقّق الإجماع بمرأى ومسمع من المعصوم ، مع إمكان ردعهم ببيان الحقّ
لهم ، ولو بإلقاء الخلاف بينهم ، فإنّ اتّفاق الفقهاء على حكم ـ والحال هذه ـ يكشف
عن إقرار المعصوم لهم فيما رأوه ، وتقريرهم على ما ذهبوا إليه ؛ فيكون ذلك دليلا
على أنّ ما اتّفقوا عليه هو حكم الله واقعا.
وهذه الطريقة لا
تتمّ إلاّ مع إحراز جميع شروط التقرير التي قد تقدّم الكلام عليها في مبحث السنّة.
ومع إحراز جميع الشروط لا شكّ في استكشاف موافقة المعصوم ،
بل بيان الحكم من شخص واحد بمرأى ومسمع من المعصوم ، مع إمكان ردعه وسكوته عنه
يكون سكوته تقريرا كاشفا عن موافقته. ولكنّ المهمّ أن يثبت لنا أنّ الإجماع في عصر
الغيبة هل يتحقّق فيه إمكان الردع من الإمام ، ولو بإلقاء الخلاف؟ أو هل يجب على
الإمام بيان الحكم الواقعيّ والحال هذه؟ وسيأتي ما ينفع في المقام.
هذه خلاصة ما قيل
من الوجوه المعروفة في استنتاج قول الإمام من الإجماع.
وقد يحصل للإنسان
ـ المتتبّع لأقوال العلماء ، المحصّل لإجماعهم ـ بعض الوجوه دون البعض ـ أي لا يجب
في كلّ إجماع أن يبتنى على وجه واحد من هذه الوجوه ـ ؛ وإن كان السيّد المرتضى يرى
انحصاره في الطريقة الأولى (الطريقة التضمّنيّة) ـ أي الإجماع الدخوليّ ـ ، والشيخ
الطوسيّ يرى انحصاره في الطريقة الثانية (طريقة قاعدة اللطف).
وعلى كلّ حال ،
فإنّ الإجماع إنّما يكون حجّة إذا كشف كشفا قطعيّا عن قول المعصوم من أيّ سبب كان
، وعلى أيّة طريقة حصل ، فليس من الضروريّ أن نفرض حصوله من
__________________
طريقة مخصوصة من
هذه الطرائق ، أو نحوها ، بل المناط حصول القطع بقول المعصوم.
والتحقيق أنّه يندر حصول القطع بقول المعصوم من الإجماع المحصّل
ندرة لا تبقى معها قيمة لأكثر الإجماعات التي نحصّلها ، بل لجميعها بالنسبة إلى
عصور الغيبة. وتفصيل ذلك أن نقول ببرهان السبر والتقسيم : إنّ المجمعين إمّا أن
يكون رأيهم ـ الذي اتّفقوا عليه ـ بغير مستند ودليل ، أو عن مستند ودليل. لا يصحّ
الفرض الأوّل ؛ لأنّ ذلك مستحيل عادة في حقّهم ، ولو جاز ذلك في حقّهم فلا تبقى
قيمة لآرائهم حتى يستكشف منها الحقّ. فيتعيّن الفرض الثاني ، وهو أن يكون لهم مدرك
خفي علينا وظهر لهم.
ومدارك الأحكام
منحصرة عند الإماميّة في أربعة : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والدليل العقليّ.
ولا يصحّ أن يكون مدركهم ما عدا السنّة من هذه الأربعة.
أمّا الكتاب :
فإنّما لا يصحّ أن يكون مدركهم ؛ فلأجل أنّ القرآن الكريم بين أيدينا مقروء ومفهوم
، فلا يمكن فرض آية منه خفيت علينا ، وظهرت لهم. ولو فرض أنّهم فهموا من آية شيئا
خفي علينا وجهه فإنّ فهمهم ليس حجّة علينا ، فإجماعهم لو استند إلى ذلك لا يكون
موجبا للقطع بالحكم الواقعيّ ، أو موجبا لقيام الحجّة علينا. فلا ينفع مثل هذا
الإجماع.
وأمّا الإجماع :
فواضح أنّه لا يصحّ أن يكون مدركا لهم ؛ لأنّ هذا الإجماع ـ الذي صار مدركا
للإجماع ـ ننقل الكلام إليه أيضا ، فنسأل عن مدركه ، فلا بدّ أن ينتهي إلى غيره من
المدارك الأخرى.
وأمّا الدليل
العقليّ : فأوضح ؛ لأنّه لا تتصوّر هناك قضيّة عقليّة يتوصّل بها إلى حكم شرعيّ
كانت مستورة علينا ، وظهرت لهم ؛ ضرورة أنّه لا بدّ في القضيّة العقليّة ـ التي
يتوصّل بها إلى الحكم الشرعيّ ـ أن تتطابق عليها آراء جميع العقلاء ، وإلاّ فلا
يصحّ التوصّل بها إلى الحكم الشرعيّ. فلو أنّ المجمعين كانوا قد تمسّكوا بقضيّة
عقليّة ليست بهذه المثابة فلا تبقى قيمة لآرائهم حتى يستكشف منها الحقّ وموافقة
الإمام ؛ لأنّهم يكونون كمن لا مدرك لهم.
فانحصر مدركهم في
جميع الأحوال في «السنّة».
والاستناد إلى
السنّة يتصوّر على وجهين :
١. أن يسمع
المجمعون أو بعضهم الحكم من المعصوم مشافهة ، أو يرون فعله ، أو تقريره. وهذا
بالنسبة إلى عصرنا لا سبيل فيه حتى إلى الظنّ به ، فضلا عن القطع ، وإن احتمل
إمكان مشافهة بعض الأبدال من العلماء للإمام. بل الحال كذلك ، حتى بالنسبة إلى من
هم في عصر المعصومين ، أي إنّه لا يحصل القطع فيه لنا بمشافهتهم للمعصوم ؛ لاحتمال
أنّهم استندوا إلى رواية وثقوا بها ، وإن كان احتمال المشافهة قريبا جدّا ، بل هي
مظنونة.
على أنّه لا مجال
ـ بالنسبة إلينا ـ لتحصيل إجماع الفقهاء الموجودين في تلك العصور ؛ إذ ليست آراؤهم
مدوّنة ، وكلّ ما دوّنوه هي الأحاديث التي ذكروها في أصولهم المعروفة بالأصول
الأربعمائة.
٢. أن يستند
المجمعون إلى رواية عن المعصوم. ولا مجال في هذا الإجماع لإفادته القطع بالحكم ،
أو كشفه عن الحجّة الشرعيّة من جهة السند ، والدلالة معا.
أمّا : من جهة
السند فلاحتمال أنّ المجمعين كانوا متّفقين على اعتبار الخبر الموثّق ، أو الحسن ،
فمن لا يرى حجّيّتهما لا مجال له في الاستناد إلى مثله. فمن أين يحصل لنا العلم
بأنّهم استندوا إلى ما هو حجّة باتّفاق الجميع؟
وأمّا : من جهة
الدلالة فلاحتمال أن يكون ذلك الخبر المفروض ـ لو فرض أنّه حجّة من جهة السند ـ ليس
نصّا في الحكم ، ولا ينفع أن يكون ظاهرا عندهم في الحكم ، فإنّ ظهور دليل عند قوم
لا يستلزم أن يكون ظاهرا لدى كلّ أحد ، وفهم قوم ليس حجّة على غيرهم. ألا ترى أنّ
المتقدّمين اشتهر عندهم استفادة النجاسة من أخبار البئر ، واشتهر عند المتأخّرين
عكس ذلك ، ابتداء من العلاّمة الحلّي؟ فلعلّ الخبر الذي كان مدركا لهم ليس ظاهرا
عندنا لو اطّلعنا عليه.
إذا عرفت ذلك ظهر
لك أنّ الإجماع لا يستلزم القطع بقول المعصوم عدا الإجماع الدخوليّ وهو بالنسبة
إلينا غير عمليّ.
وأمّا : القول
بأنّ قاعدة اللطف تقتضي أن يكون الإمام موافقا لرأي المجمعين وإن استند المجمعون
إلى خبر الواحد الذي ربما لا تثبت لنا حجّيّته من جهة السند أو الدلالة
لو اطّلعنا عليه ؛
فإنّنا لم نتحقّق جريان هذه القاعدة في المقام ؛ وفاقا لما ذهب إليه الشيخ الأعظم
الأنصاريّ وغيره ، بالرغم من تعويل الشيخ الطوسيّ وأتباعه عليها ؛ لأنّ السبب الذي يدعو إلى اختفاء الإمام ، واحتجاب نفعه ـ مع ما فيه من تفويت لأعظم المصالح النوعيّة للبشر ـ هو نفسه قد يدعو إلى احتجاب حكم
الله عند إجماع العلماء على حكم مخالف للواقع ، لا سيّما إذا كان الإجماع من أهل
عصر واحد. ولا يلزم من ذلك إخلال الإمام بالواجب عليه ، وهو تبليغ الأحكام ؛ لأنّ
الاحتجاب ليس من سببه.
وعلى هذا ، فمن
أين يحصل لنا القطع بأنّه لا بدّ للإمام من إظهار الحقّ في حال غيبته عند حصول
إجماع مخالف للواقع؟
وللمشكّك أن يزيد
على ذلك ، فيقول : لما ذا لا تقتضي هذه القاعدة أن يظهر الإمام الحقّ ، حتى في
صورة الخلاف ، لا سيّما أنّ بعض المسائل الخلافيّة قد يقع فيها أكثر الناس في
مخالفة الواقع؟ بل لو أحصينا المسائل الخلافيّة في الفقه ـ التي هي الأكثر من
مسائله ـ لوجدنا أنّ كثيرا من الناس لا محالة واقعون في مخالفة الواقع ، فلما ذا
لا يجب على الإمام هنا تبليغ الأحكام ، ليقلّ الخلاف ، أو ينعدم ، وبه نجاة
المؤمنين من الوقوع في مخالفة الواقع؟
وإذا جاء الاحتمال
لا يبقى مجال لاستلزام الإجماع القطع بقول المعصوم من جهة قاعدة اللطف.
وأمّا : مسلك
الحدس ، فإنّ عهدة دعواه على مدّعيها ، وليس من السهل حصول القطع للإنسان في ذلك ،
إلاّ أن يبلغ الاتّفاق درجة يكون الحكم فيه من ضروريّات الدين ، أو المذهب ، أو
قريبا من ذلك عند ما يحرز اتّفاق جميع العلماء في جميع العصور بغير استثناء ، فإنّ
مثل هذا الاتّفاق يستلزم عادة موافقته لقول الإمام ، وإن كان مستند المجمعين خبر
الواحد ، أو الأصل.
وكذلك يلحق بالحدس
مسلك التقرير ونحوه ممّا هو من هذا القبيل.
__________________
وعلى كلّ حال ، لم
تبق لنا ثقة بالإجماع فيما بعد عصر الإمام في استفادة قول الإمام على سبيل القطع
واليقين.
الإجماع المنقول
إنّ الإجماع ـ في
الاصطلاح ـ ينقسم إلى قسمين :
١.
الإجماع المحصّل : والمقصود به الإجماع الذي يحصّله الفقيه بنفسه بتتبّع أقوال أهل الفتوى. وهو
الذي تقدّم البحث عنه.
٢.
الإجماع المنقول : والمقصود به الإجماع الذي لم يحصّله الفقيه بنفسه ، وإنّما ينقله له من
حصّله من الفقهاء ، سواء كان النقل له بواسطة ، أم بوسائط.
ثمّ النقل تارة
يقع على نحو التواتر ؛ وهذا حكمه حكم المحصّل من جهة الحجّيّة.
وأخرى يقع على نحو
خبر الواحد. وإذا أطلق قول «الإجماع المنقول» في لسان الأصوليين فالمراد منه هذا
الأخير.
وقد وقع الخلاف
بينهم في حجّيّته على أقوال.
ولكنّ الذي يظهر
أنّهم متّفقون على حجّيّة نقل الإجماع الدخوليّ ، وهو الإجماع الذي يعلم فيه من
حال الناقل أنّه تتّبع فتاوى من نقل اتّفاقهم حتى المعصوم ، فيدخل المعصوم في جملة
المجمعين. وينبغي أن يتّفقوا على ذلك ؛ لأنّه لا يشترط في حجّيّة خبر الواحد معرفة
المعصوم تفصيلا حين سماع الناقل منه ، وهذا الناقل ـ حسب الفرض ـ قد نقل عن
المعصوم بلا واسطة وإن لم يعرفه بالتفصيل. غير أنّ الإجماع الدخوليّ ممّا يعلم عدم
وقوع نقله ، لا سيّما في العصور المتأخّرة عن عصر الأئمّة ، بل لم يعهد من
الناقلين للإجماع من ينقله على هذا الوجه ويدّعي ذلك.
وعليه ، فموضع
الخلاف منحصر في حجّيّة الإجماع المنقول ، غير الإجماع الدخوليّ ، وهو ـ كما قلنا
ـ على أقوال :
١. إنّه حجّة
مطلقا ؛ لأنّه خبر واحد.
__________________
٢. إنّه ليس بحجّة
مطلقا ؛ لأنّه لا يدخل في أفراد خبر الواحد من جهة كونه حجّة.
٣. التفصيل بين
نقل إجماع جميع الفقهاء في جميع العصور الذي يعلم فيه من طريق الحدس قول المعصوم ،
فيكون حجّة ، وبين غيره من الإجماعات المنقولة التي يستكشف منها بقاعدة اللطف أو
نحوها قول المعصوم ، فلا يكون حجّة. وإلى هذا التفصيل مال الشيخ الأعظم الأنصاريّ.
وسرّ الخلاف في
المسألة يكمن في أنّ أدلّة خبر الواحد ـ من جهة أنّها تدلّ على وجوب التعبّد
بالخبر ـ لا تشمل كلّ خبر عن أيّ شيء كان ، بل مختصّة بالخبر الحاكي عن حكم شرعيّ
، أو عن ذي أثر شرعيّ ، ليصحّ أن يتعبّدنا الشارع به ، وإلاّ فالمحكيّ بالخبر إذا
لم يكن حكما شرعيّا ، أو ذا أثر شرعيّ لا معنى للتعبّد به ، فلا يكون مشمولا
لأدلّة حجّيّة خبر الواحد.
ومن المعلوم أنّ
الإجماع المنقول ـ غير الإجماع الدخوليّ ـ إنّما المحكيّ به بالمطابقة نفس أقوال
العلماء ، وأقوال العلماء في أنفسها ـ بما هي أقوال علماء ـ ليست حكما شرعيّا ،
ولا ذات أثر شرعيّ.
وعليه ، فنقل
أقوال العلماء من جهة كونها أقوال علماء لا يصحّ أن يكون مشمولا لأدلّة خبر
الواحد. وإنّما يصحّ أن يكون مشمولا لها إذا كشف هذا النقل عن الحكم الصادر عن
المعصوم ، ليصحّ التعبّد به.
إذا عرفت ذلك ،
فنقول : إن ثبت لدينا أنّه يكفي في صحّة التعبّد بالخبر كشفه ـ على أيّ نحو كان من
الكشف ـ عن الحكم الصادر من المعصوم ، ولو باعتبار الناقل ، نظرا إلى أنّه لا
يعتبر في حجّيّة الخبر حكاية نصّ ألفاظ المعصوم ؛ لأنّ المناط معرفة حكمه ، ولذا
يجوز النقل بالمعنى ، فالإجماع المنقول ـ الذي هو موضع البحث ـ يكون حجّة مطلقا ؛ لأنّه
__________________
كاشف وحاك عن
الحكم باعتقاد الناقل ، فيكون مشمولا لأدلّة حجّيّة الخبر.
وأمّا : إن ثبت
لدينا أنّ المناط في صحّة التعبّد بالخبر أن يكون حاكيا عن الحكم من طريق الحسّ ـ أي
يجب أن يكون الناقل قد سمع بنفسه الحكم من المعصوم ـ ولذا لا تشمل أدلّة حجّيّة
الخبر فتوى المجتهد ، وإن كان قاطعا بالحكم ، مع أنّ فتواه في الحقيقة حكاية عن
الحكم بحسب اجتهاده ، فالإجماع المنقول ـ الذي هو موضع البحث ـ ليس بحجّة مطلقا.
وأمّا : لو ثبت أنّ
الإخبار عن حدس اللازم للإخبار عن حسّ يصحّ التعبّد به ؛ لأنّ حكمه حكم الإخبار عن
حسّ بلا فرق ، فإنّ التفصيل المتقدّم في القول الثالث يكون هو الأحقّ.
وإذا اتّضح لدينا
سرّ الخلاف في المسألة بقي علينا أن نفهم أيّ وجه من الوجوه المتقدّمة هو الأولى
بالتصديق ، والأحقّ بالاعتماد؟ فنقول :
أوّلا : إنّ أدلّة خبر الواحد جميعها ـ من آيات ، وروايات ،
وبناء عقلاء ـ أقصى دلالتها أنّها تدلّ على وجوب تصديق الثقة ، وتصويبه في نقله
لغرض التعبّد بما ينقل. ولكنّها لا تدلّ على تصويبه في اعتقاده.
بيان
ذلك أنّ معنى تصديق
الثقة هو البناء على واقعيّة نقله ، وواقعيّة النقل تستلزم واقعيّة المنقول ، بل
واقعية النقل عين واقعية المنقول ، فالقطع بواقعيّة النقل لا محالة يستلزم القطع
بواقعيّة المنقول ، وكذلك البناء على واقعيّة النقل يستلزم البناء على واقعيّة
المنقول.
وعليه ، فإذا كان
المنقول حكما [شرعيّا] أو ذا أثر شرعيّ صحّ البناء على الخبر والتعبّد به ، بالنظر
إلى هذا المنقول.
أمّا : إذا كان
المنقول اعتقاد الناقل ـ كما لو أخبر شخص عن اعتقاده بحكم ـ فغاية ما يقتضي البناء
على تصديق نقله هو البناء على واقعيّة اعتقاده الذي هو المنقول ، والاعتقاد في
نفسه ليس حكما [شرعيّا] ، ولا ذا أثر شرعيّ.
__________________
أمّا : صحّة
اعتقاده ومطابقته للواقع فذلك شيء آخر ، أجنبيّ عنه ؛ لأنّ واقعيّة الاعتقاد لا
تستلزم واقعيّة المعتقد به ، يعني أنّنا قد نصدّق المخبر عن اعتقاده في أنّ هذا هو
اعتقاده واقعا ، لكن لا يلزمنا أن نصدّق بأنّ ما اعتقده صحيح وله واقعيّة.
ومن هنا نقول :
إنّه إذا أخبر شخص بأنه سمع الحكم من المعصوم صحّ أن نبني على واقعيّة نقله ؛
تصديقا له بمقتضى أدلّة حجّيّة الخبر ؛ لأنّ ذلك يستلزم واقعيّة المنقول ، وهو
الحكم ؛ إذ لم يمكن التفكيك بين واقعيّة النقل وواقعيّة المنقول. أمّا إذا أخبر عن
اعتقاده بأنّ المعصوم حكم بكذا فلا يصحّ البناء على واقعيّة اعتقاده تصديقا له
بمقتضى أدلّة حجّية الخبر ؛ لأنّ البناء على واقعيّة اعتقاده تصديقا له لا يستلزم
البناء على واقعيّة معتقده ، فيجوز التفكيك بينهما.
فتحصّل أنّ أدلّة [حجّيّة]
خبر الواحد إنّما تدلّ على أنّ الثقة مصدّق ويجب تصويبه في نقله ، ولا تدلّ على
تصويبه في رأيه ، واعتقاده ، وحدسه. وليس هناك أصل عقلائيّ يقول : إنّ الأصل في
الإنسان ، أو الثقة خاصّة أن يكون مصيبا في رأيه ، وحدسه ، واعتقاده.
ثانيا : بعد أن ثبت أنّ أدلّة حجّيّة الخبر لا تدلّ على تصويب
الناقل في رأيه وحدسه ، فنقول : لو أنّ ما أخبر به الناقل للإجماع يستلزم في نظر
المنقول إليه الحكم الصادر من المعصوم ، وإن لم يكن في نظر الناقل مستلزما لذلك ،
فهل هذا أيضا غير مشمول لأدلّة حجّيّة الخبر؟
الحقّ أنّه ينبغي أن يكون مشمولا لها ؛ لأنّ الأخذ به حينئذ لا
يكون من جهة تصديق الناقل في رأيه ، وربّما كان الناقل لا يرى الاستلزام ، بل لا
يكون الأخذ به إلاّ من جهة تصديقه في نقله ؛ لأنّه لمّا كان المنقول ـ وهو الإجماع
ـ يستلزم في نظر المنقول إليه الحكم الصادر من المعصوم ، فالأخذ به والبناء على
صحّة نقله يستلزم البناء على صدور الحكم ، فيصحّ التعبّد به بلحاظ هذه الجهة ، بل
إنّ الخبر عن فتاوى الفقهاء يكون في نظر المنقول إليه ملزوما للخبر عن رأي
المعصوم. وحينئذ يكون هذا الخبر الثاني اللازم للخبر الأوّل هو المشمول لأدلّة
حجّيّة الخبر ، لا سيّما إذا كان في نظر الناقل أيضا مستلزما. ولا نحتاج بعدئذ إلى
تصحيح شمولها للخبر الأوّل الملزوم بلحاظ استلزامه للحكم ـ يعني
أنّ الخبر عن
الإجماع يكون دالاّ بالدلالة الالتزاميّة على صدور الحكم من المعصوم ، فيكون من
ناحية المدلول الالتزاميّ ـ وهو الإخبار عن صدور الحكم ـ حجّة مشمولا لها ؛ لأنّ
الدلالة الالتزاميّة غير تابعة للدلالة المطابقيّة من ناحية الحجّيّة ، وإن كانت
تابعة لأدلّة حجيّة الخبر ، وإن لم يكن من جهة المدلول المطابقي مشمولا لها ثبوتا
؛ إذ لا دلالة التزامية إلاّ مع فرض الدلالة المطابقيّة ، ولكن لا تلازم بينهما في
الحجّيّة.
وإذا اتّضح لك ما
شرحناه يتّضح لك أنّ الأولى التفصيل في الإجماع المنقول بين ما إذا كان كاشفا عن
الحكم في نظر المنقول إليه ، لو كان هو المحصّل له ، فيكون حجّة ، وبين ما إذا كان
كاشفا عن الحكم في نظر الناقل فقط دون المنقول إليه ، فلا يكون حجّة ؛ لما تقدّم
أنّ أدلّة [حجّيّة] خبر الواحد لا تدلّ على تصديق الناقل في نظره ورأيه.
ولعلّه إلى هذا
التفصيل يرمي الشيخ الأعظم قدسسره في تفصيله الذي أشرنا إليه سابقا.
تمرينات (٥٦)
١. اذكر أقوال
العامّة في معنى الإجماع.
٢. ما معنى
الإجماع عند الإماميّة؟
٣. ما الفرق بين
الإجماع ، وتطابق آراء العقلاء؟
٤. من أين انبثق
للأصوليين القول بالإجماع؟
٥. اذكر أقوال
العامّة في الإجماع المعتبر.
٦. ما هو الإجماع
المعتبر عند الإماميّة؟
٧. ما هي «طريقة
الحسّ» في استكشاف قول المعصوم من الإجماع؟
٨. ما هي «طريقة
قاعدة اللطف»؟ ومن اختارها؟
٩. ما هي «طريقة
الحدس»؟ ومن ذهب إليه؟
١٠. ما هي «طريقة
التقرير»؟
١١. هل يحصل القطع
بقول المعصوم من الإجماع المحصّل بإحدى الطرائق المذكورة أم لا؟ اذكر تحقيق المطلب
تفصيلا.
١٢. ما هو الإجماع
المحصّل؟
١٣. ما هو الإجماع
المنقول؟
١٤. اذكر الأقوال
في حجّيّة الإجماع المنقول. واذكر الراجح منها مستدلاّ.
الباب الرابع
الدليل
العقليّ
قد مضى في الجزء
الثاني البحث مستوفى عن الملازمات العقليّة ، لتشخيص صغريات حجيّة [حكم] العقل ـ أي لتعيين القضايا العقليّة التي يتوصّل بها إلى الحكم الشرعيّ ـ وبيان ما
هو الدليل العقليّ الذي يكون حجّة.
وقد حصرناها هناك
في قسمين رئيسين :
الأوّل : حكم العقل بالحسن والقبح ، وهو قسم المستقلاّت العقليّة.
والثاني : حكمه بالملازمة بين حكم الشرع وحكم آخر ، وهو قسم غير
المستقلاّت العقليّة.
ووعدنا هناك ببيان
وجه حجّيّة الدليل العقليّ ، والآن قد حلّ الوفاء بالوعد ، ولكن قبل بيان وجه
الحجّيّة لا بدّ من الكرّة بأسلوب جديد إلى البحث عن تلك القضايا العقليّة ؛ لغرض
بيان الآراء فيها ، وبيان وجه حصرها ، وتعيينها فيما ذكرناه ، فنقول :
إنّ علماءنا
الأصوليّين من المتقدّمين حصروا الأدلّة على الأحكام الشرعيّة في الأربعة المعروفة
التي رابعها «الدليل العقلي» ، بينما أنّ بعض علماء أهل السنّة أضافوا إلى الأربعة
المذكورة ؛ القياس ، ونحوه على اختلاف آرائهم . ومن هنا نعرف
أنّ المراد من الدليل
__________________
العقليّ ما لا
يشمل مثل القياس ، فمن ظنّ من الأخباريّين في الأصوليّين أنّهم يريدون منه ما يشمل القياس [تشنيعا عليهم] ، ليس [ظنّه] في موضعه ، وهو ظنّ تأباه تصريحاتهم بعدم الاعتبار بالقياس ،
ونحوه.
ومع ذلك ، فإنّه
لم يظهر لي بالضبط ما كان يقصد المتقدّمون من علمائنا بالدليل العقليّ ، حتى أنّ
الكثير منهم لم يذكره من الأدلّة ، أو لم يفسّره ، أو فسّره بما لا يصلح أن يكون
دليلا في قبال الكتاب والسنّة.
وأقدم نصّ وجدته
ما ذكره الشيخ المفيد (المتوفّى سنة ٤١٣ ه. ق) في رسالته الأصوليّة التي لخّصها
الشيخ الكراجكيّ ؛ فإنّه لم يذكر الدليل العقليّ من جملة أدلّة الأحكام ،
وإنّما ذكر أنّ أصول الأحكام ثلاثة : الكتاب ، والسنّة النبويّة ، وأقوال الأئمّة عليهمالسلام ، ثمّ ذكر أنّ الطرق الموصلة إلى ما في هذه الأصول ثلاثة : اللسان ، والأخبار
، وأوّلها العقل ، وقال عنه : «وهو سبيل إلى معرفة حجّيّة القرآن ، ودلائل
الأخبار». وهذا التصريح ـ كما ترى ـ أجنبيّ عمّا نحن في صدده.
ثمّ يأتي بعده
تلميذه الشيخ الطوسيّ (المتوفّى سنة ٤٦٠ ه. ق) في كتابه «العدّة» الذي هو أوّل
كتاب مبسّط في الأصول ، فلم يصرّح بالدليل العقليّ ، فضلا عن أن يشرحه ، أو يفرد
له بحثا. وكلّ ما جاء فيه في آخر فصل منه أنّه ـ بعد أن
قسّم المعلومات إلى ضروريّة ومكتسبة ، والمكتسبة إلى عقليّ وسمعيّ ـ ذكر من جملة
أمثلة الضروريّ العلم بوجوب ردّ الوديعة ، وشكر المنعم ، وقبح الظلم والكذب ؛ ثمّ
ذكر في معرض كلامه أنّ القتل والظلم معلوم بالعقل قبحهما ، ويريد من
قبحهما تحريمهما. وذكر أيضا : فأمّا الأدلّة الموجبة للعلم ، فبالعقل يعلم كونها
أدلّة ، ولا مدخل للشرع في ذلك.
__________________
وأوّل من وجدته من
الأصوليّين يصرّح بالدليل العقليّ ، الشيخ ابن إدريس (المتوفّى ٥٩٨ ه. ق) ، فقال
في السرائر : «فإذا فقدت الثلاثة ـ يعني الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ـ فالمعتمد
عند المحقّقين التمسّك بدليل العقل فيها» . ولكنّه لم يذكر
المراد منه.
ثمّ يأتي المحقّق
الحليّ (المتوفّى ٦٧٦ ه. ق) ، فيشرح المراد منه ، فيقول في كتابه «المعتبر» ما ملخّصه :
وأمّا الدليل
العقليّ فقسمان :
(أحدهما) : ما
يتوقّف فيه على الخطاب ، وهو ثلاثة : لحن الخطاب ، وفحوى الخطاب ، ودليل الخطاب.
وثانيهما : ما
ينفرد العقل بالدلالة عليه.
ويحصره في وجوه
الحسن والقبح ، بما لا يخلو من المناقشة في أمثلته.
ويزيد عليه الشهيد
الأوّل (المتوفّى سنة ٧٨٦ ه. ق) في مقدّمة كتابه «الذكرى» ، فيجعل القسم الأوّل ما يشمل الأنواع الثلاثة التي ذكرها المحقّق ، وثلاثة
أخرى ، وهي مقدّمة الواجب ، ومسألة الضدّ ، وأصل الإباحة في المنافع والحرمة في
المضارّ. ويجعل القسم الثاني ما يشمل ما ذكره المحقّق ، وأربعة أخرى ، وهي :
البراءة الأصليّة ، وما لا دليل عليه ، والأخذ بالأقلّ عند الترديد بينه وبين
الأكثر ، والاستصحاب.
وهكذا ينهج هذا
النهج جماعة آخرون من المؤلّفين ، في حين أنّ الكتب
الدراسيّة المتداولة ، مثل المعالم ، والرسائل ، والكفاية لم تبحث هذا الموضوع ،
ولم تعرّف الدليل العقليّ ، ولم تذكر مصاديقه ، إلاّ إشارة عابرة في ثنايا الكلام.
ومن تصريحات
المحقّق والشهيد الأوّل يظهر أنّه لم تتجلّ فكرة الدليل العقليّ في تلك العصور ،
فوسّعوا في مفهومه إلى ما يشمل الظواهر اللفظيّة ، مثل لحن الخطاب ـ وهو
__________________
أن تدلّ قرينة
عقليّة على حذف لفظ ـ ، وفحوى الخطاب ـ ويعنون به مفهوم الموافقة ـ ، ودليل الخطاب
، ويعنون به مفهوم المخالفة. وهذه كلّها تدخل في حجّيّة الظهور ، ولا علاقة لها
بدليل العقل المقابل للكتاب والسنّة. وكذلك الاستصحاب ، فإنّه أصل عمليّ قائم
برأسه ، كما بحثه المتقدّمون في مقابل دليل
العقل.
والغريب في الأمر
أنّه حتى مثل المحقّق القمّيّ (المتوفّى سنة ١٢٣١ ه. ق) نسق على مثل هذا التفسير
لدليل العقل ، فأدخل فيه الظواهر ، مثل المفاهيم ، بينما هو نفسه عرّفه بأنّه «حكم
عقليّ يوصل به إلى الحكم الشرعيّ وينتقل من العلم بالحكم العقليّ إلى العلم بالحكم
الشرعيّ».
وأحسن من رأيته قد
بحث الموضوع بحثا مفيدا معاصره العلاّمة السيّد محسن الكاظميّ في كتابه «المحصول»
، وكذلك تلميذه المحقّق صاحب الحاشية على «المعالم» الشيخ محمّد تقي الأصفهانيّ
الذي نسج على منواله ، وإن كان فيما ذكره بعض الملاحظات ، لا مجال لذكرها
ومناقشتها هنا.
وعلى كلّ حال ،
فإنّ إدخال المفاهيم ، والاستصحاب ، ونحوهما في مصاديق الدليل
العقليّ لا يناسب جعله دليلا في مقابل الكتاب ، والسنّة ، ولا
يناسب تعريفه بـ «أنّه ما ينتقل من العلم بالحكم العقليّ إلى العلم بالحكم الشرعيّ».
وبسبب عدم وضوح
المقصود من الدليل العقليّ أنحى الأخباريّون باللائمة على الأصوليّين ؛ إذ يأخذون بالعقل
حجّة على الحكم الشرعيّ. ولكنّهم أنفسهم أيضا لم يتّضح
__________________
مقصودهم في
التزهيد بالعقل ، وهل تراهم يحكّمون غير عقولهم في التزهيد بالعقول؟
ويجلّي لنا عدم
وضوح المقصود من الدليل العقليّ ما ذكره الشيخ المحدّث البحرانيّ في حدائقه ، وهذا
نصّ عبارته :
«المقام الثالث :
في دليل العقل. وفسّره بعض بالبراءة الأصليّة ، والاستصحاب.
وآخرون قصروه على
الثاني. وثالث فسّره بلحن الخطاب ، وفحوى الخطاب ، ودليل الخطاب. ورابع بعد
البراءة الأصليّة والاستصحاب بالتلازم بين الحكمين ، المندرج فيه مقدّمة الواجب ،
واستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ ، والدلالة الالتزاميّة» .
ثمّ تكلّم عن كلّ
منها في مطالب عدا التلازم بين الحكمين لم يتحدّث عنه. ولم يذكر من الأقوال حكم
العقل في مسألة الحسن والقبح ، بينما أنّ حكم العقل المقصود ـ الذي ينبغي أن يجعل
دليلا ـ هو خصوص التلازم بين الحكمين ، وحكم العقل في الحسن والقبح. وما نقله من
الأقوال لم يكن دقيقا ، كما سبق بيان بعضها.
وكيفما كان ،
فالذي يصلح أن يكون مرادا من الدليل العقليّ المقابل للكتاب والسنّة هو «كلّ حكم
للعقل يوجب القطع بالحكم الشرعيّ». وبعبارة ثانية هو «كلّ قضيّة عقليّة يتوصّل بها
إلى العلم القطعيّ بالحكم الشرعيّ». وقد صرّح بهذا المعنى جماعة من المحقّقين
المتأخّرين.
وهذا أمر طبيعيّ ؛
لأنّه إذا كان الدليل العقليّ مقابلا للكتاب والسنّة فلا بدّ ألاّ يعتبر حجّة إلاّ
إذا كان موجبا للقطع الذي هو حجّة بذاته ؛ فلذلك لا يصحّ أن يكون شاملا للظنون وما
لا يصلح للقطع بالحكم من المقدّمات العقليّة.
ولكن هذا التحديد
بهذا المقدار لا يزال مجملا ، وقد وقع خلط وخبط عظيمان في فهم هذا الأمر ؛ ولأجل
أن ترفع جميع الشكوك ، والمغالطات ، والأوهام لا بدّ لنا من توضيح
__________________
الأمر بشيء من
البسط ، كوضع النقاط على الحروف ، كما يقولون ، فنقول :
١. إنّه قد تقدّم أنّ العقل ينقسم إلى عقل نظريّ ، وعقل عمليّ. وهذا التقسيم باعتبار ما يتعلّق
به الإدراك.
فالمراد من «العقل
النظريّ» إدراك ما ينبغي أن يعلم ، أي إدراك الأمور التي لها واقع.
والمراد من «العقل
العمليّ» إدراك ما ينبغي أن يعمل ، أي حكمه بأنّ هذا الفعل ينبغي فعله ، أو لا
ينبغي فعله.
٢. إنّه ما المراد
من العقل ـ الذي نقول : إنّه حجّة ـ من هذين القسمين؟
إن كان المراد «العقل
النظريّ» فلا يمكن أن يستقلّ بإدراك الأحكام الشرعيّة ابتداء ، أي لا طريق للعقل
أن يعلم ـ من دون الاستعانة بالملازمة ـ أنّ هذا الفعل حكمه كذا عند الشارع.
والسرّ في ذلك واضح ؛ لأنّ أحكام الله (تعالى) توقيفيّة ، فلا يمكن العلم بها إلاّ
من طريق السماع من مبلّغ الأحكام ، المنصوب من قبله (تعالى) لتبليغها ؛ ضرورة أنّ
أحكام الله (تعالى) ليست من القضايا الأوّليّة ، وليست ممّا تنالها المشاهدة
بالبصر ونحوه من الحواسّ الظاهرة ، بل الباطنة ، وليست أيضا ممّا تنالها التجربة
والحدس. وإذا كانت كذلك فكيف يمكن العلم بها من غير طريق السماع من مبلّغها؟!
وشأنها في ذلك شأن سائر المجعولات التي يضعها البشر ، كاللغات ، والخطوط ، والرموز
، ونحوها.
وكذلك ملاكات
الأحكام كنفس الأحكام ، لا يمكن العلم بها إلاّ من طريق السماع من مبلّغ الأحكام ؛
لأنّه ليس عندنا قاعدة مضبوطة نعرف بها أسرار أحكام الله (تعالى) وملاكاتها التي
أنيطت بها الأحكام عنده ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.
وعلى هذا ، فمن
نفى حجّيّة العقل ، وقال : «إنّ الأحكام سمعيّة لا تدرك بالعقول» فهو على حقّ ؛
إذا أراد من ذلك ما أشرنا إليه ، وهو نفي استقلال العقل النظريّ في إدراك الأحكام
وملاكاتها. ولعلّ بعض منكري الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع
__________________
قصد هذا المعنى ،
كصاحب الفصول وجماعة من الأخباريّين ، ولكن خانه التعبير عن مقصوده. وإذا كان هذا مرادهم فهو أجنبيّ عمّا نحن بصدده من كون الدليل العقليّ حجة
يتوصّل به إلى الحكم الشرعيّ.
إنّنا نقصد من
الدليل العقليّ حكم العقل النظريّ بالملازمة بين الحكم الثابت شرعا أو عقلا وبين
حكم شرعيّ آخر ، كحكمه بالملازمة في مسألة الإجزاء ، ومقدّمة الواجب ، ونحوهما ،
وكحكمه باستحالة التكليف بلا بيان ، اللازم منه حكم الشارع بالبراءة ، وكحكمه
بتقديم الأهمّ في مورد التزاحم بين الحكمين المستنتج منه فعليّة حكم الأهمّ عند
الله (تعالى) ، وكحكمه بوجوب مطابقة حكم الله (تعالى) لما حكم به العقلاء في
الآراء المحمودة ؛ فإنّ هذه الملازمات وأمثالها أمور حقيقيّة واقعيّة يدركها العقل
النظريّ بالبداهة ، أو بالكسب ؛ لكونها من الأوّليّات والفطريّات التي قياساتها
معها ؛ أو لكونها تنتهي إليها ، فيعلم بها العقل على سبيل الجزم.
وإذا قطع العقل
بالملازمة ـ والمفروض أنّه قاطع بثبوت الملزوم ـ فإنّه لا بدّ أن يقطع بثبوت
اللازم وهو ـ أي اللازم ـ حكم الشارع ، ومع حصول القطع ، فإنّ القطع حجّة يستحيل
النهي عنه ، بل به حجّيّة كلّ حجّة كما سبق بيانه.
وعليه ، فهذه
الملازمات العقليّة هي كبريات القضايا العقليّة التي بضمّها إلى صغرياتها يتوصّل
بها إلى الحكم الشرعيّ. ولا أظنّ أحدا ـ بعد التوجّه إليها ، والالتفات إلى
حقيقتها ـ يستطيع إنكارها إلاّ السوفسطائيّين الذين ينكرون الوثوق بكلّ معرفة ،
حتى المحسوسات.
ولا أظنّ أنّ هذه
القضايا العقليّة هي مقصودة من أنكر حجّيّتها من الأخباريّين و
__________________
غيرهم ، وإن أوهم
بعض عباراتهم ذلك ؛ لعدم التمييز بين نقاط البحث.
وإذا عرفت ذلك
تعرف أنّ الخلط في المقصود من إدراك العقل النظريّ ، وعدم التمييز بين ما يدركه من
الأحكام ابتداء وما يدركه منها بتوسّط الملازمة ، هو سبب المحنة في هذا الاختلاف ،
وسبب المغالطة التي وقع فيها بعضهم ؛ إذ نفى مطلقا إدراك العقل لحكم الشارع ،
وحجّيّته ، قائلا : «إنّ أحكام الله توقيفيّة لا مسرح للعقول فيها» ، وغفل عن أنّ
هذا التعليل إنّما يصلح لنفي إدراكه للحكم ابتداء وبالاستقلال ، ولا يصلح لنفي
إدراكه للملازمة المستتبع لعلمه بثبوت اللازم ، وهو الحكم.
٣. هذا كلّه إذا
أريد من العقل «العقل النظريّ».
وأمّا : لو أريد
به «العقل العمليّ» فكذلك لا يمكن أن يستقلّ في إدراك أنّ هذا ينبغي فعله عند
الشارع أو لا ينبغي ، بل لا معنى لذلك ؛ لأنّ هذا الإدراك وظيفة العقل النظريّ ؛
باعتبار أنّ كون هذا الفعل ينبغي فعله عند الشارع بالخصوص أو لا ينبغي ، من الأمور
الواقعيّة التي تدرك بالعقل النظريّ ، لا بالعقل العمليّ ، وإنّما كلّ ما للعقل
العمليّ من وظيفة هو أن يستقلّ بإدراك أنّ هذا الفعل في نفسه ممّا ينبغي فعله أو
لا ينبغي ، مع قطع النظر عن نسبته إلى الشارع المقدّس ، أو إلى أيّ حاكم آخر ،
يعني أنّ العقل العمليّ يكون هو الحاكم في الفعل ، لا حاكيا عن حاكم آخر.
وإذا حصل للعقل
العمليّ هذا الإدراك جاء العقل النظريّ عقيبه ، فقد يحكم بالملازمة بين حكم العقل
العمليّ وحكم الشارع ، وقد لا يحكم. ولا يحكم بالملازمة إلاّ في خصوص مورد مسألة
التحسين والتقبيح العقليّين ، أي خصوص القضايا المشهورات التي تسمّى «الآراء
المحمودة» ، والتي تطابقت عليها آراء العقلاء كافّة بما هم عقلاء.
وحينئذ ـ بعد حكم
العقل النظريّ بالملازمة ـ يستكشف حكم الشارع على سبيل القطع ؛ لأنّه بضمّ
المقدمّة العقليّة المشهورة ـ التي هي من الآراء المحمودة التي يدركها العقل
العمليّ ـ إلى المقدّمة التي تتضمّن الحكم بالملازمة التي يدركها العقل النظريّ ،
يحصل للعقل النظريّ العلم بأنّ الشارع له هذا الحكم ؛ لأنّه حينئذ يقطع باللازم ـ وهو
الحكم ـ بعد فرض قطعه بثبوت الملزوم والملازمة.
ومن هنا قلنا
سابقا : إنّ المستقلاّت العقليّة تنحصر في مسألة واحدة ، وهي مسألة التحسين
والتقبيح العقليّين ؛ لأنّه لا يشارك الشارع حكم العقل العمليّ إلاّ فيها ، أي إنّ
العقل النظريّ لا يحكم بالملازمة إلاّ في هذا المورد خاصّة.
وجه حجّيّة [حكم]
العقل
٤. إذا عرفت ما
شرحناه ـ وهو أنّ العقل النظريّ يقطع باللازم ، أعني حكم الشارع ، بعد قطعه بثبوت
الملزوم الذي هو حكم الشرع أو العقل ، وبعد فرض قطعه بالملازمة ـ ، نشرع في بيان
وجه حجّيّة [حكم] العقل ، فنقول :
لقد انتهى الأمر
بنا في البحث السابق إلى أنّ الدليل العقليّ ما أوجب القطع بحكم الشارع ، وإذا كان
الأمر كذلك فليس ما وراء القطع حجّة ؛ فإنّه تنتهي إليه حجّيّة كلّ حجّة ؛ لأنّه ـ
كما تقدّم ـ هو حجّة بذاته ، ولا يعقل سلخ الحجّيّة عنه.
وهل تثبت الشريعة
إلاّ بالعقل؟ وهل يثبت التوحيد والنبوّة إلاّ بالعقل؟ وإذا سلخنا أنفسنا عن حكم
العقل فكيف نصدّق برسالة؟! وكيف نؤمن بشريعة؟! بل كيف نؤمن بأنفسنا واعتقاداتها؟!
وهل العقل إلاّ ما عبد به الرّحمن؟ وهل يعبد الديّان إلاّ به؟
إنّ التشكيك في
حكم العقل سفسطة ليس وراءها سفسطة. نعم ، كلّ ما يمكن الشكّ فيه هو [من] الصغريات
ـ أعني ثبوت الملازمات في المستقلاّت العقليّة ، أو في غير المستقلاّت العقليّة ـ.
ونحن إنّما نتكلّم في حجّيّة [حكم] العقل لإثبات الحكم الشرعيّ بعد ثبوت تلك
الملازمات. وقد شرحنا في الجزء الثاني مواقع كثيرة من تلك الملازمات ، فأثبتنا
بعضها في مثل المستقلاّت العقليّة ، ونفينا بعضا آخر في مثل مقدّمة الواجب ،
ومسألة الضدّ.
أمّا : بعد ثبوت
الملازمة وثبوت الملزوم فأيّ معنى للشكّ في حجّيّة [حكم] العقل ،
__________________
أو الشكّ في ثبوت
اللازم ، وهو حكم الشارع؟
ولكن ، مع كلّ هذا
وقع الشكّ لبعض الأخباريّين في هذا الموضوع ، فلا بدّ من
تجليته لكشف المغالطة ، فنقول :
قد أشرنا في
المقصد الثاني إلى هذا النزاع ، وقلنا : إنّ مرجع هذا النزاع إلى ثلاث نواح ، وذلك حسب
اختلاف عباراتهم :
الأولى : في إمكان أن ينفي الشارع حجّيّة هذا القطع. وقد اتّضح
لنا ذلك بما شرحناه في حجّيّة القطع الذاتيّة من هذا الجزء ، فارجع إليه لتعرف استحالة النهي عن اتّباع القطع.
الثانية : بعد فرض إمكان نفي الشارع حجّيّة القطع ، هل نهى الشارع
عن الأخذ بحكم العقل؟ وقد ادّعى ذلك جملة من الأخباريّين الذين وصل إلينا كلامهم ؛ مدّعين أنّ الحكم الشرعيّ لا يتنجّز ، ولا يجوز الأخذ به إلاّ إذا ثبت من
طريق الكتاب ، والسنّة.
أقول : ومردّ هذه الدعوى في الحقيقة إلى دعوى تقييد الأحكام
الشرعيّة بالعلم بها من طريق الكتاب ، والسنّة. وهذا خير ما يوجّه به كلامهم. ولكن
قد سبق الكلام مفصّلا في مسألة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل من هذا الجزء ،
فقلنا : إنّه يستحيل تعليق الأحكام على العلم بها مطلقا ، فضلا عن تقييدها بالعلم
الناشئ من سبب خاصّ ، وهذه الاستحالة ثابتة ، حتى لو قلنا بإمكان نفي حجّيّة القطع
؛ لما قلناه من لزوم الخلف ، كما شرحناه هناك.
__________________
وأمّا : ما ورد عن
آل البيت عليهمالسلام من نحو قولهم : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» فقد ورد في قباله مثل قولهم : «إنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة ،
وحجّة باطنة ، فأمّا : الظاهرة فالرسل ، والأنبياء ، والأئمّة عليهمالسلام ، وأمّا : الباطنة فالعقول».
والحلّ لهذا
التعارض الظاهريّ بين الطائفتين هو أنّ المقصود من الطائفة الأولى بيان عدم
استقلال العقل في إدراك الأحكام ومداركها في قبال الاعتماد على القياس ،
والاستحسان ؛ لأنّها واردة في هذا المقام ، أي إنّ الأحكام ومدارك الأحكام لا تصاب
بالعقول بالاستقلال ، وهو حقّ ، كما شرحناه سابقا.
ومن المعلوم أنّ
مقصود من يعتمد على الاستحسان في بعض صوره هو دعوى أنّ للعقل أن يدرك الأحكام
مستقلاّ ، ويدرك ملاكاتها ، ومقصود من يعتمد على القياس هو دعوى أنّ للعقل أن يدرك
ملاكات الأحكام في المقيس عليه لاستنتاج الحكم في المقيس.
وهذا معنى
الاجتهاد بالرأي. وقد سبق أنّ هذه الإدراكات ليست من وظيفة العقل النظريّ ، ولا
العقل العمليّ ؛ لأنّ هذه أمور لا تصاب إلاّ من طريق السماع من مبلّغ الأحكام.
وعليه ، فهذه
الطائفة من الأخبار لا مانع من الأخذ بها على ظواهرها ؛ لأنّها واردة في مقام
معارضة الاجتهاد بالرأي ، ولكنّها أجنبيّة عمّا نحن بصدده ، وعمّا نقوله في القضايا
العقليّة التي يتوصّل بها إلى الحكم الشرعيّ ، كما أنّها أجنبيّة عن الطائفة
الثانية من الأخبار التي تثني على العقل ، وتنصّ على أنّه حجّة الله الباطنة ؛
لأنّها تثني على العقل فيما هو من وظيفته أن يدركه ، لا على الظنون والأوهام ، ولا
على ادّعاءات إدراك ما لا يدركه العقل بطبيعته.
الثالثة : بعد فرض
عدم إمكان نفي الشارع حجّيّة القطع والنهي عنه يجب أن نتساءل عن معنى حكم الشارع
على طبق حكم العقل؟
والجواب الصحيح عن
هذا السؤال عند هؤلاء أن يقال : إنّ معناه إدراك الشارع وعلمه
__________________
بأنّ هذا الفعل
ينبغي فعله أو تركه لدى العقلاء. وهذا شيء آخر غير أمره ونهيه. والنافع هو أن
نستكشف أمره ونهيه ، فيحتاج إثبات أمره ونهيه إلى دليل آخر سمعيّ ، ولا يكفي فيه
ذلك الدليل العقليّ الذي أقصى ما يستنتج منه أنّ الشارع عالم بحكم العقلاء ، أو
أنّه حكم بنفس ما حكم به العقلاء ، فلا يكون منه أمر مولويّ ، أو نهي مولويّ.
أقول : وهذه آخر مرحلة لتوجيه مقالة منكري حجّيّة العقل ، وهو
توجيه يختصّ بالمستقلاّت العقليّة. ولهذا التوجيه صورة ظاهريّة يمكن أن تنطلي على المبتدئين أكثر من تلك التوجيهات في المراحل السابقة. وهذا التوجيه ينطوي
على إحدى دعويين :
١. دعوى إنكار
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وقد تقدّم تفنيدها في الجزء الثاني ، فلا نعيد.
٢. الدعوى التي
أشرنا إليها هناك في الجزء الثاني . وتوضيحها : أنّ
ما تطابقت عليه آراء العقلاء هو استحقاق المدح والذمّ فقط ، والمدح والذمّ غير
الثواب والعقاب ، فاستحقاقهما لا يستلزم استحقاق الثواب والعقاب من قبل المولى.
والذي ينفع في استكشاف حكم الشارع هو الثاني ، ولا يكفي الأوّل.
ولو فرض أنّا
صحّحنا الاستلزام للثواب والعقاب فإنّ ذلك لا يدركه كلّ أحد. ولو فرض أنّه أدركه
كلّ أحد فإنّ ذلك ليس كافيا للدعوة إلى الفعل إلاّ عند الفذّ من الناس . وعلى أيّ تقدير فرض ، فلا يستغني أكثر الناس عن توجيه الأمر من المولى ، أو
النهي منه في مقام الدعوة إلى الفعل ، أو الزجر عنه.
وإذا كان نفس
إدراك الحسن والقبح غير كاف في الدعوة ـ والمفروض [أنّه] لم يقم دليل سمعيّ على
الحكم ـ فلا نستطيع أن نحكم بأنّ الشارع له أمر ونهي على طبق حكم
__________________
العقل قد اكتفى عن
بيانه اعتمادا على إدراك العقل ، ليكون حكم العقل كاشفا عن حكمه ؛ لاحتمال ألاّ
يكون للشارع حكم مولويّ على طبق حكم العقل حينئذ. و «إذا جاء الاحتمال بطل
الاستدلال» ؛ لأنّ المدار على القطع في المقام.
والجواب : أنّه قد أشرنا في الحاشية إلى ما يفنّد الشقّ الأوّل من هذه الدعوى الثانية ؛ إذ قلنا : الحقّ أنّ معنى
استحقاق المدح ليس إلاّ استحقاق الثواب ، ومعنى استحقاق الذمّ ليس إلاّ استحقاق
العقاب ، لا أنّهما شيئان أحدهما يستلزم الآخر ؛ لأنّ حقيقة المدح والمقصود منه هو
المجازاة بالخير ، لا المدح باللسان ، وحقيقة الذمّ والمقصود منه هو المجازاة
بالشرّ ، لا الذمّ باللسان. وهذا المعنى هو الذي يحكم به العقل ؛ ولذا قال المحقّقون
من الفلاسفة : «إنّ مدح الشارع ثوابه ، وذمّه عقابه». وأرادوا هذا المعنى.
بل بالنسبة إلى
الله (تعالى) لا معنى لفرض استحقاق المدح والذمّ اللسانيّين عنده ، بل ليست
مجازاته بالخير إلاّ الثواب ، وليست مجازاته بالشرّ إلاّ العقاب.
وأمّا الشقّ
الثاني من هذه الدعوى : فالجواب عنه : أنّه لمّا كان المفروض أنّ المدح والذمّ من
القضايا المشهورات التي تتطابق عليها آراء العقلاء كافّة فلا بدّ أن يفرض فيه أن
يكون صالحا لدعوة كلّ واحد من الناس. ومن هنا نقول : إنّه مع هذا الفرض يستحيل
توجيه دعوة مولويّة من الله (تعالى) ثانيا ؛ لاستحالة جعل الداعي مع فرض وجود ما
يصلح للدعوة عند المكلّف إلاّ من باب التأكيد ، ولفت النظر ؛ ولذا ذهبنا هناك إلى
أنّ الأوامر الشرعيّة ، الواردة في موارد حكم العقل ـ مثل وجوب الطاعة ونحوها ـ يستحيل
فيها أن تكون أوامر تأسيسيّة ـ أي مولويّة ـ بل هي أوامر تأكيديّة ، أي إرشاديّة.
وأمّا : أنّ هذا
الإدراك لا يدعو إلاّ الفذّ من الناس ، فقد يكون صحيحا ، ولكن لا يضرّ في مقصودنا ؛
لأنّه لا نقصد من كون حكم العقل داعيا أنّه داع بالفعل لكلّ أحد ، بل إنّما نقصد ـ
وهو النافع لنا ـ أنّه صالح للدعوة. وهذا شأن كلّ داع حتى الأوامر المولويّة ؛
فإنّه
__________________
لا يترقّب منها
إلاّ صلاحيّتها للدعوة ، لا فعليّة الدعوة ؛ لأنّه ليس قوام كون الأمر أمرا من قبل
الشارع ، أو من قبل غيره فعليّة دعوته لجميع المكلّفين ، بل الأمر في حقيقته ليس
هو إلاّ جعل ما يصلح أن يكون داعيا ، يعني ليس المجعول في الأمر فعليّة الدعوة.
وعليه ، فلا يضرّ في كونه صالحا للدعوة عدم امتثال أكثر الناس.
تمرينات
(٥٧)
١. ما هو الدليل
العقلي؟
٢. ما المراد من
العقل النظريّ والعقل العمليّ؟
٣. ما المراد من
العقل الذي نقول حكمه حجّة؟
٤. ما الوجه في
حجّيّة حكم العقل؟
الباب الخامس
حجّيّة
الظواهر
تمهيدات
١. تقدّم في الجزء
الأوّل : أنّ الغرض من المقصد الأوّل تشخيص ظواهر بعض الألفاظ من
ناحية عامّة. والغاية منه ـ كما ذكرنا ـ تنقيح صغريات أصالة الظهور. وطبعا إنّما
يكون ذلك في خصوص الموارد التي وقع فيها الخلاف بين الناس.
وقلنا : إنّنا
سنبحث عن الكبرى ـ وهي حجّيّة «أصالة الظهور» ـ في المقصد الثالث. وقد حلّ بحمد
الله (تعالى) موضع البحث عنها.
٢. إنّ البحث عن
حجّيّة الظواهر من توابع البحث عن الكتاب ، والسنّة ، أعني أنّ الظواهر ليست دليلا
قائما بنفسه في مقابل الكتاب ، والسنّة ، بل إنّما نحتاج إلى إثبات حجّيّتها لغرض
الأخذ بالكتاب ، والسنّة ، فهي من متمّمات حجيّتهما ؛ إذ من الواضح أنّه لا مجال
للأخذ بهما من دون أن تكون ظواهرهما حجّة. والنصوص التي هي قطعيّة الدلالة أقلّ
القليل فيهما.
٣. تقدّم أنّ
الأصل حرمة العمل بالظنّ ما لم يدلّ دليل قطعيّ على حجّيّته ، والظواهر من جملة الظنون ، فلا بدّ من التماس دليل قطعيّ على حجّيّتها ليصحّ
التمسّك بظواهر الآيات ، والأخبار. وسيأتي بيان هذا الدليل.
__________________
٤. إنّ البحث عن
الظهور يتمّ بمرحلتين :
الأولى : في أنّ هذا اللفظ المخصوص ظاهر في هذا المعنى المخصوص أم
غير ظاهر؟ والمقصد الأوّل كلّه متكفّل بالبحث عن ظهور
بعض الألفاظ التي وقع الخلاف في ظهورها ، كالأوامر ، والنواهي ، والعموم ، والخصوص
، والإطلاق ، والتقييد. وهي في الحقيقة من بعض صغريات أصالة الظهور.
الثانية : في أنّ اللفظ الذي قد أحرز ظهوره هل هو حجّة عند الشارع
في ذلك المعنى ، فيصحّ أن يحتجّ به المولى على المكلّفين ، ويصحّ أن يحتجّ به
المكلّفون؟
والبحث عن هذه
المرحلة الثانية هو المقصد الذي عقد من أجله هذا الباب ، وهو الكبرى التي إذا
ضممناها إلى صغرياتها يتمّ لنا الأخذ بظواهر الآيات ، والروايات.
٥. إنّ المرحلة
الأولى ـ وهي تشخيص صغريات أصالة الظهور ـ تقع بصورة عامّة في موردين :
الأوّل : في وضع اللفظ للمعنى المبحوث عنه ، فإنّه إذا أحرز وضعه
له لا محالة يكون ظاهرا فيه ، نحو وضع صيغة «افعل» للوجوب ، والجملة الشرطيّة لما
يستلزم المفهوم. إلى غير ذلك.
الثاني : في قيام قرينة عامّة أو خاصّة على إرادة المعنى من
اللفظ. والحاجة إلى القرينة إمّا في مورد إرادة غير ما وضع له اللفظ ، وإمّا في
مورد اشتراك اللفظ في أكثر من معنى.
ومع فرض وجود
القرينة لا محالة يكون اللفظ ظاهرا فيما قامت عليه القرينة ، سواء كانت القرينة
متّصلة ، أو منفصلة.
وإذا اتّضحت هذه
التمهيدات فينبغي أن نتحدّث عمّا يهمّ من كلّ من المرحلتين في مباحث مفيدة في
الباب.
طرق إثبات الظواهر
إذا وقع الشكّ في
الموردين السابقين فهناك طرق لمعرفة وضع الألفاظ ، ومعرفة القرائن العامّة :
__________________
منها : أن يتتبّع الباحث بنفسه استعمالات العرب ، ويعمل رأيه
واجتهاده إذا كان من أهل الخبرة باللسان ، والمعرفة بالنكات البيانيّة. ونظير ذلك
ما استنبطناه من أنّ كلمة «الأمر» لفظ مشترك بين ما يفيد معنى «الشيء» و «الطلب» . وذلك بدلالة اختلاف اشتقاق الكلمة بحسب المعنيين ، واختلاف الجمع فيها
بحسبهما.
ومنها : أن يرجع إلى علامات الحقيقة والمجاز ، كالتبادر ،
وأخواته. وقد تقدّم الكلام عن هذه العلامات .
ومنها : أن يرجع إلى أقوال علماء اللغة. وسيأتي بيان قيمة أقوالهم.
وهناك أصول
اتّبعها بعض القدماء لتعيين وضع الألفاظ أو ظهوراتها في موارد تعارض أحوال
اللفظ. والحقّ أنّه لا أصل لها مطلقا ؛ لأنّه لا دليل على اعتبارها. وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم .
وهي مثل ما ذهبوا
إليه من أصالة عدم الاشتراك في مورد الدوران بين الاشتراك وبين الحقيقة والمجاز ،
ومثل أصالة الحقيقة لإثبات وضع اللفظ عند الدوران بين كونه حقيقة أو مجازا.
أمّا : أنّه لا
دليل على اعتبارها ؛ فلأنّ حجّيّة مثل هذه الأصول لا بدّ من استنادها إلى بناء
العقلاء. والمسلّم من بنائهم هو ثبوته في الأصول التي تجري لإثبات مرادات المتكلّم
، دون ما يجري لتعيين وضع الألفاظ والقرائن. ولا دليل آخر في مثلها ، غير بناء
العقلاء.
حجّيّة قول
اللغويّ
إنّ أقوال
اللغويّين لا عبرة بأكثرها في مقام استكشاف وضع الألفاظ ؛ لأنّ أكثر المدوّنين
__________________
للّغة همّهم أن
يذكروا المعاني التي شاع استعمال اللفظ فيها ، من دون كثير عناية منهم بتمييز
المعاني الحقيقيّة من المجازيّة إلاّ نادرا ، عدا الزمخشريّ في كتابه «أساس اللغة»
، وعدا بعض المؤلّفات في فقه اللغة.
وعلى تقدير أن
ينصّ اللغويون على المعنى الحقيقيّ ، فإن أفاد نصّهم العلم بالوضع فهو ، وإلاّ فلا
بدّ من التماس الدليل على حجّيّة الظنّ الناشئ من قولهم. وقيل في الاستدلال عليه
وجوه من الأدلّة ، لا بأس بذكرها وما عندنا فيها :
أوّلا : قيل : «الدليل الإجماع». وذلك ؛ لأنّه قائم على الأخذ بقول اللغويّ ، بلا نكير من أحد ، وإن كان
اللغويّ واحدا.
أقول : وأنّى لنا بتحصيل هذا الإجماع العمليّ المدّعى بالنسبة
إلى جميع الفقهاء؟ وعلى تقدير تحصيله ، فأنّى لنا من إثبات حجّيّة مثله؟ وقد تقدّم
البحث مفصّلا عن منشأ حجّيّة الإجماع ، وليس هو ممّا
يشمل هذا المقام بما هو حجّة ؛ لأنّ المعصوم لا يرجع إلى نصوص أهل اللغة ، حتى
يستكشف من الإجماع موافقته في هذه المسألة ، أي رجوعه إلى أهل اللغة عملا.
ثانيا : قيل : «الدليل بناء العقلاء» ؛ لأنّ من سيرة العقلاء وبنائهم العمليّ الرجوع إلى أهل الخبرة الموثوق بهم
في جميع الأمور التي يحتاج في معرفتها إلى خبرة وإعمال الرأي والاجتهاد ، كالشئون
الهندسيّة والطبّيّة ، ومنها : اللغات ودقائقها ، ومن المعلوم أنّ اللغويّ معدود
من أهل الخبرة في فنّه. والشارع لم يثبت منه الردع عن هذه السيرة العمليّة ،
__________________
فيستكشف من ذلك
موافقته لهم ، ورضاه بها.
أقول : إنّ بناء العقلاء إنّما يكون حجّة إذا كان يستكشف منه
على نحو اليقين موافقة الشارع وإمضاؤه لطريقتهم. وهذا بديهيّ. ولكن نحن نناقش
إطلاق المقدّمة المتقدّمة القائلة : «إنّ موافقة الشارع لبناء العقلاء تستكشف من
مجرّد عدم ثبوت ردعه عن طريقتهم» ، بل لا يحصل هذا الاستكشاف إلاّ بأحد شروط ثلاثة
، كلّها غير متوفّرة في المقام :
١. ألاّ يكون مانع
من كون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء في البناء والسيرة ؛ فإنّه في هذا الفرض لا
بدّ أن يستكشف أنّه متّحد المسلك معهم بمجرّد عدم ثبوت ردعه ؛ لأنّه من العقلاء ،
بل رئيسهم. ولو كان له مسلك ثان لبيّنه ، ولعرفناه ، وليس هذا ممّا يخفى.
ومن هذا الباب
الظواهر ، وخبر الواحد ؛ فإنّ الأخذ بالظواهر ، والاعتماد عليها في التفهيم ممّا
جرت عليه سيرة العقلاء ، والشارع لا بدّ أن يكون متّحد المسلك معهم ؛ لأنّه لا
مانع من ذلك بالنسبة إليه ، وهو منهم بما هم عقلاء ولم يثبت منه ردع. وكذلك يقال
في خبر الواحد الثّقة ؛ فإنّه لا مانع من أن يكون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء
في الاعتماد عليه في تبليغ الأحكام ، ولم يثبت منه الردع.
أمّا : الرجوع إلى
أهل الخبرة فلا معنى لفرض أن يكون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء في ذلك ؛ لأنّه
لا معنى لفرض حاجته إلى أهل الخبرة في شأن من الشئون ، حتى يمكن فرض أن تكون له
سيرة عمليّة في ذلك ، لا سيّما في اللغة العربيّة.
٢. إذا كان هناك
مانع من أن يكون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء ، فلا بدّ أن يثبت لدينا جريان
السيرة العمليّة ، حتّى في الأمور الشرعيّة بمرأى ومسمع من الشارع ، فإذا لم يثبت
حينئذ الردع منه يكون سكوته من قبيل التقرير لمسلك العقلاء. وهذا مثل الاستصحاب ،
فإنّه لمّا كان مورده الشكّ في الحالة السابقة فلا معنى لفرض اتّحاد الشارع في
المسلك مع العقلاء بالأخذ بالحالة السابقة ؛ إذ لا معنى لفرض شكّه في بقاء حكمه ،
ولكن لمّا كان الاستصحاب قد جرت السيرة فيه ، حتى في الأمور الشرعيّة ، ولم يثبت
ردع الشارع عنه ، فإنّه يستكشف منه إمضاؤه لطريقتهم.
أمّا : الرجوع إلى
أهل الخبرة في اللغة فلم يعلم جريان السيرة العقلائيّة في الأخذ بقول
اللغويّ في خصوص
الأمور الشرعيّة ، حتى يستكشف من عدم ثبوت ردعه رضاه بهذه السيرة في الأمور
الشرعيّة.
٣. إذا انتفى الشرطان
المتقدّمان فلا بدّ حينئذ من قيام دليل خاصّ قطعيّ على رضا الشارع وإمضائه للسيرة
العمليّة عند العقلاء. وفي مقامنا ليس عندنا هذا الدليل ، بل الآيات الناهية عن
اتّباع الظنّ كافية في ثبوت الردع عن هذه السيرة العمليّة.
ثالثا : قيل : «الدليل حكم العقل» ؛ لأنّ العقل يحكم بوجوب رجوع
الجاهل إلى العالم ، فلا بدّ أن يحكم الشارع بذلك أيضا ؛ إذ إنّ هذا الحكم العقليّ
من الآراء المحمودة التي تطابقت عليها آراء العقلاء ، والشارع منهم ، بل رئيسهم.
وبهذا الحكم العقليّ أوجبنا رجوع العاميّ إلى المجتهد في التقليد ، غاية الأمر
أنّا اشترطنا في المجتهد شروطا خاصّة ، كالعدالة ، والذكورة ، لدليل خاصّ. وهذا
الدليل الخاصّ غير موجود في الرجوع إلى قول اللغويّ ؛ لأنّه في الشئون الفنّيّة لم
يحكم العقل إلاّ برجوع الجاهل إلى العالم الموثوق به ، من دون اعتبار عدالة ، أو
نحوها ، كالرجوع إلى الأطبّاء والمهندسين. وليس هناك دليل خاصّ يشترط العدالة ، أو
نحوها في اللغويّ ، كما ورد في المجتهد.
أقول : وهذا الوجه أقرب الوجوه في إثبات حجّيّة قول اللغويّ ،
ولم أجد الآن ما يقدح به.
الظهور التصوريّ
والتصديقيّ
قيل : «إنّ الظهور
على قسمين : تصوّريّ ، وتصديقيّ.
١. الظهور
التصوّريّ الذي ينشأ من وضع اللفظ لمعنى مخصوص ، وهو عبارة عن دلالة مفردات الكلام
على معانيها اللغويّة أو العرفيّة. وهو تابع للعلم بالوضع ، سواء كانت في الكلام
أو في خارجه قرينة على خلافه أو لم تكن.
٢. الظهور
التصديقيّ الذي ينشأ من مجموع الكلام ، وهو عبارة عن دلالة جملة الكلام على ما
يتضمّنه من المعنى ، فقد تكون دلالة الجملة مطابقة لدلالة المفردات ، وقد تكون
مغايرة لها ، كما إذا احتفّ الكلام بقرينة توجب صرف مفاد جملة الكلام عمّا يقتضيه
مفاد
المفردات. والظهور
التصديقيّ يتوقّف على فراغ المتكلّم من كلامه ، فإنّ لكلّ متكلّم أن يلحق بكلامه
ما شاء من القرائن ، فما دام متشاغلا بالكلام لا ينعقد لكلامه الظهور التصديقيّ.
ويستتبع هذا
الظهور التصديقيّ ظهور ثان تصديقيّ ، وهو الظهور بأنّ هذا هو مراد المتكلّم ، وهذا
هو المعيّن لمراد المتكلّم في نفس الأمر ، فيتوقّف على عدم القرينة المتّصلة ،
والمنفصلة ؛ لأنّ القرينة مطلقا تهدم هذا الظهور ، بخلاف الظهور التصديقيّ الأوّل
؛ فإنّه لا تهدمه القرينة المنفصلة».
أقول : ونحن لا نتعقّل هذا التقسيم ، بل الظهور قسم واحد ، وليس
هو إلاّ دلالة اللفظ على مراد المتكلّم. وهذه الدلالة هي التي نسمّيها «الدلالة
التصديقيّة» ، وهي أن يلزم من العلم بصدور اللفظ من المتكلّم العلم بمراده من
اللفظ ، أو يلزم منه الظنّ بمراده. والأوّل يسمّى «النصّ» ، ويختصّ الثاني باسم «الظهور».
ولا معنى للقول
بأنّ اللفظ ظاهر ظهورا تصوّريّا في معناه الموضوع له ، وقد سبق في الجزء الأوّل بيان حقيقة الدلالة ، وأنّ ما يسمّونه بالدلالة التصوّريّة ليست بدلالة ،
وإنّما كان ذلك منهم تسامحا في التعبير ، بل هي من باب تداعي المعاني ، فلا علم
ولا ظنّ فيها بمراد المتكلّم ، فلا دلالة ، فلا ظهور ، وإنّما كان خطور. والفرق
بعيد بينهما.
وأمّا : تقسيم
الظهور التصديقيّ إلى قسمين فهو أيضا تسامح ؛ لأنّه لا يكون الظهور ظهورا إلاّ إذا
كشف عن المراد الجدّيّ للمتكلّم ، إمّا على نحو اليقين ، أو الظنّ ، فالقرينة
المنفصلة لا محالة تهدم الظهور مطلقا.
نعم ، قبل العلم
بها يحصل للمخاطب قطع بدويّ ، أو ظنّ بدويّ ، يزولان عند العلم بها ، فيقال حينئذ
: «قد انعقد للكلام ظهور على خلاف ما تقتضيه القرينة المنفصلة». وهذا كلام شائع
عند الأصوليّين ، وفي الحقيقة أنّ غرضهم من ذلك ، الظهور الابتدائيّ
البدويّ الذي
__________________
يزول عند العلم
بالقرينة المنفصلة ، لا أنّه هناك ظهوران : ظهور لا يزول بالقرينة المنفصلة ،
وظهور يزول بها. ولا بأس أن يسمّى هذا الظهور البدويّ «الظهور الذاتيّ». وتسميته
بالظهور مسامحة على كلّ حال.
وعلى كلّ حال ـ سواء
سمّيت الدلالة التصوّريّة ظهورا أم لم تسمّ ، وسواء سمّي الظنّ البدويّ ظهورا أم
لم يسمّ ـ فإنّ موضع الكلام في حجّيّة الظهور هو الظهور الكاشف عن مراد المتكلّم بما
هو كاشف ، وإن كان كشفا نوعيّا.
وجه حجّيّة الظهور
إنّ الدليل على
حجّيّة الظاهر منحصر في بناء العقلاء. والدليل يتألّف من مقدّمتين قطعيّتين ، على
نحو ما تقدّم في الدليل على حجّيّة خبر الواحد من طريق بناء العقلاء. وتفصيلهما
هنا أن نقول :
المقدّمة
الأولى : أنّه من
المقطوع به الذي لا يعتريه الريب أنّ أهل المحاورة من العقلاء قد جرت سيرتهم
العمليّة وتبانيهم في محاوراتهم الكلاميّة على اعتماد المتكلّم على ظواهر كلامه في
تفهيم مقاصده ، ولا يفرضون عليه أن يأتي بكلام قطعيّ في مطلوبه لا يحتمل الخلاف.
وكذلك ـ تبعا لسيرتهم الأولى ـ تبانوا أيضا على العمل بظواهر كلام المتكلّم والأخذ
بها في فهم مقاصده ، ولا يحتاجون في ذلك إلى أن يكون كلامه نصّا في مطلوبه لا
يحتمل الخلاف.
فلذلك ، يكون
الظاهر حجّة للمتكلّم على السامع ، يحاسبه عليه ، ويحتجّ به عليه لو حمله على خلاف
الظاهر ، ويكون أيضا حجّة للسامع على المتكلّم ، يحاسبه عليه ، ويحتجّ به عليه لو
ادّعى خلاف الظاهر. ومن أجل هذا يؤخذ المرء بظاهر إقراره ، ويدان به وإن لم يكن نصّا في المراد.
المقدّمة
الثانية : أنّ من المقطوع
به أيضا أنّ الشارع المقدّس لم يخرج في محاوراته واستعماله للألفاظ عن مسلك أهل
المحاورة من العقلاء في تفهيم مقاصده ، بدليل أنّ الشارع
__________________
من العقلاء ، بل
رئيسهم ، فهو متّحد المسلك معهم ، ولا مانع من اتّحاده معهم في هذا المسلك ، ولم
يثبت من قبله ما يخالفه.
وإذا ثبتت هاتان المقدّمتان
القطعيّتان لا محالة يثبت ـ على سبيل الجزم ـ أنّ الظاهر حجّة عند الشارع ، حجّة
له على المكلّفين ، وحجّة معذّرة للمكلّفين.
هذا ، ولكن وقعت
لبعض الناس شكوك في عموم كلّ من المقدّمتين ، لا بدّ من التعرّض لها ، وكشف
الحقيقة فيها.
أمّا
المقدّمة الأولى : فقد وقعت عدّة أبحاث فيها :
١ ـ في أنّ تباني
العقلاء على حجّيّة الظاهر هل يشترط فيه حصول الظنّ الفعليّ بالمراد؟
٢ ـ في أنّ
تبانيهم هل يشترط فيه عدم الظنّ بخلاف الظاهر؟
٣ ـ في أنّ
تبانيهم هل يشترط فيه جريان أصالة عدم القرينة؟
٤ ـ في أنّ
تبانيهم هل هو مختصّ بمن قصد إفهامه فقط ، أو يعمّ غيرهم ، فيكون الظاهر حجّة
مطلقا؟
وأمّا
المقدّمة الثانية : فقد وقع البحث فيها في حجّيّة ظواهر الكتاب العزيز ، بل قيل : «إنّ الشارع
ردع عن الأخذ بظواهر الكتاب ، فلم يكن متّحد المسلك فيه مع العقلاء» . وهذه المقالة منسوبة إلى الأخباريّين. وعليه ، فينبغي
البحث عن كلّ واحد واحد من هذه الأمور ، فنقول :
أ. اشتراط الظنّ
الفعليّ بالوفاق
قيل : «لا بدّ في
حجّيّة الظاهر من حصول ظنّ فعليّ بمراد المتكلّم ، وإلاّ فهو ليس بظاهر». يعني أنّ المقوّم لكون الكلام ظاهرا حصول الظنّ الفعليّ للمخاطب بالمراد منه
،
__________________
وإلاّ فلا يكون
ظاهرا ، بل يكون مجملا.
أقول
: من المعلوم أنّ الظهور صفة قائمة باللفظ ، وهو كونه بحالة يكون كاشفا عن مراد
المتكلّم ، ودالاّ عليه ، والظنّ بما هو ظنّ أمر قائم بالسامع ، لا باللفظ ، فكيف
يكون مقوّما لكون اللفظ ظاهرا؟! وإنّما أقصى ما يقال أنّه يستلزم الظنّ ، فمن هذه
الجهة يتوهّم أنّ الظنّ يكون مقوّما لظهوره.
وفي الحقيقة أنّ
المقوّم لكون الكلام ظاهرا عند أهل المحاورة هو كشفه الذاتيّ عن المراد ، أي كون
الكلام من شأنه أن يثير الظنّ عند السامع بالمراد منه ، وإن لم يحصل ظنّ فعليّ
للسامع ؛ لأنّ ذلك هو الصفة القائمة بالكلام المقوّمة لكونه ظاهرا عند أهل
المحاورة. والمدرك لحجّيّة الظاهر ليس إلاّ بناء العقلاء ، فهو المتّبع في أصل
الحجّيّة ، وخصوصيّاتها. ألا ترى [أنّه] لا يصحّ للسامع أن يحتجّ بعدم حصول الظنّ
الفعليّ عنده من الظاهر إذا أراد مخالفته ، مهما كان السبب لعدم حصول ظنّه ، ما
دام أنّ اللفظ بحالة من شأنه أن يثير الظنّ لدى عامّة الناس؟
وهذا ما يسمّى
بالظنّ النوعيّ ، فيكتفى به في حجّيّة الظاهر ، كما يكتفى به في حجّيّة خبر الواحد
ـ كما تقدّم ـ ، وإلاّ لو كان الظنّ الفعليّ معتبرا في حجّيّة الظهور
لكان كلّ كلام في آن واحد حجّة بالنسبة إلى شخص ، غير حجّة بالنسبة إلى شخص آخر.
وهذا ما لا يتوهّمه أحد. ومن البديهيّ أنّه لا يصحّ ادّعاء أنّ الظاهر لكي يكون
حجّة لا بدّ أن يستلزم الظنّ الفعليّ عند جميع الناس بغير استثناء ، وإلاّ فلا
يكون حجّة بالنسبة إلى كلّ أحد.
ب. اعتبار عدم
الظنّ بالخلاف
قيل : «إن لم
يعتبر الظنّ بالوفاق فعلى الأقلّ يعتبر ألاّ يحصل ظنّ بالخلاف».
__________________
قال الشيخ صاحب «الكفاية»
في ردّه : «والظاهر أنّ سيرتهم على اتّباعها [أي : الظواهر] من غير تقييد بإفادتها
الظنّ فعلا ، ولا بعدم الظنّ كذلك على خلافها قطعا ؛ ضرورة أنّه لا مجال للاعتذار
من مخالفتها بعدم إفادتها الظنّ بالوفاق ، ولا بوجود الظنّ بالخلاف».
أقول : إن كان
منشأ الظنّ بالخلاف أمرا يصحّ في نظر العقلاء الاعتماد عليه في التفهيم فإنّه لا
ينبغي الشكّ في أنّ مثل هذا الظنّ يضرّ في حجّيّة الظهور ، بل ـ على التحقيق ـ لا
يبقى معه ظهور للكلام حتى يكون موضعا لبناء العقلاء ؛ لأنّ الظهور يكون حينئذ على
طبق ذلك الأمر المعتمد عليه في التفهيم ، حتى لو فرض أنّ ذلك الأمر ليس بأمارة
معتبرة عند الشارع ؛ لأنّ الملاك في ذلك بناء العقلاء.
وأمّا : إذا كان
منشأ الظنّ ليس ممّا يصحّ الاعتماد عليه في التفهيم عند العقلاء فلا قيمة لهذا
الظنّ من ناحية بناء العقلاء على اتّباع الظاهر ؛ لأنّ الظهور قائم في خلافه ، ولا
ينبغي الشكّ في عدم تأثير مثله في تبانيهم على حجّيّة الظهور. والظاهر أنّ مراد
الشيخ صاحب «الكفاية» من «الظنّ
بالخلاف» هذا القسم
الثاني فقط ، لا ما يعمّ القسم الأوّل.
ولعلّ مراد القائل
باعتبار عدم الظنّ بالخلاف هو القسم الأوّل فقط ، لا ما يعمّ القسم الثاني ، فيقع
التصالح بين الطرفين.
ج. أصالة عدم
القرينة
ذهب الشيخ الأعظم
في رسائله إلى أنّ الأصول الوجوديّة ـ مثل أصالة الحقيقة ، وأصالة العموم ، وأصالة
الإطلاق ، ونحوها التي هي كلّها أنواع لأصالة الظهور ـ ترجع كلّها إلى أصالة عدم
القرينة ، بمعنى أنّ أصالة الحقيقة ترجع إلى أصالة عدم قرينة المجاز
، وأصالة العموم إلى أصالة عدم المخصّص ... وهكذا.
والظاهر أنّ غرضه
من الرجوع أنّ حجّيّة أصالة الظهور إنّما هي من جهة بناء العقلاء على حجّيّة أصالة
عدم القرينة.
__________________
وذهب الشيخ صاحب «الكفاية»
إلى العكس من ذلك ـ أي : إنّه يرى أنّ أصالة عدم القرينة هي التي ترجع إلى
أصالة الظهور ـ يعني أنّ العقلاء ليس لهم إلاّ بناء واحد ، وهو البناء على أصالة
الظهور ، وهو نفسه بناء على أصالة عدم القرينة ، لا أنّه هناك بناءان عندهم : بناء
على أصالة عدم القرينة ، وبناء آخر على أصالة الظهور ، والبناء الثاني بعد البناء
الأوّل ، ومتوقّف عليه ، ولا أنّ البناء على أصالة الظهور مرجع حجّيّته ومعناه إلى
البناء على أصالة عدم القرينة.
أقول : الحقّ أنّ الأمر لا كما أفاده الشيخ الأعظم ، ولا كما
أفاده صاحب «الكفاية» ؛ فإنّه ليس هناك أصل عند العقلاء غير أصالة الظهور يصحّ أن
يقال له : «أصالة عدم القرينة» ؛ فضلا عن أن يكون هو المرجع لأصالة الظهور ، أو أنّ
أصالة الظهور هي المرجع له.
بيان
ذلك أنّه عند الحاجة
إلى إجراء أصالة الظهور لا بدّ أن يحتمل أنّ المتكلّم الحكيم أراد خلاف ظاهر
كلامه. وهذا الاحتمال لا يخرج عن إحدى صورتين ، لا ثالثة لهما :
الأولى : أن يحتمل إرادة خلاف الظاهر ، مع العلم بعدم نصب قرينة
من قبله ، لا متّصلة ولا منفصلة. وهذا الاحتمال ، إمّا من جهة احتمال الغفلة عن
نصب القرينة ، أو احتمال قصد الإيهام ، أو احتمال الخطأ ، أو احتمال قصد الهزل ،
أو لغير ذلك ؛ فإنّه في هذه الموارد يلزم المتكلّم بظاهر كلامه ، فيكون حجّة عليه
، ويكون حجّة له أيضا على الآخرين. ولا تسمع منه دعوى الغفلة ، ونحوها ، وكذلك لا
تسمع من الآخرين دعوى احتمالهم للغفلة ، ونحوها. وهذا معنى أصالة الظهور عند
العقلاء ، أي إنّ الظهور هو الحجّة عندهم ـ كالنصّ ـ بإلغاء كلّ تلك الاحتمالات.
ومن الواضح أنّه
في هذه الموارد لا موقع لأصالة عدم القرينة ، سالبة بانتفاء الموضوع ؛ لأنّه لا
احتمال لوجودها ، حتى نحتاج إلى نفيها بالأصل. فلا موقع إذن في هذه الصورة للقول
برجوع أصالة الظهور إلى هذا الأصل ، ولا للقول برجوعه إلى أصالة الظهور.
الثانية : أن يحتمل إرادة خلاف الظاهر من جهة احتمال نصب قرينة
خفيت علينا ؛ فإنّه في هذه الصورة يكون موقع لتوهّم جريان أصالة عدم القرينة ،
ولكن في الحقيقة أنّ معنى بناء
__________________
العقلاء على أصالة
الظهور ـ كما تقدّم ـ أنّهم يعتبرون الظهور حجّة ـ كالنصّ ـ بإلغاء احتمال الخلاف
، أيّ احتمال كان. ومن جملة الاحتمالات التي تلغى ـ إن وجدت ـ احتمال نصب القرينة
، وحكمه حكم احتمال الغفلة ، ونحوها من جهة أنّه احتمال ملغى ومنفيّ لدى العقلاء.
وعليه ، فالمنفيّ
عند العقلاء هو الاحتمال ، لا أنّ المنفيّ وجود القرينة الواقعيّة ؛ لأنّ القرينة
الواقعيّة غير الواصلة لا أثر لها في نظر العقلاء ، ولا تضرّ في الظهور ، حتى
يحتاج إلى نفيها بالأصل ، بينما أنّ معنى أصالة عدم القرينة ـ لو كانت ـ البناء
على نفي وجود القرينة ، لا البناء على نفي احتمالها ، والبناء على نفي الاحتمال هو
معنى البناء على أصالة الظهور ، ليس شيئا آخر.
وإذا اتّضح ذلك
يكون واضحا لدينا أنّه ليس للعقلاء في هذه الصورة الثانية أيضا أصل يقال له : «أصالة
عدم القرينة» ، حتى يقال برجوعه إلى أصالة الظهور ، أو برجوعها إليه ، سالبة
بانتفاء الموضوع.
والخلاصة أنّه ليس لدى العقلاء إلاّ أصل واحد ، هو أصالة الظهور ،
وليس لهم إلاّ بناء واحد ، وهو البناء على إلغاء كلّ احتمال ينافي الظهور ـ من نحو
احتمال الغفلة ، أو الخطأ ، أو تعمّد الإيهام ، أو نصب القرينة على الخلاف ، أو
غير ذلك ـ فكلّ هذه الاحتمالات ـ إن وجدت ـ ملغاة في نظر العقلاء ، وليس معنى
إلغائها إلاّ اعتبار الظهور حجّة كأنّه نصّ لا احتمال معه بالخلاف ، لا أنّه هناك
لدى العقلاء أصول متعدّدة وبناءات مترتّبة مترابطة ، كما ربّما يتوهّم ، حتى يكون
بعضها متقدّما على بعض ، أو بعضها يساند بعضا.
نعم ، لا بأس
بتسمية إلغاء احتمال الغفلة بـ «أصالة عدم الغفلة» من باب المسامحة ، وكذلك تسمية
إلغاء احتمال القرينة بأصالة عدمها ... وهكذا في كلّ تلك الاحتمالات ، ولكن ليس
ذلك إلاّ تعبيرا آخر عن أصالة الظهور. ولعلّ من يقول برجوع أصالة الظهور إلى أصالة
عدم القرينة ، أو بالعكس أراد هذا المعنى
من أصالة عدم القرينة. وحينئذ
__________________
لو كان هذا مرادهم
، لكان كلّ من القولين صحيحا ، ولكان مآلهما واحدا ، فلا خلاف.
د. حجّيّة الظهور
بالنسبة إلى غير المقصودين بالإفهام
ذهب المحقّق
القمّيّ في قوانينه إلى عدم حجّيّة الظهور بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه
بالكلام. ومثّل لغير المقصودين بالإفهام بأهل زماننا وأمثالهم الذين لم يشافهوا
بالكتاب العزيز ، وبالسنّة ؛ نظرا إلى أنّ الكتاب العزيز ليست خطاباته موجّهة لغير
المشافهين ، وليس هو من قبيل تأليفات المصنّفين التي يقصد بها إفهام كلّ قارئ لها.
وأمّا : السنّة
فبالنسبة إلى الأخبار الصادرة عن المعصومين في مقام الجواب عن سؤال السائلين لا
يقصد منها إلاّ إفهام السائلين ، دون [من] سواهم.
أقول : إنّ هذا القول لا يستقيم ، وقد ناقشه كلّ من جاء بعده من
المحقّقين ، وخلاصة ما ينبغي مناقشته به أن يقال : إنّ هذا كلام مجمل
غير واضح ، فما الغرض من نفي حجّيّة الظهور بالنسبة إلى غير المقصود إفهامه؟
١. إن كان الغرض
أنّ الكلام لا ظهور ذاتيّا له بالنسبة إلى هذا الشخص فهو أمر يكذّبه الوجدان.
٢. وإن كان الغرض
ـ كما قيل في توجيه كلامه ـ دعوى أنّه ليس للعقلاء بناء على إلغاء
احتمال القرينة في الظواهر بالنسبة إلى غير المقصود بالإفهام ، فهي دعوى بلا دليل
، بل المعروف في بناء العقلاء عكس ذلك. قال الشيخ الأنصاريّ في مقام ردّه : «إنّه
لا فرق في العمل بالظهور اللفظيّ ، وأصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد إفهامه
، ومن لم يقصد».
٣. وإن كان الغرض
ـ كما قيل في توجيه كلامه أيضا ـ أنّه لمّا كان من الجائز عقلا أن
__________________
يعتمد المتكلّم على قرينة غير معهودة ولا معروفة إلاّ لدى من
قصد إفهامه فهو احتمال لا ينفيه العقل ؛ لأنّه لا يقبح من الحكيم ، ولا يلزم نقض
غرضه ، إذا نصب قرينة تخفى على غير المقصودين بالإفهام ، ومثل هذه القرينة الخفيّة
ـ على تقدير وجودها ـ لا يتوقّع من غير المقصود بالإفهام أن يعثر عليها بعد الفحص
، فهو كلام صحيح في نفسه ، إلاّ أنّه غير مرتبط بما نحن فيه ، أي
لا يضرّ بحجّيّة الظهور ببناء العقلاء.
وتوضيح
ذلك أنّ الذي يقوّم
حجّيّة الظهور هو نفي احتمال القرينة ببناء العقلاء ، لا نفي احتمالها بحكم العقل
، ولا ملازمة بينهما ـ أي إنّه إذا كان احتمال القرينة لا ينفيه العقل فلا يلزم
منه عدم نفيه ببناء العقلاء النافع في حجّيّة الظهور ـ ، بل الأمر أكثر من أن يقال
: إنّه لا ملازمة بينهما ؛ فإنّ الظهور لا يكون ظهورا إلاّ إذا كان هناك احتمال
للقرينة ، غير منفيّ بحكم العقل ، وإلاّ لو كان احتمالها منفيّا بحكم العقل كان
الكلام نصّا ، لا ظاهرا.
وعلى نحو العموم
نقول : لا يكون الكلام ظاهرا ليس بنصّ قطعيّ في المقصود إلاّ إذا كان مقترنا
باحتمال عقليّ ، أو احتمالات عقليّة غير مستحيلة التحقّق ، مثل احتمال خطأ
المتكلّم ، أو غفلته ، أو تعمّده للإيهام لحكمة ، أو نصبه لقرينة تخفى على الغير ،
أو لا تخفى.
ثمّ لا يكون
الظاهر حجّة إلاّ إذا كان البناء العمليّ من العقلاء على إلغاء مثل هذه الاحتمالات
، أي عدم الاعتناء بها في مقام العمل بالظاهر.
وعليه ، فالنفي
الادّعائيّ العمليّ للاحتمالات هو المقوّم لحجّيّة الظهور ، لا نفي الاحتمالات
عقلا من جهة استحالة تحقّق المحتمل ؛ فإنّه إذا كانت الاحتمالات مستحيلة التحقّق
لا تكون محتملات ، ويكون الكلام حينئذ نصّا لا نحتاج في الأخذ به إلى فرض بناء
العقلاء على إلغاء الاحتمالات.
وإذا اتّضح ذلك
نستطيع أن نعرف أنّ هذا التوجيه المذكور للقول بالتفصيل في حجّيّة الظهور لا وجه
له ؛ فإنّه أكثر ما يثبت به أنّ نصب القرينة الخفيّة بالنسبة إلى من لم يقصد
إفهامه أمر محتمل غير مستحيل التحقّق ؛ لأنّه لا يقبح من الحكيم أن يصنع مثل ذلك ،
فالقرينة محتملة عقلا. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون البناء العمليّ من العقلاء على
إلغاء
__________________
مثل هذا الاحتمال
، سواء أمكن أن يعثر على هذه القرينة بعد الفحص ـ لو كانت ـ أم لم يمكن.
٤. ثمّ على تقدير
تسليم الفرق في حجّيّة الظهور بين المقصودين بالإفهام ، وبين غيرهم ، فالشأن كلّ
الشأن في انطباق ذلك على واقعنا بالنسبة إلى الكتاب العزيز ، والسنّة.
أمّا : الكتاب
العزيز فإنّه من المعلوم لنا أنّ التكاليف التي يتضمّنها عامّة لجميع المكلّفين ،
ولا اختصاص لها بالمشافهين. وبمقتضى عمومها يجب ألاّ تقترن بقرائن تخفى على غير
المشافهين. بل لا شكّ في أنّ المشافهين ليسوا وحدهم المقصودين بالإفهام بخطابات
القرآن الكريم.
وأمّا : السنّة
فإنّ الأحاديث الحاكية لها على الأكثر تتضمّن تكاليف عامّة لجميع المكلّفين ، أو
المقصود بها إفهام الجميع ، حتى غير المشافهين ، وقلّما يقصد بها إفهام خصوص
المشافهين في بعض الجوابات على أسئلة خاصّة. وإذا قصد ذلك فإنّ التكليف فيها لا
بدّ أن يعمّ غير السائل بقاعدة الاشتراك. ومقتضى الأمانة في النقل ، وعدم الخيانة
من الراوي ، المفروض فيه ذلك أن ينبّه على كلّ قرينة دخيلة في الظهور ، ومع عدم
بيانها منه يحكم بعدمها.
ه. حجّيّة ظواهر
الكتاب
نسب إلى جماعة من
الأخباريّين القول بعدم حجّيّة ظواهر الكتاب العزيز ، وأكّدوا : أنّه لا يجوز العمل بها من دون أن يرد بيان وتفسير لها من طريق
آل البيت عليهمالسلام .
أقول : إنّ القائلين بحجّيّة ظواهر الكتاب :
١. لا يقصدون
حجّيّة كلّ ما في الكتاب ، وفيه آيات محكمات ، وأخر متشابهات. بل المتشابهات لا
يجوز تفسيرها بالرأي. ولكنّ التمييز بين المحكم والمتشابه ليس بالأمر العسير على
الباحث المتدبّر ؛ إذا كان هذا ما يمنع من الأخذ بالظواهر التي هي من نوع المحكم.
__________________
٢. لا يقصدون ـ أيضا
ـ بالعمل بالمحكم من آياته جواز التسرّع بالعمل به من دون فحص كامل عن كلّ ما يصلح
لصرفه عن الظهور في الكتاب والسنّة من نحو الناسخ ، والمخصّص ، والمقيّد ، وقرينة
المجاز ...
٣. لا يقصدون ـ أيضا
ـ أنّه يصحّ لكلّ أحد أن يأخذ بظواهره وإن لم تكن له سابقة معرفة ، وعلم ، ودراسة
لكلّ ما يتعلّق بمضمون آياته. فالعاميّ وشبه العاميّ ليس له أن يدّعي فهم ظواهر
الكتاب ، والأخذ بها.
وهذا أمر لا
اختصاص له بالقرآن ، بل هذا شأن كلّ كلام يتضمّن المعارف العالية والأمور العلميّة
، وهو يتوخّى الدقّة في التعبير. ألا ترى أنّ لكلّ علم أهلا يرجع إليهم
في فهم مقاصد كتب ذلك العلم ، وأنّ له أصحابا يؤخذ منهم آراء ما فيه من مؤلّفات؟
مع أنّ هذه الكتب والمؤلّفات لها ظواهر تجري على قوانين الكلام ، وأصول اللغة ،
وسنن أهل المحاورة ، هي حجّة على المخاطبين بها ، وهي حجّة على مؤلّفيها ، ولكن لا
يكفي للعاميّ أن يرجع إليها ليكون عالما بها ، أو يحتجّ بها ، أو يحتجّ بها عليه ،
بغير تلمذة على أحد من أهلها ، ولو فعل ذلك هل تراه لا يؤنّب على ذلك ، ولا يلام؟
وكلّ ذلك لا يسقط
ظواهرها عن كونها حجّة في نفسها ، ولا يخرجها عن كونها ظواهر يصحّ الاحتجاج بها.
وعلى هذا ،
فالقرآن الكريم ـ إذ نقول : إنّه حجّة على العباد ـ فليس معنى ذلك أنّ ظواهره
كلّها هي حجّة بالنسبة إلى كلّ أحد ، حتى بالنسبة إلى من لم يتزوّد بشيء من العلم ، والمعرفة .
وحينئذ نقول لمن
ينكر حجّيّة ظواهر الكتاب : ما ذا تعني من هذا الإنكار؟
١. إن كنت تعني
هذا المعنى الذي تقدم ذكره ـ وهو عدم جواز التسرّع بالأخذ بها من
__________________
دون فحص عمّا يصلح
لصرفها عن ظواهرها ، وعدم جواز التسرّع بالأخذ بها من كلّ أحد ـ فهو كلام صحيح.
وهو أمر طبيعيّ في كلّ كلام عال رفيع ، وفي كلّ مؤلّف في المعارف العالية. ولكن
قلنا : إنّه ليس معنى ذلك أنّ ظواهره مطلقا ليست بحجّة بالنسبة إلى كلّ أحد.
٢. وإن كنت تعني
الجمود على خصوص ما ورد من آل البيت عليهمالسلام ـ على وجه لا يجوز التعرّض لظواهر القرآن ، والأخذ بها
مطلقا فيما لم يرد فيه بيان من قبلهم ، حتى بالنسبة إلى من يستطيع فهمه من
العارفين بمواقع الكلام ، وأساليبه ، ومقتضيات الأحوال ، مع الفحص عن كلّ ما يصلح
للقرينة ، أو ما يصلح لنسخه ـ فإنّه أمر لا يثبته ما
ذكروه له من الأدلّة.
كيف؟ وقد ورد عنهم
عليهمالسلام إرجاع الناس إلى القرآن الكريم ، مثل ما ورد من الأمر بعرض
الأخبار المتعارضة عليه ، بل ورد عنهم ما هو أعظم من ذلك ، وهو عرض كلّ ما ورد
عنهم على القرآن الكريم ، كما ورد عنهم الأمر بردّ الشروط المخالفة للكتاب في
أبواب العقود ، ووردت عنهم أخبار خاصّة دالّة على جواز التمسّك بظواهره
، نحو قوله عليهالسلام لزرارة لمّا قال له : من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس؟
فقال عليهالسلام : «لمكان الباء» ، ويقصد الباء من
قوله (تعالى) : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) . فعرّف زرارة [أنّه] كيف يستفيد الحكم من ظاهر الكتاب.
ثمّ إذا كان يجب
الجمود على ما ورد من أخبار بيت العصمة فإنّ معنى ذلك هو الأخذ بظواهر أقوالهم ،
لا بظواهر الكتاب. وحينئذ ننقل الكلام إلى نفس أخبارهم ، حتى فيما يتعلّق منها
بتفسير الكتاب ، فنقول : هل يكفي لكلّ أحد أن يرجع إلى ظواهرها من دون تدبّر
وبصيرة ومعرفة ، ومن دون فحص عن القرائن ، واطّلاع على كلّ ما دخل في مضامينها؟
بل هذه الأخبار لا
تقلّ من هذا الجهة عن ظواهر الكتاب ، بل الأمر فيها أعظم ؛ لأنّ سندها يحتاج إلى
تصحيح ، وتنقيح ، وفحص ؛ ولأنّ جملة منها منقولة بالمعنى ، وما ينقل
__________________
بالمعنى لا يحرز
فيه نصّ ألفاظ المعصوم ، وتعبيره ، ولا مراداته. ولا يحرز في أكثرها أنّ النقل كان
لنصّ الألفاظ.
وأمّا : ما ورد من
النهي عن التفسير بالرأي ـ مثل النبوي المشهور : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ
مقعده من النار» ـ ، فالجواب عنه أنّ التفسير غير الأخذ بالظاهر ، والأخذ
بالظاهر لا يسمّى تفسيرا ، على أنّ مقتضى الجمع بينها وبين تلك الأخبار المجوّزة
للأخذ بالكتاب والرجوع إليه حمل التفسير بالرأي ـ إذا سلّمنا أنّه يشمل الأخذ
بالظاهر ـ على معنى التسرّع بالأخذ به بالاجتهادات الشخصيّة ، من دون فحص ، ومن
دون سابقة معرفة وتأمّل ودراسة ، كما يعطيه التعليل في بعضها ، بأنّ فيه ناسخا
ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا. مع أنّه في الكتاب العزيز من المقاصد العالية ما لا
ينالها إلاّ أهل الذكر ، وفيه ما يقصر عن الوصول إلى إدراكه أكثر الناس ، ولا يزال
ينكشف له من الأسرار ما كان خافيا على المفسّرين كلّما تقدّمت العلوم والمعارف
ممّا يوجب الدهشة ، ويحقّق إعجازه من هذه الناحية.
والتحقيق أنّ في الكتاب العزيز جهات كثيرة من الظهور تختلف ظهورا
وخفاء ، وليست ظواهره من هذه الناحية على نسق واحد بالنسبة إلى أكثر الناس ، وكذلك
كلّ كلام ، ولا يخرج الكلام بذلك عن كونه ظاهرا يصلح للاحتجاج به عند أهله ، بل قد
تكون الآية الواحدة لها ظهور من جهة لا يخفى على كلّ أحد ، وظهور آخر يحتاج إلى
تأمّل وبصيرة ، فيخفى على كثير من الناس.
ولنضرب لذلك مثلا
، قوله (تعالى) : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) ، فإنّ هذه الآية الكريمة ظاهرة في أنّ الله (تعالى) قد أنعم على نبيّه محمّد
صلىاللهعليهوآله بإعطائه الكوثر. وهذا الظهور بهذا المقدار لا شكّ فيه لكلّ
أحد. ولكن ليس كلّ الناس فهموا المراد من «الكوثر». فقيل : «المراد به نهر في
الجنّة». وقيل : «المراد القرآن والنبوّة». وقيل : «المراد به ابنته
__________________
فاطمة عليهاالسلام». وقيل غير ذلك. ولكن من يدقّق في السورة يجد أنّ فيها قرينة على المراد
منه ، وهي الآية التي بعدها (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ). و «الأبتر» : الذي لا عقب له ، فإنّه بمقتضى المقابلة يفهم
منها أنّ المراد الإنعام عليه بكثرة العقب ، والذرّيّة. وكلمة «الكوثر» لا تأبى عن
ذلك ، فإنّ «فوعل» تأتي للمبالغة ، فيراد بها المبالغة في الكثرة ، والكثرة : نماء
العدد. فيكون المعنى : إنّا أعطيناك الكثير من الذرّيّة ، والنسل. وبعد هذه
المقارنة ووضوح معنى الكوثر يكون للآية ظهور يصحّ الاحتجاج به ، ولكنّه ظهور بعد
التأمّل والتبصّر. وحينئذ ينكشف صحّة تفسير كلمة «الكوثر» بفاطمة عليهاالسلام ؛ لانحصار ذرّيّته الكثيرة من طريقها ، لا على أن تكون الكلمة من أسمائها.
تمرينات
(٥٨)
١. ما هو محلّ
البحث في الباب الخامس؟
٢. ما هي طرق
إثبات الظواهر؟
٣. لم لا يدلّ
الإجماع وبناء العقلاء على حجّيّة قول اللغويّ؟
٤. ما هو الوجه
الصحيح في الاستدلال على حجّيّة قول اللغويّ؟
٥. ما هو رأى
المحقّق النائيني في الفرق بين الظهور التصوريّ والظهور التصديقيّ؟ وما هو رأي
المصنّف فيه؟
٦. ما الوجه في
حجّيّة الظهور؟
٧. هل يشترط في
تباني العقلاء على حجّيّة الظاهر حصول الظنّ الفعلي بمراد المتكلّم؟
٨. هل يشترط فيه
عدم الظنّ بخلاف الظاهر؟ أذكر ما قال المحقّق الخراسانيّ ، والمصنّف في المقام.
٩. هل اشترط فيه
جريان أصالة عدم القرينة؟ اذكر قول الشيخ ، وقول المحقّق الخراسانيّ ، ومختار
المصنّف.
١٠. ما هو رأي
المحقّق القمّي في حجّيّة الظهور؟ وما الجواب عنه؟
١١. ما هو رأي
الأخباريّين في حجّيّة ظواهر الكتاب العزيز؟ وما الجواب عنه؟
١٢. ما الجواب
عمّا ورد في النهي عن التفسير بالرأي؟
__________________
الباب السادس
الشهرة
إنّ الشهرة لغة
تتضمّن معنى ذيوع الشيء ووضوحه. ومنه قولهم : «شهر فلان سيفه» ، و «سيف مشهور».
وقد أطلقت «الشهرة»
باصطلاح أهل الحديث على كلّ خبر كثر راويه على وجه لا يبلغ حدّ التواتر. والخبر
يقال له حينئذ : «مشهور» ، كما قد يقال له : «مستفيض».
وكذلك يطلقون «الشهرة»
باصطلاح الفقهاء على كلّ ما لا يبلغ درجة الإجماع من الأقوال في المسألة الفقهيّة.
فهي عندهم لكلّ قول كثر القائل به في مقابل القول النادر. والقول يقال له : «مشهور»
، كما أنّ المفتين الكثيرين أنفسهم يقال لهم : «مشهور» ، فيقولون : «ذهب المشهور
إلى كذا» ، و «قال المشهور بكذا» ... وهكذا.
وعلى هذا ،
فالشهرة في الاصطلاح على قسمين :
١.
الشهرة في الرواية : وهي ـ كما تقدّم ـ عبارة عن شيوع نقل الخبر من عدّة رواة ، على وجه لا يبلغ
حدّ التواتر. ولا يشترط في تسميتها بـ «الشهرة» أن يشتهر العمل بالخبر عند الفقهاء
أيضا ، فقد يشتهر وقد لا يشتهر. وسيأتي في مبحث التعادل والتراجيح أنّ هذه الشهرة من أسباب ترجيح الخبر على ما يعارضه من الأخبار. فيكون الخبر
المشهور حجّة من هذه الجهة.
٢.
الشهرة في الفتوى : وهي ـ كما تقدّم ـ عبارة عن شيوع الفتوى عند الفقهاء بحكم شرعيّ ، وذلك بأن
يكثر المفتون على وجه لا تبلغ الكثرة درجة الإجماع
الموجب للقطع
__________________
بقول المعصوم.
فالمقصود بالشهرة
ـ إذن ـ ذيوع الفتوى الموجب للاعتقاد بمطابقتها للواقع من غير أن يبلغ درجة القطع.
وهذه الشهرة في
الفتوى على قسمين من جهة وقوع البحث عنها والنزاع فيها :
الأوّل : أن يعلم فيها أنّ مستندها خبر خاصّ موجود بين أيدينا.
وتسمّى حينئذ «الشهرة العمليّة». وسيأتي في باب التعادل والتراجيح البحث عمّا إذا
كانت هذه الشهرة العمليّة موجبة لجبر الخبر الضعيف من جهة السند ، والبحث أيضا
عمّا إذا كانت موجبة لجبر الخبر غير الظاهر من جهة الدلالة.
الثاني : ألاّ يعلم فيها أنّ مستندها أيّ شيء هو؟ فتكون شهرة في
الفتوى مجرّدة ، سواء كان هناك خبر على طبق الشهرة ولكن لم يستند إليها المشهور ،
أو لم يعلم استنادهم إليه ، أم لم يكن خبر أصلا. وينبغي أن تسمّى هذه بـ «الشهرة
الفتوائيّة». وهي ـ أعني الشهرة الفتوائيّة ـ موضوع بحثنا هنا الذي لأجله عقدنا
هذا الباب. فقد قيل : «إنّ هذه الشهرة حجّة على الحكم الذي وقعت عليه الفتوى
من جهة كونها شهرة ، فتكون من الظنون الخاصّة ، كخبر الواحد». وقيل : «لا دليل على
حجّيتها».
وهذا الاختلاف بعد
الاتّفاق على أنّ فتوى مجتهد واحد أو أكثر ما لم تبلغ الشهرة
__________________
__________________
لا تكون حجّة على
مجتهد آخر ، ولا يجوز التعويل عليها. وهذا معنى ما ذهبوا إليه من عدم جواز التقليد
، أي بالنسبة إلى من يتمكّن من الاستنباط.
والحقّ
أنّه لا دليل على
حجّيّة الظنّ الناشئ من الشهرة ، مهما بلغ من القوّة ، وإن كان من المسلّم به أنّ
الخبر الذي عمل به المشهور حجّة ولو كان ضعيفا من ناحية السند ، كما سيأتي بيانه
في محلّه. وقد ذكروا لحجّيّة الشهرة جملة من الأدلّة ، كلّها مردودة
:
الدليل الأوّل :
أولويّتها من خبر العادل
قيل : «إنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد تدلّ على حجّيّة الشهرة
بمفهوم الموافقة ؛ نظرا إلى أنّ الظنّ الحاصل من الشهرة أقوى غالبا من الظنّ
الحاصل من خبر الواحد ، حتى العادل ، فالشهرة أولى بالحجّيّة من خبر العادل».
والجواب أنّ هذا المفهوم إنّما يتمّ إذا أحرزنا على نحو اليقين أنّ
العلّة في حجّيّة خبر العادل هي إفادته الظنّ ، ليكون ما هو أقوى ظنّا أولى
بالحجّيّة. ولكن هذا غير ثابت في وجه حجّيّة خبر الواحد إذا لم يكن الثابت عدم
اعتبار الظنّ الفعليّ.
الدليل الثاني :
عموم تعليل آية النبأ
وقيل : «إنّ عموم التعليل في آية النبأ (أَنْ
تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) يدلّ على اعتبار مثل الشهرة ؛ لأنّ الذي يفهم من التعليل
أنّ الإصابة من الجهالة هي المانعة من قبول خبر الفاسق بلا تبيّن ، فيدلّ على أنّ
كلّ ما يؤمن معه من الإصابة بجهالة فهو حجّة يجب الأخذ به. والشهرة كذلك».
والجواب أنّ هذا ليس تمسّكا بعموم التعليل ـ على تقدير تسليم أنّ
هذه الفقرة من الآية واردة مورد التعليل ، وقد تقدّم بيان ذلك في أدلّة حجّيّة خبر
الواحد ـ ، بل هذا
__________________
الاستدلال تمسّك
بعموم نقيض التعليل. ولا دلالة في الآية على نقيض التعليل بالضرورة ؛ لأنّ هذه
الآية نظيرة نهي الطبيب عن بعض الطعام لأنّه حامض ـ مثلا ـ ، فإنّ هذا التعليل لا
يدلّ على أنّ كلّ ما هو ليس بحامض يجوز أو يجب أكله. وكذلك هنا ؛ فإنّ حرمة العمل
بنبإ الفاسق بدون تبيّن ـ لأنّه يستلزم الإصابة بجهالة ـ لا تدلّ على وجوب الأخذ
بكلّ ما يؤمن فيه ذلك وما لا يستلزم الإصابة بجهالة.
وأمّا : دلالتها
على خصوص حجّيّة خبر الواحد العادل فقد استفدناها من طريق آخر ، وهو طريق مفهوم
الشرط على ما تقدّم شرحه ، لا من طريق عموم نقيض التعليل.
وبعبارة أخرى :
إنّ أكثر ما تدلّ الآية في تعليلها على أنّ الإصابة
بجهالة مانعة عن تأثير المقتضي لحجّيّة الخبر ، ولا تدلّ على وجود المقتضي
للحجّيّة في كلّ شيء آخر ؛ حيث لا يوجد فيه المانع ، حتى تكون دالّة على حجّيّة
مثل الشهرة المفقود فيها المانع. أو نقول : إنّ فقدان المانع عن الحجّيّة في مثل
الشهرة لا يستلزم وجود المقتضي فيها للحجّيّة ، ولا تدلّ الآية على أنّ كلّ ما ليس
فيه مانع فالمقتضي فيه موجود.
الدليل الثالث :
دلالة بعض الأخبار
قيل : «إنّ بعض الأخبار دالّة على اعتبار الشهرة ، مثل مرفوعة
زرارة : قال زرارة : سألت الباقر عليهالسلام ، فقلت : ـ جعلت فداك ـ يأتي عنكم الخبران ، أو الحديثان
المتعارضان ، فبأيّهما آخذ؟ قال عليهالسلام «[يا زرارة!] خذ
بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر». قلت يا سيّدي ، إنّهما معا مشهوران [مرويّان]
، مأثوران عنكم. قال عليهالسلام : «خذ بما يقوله أعدلهما ...» إلى
آخر الخبر ، .
__________________
والاستدلال بهذه
المرفوعة من وجهين :
الأوّل : أنّ المراد من الموصول في قوله : «بما اشتهر» مطلق
المشهور بما هو مشهور ، لا خصوص الخبر ، فيعمّ المشهور بالفتوى ؛ لأنّ الموصول من
الأسماء المبهمة التي تحتاج إلى ما يعيّن مدلولها ، والمعيّن لمدلول الموصول هي
الصلة ، وهنا ـ وهي قوله : «اشتهر» ـ تشمل كلّ شيء اشتهر ، حتى الفتوى.
الثاني : أنّه على تقدير أن يراد من الموصول خصوص الخبر ؛ فإنّ
المفهوم من المرفوعة إناطة الحكم بالشهرة ، فتدلّ على أنّ الشهرة بما هي شهرة توجب
اعتبار المشتهر ، فيدور الحكم معها حيثما دارت ، فالفتوى المشتهرة أيضا معتبرة ،
كالخبر المشهور.
والجواب : أمّا عن الوجه الأوّل : فبأنّ الموصول كما يتعيّن المراد
منه بالصلة ، كذلك يتعيّن بالقرائن الأخرى المحفوفة به. والذي يعيّنه هنا السؤال
المتقدّم عليه ؛ إذ السؤال وقع عن نفس الخبر ، والجواب لا بدّ أن يطابق السؤال.
وهذا نظير ما لو سألت : أيّ إخوتك أحبّ إليك؟ فأجبت : «من كان أكبر منّي» ، فإنّه
لا ينبغي أن يتوهّم أحد أنّ الحكم في هذا الجواب يعمّ كلّ من كان أكبر منك ، ولو
كان من غير إخوتك.
وأمّا عن الوجه
الثاني : فبأنّه بعد وضوح إرادة الخبر من الموصول يكون الظاهر من الجملة تعليق الحكم على الشهرة في خصوص الخبر ، فيكون المناط
في الحكم شهرة الخبر بما أنّها شهرة الخبر ، لا الشهرة بما هي ، وإن كانت منسوبة
إلى شيء آخر.
وكذلك يقاس الحال
في مقبولة ابن حنظلة ، الآتية في باب التعادل والتراجيح.
تنبيه
من المعروف عن
المحقّقين من علمائنا أنّهم لا يجرءون على مخالفة المشهور إلاّ مع
__________________
دليل قويّ ،
ومستند جليّ يصرفهم عن المشهور ، بل ما زالوا يحرصون على موافقة المشهور وتحصيل
دليل يوافقه ، ولو كان الدالّ على غيره أولى بالأخذ ، وأقوى في نفسه ، وما ذلك من
جهة التقليد للأكثر ، ولا من جهة قولهم بحجّيّة الشهرة ، وإنّما منشأ ذلك إكبار المشهور من آراء العلماء ، لا سيّما إذا كانوا من أهل التحقيق والنظر.
وهذه طريقة جارية
في سائر الفنون ؛ فإنّ مخالفة أكثر المحقّقين في كلّ صناعة لا تسهل ، إلاّ مع حجّة
واضحة ، وباعث قويّ ؛ لأنّ المنصف قد يشكّ في صحّة رأيه مقابل المشهور ، فيجوّز
على نفسه الخطأ ، ويخشى أن يكون رأيه عن جهل مركّب ، لا سيّما إذا كان قول المشهور
هو الموافق للاحتياط.
تمرينات
(٥٩)
١. ما معنى الشهرة
لغة؟
٢. ما معنى الشهرة
في اصطلاح أهل الحديث ، واصطلاح الفقهاء؟
٣. ما هي الشهرة
في الرواية ، والشهرة في الفتوى؟ وأيّتهما كانت محلّ النزاع؟
٤. اذكر الأقوال
في حجّيّة الشهرة. واذكر الراجح منها عند المصنّف.
٥. اذكر ادلّة
القائلين بحجّيّة الشهرة ، واذكر الجواب عنها.
٦. هل مخالفة
المشهور جائزة أم لا؟
__________________
الباب السابع
السيرة
المقصود من «السيرة»
ـ كما هو واضح ـ استمرار عادة الناس وتبانيهم العمليّ على فعل شيء ، أو تركه.
والمقصود بالناس
إمّا جميع العقلاء والعرف العامّ من كلّ ملّة ونحلة ، فيعمّ المسلمين وغيرهم ؛
وتسمّى السيرة حينئذ «السيرة العقلائيّة». والتعبير الشائع عند الأصوليّين
المتأخّرين تسميتها ب : «بناء العقلاء». وإمّا جميع المسلمين بما هم مسلمون ، أو
خصوص أهل نحلة خاصّة منهم ، كالإماميّة ـ مثلا ـ ؛ وتسمّى السيرة حينئذ «سيرة
المتشرّعة» ، أو «السيرة الشرعيّة» ، أو «السيرة الإسلاميّة».
وينبغي التنبيه
على حجّيّة كلّ من هذين القسمين ؛ لاستكشاف الحكم الشرعيّ فيما جرت عليه السيرة ،
وعلى مدى دلالة السيرة ، فنقول :
١. حجّيّة بناء
العقلاء
لقد تكلّمنا أكثر
من مرّة ـ فيما سبق من هذا الجزء ـ عن «بناء العقلاء» ، واستدللنا به على حجّيّة
خبر الواحد ، وحجّيّة الظواهر . وقد أشبعنا
الموضوع بحثا في مسألة «حجّيّة قول اللغويّ».
__________________
وهناك قلنا : إنّ
بناء العقلاء لا يكون دليلا إلاّ إذا كان يستكشف منه على نحو اليقين موافقة الشارع
وإمضاؤه لطريقة العقلاء ؛ لأنّ اليقين تنتهي إليه حجّيّة كلّ حجّة.
وقلنا هناك : إنّ
موافقة الشارع لا تستكشف على نحو اليقين إلاّ بأحد شروط ثلاثة. ونذكر خلاصتها هنا
بأسلوب آخر من البيان ، فنقول :
إنّ السيرة إمّا
أن ينتظر فيها أن يكون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء ؛ إذ لا مانع من ذلك. وإمّا
ألاّ ينتظر ذلك ؛ لوجود مانع من اتّحاده معهم في المسلك ، كما في الاستصحاب.
فإن كان الأوّل ،
فإن ثبت من الشارع الردع عن العمل بها فلا حجّيّة فيها قطعا.
وإن لم يثبت الردع
منه ، فلا بدّ أن يعلم اتّحاده في المسلك معهم ؛ لأنّه أحد
العقلاء ، بل رئيسهم ، فلو لم يرتضها ولم يتّخذها مسلكا له كسائر العقلاء ، لبيّن
ذلك ، ولردعهم عنها ، ولذكر لهم مسلكه الذي يتّخذه بدلا عنها ، لا سيّما في
الأمارات المعمول بها عند العقلاء ، كخبر الواحد الثقة ، والظواهر.
وإن كان الثاني
فإمّا أن يعلم جريان سيرة العقلاء في العمل بها في الأمور الشرعيّة ، كما في
الاستصحاب. وإمّا ألاّ يعلم ذلك ، كما في الرجوع إلى أهل الخبرة في إثبات اللغات.
فإن كان الأوّل
فنفس عدم ثبوت ردعه كاف في استكشاف موافقته لهم ، لأنّ ذلك ممّا يعنيه ويهمّه ،
فلو لم يرتضها ـ وهي بمرأى ومسمع منه ـ لردعهم عنها ، ولبلّغهم بالردع ، بأيّ نحو
من أنحاء التبليغ ، فبمجرّد عدم ثبوت الردع منه نعلم بموافقته ؛ ضرورة أنّ الردع
الواقعيّ غير الواصل لا يعقل أن يكون ردعا فعليّا ، وحجّة.
وبهذا نثبت حجّيّة
مثل الاستصحاب ببناء العقلاء ؛ لأنّه لمّا كان ممّا بنى على العمل به العقلاء بما
فيهم المسلمون ، وقد أجروه في الأمور الشرعيّة بمرأى ومسمع من الإمام ، والمفروض
أنّه لم يكن هناك ما يحول دون إظهار الردع ، وتبليغه من تقيّة ، ونحوها ، فلا بدّ
أن يكون الشارع قد ارتضاه ؛ طريقة في الأمور الشرعيّة.
وإن كان الثاني ـ أي
لم يعلم ثبوت السيرة في الأمور الشرعيّة ـ فإنّه لا يكفي حينئذ في
__________________
استكشاف موافقة
الشارع عدم ثبوت الردع منه ؛ إذ لعلّه ردعهم عن إجرائها في الأمور الشرعيّة فلم يجروها ، أو لعلّهم لم يجروها في الأمور الشرعيّة من
عند أنفسهم فلم يكن من وظيفة الشارع أن يردع عنها في غير الأمور الشرعيّة ، لو كان
لا يرتضيها في الشرعيّات. وعليه ، فلأجل استكشاف رضا الشارع وموافقته على إجرائها
في الشرعيّات لا بدّ من إقامة دليل خاصّ قطعيّ على ذلك.
وبعض السير من هذا
القبيل قد ثبت عن الشارع إمضاؤه لها ، مثل الرجوع إلى أهل الخبرة عند النزاع في
تقدير قيم الأشياء ومقاديرها ، نظير القيميّات المضمونة بالتلف ونحوه ، وتقدير قدر
الكفاية في نفقة الأقارب ، ونحو ذلك.
أمّا : ما لم يثبت
فيها دليل خاصّ ـ كالسيرة في الرجوع إلى أهل الخبرة في اللغات ـ فلا عبرة بها ،
وإن حصل الظنّ منها ؛ لأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا. كما تقدّم ذلك هناك.
٢. حجّيّة سيرة
المتشرّعة
إنّ السيرة عند
المتشرّعة من المسلمين على فعل شيء أو تركه هي في الحقيقة من نوع الإجماع ، بل هي
أرقى أنواع الإجماع ؛ لأنّها إجماع عمليّ من العلماء ، وغيرهم. والإجماع
في الفتوى إجماع قوليّ ، ومن العلماء خاصّة.
والسيرة على نحوين
: تارة يعلم فيها أنّها كانت جارية في عصور المعصومين عليهمالسلام ، حتى يكون المعصوم أحد العاملين بها ، أو يكون مقرّرا لها ، وأخرى لا يعلم
ذلك ، أو يعلم حدوثها بعد عصورهم.
فإن كانت على
النحو الأوّل فلا شكّ في أنّها حجّة قطعيّة على موافقة الشارع ، فتكون بنفسها
دليلا على الحكم ، كالإجماع القوليّ الموجب للحدس القطعيّ برأي المعصوم. وبهذا
تختلف عن «سيرة العقلاء» ؛ فإنّها إنّما تكون حجّة إذا ثبت من دليل آخر إمضاء
الشارع
__________________
لها ، ولو من طريق
عدم ثبوت الردع من قبله ، كما سبق.
وإن كانت على
النحو الثاني ، فلا نجد مجالا للاعتماد عليها في استكشاف موافقة المعصوم على نحو
القطع واليقين ، كما قلنا في الإجماع ، وهي نوع منه ، بل هي دون الإجماع القوليّ
في ذلك ، كما سيأتي وجهه.
قال الشيخ الأعظم قدسسره في كتاب البيع في
مبحث المعاطاة : «وأمّا : ثبوت السيرة واستمرارها على التوريث ـ يقصد توريث ما
يباع معاطاة ـ فهي كسائر سيراتهم الناشئة من المسامحة ، وقلّة المبالاة في الدين
ممّا لا يحصى في عباداتهم ، ومعاملاتهم ، كما لا يخفى».
ومن الواضح أنّه
يعنى من السيرة هذا النحو الثاني. والسرّ في عدم الاعتماد على هذا النحو من السيرة
هو ما نعرف من أسلوب نشأة العادات عند البشر ، وتأثير العادات على عواطف الناس :
أنّ بعض الناس المتنفّذين ، أو المغامرين قد يعمل شيئا ؛ استجابة لعادة غير
إسلاميّة ، أو لهوى في نفسه ، أو لتأثيرات خارجيّة ، نحو تقليد الأغيار ، أو
لبواعث انفعالات نفسيّة ، مثل حبّ التفوّق على الخصوم ، أو إظهار عظمة شخصه ، أو
دينه ، أو نحو ذلك. ويأتي آخر فيقلّد الأوّل في عمله ، ويستمرّ العمل ، فيشيع بين
الناس من دون أن يحصل من يردعهم عن ذلك ؛ لغفلة ؛ أو لتسامح ؛ أو لخوف ؛ أو لغلبة
العاملين فلا يصغون إلى من ينصحهم ؛ أو لغير ذلك.
وإذا مضت على
العمل عهود طويلة يتلقّاه الجيل بعد الجيل ، فيصبح سيرة المسلمين ، وينسى تأريخ
تلك العادة. وإذا استقرّت السيرة يكون الخروج عليها خروجا على العادات المستحكمة
التي من شأنها أن تتكوّن لها قدسيّة واحترام لدى الجمهور ، فيعدّون مخالفتها من
المنكرات القبيحة ، وحينئذ يتراءى أنّها عادة شرعيّة وسيرة إسلاميّة ، وأنّ
المخالف لها مخالف لقانون الإسلام ، وخارج على الشرع.
ويشبه أن يكون من
هذا الباب سيرة تقبيل اليد ، والقيام احتراما للقادم ، والاحتفاء
__________________
بيوم النوروز ،
وزخرفة المساجد والمقابر ... وما إلى ذلك من عادات اجتماعيّة
حادثة.
وكلّ من يغترّ
بهذه السيرات وأمثالها فإنّه لم يتوصّل إلى ما توصّل إليه الشيخ الأنصاريّ الأعظم قدسسره من إدراك سرّ
نشأة العادات عند الناس على طول الزمن ، وأنّ لكلّ جيل من العادات في السلوك ،
والاجتماع ، والمعاملات ، والمظاهر ، والملابس ما قد يختلف كلّ الاختلاف عن عادات
الجيل الآخر. هذا بالنسبة إلى شعب واحد ، وقطر واحد ؛ فضلا عن الشعوب ، والأقطار
بعضها مع بعض. والتبدّل في العادات غالبا يحدث بالتدريج في زمن طويل قد لا يحسّ به
من جرى على أيديهم التبديل.
ولأجل هذا لا نثق
في السيرات الموجودة في عصورنا بأنّها كانت موجودة في العصور الإسلاميّة الأولى.
ومع الشكّ في ذلك فأجدر بها ألاّ تكون حجّة ؛ لأنّ الشكّ في حجّيّة الشيء كاف في
وهن حجّيّته ؛ إذ لا حجّة إلاّ بعلم.
٣. مدى دلالة
السيرة
إنّ السيرة عند ما
تكون حجّة فأقصى ما تقتضيه أن تدلّ على مشروعيّة الفعل وعدم حرمته في صورة السيرة على
الفعل ، أو تدلّ على مشروعيّة الترك وعدم وجوب الفعل في صورة السيرة على الترك.
أمّا : استفادة
الوجوب من سيرة الفعل ، والحرمة من سيرة الترك فأمر لا تقتضيه نفس السيرة ؛ بل
كذلك الاستحباب ، والكراهة ؛ لأنّ العمل في حدّ ذاته مجمل ، لا دلالة على أكثر من
مشروعيّة الفعل ، أو الترك.
نعم ، المداومة
والاستمرار على العمل من قبل جميع الناس المتشرّعين قد يستظهر منها استحبابه ؛
لأنّه يدلّ ذلك على استحسانه عندهم على الأقلّ.
ولكن يمكن أن يقال
: إنّ الاستحسان له ربما ينشأ من كونه أصبح عادة لهم ، والعادات من شأنها أن يكون فاعلها
ممدوحا مرغوبا فيه لدى الجمهور ، وتاركها مذموما عندهم ،
__________________
فلا يوثق ـ إذن ـ فيما
جرت عليه السيرة بأنّ المدح للفاعل والذمّ للتارك كانا من ناحية شرعيّة.
والغرض أنّ السيرة
بما هي سيرة لا يستكشف منها وجوب الفعل ، ولا استحبابه في سيرة الفعل ، ولا يستكشف
منها حرمة الفعل ، ولا كراهته في سيرة الترك.
نعم ، هناك بعض
الأمور يكون لازم مشروعيّتها وجوبها ، وإلاّ لم تكن مشروعة. وذلك مثل الأمارة ،
كخبر الواحد ، والظواهر ؛ فإنّ السيرة على العمل بالأمارة لمّا دلّت على مشروعيّة
العمل بها ، فإنّ لازمها أن يكون واجبا ؛ لأنّه لا يشرع العمل بها ، ولا يصلح إلاّ
إذا كانت حجّة منصوبة من قبل الشارع لتبليغ الأحكام واستكشافها. وإذا كانت حجّة
وجب العمل بها قطعا لوجوب تحصيل الأحكام وتعلّمها ؛ فينتج من ذلك أنّه لا يمكن فرض
مشروعيّة العمل بالأمارة ، مع فرض عدم وجوبه.
تمرينات
(١٩)
١. ما معنى السيرة؟
٢. ما الفرق بين
السيرة العقلائيّة ، والسيرة الشرعيّة؟
٣. هل بناء
العقلاء بإطلاقه حجّة أم لا؟ وعلى الثاني بيّن موارد حجّيّته.
٤. هل سيرة
المتشرّعة حجّة أم لا؟
٥. بيّن مدى دلالة
السيرة.
الباب الثامن
القياس
تمهيد
إنّ القياس ـ على
ما سيأتي تحديده ، وبيان موضع البحث عنه ـ من الأمارات التي وقعت معركة الآراء بين
الفقهاء.
وعلماء الإماميّة
ـ تبعا لآل البيت عليهمالسلام ـ أبطلوا العمل به . ومن الفرق
الأخرى أهل الظاهر ـ المعروفين بـ «الظاهريّة» أصحاب داود بن علي بن خلف ، إمام
أهل الظاهر ـ وكذلك الحنابلة لم يكونوا يقيمون له وزنا.
وأوّل من توسّع
فيه في القرن الثاني أبو حنيفة (رأس القياسيّين) ، وقد نشط في عصره ، وأخذ به
الشافعيّة ، والمالكيّة. ولقد بالغ به جماعة ، فقدّموه على الإجماع ، بل غلا آخرون
، فردّوا الأحاديث بالقياس ، وربما صار بعضهم يؤوّل الآيات بالقياس.
ومن المعلوم عند
آل البيت عليهمالسلام أنّهم لا يجوّزون العمل به ، وقد شاع عنهم «إنّ دين الله
لا يصاب بالعقول» و «إنّ السنّة إذا قيست محق الدين». ، بل شنّوا حربا
__________________
شعواء لا هوادة فيها على أهل الرأي وقياسهم ما وجدوا للكلام متّسعا. ومناظرات الإمام الصادق عليهالسلام معهم معروفة ، لا سيّما مع أبي حنيفة ، وقد رواها حتى أهل السنّة ، إذ قال له
ـ فيما رواه ابن حزم ـ : «اتّق الله ولا تقس ؛ فإنّا نقف غدا بين يدي الله ، فنقول
: قال الله ، وقال رسوله ، وتقول أنت وأصحابك : سمعنا ورأينا».
والذي يبدو أنّ
المخالفين لآل البيت عليهمالسلام ـ الذين سلكوا غير طريقهم ، ولم يعجبهم أن يستقوا من منبع
علومهم ـ أعوزهم العلم بأحكام الله ، وما جاء به الرسول صلىاللهعليهوآله ، فالتجئوا إلى أن يصطنعوا الرأي والاجتهادات الاستحسانيّة للفتيا والقضاء بين الناس
، بل حكموا الرأي والاجتهاد حتى فيما يخالف النصّ ، أو جعلوا ذلك عذرا مبرّرا
لمخالفة النصّ ، كما في قصّة تبرير الخليفة الأوّل لفعلة خالد بن الوليد في قتل
مالك بن نويرة ، وقد خلا بزوجته ليلة قتله ، فقال عنه : «إنّه اجتهد فأخطأ!!؟» ،
وذلك لمّا أراد الخليفة عمر بن الخطّاب أن يقاد به ، ويقام عليه الحدّ.
وكان الرأي
والقياس غير واضح المعالم عند من كان يأخذ به من الصحابة والتابعين ، حتى بدأ
البحث فيه لتركيزه وتوسعة الأخذ به في القرن الثاني على يد أبي حنيفة وأصحابه. ثمّ بعد أن أخذت الدولة العبّاسيّة تساند أهل القياس ، وبعد ظهور النقّاد له
، انبرى جماعة من علمائهم لتحديد معالمه ، وتوسيع أبحاثه ، ووضع القيود ،
والاستدراكات
__________________
له ، حتى صار فنّا
قائما بنفسه.
ونحن يهمّنا منه
البحث عن موضع الخلاف فيه ، وحجّيته ، فنقول :
١. تعريف القياس
إنّ خير التعريفات
للقياس ـ في رأينا ـ أن يقال : «هو إثبات حكم في محلّ بعلّة لثبوته في محلّ آخر
بتلك العلّة». والمحلّ الأوّل ـ وهو المقيس ـ يسمّى «فرعا». والمحلّ الثاني ـ وهو
المقيس عليه ـ يسمّى «أصلا». والعلّة المشتركة تسمّى «جامعا».
وفي الحقيقة أنّ
القياس عمليّة من المستدلّ ـ أي القائس ـ ؛ لغرض استنتاج حكم شرعيّ لمحلّ لم يرد
فيه نصّ بحكمه الشرعيّ ؛ إذ توجب هذه العمليّة عنده الاعتقاد يقينا أو ظنّا بحكم
الشارع.
والعمليّة
القياسيّة هي نفس حمل الفرع على الأصل في الحكم الثابت للأصل شرعا ، فيعطي القائس
حكما للفرع ، مثل حكم الأصل ، فإن كان الوجوب أعطى له الوجوب ، وإن كان الحرمة
فالحرمة ... وهكذا.
ومعنى هذا الإعطاء
أن يحكم بأنّ الفرع ينبغي أن يكون محكوما عند الشارع بمثل حكم الأصل ؛ للعلّة
المشتركة بينهما. وهذا الإعطاء ، أو الحكم هو الذي يوجب عنده الاعتقاد بأنّ للفرع
مثل ما للأصل من الحكم عند الشارع ، ويكون هذا الإعطاء ، أو الحكم ، أو الإثبات ،
أو الحمل ـ ما شئت فعبّر ـ دليلا عنده على حكم الله في الفرع.
وعليه ، فـ «الدليل»
: هو الإثبات الذي هو نفس عمليّة الحمل ، وإعطاء الحكم للفرع من قبل القائس. و «نتيجة
الدليل» هو الحكم بأنّ الشارع قد حكم فعلا على هذا الفرع بمثل حكم الأصل.
فتكون هذه
العمليّة من القائس دليلا على حكم الشارع ؛ لأنّها توجب اعتقاده اليقينيّ أو
الظنيّ بأنّ الشارع له هذا الحكم.
وبهذا التقرير
يندفع الاعتراض على مثل هذا التعريف ، بأنّ الدليل ـ وهو الإثبات ـ نفسه نتيجة
الدليل ، بينما أنّه يجب أن يكون الدليل مغايرا للمستدلّ عليه.
وجه الدفع أنّه
اتّضح بذلك البيان أنّ الإثبات في الحقيقة ـ وهو عمليّة الحمل ـ عمل القائس وحكمه
ـ لا حكم الشارع ـ ، وهو الدليل. وأمّا : المستدلّ عليه فهو حكم الشارع على الفرع
، وإنّما حصل للقائس هذا الاستدلال ، لحصول الاعتقاد له بحكم الشارع من تلك
العمليّة القياسيّة التي أجراها.
ومن هنا يظهر أنّ
هذا التعريف أفضل التعريفات ، وأبعدها عن المناقشات.
وأمّا : تعريفه
بالمساواة بين الفرع والأصل في العلّة ، أو نحو ذلك ، فإنّه تعريف بمورد القياس ، وليست المساواة قياسا.
وعلى كلّ حال ،
فلا يستحقّ الموضوع الإطالة ، بعد أن كان المقصود من القياس واضحا.
٢. أركان القياس
بما تقدّم من
البيان يتّضح أنّ للقياس أربعة أركان :
١. «الأصل» وهو
المقيس عليه المعلوم ثبوت الحكم له شرعا.
٢. «الفرع» وهو
المقيس المطلوب إثبات الحكم له شرعا.
٣. «العلّة» وهي
الجهة المشتركة بين الأصل والفرع التي اقتضت ثبوت الحكم. وتسمّى : «جامعا».
٤. «الحكم» وهو
نوع الحكم الذي ثبت للأصل ، ويراد إثباته للفرع.
وقد وقعت أبحاث عن
كلّ من هذه الأركان ممّا لا يهمّنا التعرّض لها ، إلاّ فيما يتعلّق بأصل حجّيّته وما يرتبط بذلك. وبهذا الكفاية.
__________________
٣. حجّيّة القياس
إنّ حجّيّة كلّ
أمارة تناط بالعلم ـ وقد سبق بيان ذلك في هذا الجزء أكثر من مرّة ـ ، فالقياس ـ كباقي الأمارات ـ لا يكون حجّة إلاّ في صورتين ، لا ثالثة لهما
:
١. أن يكون بنفسه
موجبا للعلم بالحكم الشرعيّ.
٢. أن يقوم دليل
قاطع على حجّيّته ، إذا لم يكن بنفسه موجبا للعلم.
وحينئذ لا بدّ من
بحث موضوع حجّيّة القياس عن الناحيتين ، فنقول :
أ. هل القياس يوجب
العلم؟
إنّ القياس نوع من
«التمثيل» المصطلح عليه في المنطق. وقلنا هناك : «إنّ
التمثيل من الأدلّة التي لا تفيد إلاّ الاحتمال ؛ لأنّه لا يلزم من تشابه شيئين في
أمر ، بل في عدّة أمور أن يتشابها من جميع الوجوه والخصوصيّات».
نعم ، إذا قويت
وجوه الشبه بين الأصل والفرع ، وتعدّدت ، يقوى في النفس الاحتمال ، حتى يكون ظنّا
، ويقرب من اليقين. والقيافة من هذا الباب. ولكن كلّ ذلك لا يغني من الحقّ شيئا.
غير أنّه إذا
علمنا ـ بطريق من الطرق ـ أنّ جهة المشابهة علّة تامّة لثبوت الحكم في الأصل عند
الشارع ، ثمّ علمنا أيضا بأنّ هذه العلّة التامّة موجودة بخصوصيّاتها في الفرع ؛
فإنّه لا محالة يحصل لنا ـ على نحو اليقين ـ استنباط أنّ مثل هذا الحكم ثابت في
الفرع ، كثبوته في الأصل ؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة. ويكون من
القياس المنطقي
__________________
البرهاني الذي
يفيد اليقين.
ولكنّ الشأن كلّ
الشأن في حصول الطريق لنا إلى العلم بأنّ الجامع علّة تامّة للحكم الشرعيّ. وقد
سبق أنّ ملاكات الأحكام لا مسرح للعقول ، أو لا مجال للنظر العقليّ فيها ، فلا تعلم إلاّ من طريق السماع من مبلّغ
الأحكام الذي نصبه الله (تعالى) مبلّغا ، وهاديا.
والغرض من «كون
الملاكات لا مسرح للعقول فيها» أنّ أصل تعليل الحكم بالملاك لا يعرف إلاّ من طريق
السماع ؛ لأنّه أمر توقيفيّ.
أمّا : نفس وجود
الملاك في ذاته فقد يعرف من طريق الحسّ ، ونحوه ، لكن لا بما هو علّة وملاك ،
كالإسكار ؛ فإنّ كونه علّة للتحريم في الخمر لا يمكن معرفته من غير طريق التبليغ بالأدلّة
السمعيّة.
أمّا : وجود
الإسكار في الخمر ، وغيره من المسكرات ، فأمر يعرف بالوجدان ، ولكن لا ربط لذلك
بمعرفة كونه هو الملاك في التحريم ؛ فإنّه ليس هذا من الوجدانيّات.
وعلى كلّ حال ،
فإنّ السرّ في أنّ الأحكام وملاكاتها لا مسرح للعقول في معرفتها واضح ؛ لأنّها
أمور توقيفيّة من وضع الشارع ، كاللغات ، والعلامات ، والإشارات التي لا تعرف إلاّ
من قبل واضعيها ، ولا تدرك بالنظر العقليّ إلاّ من طريق الملازمات العقليّة
القطعيّة التي تكلّمنا عنها فيما تقدّم في بحث الملازمات العقليّة في المقصد
الثاني ، وفي دليل العقل من هذا الجزء ، والقياس لا يشكّل ملازمة عقليّة بين حكم المقيس عليه ، وحكم المقيس.
نعم ، إذا ورد نصّ
من قبل الشارع في بيان علّة الحكم في المقيس عليه ، فإنّه يصحّ الاكتفاء به في
تعدية الحكم إلى المقيس بشرطين : الأوّل : أن نعلم بأنّ العلّة المنصوصة
__________________
تامّة يدور معها
الحكم أينما دارت. والثاني : أن نعلم بوجودها في المقيس.
والخلاصة أنّ القياس في نفسه لا يفيد العلم بالحكم ؛ لأنّه لا
يتكفّل ثبوت الملازمة بين حكم المقيس عليه وحكم المقيس. ويستثنى منه منصوص العلّة
بالشرطين اللذين تقدّما. وفي الحقيقة أنّ منصوص العلّة ليس من نوع القياس ، كما
سيأتي بيانه . وكذلك قياس الأولويّة.
ولأجل أن يتّضح
الموضوع أكثر ، نقول : إنّ الاحتمالات الموجودة في كلّ قياس خمسة ، ومع هذه الاحتمالات لا تحصل الملازمة بين حكم الأصل وحكم الفرع ، ولا يمكن
رفع هذه الاحتمالات إلاّ بورود النصّ من الشارع ، والاحتمالات هي [كما تأتي] :
١. احتمال أن يكون
الحكم في الأصل معلّلا عند الله (تعالى) بعلّة أخرى غير ما ظنّه القائس ، بل يحتمل
على مذهب هؤلاء ألاّ يكون الحكم معلّلا عند الله (تعالى)
بشيء أصلا ؛ لأنّهم لا يرون الأحكام الشرعيّة معلّلة بالمصالح والمفاسد وهذا من
مفارقات آرائهم ، فإنّهم إذا كانوا لا يرون تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ،
فكيف يؤكّدون تعليل الحكم الشرعيّ في المقيس عليه بالعلّة التي يظنّونها؟! بل كيف
يحصل لهم الظنّ بالتعليل؟!
٢. احتمال أنّ
هناك وصفا آخر ينضمّ إلى ما ظنّه القائس علّة ، بأن يكون المجموع منهما هو العلّة
للحكم ، لو فرض أنّ القائس أصاب في أصل التعليل.
٣. احتمال أن يكون
القائس قد أضاف شيئا أجنبيّا إلى العلّة الحقيقيّة لم يكن له دخل في الحكم في
المقيس عليه.
٤. احتمال أن يكون
ما ظنّه القائس علّة ـ إن كان مصيبا في ظنّه ـ ليس هو الوصف المجرّد ، بل بما هو
مضاف إلى موضوعه ـ أعني «الأصل» ـ لخصوصيّة فيه.
مثال ذلك ، لو علم
بأنّ الجهل بالثمن علّة موجبة شرعا في فساد البيع ، وأراد أن يقيس على البيع عقد
النكاح إذا كان المهر فيه مجهولا ؛ فإنّه يحتمل أن يكون الجهل بالعوض ، الموجب
لفساد البيع هو الجهل بخصوص العوض في البيع ، لا مطلق الجهل بالعوض من
__________________
حيث هو جهل بالعوض
، ليسري الحكم إلى كلّ معاوضة ، حتى في مثل الصلح المعاوضي ، والنكاح باعتبار أنّه
يتضمّن معنى المعاوضة عن البضع.
٥. احتمال أن تكون
العلّة الحقيقيّة لحكم المقيس عليه غير موجودة ، أو غير متوفّرة بخصوصيّاتها في
المقيس.
وكلّ هذه
الاحتمالات لا بدّ من دفعها ، ليحصل لنا العلم بالنتيجة ، ولا يدفعها إلاّ الأدلّة
السمعيّة الواردة عن الشارع.
وقيل : «من الممكن تحصيل العلم بالعلّة بطريق برهان السبر
والتقسيم». وبرهان السبر والتقسيم عبارة عن عدّ جميع الاحتمالات
الممكنة ، ثمّ يقام الدليل على نفي واحد واحد ، حتى ينحصر الأمر في واحد منها ،
فيتعيّن ، فيقال مثلا : حرمة الربا في البرّ : إمّا أن تكون معلّلة بالطعم ، أو
بالقوت ، أو بالكيل. والكلّ باطل ما عدا الكيل. فيتعيّن التعليل به.
أقول : من شرط برهان السبر والتقسيم ليكون برهانا حقيقيّا ، أن
تحصر المحتملات حصرا عقليّا من طريق القسمة الثنائيّة التي تتردّد بين النفي
والإثبات.
وما يذكر ـ من
الاحتمالات في تعليل الحكم الشرعيّ ـ لا تعدو أن تكون احتمالات استطاع القائس أن
يحتملها ولم يحتمل غيرها ، لا أنّها مبنيّة على الحصر العقليّ المردّد بين النفي
والإثبات.
وإذا كان الأمر
كذلك فكلّ ما يفرضه من الاحتمالات يجوز أن يكون وراءها احتمالات لم يتصوّرها أصلا.
ومن الاحتمالات أن تكون العلّة اجتماع محتملين ، أو أكثر ممّا احتمله القائس. ومن
الاحتمالات أن يكون ملاك الحكم شيئا آخر ، خارجا عن أوصاف المقيس عليه لا يمكن أن
يهتدى إليه القائس ، مثل التعليل في قوله (تعالى) : (فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) ؛ فإنّ الظاهر من الآية أنّ العلّة في
__________________
تحريم الطيّبات
عصيانهم ، لا أوصاف تلك الأشياء.
بل من الاحتمالات
عند هذا القائس ـ الذي لا يرى تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ـ أنّ الحكم لا
ملاك ولا علّة له ، فكيف يمكن أن يدّعي حصر العلل فيما احتمله ، وقد لا تكون له
علّة؟!
وعلى كلّ حال ،
فلا يمكن أن يستنتج من مثل السبر والتقسيم هنا أكثر من الاحتمال. وإذا تنزّلنا
فأكثر ما يحصل منه الظنّ. فرجع الأمر بالأخير إلى الظنّ ، و (إِنَّ
الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).
وفي الحقيقة أنّ
القائلين بالقياس لا يدّعون إفادته العلم ، بل أقصى ما يتوقّعونه إفادته للظنّ ،
غير أنّهم يرون أنّ مثل هذا الظنّ حجّة. وفي البحث الآتي نبحث عن أدلّة حجّيته.
ب. الدليل على
حجّيّة القياس الظنّيّ
بعد أن ثبت أنّ
القياس في حدّ ذاته لا يفيد العلم ، بقي علينا أن نبحث عن الأدلّة على حجّيّة
الظنّ الحاصل منه ؛ ليكون من الظنون الخاصّة المستثناة من عموم الآيات الناهية عن
اتّباع الظنّ ، كما صنعنا في خبر الواحد ، والظواهر ، فنقول :
أمّا نحن ـ الإماميّة
ـ ففي غنى عن هذا البحث ؛ لأنّه ثبت لدينا على سبيل القطع من طريق آل البيت عليهمالسلام عدم اعتبار هذا الظنّ الحاصل من القياس ، فقد تواتر عنهم النهي عن الأخذ
بالقياس ، وأنّ دين الله لا يصاب بالعقول ، فلا الأحكام في أنفسها تصيبها العقول ،
ولا ملاكاتها وعللها.
على أنّه يكفينا في إبطال القياس أن نبطل ما تمسّكوا به لإثبات
حجّيّته من الأدلّة ، لنرجع إلى عمومات النهي عن اتّباع الظنّ وما وراء العلم.
أمّا : غيرنا ـ من
أهل السنّة الذين ذهبوا إلى حجّيّته ـ فقد تمسّكوا بالأدلّة الأربعة : الكتاب ،
والسنّة ، والإجماع ، والعقل. ولا بأس أن نشير إلى نماذج من استدلالاتهم ؛ لنرى
أنّ ما تمسّكوا به لا يصلح لإثبات مقصودهم ، فنقول :
__________________
الدليل من الآيات
القرآنيّة
منها : قوله (تعالى) : (فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ) ، بناء على تفسير الاعتبار بالعبور والمجاوزة ، والقياس
عبور ومجاوزة من الأصل إلى الفرع.
وفيه : أنّ الاعتبار هو الاتّعاظ لغة ، وهو الأنسب بمعنى الآية الواردة في الذين
كفروا من أهل الكتاب ، إذ قذف الله (تعالى) في قلوبهم الرعب ، يخربون بيوتهم
بأيديهم وأيدي المؤمنين. وأين هي من القياس الذي نحن فيه؟
وقال ابن حزم في
كتابه «إبطال القياس» : «ومن المحال أن يقول لنا : فاعتبروا يا أولي الأبصار ،
ويريد القياس ، ثمّ لا يبيّن لنا في القرآن ولا في الحديث : أيّ شيء نقيس؟ ولا متى
نقيس؟ ولا على أيّ شيء نقيس؟ ولو وجدنا ذلك لوجب أن نقيس ما أمرنا بقياسه حيث
أمرنا ، وحرم علينا أن نقيس ما لا نصّ فيه جملة ، ولا نتعدّى حدوده».
ومنها : قوله (تعالى) : (قالَ مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، باعتبار أنّ الآية تدلّ على مساواة النظير للنظير ، بل هي استدلال بالقياس
لإفحام من ينكر إحياء العظام وهي رميم. ولو لا أنّ القياس حجّة لما صحّ الاستدلال
فيها .
__________________
__________________
وفيه : أنّ الآية لا تدلّ على هذه المساواة بين النظيرين ،
كنظيرين في أيّة جهة كانت ، كما أنّها ليست استدلالا بالقياس ، وإنّما جاءت لرفع
استغراب المنكرين للبعث ؛ إذ يتخيّلون العجز عن إحياء الرميم ، فأرادت الآية أن تثبت
الملازمة بين القدرة على إنشاء العظام ، وإيجادها لأوّل مرّة ، بلا سابق وجود ،
وبين القدرة على إحيائها من جديد ، بل القدرة على الثاني أولى ، وإذا ثبتت
الملازمة والمفروض أنّ الملزوم ـ وهو القدرة على إنشائها أوّل مرّة ـ موجود مسلّم
، فلا بدّ أن يثبت اللازم ـ وهو القدرة على إحيائها ، وهي رميم ـ. وأين هذا من
القياس؟
ولو صحّ أن يراد
من الآية القياس فهو نوع من قياس الأولويّة المقطوعة ، وأين هذا من قياس المساواة
المطلوب إثبات حجّيّته ، وهو الذي يبتني على ظنّ المساواة في العلّة؟
وقد استدلّوا
بآيات أخر ، مثل قوله (تعالى) : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ، (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ) . والتشبّث بمثل هذه الآيات لا يعدو أن يكون من باب تشبّث
الغريق بالطحلب ، كما يقولون.
الدليل من السنّة
رووا عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أحاديث لتصحيح القياس ، لا تنهض حجّة لهم. ولا بأس أن نذكر بعضها كنموذج عنها
، فنقول :
__________________
منها : الحديث المأثور عن معاذ أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله بعثه قاضيا إلى اليمن ، وقال له فيما قال : «بما ذا تقضي إذا لم تجد في كتاب
الله ، ولا في سنّة رسول الله؟» قال معاذ : أجتهد رأيي ، ولا آلوا ، فقال صلىاللهعليهوآله : «الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله».
قالوا : قد أقرّ
النبيّ الاجتهاد بالرأي. واجتهاد الرأي لا بدّ من ردّه إلى أصل ، وإلاّ كان رأيا
مرسلا ، والرأي المرسل غير معتبر. فانحصر الأمر بالقياس.
والجواب : أنّ الحديث مرسل لا حجّية فيه ؛ لأنّ راويه هو الحارث بن
عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة ، رواه عن أناس من أهل حمص.
ثمّ الحارث هذا
نفسه مجهول لا يدري أحد من هو؟ ولا يعرف له غير هذا الحديث.
ثمّ إنّ الحديث
معارض بحديث آخر في نفس الواقعة ؛ إذ جاء فيه : «لا تقضينّ ، ولا تفضّلنّ إلاّ بما
تعلم. وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تتبيّنه ، أو تكتب إليّ». فأجدر بذلك الحديث أن
يكون موضوعا على الحارث ، أو منه.
مضافا إلى أنّه لا
حصر فيما ذكروا ، فقد يراد من الاجتهاد بالرأي استفراغ الوسع في الفحص عن الحكم ،
ولو بالرجوع إلى العمومات ، أو الأصول. ولعلّه يشير إلى ذلك قوله : «ولا آلو».
ومنها : حديث الخثعميّة التي سألت رسول الله صلىاللهعليهوآله عن قضاء الحجّ عن أبيها الذي فاتته فريضة الحجّ : أينفعه ذلك؟ فقال صلىاللهعليهوآله لها : «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟» قالت : نعم. قال :
«فدين الله أحقّ بالقضاء» .
قالوا : فألحق
الرسول دين الله بدين الآدميّ في وجوب القضاء ، وهو عين القياس.
والجواب : أنّه لا معنى للقول بأنّ الرسول صلىاللهعليهوآله أجرى القياس في حكمه بقضاء الحجّ ، وهو المشرّع المتلقّي الأحكام من الله (تعالى)
بالوحي ، فهل كان لا يعلم بحكم قضاء الحجّ ،
__________________
فاحتاج [إلى] أن
يستدلّ عليه بالقياس؟ ما لكم كيف تحكمون؟!
وإنّما المقصود من
الحديث ـ على تقدير صحّته ـ تنبيه الخثعميّة على تطبيق العامّ على ما سألت عنه ،
وهو ـ أعني العامّ ـ وجوب قضاء كلّ دين ؛ إذ خفي عليها أنّ الحجّ ممّا يعدّ من
الديون التي يجب قضاؤها عن الميّت ، وهو أولى بالقضاء ؛ لأنّه دين الله (تعالى).
ولا شكّ في أنّ
تطبيق العامّ على مصاديقه المعلومة لا يحتاج إلى تشريع جديد ، غير تشريع نفس
العامّ ؛ لأنّ الانطباق قهريّ. وليس هو من نوع القياس.
ولا ينقضي العجب
ممّن يذهب إلى عدم وجوب قضاء الحجّ ، ولا الصوم ، كالحنفيّة ، ويقول : «دين الناس أحقّ بالقضاء» ، ثمّ يستدلّ بهذا الحديث على حجّيّة القياس!
ومنها : حديث بيع الرطب بالتمر ، فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله سأل : «أينقص الرطب إذا يبس؟» فلمّا أجيب بـ «نعم» ، قال : «فلا ، إذن».
والجواب أنّ هذا الحديث ـ على تقدير صحّته ـ يشبه حديث الخثعميّة ؛
فإنّ المقصود منه التنبيه على تطبيق العامّ على أحد مصاديقه الخفيّة ، وليس هو من
القياس في شيء.
وكذلك يقال في
أكثر الأحاديث المرويّة في الباب.
على أنّها بجملتها معارضة بأحاديث أخر ، يفهم منها النهي عن
الأخذ بالرأي ، من دون الرجوع إلى الكتاب ، والسنّة.
الدليل من الإجماع
والإجماع هو أهمّ
دليل عندهم ، وعليه معوّلهم في هذه المسألة. والغرض منه إجماع الصحابة.
__________________
ويجب الاعتراف
بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي ، وأكثروا ـ بل حتى فيما خالف النصّ ـ تصرّفا
في الشريعة باجتهاداتهم. والإنصاف أنّ ذلك لا ينبغي أن ينكر من طريقتهم ، ولكن ـ كما
سبق أن أوضحناه ـ لم تكن الاجتهادات واضحة المعالم عندهم ، من كونها على نحو
القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ، ولم يعرف عنهم على أيّ أساس كانت
اجتهاداتهم ، أكانت تأويلا للنصوص ، أو جهلا بها ، أو استهانة بها؟ ربما كان بعض
هذا أو كلّه من بعضهم.
وفي الحقيقة إنّما
تطوّر البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه ، وخصائصه في القرن الثاني والثالث ـ كما
سبق بيانه ـ فميّزوا بين القياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة.
ومن الاجتهادات
قول عمر بن الخطّاب : «متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا محرّمهما ، ومعاقب
عليهما» . ومنها : جمعه الناس لصلاة التراويح. ومنها : إلغاؤه في الأذان «حيّ على خير العمل» .
فهل كان ذلك من
القياس أو من الاستحسان المحض؟
لا ينبغي أن يشكّ
أنّ مثل هذه الاجتهادات ليس من القياس في شيء. وكذلك كثير من الاجتهادات عندهم.
وعليه ، فابن حزم
على حقّ إذا كان يقصد إنكار أن يكون القياس سابقا معروفا بحدوده في اجتهادات
الصحابة ، حينما قال في كتابه «إبطال القياس» : «ثمّ حدث القياس في القرن الثاني ،
فقال به بعضهم ، وأنكره سائرهم وتبرّءوا منه». ، وقال في كتابه «الإحكام»
: «إنّه بدعة حدث في القرن الثاني ، ثمّ فشا ، وظهر في القرن الثالث». أمّا : إذا أراد إنكار أصل الاجتهادات بالرأي من بعض الصحابة ـ وهو لا يريد
ذلك قطعا ـ فهو إنكار لأمر ضروريّ
__________________
متواتر عنهم.
وقد ذكر الغزاليّ
في كتابه «المستصفى» كثيرا من مواضع اجتهادات الصحابة برأيهم ، ولكن لم يستطع
أن يثبت أنّها على نحو القياس ، إلاّ لأنّه لم ير وجها لتصحيحها إلاّ بالقياس ،
وتعليل النصّ. وليس هو منه إلاّ من باب حسن الظنّ ، لا أكثر. وأكثرها لا يصحّ
تطبيقها على القياس.
وعلى كلّ حال ،
فالشأن كلّ الشأن في تحقّق إجماع الأمّة ، والصحابة على الأخذ بالقياس ، ونحن
نمنعه أشدّ المنع.
أمّا
أوّلا : فلما قلناه
قريبا : إنّه لم يثبت أنّ اجتهاداتهم كانت من نوع القياس ، بل في بعضها ثبت عكس
ذلك ، كاجتهادات عمر بن الخطّاب المتقدّمة ، ومثلها اجتهاد عثمان في حرق المصاحف ،
ونحو ذلك.
وأمّا
ثانيا : فإنّ استعمال
بعضهم للرأي ـ سواء كان مبنيّا على القياس أو على غيره ـ لا يكشف عن موافقة الجميع
، كما قال ابن حزم ـ فأنصف ـ : «أين وجدتم هذا الإجماع؟ وقد علمتم أنّ الصحابة
ألوف لا تحفظ الفتيا عنهم في أشخاص المسائل إلاّ عن مائة ونيّف وثلاثين نفسا :
منهم : سبعة مكثرون ، وثلاثة عشر نفسا متوسّطون ، والباقون مقلّون جدّا ، تروى
عنهم المسألة والمسألتان ، حاشا المسائل التي تيقّن إجماعهم عليها ، كالصلوات ،
وصوم رمضان. ، فأين الإجماع على القول بالرأي؟».
والغرض الذي نرمي
إليه أنّه لا ينكر ثبوت الاجتهاد بالرأي عند جملة من الصحابة كأبي بكر ، وعمر ،
وعثمان ، وزيد بن ثابت ، بل ربما من غيرهم. وإنّما الذي ينكر أن يكون ذلك بمجرّده
محقّقا لإجماع الأمّة ، أو الصحابة. واتّفاق الثلاثة أو العشرة بل العشرين ليس
إجماعا مهما كانوا.
نعم ، أقصى ما
يقال في هذا الصدد : أنّ الباقين سكتوا ، وسكوتهم إقرار ، فيتحقّق الإجماع.
__________________
ولكن يجاب عن ذلك
بأنّ السكوت لا نسلّم أنّه يحقّق الإجماع ؛ لأنّه لا يدلّ على الإقرار إلاّ من
المعصوم بشروط الإقرار. والسرّ في ذلك أنّ السكوت في حدّ ذاته مجمل ، فيه عند غير
المعصوم أكثر من وجه واحد واحتمال ؛ إذ قد ينشأ من الخوف ، أو الجبن ، أو الخجل ،
أو المداهنة ، أو عدم العناية ببيان الحقّ ، أو الجهل بالحكم الشرعيّ ، أو وجهه ،
أو عدم وصول نبأ الفتيا إليهم ... إلى ما شاء الله من هذه الاحتمالات التي لا دافع
لها بالنسبة إلى غير المعصوم. وقد يجتمع في شخص واحد أكثر من سبب واحد للسكوت عن
الحقّ. ومن الاحتمالات أيضا أن يكون قد أنكر بعض الناس ، ولكن لم يصل نبأ الإنكار
إلينا. ودواعي إخفاء الإنكار وخفائه كثيرة لا تحدّ ولا تحصر.
وأمّا
ثالثا : فإنّ سكوت
الباقين غير مسلّم ، ويكفي لإبطال الإجماع إنكار شخص واحد ، له شأن في الفتيا ؛ إذ
لا يتحقّق معه اتّفاق الجميع ، فكيف إذا كان المنكرون أكثر من واحد ، وقد ثبت
تخطئة القول بالرأي عن ابن عبّاس ، وابن مسعود ، وأضرابهما ، بل روي ذلك حتى عن عمر بن الخطّاب : «إيّاكم وأصحاب
الرأي ، فإنّهم أعداء السّنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي ،
فضلّوا ، وأضلّوا» . وإن كنت أظنّ أنّ هذه الرواية موضوعة عليه ؛ لثبوت أنّه
في مقدّمة أصحاب أهل الرأي ، مع أنّ أسلوب بيان الرواية بعيد عن النسبة إليه ،
وإلى عصره.
وعلى كلّ حال ،
فلا شيء أبلغ في الإنكار من المجاهرة بالخلاف ، والفتوى بالضدّ ، وهذا قد كان من
جماعة ، كما قلنا ، بل زاد بعضهم ، كابن عبّاس ، وابن مسعود أن انتهى إلى ذكر
المباهلة ، والتخويف من الله (تعالى) ، وهل شيء أبلغ في الإنكار من هذا؟ فأين
الإجماع؟
__________________
ونحن يكفينا إنكار
عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، وهو المعصوم الذي يدور معه الحقّ كيفما دار ، كما في
الحديث النبويّ المعروف. وإنكاره معلوم من طريقته. وقد رووا عنه قوله عليهالسلام : «لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخفّ أولى من ظاهره» . وهو يريد بذلك إبطال القول بجواز المسح على الخفّ الذي لا مدرك له إلاّ
القياس ، أو الاستحسان.
الدليل من العقل
لم يذكر أكثر
الباحثين عن القياس دليلا عقليّا على حجيّته ، غير أنّ جملة منهم ذكر له وجوها أحسنها ـ فيما أحسب ـ ما سنذكره ، مع أنّه من أوهن الاستدلالات.
الدليل : أنّا نعلم قطعا بأنّ الحوادث لا نهاية لها. ونعلم قطعا
أنّه لم يرد النصّ في جميع الحوادث ؛ لتناهي النصوص ، ويستحيل أن يستوعب المتناهي
ما لا يتناهى ؛ إذن ، فيعلم أنّه لا بدّ من مرجع لاستنباط الأحكام ، لتلافي
النواقص من الحوادث ، وليس هو إلاّ القياس.
والجواب : صحيح أنّ الحوادث الجزئيّة غير متناهية ، ولكن لا يجب في
كلّ حادثة جزئيّة أن يرد نصّ من الشارع بخصوصها ، بل يكفي أن تدخل في أحد
العمومات. والأمور العامّة محدودة متناهية ، لا يمتنع ضبطها ، ولا يمتنع استيعاب
النصوص لها. على أنّ فيه مناقشات أخرى ، لا حاجة بذكرها.
٤. منصوص العلّة ،
وقياس الأولويّة
ذهب بعض علمائنا ـ
كالعلاّمة الحليّ قدسسره ـ إلى أنّه يستثنى من القياس الباطل ما كان
__________________
منصوص العلّة ،
وقياس الأولويّة ؛ فإنّ القياس فيهما حجّة. وبعض قال : «لا ، إنّ الدليل الدالّ
على حرمة الأخذ بالقياس شامل للقسمين ، وليس هناك ما يوجب استثناءهما».
والصحيح أن يقال :
إنّ منصوص العلّة وقياس الأولويّة هما حجّتان ، ولكن لا استثناء من القياس ؛
لأنّهما في الحقيقة ليسا من نوع القياس ، بل هما من نوع الظواهر ، فحجّيّتهما من
باب حجّيّة الظهور. وهذا ما يحتاج إلى البيان ، فنقول :
منصوص العلّة
أمّا منصوص العلّة
: فإن فهم من النصّ على العلّة أنّ العلّة عامّة على وجه لا اختصاص لها بالمعلّل ـ
الذي هو كالأصل في القياس ـ فلا شكّ في أنّ الحكم يكون عامّا شاملا للفرع ، مثل ما
لو قال : «حرم الخمر ؛ لأنّه مسكر» ، فيفهم منه حرمة النبيذ ؛ لأنّه مسكر أيضا. وأمّا
: إذا لم يفهم منه ذلك فلا وجه لتعدية الحكم إلى الفرع إلاّ بنوع من القياس الباطل
، مثل ما لو قيل : «هذا العنب حلو ؛ لأنّ لونه أسود» ؛ فإنّه لا يفهم منه أنّ كلّ
ما لونه أسود حلو ، بل العنب الأسود خاصّة حلو.
وفي الحقيقة أنّه
بظهور النصّ في كون العلّة عامّة ينقلب موضوع الحكم من كونه خاصّا بالمعلّل إلى
كون موضوعه كلّ ما فيه العلّة ، فيكون الموضوع عامّا يشمل المعلّل (الأصل) وغيره ،
ويكون المعلّل من قبيل المثال للقاعدة العامّة ، لا أنّ موضوع الحكم هو خصوص
المعلّل (الأصل) ونستنبط منه الحكم في الفرع من جهة العلّة المشتركة ، حتى يكون
المدرك مجرّد الحمل والقياس ، كما في الصورة الثانية ، أي التي لم يفهم فيها عموم
العلّة.
ولأجل هذا نقول :
إنّ الأخذ بالحكم في الفرع في الصورة الأولى يكون من باب الأخذ
__________________
بظاهر العموم ،
وليس هو من القياس في شيء ، ليكون القول بحجّيّة التعليل استثناء من عمومات النهي
عن القياس. مثال ذلك قوله عليهالسلام ـ في صحيحة ابن بزيع ـ : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ...
؛ لأنّ له مادّة» ، فإنّ المفهوم منه ـ أي الظاهر منه ـ أنّ كلّ ماء له مادّة
واسع لا يفسده شيء ، وأمّا : ماء البئر فإنّما هو أحد مصاديق الموضوع العامّ
للقاعدة ، فيشمل الموضوع بعمومه كلاّ من ماء البئر ، وماء الحمّام ، وماء العيون ،
وماء حنفيّة الإسالة ... وغيرها ، فالأخذ بهذا الحكم وتطبيقه على هذه الأمور
غير ماء البئر ليس أخذا بالقياس ، بل هو أخذ بظهور العموم ، والظهور حجّة.
هذا ، وفي عين
الوقت لمّا كنّا لا نستظهر من هذه الرواية شمول العلّة (لأنّ له مادّة) لكلّ ما له
مادّة وإن لم يكن ماء مطلقا ، فإنّ الحكم ـ وهو الاعتصام من التنجّس ـ لا نعدّيه
إلى الماء المضاف الذي له مادّة إلاّ بالقياس ، وهو ليس بحجّة.
ومن هنا يتّضح
الفرق بين الأخذ بالعموم في منصوص العلّة ، والأخذ بالقياس ، فلا بدّ من التفرقة
بينهما في كلّ علّة منصوصة ، لئلاّ يقع الخلط بينهما. ومن أجل هذا الخلط بينهما
يكثر العثار في تعرّف الموضوع للحكم.
وبهذا البيان
والتفريق بين الصورتين يمكن التوفيق بين المتنازعين في حجّيّة منصوص العلّة ، فمن
يراه حجّة يراه فيما إذا كان له ظهور في عموم العلّة ، ومن لا يرى حجّيّته يراه
فيما إذا كان الأخذ به أخذا به على نهج القياس.
والخلاصة أنّ المدار في منصوص العلّة أن يكون له ظهور في عموم
الموضوع لغير ما له الحكم ـ أي المعلّل الأصل ـ ؛ فإنّه عموم من جملة الظواهر التي
هي حجّة. ولا بدّ حينئذ أن تكون حجّيّته على مقدار ما له من الظهور في العموم ،
فإذا أردنا تعديته إلى غير ما يشمله ظهور العموم ، فإنّ التعدية لا محالة تكون من
نوع الحمل والقياس الذي لا دليل
__________________
عليه ، بل قام
الدليل على بطلانه.
قياس الأولويّة
أمّا قياس
الأولويّة : فهو نفسه الذي يسمّى «مفهوم الموافقة» الذي تقدّمت الإشارة إليه ، وقلنا هناك : إنّه يسمّى «فحوى الخطاب» ، كمثال الآية الكريمة (فَلا
تَقُلْ لَهُما أُفٍ) الدالّة بالأولويّة على النهي عن الشتم ، والضرب ،
ونحوهما.
وتقدّم في هذا
الجزء أنّ هذا من الظواهر ، فهو حجّة من أجل كونه ظاهرا من اللفظ
، لا من أجل كونه قياسا ، حتى يكون استثناء من عموم النهي عن القياس ، وإن أشبه
القياس ، ولذلك سمّي بـ «قياس الأولويّة» ، و «القياس الجليّ».
ومن هنا لا يفرض
مفهوم الموافقة إلاّ حيث يكون للّفظ ظهور بتعدّي الحكم إلى ما هو أولى في علّة
الحكم ، كآية التأفيف المتقدّمة.
ومنه : دلالة
الإذن بسكنى الدار على جواز التصرّف بمرافقها بطريق أولى ، ويقال لمثل هذا في عرف
الفقهاء : «إذن الفحوى».
ومنه : الآية
الكريمة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
يَرَهُ) الدالّة بالأولويّة على ثبوت الجزاء على عمل الخير الكثير.
وبالجملة ، إنّما
نأخذ بقياس الأولويّة إذا كان يفهم ذلك من فحوى الخطاب ؛ إذ يكون للكلام ظهور
بالفحوى في ثبوت الحكم فيما هو أولى في علّة الحكم ، فيكون حجّة من باب الظواهر.
ومن أجل هذا عدّوه من المفاهيم ، وسمّوه «مفهوم الموافقة».
__________________
أمّا : إذا لم يكن
ذلك مفهوما من فحوى الخطاب ، فلا يسمّى ذلك مفهوما بالاصطلاح ، ولا يكفي مجرّد
الأولويّة وحدها في تعدية الحكم ؛ إذ يكون من القياس الباطل.
ويشهد لذلك ما ورد
من النهي عن مثله في صحيحة أبان بن تغلب عن أبي عبد الله الصادق عليهالسلام ، قال أبان :
قلت له : ما تقول
في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة؟ كم فيها؟ قال : «عشر من الإبل». قلت : قطع
اثنتين ؟ قال : «عشرون». قلت : قطع ثلاثا؟ قال : «ثلاثون». قلت :
قطع أربعا؟ قال : «عشرون».
قلت : سبحان الله!
يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون!؟ إنّ هذا كان
يبلغنا ونحن بالعراق ، فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : الذي جاء به شيطان.
فقال : «مهلا يا
أبان! هذا حكم رسول الله صلىاللهعليهوآله : إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث
الدية ، فإذا بلغت الثلث ، رجعت إلى النصف. يا أبان! إنّك أخذتني بالقياس ،
والسنّة إذا قيست محق الدين».
فهنا في هذا
المثال لم يكن في المسألة خطاب يفهم منه في الفحوى من جهة الأولويّة تعدية الحكم
إلى غير ما تضمّنه الخطاب ، حتى يكون من باب مفهوم الموافقة. وإنّما الذي وقع من
أبان قياس مجرّد لم يكن مستنده فيه إلاّ جهة الأولويّة ؛ إذ تصوّر ـ بمقتضى
القاعدة العقليّة الحسابيّة ـ أنّ الدية تتضاعف بالنسبة بتضاعف قطع الأصابع ، فإذا
كان في قطع الثلاث ثلاثون من الإبل فلا بدّ أن يكون في قطع الأربع أربعون ؛ لأنّ
قطع الأربع قطع للثلاثة وزيادة. ولكن أبان كان لا يدري أنّ المرأة ديتها نصف دية
الرجل شرعا فيما يبلغ ثلث الدية فما زاد ، وهي مائة من الإبل.
والخلاصة : أنّا نقول ببطلان قياس الأولويّة إذا كان الأخذ به
لمجرّد الأولويّة ، أمّا إذا كان مفهوما من التخاطب بالفحوى من جهة الأولويّة فهو
حجّة من باب الظواهر ، فلا يكون
__________________
قياسا مستثنى من
القياس الباطل.
تنبيه الاستحسان ،
والمصالح المرسلة ، وسدّ الذرائع
بقي من الأدلّة
المعتبرة عند جملة من علماء السنّة «الاستحسان» ، و «المصالح المرسلة» ، و «سدّ الذرائع».
وهي ـ إن لم ترجع
إلى ظواهر الأدلّة السمعيّة ، أو الملازمات العقليّة ـ لا دليل على حجّيّتها ، بل
هي أظهر أفراد الظنّ المنهيّ عنه. وهي دون القياس من ناحية الاعتبار.
__________________
ولو أردنا إخراجها
من عمومات حرمة العمل بالظنّ لا يبقى عندنا ما يصلح لانطباق هذه العمومات عليه ممّا
يستحقّ الذكر ، فيبقى النهي عن الظنّ بلا موضوع ، ومن البديهيّ عدم جواز تخصيص
الأكثر ؛ على أنّه قد أوضحنا ـ فيما سبق في الدليل العقليّ ـ أنّ الأحكام وملاكاتها لا يستقلّ العقل بإدراكها ابتداء ، ـ أي ليس من
الممكن للعقول أن تنالها ابتداء من دون السماع من مبلّغ الأحكام ، إلاّ بالملازمة
العقليّة ـ. وشأنها في ذلك شأن جميع المجعولات ، كاللغات ، والإشارات ، والعلامات
، ونحوها ؛ فإنّه لا معنى للقول بأنّها تعلم من طريق عقليّ مجرّد ، سواء كان من
طريق بديهيّ ، أم نظريّ.
ولو صحّ للعقل هذا
الأمر لما كان هناك حاجة لبعثة الرسل ، ونصب الأئمّة ؛ إذ يكون ـ حينئذ ـ كلّ ذي
عقل متمكّنا بنفسه من معرفة أحكام الله (تعالى) ، ويصبح كلّ مجتهد نبيّا ، أو
إماما. ومن هنا تعرف السرّ في إصرار أصحاب الرأي على قولهم بأنّ كلّ مجتهد مصيب ،
وقد اعترف الإمام الغزاليّ بأنّه لا يمكن إثبات حجّيّة القياس إلاّ بتصويب كلّ
مجتهد ، وزاد على ذلك قوله بـ «أنّ المجتهد وإن خالف النصّ فهو مصيب ، وأنّ الخطأ
غير ممكن في حقّه».
ومن أجل ما ذكرناه
من عدم إمكان إثبات حجّيّة مثل هذه الأدلّة رأينا الاكتفاء بذلك عن شرح هذه
الأدلّة ، ومرادهم منها ، ومناقشة أدلّتهم. ونحيل الطلاّب على محاضرات «مدخل الفقه
المقارن» التي ألقاها أستاذ المادّة في كلّيّة الفقه ، الأخ السيد
محمّد تقيّ الحكيم ؛ فإنّ فيها الكفاية.
__________________
تمرينات
(٢٠)
التمرين الأوّل :
١. اذكر الأقوال
في اعتبار القياس. واذكر تطوّره التأريخيّ؟
٢. ما هو تعريف
القياس؟
٣. ما هي أركان
القياس؟
٤. هل القياس يوجب
العلم؟
٥. ما الجواب عن
الاستدلال ببرهان السبر والتقسيم على أنّ القياس يوجب العلم بالحكم؟
٦. بيّن تقريب
الاستدلال بقوله (تعالى) : (فاعتبروا يا أولى الأبصار) على حجّيّة القياس الظنّي.
واذكر ما يرد عليه.
٧. بيّن تقريب
الاستدلال بقوله (تعالى) : (قال من يحيى العظام ...) على اعتبار الظنّ الحاصل من
القياس. واذكر ما فيه.
٨. ما الجواب عن
الاستدلال بالحديث المأثور عن معاذ على حجّيّة القياس؟
٩. هل حديث
الخثعميّة يدّل على حجّيّة القياس؟
١٠. ما الجواب عن
الاستدلال بحديث بيع الرطب بالتمر على حجّيّة القياس؟
١١. ما الجواب عن
استدلال القائلين بحجّيّة القياس بالإجماع؟
١٢. اذكر الدليل
العقلي الذي قد يقام على اعتبار القياس. واذكر الجواب عنه.
١٣. ما هو تعريف
منصوص العلّة؟ وهل هو حجّة من باب القياس؟
١٤. ما هو تعريف
قياس الأولويّة؟ وهل هو حجّة من باب القياس؟
١٥. هل يدلّ دليل
على حجّيّة الاستحسان ، وسدّ الذرائع ، والمصالح المرسلة؟
التمرين الثاني :
١. ما هو تعريف
القياس عند ابن الحاجب ، وابن الهمام؟
٢. اذكر تعريفين
آخرين للقياس ، غير ما ذكر في المتن.
٣. بيّن تقريب
الاستدلال بقوله (تعالى) : (فجزاء مثل ما قتل من النعم) على حجّيّة القياس ، واذكر
الجواب عنه.
٤. بيّن تقريب
الاستدلال بقوله (تعالى) : (يأمر بالعدل والاحسان) على حجّيّة القياس. واذكر
الجواب عنه.
٥. اذكر آيتين ـ غير
ما في المتن ـ من الآيات التي يستدلّ بها على حجيّة القياس. واذكر الجواب عنهما.
٦. هل تصحّ نسبة
القول باستثناء منصوص العلّة ، وقياس الأولويّة من القياس الباطل إلى العلاّمة
الحلّي؟
٧. ما معنى
الاستحسان؟ ومن يذهب إلى اعتباره؟
٨. ما هو تعريف
سدّ الذرائع؟ وما القائل بحجّيّته؟
٩. ما هو تعريف
المصالح المرسلة؟ ومن يذهب إلى اعتبارها؟
الباب التاسع
التعادل
والتراجيح
تمهيد
عنون الأصوليّون
من القديم هذه المسألة بعنوانها المذكور.
ومرادهم من كلمة «التعادل»
تكافؤ الدليلين المتعارضين في كلّ شيء يقتضي ترجيح أحدهما على الآخر.
ومرادهم من كلمة «التراجيح»
: جمع «ترجيح» على خلاف القياس في جمع المصدر ؛ إذ جمعه ترجيحات. والمقصود منه
المصدر بمعنى الفاعل ، أي المرجّح.
وإنّما جاءوا به
على صيغة الجمع ، دون «التعادل» ؛ لأنّ المرجّحات بين الدليلين المتعارضين متعدّدة ،
والتعادل لا يكون إلاّ في فرض واحد ، وهو فرض فقدان كلّ المرجّحات.
__________________
والغرض من هذا
البحث بيان أحكام التعادل بين الدليلين المتعارضين ، وبيان أحكام المرجّحات لأحدهما
على الآخر.
ومن هنا نعرف أنّ
الأنسب أن تعنون المسألة بعنوان «التعارض بين الأدلّة» ؛ لأنّ التعادل والترجيح بين الأدلّة إنّما يفرض في مورد التعارض بينهما ،
غير أنّه لمّا كان همّ الأصوليّين في البحث وغايتهم منه معرفة كيفيّة العمل
بالأدلّة المتعارضة عند تعادلها ، وترجيحها ، عنونوها بما ذكرناه.
وهذه المسألة ـ كما
ذكرناه سابقا ـ أليق شيء بها مباحث الحجّة ؛ لأنّ نتيجتها تحصيل الحجّة
على الحكم الشرعيّ عند التعارض بين الأدلّة.
وقبل الشروع في
بيان أحكام التعارض ينبغي في المقدّمة بيان أمور يحتاج إليها ، مثل حقيقة التعارض
، وشروطه ، وقياسه بالتزاحم ؛ والحكومة والورود ، ومثل القواعد العامّة في الباب ،
فنقول :
[المقدّمة]
١. حقيقة التعارض
التعارض : مصدر من
باب «التفاعل» الذي يقتضي فاعلين ، ولا يقع إلاّ من جانبين ، فيقال : تعارض
الدليلان. ولا تقول : «تعارض الدليل» وتسكت . وعليه ، فلا بدّ
من فرض
__________________
دليلين ، كلّ
منهما يعارض الآخر.
ومعنى المعارضة
أنّ كلاّ منهما ـ إذا تمّت مقوّمات حجّيّته ـ يبطل الآخر ، ويكذّبه. والتكاذب ،
إمّا أن يكون في جميع مدلولاتهما ، ونواحي الدلالة فيهما ، وإمّا في بعض النواحي
على وجه لا يصحّ فرض بقاء حجّيّة كلّ منهما مع فرض بقاء حجّيّة الآخر ، ولا يصحّ
العمل بهما معا.
فمرجع التعارض في
الحقيقة إلى التكاذب بين الدليلين في ناحية ما ، أي إنّ كلاّ منهما يكذّب الآخر ،
ولا يجتمعان على الصدق.
هذا هو المعنى
الاصطلاحي للتعارض. وهو مأخوذ من «عارضه» ، أي جانبه وعدل عنه.
٢. شروط التعارض
ولا يتحقّق هذا
المعنى من التعارض إلاّ بشروط سبعة هي مقوّمات التعارض ، نذكرها لتتّضح حقيقة
التعارض ، ومواقعه :
١. ألاّ يكون أحد
الدليلين ، أو كلّ منهما قطعيّا ؛ لأنّه لو كان أحدهما قطعيّا فإنّه يعلم منه كذب
الآخر ، والمعلوم كذبه لا يعارض غيره. وأمّا : القطع بالمتنافيين ففي نفسه أمر
مستحيل لا يقع.
٢. ألاّ يكون
الظنّ الفعليّ معتبرا في حجّيّتهما معا ؛ لاستحالة حصول الظنّ الفعليّ بالمتكاذبين
، كاستحالة القطع بهما. نعم ، يجوز أن يعتبر في أحدهما المعيّن الظنّ الفعليّ ،
دون الآخر.
__________________
٣. أن يتنافى
مدلولاهما ـ ولو عرضا وفي بعض النواحي ـ ليحصل التكاذب بينهما ، سواء كان التنافي
في مدلولهما المطابقيّ ، أو التضمّنيّ ، أو الالتزاميّ.
والجامع في ذلك أن
يؤدّيا إلى ما لا يمكن تشريعه ، ويمتنع جعله في نفس الأمر ، ولو كان هذا الامتناع
لأمر خارج عن نفس مدلولهما ، كما في تعارض دليل وجوب صلاة الجمعة مع دليل وجوب
صلاة الظهر يوم الجمعة ؛ فإنّ الدليلين في نفسهما لا تكاذب بينهما ؛ إذ لا يمتنع
اجتماع وجوب صلاتين في وقت واحد ، ولكن لمّا علم من دليل خارج أنّه لا تجب إلاّ
صلاة واحدة في الوقت الواحد فإنّهما يتكاذبان حينئذ بضميمة هذا الدليل الثالث
الخارج عنهما.
وعلى هذا ، فيمكن
تحديد الضابط للتعارض بأن يقال : «الضابط في التعارض : امتناع اجتماع مدلوليهما في
الوعاء المناسب لهما ، إمّا من ناحية تكوينيّة ، أو من ناحية تشريعيّة».
أو يقال بعبارة
جامعة : «الضابط في التعارض ، تكاذب الدليلين على وجه يمتنع اجتماع صدق أحدهما مع
صدق الآخر».
ومن هنا يعلم أنّ
التعارض ليس وصفا للمدلولين ـ كما قيل ـ ، بل المدلولان
يوصفان بأنّهما متنافيان ، لا متعارضان. وإنّما التعارض وصف للدليلين بما هما
دليلان على أمرين متنافيين لا يجتمعان ؛ لأنّ امتناع صدق الدليلين معا ، وتكاذبهما
إنّما ينشأ من تنافي المدلولين ؛ ولأجل هذا قال صاحب الكفاية : «التعارض هو تنافي
الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة ومقام الإثبات». فحصر التعارض في مقام الإثبات ، ومرحلة الدلالة.
٤. أن يكون كلّ من
الدليلين واجدا لشرائط الحجّيّة ، بمعنى أنّ كلاّ منهما ـ لو خلّي ونفسه ، ولم
يحصل ما يعارضه ـ لكان حجّة يجب العمل بموجبه ، وإن كان أحدهما ـ لا على التعيين ـ
بمجرّد التعارض يسقط عن الحجّيّة بالفعل.
والسرّ في ذلك
واضح ؛ فإنّه لو كان أحدهما غير واجد لشرائط الحجّيّة في نفسه
__________________
لا يصلح أن يكون
مكذّبا لما هو حجّة ، وإن كان منافيا له في مدلوله فلا يكون معارضا له ، لما قلنا
من أنّ التعارض وصف للدالّين بما هما دالاّن في مقام الإثبات ، وإذ لا إثبات فيما
هو غير حجّة فلا يكذّب ما فيه الإثبات ؛ إذن ، لا تعارض بين الحجّة واللاحجّة ،
كما لا تعارض بين اللاحجّتين.
ومن هنا يتّضح
أنّه لو كان هناك خبر ـ مثلا ـ غير واجد لشرائط الحجّيّة ، واشتبه بما هو واجد لها
، فإنّ الخبرين لا يدخلان في باب التعارض ، فلا تجري عليهما أحكامه وقواعده ، وإن
كان من جهة العلم بكذب أحدهما حالهما حال المتعارضين. نعم ، في مثل هذين الخبرين
تجري قواعد العلم الإجماليّ.
٥. ألاّ يكون
الدليلان متزاحمين ؛ فإنّ للتعارض قواعد غير قواعد التزاحم على ما يأتي ، وإن كان المتعارضان يشتركان مع المتزاحمين في جهة واحدة ، وهي امتناع اجتماع
الحكمين في التحقّق في موردهما ، ولكنّ الفرق في جهة الامتناع ، فإنّه في التعارض
من جهة التشريع ، فيتكاذب الدليلان ، وفي التزاحم من جهة الامتثال ، فلا يتكاذبان.
ولا بدّ من إفراد بحث مستقلّ في بيان الفرق ، كما سيأتي.
٦. ألاّ يكون أحد
الدليلين حاكما على الآخر.
٧. ألاّ يكون
أحدهما واردا على الآخر.
وسيأتي أنّ
الحكومة والورود يرفعان التعارض والتكاذب بين الدليلين. ولا بدّ من إفراد بحث عنهما أيضا ، فإنّه أمر أساسيّ في تحقيق التعارض وفهمه.
٣. الفرق بين
التعارض والتزاحم
تقدّم بيان الحقّ الذي ينبغي أن يعوّل عليه في سرّ التفرقة بين بابي التعارض والتزاحم
، ثمّ بينهما ، وبين باب اجتماع الأمر والنهي.
__________________
وخلاصته أنّ
التعارض ـ في خصوص مورد العامّين من وجه ـ إنّما يحصل حيث تكون لكلّ منهما دلالة
التزاميّة على نفي حكم الآخر في مورد الاجتماع بينهما ، فيتكاذبان من هذه الجهة.
وأمّا : إذا لم يكن للعامّين من وجه مثل هذه الدلالة الالتزاميّة فلا تعارض بينهما
، إذ لا تكاذب بينهما في مقام الجعل والتشريع.
وحينئذ ـ أي حينما
يفقدان تلك الدلالة الالتزاميّة ـ لو امتنع على المكلّف أن يجمع بينهما في
الامتثال لأيّ سبب من الأسباب ، فإنّ الأمر في مقام الامتثال يدور بينهما ، بأن
يمتثل إمّا هذا أو ذاك. وهنا يقع التزاحم بين الحكمين ، وطبعا إنّما يفرض ذلك فيما
إذا كان الحكمان إلزاميّين.
ومن أجل هذا قلنا
ـ في الشرط الخامس من شروط التعارض ـ : «إنّ امتناع اجتماع الحكمين في التحقّق إذا
كان في مقام التشريع دخل الدليلان في باب التعارض ؛ لأنّهما حينئذ يتكاذبان. أمّا
إذا كان الامتناع في مقام الامتثال دخلا في باب التزاحم ؛ إذ لا تكاذب حينئذ بين
الدليلين».
وهذا هو الفرق الحقيقيّ
بين باب التعارض وباب التزاحم في أيّ مورد يفرض ؛ وينبغي ألاّ يغيب عن بال الطالب
أنّه حينما ذكرنا العامّين من وجه فقط في مقام التفرقة بين البابين ـ كما تقدّم في
الجزء الثاني ـ لم نذكره لأجل اختصاص البابين بالعامّين من وجه ، بل
لأنّ العامّين من وجه موضع شبهة عدم التفرقة بين البابين ثمّ بينهما وبين باب
اجتماع الأمر والنهي. وقد سبق تفصيل ذلك هناك ، فراجع.
وعليه ، فالضابط
في التفرقة بين البابين ـ كما أشرنا إليه أكثر من مرّة ـ هو أنّ الدليلين يكونان
متعارضين إذا تكاذبا في مقام التشريع ، ويكونان متزاحمين إذا امتنع الجمع بينهما
في مقام الامتثال مع عدم التكاذب في مقام التشريع.
وفي تعارض الأدلّة
قواعد للترجيح ستأتي ، وقد عقد هذا الباب لأجلها ، وينحصر الترجيح فيها بقوّة
السند أو الدلالة.
وأمّا : التزاحم
فله قواعد أخرى تتّصل بالحكم نفسه ، ولا ترتبط بالسند أو الدلالة.
__________________
ولا ينبغي أن يخلو
كتابنا من الإشارة إليها. وهذه خير مناسبة لذكرها ، فنقول :
٤. تعادل وتراجيح
المتزاحمين
لا شكّ في أنّه
إذا تعادل المتزاحمان في جميع جهات الترجيح الآتية فإنّ الحكم فيهما هو التخيير.
وهذا أمر محلّ اتّفاق وإن وقع الخلاف في تعادل المتعارضين أنّه يقتضي التساقط ، أو
التخيير على ما سيأتي.
وفي الحقيقة أنّ
هذا التخيير إنّما يحكم به العقل ، والمراد به العقل العمليّ.
بيان ذلك أنّه بعد
فرض عدم إمكان الجمع في الامتثال بين الحكمين المتزاحمين ، وعدم جواز تركهما معا ،
ولا مرجّح لأحدهما على الآخر ، حسب الفرض ، ويستحيل الترجيح بلا مرجّح ، فلا مناص
من أن يترك الأمر إلى اختيار المكلّف نفسه ؛ إذ يستحيل بقاء التكليف الفعليّ في
كلّ منهما ، ولا موجب لسقوط التكليف فيهما معا. وهذا الحكم العقليّ ممّا تطابقت
عليه آراء العقلاء.
ومن هذا الحكم
العقليّ يستكشف حكم الشرع على طبق هذا الحكم العقليّ ، كسائر الأحكام العقليّة
القطعيّة ؛ لأنّ هذا من باب المستقلاّت العقليّة التي تبتني على الملازمات
العقليّة المحضة.
مثاله ، إذا دار
الأمر بين إنقاذ غريقين متساويين من جميع الجهات ، لا ترجيح لأحدهما على الآخر
شرعا من جهة وجوب الإنقاذ ، فإنّه لا مناص للمكلّف من أن يفعل أحدهما ويترك الآخر ، فهو على التخيير عقلا بينهما ، المستكشف منه رضى الشارع بذلك
وموافقته على التخيير.
إذا عرفت ذلك ،
فيكون من المهمّ جدّا أن نعرف ما هي المرجّحات في باب التزاحم؟ ومن الواضح أنّه لا
بدّ أن تنتهي كلّها إلى أهمّيّة أحد الحكمين عند الشارع ، فالأهمّ عنده هو الأرجح
في التقديم. ولمّا كانت الأهميّة تختلف جهتها ومنشؤها فلا بدّ من بيان تلك
__________________
الجهات ، وهي
تستكشف بأمور نذكرها على الاختصار :
١. أن يكون أحد
الواجبين لا بدل له ، مع كون الواجب الآخر المزاحم له ذا بدل ، سواء كان البدل
اختياريّا ، كخصال الكفّارة ، أو اضطراريّا ، كالتيمّم بالنسبة إلى الوضوء ،
وكالجلوس بالنسبة إلى القيام في الصلاة.
ولا شكّ في أنّ ما
لا بدل له أهمّ ممّا له البدل قطعا عند المزاحمة ، وإن كان البدل اضطراريّا ؛ لأنّ
الشارع قد رخّص في ترك ذي البدل إلى بدله الاضطراريّ عند الضرورة ، ولم يرخّص في
ترك ما لا بدل له ، ولا شكّ في أنّ تقديم ما لا بدل له جمع بين التكليفين في
الامتثال ، دون صورة تقديم ذي البدل ، فإنّ فيه تفويتا للأوّل بلا تدارك.
٢. أن يكون أحد
الواجبين مضيّقا ، أو فوريّا ، مع كون الواجب الآخر المزاحم له موسّعا ؛ فإنّ
المضيّق ، أو الفوريّ أهمّ من الموسّع قطعا ، كدوران الأمر بين إزالة النجاسة عن
المسجد وإقامة الصّلاة في سعة وقتها.
وهذا الثاني ينسق
على الأوّل ؛ لأنّ الموسّع له بدل طوليّ اختياريّ ، دون المضيّق والفوريّ ، فتقديم
المضيّق أو الفوريّ جمع بين التكليفين في الامتثال ، دون تقديم الموسّع ، فإنّ فيه
تفويتا للتكليف بالمضيّق أو الفوريّ بلا تدارك.
ومثله ما لو دار
الأمر بين المضيّق والفوريّ ، كدوران الأمر بين الصلاة في آخر وقتها وإزالة
النجاسة عن المسجد ، فإنّ الصلاة مقدّمة ؛ إذ لا تدارك لها.
٣. أن يكون أحد
الواجبين صاحب الوقت المختصّ دون الآخر ؛ وكان كلّ منهما مضيّقا ، كما لو دار
الأمر بين أداء الصلاة اليوميّة في آخر وقتها وبين صلاة الآيات في ضيق وقتها ؛
لأنّ الوقت لمّا كان مختصّا باليوميّة فهي أولى به عند مزاحمتها بما لا اختصاص له
في أصل تشريعه بالوقت المعيّن ، وإنّما اتّفق حصول سببه في ذلك الوقت ، وتضيّق وقت
أدائه. ومسألة تقديم اليوميّة على صلاة الآيات إذا تضيّق وقتهما معا أمر إجماعيّ
متّفق عليه ، ولا منشأ له إلاّ أهمّيّة ذات الوقت المختصّ ، المفهومة من بعض
الروايات.
__________________
٤. أن يكون أحد
الواجبين وجوبه مشروطا بالقدرة الشرعيّة دون الآخر. والمراد من القدرة الشرعيّة هي
القدرة المأخوذة في لسان الدليل شرطا للوجوب ، كالحجّ المشروط وجوبه بالاستطاعة ،
ونحوه.
ومع فرض المزاحمة
بينه وبين واجب آخر وجوبه غير مشروط بالقدرة ، لا يحصل العلم بتحقّق ما هو شرط في
الوجوب ؛ لاحتمال أنّ مزاحمته للواجب الآخر تكون سالبة للقدرة المعتبرة في الوجوب
، ومع عدم اليقين بحصول شروط الوجوب لا يحصل اليقين بأصل التكليف ، فلا يزاحم ما
كان وجوبه منجّزا معلوما.
ولو قال قائل :
إنّ كلّ واجب مشروط وجوبه بالقدرة عقلا ؛ إذن فالواجب الآخر أيضا مشروط بالقدرة ؛
فأيّ فرق بينهما؟
فالجواب : نحن نسلّم باشتراط كلّ واجب بالقدرة عقلا ، لكنّه لمّا
لم تؤخذ القدرة في الواجب الآخر في لسان الدليل ، فهو من ناحية الدلالة اللفظيّة
مطلق ، وإنّما العقل هو الذي يحكم بلزوم القدرة. ويكفي في حصول شرط القدرة
العقليّة نفس تمكّن المكلّف من فعله ، ولو مع فرض المزاحمة ؛ إذ لا شكّ في أنّ
المكلّف في فرض المزاحمة قادر ومتمكّن من فعل هذا الواجب المفروض ، وذلك بترك
الواجب المزاحم له المشروط بالقدرة الشرعيّة.
والخلاصة أنّ الواجب الآخر وجوبه منجّز فعليّ ؛ لحصول شرطه ، وهو
القدرة العقليّة ، بخلاف مزاحمه المشروط ؛ لما ذكرنا من احتمال أنّ ما أخذ في
الدليل قدرة خاصّة لا تشمل هذه القدرة الحاصلة عند المزاحمة ، فلا يحرز تنجّزه ،
ولا تعلم فعليّته.
وعليه ، فيرتفع
التزاحم بين الوجوبين من رأس ، ويخلو الجوّ للواجب المطلق وإن كان مشروطا بالقدرة
العقليّة.
٥. أن يكون أحد
الواجبين مقدّما بحسب زمان امتثاله على الآخر ، كما لو دار الأمر بين القيام
للركعة المتقدّمة ، وبين القيام لركعة بعدها ، في فرض كون المكلّف عاجزا عن القيام
للركعتين معا ؛ متمكّنا من إحداهما فقط ، فإنّه ـ في هذا الفرض ـ يكون المتقدّم
مستقرّ الوجوب في محلّه ؛ لحصول القدرة الفعليّة بالنسبة إليه. فإذا فعله انتفت
القدرة الفعليّة بالنسبة إلى المتأخّر ، فلا يبقى له مجال.
ولا فرق في هذا
الفرض بين ما إذا كانا معا مشروطين بالقدرة الشرعيّة ، أو مطلقين معا ، أمّا : لو
اختلفا فإنّ المطلق مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة ، وإن كان زمان فعله
متأخّرا.
٦. أن يكون أحد
الواجبين أولى عند الشارع في التقديم من غير تلك الجهات المتقدّمة.
والأولويّة تعرف
إمّا من الأدلّة ، وإمّا من مناسبة الحكم للموضوع ، وإمّا من معرفة ملاكات الأحكام
بتوسّط الأدلّة السمعيّة. ومن أجل ذلك ، فإنّ الأولويّة تختلف باختلاف ما يستفاد
من هذه الأمور ، ولا ضابط عامّ يمكن الرجوع إليه عند الشكّ ، فمن تلك الأولويّة ما
إذا كان في الحكم الحفاظ على بيضة الإسلام ؛ فإنّه أولى بالتقديم من كلّ شيء في
مقام المزاحمة.
ومنها : ما كان يتعلّق بحقوق الناس ؛ فإنّه أولى من غيره من
التكاليف الشرعيّة المحضة ، أي التي لا علاقة لها بحقوق غير المكلّف بها.
ومنها : ما كان من قبيل الدماء والفروج ؛ فإنّه يحافظ عليه أكثر
من غيره ؛ لما هو المعروف عند الشارع المقدّس من الأمر بالاحتياط الشديد في أمرها.
فلو دار الأمر بين حفظ نفس المؤمن وحفظ ماله فإنّ حفظ نفسه مقدّم على حفظ ماله
قطعا.
ومنها : ما كان ركنا في العبادة ، فإنّه مقدّم على ما ليس له هذه
الصفة عند المزاحمة ، كما لو وقع التزاحم في الصلاة بين أداء القراءة و [أداء]
الركوع ، فإنّ الركوع مقدّم على القراءة ، وإن كان زمان امتثاله متأخّرا عن
القراءة.
وعلى مثل هذه فقس
، وأمثالها كثيرة لا تحصى ، كما لو دار الأمر بين الصلح بين المؤمنين بالكذب وبين
الصدق وفيه الفتنة بينهم ، فإنّ الصلح مقدّم على الصدق. وهذا معروف من ضرورة الشرع
الإسلاميّ.
وممّا ينبغي أن
يعلم في هذا الصدد أنّه لو احتمل أهميّة أحد المتزاحمين فإنّ الاحتياط يقتضي تقديم
محتمل الأهمّيّة ، وهذا الحكم العقليّ بالاحتياط يجري في كلّ مورد يدور فيه الأمر
بين التعيين والتخيير في الواجبات. وعليه ، فلا يجب إحراز أهمّيّة أحد المتزاحمين
، بل يكفي الاحتمال. وهذا أصل ينفع كثيرا في الفروع الفقهيّة ، فاحتفظ به.
٥. الحكومة
والورود
وهذا البحث من
مبتكرات الشيخ الأنصاريّ رحمهالله ، وقد فتح به بابا جديدا في الأسلوب الاستدلاليّ ، ولئن
نشأ هذا الاصطلاح في عصره من قبل غيره ـ كما يبدو من التعبير بالحكومة والورود في «جواهر
الكلام» ـ ؛ فإنّه لم يكن بهذا التحديد والسعة اللذين انتهى إليهما
الشيخ قدسسره.
وكان رحمهالله ـ على ما ينقل عنه ـ يصرّح بأنّ أساطين الفقه المتقدّمين لم يغفلوا عن مغزى
ما كان يرمي إليه ، وإن لم يبحثوه بصريح القول ، ولا بهذا المصطلح.
واللّفتة الكريمة
منه كانت في ملاحظته لنوع من الأدلّة ؛ إذ وجد أنّ من حقّها أن تقدّم على أدلّة
أخرى في حين أنّها ليست بالنسبة إليها من قبيل الخاصّ والعامّ ، بل قد يكون بينهما
العموم من وجه ، ولا يوجب هذا التقديم سقوط الأدلّة الأخرى عن الحجّيّة ، ولا تجري
بينهما قواعد التعارض ؛ لأنّه لم يكن بينهما تكاذب بحسب لسانهما من ناحية أدائيّة
، ولا منافاة ، يعني أنّ لسان أحدهما لا يكذّب الآخر ، ولا يبطله ، بل أحدهما
المعيّن من حقّه ـ بحسب لسانه وأدائه لمعناه ، وعنوانه ـ أن يكون مقدّما على الآخر
، تقديما لا يستلزم بطلان الآخر ، ولا تكذيبه ، ولا صرفه عن ظهوره.
وهذا هو العجيب في
الأمر ، والجديد على الباحثين ، وذلك مثل تقديم أدلّة الأمارة على أدلّة الأصول
العمليّة بلا إسقاط لحجّيّة الثانية ، ولا صرف لظهورها.
والمعروف أنّ أحد
اللامعين من تلامذته التقى به في درس الشيخ صاحب الجواهر قدسسره قبل أن يتعرّف
عليه ، وقبل أن يعرف الشيخ قدسسره بين الناس ، وسأله سؤال امتهان ، واختبار عن سرّ تقديم دليل على آخر جاء ذكرهما في الدرس المذكور ، فقال له
: «إنّه حاكم عليه». قال : «وما الحكومة؟». فقال له : «يحتاج إلى أن تحضر درسي
ستّة أشهر على الأقلّ لتفهم
__________________
معنى الحكومة».
ومن هنا ابتدأت علاقة التلميذ بأستاذه.
إنّ موضوعا يحتاج
إلى درس ستّة أشهر ـ وإن كان فيه نوع من المبالغة ـ كم يحتاج إلى البسط في البيان
في التأليف ، بينما أنّ الشيخ قدسسره في كتبه لم يوفّه حقّه من البيان ، إلاّ بعض الشيء في
التعادل والتراجيح ، وبعض اللقطات المتفرّقة في
غضون كتبه. ولذا بقي الموضوع متأرجحا في كتب الأصوليّين من بعده ، وإن كان مقصودهم ومقصوده أصبح واضحا عند أهل
العلم في العصور المتأخّرة.
ولا يسع هذا
المختصر شرح هذا الأمر ، شرحا كافيا ، وإنّما نكتفي بالإشارة إلى خلاصة ما توصّلنا
إليه من فهم معنى الحكومة وفهم معنى أخيها «الورود» قدر الإمكان ، فنقول :
أ. الحكومة
إنّ الذي نفهمه من
مقصودهم في الحكومة هو : أن يقدّم أحد الدليلين على الآخر تقديم سيطرة وقهر من
ناحية أدائيّة ، ولذا سمّيت بـ «الحكومة». فيكون تقديم الدليل الحاكم على المحكوم
ليس من ناحية السند ، ولا من ناحية الحجّيّة ، بل هما على ما هما عليه من الحجّية بعد التقديم ـ أي إنّهما بحسب لسانهما وأدائهما
لا يتكاذبان في مدلولهما ، فلا يتعارضان ـ. وإنّما التقديم ـ كما قلنا ـ من ناحية
أدائيّة بحسب لسانهما ، ولكن لا من جهة التخصيص ولا من جهة الورود الآتي معناه.
فأيّ تقديم للدليل
على الآخر بهذه القيود فهو يسمّى «حكومة».
وهذا في الحقيقة
هو الضابط لها ، فلذلك وجب توضيح الفرق بينها وبين التخصيص من
__________________
جهة ، ثمّ بينها
وبين الورود من جهة أخرى ، ليتّضح معناه بعض الوضوح.
أمّا : الفرق
بينها وبين التخصيص ، فنقول : إنّ التخصيص ليكون تخصيصا لا بدّ أن يفرض فيه الدليل
الخاصّ منافيا في مدلوله للعامّ. ولأجل هذا يكونان متعارضين متكاذبين بحسب لسانهما
بالنسبة إلى موضوع الخاصّ ، غير أنّه لمّا كان الخاصّ أظهر من العامّ فيجب أن
يقدّم عليه ؛ لبناء العقلاء على العمل بالخاصّ ، فيستكشف منه أنّ المتكلّم الحكيم
لم يرد العموم من العامّ وإن كان ظاهر اللفظ العموم والشمول ؛ لحكم العقل بقبح ذلك
من الحكيم ، مع فرض العمل بالخاصّ عند أهل المحاورة من العقلاء.
وعليه ، فالتخصيص
عبارة عن الحكم بسلب حكم العامّ عن الخاصّ وإخراج الخاصّ عن عموم العامّ ، مع فرض
بقاء عموم لفظ العامّ شاملا للخاصّ بحسب لسانه وظهوره الذاتيّ.
أمّا : الحكومة ـ في
بعض مواردها ـ فهي كالتخصيص في النتيجة ، من جهة خروج مدلول أحد الدليلين عن عموم
مدلول الآخر ، ولكنّ الفرق في كيفيّة الإخراج ، فإنّه في التخصيص إخراج حقيقيّ ،
مع بقاء الظهور الذاتيّ للعموم في شموله ، وفي الحكومة إخراج تنزيليّ على وجه لا
يبقى ظهور ذاتيّ للعموم في الشمول ، بمعنى أنّ الدليل الحاكم يكون لسانه تحديد
موضوع الدليل المحكوم ، أو محموله ؛ تنزيلا وادّعاء ، فلذلك يكون الحاكم متصرّفا
في عقد الوضع أو عقد الحمل في الدليل المحكوم.
ونستعين على بيان
الفرق بالمثال ، فنقول : لو قال الآمر ـ عقيب أمره بإكرام العلماء ـ : «لا تكرم
الفاسق» ، فإنّ القول الثاني يكون مخصّصا للأوّل ؛ لأنّه ليس مفاده إلاّ عدم وجوب
إكرام الفاسق ، مع بقاء صفة العالم له. أمّا : لو قال ـ عقيب أمره ـ : «الفاسق ليس
بعالم» فإنّه يكون حاكما على الأوّل ؛ لأنّ مفاده إخراج الفاسق عن صفة العالم
تنزيلا ، بتنزيل الفاسق منزلة الجهل ، أو علم الفاسق بمنزلة عدم العلم. وهذا تصرّف
في عقد الوضع ، فلا يبقى عموم لفظ «العلماء» شاملا للفاسق بحسب هذا الادّعاء
والتنزيل. وبالطبع لا يعطى له حينئذ حكم العلماء من وجوب الإكرام ، ونحوه.
ومثاله في
الشرعيّات قوله عليهالسلام : «لا شكّ لكثير الشكّ» ، ونحوه ، مثل نفي شكّ المأموم
مع حفظ الإمام ،
وبالعكس ؛ فإنّ هذا ونحوه يكون حاكما على أدلّة حكم الشكّ ؛ لأنّ لسانه إخراج شكّ
كثير الشكّ وشكّ المأموم أو الإمام عن حضيرة صفة الشكّ تنزيلا ، فمن حقّه حينئذ
ألاّ يعطى له أحكام الشكّ من نحو إبطال الصلاة ، أو البناء على الأكثر ، أو الأقلّ
، أو غير ذلك.
وإنّما قلنا : «الحكومة
في بعض مواردها كالتخصيص» ؛ فلأنّ بعض موارد الحكومة الأخرى عكس التخصيص ؛ لأنّ
الحكومة على قسمين : قسم يكون التصرّف فيها بتضييق الموضوع ، كالأمثلة المتقدّمة ،
وقسم بتوسعته ، مثل ما لو قال ـ عقيب الأمر بإكرام العلماء ـ : «المتّقي عالم» ؛
فإنّ هذا يكون حاكما على الأوّل ، وليس فيه إخراج ، بل هو تصرّف في الموضوع بتوسعة
معنى العالم ادّعاء إلى ما يشمل المتّقي ؛ تنزيلا للتقوى منزلة العلم ، فيعطى
للمتّقي حكم العلماء من وجوب الإكرام ، ونحوه.
ومثاله في الشرعيّات
«الطواف صلاة» ؛ فإنّ هذا التنزيل يعطي للطواف الأحكام المناسبة التي تخصّ الصلاة
من نحو أحكام الشكوك ، ومثله «لحمة الرضاع كلحمة النسب» الموسّع لموضوع أحكام
النسب.
ب. الورود
وأمّا : الفرق بين
الحكومة وبين الورود ، فنقول :
كما قلنا : إنّ
الحكومة كالتخصيص في النتيجة ، كذلك الورود كالتخصّص في النتيجة ؛ لأنّ كلاّ من
الورود والتخصّص خروج الشيء بالدليل عن موضوع دليل آخر ، خروجا حقيقيّا. ولكنّ
الفرق أنّ الخروج في التخصّص خروج بالتكوين بلا عناية التعبّد من الشارع ، كخروج
الجاهل عن موضوع دليل «أكرم العلماء» ، فيقال : «إنّ الجاهل خارج عن عموم العلماء
تخصّصا» ؛ وأمّا : في الورود فإنّ الخروج من الموضوع بنفس التعبّد من الشارع بلا
خروج تكوينيّ ، فيكون الدليل الدالّ على التعبّد واردا على الدليل المثبت لحكم
موضوعه.
مثاله دليل
الأمارة الوارد على أدلّة الأصول العقليّة ، كالبراءة ، وقاعدة الاحتياط ، وقاعدة
التخيير ؛ فإنّ البراءة العقليّة لمّا كان موضوعها عدم البيان الذي يحكم فيه العقل
بقبح العقاب
معه فالدليل
الدالّ على حجّيّة الأمارة يعتبر الأمارة بيانا تعبّدا ، وبهذا التعبّد يرتفع
موضوع البراءة العقليّة ، وهو عدم البيان. وهكذا الحال في قاعدتي الاحتياط
والتخيير ، فإنّ موضوع الأولى عدم المؤمّن من العقاب ، والأمارة بمقتضى دليل
حجّيّتها مؤمّنة منه ، وموضوع الثانيّة الحيرة في الدوران بين المحذورين ،
والأمارة بمقتضى دليل حجّيّتها مرجّحة لأحد الطرفين ، فترتفع الحيرة.
وبهذا البيان
لمعنى الورود يتّضح الفرق بينه وبين الحكومة ، فإنّ ورود أحد الدليلين باعتبار كون
أحدهما رافعا لموضوع الآخر حقيقة ، لكن بعناية التعبّد ، فيكون الأوّل واردا على الثاني ، أمّا : الحكومة فإنّها لا توجب خروج مدلول
الحاكم عن موضوع مدلول المحكوم وجدانا ، وعلى وجه الحقيقة ، بل الخروج فيها إنّما
يكون حكميّا ، وتنزيليّا ، وبعناية ثبوت المتعبّد به اعتبارا.
٦. القاعدة في
المتعارضين (التساقط أو التخيير)
أشرنا فيما تقدّم إلى أنّ القاعدة في التعادل بين المتزاحمين هو التخيير بحكم العقل ، وذلك
محلّ وفاق. أمّا : في تعادل المتعارضين فقد وقع الخلاف في أنّ القاعدة هي التساقط
أو التخيير؟
__________________
والحقّ
أنّ القاعدة الأوّليّة
هي التساقط ، وعليه أساتذتنا المحقّقون ، وإن دلّ الدليل
من الأخبار على التخيير ـ كما سيأتي ـ . ونحن نتكلّم في
القاعدة بناء على المختار من أنّ الأمارات مجعولة على نحو الطريقيّة. ولا حاجة
للبحث عنها بناء على السببيّة. فنقول :
إنّ الدليل الذي
يوهم لزوم التخيير هو أنّ التعارض لا يقع بين الدليلين ، إلاّ إذا كان كلّ منهما
واجدا لشرائط الحجّيّة ، ـ كما تقدّم في شروط التعارض ـ ، والتعارض أكثر ما يوجب سقوط أحدهما غير المعيّن عن
الحجّيّة الفعليّة ؛ لمكان التكاذب بينهما ، فيبقى الثاني غير المعيّن على ما هو
عليه من الحجّيّة الفعليّة واقعا ، ولمّا لم يمكن تعيينه ـ والمفروض أنّ الحجّة
الفعليّة منجّزة للتكليف يجب العمل بها ـ فلا بدّ من التخيير بينهما.
والجواب : أنّ التخيير المقصود إمّا أن يراد به التخيير من جهة
الحجّيّة ، أو من جهة الواقع : فإن كان الأوّل فلا معنى لوجوب التخيير بين
المتعارضين ؛ لأنّ دليل الحجّيّة الشامل لكلّ منهما في حدّ نفسه إنّما مفاده
حجّيّة أفراده على نحو التعيين ، لا حجّيّة هذا أو ذاك من أفراده لا على التعيين ،
حتى يصحّ أن يفرض أنّ أحدهما غير المعيّن حجّة يجب الأخذ به فعلا ، فيجب التخيير
في تطبيق دليل الحجّيّة على ما يشاء منهما.
وبعبارة أخرى :
إنّ دليل الحجّيّة الشامل لكلّ منهما في حدّ نفسه إنّما يدلّ على وجود المقتضي
للحجّيّة في كلّ منهما لو لا المانع ، لا فعليّة الحجّيّة. ولمّا كان التعارض
يقتضي تكاذبهما ، فلا محالة يسقط أحدهما غير المعيّن عن الفعليّة ، أي يكون كلّ
منهما مانعا عن فعليّة حجّيّة الآخر. وإذا كان الأمر كذلك فكلّ منهما لم تتم فيه
مقوّمات الحجّيّة الفعليّة ليكون منجّزا للواقع يجب العمل به ، فلا يكون أحدهما
غير المعيّن يجب الأخذ به فعلا ،
__________________
حتى يجب التخيير ،
بل حينئذ يتساقطان ، أي إنّ كلاّ منهما يكون ساقطا عن الحجّيّة الفعليّة وخارجا عن
دليل الحجّيّة.
وإن كان الثاني ،
فنقول :
أوّلا : لا يصحّ أن يفرض التخيير من جهة الواقع إلاّ إذا علم
بإصابة أحدهما للواقع ، ولكن ليس ذلك أمرا لازما في الحجّتين المتعارضتين ؛ إذ
يجوز فيهما أن تكونا معا كاذبتين. وإنّما اللازم فيهما من جهة التعارض هو العلم
بكذب إحداهما ، لا العلم بمطابقة إحداهما للواقع. وعلى هذا ، فليس الواقع محرزا في
إحداهما ، حتى يجب التخيير بينهما من أجله.
وثانيا : على تقدير حصول العلم بإصابة أحدهما غير المعيّن للواقع ، فإنّه أيضا لا وجه للتخيير بينهما ؛ إذ لا وجه للتخيير
بين الواقع وغيره ، وهذا واضح.
وغاية ما يقال ،
أنّه إذا حصل العلم بمطابقة أحدهما للواقع فإنّ الحكم الواقعيّ يتنجّز بالعلم
الإجماليّ ، وحينئذ يجب إجراء قواعد العلم الإجماليّ فيه. ولكن لا يرتبط حينئذ
بمسألتنا ـ وهي مسألة أنّ القاعدة في المتعارضين هو التساقط أو التخيير؟ ـ ؛ لأنّ
قواعد العلم الإجماليّ تجري حينئذ حتى مع العلم بعدم حجّيّة الدليلين معا. وقد
يقتضي العلم الإجماليّ في بعض الموارد التخيير ، وقد يقتضي الاحتياط في البعض
الآخر على اختلاف الموارد.
إذا عرفت ذلك ،
فيتحصّل أنّ القاعدة الأوّليّة بين المتعارضين هو التساقط ، مع عدم حصول مزيّة في
أحدهما تقتضي الترجيح.
أمّا : لو كان
الدليلان المتعارضان يقتضيان معا نفي حكم ثالث فهل مقتضى تساقطهما عدم حجّيّتهما في
نفى الثالث؟
الحقّ أنّه لا يقتضي ذلك ؛ لأنّ المعارضة
بينهما أقصى ما تقضي سقوط حجّيّتهما في
__________________
دلالتهما فيما هما
متعارضان فيه ، فيبقيان في دلالتهما الأخرى على ما هما عليه من الحجّيّة ؛ إذ لا
مانع من شمول أدلّة الحجّيّة لهما معا في ذلك. وقد سبق أن قلنا
: إنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في أصل الوجود ، لا في
الحجّيّة ، فلا مانع من أن يكون الدليل حجّة في دلالته الالتزاميّة ،
مع وجود المانع عن حجّيّته في الدلالة المطابقيّة. هذا فيما إذا كانت إحدى
الدلالتين تابعة للأخرى في الوجود فكيف الحال في الدلالتين اللتين لا تبعيّة
بينهما في الوجود ، فإنّ الحكم فيه بعدم سقوط حجّيّة إحداهما بسقوط الأخرى أولى.
٧. الجمع بين المتعارضين
أولى من الطرح
اشتهر بينهم أنّ
الجمع بين المتعارضين مهما أمكن أولى من الطرح ، وقد نقل عن «عوالي اللآلئ» دعوى الإجماع على
هذه القاعدة.
وظاهر أنّ المراد
من الجمع الذي هو أولى من الطرح هو الجمع في الدلالة ؛ فإنّه إذا كان الجمع بينهما
في الدلالة ممكنا تلاءما ، فيرتفع التعارض بينهما ، فلا يتكاذبان.
وتشمل القاعدة
بحسب ذلك صورة تعادل المتعارضين في السند ، وصورة ما إذا كانت لأحدهما مزيّة تقتضي
ترجيحه في السند ؛ لأنّه في الصورة الثانية بتقديم ذي المزيّة يلزم
__________________
طرح الآخر ، مع
فرض إمكان الجمع.
وعليه ، فمقتضى
القاعدة مع إمكان الجمع عدم جواز طرحهما معا على القول بالتساقط ، وعدم طرح أحدهما
غير المعيّن على القول بالتخيير ، وعدم طرح أحدهما المعيّن غير ذي المزيّة مع
الترجيح.
ومن أجل هذا تكون
لهذه القاعدة أهميّة كبيرة في العمل بالمتعارضين ، فيجب البحث عنها من ناحية
مدركها ، ومن ناحية عمومها لكلّ جمع ، حتى الجمع التبرّعيّ.
١. أمّا من
الناحية الأولى : فمن الظاهر أنّه لا مدرك لها إلاّ حكم العقل
بأولويّة الجمع ؛ لأنّ التعارض لا يقع إلاّ مع فرض تماميّة مقوّمات الحجّيّة في
كلّ منهما من ناحية السند والدلالة ـ كما تقدّم في الشرط الرابع من شروط التعارض ـ
. ومع فرض وجود مقوّمات الحجّيّة ـ أي وجود المقتضي
للحجّيّة ـ فإنّه لا وجه لرفع اليد عن ذلك إلاّ مع وجود مانع من تأثير المقتضي ،
وما المانع في فرض التعارض إلاّ تكاذبهما. ومع فرض إمكان الجمع في الدلالة بينهما
لا يحرز تكاذبهما ، فلا يحرز المانع عن تأثير مقتضي الحجّيّة فيهما ، فكيف يصحّ أن
نحكم بتساقطهما ، أو سقوط أحدهما؟!
٢. وأمّا من
الناحية الثانية : فإنّا نقول : إنّ المراد من الجمع التبرّعيّ ما يرجع إلى
التأويل الكيفيّ الذي لا يساعد عليه عرف أهل المحاورة ، ولا شاهد عليه من دليل
ثالث.
وقد يظنّ الظانّ
أنّ إمكان الجمع التبرّعيّ يحقّق هذه القاعدة ـ وهي أولويّة الجمع من الطرح ـ بمقتضى
التقرير المتقدّم في مدركها ؛ إذ لا يحرز المانع ـ وهو تكاذب المتعارضين ـ حينئذ ،
فيكون الجمع أولى.
ولكن يجاب عن ذلك
أنّه لو كان مضمون هذه القاعدة المجمع عليها ما يشمل الجمع التبرّعيّ ، فلا يبقى
هناك دليلان متعارضان ، وللزم طرح كلّ ما ورد في باب التعارض من الأخبار العلاجيّة
إلاّ فيما هو نادر ندرة لا يصحّ حمل الأخبار عليها ، وهو صورة كون كلّ من
المتعارضين نصّا في دلالته لا يمكن تأويله بوجه من الوجوه. بل ربما يقال : لا وجود
__________________
لهذه الصورة في
المتعارضين.
وببيان آخر
برهانيّ ، نقول : إنّ المتعارضين لا يخلوان عن حالات أربع : إمّا أن يكونا مقطوعي
الدلالة ، مظنوني السند ، أو بالعكس ـ أي يكونان مظنوني الدلالة ، مقطوعي السند ـ ،
أو يكون أحدهما مقطوع الدلالة ، مظنون السند ، والآخر بالعكس ، أو يكونا مظنوني
الدلالة والسند معا.
أمّا : فرض أحدهما
أو كلّ منهما مقطوع الدلالة والسند معا فإنّ ذلك يخرجهما عن كونهما متعارضين ، بل
الفرض الثاني مستحيل ـ كما تقدّم ـ .
وعليه ،
فللمتعارضين أربع حالات ممكنة ، لا غيرها ؛ فإن كانت الأولى ، فلا مجال فيها للجمع في الدلالة مطلقا ؛ للقطع بدلالة كلّ منهما ، فهو خارج
عن مورد القاعدة رأسا ـ كما أشرنا إليه ـ ، بل هما في هذه الحالة إمّا أن يرجع
فيهما إلى الترجيحات السنديّة ، أو يتساقطا حيث لا مرجّح ، أو يتخيّر بينهما.
وإن كانت الثانية
، فإنّه مع القطع بسندهما ، كالمتواترين ، أو الآيتين
القرآنيتين لا يعقل طرحهما ، أو طرح أحدهما من ناحية السند ، فلم يبق إلاّ التصرّف
فيهما من ناحية الدلالة.
ولا يعقل جريان
أصالة الظهور فيهما معا ؛ لتكاذبهما في الظهور. وحينئذ ، فإن كان هناك جمع عرفيّ
بينهما ـ بأن يكون أحدهما المعيّن قرينة على الآخر ، أو كلّ منهما قرينة على التصرّف
في الآخر على نحو ما يأتي من بيان وجوه الجمع الدلالي ، فإنّ هذا الجمع في الحقيقة
يكون هو الظاهر منهما ـ فيدخلان بحسبه في باب الظواهر ، ويتعيّن الأخذ بهذا
الظهور.
وإن لم يكن هناك
جمع عرفيّ ـ فإنّ الجمع التبرّعيّ لا يجعل لهما ظهورا فيه ليدخل في باب الظواهر
ويكون موضعا لبناء العقلاء. ولا دليل في المقام غير بناء العقلاء على الأخذ
بالظواهر ـ فما الذي يصحّح الأخذ بهذا التأويل التبرّعيّ ، ويكون دليلا على
حجّيّته؟
__________________
وغاية ما يقتضي
تعارضهما عدم إرادة ظهور كلّ منهما ، ولا يقتضي أن يكون المراد غير ظاهرهما من
الجمع التبرّعيّ ، فإنّ هذا يحتاج إلى دليل يعيّنه ، ويدلّ على حجّيّتهما فيه ؛
ولا دليل حسب الفرض.
وإن كانت الثالثة ، فإنّه يدور الأمر فيها بين التصرّف في سند مظنون السند ، وبين التصرّف في
ظهور مظنون الدلالة أو طرحهما معا ، فإن كان مقطوع الدلالة صالحا للتصرّف بحسب عرف
أهل المحاورة في ظهور الآخر ، تعيّن ذلك ؛ إذ يكون قرينة على المراد من الآخر ،
فيدخل بحسبه في الظواهر التي هي حجّة.
وأمّا : إذا لم
يكن لمقطوع الدلالة هذه الصلاحية ، فإنّ تأويل الظاهر تبرّعا لا يدخل في الظاهر
حينئذ ليكون حجّة ببناء العقلاء ، ولا دليل آخر عليه ـ كما تقدّم في الصورة
الثانية ـ ، ويتعيّن في هذا الفرض طرح هذين الدليلين : طرح مقطوع الدلالة من ناحية
السند ، وطرح مقطوع السند من ناحية الدلالة ، فلا يكون الجمع أولى ؛ إذ ليس إجراء
دليل أصالة السند بأولى من دليل أصالة الظهور ، وكذلك العكس. ولا معنى في هذه
الحالة للرجوع إلى المرجّحات في السند مع القطع بسند أحدهما ، كما هو واضح.
وإن كانت الرابعة
، فإنّ الأمر يدور فيها بين التصرّف في أصالة السند في
أحدهما ، والتصرّف في أصالة الظهور في الآخر ، لا أنّ الأمر يدور بين السندين ،
ولا بين الظهورين.
والسرّ في هذا
الدوران أنّ دليل حجّيّة السند يشملهما معا على حدّ سواء ، بلا ترجيح لأحدهما على
الآخر ، حسب الفرض ، وكذلك دليل حجّيّة الظهور. ولمّا كان يمتنع اجتماع ظهورهما ؛ لفرض تعارضهما ، فإذا أردنا أن نأخذ
بسندهما معا لا بدّ أن نحكم بكذب ظهور أحدهما ، فيصادم حجّيّة سند أحدهما حجّيّة
ظهور الآخر ، وكذلك إذا أردنا أن نأخذ بظهورهما معا لا بدّ أن نحكم بكذب سند
أحدهما ، فيصادم حجّيّة ظهور أحدهما
__________________
حجّيّة سند الآخر.
فيرجع الأمر في هذه الحالة إلى الدوران بين حجّيّة سند أحدهما وحجّيّة ظهور الآخر.
وإذا كان الأمر
كذلك ، فليس أحدهما أولى من الآخر ، كما تقدّم.
نعم ، لو كان هناك
جمع عرفيّ بين ظهوريهما فإنّه حينئذ لا تجري أصالة الظهور فيهما على حدّ سواء ، بل
المتّبع في بناء العقلاء ما يقتضيه الجمع العرفيّ الذي يقتضي الملاءمة بينهما ،
فلا يصلح كلّ منهما لمعارضة الآخر.
ومن هنا نقول :
إنّ الجمع العرفيّ أولى من الطرح ؛ بل بالجمع العرفيّ يخرجان عن كونهما متعارضين ـ
كما سيأتي ـ ؛ فلا مقتضي لطرح أحدهما أو طرحهما معا.
أمّا : إذا لم يكن
بينهما جمع عرفيّ ـ فإنّ الجمع التبرّعيّ لا يصلح للملاءمة بين ظهوريهما ـ فتبقى
أصالة الظهور حجّة في كلّ منهما ، فيبقيان على ما هما عليه من التعارض ، فإمّا أن
يقدّم أحدهما على الآخر لمزيّة ، أو يتخيّر بينهما ، أو يتساقطا.
فتحصّل من ذلك
كلّه أنّه لا مجال للقول بأولويّة الجمع التبرّعيّ من الطرح في كلّ صورة مفروضة
للمتعارضين.
تمرينات
(٦٢)
١. ما مراد
الأصوليّين من «التعادل» و «التراجيح» في عنوان المسألة؟
٢. ما الوجه في
أخذ كلمة «التراجيح» على صيغة الجمع دون كلمة «التعادل»؟
٣. ما الغرض من
مبحث التعادل والتراجيح؟
٤. قال المصنّف قدسسره : «الأنسب أن
تعنون المسألة بعنوان التعارض بين الأدلّة» ، ما الوجه في كونه أنسب؟
٥. ما هي حقيقة
التعارض في اصطلاح الأصوليّين؟
٦. ما هي شروط
التعارض؟
٧. ما الفرق بين
باب التعارض وباب التزاحم؟
٨. ما هي قواعد
التزاحم التي تتّصل بالحكم نفسه؟
٩. ما هي
المرجّحات في باب التزاحم؟
١٠. إنّ من جملة
المرجّحات في باب التزاحم أولويّة أحدهما عند الشارع في التقديم ، كيف تعرف تلك
الأولويّة؟
١١. ما هي الحكومة؟
اذكر مثالا لها من العرف ، ومثالا من الشرع.
١٢. ما هو الورود؟
اذكر مثالا له من العرف ، ومثالا من الشرع.
١٣. من هو مبتكر
مبحث الحكومة والورود؟
١٤. ما الفرق بين
الحكومة والتخصيص؟
١٥. ما الفرق بين
الورود والتخصّص؟
١٦. ما هي القاعدة
في المتعارضين؟
١٧. ما الدليل
الذي يوهم لزوم التخيير؟ وما الجواب عنه؟
١٨. لو كان
الدليلان المتعارضان يقتضيان معا نفي حكم ثالث فهل مقتضى تساقطهما عدم حجّيّتهما
في نفي الثالث؟
١٩. ما المراد من
قاعدة «الجمع أولى من الطرح»؟
٢٠. لم لا تشمل
قاعدة «الجمع أولى من الطرح» الجمع التبرّعي؟
٢١. اذكر العلاج
في الصور الآتية من التعارض :
ألف) يكون أحد
المتعارضين مقطوع الدلالة مظنون السند ، والآخر مظنون الدلالة مقطوع السند.
ب) يكونان مقطوعي
الدلالة مظنوني السند.
ج) يكونان مظنوني الدلالة
مقطوعي السند.
د) يكونان مظنوني
الدلالة والسند معا.
إذا عرفت ما
ذكرناه من الأمور في المقدّمة فلنشرع في المقصود ، والأمور التي ينبغي أن نبحثها
ثلاثة : الجمع العرفيّ ، والقاعدة الثانوية في المتعادلين ، والمرجّحات السنديّة
وما يتعلّق بها.
الأمر الأوّل :
الجمع العرفيّ
بمقتضى ما شرحناه
في المقدّمة الأخيرة يتّضح أنّ القدر المتيقّن من قاعدة أولويّة الجمع من الطرح في
المتعارضين هو «الجمع العرفيّ» الذي سمّاه الشيخ الأعظم قدسسره بـ «الجمع
المقبول» ، وغرضه المقبول عند العرف. ويسمّى «الجمع الدلاليّ».
وفي الحقيقة ـ كما
تقدّمت الإشارة إلى ذلك ـ أنّه بالجمع العرفيّ يخرج الدليلان عن التعارض. والوجه
في ذلك أنّه إنّما نحكم بالتساقط ، أو التخيير ، أو الرجوع إلى العلاجات السنديّة
، حيث تكون هناك حيرة في الأخذ بهما معا. وفي موارد الجمع العرفيّ لا حيرة ، ولا
تردّد.
وبعبارة أخرى :
إنّه لمّا كان التعبّد بالمتنافيين مستحيلا فلا بدّ من العلاج ، إمّا بطرحهما ، أو
بالتخيير بينهما ، أو بالرجوع إلى المرجّحات السنديّة ، وغيرها ، وأمّا : لو كان
الدليلان متلائمين غير متنافيين بمقتضى الجمع العرفيّ المقبول فإنّ التعبّد بهما
معا يكون تعبّدا بالمتلائمين ، فلا استحالة فيه ، ولا محذور حتى نحتاج إلى العلاج.
ويتّضح من ذلك
أنّه في موارد الجمع لا تعارض ، وفي موارد التعارض لا جمع. وللجمع العرفيّ موارد
لا بأس بالإشارة إلى بعضها للتدريب :
فمنها : ما إذا كان أحد الدليلين أخصّ من الآخر ، فإنّ الخاصّ
مقدّم على العامّ ، ويوجب
__________________
التصرّف فيه ؛
لأنّه بمنزلة القرينة عليه. وقد جرى البحث في
أنّ الخاصّ مطلقا بما هو خاصّ مقدّم على العامّ ، أو إنّما يقدّم عليه لكونه أقوى
ظهورا ، فلو كان العامّ أقوى ظهورا كان العامّ هو المقدّم؟ ومال الشيخ الأعظم قدسسره إلى الثاني ، كما جرى البحث في أنّ أصالة الظهور في الخاصّ حاكمة ، أو واردة على أصالة
الظهور في العامّ ، أو أنّ في ذلك تفصيلا؟ ولا يهمّنا التعرّض إلى هذا البحث ؛ فإنّ المهمّ تقديم الخاصّ على العامّ على أيّ نحو كان من أنحاء التقديم.
ويلحق بهذا الجمع
العرفيّ تقديم النصّ على الظاهر ، والأظهر على الظاهر ، فإنّها من باب واحد.
ومنها : ما إذا كان لأحد المتعارضين قدر متيقّن في الإرادة ، أو
لكلّ منهما قدر متيقّن ، ولكن لا على أن يكون قدرا متيقّنا من اللفظ ، بل من
الخارج ؛ لأنّه لو كان للّفظ قدر متيقّن فإنّ الدليلين يكونان من أوّل الأمر غير
متعارضين ؛ إذ لا إطلاق حينئذ ، ولا عموم للّفظ ، فلا يكون ذلك من نوع الجمع العرفيّ
للمتعارضين ؛ سالبة بانتفاء الموضوع ؛ إذ لا تعارض.
مثال القدر
المتيقّن من الخارج ما إذا ورد «ثمن العذرة سحت» وورد أيضا «لا بأس ببيع العذرة» ، فإنّ عذرة
الإنسان قدر متيقّن من الدليل الأوّل ، وعذرة مأكول اللحم قدر متيقّن من الثاني ،
فهما من ناحية لفظيّة متباينان متعارضان ، ولكن لمّا كان لكلّ منهما قدر متيقّن
فالتكاذب يكون بينهما بالنسبة إلى غير القدر المتيقّن ، فيحمل كلّ منهما على القدر
المتيقّن ، فيرتفع التكاذب بينهما ، ويتلاءمان عرفا.
ومنها : ما إذا كان أحد العامّين من وجه بمرتبة لو اقتصر فيه على
ما عدا مورد الاجتماع
__________________
يلزم التخصيص
المستهجن ؛ إذ يكون الباقي من القلّة لا يحسن أن يراد من العموم ، فإنّ مثل هذا
العامّ يقال عنه : «إنّه يأبى عن التخصيص». فيكون ذلك قرينة على تخصيص العامّ
الثاني.
ومنها : ما إذا كان أحد العامّين من وجه واردا مورد التحديدات ،
كالأوزان ، والمقادير ، والمسافات ، فإنّ مثل هذا يكون موجبا لقوّة الظهور على وجه
يلحق بالنصّ ، إذ يكون ذلك العامّ أيضا ممّا يقال فيه : «إنّه يأبى عن التخصيص».
وهناك موارد أخرى
، وقع الخلاف في عدّها من موارد الجمع العرفيّ ، مثل ما إذا كان لكلّ من الدليلين
مجاز هو أقرب مجازاته ، ومثل ما إذا لم يكن لكلّ منهما إلاّ مجاز بعيد ، أو مجازات
متساوية النسبة إلى المعنى الحقيقيّ ، ومثل ما إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ ،
فهل مقتضى الجمع العرفيّ تقديم التخصيص ، أو تقديم النسخ ، أو التفصيل في ذلك؟
وقد تقدّم البحث
عن ذلك في الجزء الأوّل ، فراجع ... ولا تسع هذه الرسالة استيعاب هذه الأبحاث.
تمرينات
(٦٣)
١. ما هو الجمع
العرفيّ؟
٢. اذكر موارد من
الجمع العرفيّ؟
__________________
الأمر الثاني :
القاعدة الثانويّة للمتعادلين
قد تقدّم أنّ
القاعدة الأوّليّة في المتعادلين هي التساقط ، ولكن استفاضت
الأخبار ، بل تواترت في عدم التساقط ، غير أنّ آراء الأصحاب اختلفت في استفادة نوع
الحكم منها ؛ لاختلافها على ثلاثة أقوال :
١. التخيير في
الأخذ بأحدهما ، وهو مختار المشهور ، بل نقل الإجماع
عليه.
٢. التوقّف بما
يرجع إلى الاحتياط في العمل ، ولو كان الاحتياط مخالفا لهما ، كالجمع بين القصر
والإتمام في مورد تعارض الأدلّة بالنسبة إليهما.
وإنّما كان
التوقّف يرجع إلى الاحتياط ؛ لأنّ التوقّف يراد منه التوقّف في الفتوى على طبق
أحدهما ، وهذا يستلزم الاحتياط في العمل ، كما في المورد الفاقد للنصّ مع العلم
الإجماليّ بالحكم.
٣. وجوب الأخذ بما
طابق منهما الاحتياط ، فإن لم يكن فيهما ما يطابق الاحتياط تخيّر بينهما.
ولا بدّ من النظر
في الأخبار لاستظهار الأصحّ من الأقوال. وقبل النظر فيها ينبغي الكلام عن إمكان
صحّة هذه الأقوال جملة ، بعد ما سبق من تحقيق أنّ القاعدة الأوّليّة بحكم العقل هي
التساقط ، فكيف يصحّ الحكم بعدم تساقطهما حينئذ؟! وأكثرها إشكالا هو القول
بالتخيير بينهما ؛ للمنافاة الظاهرة بين الحكم بتساقطهما ، وبين الحكم بالتخيير.
نقول في الجواب عن
هذا السؤال : إنّه إذا فرضت قيام الإجماع ، ونهوض الأخبار على عدم تساقط
المتعارضين ، فإنّ ذلك يكشف عن جعل جديد من قبل الشارع لحجّيّة أحد
__________________
الخبرين بالفعل لا
على التعيين ، وهذا الجعل الجديد لا ينافي ما قلناه سابقا من سرّ تساقط المتعارضين
؛ بناء على الطريقيّة ؛ لأنّه إنّما حكمنا بالتساقط من جهة قصور دلالة أدلّة
حجّيّة الأمارة عن شمولها للمتعارضين ، أو لأحدهما لا على التعيين ، ولكن لا يقدح
في ذلك أن يرد دليل خاصّ يتضمّن بيان حجّيّة أحدهما غير المعيّن بجعل جديد ، لا
بنفس الجعل الأوّل الذي تتضمّنه الأدلّة العامّة.
ولا يلزم من ذلك ـ
كما قيل ـ أن تكون الأمارة حينئذ مجعولة على نحو السببيّة ، فإنّه
إنّما يلزم ذلك لو كان عدم التساقط باعتبار الجعل الأوّل.
وبعبارة أخرى أوضح
: إنّه لو خلّينا نحن والأدلّة العامّة الدالّة على حجّيّة الأمارة فإنّه لا يبقى
دليل لنا على حجّيّة أحد المتعارضين ؛ لقصور تلك الأدلّة عن شمولها لهما ، فلا بدّ
من الحكم بعدم حجّيّتهما معا. أمّا : لو فرض قيام دليل خاصّ في صورة التعارض
بالخصوص على حجّيّة أحدهما فلا بدّ من الأخذ به ، ويدلّ على حجّيّة أحدهما بجعل
جديد ، ولا مانع عقليّ من ذلك.
وعلى هذا ،
فالقاعدة المستفادة من هذا الدليل الخاصّ قاعدة ثانويّة مجعولة من قبل الشارع ،
بعد أن كانت القاعدة الأوّليّة بحكم العقل هي التساقط.
بقي علينا أن نفهم
معنى التخيير على تقدير القول به ، بعد أن بيّنّا سابقا أنّه لا معنى للتخيير بين
المتعارضين من جهة الحجّيّة ، ولا من جهة الواقع ، فنقول :
إنّ معنى التخيير
بمقتضى هذا الدليل الخاصّ أنّ كلّ واحد من المتعارضين منجّز للواقع على تقدير
إصابته للواقع ، ومعذّر للمكلّف على تقدير الخطأ ، وهذا هو معنى الجعل الجديد الذي
قلناه ، فللمكلّف أن يختار ما يشاء منهما ، فإن أصاب الواقع فقد تنجّز به وإلاّ
فهو معذور. وهذا بخلاف ما لو كنّا نحن والأدلّة العامّة ، فإنّه لا منجّزيّة
لأحدهما غير المعيّن ولا معذّريّة له.
والشاهد على ذلك
أنّه بمقتضى هذا الدليل الخاصّ لا يجوز ترك العمل بهما معا ؛ لأنّه
__________________
على تقدير الخطأ
في تركهما لا معذّر له في مخالفة الواقع ، بينما أنّه معذور في مخالفة الواقع لو
أخذ بأحدهما. وهذا بخلاف ما لو لم يكن هذا الدليل الخاصّ موجودا ، فإنّه يجوز له
ترك العمل بهما معا ، وإن استلزم مخالفة الواقع ؛ إذ لا منجّز للواقع بالمتعارضين
بمقتضى الأدلّة العامّة.
إذا عرفت ما ذكرنا
فلنذكر لك أخبار الباب ليتّضح الحقّ في المسألة ، فإنّ منها : ما يدلّ على التخيير
مطلقا ، ومنها : ما يدلّ على التخيير في صورة التعادل ، ومنها : ما يدلّ على
التوقّف. ثمّ نعقب عليها بما يقتضي ، فنقول : إنّ الذي عثرنا عليه من الأخبار هو
كما يلي :
١. خبر الحسن بن
الجهم عن الرضا عليهالسلام : قلت : يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين ،
فلا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال : «فإذا لم تعلم ، فموسّع عليك بأيّهما أخذت».
وهذا الحديث بهذا
المقدار منه ظاهر في التخيير بين المتعارضين مطلقا ، ولكن صدره ـ الذي لم نذكره ـ مقيّد بالعرض على الكتاب ، والسنّة ، فهو يدلّ على أنّ التخيير إنّما هو
بعد فقدان المرجّح ، ولو في الجملة.
٢. خبر الحارث بن
المغيرة عن أبي عبد الله عليهالسلام : «إذا سمعت من أصحابك الحديث ، وكلّهم ثقة فموسّع عليك ،
حتى ترى القائم فتردّ عليه».
وهذا الخبر أيضا
يستظهر منه التخيير مطلقا من كلمة «فموسّع عليك» ، ويقيّد بالروايات الآتية
الدالّة على الترجيح.
ولكن يمكن أن
يناقش في استظهار التخيير منه :
أوّلا : بأنّ الخبر وارد في فرض التمكّن من لقاء الإمام والأخذ
منه ، فلا يعلم شموله لحال الغيبة الذي يهمّنا إثباته ؛ لأنّ الرخصة في التخيير
مدّة قصيرة لا تستلزم الرّخصة فيه أبدا ولا تدلّ عليها.
__________________
ثانيا : بأنّ الخبر غير ظاهر في فرض التعارض ، بل ربّما يكون
واردا لبيان حجّيّة الحديث الذي يرويه الثقات من الأصحاب. ومعنى «موسّع عليك»
الرخصة بالأخذ به ؛ كناية عن حجّيّته ، غاية الأمر أنّه يدلّ على أنّ الرخصة
مغيّاة برؤية الإمام ليأخذ منه الحكم على سبيل اليقين. وهذا أمر لا بدّ منه في كلّ
حجّة ظنّيّة ، وإن كانت عامّة حتى لزمان حضور الإمام إلاّ أنّه مع حصول اليقين
بمشافهته لا بدّ أن ينتهي أمد جواز العمل بها.
وعليه ، فلا شاهد
بهذا الخبر على ما نحن فيه.
٣. مكاتبة عبد
الله بن محمّد إلى أبي الحسن عليهالسلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليهالسلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : أن صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم :
أن لا تصلّهما إلاّ على الأرض ، فاعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟. فوقّع عليهالسلام : «موسّع عليك بأيّة عملت».
وهذه أيضا
استظهروا منها التخيير مطلقا ، وتحمل على المقيّدات كالثانية.
ولكن يمكن الناقشة
في هذا الاستظهار بأنّه من المحتمل أن يراد من التوقيع بيان التخيير في العمل بكلّ
من المرويّين باعتبار أنّ الحكم الواقعيّ هو جواز صلاة ركعتي الفجر في السفر في
المحمل وعلى الأرض معا ، لا أنّ المراد التخيير بين الروايتين ، فيكون الغرض تخطئة
الروايتين.
وهو احتمال قريب
جدّا ، لا سيّما أنّ السؤال لم يكن عن كيفيّة العمل بالمتعارضين ، بل السؤال عن
كيفيّة عمل الإمام ليقتدي به ـ أي إنّه سؤال عن حكم صلاة ركعتي الفجر ، لا عن حكم
المتعارضين ـ ، والجواب ينبغي أن يطابق السؤال ، فكيف صحّ أن يحمل على بيان كيفيّة
العمل بالمتعارضين؟! وعليه ، فلا يكون في هذا الخبر أيضا شاهد على ما نحن فيه
كالخبر الثاني.
٤. جواب مكاتبة
الحميري إلى الحجّة ـ عجّل الله فرجه ـ : «في ذلك حديثان : أمّا أحدهما : فإنّه
إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير. وأمّا [الحديث] الآخر : فإنّه روي
__________________
أنّه إذا رفع رأسه
من السجدة الثانية ، وكبّر ، ثمّ جلس ، ثمّ قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود
تكبير. وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى. وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان
صوابا».
وهذا الجواب أيضا
استظهروا منه التخيير مطلقا ، ويحمل على المقيّدات.
ولكنّه أيضا يناقش
في هذا الاستظهار بأنّ من المحتمل قريبا أنّ المراد بيان التخيير في العمل
بالتكبير لبيان عدم وجوبه ، لا التخيير بين المتعارضين. ويشهد لذلك التعبير بقوله
: «كان صوابا» ؛ لأنّ المتعارضين لا يمكن أن يكون كلّ واحد منهما صوابا ، ثمّ لا
معنى لجواب الإمام عن السؤال عن الحكم الواقعيّ بذكر روايتين متعارضتين ، ثمّ
العلاج بينهما ، إلاّ لبيان خطأ الروايتين ، وأنّ الحكم الواقعيّ على خلافهما.
٥. مرفوعة زرارة ،
المرويّة عن «عوالي اللآلئ» ، وقد جاء في آخرها : «إذن فتخيّر أحدهما ، فتأخذ به
وتدع الآخر».
ولا شكّ في ظهور هذه
الفقرة منها في وجوب التخيير بين المتعارضين ، وفي أنّه بعد فرض التعادل ؛ لأنّها
جاءت بعد ذكر المرجّحات وفرض انعدامها.
ولكنّ الشأن في
صحّة سندها ، وسيأتي التعرّض له. وهي من أهمّ أخبار الباب من جهة مضمونها.
٦. خبر سماعة عن
أبي عبد الله عليهالسلام : قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر
، كلاهما يرويه : أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ فقال عليهالسلام : «يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» .
وقد استظهروا من
قوله عليهالسلام : «فهو في سعة» التخيير مطلقا.
وفيه
أوّلا : أنّ الرواية
واردة في فرض التمكّن من لقاء الإمام ، أو كلّ من يخبره بالحكم على سبيل اليقين من
نوّاب الإمام خصوصا أو عموما. فهي تشبه من هذه الناحية الرواية
__________________
الثانية
المتقدّمة.
وثانيا : أنّ الأولى فيها أن تجعل من أدلّة التوقّف ، لا التخيير
، وذلك لكلمة «يرجئه».
وأمّا قوله : «في
سعة» فالظاهر أنّ المراد به التخيير بين الفعل والترك ، باعتبار أنّ الأمر حسب فرض
السؤال يدور بين المحذورين ، وهو الوجوب والحرمة ؛ إذن فليس المقصود منه التخيير
بين الروايتين ، لا سيّما أنّ ذلك لا يلتئم مع الأمر بالإرجاء ؛ لأنّ العمل
بأحدهما تخييرا ليس إرجاء ، بل الإرجاء ترك العمل بهما معا.
فلا دلالة لهذه
الرواية على التخيير بين المتعارضين.
٧. وقال الكليني
بعد تلك الرواية : «وفي رواية أخرى : «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» .
يظهر منه أنّها رواية أخرى ، لا أنّها نصّ آخر في الجواب عن نفس السؤال في الرواية
المتقدّمة ، وإلاّ لكان المناسب أن يقول : «بأيّهما أخذ» بالضمير الغائب ، لا «بأيّهما
أخذت» بنحو الخطاب.
وظاهرها الحكم
بالتخيير بين المتعارضين مطلقا ، ويحمل على المقيّدات.
٨. ما في «عيون
أخبار الرضا» للصدوق في خبر طويل ، جاء في آخره :
«فذلك الذي يسع
الأخذ بهما جميعا ، أو بأيّهما شئت ، وسعك الاختيار من باب التسليم ، والاتّباع ،
والردّ إلى رسول الله» .
والظاهر من هذه
الفقرة هو التخيير بين المتعارضين ، إلاّ أنّه بملاحظة صدرها وذيلها يمكن أن
يستظهر منها إرادة التخيير في العمل بالنسبة إلى ما أخبر عن حكمه أنّه على نحو
الكراهة ، ولذا أنّها ـ فيما يتعلّق بالإخبار عن الحكم الإلزاميّ ـ صرّحت بلزوم
العرض على الكتاب والسنّة ، لا سيّما وقد أعقب تلك الفقرة التي نقلناها قوله عليهالسلام : «وما لم تجدوه في
__________________
شيء من هذه الوجوه
فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ ،
والتثبّت ، والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا».
وهذه الفقرات
صريحة في وجوب التوقّف ، والتربّث ، وعليه ،
فالأجدر بهذه الرواية أن تجعل من أدلّة التوقّف ، لا التخيير.
٩. مقبولة عمر بن
حنظلة ، الآتي ذكرها في المرجّحات ، وقد جاء في آخرها : «إذا كان ذلك ـ أي فقدت
المرجّحات ـ فأرجئه حتى تلقى إمامك ؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في
الهلكات».
وهذه ظاهرة في
وجوب التوقّف عند التعادل.
١٠. خبر سماعة عن
أبي عبد الله عليهالسلام ، قلت : يرد علينا حديثان : واحد يأمرنا بالأخذ به ،
والآخر ينهانا عنه؟ قال : «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك ، فتسأله». قلت :
لا بدّ أن نعمل بأحدهما. قال : «خذ بما فيه خلاف العامّة» .
١١. مرسلة صاحب
عوالي اللآلئ ـ على ما نقل عنه ـ ، فإنّه بعد روايته المرفوعة المتقدّمة بالرقم قال : وفي رواية أنّه قال عليهالسلام : «إذن فأرجئه حتى تلقى إمامك فتسأله».
هذه جملة ما عثرت
عليه من الروايات فيما يتعلّق بالتخيير أو التوقّف. والظاهر منها ـ بعد ملاحظة
أخبار الترجيح الآتية ، وبعد ملاحظة مقيّداتها بصورة فقدان المرجّح ، ولو في
الجملة ـ أنّ الرجوع إلى التخيير ، أو التوقّف بعد فقد المرجّحات ، فتحمل مطلقاتها
على مقيّداتها.
والخلاصة أنّ المتحصّل منها جميعا أنّه يجب أوّلا ملاحظة المرجّحات
بين المتعارضين ، فإن لم تتوفّر المرجّحات ، فالقاعدة هي التخيير ، أو التوقّف على
حسب استفادتنا من الأخبار ، لا أنّ القاعدة التخيير أو التوقّف في كلّ متعارضين
وإن كان فيهما
__________________
ما يرجّح أحدهما
على الآخر.
نعم ، المستفاد من
الرواية العاشرة فقط ـ وهي خبر سماعة ـ أنّ التوقّف هو الحكم الأوّلي ؛ إذ أرجعه
إلى الترجيح بمخالفة العامّة بعد فرض ضرورة العمل بأحدهما ، بحسب فرض السائل.
ولكنّ التأمّل
فيها يعطي أنّها لا تنافي أدلّة تقديم الترجيح ، فإنّ الظاهر أنّ المراد منها ترك
العمل رأسا ؛ انتظارا لملاقاة الإمام ، لا التوقّف والعمل بالاحتياط.
وبعد هذا يبقى
علينا أن نعرف وجه الجمع بين أخبار التخيير ، وأخبار التوقّف فيما ذكرناه من
الأخبار المتقدّمة. وقد ذكروا وجوها للجمع لا يغني أكثرها.
وأنت ـ بعد ملاحظة
ما مرّ من المناقشات في الأخبار التي استظهروا منها التخيير ـ تستطيع أن تحكم بأنّ
التوقّف هو القاعدة الأوّليّة ، وأنّ التخيير لا مستند له ؛ إذ لم يبق ما يصلح
مستندا له إلاّ الرواية الأولى ، وهي لا تصلح لمعارضة الروايات الكثيرة الدالّة
على وجوب التوقّف ، والردّ إلى الإمام.
أمّا
الخامسة ـ وهي مرفوعة
زرارة ـ : فهي ضعيفة السند جدّا ، ـ وقد أشرنا فيما سبق إلى ذلك ، وسيأتي بيانه ـ ؛
على أنّ راويها نفسه عقّبها بالمرسلة المتقدّمة بالرقم
(١١) الواردة في التوقّف ، والإرجاء.
وأمّا
السابعة ـ مرسلة الكلينيّ
ـ : فليس من البعيد أنّها من استنباطاته ، حسبما فهمه من الروايات ، لا أنّها
رواية مستقلّة في قبال سائر روايات الباب. ويشهد لذلك ما ذكره في مقدّمة «الكافي»
من مرسلة أخرى بهذا المضمون : «بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» ، ؛ لأنّه لم ترد عنده رواية بهذا التعبير إلاّ تلك المرسلة التي نحن بصددها ،
وهي بخطاب المفرد ، وهذه بخطاب الجمع. وعليه ، فيظهر أنّ المرسلتين معا هما من
مستنبطاته ، فلا يصحّ الاعتماد عليهما.
إذا عرفت ما
ذكرناه يظهر لك أنّ القول بالتخيير لا مستند له يصلح لمعارضة أخبار
__________________
التوقّف ، ولا
للخروج عن القاعدة الأوّليّة للمتعارضين ، وهي التساقط ، وإن كان التخيير مذهب
المشهور.
وأمّا أخبار
التوقّف : فإنّها ـ مضافا إلى كثرتها وصحّة بعضها وقوّة دلالتها ـ لا تنافي قاعدة
التساقط في الحقيقة ؛ لأنّ الإرجاء والتوقّف لا يزيد على التساقط ، بل هو من
لوازمه ، فأخبار التوقّف تكون على القاعدة.
وقيل في وجه تقديم أخبار التخيير : «إنّ أدلّة التخيير مطلقة
بالنسبة إلى زمن الحضور ، بينما أنّ أخبار التوقّف مقيّدة به. وصناعة الإطلاق
والتقييد تقتضي رفع التعارض بينهما بحمل المطلق على المقيّد. ونتيجة ذلك ، التخيير
في زمان الغيبة ، كما عليه المشهور».
أقول : إنّ أخبار التوقّف كلّها بلسان الإرجاء إلى ملاقاة
الإمام ، فلا يستفاد منها تقييد الحكم بالتوقّف بزمان الحضور ؛ لأنّ استفادة ذلك
تتوقّف على أن يكون للغاية مفهوم ، وقد تقدّم بيان المناط في استفادة مفهوم الغاية
، فقلنا : «إنّ الغاية إذا كانت قيدا للموضوع ، أو المحمول فقط لا دلالة لها على
المفهوم ، ولا تدلّ على المفهوم إلاّ إذا كان التقييد بالغاية راجعا إلى الحكم». والغاية هنا غاية لنفس الإرجاء ، لا لحكمه ، وهو الوجوب ، يعني أنّ المستفاد
من هذه الأخبار أنّ نفس الإرجاء مغيّا بملاقاة الإمام ، لا وجوبه.
والحاصل
أنّه لا يفهم من
أخبار التوقّف ، إلاّ أنّه لا يجوز الأخذ بالأخبار المتعارضة المتكافئة ، ولا
العمل بواحد منها ، وإنّما يحال الأمر في شأنها إلى الإمام ويؤجّل البتّ فيها إلى ملاقاته لتحصيل الحجّة على الحكم بعد السؤال عنه. فهي تقول بما يؤول
إلى أنّ الأخبار المتعارضة المتكافئة لا تصلح لإثبات الحكم ، فلا تجوز الفتوى ولا
العمل بأحدها ، وينحصر الأمر حينئذ بملاقاة الإمام والسؤال عنه. فإذا لم تحصل
الملاقاة ولو لغيبة الإمام ، فلا يجوز الإقدام على العمل بأحد المتعارضين.
وعلى هذا ، فتكون
هذه الأخبار مباينة لأخبار التخيير ، لا أخصّ منها.
__________________
تمرينات
(٦٤)
١. اذكر الأقوال
الثلاثة في القاعدة الثانويّة للمتعادلين.
٢. هل يمكن صحّة
هذه الأقوال بعد ما سبق من أنّ القاعدة الأوّليّة هي التساقط؟
٣. ما هو الأصحّ
من الأقوال عند المصنّف؟
٤. ما الجواب عن
استظهار التخيير مطلقا من خبر الحسن بن الجهم ، وخبر الحارث بن المغيرة؟
٥. ما هي المناقشة
في استظهار التخيير مطلقا من مكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليهالسلام؟
٦. ما هي المناقشة
في استظهار التخيير مطلقا من جواب مكاتبة الحميري إلى الحجّة (عجّل الله فرجه)؟
٧. هل يدلّ خبر
سماعة على التخيير بين المتعارضين مطلقا؟
٨. ما الجواب عن
استظهار التخيير من الخبر المنقول عن عيون أخبار الرضا عليهالسلام؟
٩. ما هو وجه
الجمع بين أخبار التخيير وأخبار التوقّف؟
١٠. اذكر ما قال
المحقّق النائيني في وجه تقديم أدلّة التخيير على أدلّة التوقّف. واذكر الجواب
عنه.
الأمر الثالث :
المرجّحات
تقدّم أنّ من شروط
تحقّق التعارض أن يكون كلّ من الدليلين واجدا لشرائط الحجّيّة في حدّ نفسه ؛ لأنّه لا تعارض بين الحجّة واللاحجّة ، فإذا بحثنا عن
المرجّحات فالذي نعنيه أن نبحث عمّا يرجّح الحجّة على الأخرى ، بعد فرض حجّيّتهما
معا في أنفسهما ، لا عمّا يقوّم أصل الحجّة ، ويميّزها عن اللاحجة. وعليه ، فالجهة
التي تكون من مقوّمات الحجّة مع قطع النظر عن المعارضة لا تدخل في مرجّحات باب
التعارض ، بل تكون من مميّزات الحجّة عن اللاحجّة.
ومن أجل هذا يجب
أن نتنبّه إلى الروايات المذكورة في باب الترجيحات ، وإلى أنّها واردة في صدد أيّ
شيء من ذلك؟ في صدد الترجيح أو التمييز؟
فلو كانت على
النحو الثاني لا يكون فيها شاهد على ما نحن فيه ، كما قاله الشيخ صاحب الكفاية قدسسره في روايات
الترجيح بموافقة الكتاب كما سيأتي .
إذا عرفت ما
ذكرناه من جهة البحث التي نقصدها في بيان المرجّحات ، فنقول : إنّ المرجّحات ـ المدّعى
أنّها منصوص عليها في الأخبار ـ خمسة أصناف :
الترجيح بالأحدث
تأريخا ، وبصفات الراوي ، وبالشهرة ، وبموافقة الكتاب ، وبمخالفة العامّة.
فينبغي أوّلا :
البحث عنها واحدة واحدة ، ثمّ بيان أيّة منها أولى بالتقديم لو تعارضت؟ ثمّ بيان
أنّه هل يجب الاقتصار عليها ، أو يتعدّى إلى غيرها؟ فهنا ثلاثة مقامات :
__________________
المقام الأوّل : المرجّحات
الخمسة
١. الترجيح
بالأحدث
في هذا الترجيح
روايات أربع ، نكتفي منها بما رواه الكلينيّ بسنده إلى أبي عبد الله عليهالسلام قال : «أرأيتك لو حدّثتك بحديث العامّ ، ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه ،
بأيّهما كنت تأخذ؟» قال : كنت آخذ بالأخير. فقال لي : «رحمك الله!» .
أقول : إنّ الذي يستظهره بعض أجلّة مشايخنا قدسسره أنّ هذه الروايات لا شاهد بها على ما نحن فيه ، أي إنّها
لا تدلّ على ترجيح الأحدث من البيانين كقاعدة عامّة بالنسبة إلى كلّ مكلّف ،
وبالنسبة إلى جميع العصور ؛ لأنّها لا تدلّ على ذلك إلاّ إذا فهم منها أنّ الأحدث
هو الحكم الواقعيّ ، وأنّ الأوّل واقع موقع التقيّة ، أو نحوها ؛ مع أنّه لا يفهم
منها أكثر من أنّ من ألقي إليه البيان خاصّة حكمه الفعليّ ما تضمّنه البيان الأخير
، وليست ناظرة إلى أنّه هو الحكم الواقعيّ ، فلربما كان حكما ظاهريّا بالنسبة إليه
من باب التقيّة ، كما أنّه ليست ناظرة إلى أنّ هذا الحكم الفعليّ هو حكم كلّ أحد
في كلّ زمان.
والحاصل
أنّ هذه الطائفة
من الروايات لا دلالة فيها على أنّ البيان الأخير يتضمّن الحكم الواقعيّ ، وأنّ
ذلك بالنسبة إلى جميع المكلّفين في جميع الأزمنة ، حتى يكون الأخذ بالأحدث
__________________
وظيفة عامّة لجميع
المكلّفين ، وفي جميع الأزمان حتى زمن الغيبة ولو كان من باب التقيّة ، ولا شكّ
أنّ الأزمان والأشخاص تتفاوت وتختلف من جهة شدّة التقيّة ، أو لزومها.
٢. الترجيح
بالصفات :
إنّ الروايات التي
ذكرت الترجيح بالصفات تنحصر في مقبولة ابن حنظلة ، ومرفوعة زرارة ، المشار إليهما
سابقا. والمرفوعة ـ كما قلنا ـ ضعيفة جدّا ؛ لأنّها مرفوعة ،
ومرسلة ، ولم يروها إلاّ صاحب «عوالي اللآلئ» . وقد طعن صاحب «الحدائق»
في التأليف والمؤلّف ، إذ قال : «فإنّا لم نقف عليها في غير كتاب «عوالي اللآلئ»
مع ما هي عليه من الرفع والإرسال ، وما عليه الكتاب ، من نسبة صاحبه إلى التساهل
في نقل الأخبار والإهمال ، وخلط غثّها بسمينها وصحيحها
بسقيمها» .
إذن ، الكلام فيها
فضول ، فالعمدة في الباب المقبولة التي قبلها العلماء ؛ لأنّ راويها صفوان بن يحيى
الذي هو من أصحاب الإجماع ـ أي الذين أجمع الصحابة على تصحيح ما يصحّ عنهم ـ ، كما
رواها المشايخ الثلاثة في كتبهم . وإليك نصّها بعد حذف مقدّمتها :
قلت : فإن كان كلّ
رجل اختار رجلا من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، واختلفا فيما
حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟
قال : «الحكم ما
حكم به أعدلهما ، وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما
يحكم به الآخر».
قلت : فإنّهما
عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟
قال : «ينظر إلى
ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي به حكما ، المجمع عليه من
__________________
أصحابك ، فيؤخذ به
من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب
فيه. وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر
مشكل يردّ علمه إلى الله ورسوله. قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك
الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات ، وهلك من حيث لا
يعلم».
قلت : فإن كان
الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال : «ينظر ، فما
وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة ، وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم
الكتاب والسنّة ، ووافق العامّة».
قلت : ـ جعلت فداك
ـ أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب ، والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين
موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟
قال : «ما خالف
العامّة ففيه الرشاد».
قلت : ـ جعلت فداك
ـ فإن وافقهم الخبران جميعا؟
قال : «انظر إلى
ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ، ويؤخذ بالآخر».
قلت : فإن وافق
حكّامهم الخبرين جميعا؟
قال : «إذا كان
ذلك فأرجه (وفي بعض النسخ : فأرجئه ) ، حتى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».
انتهت المقبولة.
أقول : من الواضح أنّ موردها التعارض بين الحاكمين ، لا بين
الراويين ، ولكن لمّا كان الحكم والفتوى في الصدر الأوّل يقعان بنصّ الأحاديث ـ لا
أنّهما يقعان بتعبير من الحاكم ، أو المفتي ، كالعصور المتأخّرة استنباطا من
الأحاديث ـ تعرّضت هذه المقبولة للرواية والراوي ؛ لارتباط الرواية بالحكم. ومن
هنا استدلّ بها على الترجيح للروايات المتعارضة.
غير أنّه ـ مع ذلك
ـ لا يجعلها شاهدة على ما نحن فيه. والسرّ في ذلك واضح ؛ لأنّ
__________________
اعتبار شيء في
الراوي بما هو حاكم غير اعتباره فيه بما هو راو ومحدّث ، والمفهوم من المقبولة أنّ
ترجيح الأعدل ، والأورع ، والأفقه إنّما هو بما هو حاكم في مقام نفوذ حكمه ، لا في
مقام قبول روايته.
ويشهد لذلك أنّها
جعلت من جملة المرجّحات كونه «أفقه» في عرض كونه «أعدل» و «أصدق» في الحديث. ولا
ربط للأفقهيّة بترجيح الرواية من جهة كونها رواية.
نعم ، إنّ
المقبولة انتقلت بعد ذلك إلى الترجيح للرواية بما هي رواية ابتداء من الترجيح
بالشهرة ، وإن كان ذلك من أجل كونها سندا لحكم الحاكم ، فإنّ هذا أمر آخر غير
الترجيح لنفس الحكم وبيان نفوذه.
وعليه ، فالمقبولة
لا دليل فيها على الترجيح بالصفات. وأمّا : الترجيح بالشهرة وما يليها فسيأتي
الكلام عنه.
ويؤيّد هذا
الاستنتاج أنّ صاحب «الكافي» لم يذكر في مقدّمة كتابه الترجيح بصفات الراوي.
٣. الترجيح
بالشهرة
تقدّم أنّ الشهرة
ليست حجّة في نفسها ، وأمّا : إذا كانت مرجّحة للرواية ـ على القول به ـ فلا
ينافي عدم حجّيّتها في نفسها.
والشهرة المرجّحة
على نحوين : شهرة عمليّة ، وهي الشهرة الفتوائيّة المطابقة للرواية.
وشهرة في الرواية
، وإن لم يكن العمل على طبقها مشهورا.
أمّا
الأولى : فلم يرد فيها
من الأخبار ما يدلّ على الترجيح بها ، فإذا قلنا بالترجيح بها فلا بدّ أن يكون
بمناط وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع ـ على ما سيأتي وجهه ـ ،
غاية الأمر أنّ تقوية الرواية بالعمل بها يشترط فيها أمران :
١. أن يعرف استناد
الفتوى إليها ؛ إذ لا يكفي مجرّد مطابقة فتوى المشهور للرواية في
__________________
الوثوق بأقربيّتها
إلى الواقع.
٢. أن تكون الشهرة
العمليّة قديمة ـ أي واقعة في عصر الأئمّة عليهمالسلام ، أو العصر الذي يليه الذي تمّ فيه جمع الأخبار وتحقيقها
ـ. أمّا : الشهرة في العصور المتأخّرة فيشكل تقوية الرواية بها.
هذا من جهة
الترجيح بالشهرة العمليّة في مقام التعارض ، أمّا : من جهة جبر الشهرة للخبر
الضعيف ، مع قطع النظر عن وجود ما يعارضه فقد وقع نزاع للعلماء فيه. والحقّ أنّها جابرة له إذا كانت قديمة أيضا ؛ لأنّ العمل بالخبر عند المشهور من
القدماء ممّا يوجب الوثوق بصدوره. والوثوق هو المناط في حجّيّة الخبر ـ كما تقدّم
ـ ، وبالعكس من ذلك إعراض الأصحاب عن الخبر ؛ فإنّه يوجب وهنه ، وإن كان راويه ثقة
، وكان قويّ السند ، بل كلّما قوي سند الخبر فأعرض عنه الأصحاب كان ذلك أكثر دلالة
على وهنه.
وأمّا
الثانية : ـ وهي الشهرة في
الرواية ـ فإنّ إجماع المحقّقين قائم على الترجيح بها ، وقد دلّت عليه المقبولة
المتقدّمة ، وقد جاء فيها «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه». والمقصود من «المجمع
عليه» ، المشهور ، بدليل فهم السائل ذلك ؛ إذ عقّبه بالسؤال : «فإن كان الخبران
عنكما مشهورين». ولا معنى لأن يراد من الشهرة الإجماع.
وقد
يقال : إنّ شهرة الرواية في عصر الأئمّة عليهمالسلام توجب كون الخبر مقطوع الصدور ، وعلى الأقلّ توجب كونه
موثوقا بصدوره. وإذا كان كذلك فالشاذّ المعارض له ، إمّا مقطوع العدم ، أو موثوق
بعدمه ، فلا تعمّه أدلّة حجّيّة الخبر. وعليه ، فيخرج اقتضاء الشهرة في الرواية عن
مسألة ترجيح إحدى الحجّتين ، بل تكون لتمييز الحجّة عن اللاحجّة.
والجواب : أنّ الشاذّ المقطوع العدم لا يدخل في مسألتنا قطعا ، وأمّا
: الموثوق بعدمه من جهة حصول الثقة الفعليّة بمعارضه فلا يضرّ ذلك في كونه مشمولا
لأدلّة حجّيّة الخبر ؛ لأنّ الظاهر كفاية وثاقة الراوي في قبول خبره ، من دون
إناطة بالوثوق الفعليّ بخبره.
__________________
وقد تقدّم في
حجّيّة خبر الثقة أنّه لا يشترط حصول الظنّ الفعليّ به ، ولا عدم الظنّ بخلافه.
٤. الترجيح
بموافقة الكتاب :
في ذلك روايات
كثيرة :
منها : مقبولة ابن حنظلة المتقدّمة.
ومنها : خبر الحسن بن الجهم المتقدّم. فقد جاء في صدره : قلت له
: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ قال : «ما جاءك عنّا فقسه على كتاب الله ـ عزّ
وجلّ ـ وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا».
قال في «الكفاية»
: «إنّ في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا ، وجهه
قوّة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجّة ، بشهادة ما ورد في
أنّه زخرف وباطل ، وليس بشيء ، أو أنّه لم نقله ، أو أمر بطرحه على الجدار ...» .
أقول : في مسألة موافقة الكتاب ، ومخالفته طائفتان من الأخبار :
الأولى
: في بيان مقياس
أصل حجّيّة الخبر ، لا في مقام المعارضة بغيره ، وهي التي ورد فيها التعبيرات
المذكورة في «الكفاية» : «إنّه زخرف وباطل ...» إلى آخره . فلا بدّ أن تحمل هذه الطائفة على المخالفة لصريح الكتاب ؛ لأنّه هو الذي
يصحّ وصفه بأنّه زخرف وباطل ، ونحوهما.
والثانية : في بيان ترجيح أحد المتعارضين. وهذه لم يرد فيها مثل تلك
التعبيرات ، وقد قرأت بعضها. وينبغي أن تحمل على المخالفة لظاهر الكتاب ، لا لنصّه
، لا سيّما أنّ مورد بعضها ـ مثل المقبولة ـ في الخبر الذي لو كان وحده لأخذ به ،
وإنّما المانع من الأخذ به وجود المعارض ؛ إذ الأمر بالأخذ بالموافق وترك المخالف
وقع في المقبولة ، بعد
__________________
فرض كونهما
مشهورين قد رواهما الثقات ، ثمّ فرض السائل موافقتهما معا للكتاب بعد ذلك ؛ إذ قال
: «فإن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب ، والسنّة». ولا يكون ذلك إلاّ الموافقة
لظاهره ، وإلاّ لزم وجود نصّين متباينين في الكتاب ، كلّ ذلك يدلّ على أنّ المراد
من مخالفة الكتاب في المقبولة مخالفة الظاهر ، لا النصّ.
ويشهد لما قلناه
أيضا ما جاء في خبر الحسن ، المتقدّم : «فإن كان يشبههما فهو منّا» ؛ فإنّ التعبير
بكلمة «يشبههما» يشير إلى أنّ المراد الموافقة والمخالفة للظاهر.
٥. مخالفة العامّة
إنّ الأخبار
المطلقة الآمرة بالأخذ بما خالف العامّة وترك ما وافقها كلّها منقولة عن رسالة
للقطب الراونديّ ، وقد نقل عن الفاضل النراقيّ أنّه قال : «إنّها غير ثابتة عن القطب
ثبوتا شائعا ، فلا حجّية فيما نقل عنها».
وهناك رواية مرسلة
عن «الاحتجاج» تقدّمت في الرقم (١٠) لا حجّيّة فيها ؛ لضعفها بالإرسال. فينحصر الدليل في
المقبولة المتقدّمة ، وظاهرها ـ كما سبق قريبا ـ أنّ الترجيح بموافقة الكتاب
ومخالفة العامّة ، بعد فرض حجّيّة الخبرين في أنفسهما ، فتدلّ على الترجيح ، لا
على التمييز كما قيل.
والنتيجة أنّ المستفاد من الأخبار أنّ المرجّحات المنصوصة ثلاثة :
الشهرة ، وموافقة الكتاب والسنّة ، ومخالفة العامّة. وهذا ما استفاده الشيخ
الكلينيّ قدسسره في مقدّمة «الكافي».
__________________
المقام الثاني :
في المفاضلة بين المرجّحات
إنّ المرجّحات
جملتها ترجع إلى ثلاث نواح ، لا تخرج عنها :
١. ما يكون مرجّحا
للصدور ، ويسمّى «المرجّح الصدوريّ» ، ومعنى ذلك أنّ المرجّح يجعل صدور أحد
الخبرين أقرب من صدور الآخر. وذلك مثل موافقة المشهور وصفات الراوي.
٢. ما يكون مرجّحا
لجهة الصدور ، ويسمّى «المرجّح الجهتيّ» ؛ فإنّ صدور الخبر ـ المعلوم الصدور حقيقة
أو تعبّدا ـ قد يكون لجهة الحكم الواقعيّ ، وقد يكون لبيان خلافه لتقيّة ، أو
غيرها من مصالح إظهار خلاف الواقع. وذلك مثل ما إذا كان الخبر مخالفا للعامّة ،
فإنّه يرجّح ـ في مورد معارضته بخبر آخر موافق لهم ـ أنّ صدوره كان لبيان الحكم
الواقعيّ ؛ لأنّه لا يحتمل فيه إظهار خلاف الواقع ، بخلاف الآخر.
٣ ـ ما يكون مرجّحا
للمضمون ، ويسمّى : «المرجّح المضمونيّ». وذلك مثل موافقة الكتاب ، والسنّة ؛ إذ
يكون مضمون الخبر الموافق أقرب إلى الواقع في النظر.
وقد وقع الكلام في
هذه المرجّحات أنّها مترتّبة عند التعارض بينها أو أنّها في عرض واحد؟ على أقوال :
الأوّل : أنّها في عرض واحد ، فلو كان أحد الخبرين المتعارضين
واجدا لبعضها ، والخبر الآخر واجدا لبعض آخر ، وقع التزاحم بين الخبرين ، فيقدّم
الأقوى مناطا ، فإن لم يكن أحدهما أقوى مناطا تخيّر بينهما ، وهذا هو مختار الشيخ
صاحب الكفاية قدسسره .
الثاني : أنّها مترتّبة ، ويقدّم المرجّح الجهتيّ على غيره ،
فالمخالف للعامّة أولى بالتقديم على الموافق لهم وإن كان مشهورا. وهذا هو المنسوب
إلى الوحيد البهبهانيّ .
__________________
الثالث : أنها مترتّبة ، ولكن على العكس من الأوّل ـ أي إنّه
يقدّم المرجّح الصدوريّ على غيره ـ ، فيقدّم المشهور الموافق للعامّة على الشاذّ
المخالف لهم. وهذا هو ما ذهب إليه شيخنا النائينيّ .
الرابع : أنّها مترتّبة ، حسبما جاء في المقبولة ، أو في الروايات
الأخرى ، بأن يقدّم ـ مثلا حسبما يظهر من المقبولة ـ المشهور ، فإن تساويا في
الشهرة قدّم الموافق للكتاب ، والسنّة ، فإن تساويا في ذلك قدّم ما يخالف العامّة.
وهناك أقوال أخرى
، لا فائدة في نقلها.
وفي الحقيقة أنّ
هذا الخلاف ليس بمناط واحد ، بل يبتني على أشياء :
منها : أنّه يبتني على القول بوجوب الاقتصار على المرجّحات
المنصوصة ، فإنّ مقتضى ذلك أن يرجع إلى مدى دلالة أخبار الباب ، وإلى ما ينبغي من
الجمع بينها بالجمع العرفيّ فيما اختلفت فيه ، وقد وقع في ذلك كلام طويل لكثير من الأعلام ، يحتاج استقصاؤه إلى كثير من الوقت.
والذي نقوله ـ على
نحو الاختصار ـ أنّه يبدو من تتبّع الأخبار أنّه لا تفاضل في الترجيح بين الأمور
المذكورة فيها. ويشهد لذلك اقتصار جملة منها على واحد منها ، ثمّ ما جمع المرجّحات
منها كالمقبولة والمرفوعة ـ على تقدير الاعتماد عليها ـ لم
تذكرها [كلّها] ، كما لم تتّفق في الترتيب بينها.
__________________
نعم ، إنّ
المقبولة ـ التي هي عمدتنا في الباب ، والتي لم نستفد منها الترجيح بالصفات كما
تقدّم ـ ذكرت الشهرة أوّلا ، ويظهر منها أنّ الشهرة أكثر أهمّيّة من كلّ مرجّح . وأمّا : باقي المرجّحات فقد يقال : لا يظهر من المقبولة الترتيب بينها ، كيف؟
وقد جمعت بينها في الجواب عند ما فرض السائل الخبرين متساويين في الشهرة.
وعلى كلّ حال ،
فإنّ استفادة الترتيب بين المرجّحات من الأخبار مشكلة جدّا ، ما عدا تقديم الشهرة
على غيرها.
ومنها : أنّه يبتني ـ بعد فرض القول بالتّعدي إلى غير المرجّحات
المنصوصة ـ على أنّ القاعدة هل تقتضي تقديم المرجّح الصدوريّ على المرجّح الجهتيّ
، أو بالعكس ، أو لا تقتضي شيئا منهما؟ وعلى التقدير الثالث لا بدّ أن يرجع إلى
أقوائيّة المرجّح في الكشف عن مطابقة الخبر للواقع ، فكلّ مرجّح يكون أقوى من هذه
الجهة ـ أيّا كان ـ فهو أولى بالتقديم.
وقد أصرّ شيخنا
النائينيّ قدسسره على الأوّل ـ أي إنّه يرى أنّ القاعدة تقتضي تقديم المرجّح
الصدوريّ على المرجّح الجهتيّ ـ. وبنى ذلك على كون الخبر صادرا لبيان الحكم
الواقعي ، لا لغرض آخر يتفرّع على فرض صدوره حقيقة ، أو تعبّدا ؛ لأنّ جهة الصدور
من شئون الصادر ، فما لا صدور له لا معنى للكلام عنه أنّه صادر لبيان الحكم
الواقعيّ أو لبيان غيره. وعليه ، فإذا كان الخبر الموافق للعامّة مشهورا وكان
الخبر الشاذّ مخالفا لهم كان الترجيح للشهرة ، دون مخالفة الآخر للعامّة ؛ لأنّ
مقتضى الحكم بحجّية المشهور عدم حجّيّة الشاذّ ، فلا معنى لحمله على بيان الحكم
الواقعي ، ليحمل المشهور على التقيّة ؛ إذ لا تعبّد بصدور الشاذّ حينئذ.
أقول : إنّ المسلّم إنّما هو تأخّر رتبة الحكم بكون الخبر صادرا
لبيان الواقع أو لغيره عن الحكم بصدوره حقيقة ، أو تعبّدا ، وتوقّف الأوّل على
الثاني ، ولكن ذلك غير المدّعى ، وهو توقّف مرجّح الأوّل على مرجّح الثاني ، فإنّه
ليس المسلّم نفس المدّعى ، ولا يلزمه.
أمّا : أنّه ليس
نفسه فواضح ؛ لما قلناه من أنّ المسلّم هو توقّف الأوّل على الثاني ، وهو
__________________
بالبديهة غير
توقّف مرجّحه على مرجّحه الذي هو المدّعى.
وأمّا : أنّه لا
يستلزمه فكذلك واضح ، فإنّه إذا تصوّرنا هناك خبرين متعارضين : ١ ـ مشهورا موافقا
للعامّة. ٢ ـ شاذّا مخالفا لهم ؛ فإنّ الترجيح للشاذّ بالمخالفة إنّما يتوقّف على
حجّيّته الاقتضائيّة الثابتة له في نفسه ، لا على فعليّة حجّيّته ، ولا على عدم
فعليّة حجّيّة المشهور في قباله ، بل فعليّة حجّيّة الشاذّ تنشأ من الترجيح له
بالمخالفة ، ويترتّب عليها حينئذ عدم فعليّة حجّيّة المشهور.
وكذلك الترجيح
للمشهور بالشهرة إنّما يتوقّف على حجّيّته الاقتضائيّة الثابتة له في نفسه ، لا
على فعليّة حجّيّته ، ولا على عدم فعليّة حجّيّة الشاذّ في قباله ، بل فعليّة
حجّيّة المشهور تنشأ من الترجيح له بالشهرة ، ويترتّب عليها حينئذ عدم فعليّة
حجّيّة الشاذّ.
وعليه ، فكما لا
يتوقّف الترجيح بالشهرة على عدم فعليّة الشاذّ المقابل له ، كذلك لا يتوقّف
الترجيح بالمخالفة على عدم فعليّة المشهور المقابل له ، ومن ذلك يتّضح أنّه كما
يقتضي الحكم بحجّيّة المشهور عدم حجّيّة الشاذّ ، فلا معنى لحمله على بيان الحكم
الواقعيّ ، كذلك يقتضي الحكم بحجّيّة الشاذّ عدم حجّيّة المشهور ، فلا معنى لحمله
على بيان الحكم الواقعيّ. وليس الأوّل أولى بالتقديم من الثاني.
نعم ، إذا دلّ
دليل خاصّ ـ مثل المقبولة ـ على أولويّة الشهرة بالتقديم من المخالفة ـ فهذا شيء
آخر ـ هو مقتضى الدليل ، لا أنّه مقتضى القاعدة.
والنتيجة أنّه لا قاعدة هناك تقتضي تقديم أحد المرجّحات على الآخر ،
ما عدا الشهرة التي دلّت المقبولة على تقديمها ، وما عدا ذلك فالمقدّم هو الأقوى
مناطا ، ـ أي ما هو الأقرب إلى الواقع في نظر المجتهد ـ ، فإن لم يحصل التفاضل من
هذه الجهة فالقاعدة هي التساقط ، لا التخيير. ومع التساقط يرجع إلى الأصول
العمليّة التي يقتضيها المورد.
المقام الثالث :
في التعدّي عن المرجّحات المنصوصة
لقد اختلفت أنظار
الفقهاء في وجوب الترجيح بغير المرجّحات المنصوصة على أقوال :
__________________
١. وجوب التعدّي
إلى كلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع نوعا ، وهو القول المشهور ، ومال إليه الشيخ الأعظم قدسسره ، وجماعة من محقّقي أساتذتنا ، وزاد بعض الفقهاء الاعتبار في الترجيح بكلّ مزيّة ، وإن لم تفد الأقربيّة
إلى الواقع ، أو الصدور ، مثل تقديم الحظر على ما يتضمّن الإباحة.
٢. وجوب الاقتصار
على المرجّحات المنصوصة ، وهو الذي يظهر من كلام الشيخ الكلينيّ قدسسره في مقدّمة «الكافي»
، ومال إليه الشيخ صاحب الكفاية قدسسره. وهو لازم طريقة الأخباريّين في الاقتصار على نصوص الأخبار ، والجمود عليها.
٣. التفصيل بين
صفات الراوي ، فيجوز التعدّي فيها ، وبين غيرها ، فلا يجوز.
ولمّا كانت
المباني في الأصل في المتعارضين مختلفة فلا بدّ أن تختلف الأقوال في هذه المسألة
على حسبها ، فنقول :
أوّلا : إذا قلنا بأنّ الأصل في المتعارضين هو التساقط ـ وهو
المختار ـ فإنّ الأصل يقتضي عدم الترجيح ، إلاّ ما علم بدليل كون شيء مرجّحا ،
ولكن هذا الدليل هل يكفي فيه نفس دليل حجّيّة الأمارة ، أو يحتاج إلى دليل خاصّ
جديد؟
فإن قلنا : إنّ
دليل الأمارة كاف في الترجيح فلا شكّ في اعتبار كلّ مزيّة توجب الأقربيّة إلى
الواقع نوعا. والظاهر أنّ الدليل كاف في ذلك ، لا سيّما إذا كان دليلها بناء
العقلاء الذي
__________________
هو أقوى أدلّة
حجّيّتها ؛ فإنّ الظاهر أنّ بناءهم على العمل بكلّ ما هو أقرب إلى الواقع من
الخبرين المتعارضين ، أي إنّ العقلاء ، وأهل العرف في مورد التعارض بين الخبرين
غير المتكافئين لا يتوقّفون في العمل بما هو أقرب إلى الواقع في نظرهم ، ولا يبقون
في حيرة من ذلك ، وإن كانوا يعملون بالخبر الآخر المرجوح لو بقي وحده بلا معارض.
وإذا كان للعقلاء مثل هذا البناء العمليّ فإنّه يستكشف منه رضى الشارع ، وإمضاؤه
على ما تقدّم وجهه في خبر الواحد والظواهر.
وإن قلنا : إنّ
دليل الأمارة غير كاف ولا بدّ من دليل جديد ، فلا محالة يجب الاقتصار على
المرجّحات المنصوصة ، إلاّ إذا استفدنا من أدلّة الترجيح عموم الترجيح بكلّ مزيّة
توجب أقربيّة الأمارة إلى الواقع ، كما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدسسره ، فإنّه أكّد في «الرسائل»
على أنّ المستفاد من الأخبار أنّ المناط في الترجيح هو
الأقربيّة إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين ، من جهة أنّه أقرب من
دون مدخليّة خصوصيّة سبب ومزيّة. وقد ناقش هذه الاستفادة صاحب «الكفاية» ، فراجع .
ثانيا : إذا قلنا بأنّ القاعدة الأوّليّة في المتعارضين هو
التخيير فإنّ الترجيح على كلّ حال لا يحتاج إلى دليل جديد ، فإنّ احتمال تعيّن
الراجح كاف في لزوم الترجيح ؛ لأنّه يكون المورد من باب الدوران بين التعيين
والتخيير ، والعقل يحكم بعدم جواز تقديم المرجوح على الراجح ، لا سيّما في مقامنا
، وذلك لأنّه بناء على القول بالتخيير يحصل العلم بأنّ الراجح منجّز للواقع ، إمّا
تعيينا ، وإمّا تخييرا ، وكذلك هو معذّر عند المخالفة للواقع ، وأمّا : المرجوح
فلا يحرز كونه منجّزا ، ولا يكون العمل به معذّرا بالفعل لو كان مخالفا للواقع.
وعليه ، فيجوز
الاقتصار على العمل بالراجح بلا شكّ ؛ لأنّه معذّر قطعا على كلّ حال ، سواء وافق
الواقع أم خالفه ، ولا يجوز الاقتصار على العمل بالمرجوح ؛ لعدم إحراز كونه
معذّرا.
ثالثا : إذا قلنا بأنّ القاعدة الثانوية الشرعيّة في المتعارضين
هو التخيير ـ كما هو
__________________
المشهور ـ وإن
كانت القاعدة الأوّليّة العقليّة هي التساقط ، فلا بدّ أن نرجع إلى مقدار دلالة
أخبار الباب. فإن استفدنا منها التخيير مطلقا حتى مع وجود المرجّحات ، فذلك دليل
على عدم اعتبار الترجيح مطلقا بأيّ مرجح كان. وإن استفدنا منها التخيير في صورة
تكافؤ المتعارضين فقط ، فلا بدّ من استفادة الترجيح من نفس الأخبار ، إمّا بكلّ
مزيّة ، أو بخصوص المزايا المنصوصة ، وقد عرفت أنّ الشيخ الأعظم قدسسره يستفيد منها
العموم.
إذا عرفت ما
شرحناه فإنّك تعرف أنّ الحقّ على كلّ حال ما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدسسره الذي هو مذهب
المشهور ، وهو الترجيح بكلّ مزيّة توجب أقربيّة الأمارة إلى الواقع نوعا ، وذلك
بناء على المختار من أنّ القاعدة هي التساقط ؛ فإنّها مخصوصة بما إذا كان
المتعارضان متكافئين.
وأمّا : ما فيه
المزيّة الموجبة لأقربيّة الأمارة إلى الواقع في نظر الناظر فإنّ بناء العقلاء
مستقرّ على العمل بذي المزيّة الموجبة للأقربيّة إلى الواقع ـ كما تقدّم ـ ، ولا
نحتاج بناء على هذا إلى استفادة عموم الترجيح من الأخبار ، وإن كان الحقّ أنّ
الأخبار تشعر بذلك ، فهي تؤيّد ما نقول ، ولا حاجة إلى التطويل في بيان وجه
الاستفادة منها.
هذا آخر ما أردنا
بيانه في مسألة التعادل والتراجيح ، وبقيت هنا أبحاث كثيرة في هذه المسألة ، نحيل
الطالب فيها إلى المطوّلات.
والحمد لله ربّ
العالمين.
تمرينات (٦٥)
١. ما هي أصناف
المرجّحات؟
٢. هل تدلّ
الروايات على الترجيح بالأحدث أم لا؟
٣. هل تدلّ مقبولة
ابن حنظلة على الترجيح بالصفات؟
٤. هل تدلّ
الروايات على الترجيح بموافقة الكتاب؟
__________________
٥. ما الدليل على
الترجيح بالشهرة في الرواية؟
٦. ما الدليل على
الترجيح بمخالفة العامّة؟
٧. ما الفرق بين «المرجّح
الصدوري» ، و «المرجّح الجهتي» ، و «المرجّح المضموني»؟ وهل هذه المرجّحات مترتّبة
عند التعارض بينها ، أو أنّها في عرض واحد؟ اذكر الأقوال والراجح منها.
٨. ما هي الأقوال
في التعدّي عن المرجّحات المنصوصة؟ وما هو رأي المصنف؟
المقصد الرابع
مباحث
الأصول العمليّة
بسم الله
الرّحمن الرّحيم
تمهيد :
لا شكّ في أنّ كلّ
متشرّع يعلم علما إجماليّا بأنّ لله (تعالى) أحكاما إلزاميّة ـ من نحو الوجوب
والحرمة ـ يجب على المكلّفين امتثالها ، يشترك فيها العالم والجاهل بها.
وهذا «العلم
الإجماليّ» منجّز لتلك التكاليف الإلزاميّة الواقعيّة ، فيجب على المكلّف ـ بمقتضى حكم العقل بوجوب تفريغ الذمّة ممّا علم اشتغالها
به من تلك التكاليف ـ أن يسعى إلى تحصيل المعرفة بها بالطرق المؤمّنة له التي يعلم
بفراغ ذمّته باتّباعها.
ومن أجل هذا نذهب
إلى القول بوجوب المعرفة ، وبوجوب الفحص عن الأدلّة ، والحجج المثبتة لتلك الأحكام
، حتى يستفرغ المكلّف وسعه في البحث ، ويستنفد مجهوده الممكن له . وحينئذ ، إذا فحص المكلّف وتمّت له إقامة الحجّة على جميع الموارد
__________________
__________________
المحتملة كلّها
فذاك هو كلّ المطلوب ، وهو أقصى ما يرمي إليه المجتهد الباحث ، ويطلب منه ؛ ولكن
هذا فرض لم يتّفق حصوله لواحد من المجتهدين ، بأن تحصل له الأدلّة على الأحكام
الإلزاميّة كلّها ؛ لعدم توفّر الأدلّة على الجميع.
وأمّا : إذا فحص
ولم تتمّ إقامة الحجّة إلاّ على جملة من الموارد ، وبقيت لديه موارد أخرى ، يحتمل
فيها ثبوت التكليف ، ويتعذّر فيها إقامة الحجّة لأيّ سبب كان فإنّ المكلّف يقع لا محالة في حالة من الشكّ تجعله في حيرة من أمر تكليفه.
فما ذا تراه صانعا؟
هل هناك حكم عقليّ يركن إليه ويطمئنّ بالرجوع إلى مقتضاه؟ أو أنّ الشارع قد راعى
هذه الحالة للمكلّف لعلمه بوقوعه فيها ، فجعل له وظائف عمليّة يرجع إليها عند
الحاجة ، ويعمل بها لتطمينه من الوقوع في العقاب؟
هذه أسئلة يجب
الجواب عنها.
وهذا المقصد
الرابع وضع للجواب عنها ، ليحصل للمكلّف اليقين بوظيفته التي يجب عليه أن يعمل بها
عند الشكّ ، والحيرة.
وهذه الوظيفة أو
الوظائف هي التي تسمّى عند الأصوليّين بـ «الأصل العمليّ» ، أو «القاعدة الأصوليّة»
، أو «الدليل الفقاهتيّ».
وقد اتّضح لدى
الأصوليّين أنّ الوظيفة الجارية في جميع أبواب الفقه من غير اختصاص بباب دون باب
هي على أربعة أنواع :
١. أصالة البراءة.
٢. أصالة
الاحتياط.
٣. أصالة التخيير.
٤. أصالة
الاستصحاب.
__________________
ومن جميع ما تقدّم
يتّضح لنا :
أوّلا : أنّ موضوع هذا المقصد الرابع هو الشكّ في الحكم .
ثانيا : أنّ هذه الأصول الأربعة مأخوذ في موضوعها الشكّ في الحكم
أيضا.
ثمّ اعلم أنّ
الحصر في هذه الأصول الأربعة حصر استقرائي ؛ لأنّها هي التي وجدوا أنّها تجري في
جميع أبواب الفقه ، ولذا يمكن فرض أصول أخرى غيرها ولو في أبواب خاصّة من الفقه.
وبالفعل هناك جملة من الأصول في الموارد الخاصّة يرجع إليها الشاكّ في الحكم ، مثل
أصالة الطهارة الجارية في مورد الشكّ في الطهارة في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة.
وإنّما تعدّدت هذه
الأصول الأربعة لتعدّد مجاريها ـ أي مواردها التي تختلف باختلاف حالات الشكّ ـ ؛
إذ لكلّ أصل منها حالة من الشكّ هي مجراه على وجه لا يجري فيها غيره من باقي
الأصول.
غير أنّه ممّا يجب
علمه أنّ مجاري هذه الأصول لا تعرف ـ كما لا يعرف أنّ مجرى هذه الحالة هو مجرى هذا
الأصل مثلا ـ إلاّ من طريق أدلّة جريان هذه الأصول ، واعتبارها. وفي بعضها اختلاف
باختلاف الأقوال فيها.
وقد ذكر مشايخ
الأصول على سبيل الفهرس في مجاريها وجوها مختلفة ، لا يخلو بعضها من نقد وملاحظات.
وأحسنها ـ فيما يبدو ـ ما أفاد شيخنا النائيني قدسسره .
وخلاصته أنّ الشكّ على نحوين :
١. أن تكون
للمشكوك حالة سابقة وقد لاحظها الشارع ، أي قد اعتبرها. وهذا هو مجرى «الاستصحاب».
٢. ألاّ تكون له
حالة سابقة ، أو كانت ولكن لم يلاحظها الشارع. وهذه الحالة لا تخلو
__________________
عن إحدى صور ثلاث
:
أ : أن يكون
التكليف مجهولا مطلقا ـ أي لم يعلم حتى بجنسه ـ. وهذه هي مجرى «أصالة البراءة».
ب : أن يكون
التكليف معلوما في الجملة مع إمكان الاحتياط. وهذه مجرى «أصالة الاحتياط».
ج : أن يكون
التكليف معلوما كذلك ولا يمكن الاحتياط. وهذه مجرى «قاعدة التخيير».
وقبل الكلام في
كلّ واحدة من هذه الأصول لا بدّ من بيان أمور من باب المقدّمة ؛ تنويرا للأذهان.
وهي :
الأوّل : أنّ الشكّ في الشيء ينقسم باعتبار الحكم المأخوذ فيه على
نحوين :
١. أن يكون مأخوذا
موضوعا للحكم الواقعيّ ، كالشكّ في عدد ركعات الصلاة ؛ فإنّه قد يوجب في بعض
الحالات تبدّل الحكم الواقعيّ إلى الركعات المنفصلة.
٢. أن يكون مأخوذا
موضوعا للحكم الظاهريّ. وهذا النحو هو المقصود بالبحث في المقام. وأمّا النحو
الأوّل فهو يدخل في مسائل الفقه.
الثاني : أنّ الشكّ في الشيء ينقسم باعتبار متعلّقه ـ أي الشيء
المشكوك فيه ـ على نحوين :
١. أن يكون
المتعلّق موضوعا خارجيّا ، كالشكّ في طهارة ماء معيّن ، أو في أنّ هذا المائع
المعيّن خلّ أو خمر. وتسمّى الشبهة حينئذ «موضوعيّة».
٢. أن يكون
المتعلّق حكما كلّيّا ، كالشكّ في حرمة التدخين ، أو أنّه من المفطرات للصوم ، أو
نجاسة العصير العنبيّ إذا غلا قبل ذهاب ثلثيه. وتسمّى الشبهة حينئذ «حكميّة».
والشبهة الحكميّة
هي المقصودة بالبحث في هذا المقصد الرابع ، وإذا جاء التعرّض لحكم الشبهات
الموضوعيّة فإنّما هو استطراديّ قد تقتضيه طبيعة البحث ، باعتبار أنّ هذه الأصول
في طبيعتها تعمّ الشبهات الحكميّة والموضوعيّة في جريانها ، وإلاّ فالبحث عن
حكم الشكّ في
الشبهة الموضوعيّة من مسائل الفقه.
الثالث : أنّه قد علم ممّا تقدّم في صدر التنبيه أنّ الرجوع إلى
الأصول العمليّة إنّما يصحّ بعد الفحص واليأس من الظفر بالأمارة على الحكم الشرعيّ
في مورد الشبهة. ومنه يعلم أنّه مع الأمل ووجود المجال للفحص
لا وجه لإجراء الأصول والاكتفاء بها في مقام العمل ، بل اللازم أن يفحص حتى ييأس ؛
لأنّ ذلك هو مقتضى وجوب المعرفة والتعلّم ، فلا معذّر عن التكليف الواقعيّ لو وقع
في مخالفته بالعمل بالأصل ، لا سيّما مثل أصل البراءة.
تمرينات (٦٦)
١. ما هو محلّ
البحث في المقصد الرابع؟
٢. هل الحصر في
الأصول الأربعة حصر حقيقيّ ، أو استقرائيّ؟
٣. اذكر ما أفاد
المحقّق النائيني في مجاري الأصول الأربعة.
٤. اذكر أقسام
الشكّ باعتبار الحكم المأخوذ فيه.
٥. ما الفرق بين «الشبهة
الحكميّة» و «الشبهة الموضوعيّة»؟ وأيّتهما مقصودة بالبحث في المقصد الرابع؟
__________________
الاستصحاب
تعريفه
إذا تيقّن المكلّف
بحكم أو بموضوع ذي حكم ، ثمّ تزلزل يقينه السابق بأن شكّ في بقاء ما كان قد تيقّن
به سابقا ؛ فإنّه بمقتضى ذهاب يقينه السابق يقع المكلّف في حيرة من أمره في مقام
العمل ، هل يعمل على وفق ما كان متيقّنا به ـ ولكنّه ربما زال ذلك المتيقّن ، فيقع
في مخالفة الواقع ـ أو لا يعمل على وفقه ، فينقضي ذلك اليقين بسبب ما عراه من
الشكّ ، ويتحلّل ممّا تيقّن به سابقا ـ ولكنّه ربما كان المتيقّن باقيا على حاله
لم يزل ، فيقع في مخالفة الواقع ـ؟ إذن ما ذا تراه صانعا؟
لا شكّ أنّ هذه
الحيرة طبيعيّة للمكلّف الشاكّ ، فتحتاج إلى ما يرفعها من مستند شرعيّ ، فإن ثبت
بالدليل أنّ القاعدة هي أن يعمل على وفق اليقين السابق وجب الأخذ بها ، ويكون
معذورا لو وقع في المخالفة ، وإلاّ فلا بدّ أن يرجع إلى مستند يطمّنه من التحلّل
ممّا تيقّن سابقا ، ولو مثل أصل البراءة ، أو الاحتياط.
وقد ثبت لدى
الكثير من الأصوليين أنّ القاعدة في ذلك أن يأخذ بالمتيقّن السابق عند الشكّ
اللاحق في بقائه ، على اختلاف أقوالهم في شروط جريان هذه القاعدة ، وحدودها على ما
سيأتي. وسمّوا هذه القاعدة بـ «الاستصحاب».
وكلمة «الاستصحاب»
مأخوذة في أصل اشتقاقها من كلمة «الصحبة» من باب الاستفعال ، فتقول : «استصحبت هذا
الشخص» إذا اتّخذته صاحبا مرافقا لك. وتقول : «استصحبت هذا الشيء» إذا حملته معك.
وإنّما صحّ إطلاق
هذه الكلمة على هذه القاعدة في اصطلاح الأصوليّين باعتبار أنّ العامل بها يتّخذ ما
تيقّن به سابقا صحيبا له إلى الزمان اللاحق في مقام العمل.
وعليه ، فكما يصحّ
أن تطلق كلمة «الاستصحاب» على نفس الإبقاء العمليّ من الشخص المكلّف العامل ، كذلك
يصحّ إطلاقها على نفس القاعدة لهذا الإبقاء العمليّ ؛ لأنّ القاعدة في الحقيقة
إبقاء ، واستصحاب من الشارع حكما.
إذا عرفت ذلك
فينبغي أن يجعل التعريف لهذه القاعدة المجعولة ، لا لنفس الإبقاء العمليّ من
المكلّف العامل بالقاعدة ؛ لأنّ المكلّف يقال له : «عامل بالاستصحاب ، ومجر له» ،
وإن صحّ أن يقال له : «إنّه استصحب» ، كما يقال له : «أجرى الاستصحاب».
وعلى كلّ حال ،
فموضوع البحث هنا هو هذه القاعدة العامّة. والمقصود بالبحث إثباتها ، وإقامة
الدليل عليها ، وبيان مدى حدود العمل بها ، فلا وجه لجعل التعريف لذات الإبقاء
العمليّ الذي هو فعل العامل بالقاعدة ، كما صنع بعضهم ، فوقع في حيرة من توجيه التعريفات.
وإلى تعريف
القاعدة نظر من عرّف الاستصحاب بأنّه «إبقاء ما كان» ، فإنّ القاعدة في الحقيقة معناها إبقاؤه حكما . وكذلك من عرّفه بأنّه «الحكم ببقاء ما كان» . ولذا قال الشيخ الأنصاريّ قدسسره عن ذلك التعريف : «والمراد بالإبقاء : الحكم بالبقاء» ،
بعد أن قال : «إنّه أسدّ التعاريف وأخصرها».
ولقد أحسن وأجاد
في تفسير «الإبقاء» بالحكم بالبقاء ، ليدلّنا على أنّ المراد من «الإبقاء» حكما
الذي هو القاعدة ، لا الإبقاء عملا الذي هو فعل العامل بها.
وقد اعترض على هذا التعريف ـ الذي استحسنه الشيخ قدسسره ـ بعدّة أمور نذكر أهمّها ،
__________________
ونجيب عنها :
منها : [أنّه] لا جامع للاستصحاب بحسب المشارب فيه من جهة
المباني الثلاثة الآتية في حجّيّته ، وهي الأخبار ، وبناء العقلاء ، وحكم العقل.
فلا يصحّ أن يعبّر عنه «بالإبقاء» على جميع هذه المباني ؛ وذلك لأنّ المراد منه إن
كان الإبقاء العمليّ من المكلّف فليس بهذا المعنى موردا لحكم العقل ؛ لأنّ المراد
من حكم العقل هنا إذعانه ، كما سيأتي ، وإذعانه إنّما هو ببقاء الحكم ، لا بإبقائه
العمليّ من المكلّف. وإن كان المراد منه الإبقاء غير المنسوب إلى المكلّف ، فمن
الواضح أنّه لا جهة جامعة بين الإلزام الشرعيّ ـ الذي هو متعلّق بالإبقاء ـ وبين
البناء العقلائيّ ، والإدراك العقليّ.
والجواب يظهر ممّا سبق ؛ فإنّ المراد من الاستصحاب هو القاعدة في
العمل المجعولة من قبل الشارع ، وهي قاعدة واحدة في معناها على جميع المباني ،
غاية الأمر أنّ الدليل عليها تارة يكون الأخبار ، وأخرى بناء العقلاء ، وثالثة
إذعان العقل الذي يستكشف منه حكم الشرع.
ومنها : أنّ التعريف المذكور لا يتكفّل ببيان أركان الاستصحاب من
نحو اليقين السابق ، والشكّ اللاحق.
والجواب : أنّ التعبير «بإبقاء ما كان» مشعر بالركنين معا :
أمّا الأوّل : ـ وهو
اليقين السابق ـ فيفهم من كلمة «ما كان» ؛ لأنّه ـ كما أفاده الشيخ الأنصاريّ قدسسره ـ «دخل الوصف في
الموضوع مشعر بعلّيّته للحكم ، فعلّة الإبقاء أنّه كان ، فيخرج من التعريف إبقاء
الحكم ؛ لأجل وجود علّته ، أو دليله». وحينئذ ، لا يفرض
«أنّه كان» إلاّ إذا كان متيقّنا.
وأمّا الثاني : ـ وهو
الشكّ اللاحق ـ فيفهم من كلمة «الإبقاء» الذي معناه الإبقاء حكما ، وتنزيلا ،
وتعبّدا ، ولا يكون الحكم التعبّديّ التنزيليّ إلاّ في مورد مفروض فيه الشكّ في
الواقع الحقيقيّ ، بل مع عدم الشكّ في البقاء لا معنى لفرض الإبقاء ، وإنّما يكون
بقاء
__________________
للحكم ، ويكون
أيضا عملا بالحاضر ، لا بما كان.
مقوّمات الاستصحاب
بعد أن أشرنا إلى
أنّ لقاعدة الاستصحاب أركانا ، ـ نقول تعقيبا على ذلك ـ : إنّ هذه القاعدة تتقوّم
بعدّة أمور إذا لم تتوفّر فيها فإمّا ألاّ تسمّى استصحابا أو لا تكون مشمولة
لأدلّته الآتية . ويمكن أن ترتقي هذه المقوّمات إلى سبعة أمور ، حسبما
تقتنص من كلمات الباحثين :
١. «اليقين» : والمقصود به اليقين بالحالة السابقة ، سواء كانت حكما
شرعيّا ، أو موضوعا ذا حكم شرعيّ. وقد قلنا سابقا : إنّ ذلك ركن في الاستصحاب ؛ لأنّ المفهوم من الأخبار الدالّة عليه ، بل من
معناه أن يثبت يقين بالحالة السابقة ، وأنّ لثبوت هذا اليقين علّيّة في القاعدة.
ولا فرق في ذلك
بين أن نقول بأنّ اعتبار سبق اليقين من جهة كونه صفة قائمة بالنفس ، وبين أن نقول
بذلك من جهة كونه طريقا ، وكاشفا. وسيأتي بيان وجه الحقّ من القولين.
٢. «الشكّ» : والمقصود منه الشكّ في بقاء المتيقّن. وقد قلنا سابقا :
إنّه ركن في الاستصحاب ؛ لأنّه لا معنى لفرض هذه القاعدة ،
ولا للحاجة إليها ، مع فرض بقاء اليقين ، أو تبدّله بيقين آخر ، ولا يصحّ أن تجري
إلاّ في فرض الشكّ في بقاء ما كان متيقّنا. فالشكّ مفروغ عنه في فرض جريان قاعدة
الاستصحاب ، فلا بدّ أن يكون مأخوذا في موضوعها.
__________________
ولكن ينبغي ألاّ
يخفى أنّ المقصود من الشكّ ما هو أعمّ من الشكّ بمعناه الحقيقيّ ـ أي تساوي
الاحتمالين ـ ومن الظنّ غير المعتبر ، فيكون المراد منه عدم العلم والعلميّ مطلقا
، وستأتي الإشارة إلى سرّ ذلك.
٣. «اجتماع اليقين والشكّ
في زمان واحد» : بمعنى أن
يتّفق في آن واحد حصول اليقين والشكّ ، لا بمعنى أنّ مبدأ حدوثهما يكون في آن واحد
، بل قد يكون مبدأ حدوث اليقين قبل حدوث الشكّ ، كما هو المتعارف في أمثلة
الاستصحاب ، وقد يكونان متقارنين حدوثا ، كما لو علم يوم الجمعة ـ مثلا
ـ بطهارة ثوبه يوم الخميس ، وفي نفس يوم الجمعة في آن حصول العلم حصل له الشكّ في
بقاء الطهارة السابقة إلى يوم الجمعة ، وقد يكون مبدأ حدوث اليقين متأخّرا عن حدوث
الشكّ ، كما لو حدث الشكّ يوم الجمعة في طهارة ثوبه واستمرّ الشكّ إلى يوم السبت ،
ثمّ حدث له يقين يوم السبت في أنّ الثوب كان طاهرا يوم الخميس ، فإنّ كلّ هذه
الفروض هي مجرى للاستصحاب.
والوجه في اعتبار
اجتماع اليقين والشكّ في الزمان واضح ؛ لأنّ ذلك هو المقوّم لحقيقة الاستصحاب الذي
هو إبقاء ما كان ؛ إذ لو لم يجتمع اليقين السابق مع الشكّ اللاحق زمانا فإنّه لا
يفرض ذلك إلاّ فيما إذا تبدّل اليقين بالشكّ ، وسرى الشكّ إليه ، فلا يكون العمل
باليقين إبقاء لما كان ، بل هذا مورد قاعدة اليقين المباينة في حقيقتها لقاعدة
الاستصحاب ، وستأتي الإشارة إليها.
٤. «تعدّد زمان المتيقّن
والمشكوك» : ويشعر بهذا
الشرط نفس الشرط الثالث المتقدّم ؛ لأنّه مع فرض وحدة زمان اليقين والشكّ يستحيل
فرض اتّحاد زمان المتيقّن والمشكوك مع كون المتيقّن نفس المشكوك ، كما سيأتي
اشتراط ذلك في الاستصحاب أيضا.
__________________
وذلك ؛ لأنّ معناه
اجتماع اليقين والشكّ بشيء واحد ، وهو محال. والحقيقة أنّ وحدة زمان صفتي اليقين
والشكّ بشيء واحد تستلزم تعدّد زمان متعلّقهما ، وبالعكس ، أي إنّ وحدة زمان
متعلّقهما تستلزم تعدّد زمان الصفتين.
وعليه ، فلا يفرض
الاستصحاب إلاّ في مورد اتّحاد زمان اليقين والشكّ ، مع تعدّد زمان متعلّقهما.
وأمّا : في فرض
العكس ـ بأن يتعدّد زمانهما مع اتّحاد زمان متعلّقهما ، بأن يكون في الزمان اللاحق
شاكّا في نفس ما تيقّنه سابقا بوصف وجوده السابق ـ فإنّ هذا هو مورد ما يسمّى بـ «قاعدة
اليقين». والعمل باليقين لا يكون إبقاء لما كان ، مثلا : إذا تيقّن بحياة شخص يوم
الجمعة ، ثمّ شكّ يوم السبت في نفس حياته يوم الجمعة ، بأن سرى الشكّ إلى يوم
الجمعة ـ أي إنّه تبدّل يقينه السابق إلى الشكّ ـ فإنّ العمل على اليقين لا يكون
إبقاء لما كان ؛ لأنّه حينئذ لم يحرز ما كان تيقّن به أنّه كان. ومن أجل هذا
عبّروا عن مورد قاعدة اليقين «بالشكّ الساري».
وهذا هو الفرق
الأساسيّ بين القاعدتين. وسيأتي أنّ أخبار الاستصحاب لا تشملها ، ولا دليل عليها
غيرها.
٥. «وحدة متعلّق اليقين
والشكّ» : أي إنّ الشكّ
يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين ، مع قطع النظر عن اعتبار الزمان. وهذا هو المقوّم
لمعنى الاستصحاب الذي حقيقته إبقاء ما كان.
وبهذا تفترق قاعدة
الاستصحاب عن «قاعدة المقتضي والمانع» التي موردها ما لو حصل اليقين بالمقتضي
والشكّ في الرافع ـ أي المانع من تأثيره ـ ، فيكون المشكوك فيها غير المتيقّن.
فإنّ من يذهب إلى صحّة هذه القاعدة يقول : «إنّه يجب البناء على تحقّق المقتضى ـ بالفتح
ـ إذا تيقّن بوجود المقتضي ـ بالكسر ـ ، ويكفي ذلك بلا حاجة إلى إحراز عدم المانع
من تأثيره ، أي إنّ مجرّد إحراز المقتضي كاف في ترتيب آثار مقتضاه». وسيأتي الكلام
إن شاء الله (تعالى) فيها.
__________________
٦. «سبق زمان المتيقّن على
زمان المشكوك» : أي إنّه يجب
أن يتعلّق الشكّ ببقاء ما هو متيقّن الوجود سابقا ، وهذا هو الظاهر من معنى
الاستصحاب ، فلو انعكس الأمر ـ بأن كان زمان المتيقّن متأخّرا عن زمان المشكوك ،
بأن يشكّ في مبدأ حدوث ما هو متيقّن الوجود في الزمان الحاضر ـ فإنّ هذا يرجع إلى «الاستصحاب
القهقريّ» الذي لا دليل عليه. مثاله : ما لو علم بأنّ صيغة «افعل» حقيقة في الوجوب
في لغتنا الفعليّة الحاضرة ، وشكّ في مبدأ حدوث وضعها لهذا المعنى ، هل كان في أصل
وضع لغة العرب ، أو أنّها نقلت عن معناها الأصليّ إلى هذا المعنى في العصور
الإسلاميّة؟ فإنّه يقال هنا : «إنّ الأصل عدم النقل» ؛ لغرض إثبات أنّها موضوعة
لهذا المعنى في أصل اللغة. ومعنى ذلك في الحقيقة جرّ اليقين اللاحق إلى الزمن
المتقدّم. ومثل هذا الاستصحاب يحتاج إلى دليل خاصّ ، ولا تكفي فيه أخبار الاستصحاب
، ولا أدلّته الأخرى ؛ لأنّه ليس من باب عدم نقض اليقين بالشكّ ، بل يرجع أمره
إلى نقض الشكّ المتقدّم باليقين المتأخّر.
٧. «فعليّة الشكّ واليقين» : بمعنى أنّه لا يكفي الشكّ التقديريّ ، ولا اليقين
التقديريّ. واعتبار هذا الشرط لا من أجل أنّ الاستصحاب لا يتحقّق
معناه إلاّ بفرضه ، بل لأنّ ذلك مقتضى ظهور لفظ الشكّ واليقين في أخبار الاستصحاب
؛ فإنّهما ظاهران في كونهما فعليّين ، كسائر الألفاظ في ظهورها في فعليّة
عناوينها.
وإنّما يعتبر هذا
الشرط في قبال من يتوهّم جريان الاستصحاب في مورد الشكّ التقديريّ ، ومثاله ـ كما
ذكره بعضهم ـ : ما لو تيقّن المكلّف بالحدث ، ثمّ غفل عن حاله وصلّى ،
ثمّ بعد الفراغ من الصلاة شكّ في أنّه هل تطهّر قبل الدخول في الصلاة؟ فإنّ مقتضى
قاعدة الفراغ صحّة صلاته ؛ لحدوث الشكّ بعد الفرغ من العمل ، وعدم وجود الشكّ
قبله.
__________________
ولا نقول بجريان
استصحاب الحدث إلى حين الصلاة ؛ لعدم فعليّة الشكّ إلاّ بعد الصلاة.
وأمّا : الاستصحاب
الجاري بعد الصلاة فهو محكوم لقاعدة الفراغ.
أمّا : لو قلنا
بجريان الاستصحاب مع الشكّ التقديريّ ، وكان يقدّر فيه الشكّ في الحدث لو أنّه
التفت قبل الصلاة ، فإنّ المصلّي حينئذ يكون بمنزلة من دخل في الصلاة وهو غير
متطهّر يقينا ، فلا تصحّ صلاته وإن كان غافلا حين الصلاة ، ولا تصحّحها قاعدة
الفراغ ؛ لأنّها لا تكون حاكمة على الاستصحاب الجاري قبل الدخول في الصلاة.
معنى حجّيّة
الاستصحاب
من جملة المناقشات
في تعريف الاستصحاب المتقدّم ـ وهو إبقاء ما كان ونحوه ـ ما قاله بعضهم : «إنّه لا شكّ في صحّة وصف الاستصحاب بالحجّة ، مع أنّه لو أريد منه ما
يؤدّي معنى الإبقاء ، لا يصحّ وصفه بالحجّة ؛ لأنّه إن أريد منه الإبقاء العمليّ
المنسوب إلى المكلّف فواضح عدم صحّة وصفه بالحجّة ؛ لأنّه ليس الإبقاء العمليّ
يصحّ أن يكون دليلا على شيء وحجّة فيه. وإن أريد منه الإلزام الشرعيّ فإنّه مدلول
الدليل ، لا أنّه دليل على نفسه وحجّة على نفسه ، وكيف يكون دليلا على نفسه وحجّة
على نفسه؟! فهو من هذه الجهة شأنه شأن الأحكام التكليفيّة المدلولة للأدلّة».
قلت : نستطيع حلّ هذه الشبهة بالرجوع إلى ما ذكرناه ، من معنى
الإبقاء الذي هو مؤدّى الاستصحاب ، وهو أنّ المراد به القاعدة الشرعيّة المجعولة
في مقام العمل. فليس المراد منه الإبقاء العمليّ المنسوب إلى المكلّف ، ولا
الإلزام الشرعيّ ، فيصحّ وصفه بالحجّة ، ولكن لا بمعنى الحجّة في باب الأمارات ، بل
بالمعنى اللغويّ لها ؛ لأنّه لا معنى لكون قاعدة العمل دليلا على شيء ، مثبتة له
، بل هي الأمر المجعول من قبل الشارع ، فتحتاج إلى إثبات
__________________
ودليل ، كسائر
الأحكام التكليفيّة من هذه الجهة ، ولكنّه نظرا إلى أنّ العمل على وفقها عند الجهل
بالواقع يكون معذّرا للمكلّف ، إذا وقع في مخالفة الواقع ـ كما أنّه يصحّ الاحتجاج
بها على المكلّف ، إذا لم يعمل على وفقها فوقع في المخالفة ـ ، صحّ أن توصف بكونها
حجّة بالمعنى اللغويّ. وبهذه الجهة يصحّ أن توصف بالحجّة سائر الأصول العمليّة
والقواعد الفقهيّة المجعولة للشاكّ الجاهل بالواقع ، فإنّها كلّها توصف بالحجّة في
تعبيراتهم ، ولا شكّ في أنّه لا معنى لأن يراد منها الحجّة في باب الأمارات ،
فيتعيّن أن يراد منها هذا المعنى اللغويّ من الحجّة.
وبهذه الجهة تفترق
القواعد والأصول الموضوعة للشاكّ عن سائر الأحكام التكليفيّة ؛ فإنّها لا يصحّ
وصفها بالحجّة مطلقا ، حتى بالمعنى اللغويّ.
غير أنّه يجب ألاّ
يغيب عن البال أنّ وصف القواعد والأصول الموضوعة للشاكّ بالحجّة يتوقّف على ثبوت
مجعوليّتها من قبل الشارع بالدليل الدالّ عليها. فالحجّة في الحقيقة هي : القاعدة
المجعولة للشاكّ بما أنّها مجعولة من قبله ، وإلاّ إذا لم تثبت مجعوليّتها لا يصحّ
أن تسمّى «قاعدة» ؛ فضلا عن وصفها بالحجّة.
وعليه ، فيكون
المقوّم لحجّيّة القاعدة المجعولة للشاكّ ـ أيّة قاعدة كانت ـ هو الدليل الدالّ
عليها الذي هو حجّة بالمعنى الاصطلاحيّ.
وإذا ثبتت صحّة
وصف نفس قاعدة الاستصحاب بالحجّة بالمعنى اللغويّ لم تبق حاجة إلى التأويل ؛
لتصحيح وصف الاستصحاب بالحجّة ـ كما صنع بعض مشايخنا قدسسره ـ ؛ إذ جعل الموصوف بالحجّة فيه ـ على اختلاف المباني ـ أحد
أمور ثلاثة :
١. «اليقين السابق» ، باعتبار أنّه يكون منجّزا للحكم حدوثا عقلا ، والحكم
بقاء بجعل الشارع.
٢. «الظنّ بالبقاء اللاحق» ، بناء على اعتبار الاستصحاب من باب حكم العقل.
٣. «مجرّد الكون السابق» ، فإنّ الوجود السابق يكون حجّة في نظر العقلاء على
الوجود الظاهريّ في اللاحق ، لا من جهة وثاقة اليقين السابق ، ولا من جهة رعاية
الظنّ بالبقاء
__________________
اللاحق ، بل من
جهة الاهتمام بالمقتضيات ، والتحفّظ على الأغراض الواقعيّة.
فإنّ كلّ هذه
التأويلات إنّما نلتجئ إليها إذا عجزنا عن تصحيح وصف نفس الاستصحاب بالحجّة ، وقد
عرفت صحّة وصفه بالحجّة بمعناها اللغويّ.
ثمّ لا شكّ في أنّ
الموصوف بالحجّة في لسان الأصوليّين نفس الاستصحاب ، لا اليقين المقوّم لتحقّقه ،
ولا الظنّ بالبقاء ، ولا مجرّد الكون السابق ، وإن كان ذلك كلّه ممّا يصحّ وصفه
بالحجّة.
هل الاستصحاب
أمارة ، أو أصل؟
بعد أن تقدّم أنّه
لا يصحّ وصف قاعدة العمل للشاكّ ـ أيّة قاعدة كانت ـ بالحجّة في باب الأمارات
يتّضح لك أنّه لا يصحّ وصفها بالأمارة ؛ فإنّه تكون أمارة على أيّ شيء؟ وعلى أيّ
حكم؟ ولا فرق في ذلك بين قاعدة الاستصحاب ، وبين غيرها من الأصول العمليّة ،
والقواعد الفقهيّة ؛ إذ أنّ قاعدة الاستصحاب في الحقيقة مضمونها حكم عامّ ، وأصل
عمليّ يرجع إليها المكلّف عند الشكّ والحيرة في بقاء ما كان. ولا يفرق في ذلك بين
أن يكون الدليل عليها الأخبار ، أو غيرها من الأدلّة ، كبناء العقلاء ، وحكم العقل
، والإجماع. ولكنّ الشيخ الأنصاريّ رحمهالله فرّق في الاستصحاب بين أن يكون مبناه الأخبار فيكون أصلا ،
وبين أن يكون مبناه حكم العقل فيكون أمارة. قال ما نصّه :
«إنّ عدّ
الاستصحاب من الأحكام الظاهريّة الثابتة للشىء بوصف كونه مشكوك الحكم ، نظير أصل البراءة
، وقاعدة الاشتغال مبنيّ على استفادته من الأخبار. وأمّا : بناء على كونه من أحكام
العقل فهو دليل ظنّيّ اجتهاديّ ، نظير القياس ، والاستقراء على القول بهما».
أقول : وكأنّ من تأخّر عنه أخذ هذا الرأي إرسال المسلّمات.
والذي يظهر من القدماء أنّه معدود عندهم من الأمارات ؛ كالقياس ، إذ لا مستند لهم
عليه إلاّ حكم العقل. غير أنّ
__________________
الذي يبدو لي أنّ
الاستصحاب ـ حتى على القول بأنّ مستنده حكم العقل ـ لا يخرج عن كونه قاعدة عمليّة
ليس مضمونها إلاّ حكما ظاهريّا مجعولا للشاكّ. وأمّا : الظنّ ببقاء المتيقّن ـ على
تقدير حكم العقل ، وعلى تقدير حجّيّة مثل هذا الظنّ ـ لا يكون إلاّ مستندا للقاعدة
، ودليلا عليها ، وشأنه في ذلك شأن الأخبار وبناء العقلاء ، لا أنّ الظنّ هو نفس
القاعدة ، حتى تكون أمارة ؛ لأنّ هذا الظنّ نستنتج منه أنّ الشارع جعل هذه القاعدة
الاستصحابيّة لأجل العمل بها عند الشكّ ، والحيرة.
والحاصل
أنّ هذا الظنّ
يكون مستندا للاستصحاب ، لا أنّه نفس الاستصحاب ، وهو من هذه الجهة كالأخبار ،
وبناء العقلاء ، فكما أنّ الأخبار يصحّ أن توصف بأنّها أمارة على الاستصحاب إذا
قام الدليل القطعيّ على اعتبارها ، ولا يلزم من ذلك أن يكون نفس الاستصحاب أمارة ،
كذلك يصحّ أن يوصف هذا الظنّ بأنّه أمارة إذا قام الدليل القطعيّ على اعتباره ،
ولا يلزم منه أن يكون نفس الاستصحاب أمارة.
فاتّضح أنّه لا
يصحّ وصف الاستصحاب بأنّه أمارة على جميع المباني فيه ، وإنّما هو أصل عمليّ ، لا
غير.
الأقوال في
الاستصحاب
تشعّبت في
الاستصحاب أقوال العلماء بشكل يصعب حصرها على ما يبدو. ونحن نحيل خلاصتها إلى ما
جاء في رسائل الشيخ الأنصاريّ قدسسره ثقة بتحقيقه ، وهو خرّيت هذه الصناعة ، الصبور على ملاحقة
أقوال العلماء وتتبّعها. قال رحمهالله ـ بعد أن توسّع في نقل الأقوال ، والتعقيب عليها ـ ما نصّه
:
«هذه جملة ما
حضرني من كلمات الأصحاب ، والمتحصّل منها في بادئ النظر أحد عشر قولا :
الأوّل : القول بالحجّيّة مطلقا .
__________________
الثاني : عدمها مطلقا.
الثالث : التفصيل بين العدميّ والوجوديّ.
الرابع : التفصيل بين الأمور الخارجيّة ، وبين الحكم الشرعيّ
مطلقا ، فلا يعتبر في الأوّل.
الخامس : التفصيل بين الحكم الشرعيّ الكلّيّ وغيره. فلا يعتبر في
الأوّل إلاّ فى عدم النسخ.
السادس : التفصيل بين الحكم الجزئيّ وغيره ، فلا يعتبر في غير
الأوّل. وهذا هو الذي تقدّم أنّه ربما يستظهر من كلام المحقّق الخوانساريّ في «حاشية
شرح الدروس» على ما حكاه السيّد في «شرح الوافية».
السابع : التفصيل بين الأحكام الوضعيّة ـ يعني نفس الأسباب ،
والشروط ، والموانع ـ والأحكام التكليفية التابعة لها ، وبين غيرها من الأحكام
الشرعيّة ، فيجري في الأوّل دون الثاني.
__________________
الثامن : التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره ، فلا يعتبر في
الأوّل.
التاسع : التفصيل بين كون المستصحب ممّا ثبت بدليله أو من الخارج
استمراره ، فشكّ في الغاية الرافعة له ، وبين غيره ، فيعتبر في الأوّل دون الثاني
، كما هو ظاهر «المعارج».
العاشر : هذا التفصيل مع اختصاص الشكّ بوجود الغاية ، كما هو
الظاهر من المحقّق السبزواريّ فيما سيجيء من كلامه.
الحادي عشر : زيادة الشكّ في مصداق الغاية من جهة الاشتباه المصداقيّ
دون المفهوميّ ، كما هو ظاهر ما سيجيء من المحقّق الخوانساريّ.
ثمّ إنّه لو بني
على ملاحظة ظواهر كلمات من تعرّض لهذه المسألة في الأصول والفروع لزادت الأقوال
على العدد المذكور بكثير ، بل يحصل لعالم واحد قولان ، أو أزيد في المسألة ، إلاّ
أنّ صرف الوقت في هذا ممّا لا ينبغي.
__________________
والأقوى هو القول التاسع ، وهو الذي اختاره المحقّق». انتهى ما أردناه نقله من عبارة الشيخ الأعظم قدسسره.
وينبغي أن يزاد
تفصيل آخر ، لم يتعرّض له في نقل الأقوال ، وهو رأي خاصّ به ؛ إذ فصّل بين كون
المستصحب ممّا ثبت بدليل عقليّ ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، وبين ما ثبت بدليل آخر
، فيجري فيه. ولعلّه إنّما لم يذكره في ضمن الأقوال ؛ لأنّه يرى أنّ
الحكم الثابت بدليل عقليّ لا يمكن أن يتطرّق إليه الشكّ ، بل إمّا أن يعلم بقاؤه ،
أو يعلم زواله ، فلا يتحقّق فيه ركن الاستصحاب وهو الشكّ. فلا يكون ذلك تفصيلا في
حجّيّة الاستصحاب.
تمرينات (٦٧)
١. ما هو مجرى
الاستصحاب؟
٢. لم سمّيت قاعدة
الاستصحاب بـ «الاستصحاب»؟
٣. ما هو تعريف
الاستصحاب عند الشيخ الأنصاري؟
٤. اذكر ما أفاده
المحقّق الخراساني في الاعتراض على تعريف الشيخ ، واذكر الجواب عنه.
٥. ما هي مقوّمات
الاستصحاب؟
٦. ما الفرق بين
قاعدة الاستصحاب وقاعدة اليقين؟
٧. ما الفرق بين
قاعدة الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع؟
٨. ما هو
الاستصحاب القهقريّ؟
٩. هل توصف قاعدة الاستصحاب
بالحجّة؟
١٠. هل الاستصحاب
أمارة أو أصل؟ ما الدليل عليه؟
١١. اذكر الأقوال
في حجّيّة الاستصحاب.
__________________
وقبل أن ندخل في
مناقشة الأقوال ، والترجيح بينها ينبغي أن نذكر الأدلّة على الاستصحاب التي تمسّك
بها القائلون بحجّيّته ، لنناقشها ، ونذكر مدى دلالتها.
أدلّة الاستصحاب
الدليل الأوّل :
بناء العقلاء
لا شكّ في أنّ
العقلاء من الناس ـ على اختلاف مشاربهم وأذواقهم ـ جرت سيرتهم في عملهم ، وتبانوا
في سلوكهم العمليّ على الأخذ بالمتيقّن السابق عند الشكّ اللاحق في بقائه. وعلى
ذلك قامت معايش العباد ، ولو لا ذلك لاختلّ النظام الاجتماعيّ ، ولما قامت لهم سوق
وتجارة.
وقيل : إنّ ذلك مرتكز حتى في نفوس الحيوانات ؛ فالطيور ترجع إلى
أوكارها ، والماشية تعود إلى مرابضها.
ولكن هذا التعميم
للحيوانات محلّ نظر ، بل ينبغي أن يعدّ من المهازل ؛ لعدم حصول الاحتمال عندها حتى
يكون ذلك منها استصحابا ، بل تجري في ذلك على وفق عادتها بنحو لا شعوريّ.
وعلى كلّ حال ،
فإنّ بناء العقلاء في عملهم مستقرّ على الأخذ بالحالة السابقة عند الشكّ في بقائها
، في جميع أحوالهم وشئونهم ، مع الالتفات إلى ذلك ، والتوجّه إليه.
وإذا ثبتت هذه
المقدّمة ننتقل إلى مقدّمة أخرى ، فنقول : إنّ الشارع من العقلاء ، بل رئيسهم ،
فهو متّحد المسلك معهم ، فإذا لم يظهر منه الردع عن طريقتهم العمليّة ، يثبت على
سبيل القطع أنّه ليس له مسلك آخر غير مسلكهم ، وإلاّ لظهر ، وبان ، ولبلغ الناس.
وقد تقدّم مثل ذلك في حجّيّة خبر الواحد.
وهذا الدليل ـ كما
ترى ـ يتكوّن من مقدّمتين قطعيّتين :
__________________
١. ثبوت بناء
العقلاء على إجراء الاستصحاب.
٢. كشف هذا البناء
عن موافقة الشارع ، واشتراكه معهم.
وقد وقعت المناقشة
في المقدّمتين معا. ويكفي في المناقشة ثبوت الاحتمال ، فيبطل به الاستدلال ؛ لأنّ
مثل هذه المقدّمات يجب أن تكون قطعيّة ، وإلاّ فلا يثبت بها المطلوب ، ولا تقوم
بها للاستصحاب ونحوه حجّة.
أمّا
الأولى : فقد ناقش فيها
أستاذنا الشيخ النائينيّ رحمهالله بأنّ بناء العقلاء لم يثبت إلاّ فيما إذا كان الشكّ في
الرافع ، أمّا : إذا كان الشكّ في المقتضي فلم يثبت منهم هذا البناء ـ على ما
سيأتي من معنى المقتضي والرافع اللذين يقصدهما الشيخ الأنصاريّ قدسسره ـ ، فيكون بناء العقلاء هذا دليلا على التفصيل المختار له
، وهو القول التاسع.
ولا يبعد صحّة ما
أفاده من التفصيل في بناء العقلاء ، بل يكفي احتمال اختصاص بنائهم بالشكّ في
الرافع. ومع الاحتمال يبطل الاستدلال ، كما سبق.
وأمّا
المقدّمة الثانية : فقد ناقش فيها شيخنا الآخوند قدسسره في الكفاية بوجهين نذكرهما ،
ونذكر الجواب عنهما :
أوّلا : أنّ بناء العقلاء لا يستكشف منه اعتبار الاستصحاب عند
الشارع إلاّ إذا أحرزنا أنّ منشأ بنائهم العمليّ هو التعبّد بالحالة السابقة من
قبلهم ـ أي إنّهم يأخذون بالحالة السابقة من أجل أنّها سابقة ـ ، لنستكشف منه
تعبّد الشارع. ولكن ليس هذا بمحرز منهم لو لم يكن مقطوع العدم ؛ فإنّه من الجائز
قريبا أنّ أخذهم بالحالة السابقة لا لأجل أنّها حالة سابقة ، بل لأجل رجاء تحصيل
الواقع مرّة ، أو لأجل الاحتياط أخرى ، أو لأجل اطمئنانهم ببقاء ما كان ثالثة ، أو
لأجل ظنّهم بالبقاء ولو نوعا رابعة ، أو لأجل غفلتهم عن الشكّ أحيانا خامسة. وإذا
كان الأمر كذلك فلم يحرز تعبّد الشارع بالحالة السابقة الذي هو النافع في المقصود.
والجواب : أنّ المقصود النافع من ثبوت بناء العقلاء هو ثبوت
تبانيهم العمليّ على الأخذ
__________________
بالحالة السابقة ،
وهذا ثابت عندهم من غير شكّ ، أي إنّ لهم قاعدة عمليّة تبانوا عليها وو اتّبعوها
أبدا ، مع الالتفات والتوجّه إلى ذلك . أمّا : فرض
الغفلة من بعضهم أحيانا فهو صحيح ، ولكن لا يضرّ في ثبوت التباني منهم دائما مع
الالتفات ؛ ولا يضرّ في استكشاف مشاركة الشارع معهم في تبانيهم اختلاف أسباب
التباني عندهم ، من جهة مجرّد الكون السابق ، أو من جهة الاطمئنان عندهم ، أو
الظنّ لأجل الغلبة ، أو لأيّ شيء آخر من هذا القبيل ، فهي قاعدة ثابتة عندهم ،
فتكون ثابتة أيضا عند الشارع ، ولا يلزم أن يكون ثبوتها عنده من جميع الأسباب التي
لاحظوها. وإذا ثبتت عند الشارع فليس ثبوتها عنده إلاّ التعبّد بها من قبله ، فتكون
حجّة على المكلّف ، وله.
نعم ، احتمال كون
السبب في بنائهم ولو أحيانا رجاء تحصيل الواقع ، أو الاحتياط من قبلهم قد يضرّ في
استكشاف ثبوتها عند الشارع كقاعدة ؛ لأنّها لا تكون عندهم كقاعدة ؛ لأجل الحالة
السابقة ، ولكنّ الرجاء بعيد جدّا من قبلهم ما لم يكن هناك عندهم اطمئنان ، أو ظنّ
، أو تعبّد بالحالة السابقة ؛ لاحتمال أنّ الواقع غير الحالة السابقة ، بل قد
يترتّب على عدم البقاء أغراض مهمّة ، فالبناء على البقاء خلاف الرجاء. وكذلك
الاحتياط قد يقتضي البناء على عدم البقاء. فهذه الاحتمالات ساقطة في كونها سببا
لتباني العقلاء ولو أحيانا.
ثانيا : بعد التسليم بأنّ منشأ بناء العقلاء هو التعبّد ببقاء ما
كان ، نقول : إنّ هذا لا يستكشف منه حكم الشارع إلاّ إذا أحرزنا رضاه ببنائهم ،
وثبت لدينا أنّه ماض عنده. ولكن لا دليل على هذا الرضا والإمضاء ، بل إنّ عمومات
الآيات والأخبار الناهية عن اتّباع غير العلم كافية في الردع عن اتّباع بناء
العقلاء. وكذلك ما دلّ على البراءة والاحتياط في الشبهات. بل احتمال
عمومها للمورد كاف في تزلزل اليقين بهذه المقدّمة. فلا وجه لاتّباع هذا البناء ؛
إذ لا بدّ في اتّباعه من قيام الدليل على أنّه ممضى من قبل
__________________
الشارع ، ولا
دليل.
والجواب ظاهر من
تقريبنا للمقدّمة الثانية على النحو الذي بيّنّاه ، فإنّه لا يجب في كشف موافقة
الشارع إحراز إمضائه من دليل آخر ؛ لأنّ نفس بناء العقلاء هو الدليل ، والكاشف عن
موافقته ـ كما تقدّم ـ ، فيكفي في المطلوب عدم ثبوت الردع ، ولا حاجة إلى دليل آخر
على إثبات رضاه وإمضائه.
وعليه ، فلم يبق
علينا إلاّ النظر في الآيات والأخبار الناهية عن اتّباع غير العلم في أنّها صالحة
للردع في المقام ، أو غير صالحة؟ والحقّ أنّها غير صالحة ؛ لأنّ المقصود من النهي عن اتّباع غير العلم هو النهي عنه لإثبات الواقع به ،
وليس المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع ، فلا يشمل هذا النهي الاستصحاب الذي هو
قاعدة كلّيّة يرجع إليها عند الشكّ ، فلا ترتبط بالموضوع الذي نهت عنه الآيات
والأخبار ، حتى تكون شاملة لمثله ، أي إنّ الاستصحاب خارج عن الآيات والأخبار
تخصّصا.
وأمّا : ما دلّ
على البراءة أو الاحتياط فهو في عرض الدليل على الاستصحاب ، فلا يصلح للردع عنه ؛
لأنّ كلاّ منهما موضوعه الشكّ ، بل أدلّة الاستصحاب مقدّمة على أدلّة هذه الأصول ،
كما سيأتي.
الدليل الثاني :
حكم العقل
والمقصود منه هنا
هو حكم العقل النظريّ لا العمليّ ؛ إذ يذعن بالملازمة بين العلم بثبوت الشيء في
الزمان السابق وبين رجحان بقائه في الزمان اللاحق عند الشكّ في بقائه ، أي إنّه
إذا علم الإنسان بثبوت شيء في زمان ثمّ طرأ ما يزلزل العلم ببقائه في الزمان
اللاحق فإنّ العقل يحكم برجحان بقائه ، وبأنّه مظنون البقاء. وإذا حكم العقل برجحان
البقاء فلا بدّ أن يحكم الشرع أيضا برجحان البقاء.
وإلى هذا يرجع ما
نقل عن العضديّ في تعريف الاستصحاب بأنّ : «معناه أنّ الحكم
__________________
الفلانيّ قد كان
ولم يعلم عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو مظنون البقاء».
أقول : وهذا الحكم من العقل لا ينهض دليلا على الاستصحاب على ما
سنشرحه ، والظاهر أنّ القدماء القائلين بحجّيّته لم يكن عندهم دليل عليه ، غير هذا
الدليل ، كما يظهر جليّا من تعريف العضدي المتقدّم ؛ إذ أخذ فيه نفس حكم العقل هذا
، ولعلّه لأجل هذا أنكره من أنكره من قدماء أصحابنا ؛ إذ لم يتنبّهوا إلى أدلّته
الأخرى على ما يظهر ، فإنّه أوّل من تمسّك ببناء العقلاء العلاّمة الحلّيّ قدسسره في النهاية ، وأوّل من تمسّك بالأخبار الشيخ عبد الصمد والد الشيخ البهائيّ قدسسرهما ، تبعه صاحب الذخيرة ، وشارح الدروس ،
، وشاع بين من تأخّر عنهم ، كما حقّق ذلك الشيخ الأنصاريّ قدسسره في رسائله في الأمر الأوّل من مقدّمات الاستصحاب ، ثمّ قال
: «نعم ، ربما يظهر من الحلّيّ في السرائر الاعتماد على هذه الأخبار ، حيث عبّر عن
استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه بعدم نقض اليقين إلاّ
باليقين. وهذه العبارة ظاهرة في أنّها مأخوذة من الأخبار».
وعلى كلّ حال ،
فهذا الدليل العقليّ فيه مجال للمناقشة من وجهين :
الأوّل : في أصل الملازمة العقليّة المدّعاة. ويكفي في تكذيبها
الوجدان ؛ فإنّا نجد أنّ كثيرا ما يحصل العلم بالحالة السابقة ، ولا يحصل الظنّ
ببقائها عند الشكّ ؛ لمجرّد ثبوتها سابقا.
الثاني : على تقدير تسليم هذه الملازمة ، فإنّ أقصى ما يثبت بها
حصول الظنّ بالبقاء ، وهذا الظنّ لا يثبت به حكم الشرع إلاّ بضميمة دليل آخر يدلّ
على حجّيّة هذا الظنّ
__________________
بالخصوص ؛ ليستثنى
ممّا دلّ على حرمة التعبّد بالظنّ ، والشأن كلّ الشأن في إثبات هذا الدليل. فلا
تنهض هذه الملازمة العقليّة ـ على تقديرها ـ دليلا بنفسها على الحكم الشرعيّ. ولو
كان هناك دليل على حجّيّة هذا الظنّ بالخصوص ، لكان هو الدليل على الاستصحاب لا
الملازمة ، وإنّما تكون الملازمة محقّقة لموضوعه.
ثمّ ما المراد من
قولهم : «إنّ الشارع يحكم برجحان البقاء على طبق حكم العقلاء »؟ ، فإنّه على إطلاقه موجب للإيهام والمغالطة ؛ فإنّه إن كان المراد أنّه
يظنّ بالبقاء كما يظنّ سائر الناس فلا معنى له. وإن كان المراد أنّه يحكم بحجّيّة
هذا الرجحان فهذا لا تقتضيه الملازمة بل يحتاج إثبات ذلك إلى دليل آخر ، كما
ذكرنا. وإن كان المراد أنّه يحكم بأنّ البقاء مظنون وراجح عند الناس ـ أي يعلم
بذلك ـ ، فهذا وإن كان تقتضيه الملازمة ، ولكن هذا المقدار غير نافع ، ولا يكفي
وحده في إثبات المطلوب ؛ إذ لا يكشف مجرّد علمه بحصول الظنّ عند الناس عن اعتباره
لهذا الظنّ ، ورضاه به. والنافع في الباب إثبات هذا الاعتبار من قبله للظنّ ، لا
حكمه بأنّ هذا الشيء مظنون البقاء عند الناس.
الدليل الثالث :
الإجماع
نقل جماعة الاتّفاق
على اعتبار الاستصحاب. منهم : صاحب المبادئ على ما نقل عنه ، إذ قال : «الاستصحاب [: الأقرب أنّه] حجّة [... و] لإجماع الفقهاء على أنّه
متى حصل حكم ثمّ وقع الشكّ في أنّه طرأ ما يزيله أم لا؟ وجب الحكم ببقائه على ما
كان أوّلا» .
أقول : إنّ تحصيل الإجماع في هذه المسألة مشكل جدّا ؛ لوقوع
الاختلافات الكثيرة فيها ـ كما سبق ـ ، إلاّ أن يراد منه حصول الإجماع في الجملة
على نحو الموجبة الجزئيّة في مقابل السلب الكلّي ، وهذا الإجماع بهذا المقدار
قطعيّ. ألا ترى أنّ الفقهاء في مسألة «من تيقّن بالطهارة وشكّ في الحدث أو الخبث»
قد اتّفقت كلمتهم من زمن الشيخ
__________________
الطوسيّ قدسسره ، بل من قبله إلى
زماننا الحاضر على ترتيب آثار الطهارة السابقة بلا نكير منهم ، وكذا في كثير من
المسائل ممّا هو نظير ذلك. ومعلوم أنّ فرض كلامهم في مورد الشكّ اللاحق لا في مورد
الشكّ الساري ، فلا يكون حكمهم بذلك من جهة قاعدة اليقين ، بل ولا من جهة قاعدة
المقتضي والمانع.
والحاصل
أنّ هذا ومثله
يكفي في الاستدلال على اعتبار الاستصحاب في الجملة في مقابل السلب الكلّي ، وهو
قطعيّ بهذا المقدار. ويمكن حمل قول منكر الاستصحاب مطلقا على إنكار حجّيّته من
طريق الظنّ ، لا من أيّ طريق كان ، في مقابل من قال بحجّيّته لأجل تلك الملازمة
العقليّة المدّعاة.
نعم ، دعوى
الإجماع على حجّيّة مطلق الاستصحاب ، أو في خصوص ما
إذا كان الشكّ في الرافع في غاية الإشكال ، بعد ما عرفت من تلك الأقوال.
الدليل الرابع :
الأخبار
وهي العمدة في
إثبات الاستصحاب ، وعليها التعويل ، وإذا كانت أخبار آحاد فقد تقدّم حجّيّة خبر
الواحد ، مضافا إلى أنّها مستفيضة ، ومؤيّدة بكثير من القرائن العقليّة ،
والنقليّة. وإذا كان الشيخ الأنصاريّ قدسسره قد شكّ فيها بقوله : «هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار
المستدلّ بها للاستصحاب ، وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها ، وعدم صحّة الظاهر منها»
، فإنّها في الحقيقة هي جلّ اعتماده في مختاره ، وقد عقّب
هذا الكلام بقوله : «فلعلّ الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد» ، ثمّ أيّدها بالأخبار الواردة في الموارد الخاصّة :
__________________
١. صحيحة زرارة
الأولى :
وهي مضمرة ؛ لعدم
ذكر الإمام المسئول فيها ، ولكنّه ـ كما قال الشيخ الأنصاريّ قدسسره ـ لا يضرّها
الإضمار ، والوجه في ذلك أنّ زرارة لا يروي عن غير الإمام لا سيّما مثل هذا الحكم بهذا البيان ، والمنقول عن
فوائد العلاّمة الطباطبائيّ أنّ المقصود به الإمام الباقر عليهالسلام .
قال : قلت له :
الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟
فقال : «يا زرارة!
قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب فقد وجب
الوضوء».
قلت : فإن حرّك في
جنبه شيء وهو لا يعلم؟
قال : «لا ، حتى
يستيقن أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن. وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه. ولا ينقض اليقين بالشكّ
أبدا. ولكنّه ينقضه بيقين آخر».
ونذكر في هذه
الصحيحة بحثين :
الأوّل : في فقهها ، ولا يخفى أنّ فيها سؤالين :
أوّلهما : عن شبهة مفهوميّة حكميّة لغرض معرفة سعة موضوع النوم من
جهة كونه ناقضا للوضوء ؛ إذ لا شكّ في أنّه ليس المقصود السؤال عن معنى النوم لغة
ولا عن كون
__________________
الخفقة أو
الخفقتين ناقضة للوضوء على نحو الاستدلال في مقابل النوم ، فينحصر أن يكون مراده ـ
والجواب قرينة على ذلك أيضا ـ هو السؤال عن شمول النوم الناقض للخفقة والخفقتين ،
مع علم السائل بأنّ النوم في نفسه له مراتب تختلف شدّة وضعفا ، ومنها الخفقة
والخفقتان ، ومع علمه بأنّ النوم ناقض للوضوء في الجملة ؛ فلذلك أجاب الإمام
بتحديد النوم الناقض ، وهو الذي تنام فيه العين ، والقلب ، والأذن معا. أمّا : ما
تنام فيه العين دون القلب والأذن ـ كما في الخفقة والخفقتين ـ فليس ناقضا.
وأمّا السؤال
الثاني : فهو ـ لا شكّ ـ عن الشبهة الموضوعيّة بقرينة الجواب ؛ لأنّه لو كان مراد
السائل الاستفهام عن مرتبة أخرى من النوم ـ [وهي] التي لا يحسّ معها بما يتحرّك في
جنبه ـ لكان ينبغي أن يرفع الإمام شبهته بتحديد آخر للنوم الناقض. ولو كانت شبهة
السائل شبهة مفهوميّة حكميّة ، لما كان معنى لفرض الشكّ في الحكم الواقعي فى جواب
الإمام ، ثمّ إجراء الاستصحاب ، ولما صحّ أن يفرض الإمام استيقان السائل بالنوم
تارة ، وعدم استيقانه أخرى ؛ لأنّ الشبهة لو كانت مفهوميّة حكميّة لكان السائل
عالما بأنّ هذه المرتبة هي من النوم ، ولكن يجهل حكمها كالسؤال الأوّل.
وإذا كان الأمر
كذلك ، فالجواب الأخير إذا كان متضمّنا لقاعدة الاستصحاب ـ كما سيأتي ـ فموردها
يكون حينئذ خصوص الشبهة الموضوعيّة ، فيقال حينئذ : لا يستكشف من إطلاق الجواب
عموم القاعدة للشبهة الحكميّة الذي يهمّنا بالدرجة الأولى إثباته ؛ إذ يكون المورد
من قبيل القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، وقد تقدّم في المقصد الأوّل أنّ ذلك
يمنع من التمسّك بالإطلاق وإن لم يكن صالحا للقرينيّة ؛ لما هو المعروف أنّ المورد لا يخصّص العامّ ، ولا يقيّد المطلق.
نعم ، قد يقال في
الجواب : إنّ كلمة «أبدا» لها من قوّة الدلالة على العموم ، والإطلاق ما لا يحدّ
منها القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، فهي تعطي في ظهورها القويّ أنّ كلّ يقين ـ مهما
كان متعلّقه وفي أيّ مورد كان ـ لا ينقض بالشكّ أبدا.
الثاني : في دلالتها على الاستصحاب ، وتقريب الاستدلال بها أنّ
قوله عليهالسلام : «فإنّه على
__________________
يقين من وضوئه»
جملة خبريّة هي جواب الشرط . ومعنى هذه الجملة الشرطيّة أنّه إن لم يستيقن بأنّه قد
نام فإنّه باق على يقين من وضوئه ، أي إنّه لم يحصل ما يرفع اليقين به ، وهو
اليقين بالنوم. وهذه مقدّمة تمهيديّة ، وتوطئة لبيان أنّ الشكّ ليس رافعا لليقين ،
وإنّما الذي يرفعه اليقين بالنوم ، وليس الغرض منها إلاّ بيان أنّه على يقين من
وضوئه ، ليقول ثانيا : إنّه لا ينبغي أن يرفع اليد عن هذا اليقين ؛ إذ لا موجب
لانحلاله ورفع اليد عنه إلاّ الشكّ الموجود ، والشكّ بما هو شكّ لا يصلح أن يكون
رافعا ، وناقضا لليقين ، وإنّما ينقض اليقين اليقين ، لا غير.
فقوله : «وإلاّ
فإنّه على يقين من وضوئه» بمنزلة الصغرى ، وقوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ أبدا»
بمنزلة الكبرى. وهذه الكبرى مفادها قاعدة الاستصحاب ، وهي البناء على اليقين
السابق وعدم نقضه بالشكّ اللاحق ؛ فيفهم منها أنّ كلّ يقين سابق لا ينقضه الشكّ
اللاحق.
هذا ، وقد وقعت
المناقشة في الاستدلال بهذه الصحيحة من عدّة وجوه :
منها : ما أفاده الشيخ الأنصاريّ قدسسره ، إذ قال : «ولكن
مبنى الاستدلال على كون اللام في «اليقين» للجنس ؛ إذ لو كانت للعهد لكانت الكبرى
المنضمّة إلى الصغرى : ولا ينقض اليقين بالوضوء بالشكّ ، فيفيد قاعدة كلّيّة في
باب الوضوء» إلى آخر ما أفاده. ولكنّه استظهر أخيرا كون اللام للجنس.
__________________
__________________
أقول : إنّ كون اللام للعهد يقتضي أن يكون المراد من اليقين في
الكبرى شخص اليقين المتقدّم ، فإنّ هذا هو معنى العهد. وعليه ، فلا تفيد قاعدة
كلّيّة حتى في باب الوضوء.
ومنه تتّضح غرابة
احتمال إرادة العهد من اللام ، بل ذلك مستهجن جدّا ، فإنّ ظاهر الكلام هو تطبيق
كبرى على صغرى ، لا سيّما مع إضافة كلمة «أبدا» ، فيتعيّن أن تكون اللام للجنس.
ولكن مع ذلك هذا
وحده غير كاف في التعميم لكلّ يقين حتى في غير الوضوء ؛ لإمكان أن يراد جنس اليقين
بالوضوء ، بقرينة تقييده في الصغرى به ، لا كلّ يقين ، فيكون ذلك من قبيل القدر المتيقّن
في مقام التخاطب ، فيمنع من التمسّك بالإطلاق ـ كما سبق نظيره ـ. وهذا الاحتمال لا
ينافي كون الكبرى كلّيّة ، غاية الأمر تكون كبرى كلّيّة خاصّة بالوضوء.
فيتّضح أنّ مجرّد
كون اللام للجنس لا يتمّ به الاستدلال مع تقدّم ما يصلح للقرينية ، ولعلّ هذا هو
مراد الشيخ قدسسره من التعبير بالعهد ، ومقصوده تقدّم القرينة ، فكان ذلك تسامحا في التعبير.
وعلى كلّ حال ،
فالظاهر من الصحيحة ـ ظهورا قويّا ـ إرادة مطلق اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء ،
وذلك لمناسبة الحكم والموضوع ؛ فإنّ المناسب لعدم النقض بالشكّ بما هو شكّ هو اليقين
بما هو يقين ، لا بما هو يقين بالوضوء ؛ لأنّ المقابلة بين الشكّ واليقين ، وإسناد
عدم النقض إلى الشكّ تجعل اللفظ كالصريح في أنّ العبرة في عدم جواز النقض هو جهة
اليقين بما هو يقين ، لا اليقين المقيّد بالوضوء من جهة كونه مقيّدا بالوضوء.
ولا يصلح ذكر قيد «من
وضوئه» في الصغرى أن يكون قرينة على التقييد في الكبرى ، ولا أن يكون من قبيل
القدر المتيقّن في مقام التخاطب ؛ لأنّ طبيعة الصغرى أن تكون في دائرة أضيق من
دائرة الكبرى ، ومفروض المسألة في الصغرى باب الوضوء ، فلا بدّ من ذكره.
وعليه ، فلا يبعد
أن [يكون] مؤدّى الصغرى هكذا : «فإنّه من وضوئه على يقين» ، فلا تكون كلمة «من
وضوئه» قيدا لليقين ، يعني أنّ الحدّ الأوسط المتكرّر هو «اليقين» لا «اليقين من
وضوئه».
ومنها : أنّ الوضوء أمر آنيّ متصرّم ، ليس له استمرار في الوجود
، وإنّما الذي إذا ثبت استدام هو أثره ، وهو الطهارة ، ومتعلّق اليقين في الصحيحة
هو الوضوء لا الطهارة ، ومتعلّق الشكّ هو المانع من استمرار أثر المتيقّن ، فيكون
الشكّ في استمرار أثر المتيقّن لا المتيقّن نفسه. وعليه ، فلا يكون متعلّق اليقين
نفس متعلّق الشكّ ، فانخرم الشرط الخامس في الاستصحاب ، ويكون ذلك موردا لقاعدة
المقتضي والمانع. فتكون الصحيحة دليلا عليها لا على الاستصحاب.
وفيه : أنّ الجمود على لفظ «الوضوء» يوهم ذلك ، ولكنّ المتعارف
من مثل هذا التعبير في لسان الأخبار إرادة الطهارة التي هي أثر له بإطلاق السبب
وإرادة المسبّب ، ونفس صدر الصحيحة «الرجل ينام وهو على وضوء» يشعر بذلك.
فالمتبادر والظاهر من قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» أنّه متيقّن بالطهارة
المستمرّة لو لا الرافع لها ، والشكّ إنّما هو في ارتفاعها للشكّ في وجود الرافع.
فيكون متعلّق اليقين نفس متعلّق الشكّ. فما أبعدها عن قاعدة المقتضي والمانع.
ومنها : ما أفاده الشيخ الأنصاريّ قدسسره في مناقشة جميع الأخبار العامّة المستدلّ بها على حجّيّة
مطلق الاستصحاب ، واستنتج من ذلك أنّها مختصّة بالشكّ في الرافع ، فيكون الاستصحاب
حجّة فيه فقط ، قال رحمهالله : «فالمعروف بين المتأخّرين الاستدلال بها على حجّيّة
الاستصحاب في جميع الموارد. وفيه تأمّل قد فتح بابه المحقّق الخوانساريّ في شرح
الدروس».
وسيأتي إن شاء
الله (تعالى) في آخر الأخبار بيان هذه المناقشة ، ونقدها.
٢. صحيحة زرارة
الثانية :
وهي أيضا مضمرة ،
كالسابقة.
قال [زرارة] : قلت
: أصاب ثوبي دم رعاف ، أو غيره ، أو شيء من منيّ ، فعلمت أثره إلى أن أصيب له
الماء ، [فأصبت] ، وحضرت الصلاة ، ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ، ثمّ إنّي
__________________
ذكرت بعد ذلك؟
قال : «تعيد
الصلاة وتغسله».
قلت : فإنّي لم
أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه ، فطلبته ولم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته؟
قال : «تغسله
وتعيد».
قلت : فإن ظننت
أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ، فنظرت ولم أر شيئا ، فصلّيت فيه ، فرأيت فيه؟
قال : «تغسله ولا
تعيد الصلاة».
قلت : لم ذلك؟
قال : «لأنّك كنت
على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا».
قلت : فإنّي قد
علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو ، فأغسله؟
قال : «تغسل من
ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها ، حتى تكون على يقين من طهارتك».
قلت : فهل عليّ ـ إن
شككت أنّه أصابه شيء ـ أن انظر فيه؟
قال : «لا ،
ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك».
قلت : إن رأيته في
ثوبي وأنا في الصلاة؟
قال : «تنقض
الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت
الصلاة وغسلته ، ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس
ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ» الحديث .
والاستدلال بهذه
الصحيحة للمطلوب في فقرتين منها ، بل قيل في ثلاث :
الأولى : قوله : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ...» ؛
بناء على أنّ المراد من اليقين بالطهارة هو اليقين بالطهارة الواقع قبل ظنّ
الإصابة بالنجاسة. وهذا المعنى هو
__________________
الظاهر منها.
ويحتمل بعيدا أن
يراد منه اليقين بالطهارة الواقع بعد ظنّ الإصابة وبعد الفحص عن النجاسة ؛ إذ قال
: «فنظرت ولم أر شيئا» ، على أن يكون قوله : «ولم أر شيئا» عبارة أخرى عن اليقين
بالطهارة. وعلى هذا الاحتمال يكون مفاد الرواية «قاعدة اليقين» لا الاستصحاب ؛
لأنّه يكون حينئذ مفاد قوله : «فرأيت فيه» تبدّل اليقين بالطهارة باليقين
بالنجاسة.
ووجه بعد هذا
الاحتمال أنّ قوله : «ولم أر شيئا» ليس فيه أيّ ظهور بحصول اليقين بالطهارة بعد
النظر والفحص.
الثانية : قوله أخيرا : «فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ».
ودلالتها كالفقرة الأولى ظاهرة على ما تقدّم في الصحيحة الأولى ـ من ظهور كون
اللام في «اليقين» لجنس اليقين بما هو يقين ـ. وهذا المعنى هنا أظهر ممّا هو في
الصحيحة الأولى.
الثالثة : قوله : «حتى تكون على يقين من طهارتك» ؛ فإنّه عليهالسلام إذ جعل الغاية حصول اليقين بالطهارة من غسل الثوب في مورد سبق العلم بنجاسته
يظهر منه أنّه لو لم يحصل اليقين بالطهارة فهو محكوم بالنجاسة ؛ لمكان سبق اليقين
بها.
ولكنّ الاستدلال
بهذه الفقرة مبنيّ على أنّ إحراز الطهارة ليس شرطا في الدخول في الصلاة ، وإلاّ لو
كان الإحراز شرطا فيحتمل أن يكون إنّما جعل الغاية حصول اليقين بالطهارة لأجل
إحراز الشرط المذكور ، لا لأجل التخلّص من جريان استصحاب النجاسة ، فلا يكون لها
ظهور في الاستصحاب.
٣. صحيحة زرارة
الثالثة :
قال : قلت له ـ أي
الباقر أو الصادق عليهماالسلام ـ : من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟
قال : «يركع
بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ، ويتشهّد ، ولا شيء عليه. وإذا لم
يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها أخرى ،
ولا شيء عليه ،
ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ،
ولكن ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال
من الحالات».
وجه الاستدلال بها
ـ على ما قيل ـ أنّه في الشكّ بين الثلاث والأربع ـ وقد أحرز الثلاث ـ يكون
قد سبق منه اليقين بعدم الإتيان بالرابعة ، فيستصحب. ولذلك وجب عليه أن يضيف إليها
رابعة ؛ لأنّه لا يجوز نقض اليقين بالشكّ ، بل لا بدّ أن ينقضه باليقين بإتيان
الرابعة ، فينقض شكّه باليقين. وتكون هذه الفقرات الستّ كلّها تأكيدا على قاعدة
الاستصحاب.
وقد تأمّل الشيخ
الأنصاريّ قدسسره في هذا الاستدلال ؛ لأنّه إنّما يتمّ إذا كان المراد بقوله : «قام فأضاف إليها
أخرى» القيام للركعة الرابعة ، من دون تسليم في الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة
، حتى يكون حاصل جواب الإمام البناء على الأقلّ. ولكن هذا مخالف للمذهب ، وموافق
لقول العامّة ، بل مخالف لظاهر الفقرة الأولى ، وهي قوله : «يركع بركعتين ... وهو
قائم بفاتحة الكتاب» ؛ فإنّها ظاهرة ـ بسبب تعيين الفاتحة ـ في إرادة ركعتين
منفصلتين ، أعني صلاة الاحتياط.
وعليه ، فيتعيّن
أن يكون المراد به القيام بعد التسليم في الركعة المردّدة لركعة مستقلّة منفصلة.
وإذا كان الأمر كذلك فيكون المراد من اليقين في جميع الفقرات اليقين بالبراءة
الحاصل من الاحتياط بإتيان الركعة ، فتكون الفقرات الستّ واردة لبيان وجوب الاحتياط
، وتحصيل اليقين بفراغ الذمّة. وهذا أجنبيّ عن قاعدة الاستصحاب.
أقول : هذا خلاصة ما أفاده الشيخ ، ولكن حمل الفقرة الأولى : «ولا
ينقض اليقين بالشكّ» على إرادة اليقين ببراءة الذمّة الحاصل من الأخذ بالاحتياط
بعيد جدّا عن مساقها ، بل أبعد من البعيد ؛ لأنّ ظاهر هذا التعبير بل صريحه فرض
حصول اليقين ، ثمّ النهي عن نقضه
__________________
في فرض حصوله ،
بينما أنّ اليقين بالبراءة إنّما المطلوب تحصيله ، وهو غير حاصل ، فكيف يصحّ حمل
هذه الجملة على الأمر بتحصيله؟! فلا بدّ أن يراد اليقين بشيء آخر غير البراءة.
وعليه ، فمن
القريب جدّا أن يراد من اليقين اليقين بوقوع الثلاث وصحّتها ـ كما هو مفروض
المسألة بقوله : «وقد أحرز الثلاث» ـ لا اليقين بعدم الإتيان بالرابعة ـ كما
تصوّره هذا المستدلّ ، حتى يرد عليه ما أفاده الشيخ ـ ، وحينئذ فلو أراد المكلّف
أن يعتدّ بشكّه فقد نقض اليقين بالشكّ ، واعتداده بشكّه بأحد أمور ثلاثة : إمّا
بإبطال الصلاة وإعادتها رأسا ، وإمّا بالأخذ باحتمال نقصانها فيكمّلها برابعة ـ كما
هو مذهب العامّة ـ ، وإمّا بالأخذ باحتمال كمالها ، بالبناء على الأكثر ، فيسلّم
على المشكوكة من دون إتيان برابعة متّصلة ، وخلط أحدهما بالآخر.
ولأجل هذا عالج
الإمام عليهالسلام صلاة هذا الشاكّ ؛ لأجل المحافظة على يقينه بالثلاث ، وعدم
نقضه بالشكّ ، وذلك بأن أمره بالقيام وإضافة ركعة أخرى ، ولا بدّ أنّها مفصولة ،
ويفهم كونها مفصولة من صدر الرواية «يركع بركعتين ... وهو قائم بفاتحة الكتاب» ؛
فإنّ أسلوب العلاج لا بدّ أن يكون واحدا في الفرضين ؛ مضافا إلى أنّ ذلك يفهم من
تأكيد الإمام بأن لا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ؛ لأنّه
بإضافة ركعة متّصلة يقع الخلط ، وإدخال الشكّ في اليقين.
وعليه ، فتكون
الرواية دالّة على قاعدة الاستصحاب من جهة ، ولكنّ المقصود فيها استصحاب وقوع
الثلاث صحيحة ، كما أنّها تكون دالّة على علاج حالة الشكّ الذي لا يجوز نقض اليقين
به من جهة أخرى ، وذلك بأمره بالقيام وإضافة ركعة منفصلة لتحصيل اليقين بصحّة
الصلاة ؛ لأنّها إن كانت ثلاثا فقد جاء بالرابعة ، وإن كانت أربعا تكون الركعة
المنفصلة نفلا.
ومنه يعلم أنّ
المراد من «اليقين» في الفقرتين : الرابعة ، والخامسة «ولكن ينقض الشكّ باليقين ،
ويتمّ على اليقين ويبني عليه» غير «اليقين» في الفقرات الأولى ، فإنّ المراد به
هناك اليقين بوقوع الثلاث صحيحة ، والمراد به في هاتين الفقرتين اليقين بالبراءة ؛
لأنّه بإتيان ركعة منفصلة يحصل له اليقين ببراءة الذمّة ، فيكون ذلك نقضا للشكّ
باليقين الحادث
من الاحتياط.
ويفهم هذا التفصيل ـ من المراد باليقين ـ من الاستدراك وهو قوله : «ولكن» ، فإنّه
بعد أن نهى عن نقض اليقين بالشكّ ذكر العلاج بقوله : «لكن» ، فهو أمر بنقض الشكّ
باليقين ، والإتمام على اليقين ، والبناء عليه ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بإتيان ركعة
منفصلة. ولا يجب ـ كما قيل ـ أن يكون المراد من «اليقين» في جميع الفقرات معنى واحدا
، بل لا يصحّ ذلك ؛ فإنّ أسلوب الكلام لا يساعد عليه ؛ فإنّ الناقض للشكّ يجب أن
يكون غير الذي ينقضه الشكّ.
والحاصل
أنّ الرواية تكون
خلاصة معناها النهي عن الإبطال ، والنهي عن الركون إلى ما تذهب إليه العامّة من
البناء على الأقلّ ، والنهي عن البناء على الأكثر مع عدم الإتيان بركعة منفصلة.
ثمّ تضمّنت الأمر ـ بعد ذلك ـ بما يؤدّي معنى الأخذ بالاحتياط بالإتيان بركعة
منفصلة ، لأنّه بهذا يتحقّق نقض الشكّ باليقين والإتمام على اليقين والبناء عليه.
وعلى هذا ،
فالرواية تتضمّن قاعدة الاستصحاب ، وتنطبق أيضا على باقي الروايات المبيّنة لمذهب
الخاصّة ، وإن كانت ليست ظاهرة فيه على وجه تكون بيانا لمذهب الخاصّة ، ولكن صدرها
يفسّرها. ويظهر أنّ الإمام عليهالسلام أوكل الحكم وتفصيله إلى معروفيّة هذا الحكم عند السائل
وإلى فهمه وذوقه ، وإنّما أراد أن يؤكّد على سرّ هذا الحكم ، والردّ على من يرى
خلافه الذي فيه نقض لليقين بالشكّ وعدم الأخذ باليقين.
٤. رواية محمّد بن
مسلم :
محمّد بن مسلم عن
أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : من كان على يقين فشكّ ، فليمض على يقينه ، فإنّ الشكّ لا
ينقض اليقين».
وفي رواية أخرى
عنه عليهالسلام بهذا المضمون : «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على
يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ».
__________________
استدلّ بعضهم بهذه الرواية على الاستصحاب ، مدّعيا ظهورها فيه.
ولكنّ الذي نراه
أنّها غير ظاهرة فيه ؛ فإنّ القدر المسلّم منها أنّها صريحة في أنّ مبدأ حدوث
الشكّ بعد حدوث اليقين من أجل كلمة «الفاء» التي تدلّ على الترتيب ، غير أنّ هذا
القدر من البيان يصحّ أن يراد منه قاعدة اليقين ، ويصحّ أن يراد منه قاعدة
الاستصحاب ؛ إذ يجوز أن يراد أنّ اليقين قد زال بحدوث الشكّ ، فيتّحد زمان
متعلّقهما ، فتكون موردا للقاعدة الأولى ، ويجوز أن يراد أنّ اليقين قد بقي إلى
زمان الشكّ ، فيختلف زمان متعلّقهما ، فتكون موردا للاستصحاب. وليس في الرواية
ظهور في أحدهما بالخصوص ، وإن قال الشيخ الأنصاريّ قدسسره : «إنّها ظاهرة في وحدة زمان متعلّقهما » ، ولذلك قرّب أن تكون دالّة على قاعدة اليقين . وقال الشيخ الآخوند قدسسره : «إنّها ظاهرة في اختلاف زمان متعلّقهما » ، فقرّب أن تكون دالّة على الاستصحاب. وقد ذكر كلّ منهما تقريبات لما
استظهره ، لا نراها
__________________
__________________
ناهضة على
مطلوبهما.
وعليه ، فتكون
الرواية مجملة من هذه الناحية ، إلاّ إذا جوّزنا الجمع في التعبير بين القاعدتين ، وحينئذ تدلّ عليهما معا ، يعني أنّها تدلّ على أنّ اليقين بما هو يقين لا يجوز
نقضه بالشك ، سواء كان ذلك اليقين هو المجامع للشكّ ، أو غير المجامع له. وقيل : «إنّه
لا يجوز الجمع في التعبير بين القاعدتين ؛ لأنّه يلزم استعمال اللفظ في أكثر من
معنى ، وهو مستحيل» . وسيأتي إن شاء الله (تعالى) ما ينفع في المقام.
نعم ، يمكن دعوى
ظهورها في الاستصحاب بالخصوص ، بأن يقال ـ كما قرّبه بعض أساتذتنا : إنّ الظاهر في كلّ كلام هو اتّحاد زمان النسبة مع زمان الجري ، فقوله عليهالسلام : «فليمض على يقينه» يكون ظاهرا في أنّ زمان نسبة وجوب المضيّ على اليقين نفس
زمان حصول اليقين. ولا ينطبق ذلك إلاّ على الاستصحاب ، لبقاء اليقين في مورده
محفوظا إلى زمان العمل به. وأمّا : قاعدة اليقين فإنّ موردها الشكّ الساري ، فيكون
اليقين في ظرف وجوب العمل به معدوما. ولعلّه من أجل هذا الظهور استظهر من استظهر
دلالة الرواية على الاستصحاب.
٥ ـ مكاتبة علي بن
محمّد القاساني :
قال : كتبت إليه ـ
وأنا بالمدينة ـ أسأله عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان ، هل يصام أم لا؟
فكتب عليهالسلام : «اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية ، وأفطر للرؤية ».
قال الشيخ
الأنصاريّ قدسسره : «والإنصاف أنّ هذه الرواية أظهرها في هذا الباب ، إلاّ أنّ سندها
__________________
غير سليم». وذكر
في وجه دلالتها : «إنّ تفريع تحديد كلّ من الصوم والإفطار على رؤية هلالي رمضان
وشوّال لا يستقيم إلاّ بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشكّ ، أي مزاحما به»
.
وقد أورد عليه
صاحب الكفاية بما محصّله مع توضيح منّا : أنّا نمنع من ظهور هذه الرواية
في الاستصحاب فضلا عن أظهريّتها ؛ نظرا إلى أنّ دلالتها عليه تتوقّف على أن يراد
من «اليقين» اليقين بعدم دخول رمضان وعدم دخول شوّال ، ولكن ليس من البعيد أن يكون
المراد به اليقين بدخول رمضان ـ المنوط به وجوب الصوم ـ واليقين بدخول شوّال
المنوط به وجوب الإفطار. ومعنى «أنّه لا يدخله الشكّ» أنّه لا يعطى حكم اليقين
للشكّ ، ولا ينزل منزلته ، بل المدار في وجوب الصوم والإفطار على اليقين فقط ،
فأنّه وحده هو المناط في وجوبهما ـ أي إنّ الصوم والإفطار يدوران مداره ـ. ولذا
قال عليهالسلام بعده : «صم للرؤية ، وأفطر للرؤية» ؛ مؤكّدا لاشتراط وجوب
الصوم والإفطار باليقين.
وهذا المضمون دلّت
عليه جملة من الأخبار بقريب من هذا التعبير ممّا يقرّب إرادته من هذه الرواية ،
ويؤكّده ، ولا بأس في ذكر بعض هذه الأخبار لتتّضح موافقتها لهذه الرواية :
منها : قول أبي جعفر عليهالسلام : «إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا. وليس
بالرأي ولا بالتظنّي ، ولكن بالرؤية» .
ومنها : «صم للرؤية وأفطر للرؤية. وإيّاك والشكّ والظنّ. فإن خفي
عليكم فأتمّوا الشهر الأوّل ثلاثين» .
ومنها : «صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظنّ» .
إنّ تلك الأخبار
العامّة المتقدّمة هي أهمّ ما استدلّ به للاستصحاب. وهناك أخبار
__________________
خاصّة تؤيّدها.
ذكر بعضها الشيخ الأنصاريّ قدسسره . ونحن نذكر واحدة منها للاستئناس ، وهي رواية عبد الله بن
سنان الواردة فيمن يعير ثوبه الذّميّ ، وهو يعلم أنّه يشرب الخمر ، ويأكل لحم
الخنزير.
قال : فهل عليّ أن
أغسله؟
فقال : «لا ؛
لأنّك أعرته إيّاه ، وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه» .
قال الشيخ قدسسره : «وفيها دلالة
واضحة على أنّ وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب غسله هو سبق طهارته وعدم العلم
بارتفاعها» .
مدى دلالة الأخبار
والمهمّ لنا أن
نبحث الآن عن مدى دلالة تلكم الأخبار من جهة بعض التفصيلات المهمّة في الاستصحاب ،
فنقول :
١. التفصيل بين
الشبهة الحكميّة و [الشبهة] الموضوعيّة
إنّ المنسوب إلى
الأخباريّين اعتبار الاستصحاب في خصوص الشبهة الموضوعيّة ، وأمّا
الشبهات الحكميّة مطلقا فعلى القاعدة عندهم من وجوب الرجوع إلى قاعدة الاحتياط.
وعلّل ذلك بعضهم بأنّ أخبار الاستصحاب لا عموم لها ولا إطلاق يشمل الشبهة الحكميّة ؛ لأنّ
القدر المتيقّن منها خصوص الشبهة الموضوعيّة ، لا سيّما أنّ بعضها وارد في خصوصها
، فلا تعارض أدلّة الاحتياط.
ولكنّ الإنصاف أنّ
لأخبار الاستصحاب من قوّة الإطلاق والشمول ما يجعلها ظاهرة في شمولها للشبهة
الحكميّة ، ولا سيّما أنّ أكثرها وارد مورد التعليل ، وظاهرها تعليق
__________________
الحكم على اليقين
من جهة ما هو يقين ـ كما سبق بيان ذلك في الصحيحة الأولى ـ ، فيكون شمولها للشبهة الحكميّة حينئذ من باب التمسّك بالعلّة المنصوصة ؛
على أنّ رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة عامّة لم ترد في خصوص الشبهة الموضوعيّة.
فالحقّ شمول الأخبار للشبهتين.
وأمّا : أدلّة
الاحتياط فقد تقدّمت المناقشة في دلالتها ، فلا تصلح
لمعارضة أدلّة الاستصحاب.
٢. التفصيل بين
الشكّ في المقتضي ، و [الشكّ في] الرافع
هذا هو القول
التاسع المتقدّم ، والأصل فيه المحقّق الحلّي ، ثمّ المحقّق
الخوانساريّ ، وأيّده كلّ التأييد الشيخ الأعظم قدسسره ، وقد دعمه جملة من تأخّر
عنه.
وخالفهم في ذلك
الشيخ الآخوند قدسسره ، فذهب إلى اعتبار الاستصحاب مطلقا ، وهو الحقّ ، ولكن بطريقة أخرى غير التي سلكها الشيخ الآخوند قدسسره.
ومن أجل هذا أصبح
هذا التفصيل من أهمّ الأقوال التي عليها مدار المناقشات العلميّة في عصرنا.
ويلزمنا النظر فيه من جهتين : من جهة المقصود من المقتضي والمانع ، ومن جهة مدى
دلالة الأخبار عليه.
__________________
أ : المقصود من
المقتضي والمانع
ونحيل ذلك إلى
تصريح الشيخ قدسسره نفسه ، فقد قال : «المراد بالشكّ من جهة المقتضي الشكّ من حيث استعداده ،
وقابليّته في ذاته للبقاء ، كالشكّ في بقاء الليل ، والنهار ، وخيار الغبن بعد
الزمان الأوّل».
فيفهم منه أنّه
ليس المراد من المقتضي ـ كما قد ينصرف ذلك من إطلاق كلمة «المقتضي» ـ مقتضي الحكم
، أي الملاك والمصلحة فيه ، ولا المقتضي لوجود الشيء في باب الأسباب والمسبّبات ،
بحسب الجعل الشرعيّ ، مثل أن يقال : «إنّ الوضوء مقتض للطهارة» ، و «عقد النكاح
مقتض للزوجيّة». بل المراد نفس استعداد المستصحب في ذاته للبقاء وقابليّته له من أيّة
جهة كانت تلك القابليّة ، وسواء فهمت هذه القابليّة من الدليل ، أو من الخارج.
ويختلف ذلك باختلاف المستصحبات وأحوالها ، فليس فيه نوع ، ولا صنف مضبوط من حيث
مقدار الاستعداد ، كما صرّح بذلك الشيخ قدسسره .
والتعبير عن الشكّ
في القابليّة بـ «الشكّ في المقتضي» فيه نوع من المسامحة توجب الإيهام. وينبغي أن
يعبّر عنه بـ «الشكّ في اقتضائه للبقاء» ، لا «الشكّ في المقتضي» ، ولكن بعد وضوح
المقصود ، فالأمر سهل.
وأمّا : الشكّ في
الرافع فعلى هذا يكون المقصود منه الشكّ في طروّ ما يرفع المستصحب ، مع القطع
باستعداده وقابليّته للبقاء لو لا طروّ الرافع ، كما صرّح به الشيخ قدسسره ، وذكر أنّه على
أقسام. والمتحصّل من مجموع كلامه في جملة مقامات أنّه ينقسم إلى
__________________
قسمين رئيسين :
الشكّ في وجود الرافع ، والشكّ في رافعيّة الموجود. وهذا القسم الثاني أنكر
المحقّق السبزواريّ حجّيّة الاستصحاب فيه بأقسامه الثلاثة ، الآتية ، وهو القول
العاشر في تعداد الأقوال. ونحن نذكر هذه الأقسام ؛ لتوضيح مقصود الشيخ قدسسره :
١. «الشكّ في وجود
الرافع» ، ومثّل له بالشكّ في حدوث البول ، مع العلم بسبق الطهارة. وهو رحمهالله لا يعني به إلاّ الشكّ في الشبهة الموضوعيّة خاصّة.
وأمّا : ما كان في
الشبهة الحكميّة فلا يعمّه كلامه ؛ لأنّ الشكّ في وجود الرافع فيها ينحصر عنده في
الشكّ في النسخ خاصّة ؛ لأنّه لا معنى لرفع الحكم إلاّ نسخه. وإجراء الاستصحاب في
عدم النسخ ـ كما قال ـ إجماعيّ بل ضروريّ. والسرّ في ذلك ما تقدّم في مباحث
النسخ في الجزء الثالث ـ من أنّ إجماع المسلمين قائم على أنّه لا يصحّ النسخ إلاّ
بدليل قطعيّ ـ ، فمع الشكّ لا بدّ أن يؤخذ بالحكم السابق المشكوك نسخه
، أي إنّ الأصل عدم النسخ لأجل هذا الإجماع ، لا لأجل حجّيّة الاستصحاب.
٢. «الشكّ في
رافعيّة الموجود» ، وذلك بأن يحصل شيء معلوم الوجود قطعا ، ولكن يشكّ في كونه
رافعا للحكم. وهو على أقسام ثلاثة :
الأوّل : فيما إذا كان الشكّ من أجل تردّد المستصحب بين ما يكون
الموجود رافعا له وبين ما لا يكون. ومثّل له بما إذا علم
بأنّه مشغول الذمّة بصلاة ما في ظهر يوم الجمعة ، ولا يعلم أنّها صلاة الجمعة أو
صلاة الظهر ، فإذا صلّى الظهر ـ مثلا ـ فإنّه يتردّد أمره لا محالة في أنّ هذه
الصلاة الموجودة التي وقعت منه هل هي رافعة لشغل الذمّة بالتكليف المذكور أو غير
رافعة؟
الثاني : فيما إذا كان الشكّ من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه
رافعا مستقلاّ في
__________________
الشرع ، كالمذي
المشكوك في كونه ناقضا للطهارة ، مع العلم بعدم كونه مصداقا للرافع المعلوم [مفهومه]
وهو البول.
الثالث : فيما إذا كان الشكّ من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه
مصداقا للرافع المعلوم مفهومه ، أو من أجل الجهل بها في كونه مصداقا للرافع
المجهول مفهومه.
مثال الأوّل الشكّ
في الرطوبة الخارجة في كونها بولا أو مذيا ، مع معلوميّة مفهوم البول والمذي
وحكمهما.
ومثال الثاني
الشكّ في النوم الحادث في كونه غالبا للسمع والبصر ، أو غالبا للبصر فقط ، مع
الجهل بمفهوم النوم الناقض في أنّه يشمل النوم الغالب للبصر فقط.
ورأى الشيخ قدسسره أنّ الاستصحاب
يجري في جميع هذه الأقسام ، سواء كان شكّا في وجود الرافع أو في رافعيّة الموجود
بأقسامه الثلاثة ، خلافا للمحقّق السبزواريّ ؛ إذ اعتبر الاستصحاب في الشكّ في
وجود الرافع فقط ، دون الشكّ في رافعيّة الموجود ، كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك.
ب : مدى دلالة
الأخبار على هذا التفصيل
قال الشيخ الأعظم قدسسره : «إنّ حقيقة
النقض هو رفع الهيئة الاتّصاليّة ، كما في نقض الحبل. والأقرب إليه ـ على تقدير
مجازيّته ـ هو رفع الأمر الثابت» إلى أن قال : «فيختصّ متعلّقه بما من شأنه
الاستمرار».
وعليه ، فلا يشمل
اليقين المنهيّ عن نقضه بالشكّ في الأخبار اليقين إذا تعلّق بأمر ليس من شأنه
الاستمرار ، أو المشكوك استمراره.
توضيح مقصوده ـ مع
المحافظة على ألفاظه حدّ الإمكان ـ أنّ النقض لغة لمّا كان معناه رفع الهيئة
الاتّصاليّة كما في نقض الحبل ، فإنّ هذا المعنى الحقيقيّ ليس هو
المراد من الروايات قطعا ؛ لأنّ المفروض في مواردها طروّ الشكّ في استمرار
المتيقّن ، فلا هيئة
__________________
اتّصاليّة باقية
لليقين ، ولا لمتعلّقه بعد الشكّ في بقائه واستمراره.
فيتعيّن أن يكون
إسناد النقض إلى اليقين على نحو المجاز ، ولكن هذا المجاز له معنيان يدور الأمر
بينهما ، وإذا تعدّدت المعاني المجازيّة فلا بدّ أن يحمل اللفظ على أقربها إلى
المعنى الحقيقيّ. وهذا يكون قرينة معيّنة للمعنى المجازيّ. وهنا المعنيان
المجازيّان أحدهما أقرب من الآخر ، وهما :
١. أن يراد من
النقض مطلق رفع اليد عن الشيء ، وترك العمل به ، وترتيب الأثر عليه ولو لعدم
المقتضي له ، فيكون المنقوض عامّا شاملا لكلّ يقين.
٢. أن يراد منه
رفع الأمر الثابت.
وهذا المعنى
الثاني هو الأقرب إلى المعنى الحقيقيّ ، فهو الظاهر من إسناد النقض.
وحينئذ فيختصّ متعلّقه
بما من شأنه الاستمرار المختصّ بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى.
والظاهر رجحان هذا
المعنى الثاني على الأوّل ؛ لأنّ الفعل الخاصّ يصير مخصّصا لمتعلّقه إذا كان
متعلّقه عامّا ، كما في قول القائل : «لا تضرب أحدا» ، فإنّ الضرب يكون قرينة على
اختصاص متعلّقه بالأحياء ، ولا يكون عمومه للأموات قرينة على إرادة مطلق الضرب.
هذه خلاصة ما
أفاده الشيخ قدسسره ، وقد وقعت فيه عدّة مناقشات نذكر أهمّها ، ونذكر ما عندنا ليتّضح مقصوده ،
وليتجلّى الحقّ إن شاء الله (تعالى) :
١.
المناقشة الأولى : أنّ النقض يقابل الإبرام. والنقض ـ كما فسّروه في اللغة ـ : «إفساد ما
أبرم من عقد ، أو بناء ، أو حبل ، أو نحو ذلك». وعليه ، فتفسيره من الشيخ قدسسره برفع
__________________
الهيئة
الاتّصاليّة ليس واضحا ، بل ليس صحيحا ؛ إذ أنّ مقابل الاتّصال الانفصال ، فيكون
معنى النقض حينئذ انفصال المتّصل. وهو بعيد جدّا عن معنى نقض العهد والعقد.
أقول : ليس من البعيد أن يريد الشيخ قدسسره من الاتّصال ما
يقابل الانحلال ، وإن كان ذلك على نحو المسامحة منه في التعبير ، لا ما يقابل الانفصال ، فلا إشكال.
٢.
المناقشة الثانية : ـ وهي أهمّ مناقشة ـ عليها تبتني صحّة استدلاله على التفصيل ، أو بطلانه.
وحاصلها أنّ هذا التوجيه من الشيخ قدسسره للاستدلال يتوقّف على التصرّف في اليقين بإرادة المتيقّن
منه ، كما نبّه عليه نفسه ؛ لأنّه لو كان النقض مستندا إلى نفس اليقين ـ كما هو ظاهر
التعبير ـ فإنّ اليقين بنفسه مبرم ومحكم ، فيصحّ إسناد النقض إليه ، ولو لم يكن
لمتعلّقه في ذاته استعداد البقاء ؛ ضرورة أنّه لا يحتاج فرض الإبرام في المنقوض
إلى فرض أن يكون متعلّق اليقين ثابتا ومبرما في نفسه ، حتى تختصّ حرمة النقض
بالشكّ في الرافع.
ولكن لا تصحّ
إرادة المتيقّن من اليقين على وجه يكون الإسناد اللفظيّ إلى نفس المتيقّن ؛ لأنّه
إنّما يصحّ ذلك إذا كان على نحو المجاز في الكلمة ، أو على نحو حذف المضاف ، وكلا
الوجهين بعيد كلّ البعد ؛ إذ لا علاقة بين اليقين والمتيقّن ، حتى يصحّ استعمال
أحدهما مكان الآخر على نحو المجاز في الكلمة ، بل ينبغي أن يعدّ ذلك من الأغلاط. وأمّا : تقدير المضاف ـ بأنّ نقدّر متعلّق اليقين أو نحو ذلك ـ فإنّ تقدير
المحذوف يحتاج إلى قرينة لفظيّة ، [وهي] مفقودة.
ومن أجل هذا
استظهر المحقّق الآخوند قدسسره عموم الأخبار لموردي الشكّ في المقتضي والرافع ؛ لأنّ
النقض إذا كان مسندا إلى نفس اليقين ، فلا يحتاج في صحّة إسناد النقض إليه إلى فرض
أن يكون المتيقّن ممّا له استعداد للبقاء.
__________________
أقول : إنّ البحث عن هذا الموضوع بجميع أطرافه ، وتعقيب كلّ ما
قيل في هذا الشأن من أساتذتنا ، وغيرهم يخرجنا عن طور هذه الرسالة ، فالجدير بنا أن نكتفي بذكر خلاصة ما نراه من الحقّ في المسألة ، متجنّبين
الإشارة إلى خصوصيّات الآراء ، والأقوال فيها حدّ الإمكان.
وعليه ، فنقول :
ينبغي تقديم مقدّمات قبل بيان المختار ، وهي :
أوّلا : أنّه لا شكّ في أنّ النقض المنهيّ عنه مسند إلى اليقين
في لفظ الأخبار ، وظاهرها أنّ وثاقة اليقين من جهة ما هو يقين هي المقتضية للتمسّك
به وعدم نقضه في قبال الشكّ الذي هو عين الوهن والتزلزل ، لا سيّما مع التعبير فى
بعضها بقوله عليهالسلام : «لا ينبغي» ، والتعليل في البعض الآخر بوجود اليقين المشعر بعلّيته للحكم ، كما سبق بيانه في قوله عليهالسلام : «فإنّه على يقين من وضوئه» ، ولا سيّما مع مقابلة اليقين بالشكّ ، ولا شكّ
أنّه ليس المراد من الشكّ المشكوك.
وعلى هذا ، فيتّضح
جليّا أنّ حمل اليقين على إرادة المتيقّن على وجه يكون الإسناد اللفظي إلى
المتيقّن بنحو المجاز في الكلمة ، أو بنحو حذف المضاف خلاف الظاهر منها ، بل خلاف
سياقها ، بل مستهجن جدّا ، فيتأيّد ما قاله المعترض. ولذا استعبد شيخنا المحقّق النائينيّ أن يريد الشيخ
الأعظم قدسسره من «المجاز»
المجاز في الكلمة ، وهو استبعاد في محلّه. وأبعد منه إرادة حذف المضاف.
ثانيا : أنّه من المسلّم به عند الجميع ـ الذي لا شكّ فيه أيضا ـ
أنّ النهي عن نقض اليقين في الأخبار ليس على حقيقته. والسرّ واضح ؛ لأنّ اليقين ـ حسب
الفرض ـ منتقض فعلا بالشكّ ، فلا يقع تحت اختيار المكلّف ، فلا يصحّ النهي عنه.
__________________
وحينئذ ، فلا معنى
للنهي عنه إلاّ أن يراد به عدم الاعتناء بالشكّ عملا ، والبناء عليه كأنّه لم يكن
؛ لغرض ترتيب أحكام اليقين عند الشكّ ، ولكن لا يصحّ أن يقصد أحكام اليقين من جهة
أنّه صفة من الصفات ؛ لارتفاع أحكامه بارتفاعه قطعا ، فلم يكن رفع اليد عن الحكم
عملا نقضا له بالشكّ ، بل باليقين ؛ لزوال موضوع الحكم قطعا.
وعليه ، فالمراد
من «الأحكام» الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين به ، فهو تعبير آخر عن الأمر
بالعمل بالحالة السابقة في الوقت اللاحق ... بمعنى وجوب العمل في مقام الشكّ بمثل
العمل في مقام اليقين ، كأنّ الشكّ لم يكن ، فكأنّه قال : «اعمل في حال شكّك ، كما
كنت تعمل في حال يقينك ، ولا تعتني بالشكّ».
إذا عرفت ذلك
فيبقى أن نعرف على أيّ وجه يصحّ أن يكون التعبير بحرمة نقض اليقين تعبيرا عن ذلك
المعنى؟ فإنّ ذلك لا يخلو بحسب التصوّر عن أحد أمور أربعة :
١. أن يكون المراد
من «اليقين» المتيقّن على نحو المجاز في الكلمة.
٢. أن يكون النقض
أيضا متعلّقا في لسان الدليل بنفس المتيقّن ، ولكن على حذف المضاف.
٣. أن يكون النقض
المنهيّ عنه مسندا إلى اليقين على نحو المجاز في الإسناد ، ويكون في الحقيقة مسندا
إلى نفس المتيقّن ، والمصحّح لذلك اتّحاد اليقين والمتيقّن ، أو كون اليقين آلة
وطريقا إلى المتيقّن.
٤. أن يكون النهي
عن نقض اليقين كناية عن لزوم العمل بالمتيقّن ، وإجراء أحكامه ؛ لأنّ ذلك لازم
معناه باعتبار أنّ اليقين بالشيء مقتض للعمل به ، فحلّه يلازم رفع اليد عن ذلك
الشيء ، أو عن حكمه ؛ إذ لا يبقى حينئذ ما يقتضي العمل به ، فالنهي عن حلّه يلزمه
النهي عن ترك مقتضاه ، أعني النهي عن ترك العمل بمتعلّقة.
وقد عرفت في
المقدّمة الأولى ، وفي مناقشة الشيخ قدسسره بعد إرادة الوجهين الأوّلين ، فيدور الأمر بين الثالث
والرابع ، والرابع هو الأوجه والأقرب ، ولعلّه هو مراد الشيخ الأعظم قدسسره ، وإن كان الذي
يبدو من بعض تعبيراته إرادة الوجه الأوّل الذي استبعد شيخنا المحقّق
__________________
النائينيّ قدسسره أن يكون مقصوده
ذلك كما تقدّم.
أمّا هو ـ أعني
شيخنا النائينيّ قدسسره فلم يصرّح بإرادة أيّ من الوجهين الآخرين ، والأنسب ـ في
عبارة بعض المقرّرين لبحثه ـ إرادة الوجه الثالث ؛ إذ قال : «إنّه يصحّ ورود النقض
على اليقين بعناية المتيقّن» .
وعلى كلّ حال ،
فالوجه الرابع ـ أعني الاستعمال الكنائي ـ أقرب الوجوه وأولاها ، وفيه من البلاغة في البيان ما ليس في غيره ، كما أنّ فيه المحافظة على ظهور
الأخبار وسياقها في إسناد النقض إلى نفس اليقين ، وقد استظهرنا منها ـ كما تقدّم
في المقدّمة الأولى ـ أنّ وثاقة اليقين بما هو يقين هي المقتضية للتمسّك به. وفي
الكناية ـ كما هو المعروف ـ بيان للمراد ، مع إقامة الدليل عليه ، فإنّ المراد
الاستعماليّ هنا ـ الذي هو حرمة نقض اليقين بالشكّ ـ يكون كالدليل والمستند للمراد
الجدّيّ المقصود الأصليّ في البيان ، والمراد الجدّيّ هو لزوم العمل على وفق
المتيقّن بلسان النهي عن نقض اليقين.
ثالثا : بعد ما تقدّم ينبغي أن نسأل عن المراد من النقض في
الأخبار ، هل المراد النقض الحقيقيّ ، أو النقض العمليّ؟ المعروف أنّ إرادة النقض
الحقيقيّ محال ، فلا بدّ أن يراد النقض العمليّ ؛ لأنّ نقض اليقين ـ كما تقدّم ـ ليس
تحت اختيار المكلّف ، فلا يصحّ النهي عنه. وعلى هذا بنى الشيخ الأعظم ، وصاحب «الكفاية»
وغيرهما قدسسرهم .
ولكنّ التدقيق في
المسألة يعطي غير هذا ، [وهو] إنّما يلزم هذا المحذور لو كان النهي عن نقض اليقين
مرادا جدّيّا ، أمّا : على ما ذكرناه ـ من أنّه على وجه الكناية ـ فإنّه ـ كما
ذكرنا ـ يكون مرادا استعماليّا فقط ، ولا محذور في كون المراد الاستعماليّ ـ في
الكناية ـ محالا ، أو كاذبا في نفسه ، إنّما المحذور إذا كان المراد الجدّيّ
المكنيّ عنه كذلك.
__________________
وعليه ، فحمل
النقض على معناه الحقيقيّ أولى ، ما دام أنّ ذلك يصحّ بلا محذور.
النتيجة : أنّه إذا تمّت هذه المقدّمات فصحّ إسناد النقض الحقيقيّ
إلى اليقين ؛ من أجل وثاقته من جهة ما هو يقين ، وإن كان النهي عنه يراد به لازم
معناه على سبيل الكناية. فإنّا نقول : إنّ اليقين لمّا كان في نفسه مبرما ومحكما
فلا يحتاج في صحّة إسناد النقض إليه إلى فرض أن يكون متعلّقه ممّا له استعداد في
ذاته للبقاء ، وإنّما يلزم ذلك لو كان الإسناد اللفظيّ إلى نفس المتيقّن ولو على
نحو المجاز. وأمّا : كون أنّ المراد الجدّيّ هو النهي عن ترك مقتضى اليقين ـ الذي
هو عبارة عن لزوم العمل بالمتيقّن ـ فإنّ ذلك مراد لبّيّ ، وليس فيه إسناد للنقض
إلى المتيقّن في مقام اللفظ ، حتى يكون ذلك قرينة لفظيّة على المراد من المتيقّن.
والسرّ في ذلك أنّ الكناية لا يقدّر فيها لفظ المكنيّ عنه ، على أنّ المكنيّ عنه
ليس هو حرمة نقض المتيقّن ، بل ـ كما تقدّم ـ هو حرمة ترك مقتضى اليقين الذي هو
عبارة عن لزوم العمل بالمتيقّن ، فلا نقض مسند إلى المتيقّن ، لا لفظا ولا لبّا ،
حتى يكون ذلك قرينة على أنّ المراد من المتيقّن هو ما له استعداد في ذاته للبقاء ؛
لأجل أن يكون مبرما يصحّ إسناد النقض إليه.
الخلاصة
وخلاصة ما توصّلنا
إليه هو أنّ الحقّ أنّ النقض مسند إلى نفس اليقين ، بلا مجاز في الكلمة ، ولا في
الإسناد ، ولا على حذف مضاف ، ولكنّ النهي عنه جعل عنوانا على سبيل الكناية عن
لازم معناه ، وهو لزوم الأخذ بالمتيقّن في ثاني الحال بترتيب آثاره الشرعيّة عليه
، وهذا المكنيّ عنه عبارة أخرى عن الحكم ببقاء المتيقّن. وإذا كان النهي عن نقض
اليقين من باب الكناية فلا يستدعي ذلك أن نفرض في متعلّقه استعداد البقاء ليتحقّق
معنى النقض ؛ لأنّه متحقّق بدون ذلك.
وعليه ، فمقتضى
الأخبار حجّيّة الاستصحاب في موردي الشكّ في المقتضي والرافع معا.
ونحن إذا توصّلنا
إلى هنا من بيان حجّيّة الاستصحاب مطلقا في مقابل التفصيل الذي ذهب إليه الشيخ
الأنصاريّ قدسسره ، لا نجد كثير حاجة في التعرّض للتفصيلات الأخرى في هذا
المختصر ، ونحيل
ذلك إلى المطوّلات ، لا سيّما رسالة الشيخ قدسسره في الاستصحاب ؛ فإنّ فيما ذكره
الغنى والكفاية.
تمرينات
(٦٨)
١. هل يدلّ بناء
العقلاء على حجّيّة الاستصحاب؟ بيّن وجه دلالته.
٢. ما هي المناقشة
التي ذكرها المحقّق النائيني في الاستدلال ببناء العقلاء؟
٣. اذكر المناقشة
التي ذكرها المحقّق الخراساني في الاستدلال ببناء العقلاء؟ واذكر الجواب عنه.
٤. هل الآيات
والأخبار الناهية عن اتّباع غير العلم تصلح للردع عن اتّباع بناء العقلاء أو لا
تصلح؟
٥. هل تصلح أدلّة
البراءة أو الاحتياط للردع عن اتّباع بناء العقلاء أو لا تصلح؟
٦. هل يدلّ حكم
العقل على حجّيّة الاستصحاب؟ اذكر المستدلّين به ، واذكر المناقشات الموجودة فيه.
٧. هل يدلّ
الإجماع على حجّيّة الاستصحاب؟
٨. اذكر الصحيحة
الأولى من زرارة ، واذكر فقهها.
٩. بيّن تقريب
الاستدلال بصحيحة زرارة الأولى.
١٠. بيّن ما أفاده
الشيخ الأنصاريّ في المناقشة في الاستدلال بالصحيحة الأولى. واذكر الجواب عنه.
١١. اذكر المناقشة
الثانية في الاستدلال بالصحيحة الأولى ، واذكر الجواب عنها.
١٢. اذكر الصحيحة
الثانية وتقريب الاستدلال بها على الاستصحاب.
١٣. اذكر الصحيحة
الثالثة وتقريب الاستدلال بها على الاستصحاب.
١٤. بيّن ما أفاده
الشيخ الأنصاري في المناقشة في الاستدلال بالصحيحة الثالثة ، واذكر الجواب عنه.
١٥. ما هي رواية
محمد بن مسلم؟ وهل تدلّ على الاستصحاب؟
١٦. اذكر مكاتبة
على بن محمد القاساني ، وتقريب الاستدلال بها.
١٧. ما هو إيراد
المحقّق الخراساني على الاستدلال بالمكاتبة؟
١٨. ما هو المنسوب
إلى الأخباريّين؟ وما هو دليلهم؟ وما الجواب عنه؟
١٩. من القائل
بالتفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع؟
٢٠. ما مراد
القائلين بالتفصيل من المقتضي والمانع؟ وما هو دليلهم عليه؟
٢١. ما هي
المناقشة الأولى في التفصيل بين المقتضي والمانع؟ وما هو الجواب عنها؟
٢٢. اذكر المناقشة
الثانية فى التفصيل المذكور.
٢٣. ما هو رأي
المصنّف في المقام؟
__________________
تنبيهات الاستصحاب
بعد فراغ الشيخ
الأنصاريّ قدسسره من ذكر الأقوال في المسألة ومناقشتها شرع في بيان أمور ـ تتعلّق به ـ بلغت
اثني عشر أمرا ، واشتهرت باسم «تنبيهات الاستصحاب» ، فصار لها شأن كبير عند
الأصوليّين ، وصارت موضع عنايتهم ؛ لما لأكثرها من الفوائد الكبيرة في الفقه ؛
ولما لها من المباحث الدقيقة الأصوليّة. وزاد فيها شيخ أساتذتنا في «الكفاية»
تنبيهين ، فصارت أربعة عشر تنبيها . ونحن ذاكرون
بعون الله (تعالى) أهمّها ، متوخّين الاختصار حدّ
الإمكان ، والاقتصار على ما ينفع الطالب المبتدئ.
التنبيه الأوّل :
استصحاب الكلّيّ
الغرض من استصحاب
الكلّيّ هو استصحابه فيما إذا تيقّن بوجوده في ضمن فرد من أفراده ثمّ شكّ في بقاء
نفس ذلك الكلّيّ. وهذا الشكّ في بقاء الكلّيّ في ضمن أفراده يتصوّر على أنحاء
ثلاثة ، عرفت باسم «أقسام استصحاب الكلّيّ» :
١. أن يكون الشكّ
في بقاء الكلّيّ من جهة الشكّ في بقاء نفس ذلك الفرد الذي تيقّن بوجوده.
٢. أن يكون الشكّ
في بقاء الكلّيّ من جهة الشكّ في تعيين ذلك الفرد المتيقّن سابقا ، بأن يتردّد
الفرد بين ما هو باق جزما وبين ما هو مرتفع جزما ، أي إنّه كان قد تيقّن على
الإجمال بوجود فرد ما من أفراد الكلّيّ ، فيتيقّن بوجود الكلّيّ في ضمنه ، ولكن
هذا الفرد الواقعيّ مردّد عنده بين أن يكون له عمر طويل فهو باق جزما في الزمان
الثاني وبين أن
__________________
يكون له عمر قصير
فهو مرتفع جزما في الزمان الثاني. ومن أجل هذا الترديد يحصل له الشكّ في بقاء
الكلّيّ.
مثاله ما إذا علم
على الإجمال بخروج بلل مردّد بين أن يكون بولا أو منيّا ، ثمّ توضّأ ، فإنّه في
هذا الحال يتيقّن بحصول الحدث الكلّيّ في ضمن هذا الفرد المردّد ، فإن كان البلل
بولا فحدثه أصغر قد ارتفع بالوضوء جزما ، وإن كان منيّا فحدثه أكبر لم يرتفع
بالوضوء ، فعلى القول بجريان استصحاب الكلّيّ يستصحب هنا كلّيّ الحدث ، فتترتّب
عليه آثار كلّيّ الحدث ، مثل حرمة مسّ المصحف ، أمّا : آثار خصوص الحدث الأكبر أو
الأصغر فلا تترتّب ، مثل حرمة دخول المسجد ، وقراءة العزائم.
٣. أن يكون الشكّ
في بقاء الكلّيّ من جهة الشكّ في وجود فرد آخر مقام الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه
، أي إنّ الشكّ في بقاء الكلّيّ مستند إلى احتمال وجود فرد ثان ، غير الفرد
المعلوم حدوثه وارتفاعه ؛ لأنّه إن كان الفرد الثاني قد وجد واقعا ، فإنّ الكلّيّ
باق بوجوده. وإن لم يكن قد وجد فقد انقطع وجود الكلّيّ بارتفاع الفرد الأوّل.
أمّا
القسم الأوّل : فالحقّ فيه
جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلّيّ ، فيترتّب عليه أثره الشرعيّ ، كما لا كلام
في جريان استصحاب نفس الفرد ، فيترتّب عليه أثره الشرعيّ بما له من الخصوصيّة
الفرديّة. وهذا لا خلاف فيه.
وأمّا
القسم الثاني : فالحقّ فيه
أيضا جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلّيّ ، وأمّا : بالنسبة إلى الفرد فلا يجري
قطعا ، بل الفرد يجري فيه استصحاب عدم خصوصيّة الفرد ، ففي المثال المتقدّم يجري
استصحاب كلّيّ الحدث بعد الوضوء ، فلا يجوز له مسّ المصحف ، أمّا : بالنسبة إلى
خصوصيّة الفرد فالأصل عدمها ، فما هو آثار خصوص الجنابة ـ مثلا ـ لا يجب الأخذ بها
، فلا يحرم قبل الغسل ما يحرم على الجنب ، من نحو دخول المساجد ، وقراءة العزائم ،
كما تقدّم.
ولأجل بيان صحّة
جريان الاستصحاب في الكلّيّ في هذا القسم الثاني ، وحصول
__________________
أركانه لا بدّ من
ذكر ما قيل : إنّه مانع من جريانه ، والجواب عنه. وقد أشار الشيخ قدسسره إلى الوجهين في
المنع ، وأجاب عنهما ، وهما كلّ ما يمكن أن يقال في المنع :
الأوّل : قال : «وتوهّم عدم جريان الأصل في القدر المشترك من حيث
دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وما هو مشكوك الحدوث وهو محكوم الانتفاء بحكم
الأصل».
توضيح التوهّم أنّ
أهمّ أركان الاستصحاب هو اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، وفي المقام إن حصل
الركن الأوّل ـ وهو اليقين بالحدوث ـ فإنّ الركن الثاني ـ وهو الشكّ في البقاء ـ غير
حاصل. وجه ذلك أنّ الكلّيّ لا وجود له إلاّ بوجود أفراده ، ومن الواضح أنّ وجود
الكلّيّ في ضمن الفرد القصير مقطوع الارتفاع في الزمان الثاني وجدانا ، وأمّا وجوده
في ضمن الفرد الطويل فهو مشكوك الحدوث من أوّل الأمر ، وهو منفيّ بالأصل ، فيكون
الكلّيّ مرتفعا في الزمان الثاني ، إمّا وجدانا ، أو بالأصل تعبّدا ، فلا شكّ في
بقائه.
والجواب : أنّ هذا التوهّم فيه خلط بين الكلّيّ وفرده ، أو فقل :
فيه خلط بين ذات الحصّة من الكلّي ـ أي ذات الكلّيّ الطبيعيّ ـ وبين الحصّة منه
بما لها من الخصوصيّة ، والتعيّن الخاصّ ، فإنّ الذي هو معلوم الارتفاع إمّا
وجدانا أو تعبّدا إنّما هو الحصّة بما لها من التعيّن الخاصّ ، وهي بالإضافة إلى
ذلك غير معلومة الحدوث أيضا ، فلم يتحقّق فيها الركنان معا ؛ لأنّه كما أنّ كلّ
فرد من الفردين مشكوك الحدوث في نفسه ، فإنّ الحصّة الموجودة به بما لها من
التعيّن الخاصّ كذلك مشكوكة الحدوث ؛ إذ لا يقين بوجود هذه الحصّة ، ولا يقين
بوجود تلك الحصّة ، ولا موجود ثالث حسب الفرض.
وأمّا : ذات
الحصّة المتعيّنة واقعا ، لا بما لها من التعيّن الخاصّ بهذا الفرد أو بذلك الفرد
ـ أي القدر المشترك بينهما ـ ففي الوقت الذي هي فيه معلومة الحدوث هي مشكوكة
البقاء ؛ إذ لا علم بارتفاعها ، ولا تعبّد بارتفاعها ، بل لأجل القطع بزوال
التعيّن الخاصّ يشكّ في ارتفاعها وبقائها ؛ لاحتمال كون تعيّنها هو التعيّن الباقي
، أو هو التعيّن الزائل ، وارتفاع الفرد لا يقتضي إلاّ ارتفاع الحصّة المتعيّنة به
، وهي ـ كما قدّمنا ـ غير معلومة الحدوث ، وإنّما المعلوم [حدوثه هو] ذات الحصّة ،
أي القدر المشترك.
__________________
والحاصل
أنّ ما هو غير
مشكوك البقاء ـ إمّا وجدانا أو تعبّدا ـ لا يقين بحدوثه أصلا ، وهو الحصّة بما لها
من التعيّن الخاصّ ، وما هو متيقّن الحدوث هو مشكوك البقاء وجدانا ، وهو ذات
الحصّة ، لا بما لها من التعيّن الخاصّ. وقد أشار الشيخ قدسسره إلى هذا الجواب
بقوله : «إنّه لا يقدح ذلك في استصحابه بعد فرض الشكّ في بقائه وارتفاعه» .
الثاني : قال الشيخ الأعظم قدسسره «توهّم كون الشكّ
في بقائه مسبّبا عن الشكّ في حدوث ذلك المشكوك الحدوث ، فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه
لزمه ارتفاع القدر المشترك ؛ لأنّه من آثاره».
والجواب الصحيح هو ما أشار إليه بقوله : «فإنّ ارتفاع القدر
المشترك من لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع ، لا من لوازم عدم حدوث
الأمر الآخر. نعم ، اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما هو في ضمنه من القدر
المشترك في الزمان الثاني ، لا ارتفاع القدر المشترك بين الأمرين. وبينهما فرق
واضح» .
توضيح ما أفاده من
الجواب أنّا نمنع أن يكون الشكّ في بقاء القدر المشترك ـ أي الكلّي ـ مسبّبا عن
الشكّ في حدوث الفرد الطويل وعدمه ؛ لأنّ وجود الكلّيّ ـ حسب الفرض ـ متيقّن
الحدوث من أوّل الأمر ، إمّا في ضمن القصير ، أو الطويل ، فلا يعقل أن يكون عدمه
بعد وجوده مستندا إلى عدم الفرد الطويل من الأوّل ، وإلاّ لما وجد من الأوّل ، بل
في الحقيقة أنّ الشكّ في بقاء الكلّي ـ أي في وجوده وعدمه ـ بعد فرض القطع بوجوده
مستند إلى احتمال وجود هذا الفرد الطويل ، مع احتمال وجود ذلك الفرد القصير ، يعني
يستند إلى الاحتمالين معا ، لا لخصوص احتمال وجود الطويل ؛ إذ يحتمل بقاء وجوده
الأوّل ؛ لاحتمال حدوث الطويل ، ويحتمل عدمه بعد الوجود ؛ لاحتمال حدوث القصير
المرتفع قطعا في ثاني الحال.
والحاصل
أنّ احتمال وجود
الكلّيّ وعدمه في ثاني الحال مسبّب عن الشكّ في أنّ الحادث المعلوم هل هو الطويل
أو القصير؟ لا أنّه مسبّب عن خصوص احتمال حدوث الطويل ، حتى يكون نفيه بالأصل
موجبا لنفي الشكّ في وجود الكلّي في ثاني الحال ،
__________________
فلا بدّ من نفي
كلّ من الفردين بالأصل ، حتى يكون ذلك موجبا لارتفاع القدر المشترك ، والأصلان معا
لا يجريان مع فرض العلم الإجمالي.
وأمّا
القسم الثالث : ـ وهو ما إذا
كان الشكّ في بقاء الكلّيّ مستندا إلى احتمال وجود فرد ثان ، غير الفرد المعلوم
حدوثه ثمّ ارتفاعه ـ فهو على نحوين :
١. أن يحتمل حدوث
الفرد الثاني في ظرف وجود الأوّل.
٢. أن يحتمل حدوثه
مقارنا لارتفاع الأوّل ، وهو على نحوين : إمّا بتبدّله إليه ، أو بمجرّد المقارنة
الاتّفاقيّة بين الارتفاع الأوّل ، وحدوث الثاني.
وفي جريان
الاستصحاب في هذا القسم الثالث من الكلّي احتمالات ، أو أقوال ثلاثة :
أ : جريانه مطلقا.
ب : عدم جريانه
مطلقا .
ج : التفصيل بين
النحوين المذكورين ، فيجري في الأوّل ، دون الثاني مطلقا. وهذا التفصيل هو الذي
مال إليه الشيخ الأعظم قدسسره .
والسرّ في الخلاف
يعود إلى أنّ الأركان في الاستصحاب هل هي متوفّرة هنا ، أو غير متوفّرة؟ والمشكوك
توفّره في المقام هو الركن الخامس ، وهو اتّحاد متعلّق اليقين والشكّ.
ولا شكّ في أنّ
الكلّيّ المتيقّن نفسه هو المشكوك بقاؤه في هذا القسم ، فهو واحد نوعا ، فينبغي أن
يسأل :
أوّلا : هل هذه الوحدة النوعيّة بين المتيقّن والمشكوك كافية في
تحقّق الوحدة المعتبرة في الاستصحاب ، أو غير كافية ، بل لا بدّ له من وحدة
خارجيّة؟
ثانيا : بعد فرض عدم كفاية الوحدة النوعيّة ، هل أنّ الكلّيّ
الطبيعيّ له وحدة خارجيّة بوجود أفراده ـ بمعنى أنّه يكون بوحدته الخارجيّة معروضا
لتعيّنات أفراده المتباينة ؛ بناء
__________________
على ما قيل من أنّ
نسبة الكلّيّ إلى أفراده من باب نسبة الأب الواحد إلى الأبناء الكثيرة ، كما نقل
ذلك ابن سينا عن بعض من عاصره ـ ، أو أنّ الكلّيّ الطبيعيّ لا وجود له إلاّ بوجود أفراده
بالعرض ، ففي كلّ فرد حصّة موجودة منه غير الحصّة الموجودة في فرد آخر ، فلا تكون
له وحدة خارجيّة بوجود أفراده المتعدّدة ، بل نسبته إلى أفراده من قبيل نسبة
الآباء المتعدّدة إلى الأبناء المتعدّدة ، وهذا هو المعروف عند المحقّقين ؟
فالقائل بجريان
الاستصحاب في هذا القسم ، إمّا أن يلتزم بكفاية الوحدة النوعيّة في تحقّق ركن
الاستصحاب ، وإمّا أن يلتزم بأنّ الكلّيّ له وحدة خارجيّة بوجود أفراده المتعدّدة ،
وإلاّ فلا يجري الاستصحاب.
وإذا اتّضح هذا
التحليل الدقيق لمنشا الأقوال في المسألة يتّضح الحقّ فيها ، وهو القول الثاني ،
وهو عدم جريان الاستصحاب مطلقا.
أمّا أوّلا : فلأنّه من الواضح عدم كفاية الوحدة النوعيّة في
الاستصحاب ؛ لأنّ معنى بقاء المستصحب فيه هو استمراره خارجا بعد اليقين به. ونحن
لا نعني من استصحاب الكلّيّ استصحاب نفس الماهيّة من حيث هي ؛ فإنّ هذا لا معنى له
، بل المراد استصحابها بما لها من الوجود الخارجيّ لغرض
ترتيب أحكامها الفعليّة.
وأمّا ثانيا : فلأنّه من الواضح أيضا أنّ الحقّ أنّ نسبة الكلّيّ إلى
أفراده من قبيل نسبة الآباء إلى الأبناء ؛ لأنّه من الضروريّ أنّ الكلّيّ لا وجود
له إلاّ بالعرض بوجود أفراده.
وفي مقامنا قد
وجدت حصّة من الكلّيّ ، وقد ارتفعت هذه الحصّة يقينا ، والحصّة الأخرى منه في
الفرد الثاني هي من أوّل الأمر مشكوكة الحدوث ، فلم يتّحد المتيقّن والمشكوك.
وبهذا يفترق القسم
الثالث عن القسم الثاني من استصحاب الكلّيّ ؛ لأنّه في القسم الثاني ـ كما سبق ـ ذات
الحصّة من الكلّيّ المتعيّنة واقعا ، المعلومة الحدوث على الإجمال هي نفسها مشكوكة
البقاء ، حيث لا يدرى أنّها الحصّة المضافة إلى الفرد الطويل ، أو الفرد القصير.
__________________
وبهذا أيضا يتّضح
أنّه لا وجه للتفصيل المتقدّم الذي مال إليه الشيخ الأعظم قدسسره ؛ فإنّ احتمال
وجود الفرد الثاني في ظرف وجود الفرد الأوّل لا يقدّم ، ولا يؤخّر ، ولا يضمن
الوحدة الخارجيّة للمتيقّن والمشكوك ، إلاّ إذا قلنا بمقالة من يذهب إلى أنّ نسبة
الكلّيّ إلى أفراده من قبيل نسبة الأب الواحد إلى أبنائه ، وحاشا الشيخ قدسسره أن يرى هذا
الرأي. ولا شكّ أنّ الحصّة الموجودة في ضمن الفرد الثاني من أوّل الأمر مشكوكة
الحدوث. وأمّا : المتيقّن حدوثه فهو حصّة أخرى ، وهي في عين الحال متيقّنة
الارتفاع. ويكون وزان هذا القسم وزان استصحاب الفرد المردّد الآتي ذكره.
تنبيه : وقد استثني من هذا القسم الثالث ما يتسامح به العرف ،
فيعدّون الفرد اللاحق المشكوك الحدوث مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد ، مثل ما
لو علم السواد الشديد في محلّ وشكّ في ارتفاعه أصلا ، أو تبدّله بسواد أضعف ،
فإنّه في مثله حكم الجميع بجريان الاستصحاب. ومن هذا الباب ما لو كان شخص كثير
الشكّ ثمّ شكّ في زوال صفة كثرة الشكّ عنه أصلا ، أو تبدّلها إلى مرتبة من الشكّ
دون الأولى.
قال الشيخ الأعظم قدسسره في تعليل جريان
الاستصحاب في هذا الباب : «فالعبرة في جريان الاستصحاب عدّ الموجود السابق مستمرّا
إلى اللاحق ولو كان الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا بحسب الدقّة للفرد السابق»
. يعني : أنّ العبرة في اتّحاد المتيقّن ، والمشكوك هو
الاتّحاد عرفا ، وبحسب النظر المسامحيّ ، وإن كانا بحسب الدقّة العقليّة متغايرين
، كما في المقام.
التنبيه الثاني :
الشبهة العبائيّة أو استصحاب الفرد المردّد
ينقل أنّ السيّد
الجليل السيّد إسماعيل الصدر قدسسره زار النجف الأشرف أيّام الشيخ المحقّق الآخوند قدسسره ، فأثار في
أوساطها العلميّة مسألة تناقلوها ، وصارت عندهم موضعا للردّ والبدل ، واشتهرت
بالشبهة العبائيّة .
__________________
وحاصلها أنّه لو
وقعت نجاسة على أحد طرفي عباءة ، ولم يعلم أنّه الطرف الأعلى ، أو الأسفل ، ثمّ
طهّر أحد الطرفين ـ وليكن الأسفل مثلا ـ ، فإنّ تلك النجاسة المعلومة الحدوث تصبح
نفسها مشكوكة الارتفاع ، فينبغي أن يجري استصحابها ، بينما أنّ مقتضى جريان
استصحاب النجاسة في هذه العباءة أن يحكم بنجاسة البدن ـ مثلا ـ الملاقي لطرفي
العباءة معا. مع أنّ هذا اللازم باطل قطعا بالضرورة ؛ لأنّ ملاقي أحد طرفي الشبهة
المحصورة محكوم عليه بالطهارة بالإجماع ـ كما تقدّم في محلّه ـ. وهنا لم يلاق
البدن إلاّ أحد طرفي الشبهة وهو الطرف الأعلى.
وأمّا : الطرف
الأسفل ـ وإن لاقاه ـ فإنّه قد خرج عن طرف الشبهة ـ حسب الفرض ـ بتطهيره يقينا ،
فلا معنى للحكم بنجاسة ملاقيه.
والنكتة في الشبهة
أنّ هذا الاستصحاب يبدو من باب استصحاب الكلّيّ من القسم الثاني ، ولا شكّ في أنّ
مستصحب النجاسة لا بدّ أن يحكم بنجاسة ملاقيه ، بينما أنّه هنا لا يحكم بنجاسة
الملاقي ، فيكشف ذلك عن عدم صحّة استصحاب الكلّيّ من القسم الثاني.
وقد استقرّ الجواب
عند المحقّقين عن هذه الشبهة على أنّ هذا الاستصحاب ليس من باب استصحاب
الكلّيّ ، بل هو من نوع آخر سمّوه «استصحاب الفرد المردّد». وقد اتّفقوا على عدم
صحّة جريانه ، عدا ما نقل عن بعض الأجلّة في حاشيته على
كتاب البيع للشيخ الأعظم قدسسره ؛ إذ قال بما
محصّله : «أنّ تردّده بحسب علمنا لا يضرّ بيقين وجوده سابقا ، والمفروض أنّ أثر
القدر المشترك أثر لكلّ من الفردين ، فيمكن ترتيب ذلك الأثر باستصحاب الشخص
الواقعيّ المعلوم سابقا ، كما في القسم الأوّل الذي حكم الشيخ قدسسره فيه باستصحاب كلّ
من الكلّيّ وفرده ».
أقول : ويجب أن يعلم ـ قبل كلّ شيء ـ الضابط لكون المورد من باب
استصحاب الكلّيّ [من] القسم الثاني ، أو من باب استصحاب الفرد المردّد ، فإنّ عدم
التفرقة بين
__________________
الموردين هو
الموجب للاشتباه ، وتحكّم تلك الشبهة. إذن ما الضابط لهما؟
إنّ الضابط في ذلك
أنّ الأثر المراد ترتّبه ، إمّا أن يكون أثرا للكلّيّ ، أي أثرا لذات الحصّة من
الكلّيّ ، لا بما لها من التعيّن الخاصّ والخصوصيّة المفرّدة ، أو أثرا للفرد ، أي
أثرا للحصّة بما لها من التعيّن الخاصّ والخصوصيّة المفرّدة.
فإن كان الأوّل
فيكفي فيه استصحاب القدر المشترك ، أي ذات الحصّة الموجودة ، إمّا في ضمن الفرد
المقطوع الارتفاع على تقدير أنّه هو الحادث ، أو الفرد المقطوع البقاء على تقدير
أنّه هو الحادث ، ويكون ذلك من باب استصحاب الكلّيّ [من] القسم الثاني ، وقد تقدّم
أنّنا لا نعني من استصحاب الكلّي نفس الماهيّة الكلّيّة ، بل استصحاب وجودها.
وإن كان الثاني
فلا يكفي استصحاب القدر المشترك ، وإنّما الذي ينفع استصحاب الفرد بما له من
الخصوصيّة المفرّدة ، المفروض فيه أنّه مردّد بين الفرد المقطوع الارتفاع على
تقدير أنّه الحادث ، أو الفرد المقطوع البقاء على تقدير أنّه الحادث ، ويكون ذلك
من باب استصحاب الفرد المردّد.
إذا عرفت هذا
الضابط فالمثال الذي وقعت فيه الشبهة هو من النوع الثاني ؛ لأنّ الموضوع للنجاسة
المستصحبة ليس أصل العباءة ، أو الطرف الكلّيّ منها ، بل نجاسة الطرف الخاصّ بما
هو طرف خاصّ ، إمّا الأعلى أو الأسفل.
وبعد هذا يبقى أن
نتساءل : لما ذا لا يصحّ جريان استصحاب الفرد المردّد؟ نقول : لقد اختلفت تعبيرات
الأساتذة في وجهه ، فقد قيل : «لأنّه لا يتوفّر فيه الركن الثاني ، وهو الشكّ في
البقاء» ، وقيل : «بل لا يتوفّر الركن الأوّل ، وهو اليقين بالحدوث
، فضلا عن الركن الثاني».
أمّا : الوجه
الأوّل فبيانه أنّ الفرد بما له من الخصوصيّة مردّد ـ حسب الفرض ـ بين ما هو مقطوع
البقاء ، وبين ما هو مقطوع الارتفاع ، فلا شكّ في بقاء الفرد الواقعيّ الذي كان
معلوم الحدوث ؛ لأنّه إمّا مقطوع البقاء ، أو مقطوع الارتفاع.
__________________
وأمّا : الوجه
الثاني ـ وهو الأصحّ ـ فبيانه أنّ اليقين بالحدوث إن أريد به اليقين بحدوث الفرد
مع قطع النظر عن الخصوصيّة المفرّدة ـ لأنّها مجهولة حسب الفرض ـ فاليقين موجود ،
ولكنّ المتيقّن حينئذ هو الكلّيّ الذي يصلح للانطباق على كلّ من الفردين ، وإن
أريد به اليقين بحدوث الفرد بما له من الخصوصيّة المفرّدة فواضح أنّه غير حاصل
فعلا ؛ لأنّ المفروض أنّ الخصوصيّة المفرّدة مجهولة ، ومردّدة بين خصوصيّتين ،
فكيف تكون متيقّنة في عين الحال؟! إذ المردّد بما هو مردّد لا معنى لأن يكون
معلوما متعيّنا ، هذا خلف محال ، وإنّما المعلوم هو القدر المشترك. وفي الحقيقة
أنّ كلّ علم إجماليّ مؤلّف من علم وجهل ، ومتعلّق العلم هو القدر المشترك ،
ومتعلّق الجهل خصوصيّاته ، وإلاّ فلا معنى للإجمال في العلم ، وهو عين اليقين
والانكشاف. وإنّما سمّي بـ «العلم الإجماليّ» ؛ لانضمام الجهل بالخصوصيّات إلى
العلم بالجامع.
وعليه ، فإنّ ما
هو متيقّن ـ وهو الكلّي ـ لا فائدة في استصحابه لغرض ترتّب أثر الفرد بخصوصه ، وما
له الأثر المراد ترتّبه عليه ـ وهو الفرد. بخصوصيّته ـ غير متيقّن ، بل هو مجهول
مردّد بين خصوصيّتين ، فلا يتحقّق في استصحاب الفرد المردّد ركن اليقين بالحالة
السابقة ، لا أنّ الفرد المردّد متيقّن ، ولكن لا شكّ في بقائه.
والوجه الأصحّ هو
الثاني ، كما ذكرنا. وأمّا : الوجه الأوّل ـ وهو أنّه لا شكّ في بقاء المتيقّن ـ فغريب
صدوره عن بعض أهل التحقيق ، فإنّ كونه مردّدا بين ما هو مقطوع البقاء وبين ما هو مقطوع
الارتفاع معناه في الحقيقة هو الشكّ فعلا في بقاء الفرد الواقعيّ وارتفاعه ؛ لأنّ
المفروض أنّ القطع بالبقاء والقطع بالارتفاع ليسا قطعين فعليّين ، بل كلّ منهما
قطع على تقدير مشكوك ، والقطع على تقدير مشكوك ليس قطعا فعلا ، بل هو عين الشكّ.
وعلى كلّ حال ،
فلا معنى لاستصحاب الفرد المردّد ، ولا معنى لأن يقال ـ كما سبق عن بعض الأجلّة قدسسرهم ـ : «إنّ تردّده بحسب علمنا لا يضرّ بيقين وجوده سابقا» ؛ فإنّه كيف يكون
تردّده بحسب علمنا لا يضرّ باليقين؟! وهل اليقين إلاّ العلم؟ إلاّ إذا أراد من
اليقين
__________________
ـ بوجوده سابقا ـ اليقين
بالقدر المشترك ، والتردّد في الفرد ، فاليقين متعلّق بشيء ، والتردّد بشيء آخر ،
فيتوفّر ركنا الاستصحاب بالنسبة إلى القدر المشترك ، لا بالنسبة إلى الفرد المراد
استصحابه ، فما هو متيقّن لا يراد استصحابه ، وما يراد استصحابه غير متيقّن ، على
ما سبق بيانه.
تمرينات
(٦٩)
١. ما هي أقسام
استصحاب الكلّي؟ ايت لكلّ قسم مثلا.
٢. هل يجري الاستصحاب
في القسم الأوّل؟
٣. هل يجري
الاستصحاب في القسم الثاني؟
٤. اذكر الوجهين
المذكورين في عدم جريان الاستصحاب في القسم الثاني. واذكر الجواب عنهما.
٥. ما هي الأقوال
في جريان الاستصحاب في القسم الثالث؟ وما هو منشأ الأقوال؟
٦. اذكر القول
الراجح عند المصنّف في القسم الثالث.
٧. ما هي الشبهة
العبائيّة؟
٨. ما الجواب عن
الشبهة العبائيّة؟
٩. لما ذا لا يصحّ
جريان استصحاب الفرد المردّد؟
الفهارس
العامة
١ ـ فهرس
الآيات الكريمة
«الفاتحة»
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ٥ / ١٤٢
«البقرة»
(أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ٢٧٥ / ٤٧
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ ...) ١٥٩ / ٤٣٧
(ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) ١٨٧ / ١٣٧
(حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ١٨٧ / ٤٢٩
(فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) ٢٣ / ٧٩
(فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) ١٤٨ / ٩٥
(فَشَرِبُوا مِنْهُ
إِلاَّ قَلِيلاً) ٢٤٩ / ١٤٠
(ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) ١٠٦ / ٤١١
(وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) ٤٣ ، ٨٣ ، ١١٠ / ١٩ ، ١٠٥
(وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) ٢٣٣ / ١٤٩
(يُرِيدُ اللهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ١٨٥ / ٢٥٤ ،
٣٩٨
(وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ...)
(وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) ٢٨٨ / ١٧٢
|
|
«آل
عمران»
(وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ١٣٣ / ٩٥
(وَما مُحَمَّدٌ
إِلاَّ رَسُولٌ) ١٤٤ / ١٤٠
(إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) ٣١ / ٤٢١
«النساء»
(إِذا ضَرَبْتُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) ٩٤ / ٤٣٠
(وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا ...) ١٠١ / ٣٩٦
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ...)
٥٩ / ٢٤٥ ، ٤٢١
(إِنَّ الصَّلاةَ
كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) ٣ / ١٩
(حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) ٢٣ / ٢١٢
(فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) ١٠٣ / ٧٩
(فَلَمْ تَجِدُوا
ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ٤٣ / ٢٥٤
(وَرَبائِبُكُمُ
اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ) ٢٣ / ١٣٤
(وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) ١١٥ / ٤٥٤
(فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) ١٦٠ / ٥٢٦
«المائدة»
(أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ١ / ٢١٢
|
(أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) ١ / ٧٩ ، ١٧٦
(فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ) ٦ / ١٠٥
(فَجَزاءٌ مِثْلُ ما
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ٩٥ / ٥٢٩
(فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ) ٤ / ١٩٧
(وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا) ٢ / ٨٤
(وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ٣٨ / ١٣٣ ، ١٤٣
، ٢٠٨
(وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ) ٦ / ٥٠٤
(وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ٩ / ٢٠٧
«الأنعام»
(أَنْعامٌ حُرِّمَتْ
ظُهُورُها) ١٣٨ / ٢١٢
(إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) ١١٦ / ٣٧٦ ،
٣٧٨
«التوبة»
(وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ١٢٢ / ٤٣٢ ،
٤٣٣
(وَمِنْهُمُ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ...)
٦١ / ٤٣٨
«يونس»
(إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ٣٦ / ٣٧٦ ، ٤٤٩ ، ٥٢٧
(قُلْ آللهُ أَذِنَ
لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) ٥٩ / ٣٧٦
(وَما كانَ هذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) ٣٧ / ٤٠٩
«يوسف»
(وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ) ٨٢ / ١٤٦
|
|
«الرعد»
(إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرٌ) ٧ / ١٤٠
(يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ ...) ٣٩ / ٤١٣
(لَقَدْ كانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) ٥٢٨
«النحل»
(وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ
مُفْتَرٍ) ١٠١ / ٤١١ ، ٤١٤
(فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ٤٣ / ٤٣٨
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) ٥٢٨
(يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) ٩٠ / ٥٢٩
«الاسراء»
(فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍ) ٢٣ / ١٢٢ ، ٥٣٨
«المؤمنون»
(أَمْ يَقُولُونَ
بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) ٧٠ / ١٤٢
«النور»
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا) ٤ ـ ٥ / ١٧٣
(وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ٣٣ / ١٢٤
«الفرقان»
(النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللهُ) ٦٨ / ٢١٢
«الأحزاب»
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ) ٢١ / ٤٢٠ ، ٤٢٣
(النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ٦ / ٤٢٢
«يس»
(قالَ مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) ٧٨ ـ ٧٩ / ٥٢٨
|
«فصّلت»
(اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ) ٤٠ / ٧٩
(حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ٥٣ / ٤٢٩
«الأحقاف»
(وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) ١٥ / ١٤٩
«الفتح»
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) ٢٩ / ٢٠٧
«الحجرات»
(إِنْ جاءَكُمْ
فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا
عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) ٦ / ١٧٦ ، ٤٢٩ ، ٤٣٠ ، ٥٠٩
«الجمعة»
(إِذا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ ...) ٩ / ٣٥٨
|
|
«الحشر»
(فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ) ٢ / ٥٢٨
(وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) ٧ / ٤٢١
«النجم»
(إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ٢٨ / ١٧٦ ، ٤٤٩ ، ٥٢٧
«الزلزلة»
(فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) ٧ / ٥٣٨
«الكوثر»
(إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ) ١ / ٥٠٥
(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ) ٣ / ٥٠٦
|
٢ ـ فهرس
الأحاديث
«أ»
اتّق الله ولا
تقس ، فإنّا نقف ... ٥٢٠
إذا أردت حديثا
فعليك بهذا الجالس ٤٣٩
إذا زالت الشمس
فقد وجب الطهور والصلاة ٣٠١
إذا سمعت من
أصحابك الحديث وكلّهم ... ٥٧١
إذا كان ذلك
فارجئه حتى تلقى امامك ... ٥٧٥
إذن فارجئه حتى
تلقى امامك فتسأله ٥٧٥
إذن فتخيّر
أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر ٥٧٣
أرأيتك لو
حدّثتك بحديث العام ... ٦١٦
أرأيت لو كان
على أبيك دين ... ٥٣٠
اكتب وبثّ علمك
في بني عمّك ... ٤٤٠
إنّ أفضل
الأعمال أحمزها ٢٧٣
إنّ دين الله لا
يصاب بالعقول ٢٢٥ ، ٢٤٧ ، ٤٨٣
إنّ التراب
يكفيك عشر سنين ٢٥٤
إنّ السنة إذا
قيست محق الدين ٥١٩
إن كانت قرئت
عليه آية التقصير ... ٣٩٦
إنّ لله على
الناس حجتين : حجّة ظاهرة و ... ٤٨٣
اقض ما فات كما
فات ٢٧٨
أينقص الرطب إذا
يبس ... ٥٣١
«ب»
بأيّهما أخذت من
باب التسليم وسعك ٥٧٤
بما ذا تقضي إذا
لم تجد في كتاب الله ... ٥٣٠
|
|
«ت»
تعيد الصلاة
وتغسله ... ٦٣٠
«ث»
ثمن العذرة سحت
٥٦٧
«ح وخ»
الحكم ما حكم به
أعدلهما وافقههما و ... ٥٨١
خذ بما اشتهر
بين أصحابك ودع الشاذ النادر ٥١٠
«ر»
رفع عن امتي ...
٢٥٢
رفع عن امتي ما
لا يعلمون ... ١٤٦
«ع»
علّمنى رسول
الله ألف باب من العلم ... ٤١٨
على اليد ما
أخذت حتى تؤدّى ١٦٣
«ف»
فإذا لم تعلم فموسّع
عليك بأيّهما أخذت ٥٧١
فذلك الذي يسع
الأخذ بهما جميعا ... ٥٧٤
في ذلك حديثان :
أمّا أحدهما ... ٥٧٣
في الغنم
السائمة زكاة ١٣٣
«ك»
كلّ شيء لك حلال
حتى تعرف انّه حرام بعينه ١٣٧ ، ١٣٩
كلّ شيء طاهر
حتى تعلم انّه نجس ١٣٨ ، ٢٦١
|
كلّ ماء طاهر
الاّ ما تغيّر ... ١٦١
«ل»
لا بأس ببيع
العذرة ٥٦٧
لا بيع إلاّ فى
ملك ٢٠٩
لا تأكل ، انّ
عليّا كان يقول ... ١٢٧
لا تجتمع امتى
على الخطأ ٤٥٥
لا تعمل بواحد
منهما حتى تلقى ... ٥٧٥
لا تقضين ولا
تفضلنّ إلاّ بما تعلم ... ٥٣٠
لا جماعة في
نافلة ٢٠٩ ، ٢١٠ ، ٢١١
لا حرج في الدين
٢١٢
لا رضاع بعد
فطام ٢١٠
لا رهبانية في
الاسلام ٢١١
لا سيف إلاّ ذو
الفقار ولا فتى إلاّ علي ١٤٠
لا شكّ لكثير
الشك ٥٥٥
لا صلاة الاّ
بفاتحة الكتاب ٢٠٩
لا صلاة الاّ
بطهور ١٤١ ، ٢٠٩ ، ٢١٠ ، ٢٧٨
لا صلاة لحاقن
٢١٠
لا صلاة لمن
جاره المسجد ... ١٤٦ ، ٢٠٩
لا ضرر ولا ضرار
في الاسلام ١٤٦ ، ٢١٢
لا غشّ في
الاسلام ٢١١
|
|
لا غيبة لفاسق
٢٠٩ ، ٢١٠
لا ، لأنّك
اعرته ايّاه ... ٦٣٦
لو كان الدين
بالرأى لكان المسح ... ٥٣٥
«م»
ماء البئر واسع
لا يفسده شيء ... ٥٣٧
مروهم بالصلاة
وهم أبناء سبع ١٠٠
موسّع عليك
بأيّة عملت ٥٧٢
مطل الغني ظلم
١٣٦
من أين علمت أنّ
المسح ببعض الرأس؟ ... ٥٠٤
من حفظ على امتي
اربعين حديثا ... ٤٤٠
من فسّر القرآن
برأيه فليتبوّأ ... ٥٠٥
«و»
وأمّا الحوادث
الواقعة فارجعوا ... ٤٤٠
وما لم تجدوه في
شيء من هذه الوجوه ... ٥٧٤
«ى»
يا زرارة قد
تنام العين ولا ينام ... ٦٢٣
يرجئه حتى يلقى
من يخبره فهو في ... ٥٧٣
يركع بركعتين
واربع سجدات ... ٦٢٩
يكفيك عشر سنين
٢٥٢
|
٣ ـ فهرس
الأعلام
«أ»
أبان بن تغلب
٥٣٩
ابن ادريس ٤٢٦ ،
٤٢٧ ، ٤٤٢ ، ٤٤٤ ، ٤٤٥ ، ٤٧٥
ابن أبي عمير
٤٤٦
ابن بزيع ٥٣٧
ابن حزم ٥٢٠ ،
٥٢٨ ، ٥٣٠ ، ٥٣١
ابن حنظلة ٥١١ ،
٥٨١
ابن زهرة ٤٢٧
ابن سينا (الشيخ
الرئيس) ٢٣٤ ، ٢٤٠ ، ٦٥٥
ابن عباس ٥٣٤
ابن مسعود ٥٣٤
أبو بصير ١٢٧
ابو بكر ٤٥٤ ،
٤٥٧ ، ٥٣٣
ابو حنيفة ٥١٩ ،
٥٢٠
الاصفهاني (الشيخ
محمد تقى) ٢٦٠ ، ٤٧٦
الاصفهاني (الشيخ
محمد حسين) ٢٨٧ ، ٢٩٨ ، ٤٤٩
الأنصارى (الشيخ
الأعظم) ١٦٥ ، ١٦٧ ، ٢٨١ ، ٢٨٥ ، ٢٩٨ ، ٣٤٥ ؛ ٣٨٠ ، ٣٨٢ ، ٣٨٤ ، ٣٩٣ ، ٤٠١ ، ٤٢٧
، ٤٣٨ ، ٤٣٩ ، ٤٤١ ، ٤٤٢ ، ٤٤٣ ، ٤٤٥ ، ٤٤٦ ، ٤٥٩ ، ٤٦٦ ، ٤٧١ ، ٤٩٧ ، ٤٩٨ ، ٥١٦
، ٥١٧ ، ٥٥٣ ، ٥٦٦ ، ٥٦٧ ، ٥٩١ ، ٥٩٢ ، ٥٩٣ ، ٦٠٤ ، ٦٠٨ ، ٦١٣ ، ٦١٧ ، ٦٢٠ ، ٦٢١
، ٦٢٢ ، ٦٢٣ ، ٦٢٥ ، ٦٢٦ ، ٦٢٧ ، ٦٣٠ ، ٦٣٢ ،
|
|
٦٣٣ ، ٦٣٦ ـ ٦٤٣
، ٦٤٠ ، ٦٤١ ، ٦٤٦ ، ٦٤٧ ، ٦٥٠ ، ٦٥١ ، ٦٥٤ ، ٦٥٥
«ب»
الباقر عليهالسلام (ابى جعفر) ٥١٠ ، ٦٢٣ ،
٦٢٩ ، ٦٣٥
البحراني (الشيخ
يوسف) ٤٧٧
البهائي ٦٢٠
«ت»
التستري (الشيخ
اسد الله) ٤٦١
«ح»
الحارث بن عمرو
٥٣٠
الحارث بن
المغيرة ٥٧١ ، ٥٧٨
الحسن بن الجهم
٥٧١ ، ٥٨٥ ، ٥٨٦
الحسين عليهالسلام (الإمام) ٢٧٣ ، ٣١٥
الحلّي (المحقّق)
٤٦٠ ، ٤٧٥ ، ٦٢٠ ، ٦٣٧
الحلّى (العلاّمة)
(صاحب المبادئ) ٤٠١ ، ٤٢٠ ، ٤٢١ ، ٤٢٤ ، ٤٤١ ، ٤٦٥ ، ٥٣٥ ، ٥٤١ ، ٦٢٠
الحكيم (السيّد
محمد تقي) ٥٤١
«خ»
خالد بن وليد
٥٢٠
الخراسانى (المحقق
الخراسانى) ، (الآخوند) (صاحب الكفاية) ٣٠ ، ١١٣ ، ١٦٥ ، ١٦٦ ، ١٦٧ ، ١٩٨ ، ١٩٩
، ٢٦٢ ، ٣٢٩ ، ٣٣٣ ، ٣٥٣ ، ٣٩٨ ، ٤٩٧ ، ٤٩٨ ، ٥٤٤ ، ٥٧٩ ، ٥٨٧ ، ٥٩١ ، ٦١٩ ،
|
٦٣٥ ، ٦٣٧ ، ٦٣٩
، ٦٤٤ ، ٦٥٦
الخوانسارى (شارح
الدروس) ٦١٣ ، ٦١٤ ، ٦٢٠ ، ٦٢٧ ، ٦٣٧
«د»
داود بن على بن
خلف ٥١٩
«ر»
الراوندي (القطب)
٥٨٦
الرضا عليهالسلام (الامام) (ابو الحسن)
٥٧١ ، ٥٧٢
الرضي (نجم
الأئمة) ٣٠
«ز»
زرارة ٣٠ ، ٤٣٩
، ٥٠٤ ، ٥١٠ ، ٥٧٣ ، ٥٧٦ ، ٦٢٣ ، ٦٢٧
الزمخشري ٤٩٠
زيد بن ثابت ٥٣٣
«س»
سعد بن عبادة
٤٥٧
سلطان العلماء
١٨٦ ، ١٩٣
سماعة ٥٧٣ ، ٥٧٥
، ٥٧٦ ، ٥٧٨
السيد رضى الدين
بن طاوس ٤٤١
السيد المرتضى
٤٦ ، ٤٢٦ ، ٤٢٧ ، ٤٤٢ ، ٤٤٣ ، ٤٤٤ ، ٤٤٥ ، ٤٦٠
السبزواري (المحقق)
٦١٤ ، ٦١٧ ، ٦٢٢ ، ٦٤٠ ، ٦٤٢
«ش»
الشافعي ٤٥٤
الشهيد الأوّل
٤٧٥
الشيرازى (السيد
الميرزا) ٣١٦
«ص»
صاحب الذخيرة
٦٢٠
صاحب الجواهر
٣١٢ ، ٣١٦
|
|
صاحب المعالم
٣٨٧ ، ٣٨٨ ، ٢٩٨
صاحب الفصول ١٠٣
، ٢٢٥ ، ٢٤٦ ، ٢٤٨ ، ٣٦٧ ، ٣٦٨ ، ٣٩٣ ، ٤٧٩
صاحب الوسائل
٤٣٨
الصادق عليهالسلام (الامام) (ابو عبد الله)
١٢٧ ، ٢٤٧ ، ٥٢٠ ، ٥٣٩ ، ٥٧١ ، ٥٧٢ ، ٥٧٣ ، ٥٧٥ ، ٥٨٠ ، ٦٢٩ ، ٦٣٢
الصدر (السيد
اسماعيل) ٦٥٤
الصدوق ٥٧٤
«ط»
الطوسي (شيخ
الطائفة) ٤٠١ ، ٤٢٦ ، ٤٤١ ، ٤٤٢ ، ٤٤٤ ، ٤٤٥ ، ٤٦٢ ، ٤٦٦ ، ٤٧٤ ، ٦٢٢
الطوسي (نصير
الدين) ٣٧ ، ٢٣٥
الطباطبائى (العلاّمة)
٦٢٣
الطبرسي ٤٢٧ ،
٤٤٢
«ع»
عبد الصمد ٦٢٠
عبد الله بن
سنان ٦٣٦
عبد الله بن
محمد ٥٧٨
عثمان ٥٣٣
العضدي ٦١٩
عقيل ٢٠٧
على عليهالسلام (امير المؤمنين) ٣٣ ،
٥٥ ، ١٢٧ ، ٤١٨ ، ٤٥٧ ، ٥٣٥ ، ٦٣٢
على بن محمد
القاساني ٦٣٤ ، ٦٤٧
عمر بن حنظلة
٥٧٥
عمر بن الخطاب
٥٢٠ ، ٥٣١ ، ٥٣٣ ، ٥٣٤
عبد العزيز بن
المهتدي ٤٣٩
«غ»
الغزاليّ ٤٥٤ ،
٤٥٥ ، ٥٤١
|
«ف»
فاطمة عليهاالسلام ٥٠٦
الفضل بن شاذان
٣٢٠
«ق»
القاضي ابن براج
٤٢٧
القمي (المحقق) (صاحب
القوانين) ٣٦٧ ، ٤٧٦ ، ٥٠٠
القوشجي ٢٣٨
«ك»
الكاظمي (السيد
محسن) ٤٤٨ ، ٤٤٩ ، ٤٧٦
الكراجكي ٤٧٤
الكشي ٤٤٦
الكعبي ٣٠٩ ،
٣١٩
الكليني (صاحب
الكافي) ٥٧٤ ، ٥٧٦ ، ٥٨٠ ، ٥٨٣ ، ٥٨٦ ، ٥٩١
«م»
مالك ٤٥٨
|
|
مالك بن نويرة
٥٢٠
محمد تقى حكيم
٥٤١
المجلسي ٤٤١
المحقّق الثاني
٣١٢ ، ٣١٣ ، ٣١٦ ، ٣١٩
المحقّق
النائيني ١٦٦ ، ٢٠٠ ، ٢٦١ ، ٢٩٨ ، ٣١٣ ، ٣١٦ ، ٣٢٩ ، ٣٦٠ ، ٣٩٤ ، ٤٣٦ ، ٤٤٨ ،
٤٤٩ ، ٥٠٦ ، ٥٨٨ ، ٥٨٩ ، ٥٩٩ ، ٦٠١ ، ٦١٧ ، ٦٤٤ ، ٦٤٧
معاذ ٥٣٠
المغيرة بن شعبة
٥٣٠
المفيد (الشيخ)
٤٧٤
«ن»
النجاشي ٤٤٦
النراقى (الفاضل)
٥٨٦
«و، ى»
الوحيد البهبهاني
٥٨٧
يونس بن عبد
الرحمن ٤٣٩
|
٤ ـ فهرس
الكتب الواردة
الاحتجاج ٥٨٦
الإحكام (ابن حزم) ٥٣٢
أساس اللغة ٤٩٠
شرح الإشارات ٢٣٥
تجريد الاعتقاد ٢٣٨
جواهر الكلام ٥٥٣
جامع السعادات ٢٣٤
حاشية شرح الدروس ٦١٣
الحدائق ٤٧٧ ، ٥٨١
الذكرى ٤٧٥
السرائر ٤٤١ ، ٤٤٢ ، ٤٤٣
شرح الدروس ٦٢٠
شرح الوافية ٦١٣ ، ٦١٤
عوالى اللآلى ٥٦٠ ، ٥٧٣ ، ٥٧٥ ، ٥٨١
عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٥٧٤
فرائد الأصول (الرسائل) ٤٣٩ ، ٤٤١ ، ٤٤٦ ، ٤٥٠ ، ٤٦٨ ، ٥٩٢
|
|
الفصول ٤٢١
الكافي ٥١٣ ، ٥٣٩
كفاية الأصول (الكفاية) ١١٣ ، ١٨٨ ، ١٩٨ ، ٣٢٦ ، ٣٢٧ ، ٣٥٠ ، ٤٧٥ ، ٤٨٥ ، ٦٢٠
، ٦٥١
مجمع البيان ٤٤٢
المحصول ٤٧٦
ملخّص ابطال القياس ٥٢٨ ، ٥٣١ ، ٥٣٢ ، ٥٣٣
المدخل للفقه المقارن ٥٤٠
المستصفى ٥٣٣
معارج الأصول ٦١٤
معالم الأصول ١٨٦
المعتبر ٤٦١ ، ٤٧٣ ، ٤٧٥
المنطق ٣٧ ، ٣٨ ، ٢٣٥ ، ٢٣٩ ، ٤٢٥ ، ٥٢٣
النهاية ٤٠١ ، ٤٤١
وسائل الشيعة ٤٣٨ ، ٤٣٩ ، ٤٤١
|
٥ ـ مصادر
التحقيق
«ألف»
١. «أجود
التقريرات» ، السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئيّ ، مؤسّسة صاحب الأمر ، قم ، ١٤١٣
ه.
٢. «الاحتجاج» ،
أبو منصور احمد بن على بن ابي طالب الطبرسي ، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ،
١٤٠٣ ه.
٣. «الإحكام في
أصول الأحكام» ، سيف الدين علي بن أبي علي الآمدي ، دار الكتب العلميّة ، بيروت ،
١٤٠٠ ه.
٤. «الإحكام في
أصول الأحكام» ، ابن حزم على بن أحمد ، دار الحديث ، القاهرة.
٥. «احقاق الحق» ،
الشهيد القاضي نور الله بن السيد الشريف الحسيني الشوشتري ـ مع تعليقات آية الله
المرعشي ـ مكتبة آية الله المرعشي ، قم.
٦. «الأدب المفرد»
، أبو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري ، المطبعة السلفية ، ١٣٧٥ ه.
٧. «الأربعين في
أصول الدين» ، فخر الدين محمّد بن عمرو الحسين الرازي ، جامعة طهران ، ١٣٢٦ ش.
٨. «إرشاد الفحول»
، محمد بن على بن محمد الشوكانيّ ، دار المعرفة ، بيروت ، ١٣٩٩ ه.
٩. «اسد الغابة في
معرفة الصحابة» ، ابن الأثير ، ابو الحسن على بن أبي الكرم محمّد بن محمّد بن عبد
الكريم بن عبد الواحد الشيباني ، دار احياء التراث العربي ، بيروت.
١٠. «الاستبصار» ،
ابو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ، دار الكتب الاسلاميّة ، تهران.
١١. «الأصول
العامّة للفقه المقارن» ، محمد تقى الحكيم ، دار الأندلس ، ١٩٧٩ م.
١٢. «أصول الفقه»
، الشيخ محمد الخضريّ بك ، دار احياء التراث العربي ، بيروت.
١٣. «الأصول من
الكافي» ، ابو جعفر محمد بن يعقوب اسحاق الكليني الرازي ، دار صعب ، بيروت ، ١٤٠١
ه.
١٤. «اعلام
الموقعين» ، شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن ابي بكر (ابن القيم الجوزيّة) دار
الجيل ، بيروت.
١٥. «أقرب الموارد»
، سعيد الخوريّ الشرتوئيّ البناني ، مكتبة آية الله المرعشي.
١٦. «أوثق الوسائل
في شرح الرسائل» ، الميرزا موسى التبريزي ، الطبعة الحجريّة ، دار المعارف
الإسلاميّة ، طهران.
١٧. «إيضاح
الفوائد في شرح القواعد» ، فخر المحقّقين محمد بن الحسن الحلّى ، المطبعة العلميّة
، قم ، ١٣٧٨ ه.
«ب»
١٨. «بحار الأنوار»
، العلاّمة محمد باقر بن محمّد تقي المجلسي ، مؤسّسة الوفاء ، بيروت ، ١٤٠٣.
١٩. «بحر الفوائد
في شرح الفرائد» ، الميرزا محمّد حسن الآشتياني ، الطبعة الحجريّة ، مكتبة آية
الله المرعشي ، ١٤٠٣ ه.
٢٠. «بحوث في علم
الأصول» ـ تقريرات درس السيّد محمّد باقر الصدر ـ ، السيد محمود الهاشمي ، المجمع
العلمي للشهيد الصدر ، ١٤٠٥ ه.
٢١. «بدائع الأفكار»
، الشيخ حبيب الله الرشتي ، مؤسّسه آل البيت ، الطبعة الحجريّة ، قم.
٢٢. «بدائع
الأفكار» ، ـ تقريرات بحث المحقّق العراقيّ ـ ، الشيخ هاشم الآملي.
«ت»
٢٣. «تاج العروس»
، محمّد مرتضى الزبيدي ، مكتبة الحياة ، بيروت.
٢٤. «التبيان في
تفسير القرآن» ، شيخ الطائفة ، ابو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ، دار احياء التراث
العربي ، بيروت.
٢٥. «تبيين
الحقائق» ، فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي الحنفي ، دار المعرفة ، بيروت.
٢٦. «التبصرة في
أصول الفقه» ، ابراهيم بن على بن يوسف الشيرازي ، دار الفكر.
٢٧. «التذكرة
بأصول الفقه» ، الشيخ المفيد ، محمد بن محمد بن النعمان البغدادي ، المؤتمر
العالمي للشيخ المفيد.
٢٨. «تشريح الأصول»
، الشيخ على بن فتح الله النهاونديّ ، الطبعة الحجريّة ، ١٣٢٠ ه.
٢٩. «تفسير
البيضاوي» ، البيضاوي ، ابو سعيد عبد الله ابن عمر بن محمّد الشيرازي ، دار الكتب
العلميّة ، بيروت ، ١٤٠٨ ه.
٣٠. «تفسير كنز
الدقائق» ، الميرزا محمّد المشهدي ، مؤسسة النشر الاسلامي ، قم ، ١٤٠٧ ه.
٣١. «تفسير الكشاف»
، محمود بن عمر الزمخشري ، دار الكتاب العربي ، بيروت.
٣٢. «تقريرات
المجدّد الشيرازيّ» ، الشيخ على الروزدري ، مؤسّسة آل البيت ، قم ، ١٤٠٩ ه.
٣٣. «تنقيح الأصول»
ـ تقريرات بحث الإمام الخميني ـ ، حسين التقوي الاشتهاردي ، مؤسّسة تنظيم ونشر
آثار الإمام الخميني ، قم ، ١٤١٨ ه.
٣٤. «التنقيح
الرائع» ، جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي ، مكتبة آية الله المرعشي
، قم ، ١٤٠٤ ه.
٣٥. «التوحيد» ،
الشيخ الصدوق ، محمد بن على بن الحسين بن بابويه ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم.
٣٦. «تهذيب الأصول»
ـ تقريرات بحث الإمام الخميني ـ ، الشيخ جعفر السبحاني ، مؤسسة النشر الإسلامي ،
قم ، ١٣٦٣ ش.
٣٧. «تهذيب
الأحكام» ، أبو جعفر محمّد بن الحسن بن علي الطوسي ، مكتبة الصدوق ، ١٤١٧ ه.
«ج»
٣٨. «جامع أحاديث
الشيعة» ، ألّف تحت إشراف آية الله العظمى الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي ،
المطبعة العلميّة ، قم ، ١٣٩٩ ه.
٣٩. «جامع
السعادات» ، الشيخ محمد مهدي النراقي ، مؤسّسة الأعلمي ، بيروت.
٤٠. «جامع المقاصد
في شرح القواعد» ، المحقّق الثاني ، عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي ، مؤسّسة
آل البيت
لإحياء التراث ،
قم ، ١٤٠٨ ه.
٤١. «الجوامع
الفقهيّة» ، جماعة من الأركان ، قم ، مكتبة آية الله المرعشي ، ١٤٠٤ ه.
٤٢. «جواهر الكلام
في شرح شرائع الإسلام» ، الشيخ محمّد حسن النجفي ، دار الكتب الإسلاميّة ، طهران ،
١٣٦٧ ش.
٤٣. «الجوهر
النضيد» ، العلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن على بن المطهّر الحلّي ، مكتبة
بيدار ، ١٣٧١ ش.
«ح»
٤٤. «حاشية
الرسائل» ، الشيخ آقا رضا الهمداني ، الطبعة الحجريّة.
٤٥. «حاشية
المكاسب» ، الشيخ محمد حسين الأصفهانيّ ، دار الذخائر ، قم ، ١٤٠٨ ه.
٤٦. «حاشية ملاّ
عبد الله» ، المولى عبد الله بن الحسين اليزدي ، مكتبة المفيد والفيروزآبادي ، قم
، ١٣٦٣ ش.
٤٧. «الحاشية على
الهيات شرح الجديد التجريد» ، المولى المحقق احمد الأردبيلي ، مكتب الاعلام
الاسلامي ، قم ، ١٤١٩ ه.
٤٨. «الحدائق
الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» ، الشيخ يوسف بن أحمد البحراني ، مؤسّسة النشر
الإسلامي ، قم.
٤٩. «حقائق الأصول»
، السيد محسن الطباطبائي الحكيم ، المطبعة العلميّة ، النجف ، ١٣٧٢ ه.
٥٠. «الحكمة
المتعالية في الأسفار الأربعة» ، صدر المتألّهين ، محمد بن ابراهيم الشيرازي ،
مكتبة المصطفوي ، قم.
٥١. «حلية
الأولياء وطبقات الأصفياء» ، أبو نعيم احمد بن عبد الله الأصبهاني ، دار الكتاب
العربي ، بيروت ، ١٤٠٥ ه.
«خ»
٥٢. «الخصال» ،
الشيخ الصدوق ، محمد بن على بن الحسين بن بابويه القميّ ، دار التعارف ، بيروت ،
١٣٨٩ ه.
«د»
٥٣. «درر الفوائد»
، الشيخ عبد الكريم الحائري ، چاپخانه مهر ، قم.
٥٤. «الدرر
النجفيّة» ، الشيخ يوسف بن أحمد البحراني ، مؤسّسة آل البيت ، الطبعة الحجريّة.
٥٥. «دروس في علم
الأصول» ، السيد محمّد باقر الصدر ، مؤسّسة النشر الاسلامي ، قم ، ١٤١٨ ه.
٥٦. «دعائم
الإسلام» ، أبو حنيفة النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيّون التميمي المغربي
، دار المعارف ، ١٣٨٣ ه.
٥٧. «الذريعة إلى
أصول الشريعة» ، السيّد المرتضى علم الهدى ، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي ،
مطبعة جامعة طهران ، ١٣٦٣ ش.
«ذ»
٥٨. «ذخيرة المعاد»
، ملاّ محمّد باقر السبزواري ، مؤسّسة آل البيت ، قم ، الطبعة الحجريّة.
٥٩. «ذكرى الشيعة»
، الشهيد الأوّل ، محمّد بن جمال الدين مكّي العاملي الجزيني ، مؤسّسة آل البيت ،
قم ، ١٤١٩ ه.
«ر»
٦٠. «رجال الكشي»
، ابو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي ، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ، كربلاء.
٦١. «رجال النجاشي»
، أبو العباس احمد بن على النجاشي الاسدي الكوفي ، دار الأضواء ، بيروت ، ١٤٠٨ ه.
٦٢. «رسائل الشريف
المرتضى» ، السيّد المرتضى ، دار القرآن الكريم ، قم ، ١٤٠٥ ه.
٦٣. «الرسائل
الفشاركيّة» ، السيّد محمد الفشاركي ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، ١٤١٣ ه.
٦٤. «رسائل
المحقّق الكركي» ، المحقّق الثاني ، عليّ بن الحسين الكركي ، مكتبة آية الله
المرعشي ، قم ، ١٤٠٩ ه.
٦٥. «روضة الناظر
وجنّة المناظر» ، عبد الله بن احمد بن قدامة ، دار الكتاب العربي ، بيروت.
٦٦. «الرياض
النضرة في مناقب العشرة» ، أبو جعفر أحمد المحبّ الطبريّ ، دار الكتب العلميّة ،
بيروت.
«ز»
٦٧. «زبدة الأصول»
، الشيخ البهائي محمد بن الحسين بن عبد الصمد ، مخطوطة.
«س»
٦٨. «السرائر
الحاوي لتحرير الفتاوي» ، ابن إدريس الحلّي أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد ،
مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، ١٤١٠ ه.
٦٩. «سلّم الوصول
لشرح نهاية السئول» ، الشيخ محمد بخيت المطيع ، المطبوع بذيل نهاية السئول.
٧٠. «سنن ابي داود»
، ابو سليمان ابن الاشعث السجستاني الأزدي ، دار احياء التراث العربي ، بيروت.
٧١. «سنن البيهقي»
، (سنن الكبرى) ، ابو بكر احمد بن الحسين بن على البيهقي ، دار المعرفة ، بيروت.
٧٢. «سنن الدارمي»
، ابو محمّد عبد الله بن بهرام الدارمي ، دار الفكر ، بيروت.
٧٣. «سنن النسائي»
، أحمد بن شعيب بن علي بن جعفر بحر النسائي ، دار الفكر ، ١٣٤٨ ه.
«ش»
٧٤. «شرائع
الإسلام» ، المحقّق الحلّي ، جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي ، دار الأضواء
، بيروت ، ١٤٠٣ ه.
٧٥. «شرح الأسماء
الحسنى» ، الحكيم السبزواريّ ، هادي بن مهدي ، مطبعة جامعة طهران ، ١٣٧٣ ش.
٧٦. «شرح الإشارات
والتنبيهات» ، المحقّق الطوسيّ ، نصير الدين محمّد بن الحسن ، مركز نشر كتاب ،
١٤٠٣ ه.
٧٧. «شرح باب
الحادي عشر» ، ـ النافع يوم الحشر ـ ، مقداد بن عبد الله السيوري ، مؤسّسه چاپ
انتشارات آستان قدس رضوي ، مشهد ، ١٣٧٢ ش.
٧٨. «شرح الشمسيّة»
، محمود بن محمّد الرازي ، المكتبة العلميّة الاسلامية ، طهران.
٧٩. «شرح تجريد
القوشجي» ، على بن محمد القوشجي ، الطبعة الحجريّة ، مكتبة بيدار ، قم.
٨٠. «شرح العضدي
على مختصر ابن الحاجب» ، عبد الرحمن بن احمد بن عبد الغفار ، تصحيح أحمد رامز
الشهيد بشهري المدرّس ، ١٣٠٧ ه.
٨١. «شرح الكافية»
، رضي الدين محمد بن الحسن الاسترآبادي ، دار الكتب العلميّة ، بيروت ، ١٣٩٩ ه.
٨٢. «شرح المفصّل»
، الشيخ موفق الدين بن يعيش النحوي ، عالم الكتب ، بيروت.
٨٣. «شرح المطالع»
، قطب الدين محمد بن محمد الرازي ، مكتبة الكتبى ، قم.
٨٤. «شرح المقاصد»
، سعد الدين التفتازاني مسعود بن عمر بن عبد الله ، منشورات الشريف الرضي ، قم ،
١٤٠٩ ه.
٨٥. «شرح المنظومة»
، المولى هادي بن مهدي السبزواري ، مكتبة العلاّمة ، قم ، ١٣٦٩ ش.
٨٦. «شرح المواقف»
، السيّد الشريف ، على بن محمد الجرجاني ، منشورات الشريف الرضي ، قم ، ١٤١٢ ه.
٨٧. «الشفاء» ،
الشيخ الرئيس ، أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا ، مكتبة آية الله المرعشي ، قم
، ١٤٠٥ ه.
«ص»
٨٨. «صحيح البخاري»
، أبو عبد الله محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن المغيرة بن برزية البخاري ، دار
الفكر ، بيروت.
٨٩. «صحيح الترمذي»
، (الجامع الصحيح) ، محمّد بن عيسى بن سورة ، دار احياء التراث العربي ، بيروت.
«ض»
٩٠. «ضوابط الأصول»
، السيد ابراهيم القزويني ، الطبعة الحجريّة.
«ط»
٩١. «الطهارة» ،
الشيخ الأنصاريّ ، مرتضى بن محمد أمين ، مؤسّسة آل البيت ، الطبعة الحجريّة ، قم.
«ع»
٩٢. «العدّة في
أصول الفقه» ، شيخ الطائفة ، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، مطبعة ستاره ، قم ،
١٣٧٦ ش.
٩٣. «عوالي اللآلي
العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة» ، ابن أبي جمهور محمد بن على بن ابراهيم الأحسائي
، مطبعة سيد الشهداء ، قم ، ١٣٠٤ ه.
٩٤. «عيون أخبار
الرضا (ع)» ، الشيخ الصدوق ، ابو جعفر محمّد بن على بن الحسين ابن بابويه ، مؤسّسة
الأعلمي للمطبوعات ، بيروت.
«غ»
٩٥. «الغدير» عبد
الحسين أحمد الأميني النجفي ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، ١٤٠٨ ه.
٩٦. «الغنية» ،
ابن زهرة ، عزّ الدين حمزة بن على بن زهرة الحلبى ، المطبوع بذيل «الجوامع
الفقهيّة».
«ف»
٩٧. «فرائد الأصول»
، الشيخ الأنصاري ، مرتضى بن محمد أمين الأنصاري ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ،
١٤١١ ه.
٩٨. «الفصول
الغرويّة في الأصول الفقهيّة» ، محمد حسين بن عبد الرحيم الأصفهاني ، الطبعة
الحجريّة.
٩٩. «فوائد الأصول»
ـ تقريرات بحث المحقّق النائيني ـ ، الشيخ محمد على الكاظمي ، مؤسّسة النشر
الإسلامي ، قم ، ١٤١٤ ه.
١٠٠. «الفوائد
الحائريّة» ، الوحيد البهبهاني ، محمد باقر بن محمد أكمل ، مجمع الفكر الإسلامي ،
قم ، ١٤١٥ ه.
١٠١. «الفوائد
المدنيّة» ، محمد أمين الاسترآبادى ، الطبعة الحجريّة.
١٠٢. «فواتح
الرحموت بشرح مسلم الثبوت» ، المطبوع ذيل المستصفى ، محبّ الله بن عبد المشكور ،
دار الذخائر ، قم ، ١٣٦٨ ش.
«ق»
١٠٣. «قواعد
المرام في علم الكلام» ، كمال الدين ميثم بن على بن ميثم البحراني ، مكتبة آية
الله المرعشي ، قم ، ١٤٠٦ ه.
١٠٤. «قاموس اللغة»
، الفيروزآبادي ، مجد الدين محمّد بن يعقوب ، الطبعة الحجرية.
«ك»
١٠٥. «الكافي» ،
ثقة الإسلام الكليني ، محمد بن يعقوب بن إسحاق ، دار صعب ودار التعارف ، ١٤٠١ ه.
١٠٦. «الكامل في
التأريخ» ابن أثير ، على بن الكرم الشيباني ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ،
١٤٠٨ ه.
١٠٧. «كتاب سليم
بن قيس» ، سليم بن قيس العامري ، دار الفنون ، بيروت ، ١٤٠٠ ه.
١٠٨. «كشف الغطاء
عن خفيّات مبهمات الشريعة الغرّاء» ، الشيخ الكبير كاشف الغطاء ، جعفر بن خضر ،
منشورات المهدوي ، أصفهان.
١٠٩. «كشف الغمة»
، ابو الحسن على بن عيسى بن ابى الفتح الإربلى ، مكتبة الاسلاميّة ، طهران ، ١٣٨١
ه.
١١٠. «كشف المراد»
، العلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ، مؤسّسة النشر الإسلامي ،
قم.
١١١. «كفاية الأثر
في النص على الأئمة الاثنى عشر» ، ابو القاسم على بن محمد بن على الخزاز القمى
الرازي ، مكتبة بيدار ، قم ، ١٤٠١ ه.
١١٢. «كفاية
الأصول» ، الآخوند الخراساني ، محمد كاظم ، مؤسّسة النشر الاسلامي ، قم ، ١٤١٤ ه.
١١٣. «كمال الدين
وتمام النعمة» ، الشيخ الصدوق ، ابو جعفر محمّد بن على بن الحسين بن بابويه ،
مؤسّسة النشر الاسلامي ، قم ، ١٤٠٥ ه.
١١٤. «كنز العمّال
في سنن الأقوال والأفعال» ، علاء الدين على المتقي بن إحسان الدين الهندي ، مؤسّسة
الرسالة ، بيروت ، ١٤٠١ ه.
١١٥. «كنز الفوائد»
، الكراجكي ، أبو الفتح محمد بن على بن عثمان الكراجكي ، مكتبة المصطفوي ، قم ،
١٣٦٩ ش.
«ل»
١١٦. «لسان العرب»
، ابن منظور ، أبو الفضل محمّد بن مكرّم ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ١٤٠٨
ه.
١١٧. «اللمع في
أصول الفقه» ، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازيّ ، دار الكتب العلميّة ،
بيروت ، ١٤٠٥ ه.
«م»
١١٨. «مبادئ
الوصول إلى علم الأصول» ، العلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر
الحلّي ، مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، ١٤٠٤ ه.
١١٩. «مجمع
البحرين ومطلع النيّرين» ، فخر الدين الطريحي ، مكتبة المصطفوي ، طهران.
١٢٠. «مجمع البيان
لعلوم القرآن» ، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، دار المعرفة ، بيروت.
١٢١. «مجمع
الزوائد ومنبع الفوائد» ، نور الدين على بن ابي بكر الهيثمي ، دار الكتاب العربي ،
بيروت ، ١٤٠٢ ه.
١٢٢. «مجمع
الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان» ، المولى المحقّق أحمد الأردبيلي ، مؤسّسة
النشر الإسلامي ،
قم.
١٢٣. «المحاسن» ،
أبو جعفر أحمد بن محمد خالد البرقي ، دار الكتب الإسلاميّة ، قم.
١٢٤. «محاضرات في
أصول الفقه» ـ تقريرات بحث المحقّق الخوئي ـ محمد إسحاق الفيّاض ، دار أنصاريان ،
قم ، ١٤١٠ ه.
١٢٥. «المحصول في
علم أصول الفقه» ، الفخر الرازي ، محمد بن عمر الطبري ، دار الكتب العلميّة ،
بيروت ، ١٤٠٨ ه.
١٢٦. «المحلّى
بالآثار» ، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي ، دار الفكر ، بيروت.
١٢٧. «مختصر
المعاني» ، سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني ، مكتبة المصطفوي ، قم.
١٢٨. «مدارك
الأحكام في شرح شرائع الإسلام» ، السيّد محمد بن علي الموسوي العاملي ، مؤسّسة آل
البيت ، قم.
١٤١٠ ه.
١٢٩. «المزهر» عبد
الرحمن جلال الدين السيوطي ، دار إحياء الكتب العربيّة.
١٣٠. «مسالك
الأفهام» ، الشهيد الثاني ، زين الدين على بن احمد العاملي ، دار الهدى ، قم.
١٣١. «المستدرك
على الصحيحين» ، الحاكم النيشابوري ، ابو عبد الله ، دار المعرفة ، بيروت.
١٣٢. «المستصفى من
علم الأصول» ، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي ، المطبعة الأميريّة ببولاق مصر ،
١٣٢٢ ه.
١٣٣. «مستمسك
العروة الوثقى» ، السيد محسن الطباطبائي الحكيم ، مؤسّسة إسماعيليان ، قم ، ١٤١١ ه.
١٣٤. «مسند أحمد»
، أحمد بن محمد بن فصيل ، دار الفكر ، بيروت.
١٣٥. «مشارق
الشموس» ، حسين بن جمال الدين محمّد الخوانسارى ، مؤسّسة آل البيت ، قم ، الطبعة
الحجريّة.
١٣٦. «مصابيح
السنّة» ، ابو محمّد الحسين بن مسعود بن محمّد الفرّاء البغوي ، دار المعرفة ،
بيروت ، ١٤٠٧ ه.
١٣٧. «مصابيح
الأصول» ـ تقريرات بحث السيّد المحقّق الخوئي ـ السيد محمّد سرور الواعظ الحسيني ،
مطبعة النجف ، ١٣٧٦ ه.
١٣٨. «مصادر
التشريع الاسلامي» ، عبد الوهاب خلاف ، دار الكتاب العربى ، مصر.
١٣٩. «مطارح
الأنظار» ـ تقريرات درس الشيخ الأنصاري ـ ، الشيخ أبو القاسم الكلانتري ، مؤسّسة
آل البيت ، الطبعة الحجريّة.
١٤٠. «المطوّل في
شرح تلخيص المفتاح» ، سعد الدين التفتازاني ، مسعود بن عمر بن عبد الله ، مكتبة
العلميّة الإسلاميّة ، طهران ، ١٣٧٤ ه.
١٤١. «معارج
الأصول» ، المحقّق الحلّي ، جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي ، مؤسّسة آل
البيت ، ١٤٠٣ ه.
١٤٢. «معالم الدين
وملاذ المجتهدين» ، الحسين بن زيد الدين العاملي ، مكتبة العلامة ، قم ، ١٤٠٣ ه.
١٤٣. «معجم مقاييس
اللغة» ، ابو الحسن احمد بن فارس بن زكريا ، مكتب الاعلام الاسلامي ، قم ، ١٤٠٤ ه.
١٤٤. «المغني» ،
ابو محمّد بن احمد بن محمّد بن قدامة ، دار الكتاب العربي ، بيروت.
١٤٥. «مفاتيح
الأصول» ، السيد محمد الطباطبائى ، مؤسّسة آل البيت.
١٤٦. «مفتاح الباب»
، أبو الفتح بن مخدوم الحسيني ، انتشارات آستان قدس رضوي ، مشهد ، ١٣٧٢ ش.
١٤٧. «مقالات
الأصول» ، الشيخ ضياء الدين العراقي ، مؤسّسة مجمع الفكر الإسلامي ، قم ، ١٤١٤ ه.
١٤٨. «المكاسب» ،
الشيخ الأنصاري ، مرتضى بن محمد أمين الأنصارى ، الطبعة الحجريّة ، تبريز ١٣٧٥ ه.
١٤٩. «ملخّص ابطال
القياس» ، ابن حزم الأندلسي ، دار الفكر ، بيروت ، ١٣٨٩ ه.
١٥٠. «مناهج
الأحكام والأصول» ، أحمد بن محمد مهدي أبي ذر النراقي ، الطبعة الحجريّة.
١٥١. «مناهج
الوصول إلى علم الأصول» ، الإمام الخميني ، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
، قم ، ١٤١٤ ه.
١٥٢. «منتهى
الأصول» ، السيد حسن الموسوي البجنوردي ، مطبعة النجف ، ١٣٧٠ ه.
١٥٣. «منتهى
الوصول والأمل» ، ابن الحاجب ، جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عمر النحوي ، دار
الكتب العلميّة ، بيروت ، ١٤٠٥ ه.
١٥٤. «المنطق» ،
محمد رضا المظفر ، منشورات مكتبة الصدر ، طهران ، ١٣٨٨ ه.
١٥٥. «مناهج
العقول» (شرح البدخشي) محمد بن الحسن البدخشى ، دار الكتب العلميّة ، بيروت ، ١٤٠٥
ه.
١٥٦. «المنخول» ،
محمد بن محمد الغزالى ، دار الفكر ، بيروت.
١٥٧. «من لا يحضره
الفقيه» ، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي ، مؤسّسة الأعلمي
للمطبوعات ، بيروت ، ١٤٠٦ ه.
١٥٨. «الموافقات»
، أبو إسحاق الشاطبي ، دار المعرفة ، بيروت ، ١٣٩٥ ه.
١٥٩. «الميزان في
تفسير القرآن» ، السيد محمّد حسين الطباطبائي ، مؤسّسة النشر الاسلامي ، قم ، ١٣٩٣
ه.
«ن»
١٦٠. «نهاية
الأصول» ـ تقريرات بحث المحقّق البروجرديّ ـ ، حسين على المنتظري ، مكتبة المصطفوي
، قم.
١٦١. «نهاية
الأفكار» ـ تقريرات بحث المحقّق العراقي ـ الشيخ محمد تقى البروجردي ، مؤسّسة
النشر الإسلامى ، قم ، ١٤٠٥ ه.
١٦٢. «نهاية
الدارية في شرح الكفاية» ، الشيخ محمد حسين الأصفهاني ، مطبعة سيد الشهداء ، قم ،
١٣٧٤ ش.
١٦٣. «نهاية
السئول بشرح منهاج الأصول» ، جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي ، عالم الكتب ،
القاهرة ، ١٣٤٣ ه.
١٦٤. «نهاية
النهاية في شرح الكفاية» ، الميرزا على الإيرواني ، مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ،
١٣٧٠ ش.
«و»
١٦٥. «الوافية في
أصول الفقه» ، الفاضل التوني ، عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني ، مجمع الفكر
الاسلامي ، قم ، ١٤١٢ ه.
١٦٦. «وسائل
الشيعة» ، الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي ، المكتبة الإسلاميّة ، طهران ، ١٤٠٣
ه.
«هـ»
١٦٧. «هداية
المسترشدين» ، محمد تقى الأصفهاني ، مؤسّسة آل البيت ، الطبعة الحجريّة.
٦ ـ فهرس
الموضوعات
دليل
الكتاب................................................................................. ٥
مقدّمة الناشر................................................................................. ٧
مقدّمة المحقّق.................................................................................. ٩
الفصل الأوّل : علم
الأصول وتطوّره التأريخيّ.................................................. ٩
الدورة
الأولى : دورة التأسيس............................................................. ٩
الدورة
الثانية : دورة التدوين............................................................. ١٠
الدورة
الثالثة : دورة الاستناد............................................................ ١٠
الفصل الثاني : حياة
الشيخ محمد رضا المظفّر.................................................. ١٢
١. نسبه ومولده........................................................................ ١٢
٢.
تربيته الشخصيّة.................................................................... ١٢
٣.
نشأته العلميّة....................................................................... ١٣
٤.
أساتذته............................................................................ ١٣
٥.
جمعية منتدى النشر.................................................................. ١٤
٦.
مؤلّفاته............................................................................. ١٤
٧.
شيء حول كتاب «أصول الفقه»..................................................... ١٥
٨. وفاته.............................................................................. ١٥
الفصل الثالث : عملنا
في تحقيق الكتاب...................................................... ١٦
كلمة شكر............................................................................ ١٧
المدخل..................................................................................... ١٩
* تعريف علم الأصول..................................................................... ١٩
* الحكم واقعيّ
وظاهريّ. والدليل اجتهاديّ وفقاهتيّ.......................................... ٢٠
* موضوع علم الأصول.................................................................... ٢٠
* فائدته.................................................................................. ٢١
* تقسيم أبحاثه............................................................................ ٢١
المقدّمة..................................................................................... ٢٥
١. حقيقة الوضع.......................................................................... ٢٥
٢. من الواضع؟........................................................................... ٢٥
٣. الوضع تعيينىّ وتعيّنىّ.................................................................... ٢٦
٤. أقسام الوضع.......................................................................... ٢٧
٥. استحالة القسم
الرابع................................................................... ٢٨
٦. وقوع الوضع العامّ
والموضوع له الخاصّ ، وتحقيق المعنى الحرفي............................... ٢٩
*
النتيجة.............................................................................. ٣٢
*
بطلان القولين الأوّلين................................................................. ٣٢
*
زيادة إيضاح......................................................................... ٣٣
*
الوضع في الحروف عامّ والموضوع له
خاصّ.............................................. ٣٤
٧. الاستعمال حقيقيّ
ومجازيّ.............................................................. ٣٦
٨. الدلالة تابعة
للإرادة.................................................................... ٣٦
٩. الوضع شخصيّ ونوعيّ................................................................. ٣٩
١٠. وضع المركّبات....................................................................... ٣٩
١١. علامات الحقيقة
والمجاز................................................................ ٤٠
العلامة
الأولى : التبادر.................................................................. ٤٠
العلامة
الثانية : عدم صحّة السلب وصحّته ، وصحّة الحمل وعدمها.......................... ٤٢
العلامة الثالثة : الاطّراد................................................................. ٤٤
١٢. الأصول اللفظيّة...................................................................... ٤٦
تمهيد.................................................................................. ٤٦
الأصول
اللفظيّة ومواردها................................................................ ٤٧
حجيّة
الأصول اللفظيّة................................................................... ٤٩
١٣. الترادف والاشتراك................................................................... ٤٩
استعمال اللفظ في أكثر
من معنى.......................................................... ٥١
تنبيهان................................................................................ ٥٢
١٤. الحقيقة الشرعيّة...................................................................... ٥٥
الصحيح
والأعمّ........................................................................ ٥٦
المختار
في المسألة....................................................................... ٥٨
وهم
ودفع............................................................................. ٥٨
تنبيهان................................................................................ ٦٠
المقصد الأوّل : مباحث الألفاظ
تمهيد....................................................................................... ٦٥
الباب الأوّل : المشتقّ....................................................................... ٦٦
١. ما المراد من
المشتقّ المبحوث عنه؟........................................................ ٦٧
٢. جريان النزاع في
اسم الزمان............................................................ ٦٩
٣. اختلاف المشتقّات
من جهة المبادئ....................................................... ٧٠
٤. استعمال المشتقّ
بلحاظ حال التلبّس حقيقة................................................ ٧١
المختار................................................................................. ٧٢
الباب الثاني : الأوامر........................................................................ ٧٤
المبحث الأوّل : مادّة
الأمر................................................................. ٧٤
١. معنى كلمة «الأمر»................................................................. ٧٤
٢.
اعتبار العلوّ في معنى الأمر............................................................ ٧٦
٣.
دلالة لفظ الأمر على الوجوب........................................................ ٧٦
المبحث الثاني : صيغة
الأمر................................................................. ٧٩
١. معنى صيغة الأمر.................................................................... ٧٩
٢.
ظهور الصيغة في الوجوب............................................................ ٨١
٣.
التعبّديّ والتوصّليّ................................................................... ٨٥
٤.
الواجب العينيّ وإطلاق الصيغة........................................................ ٩١
٥.
الواجب التعيينيّ وإطلاق الصيغة...................................................... ٩٢
٦.
الواجب النفسيّ وإطلاق الصيغة...................................................... ٩٢
٧.
الفور والتراخي..................................................................... ٩٤
٨.
المرّة والتكرار....................................................................... ٩٦
٩.
هل يدلّ نسخ الوجوب على الجواز؟................................................... ٩٧
١٠.
الأمر بشيء مرّتين................................................................. ٩٨
١١.
دلالة الأمر بالأمر على الوجوب................................................... ١٠٠
الخاتمة : في تقسيمات
الواجب............................................................ ١٠٢
١. المطلق والمشروط................................................................... ١٠٢
٢.
المعلّق والمنجّز...................................................................... ١٠٣
٣.
الأصليّ والتبعيّ................................................................... ١٠٤
٤.
التخييريّ والتعيينيّ................................................................. ١٠٥
٥.
العينيّ والكفائيّ.................................................................... ١٠٧
٦.
الموسّع والمضيّق.................................................................... ١٠٩
الباب الثالث : النواهي.................................................................... ١١٥
١. مادّة النهي........................................................................... ١١٥
٢. صيغة النهي.......................................................................... ١١٦
٣. ظهور صيغة النهي في
التحريم.......................................................... ١١٦
٤. ما المطلوب في
النهي؟................................................................. ١١٧
٥. دلالة صيغة النهي
على الدوام والتكرار................................................. ١١٨
تنبيه................................................................................. ١١٩
الباب الرابع : المفاهيم..................................................................... ١٢٠
تمهيد................................................................................... ١٢٠
١. معنى كلمة المفهوم.................................................................... ١٢٠
٢. النزاع في حجّيّة
المفهوم............................................................... ١٢١
٣. أقسام المفهوم........................................................................ ١٢٢
الأوّل : مفهوم الشرط................................................................... ١٢٤
تحرير
محلّ النزاع...................................................................... ١٢٤
المناط
في مفهوم الشرط................................................................ ١٢٥
إذا
تعدّد الشرط واتّحد الجزاء.......................................................... ١٢٧
تنبيهان............................................................................... ١٣٠
الثاني : مفهوم الوصف................................................................... ١٣٣
الثالث : مفهوم الغاية.................................................................... ١٣٧
الرابع : مفهوم الحصر.................................................................... ١٤٠
معنى الحصر.......................................................................... ١٤٠
اختلاف مفهوم الحصر باختلاف أدواته.................................................. ١٤٠
الخامس : مفهوم العدد................................................................... ١٤٣
السادس : مفهوم اللقب.................................................................. ١٤٣
خاتمة : في دلالة
الاقتضاء والتنبيه والإشارة................................................. ١٤٥
تمهيد................................................................................ ١٤٥
الجهة
الأولى : مواقع الدلالات الثلاث................................................... ١٤٥
الجهة الثانية : حجّيّة هذه الدلالات..................................................... ١٤٩
الباب الخامس : العامّ والخاصّ.............................................................. ١٥١
تمهيد................................................................................... ١٥١
أقسام العامّ.............................................................................. ١٥١
١. ألفاظ العموم........................................................................ ١٥٢
٢. المخصّص المتّصل
والمنفصل............................................................ ١٥٥
٣. هل استعمال العامّ
في المخصّص مجاز؟................................................... ١٥٦
٤. حجيّة العامّ
المخصّص في الباقي........................................................ ١٥٨
٥. هل يسري إجمال
المخصّص إلى العامّ؟.................................................. ١٦١
أ) الشبهة المفهوميّة.................................................................... ١٦١
ب)
الشبهة المصداقيّة.................................................................. ١٦٣
تنبيه
: في جواز التمسّك بالعامّ في
الشبهة المصداقيّة إذا كان المخصّص لبّيّا................... ١٦٥
٦. لا يجوز العمل
بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص......................................... ١٧٠
٧. تعقيب العامّ بضمير
يرجع إلى بعض أفراده.............................................. ١٧٢
٨. تعقيب الاستثناء
لجمل متعدّدة......................................................... ١٧٣
٩. تخصيص العامّ
بالمفهوم................................................................ ١٧٦
١٠. تخصيص الكتاب
العزيز بخبر الواحد.................................................. ١٧٧
١١. دوران بين التخصيص
والنسخ....................................................... ١٧٩
الصورة
الأولى........................................................................ ١٧٩
الصورة
الثانية........................................................................ ١٧٩
الصورة
الثالثة........................................................................ ١٨١
الصورتان : الرابعة والخامسة........................................................... ١٨٢
الباب السادس : المطلق والمقيّد............................................................. ١٨٣
المسألة الأولى : معنى
المطلق والمقيّد......................................................... ١٨٣
المسألة الثانية :
الإطلاق والتقييد متلازمان.................................................. ١٨٤
المسألة الثالثة :
الإطلاق في الجمل......................................................... ١٨٥
المسألة الرابعة : هل
الإطلاق بالوضع؟..................................................... ١٨٦
١. اعتبارات الماهيّة................................................................... ١٨٧
٢. اعتبارات الماهيّة عند الحكم عليها.................................................... ١٨٩
٣. الأقوال في المسألة.................................................................. ١٩٢
المسألة الخامسة :
مقدّمات الحكمة......................................................... ١٩٦
تنبيهان............................................................................... ١٩٨
المسألة السادسة :
المطلق والمقيّد المتنافيان................................................... ٢٠٣
الباب السابع : المجمل والمبيّن............................................................... ٢٠٦
١. معنى المجمل
والمبيّن.................................................................... ٢٠٦
٢. المواضع التي وقع
الشكّ في إجمالها...................................................... ٢٠٨
تنبيه وتحقيق.......................................................................... ٢١١
المقصد الثاني : الملازمات العقليّة
تمهيد................................................................................... ٢١٧
١. أقسام الدليل
العقليّ.................................................................. ٢١٨
٢. لما ذا سمّيت هذه
المباحث بالملازمات العقليّة؟............................................ ٢١٩
الخلاصة............................................................................. ٢٢١
الباب الأوّل : المستقلاّت العقليّة........................................................... ٢٢٣
تمهيد................................................................................... ٢٢٣
المبحث الأوّل :
التحسين والتقبيح العقليّان.................................................. ٢٢٥
١. معنى الحسن والقبح وتصوير النزاع فيهما............................................. ٢٢٦
٢.
واقعيّة الحسن والقبح في معانيهما ورأى الأشاعرة...................................... ٢٣٠
٣.
العقل العمليّ والنظريّ............................................................. ٢٣١
٤.
أسباب حكم العقل العمليّ بالحسن والقبح............................................ ٢٣٣
٥.
معنى الحسن والقبح الذاتيّين......................................................... ٢٣٧
٦.
أدلّة الطرفين...................................................................... ٢٣٩
المبحث الثاني : إدراك
العقل للحسن والقبح................................................. ٢٤٢
المبحث الثالث : ثبوت
الملازمة العقليّة بين حكم العقل وحكم الشرع......................... ٢٤٤
توضيح وتعقيب....................................................................... ٢٤٦
الباب الثاني : غير المستقلاّت العقليّة........................................................ ٢٤٩
تمهيد................................................................................... ٢٤٩
المسألة الأولى :
الإجزاء.................................................................. ٢٤٩
تصدير............................................................................... ٢٤٩
المقام
الأوّل : الأمر الاضطراريّ......................................................... ٢٥٢
المقام الثاني : الأمر الظاهريّ............................................................ ٢٥٥
المسألة الثانية :
مقدّمة الواجب............................................................ ٢٦٥
تحرير
[محلّ] النزاع.................................................................... ٢٦٥
مقدّمة
الواجب من أيّ قسم من المباحث الأصوليّة؟....................................... ٢٦٥
ثمرة
النزاع........................................................................... ٢٦٧
١.
الواجب النفسيّ والغيريّ........................................................... ٢٦٨
٢.
معنى التبعيّة في الوجوب الغيريّ...................................................... ٢٦٩
٣.
خصائص الوجوب الغيريّ.......................................................... ٢٧٢
٤.
مقدّمة الوجوب................................................................... ٢٧٥
٥.
المقدّمة الداخليّة.................................................................... ٢٧٦
٦.
الشرط الشرعيّ................................................................... ٢٧٧
٧.
الشرط المتأخّر.................................................................... ٢٨٠
٨.
المقدّمات المفوّتة................................................................... ٢٨٤
٩.
المقدّمة العباديّة.................................................................... ٢٩١
النتيجة............................................................................... ٢٩٧
المسألة الثالثة :
مسألة الضدّ.............................................................. ٣٠١
تحرير
محلّ النزاع...................................................................... ٣٠١
١.
الضدّ العامّ........................................................................ ٣٠٣
٢. الضدّ الخاصّ...................................................................... ٣٠٥
المسألة الرابعة :
اجتماع الأمر والنهي...................................................... ٣٢٠
تحرير محلّ النزاع...................................................................... ٣٢٠
المسألة
من الملازمات العقليّة غير المستقلّة................................................. ٣٢٤
مناقشة
الكفاية في تحرير النزاع......................................................... ٣٢٦
قيد
المندوحة.......................................................................... ٣٢٦
الفرق
بين بابي التعارض والتزاحم ومسألة الاجتماع...................................... ٣٢٧
الحقّ
في المسألة........................................................................ ٣٣٣
تعدّد
العنوان لا يوجب تعدّد المعنون..................................................... ٣٣٨
ثمرة
المسألة........................................................................... ٣٣٩
اجتماع
الأمر والنهي مع عدم المندوحة.................................................. ٣٤١
حرمة
الخروج من المغصوب أو وجوبه................................................... ٣٤٣
صحّة
الصلاة حال الخروج............................................................. ٣٤٨
المسألة الخامسة :
دلالة النهي على الفساد.................................................. ٣٥٠
تحرير
محلّ النزاع...................................................................... ٣٥٠
المبحث
الأوّل : النهي عن العبادة....................................................... ٣٥٣
المبحث
الثاني : النهي عن المعاملة........................................................ ٣٥٧
المقصد الثالث : مباحث الحجّة
تمهيد..................................................................................... ٣٦٣
المقدّمة................................................................................... ٣٦٦
١. موضوع المقصد
الثالث............................................................... ٣٦٦
٢. معنى الحجّة.......................................................................... ٣٧٠
٣. مدلول كلمة «الأمارة»
و «الظنّ المعتبر»............................................... ٣٧٣
٤. الظنّ النوعيّ......................................................................... ٣٧٣
٥. الأمارة والأصل
العمليّ................................................................ ٣٧٤
٦. المناط في إثبات
حجّيّة الأمارة.......................................................... ٣٧٦
٧. حجّية العلم ذاتيّة..................................................................... ٣٨٠
٨. موطن حجّيّة الأمارات................................................................ ٣٨٦
٩. الظنّ الخاصّ
والظنّ المطلق............................................................. ٣٨٩
١٠. مقدّمات دليل
الانسداد............................................................. ٣٨٩
١١. اشتراك الأحكام
بين العالم والجاهل................................................... ٣٩٢
١٢. تصحيح جعل الأمارة............................................................... ٣٩٧
١٣. الأمارة طريق أو
سبب؟............................................................. ٣٩٩
١٤. المصلحة السلوكيّة.................................................................. ٤٠١
١٥. الحجّيّة أمر
اعتباريّ أو انتزاعيّ؟...................................................... ٤٠٥
الباب الأوّل : الكتاب العزيز.............................................................. ٤٠٩
تمهيد................................................................................... ٤٠٩
نسخ الكتاب العزيز...................................................................... ٤١٠
حقيقة
النسخ......................................................................... ٤١٠
إمكان
نسخ القرآن.................................................................... ٤١١
وقوع
نسخ القرآن ، وأصالة عدم النسخ................................................. ٤١٤
الباب الثاني : السنّة....................................................................... ٤١٧
تمهيد................................................................................... ٤١٧
١. دلالة فعل المعصوم.................................................................... ٤١٩
٢. دلالة تقرير
المعصوم.................................................................. ٤٢٣
٣. الخبر المتواتر......................................................................... ٤٢٥
٤. خبر الواحد.......................................................................... ٤٢٦
أ.
أدلّة حجّيّة خبر الواحد من الكتاب العزيز............................................. ٤٢٨
ب.
دليل حجّيّة خبر الواحد من السنّة................................................... ٤٣٨
ج.
دليل حجّيّة خبر الواحد من الإجماع................................................. ٤٤١
د.
دليل حجّيّة خبر الواحد من بناء
العقلاء............................................... ٤٤٦
الباب الثالث : الإجماع.................................................................... ٤٥١
تمهيد................................................................................... ٤٥١
أمّا السؤال الأوّل........................................................................ ٤٥٢
وأمّا السؤال الثاني........................................................................ ٤٥٧
الإجماع عند الإماميّة..................................................................... ٤٥٩
الإجماع المنقول.......................................................................... ٤٦٧
الباب الرابع : الدليل العقليّ............................................................... ٤٧٣
وجه حجّيّة [حكم]
العقل................................................................ ٤٨١
الباب الخامس : حجّيّة الظواهر............................................................. ٤٨٧
تمهيدات................................................................................ ٤٨٧
طرق إثبات الظواهر..................................................................... ٤٨٨
حجّيّة قول اللغويّ....................................................................... ٤٨٩
الظهور التصوريّ
والتصديقيّ............................................................. ٤٩٢
وجه حجّيّة الظهور...................................................................... ٤٩٤
أ.
اشتراط الظنّ الفعليّ بالوفاق......................................................... ٤٩٥
ب.
اعتبار عدم الظنّ بالخلاف......................................................... ٤٩٦
ج.
أصالة عدم القرينة................................................................. ٤٩٧
د.
حجّيّة الظهور بالنسبة إلى غير المقصودين بالإفهام...................................... ٥٠٠
ه.
حجّيّة ظواهر الكتاب............................................................... ٥٠٢
الباب السادس : الشهرة................................................................... ٥٠٧
الدليل الأوّل :
أولويّتها من خبر العادل..................................................... ٥٠٩
الدليل الثاني : عموم
تعليل آية النبأ........................................................ ٥٠٩
الدليل الثالث : دلالة
بعض الأخبار........................................................ ٥١٠
تنبيه................................................................................. ٥١١
الباب السابع : السيرة.................................................................... ٥١٣
١. حجّيّة بناء
العقلاء.................................................................... ٥١٣
٢. حجّيّة سيرة
المتشرّعة................................................................. ٥١٥
٣. مدى دلالة السيرة.................................................................... ٥١٧
الباب الثامن : القياس..................................................................... ٥١٩
تمهيد................................................................................... ٥١٩
١. تعريف القياس....................................................................... ٥٢١
٢. أركان القياس........................................................................ ٥٢٢
٣. حجّيّة القياس........................................................................ ٥٢٣
أ.
هل القياس يوجب العلم؟............................................................ ٥٢٣
ب.
الدليل على حجّيّة القياس الظنّيّ.................................................... ٥٢٧
الدليل
من الآيات القرآنيّة.............................................................. ٥٢٨
الدليل
من السنّة...................................................................... ٥٢٩
الدليل
من الإجماع.................................................................... ٥٣١
الدليل
من العقل...................................................................... ٥٣٥
٤. منصوص العلّة ،
وقياس الأولويّة....................................................... ٥٣٥
منصوص
العلّة........................................................................ ٥٣٦
قياس
الأولويّة......................................................................... ٥٣٨
تنبيه................................................................................. ٥٤٠
الباب التاسع : التعادل والتراجيح.......................................................... ٥٤٣
تمهيد................................................................................... ٥٤٣
[المقدّمة]................................................................................ ٥٤٤
١. حقيقة التعارض................................................................... ٥٤٤
٢.
شروط التعارض................................................................... ٥٤٥
٣.
الفرق بين التعارض والتزاحم....................................................... ٥٤٧
٤.
تعادل وتراجيح المتزاحمين........................................................... ٥٤٩
٥.
الحكومة والورود.................................................................. ٥٥٣
٦.
القاعدة في المتعارضين (التساقط أو التخيير)........................................... ٥٥٧
٧.
الجمع بين المتعارضين أولى من
الطرح................................................ ٥٦٠
الأمر الأوّل : الجمع
العرفيّ................................................................ ٥٦٦
الأمر الثاني :
القاعدة الثانويّة للمتعادلين.................................................... ٥٦٩
الأمر الثالث :
المرجّحات................................................................. ٥٧٩
المقام
الأوّل : المرجّحات الخمسة........................................................ ٥٨٠
المقام
الثاني : في المفاضلة بين المرجّحات.................................................. ٥٨٧
المقام
الثالث : في التعدّي عن
المرجّحات المنصوصة........................................ ٥٩٠
المقصد الرابع : مباحث
الأصول العمليّة
تمهيد................................................................................... ٥٩٧
الاستصحاب.............................................................................. ٦٠٢
تعريفه.................................................................................. ٦٠٢
مقوّمات الاستصحاب.................................................................... ٦٠٥
معنى حجّيّة الاستصحاب................................................................. ٦٠٩
هل الاستصحاب أمارة ،
أو أصل؟........................................................ ٦١١
الأقوال في الاستصحاب.................................................................. ٦١٢
أدلّة الاستصحاب....................................................................... ٦١٦
الدليل
الأوّل : بناء العقلاء............................................................. ٦١٦
الدليل
الثاني : حكم العقل............................................................. ٦١٩
الدليل
الثالث : الإجماع............................................................... ٦٢١
الدليل
الرابع : الأخبار................................................................. ٦٢٢
مدى
دلالة الأخبار.................................................................... ٦٣٦
الخلاصة............................................................................. ٦٤٦
تنبيهات الاستصحاب.................................................................... ٦٤٨
التنبيه
الأوّل : استصحاب الكلّيّ........................................................ ٦٤٨
التنبيه الثاني : الشبهة العبائيّة أو استصحاب الفرد المردّد................................... ٦٥٤
الفهارس العامة
١ ـ فهرس الآيات الكريمة................................................................ ٦٦١
٢ ـ فهرس الأحاديث.................................................................... ٦٦٤
٣ ـ فهرس الأعلام....................................................................... ٦٦٦
٤ ـ فهرس الكتب الواردة................................................................ ٦٦٩
٥ ـ مصادر التحقيق...................................................................... ٦٧٠
|