

المقدمة
يحتل كتاب «الجمع بين رأيي الحكيمين ،
أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس» مرتبة خاصة بين مؤلفات الفارابي ، لأنه يطلعنا علي
مدي استيعاب صاحبه للفلسفة اليونانية ، ومقدار فهمه اياها ، وموقفه منها ، وأسباب
ذلك.
لقد وضع أبو نصر هذا الكتاب قبل تأليف «آراء
أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها» و «السياسة المدنية»، اللذين كتبهما في المرحلة
الأخيرة من حياته. ولكنه مهد له بكتاب سابق هو «تحصيل السعادة» والدليل علي ذلك ما
ورد في آخر كتاب «تحصيل السعادة» حيث يلعن عزمه الكلام علي الفيلسوفين اليونانيين
افلاطون وارسطو. وكأن هذا الكتاب الذي نقدم له الآن تتمة لكتاب «تحصيل السعادة» ،
أو كأن كتاب تحصيل السعادة ليس سوي مقدمة لكتاب «الجمع بين رأيي الحكيمين افلاطون
الإلهي وارسطوطاليس».
تناول في الكتاب السابق الطريق المؤدية
الي السعادة ضالة الانسان المنشودة ، وغايته الأخيرة ، وخيره الأقصي ، فوجدها في
تحصيل العلوم
المختلفة من طبيعيات
ورياضيات واخلاقيات ومنطق والهيات وسياسة مدنية. بيد ان هذه العلوم ليست سوي اجزاء
من علم أم هو الفلسفة. والفلسفة هي العلم بالموجودات بما هي موجودة ، وقد ظهرت ،
أول ما ظهرت ، في بلاد الرافدين عند الكلدانيين ثم انتقلت الي مصر ، حتي انتهت الي
بلاد اليونان ، لتبلغ أوج ازدهارها ونضجها. وأكبر الفلاسفة اليونانيين اثنان هما
افلاطون وارسطو ، ولذا دعوت الضرورة الي وضع كتاب يبين تقدمهما في هذا المضمار.
هذا ملخص كتاب «تحصيل السعادة» الذي مهد
به لكتاب (الجمع بين رأيي الحكيمين). ولذا نلقاه يبدأ كتابه هذا من حيث انتهي
كتابه السابق. ويذكر الغرض من الكتاب وهو تبيان فضل هذين الحكيمين المقدمين
المبرزين وعدم الاختلاف بين آرائهما في المنطق والاخلاق والسياسة المدنية والنفس
وقدم العالم وحدوثه واثبات وجود الله ، واسقاط دعوي من وجد اختلافاً بينهما من أهل
زمانه.
بيد ان العبارات الواردة في مطلع الكتاب
تميط لنا اللثام عن مسألة هامة. انها تقول (اما بعد ، فإنّي لما رأيت أكثر أهل
زماننا قد خاضوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه ، وادعوا ان بين الحكيمين المقدمين
المبرزين اختلافاً في اثبات المبدع الاول ، وفي وجود الاسباب منه ، وفي امر النفس
والعقل ، وفي المجازات علي الافعال خيرها وشهرا ، وفي كثير من الأمور المدنية
والخلقية والمنطقية ، أردت في مقالتي هذه ، ان اشرع في الجمع بين رأييهما ،
والابانة عما يدل عليه فحوي
قوليهما ، ليظهر الاتفاق
بين ما يعتقدانه ، ويزول الشك والارتياب عن قلوب الناظرين في كتبهما ...).
هذه المسألة الهامة هي أن أهل زمانة ،
أي أهل القرن العاشر الميلادي الذي عاش فيه الفارابي ، أدركوا الاختلافات الموجودة
بين فلسفتي افلاطون وارسطو ، وبحثوها وتناقشوا فيها. وهذا الواقع يسمح لنا بالاستنتاجات
التالية :
أولاً
: إن الفارابي لم يكن أكثر وعياً من
مفكري عصره ولا اثقب نظراً ، ولا أوسع ثقافة ، وانه كان يوجد في القرن العاشر
مفكرون آخرون أصح رؤية للأمور منه يجدر بنا التنقيب عنهم ودراستهم.
ثانياً
: رد الادعاء القائل ان المفكرين العرب
لهم يفهموا الفلسفة اليونانية عل حقيقتها قبل ابن رشد. ان هذا الادعاء يننطبق علي
الفارابي وابن سينا والغزالي ... الخ ، ولكنه لا ينطبق علي سائر المفكرين الذين
اشار اليهم الفارابي في هذا النص ، ولم يسمهم ، وليته فعل ذلك.
ونري انفسنا مناسقين الي التساؤل عن
الاسباب التي تضافرت علي تضليل الفارابي ، وحجبت عنه الحقيقة.
اننا لا نستطيع أن نعزو ذلك الي عصره أو
مجتمعه. لأنه يعترف ان أكثر أهل زمانه كانوا يتجادلون حول الاختلاف الكبير بين
آراء قطبي الفلسفة اليونانية الكبيرين في مختلف الموضوعات.
ولا نستطيع أن نرجع ذلك اي استهانته بالاجماع
، اجماع الآراء
حول مسألة من
المسائل. فهو يقول في الفقرة الخامسة من الكتاب إن اجماع العقول المختلفة حجة. لنسمعه
يقول نه أ: «فإما ان يكون رأي
الجميع أو الأكثرين ، واعتقادهم في هذين الحكيمين انهما المنظوران والامامان
المبرزان في هذه الصناعة ، سخيفاً مدخولاً ، فذلك بعيد عن قبول العقل اياه وإذعانه
له ، اذ الموجود يشهد بضده ، لأنا نعلم يقيناً انه ليس شيء من الحجج أقوي وانفع
واحكم من شهادات المعارف المختلفة بالشيء الواحد ، واجتماع الآراء الكثيرة ، اذ
العقل عند الجميع حجة». انه يقبل بحكم رأي الجميع أو الأكثرين في أن افلاطون
وارسطو امامان مبرزان في الفلسفة ، ولكنه يهمل حكم الجيمع أو الاكثرين في ان
بينهما خلافاً في الآراء ، ويزدريه ، ولا يعبأ به. انه يطبق قاعدة أو مبدأ هنا ولا
يطبقه هناك.
انني اعتقد ان أسباب خطأ الفارابي ترجع
الي ثلاثة أمور رئيسة هي : شدة اعجابه بافلاطون وارسطو ، وكتاب اثالوجيا أو
الربوبية ، وتأثره بالافلاطونية المحدثة.
أما اعجابه الشديد بافلاطون وأرسطوا
فواضح من النعوت التي يضفيها عليهما. انهما «الحكيمان المقدمان المبرزان» ، وهما
مبدعا الفلسفة ومنشئا أصولها ومتمما فروعها وأواخرها ؛ وهما المرجع في مسير
الفلسفة وخطيرها ، وما ذهبا اليه هو الحجة والحقيقة لخلوه من الشوائب والكدر ، اذ
عندهما يتناهي الوصف بالحكم العميقة والعلوم اللطيفة والاستنباطات العجيبة ،
والغوص في المعاني الدقيقة المؤدية في كل شيء الي المحض والحقيقة.
ويقدم الفارابي الدليل علي تقدمهما
ونبوغهما وهو شهادة أكثر الناس والمفكرين لهما. يقول : «بذلك نطقت الألسن وشهدت
العقول ، ان لم يكن الكافة فمن الأكثرين من ذوي الالباب الناصعة والعقول الصافية».
وهذه الشهادة صحيحة لا ينبغي الشك فيها لأنها صادرة عن الاجماع أو الأكثرية ،
والاجماع العاقل حجة بنظره. وهو اذ يعتمد الاجماع يوافق علم اصول الفقه الاسلامي
الذي جعل الاجماع مصدراً من مصادر التشريع الي جانب القرآن والسنة والاجتهاد. يقول
معبراً عن رأيه : «وأما العقول المختلفة ، اذا اتفقت ، بعد تأمل منها ، وتدرب ،
وبحث ، وتنقير ومعاندة ، وتبكيت ، واثارة الاماكن المتقابلة ، فلا شيء أصح مما
اعتقدته ، وشهدت به ، واتفقت عليه. ونحن نجد الألسنة المختلفة متفقة بتقديم هذين
الحكيمين ، وفي التفلسف بهما تضرب الأمثال ، وإليهما يساق الاعتبار ...».
ولعل القارئ يلاحظ من سياق الجمل
وانسيابها وتدفقها ، علي غير ما عهدناه في كتابة الفارابي أو خطابه ، شدة اعجابه
بأفلاطون وأرسطو ، وانفعاله بهما ، حتي يخيل الينا انه شاعر يكيل المديح لبعض
العظماء الذين سحروه واثاروا عاطفته فاندفع يثني عليهم ويعدد مآثرهم ويسبغ عليهم
الصفات الرفيعة الموجودة فيهم وغير الموجودة علي عادة الشعراء المداحين في الأدب
العربي. وإلا كيف نوفق بين قوله فيهما انهما أبدعا الفلسفة وأنشأا أوائلها وأصولها
... الخ ، وقوله في كتاب تحصيل السعادة إن الفلسفة بدأت مع الكلدان في العراق ثم
انتقلت الي مصر ، ومنها الي بلاد اليونان ... الخ.
ان نظرة الاعجاب هذه ، التي نظر بها
الفارابي ، وقبله الكندي ، وبعده ابن سينا وابن رشد وسواهم من فلاسفة العرب ، إلي
الفلسفة اليونانية هي السبب الرئيس في ما وقعوا فيه من أخطاء ، وفي ضآلة حضهم من
الاصالة والابداع. ولو نظروا نظرة نقدية الي تلك الفلسفة علي نحو ما فعل المعتزلة
والأشاعرة امثال الجاحظ والغزالي ، لنجوا من اقتراف مثل خطأ الفارابي ، ولجاء
نتاجهم أكثر أصالة وابداعاً.
والسبب الثاني في غلطة الفارابي هو كتاب
الربوبية المعروف بأثالوجيا. وهذا الكتاب قسم من تساعيات أفلوطين التي ترجمها عبد
المسيح بن ناعمة الحمصي الي العربية ونسبها خطأ الي ارسطو.
قرأ الفارابي هذا الكتاب واعجب به
واعتبره احد مؤلفات ارسطو ، وبما ان افلوطين تأثر كثيراً بافلاطون واورد الكثير من
آرائه في فلسفته لذا اعتقد الفارابي أن ما يقوله ارسطو في هذا الكتاب لا يخالف ما
قاله افلاطون.
وقد اعتمد الفارابي علي كتاب الربوبية
لاثبات عدم الاختلاف بين الرجلين في مسألتين هامتين تباينا فيهما كل التباين هما
مسألة قدم العالم وحدوثه ، ومسألة المثل. يقول في سياق حديثه عن المسألة الأولي : «ومن
نظر في اقاويله في الربوبية في الكتاب المعروف باثالوجيا ، لم يشبه عليه أمره في
اثبات الصانع المبدع لهذا العالم ... فان الامر في تلك الأقاويل أظهر من ان يخفي.
وهناك تبين ان الهيولي ابدعها الباري جل ثناؤه لا عن شيء ، وانها تجسمت عن الباري
سبحانه وعن ارادته ، ثم ترتبت».
وفي المسألة الثانية ، أعني المثل ،
يعتمد الفارابي أيضاً علي كتاب الربوبية ليثبت ان ارسطو ـ صاحب الكتاب خطأ ـ يقول
بالمثل الافلاطونية. يقول في ذلك : «وقد نجد ان ارسطو في كتابه في الربوبية
المعروف باثالوجيا يثبت الصور الروحانية ويصرح انها موجودة في عالم الربوبية».
وعندما يصل الي هذه النقطة يبدو انه
يستيقظ من غفوته فيشك في نسبة هذه الاقوال الي ارسطو ، ويضع احتمالاً هو ان تكون
منحولة ويقول : «فلا تنحلوا هذه الاقاويل ، اذا اخذت علي ظاهرها ، من احدي ثلاث
حالات : اما ان يكون بعضها مناقض بعضها ، واما ان يكون بعضها لارسطو وبعضها ليس له
، واما ان يكون لها معان وتأويلات تتفق بواطنها وان اختلفت ظاهرها ، فتتطابق عند
ذلك وتتفق ، فاما ان يظن بارسطو ، مع براعته وشدة يقظته وجلالة هذه المعاني عنده ـ
اعني الصور الروحانية ـ انه يناقض نفسه في علم واحد ، وهو العلم الربوبي ، فبعيد
ومستنكر ، واما ان بعضها لأرسطو وبعضها ليس له ، فهو ابعد جداً ، إذ الكتب الناطقة
بتلك الاقاويل اشهر من أن يظن ببعضها انه منحول ، فبقي ان يكون لها تأويلات ومعانٍ
، إذا كشف عنها ارتفع الشك والحيرة».
بيد ان هذه اليقظة جاءت عارضة ، فما لبث
الفارابي ان اغمض عينيه من جديد واستسلم لغفوته التي رانت عليه حتي نهاية الكتاب.
والسبب الثالث لغلطة ابي نصر هو تأثره
بالمدرسة الأفلاطونية
الجديدة التي عرف
اعلامها وقرأ لهم ، وقرر الانضمام إليهم في التوفيق بين افلاطون وارسطو أو الجمع
بينهما ، وانتقاء بعض الأفكار التي وجدها عند المفكرين العرب ولا سيما المعتزلة
والأشاعرة واضافتها الي ذلك التراث او تلقيحه بها.
وقد ذكر منهم امونيوس ابرز ممثلي
الافلاطونية الجديدة في القرن الثالث الميلادي (١٧٥ ـ ٢٥٠ م) ، وعرف بأمونيوس
ساكاس اي الحمال لأنه كان يعمل حمالاً في الإسكندرية حيث ولد ونشأ من أبوين مسيحيين
، بيد أنه رغب عن المسيحية بعد اطلاعه علي الفلسفة. وقد نسب اليه الفارابي رسالة
لم يسمها يذكر فيها أقاويل هذين الحكيمين في اثبات الله ويوفق بينهما ويسلك طربق
التوسط بينهما علي حد تعبيره.
ومن اعلام هذه المدرسة أفلوطين (٢٠٥ ـ ٢٧٠
م) وهو تلميذ امونيوس ساكاس وأكبر فلاسفة الافلاطونية الحديثة علي الاطلاق. ولد في
مصر وتعلم علي يد أمونيوس وسافر الي فارس والهند ليطلع علي أفكار أهلها ، ثم قفل
راجعاً إلي روما حيث مات. وتمثلت آثاره بأربع وخمسين رسالة جمعت في ستة أقسام ، كل
قسم تسع رسائل ، لذا دعيت بالتساعيات ، تدور حول الموضوعات التالية : الإنسان (المجموعة
الأولي) ، العالم المحسوس (الثانية والثالثة) النفس (الرابعة) العقل (الخامسة)
العالم العلوي (السادسة). تصور العالم مؤلفاً من الواحد (الله) والعقل الكلي ،
والنفس الكلية ، والكائنات الحسية. والواحد ليس عقلاً (عكس ما قال ارسطو) ، ولا
يعقل شيئاً ، ولا يتحرك (كما
قال ارسطو) ، وقد خلق
الله العالم بطريقة الفيض ، أي ان العالم فاض عنه لأنه تام كامل ، وكل موجود يصل
الي كماله يلد ، ويشبه فيضان العالم عنه فيضان النور عن الشمس.
وذكر الفارابي اسم علم ثالث من اعلام
الافلاطونية المحدثة هو فورفوريوس الصوري صاحب الكتاب الشهير «المدخل الي مقولات
ارسطو» والمعروف باسم كتاب «فيساغوجي». عاش في القرن الثالث الميلادي (٢٣٣ ـ ٣٠٥ م)
وقد غادر موطنه صور الي روما حيث اتصل بأفلوطين وتتلمذ عليه وتصوف مثله. وله
شروحات لكتب افلاطون وارسطو.
لماذا اختار الفارابي الافلاطونية
الجديدة دون سائر المذاهب الفلسفية؟ لم يوضح لنا ذلك ، ولكن يمكن القول انه وجد
الطريق ممهداً أمامه فسلكه. والذي مهد له الطريق ، طريق الأفلاطونية الجديدة ، هو
سلفه يعقوب بن اسحق الكندي (٧٩٦ ـ ٨٧٣ م) الذي سبقه بقرن من الزمان. ونجده في
رسائله يجمع بين آراء افلاطون وارسطو ويقول بشكل سافر بنظرية الفيض الأفلوطينية ،
وينعت الله بالواحد الذي لا يتكثر ، كما يقول بحدوث العالم وخلقه من لا شيء. وهذه
الآراء نجدها جميعاً في كتاب الفارابي «الجمع بين رأيي الحكيمين».
وربما حمله علي الجمع بين الفيلسوفين
المختلفين مبدأ فلسفي ألفاه عند سلفه الكندي يقول ان غاية افلاطون الحق لأن
الفلسفة هي العلم
بحقائق الموجودات ،
وغاية ارسطو الحق أيضاً. ولقد أصاب كل منهما الحق ولو لا ذلك لم يكن كل منهما
فيلسوفاً عظيماً معترفاً به من الأجيال اللاحقة والمفكرين المتأخرين. وبما ان الحق
لا يضاد الحق لذلك لا يمكن ان يكون خلاف بينهما.
وقد ذهب البعض في تعليل اعتناق الفلاسفة
العرب الأفلاطونية الجديدة الي سمة من سمات العقلية العربية ، تلك السمة هي التوسط
والتوفيق في الأمور. وقد دمغت هذه السمة بعض الفرق الكلامية الكبيرة كالمعتزلة
والاشعرية. والمبدأ الذي انطلقت منه يتلخص في القول المشهور الذي نسب لأحدهم وهو «خير
الأمور الوسط». فالمعتزلة ادعوا انهم الفرقة التي رفضت تطرف الخوارج من جهة
والمرجئة من جهة ثانية ، الافراط والتفريط علي ما يقول الجاحظ. والاشعري عندما
ارتد علي المعتزلة واسس مذهباً جديداً له حاول التوسط بين المعتزلة الذين افرطوا
في الاعتماد علي العقل والحشوية الذين فرطوا فيه ، واعتمدوا اعتماداً كلياً علي
النقل.
واذا كانت النزعة الي التلفيق والجمع
والتوسط قد غلبت علي كثرة من الفلاسفة العرب وهو الكندي والفارابي وابن سينا
والغزالي وابن طفيل ، فان فيلسوفاً كبيراً واحداً علي الأقل لم يستجب لها ولم
يتأثر بها ، أعني به ابن رشد (١١٢٦ ـ ١١٩٨ م) ، فقد انتقدها نقداً عنيفاً ، واختار
مذهباً آخر غير الافلاطونية الجديدة ، هو فلسفة أرسطو الصافية المشائية.
وربما كان اقرب الي الصواب الرأي القائل
ان الفلاسفة العرب آثروا الافلاطونية الجديدة لأنها مشربة بروح الديانات الشرقية
كاليهودية والمسيحية ، ولذا كانت أقرب الي الاسلام من المشائية البحتة التي تقوم
علي العقل وحده. والاسلام هو دين هؤلاء الفلاسفة ، ودين المجتمع الذي يعيشون فيه
ولا يستطيعون ان يديروا ظهرهم له ، ولا ان يخرجوا عليه ، فهم مظطرون الي ان يبقوا
علي مسافة قريبة منه لكي يتجنبوا التضييق والنقد والتنكيل والنبذ من مجتمعهم.
ولنا أن نتساءل : هل نجح الفارابي في
محاولته الجمع بين افلاطون وارسطو؟ الجواب هو التالي : لم ينجح مطلقاً. والسبب
واضح وهو استحالة الجمع بين النقيضين عملاً بقول المتنبي الذي كان معاصراً
للفارابي ، ومن اصحاب سيف الدولة الحمداني مثله :
وما الجمع بين الماء والنار في يدي
|
|
بأصعب من أن أجمع الحظ والفهما
|
لقد حاول أولاً أن يوفق بين نظرتي
افلاطون وارسطو الي الحياة والمجتمع والسياسة ، وهذه محاولة عقيمة ، لأن افلاطون
كان خيالياً وارسطو كان واقعياً حسياً. فدعا الاول الي اقامة دولة تتألف من ثلاث
طبقات هي طبقة الحكام وطبقة الجنود وطبقة العامة ، تقاب قوي النفس الثلاث :
العقلية والغضبية والشهوانية ، وتفرز هذه الطبقات في الامتحانات المدرسية. وتتكون
طبقة الحكام من المفكرين ، ويرأسها فيلسوف. ويعيش الحراس حياة اشتراكية في النساء
والأموال ، أي انه ألغي الأسرة والملكية.
أما ارسطو فذهب عكس ذلك ، إذ أقر الاسرة
كخلية اجتماعية لا بد منها ، وأيد الملكية الخاصة لأن الانسان لا ينشط الي العمل
والانتاج بدون ملكية. وقال ان خير الحكومات هي التي تعمل لخير الشعب ، ولذا وجد
ثلاثة أنواع من الحكومات الصالحة هي الملكية والارستقراطية والديموقراطية ،
تقابلها ثلاثة انواع من الحكومات الطالحة هي حكومة الطغيان او حكومة الفرد المستبد
، والاوليغركية او حكومة الاغنياء والاعيان الجشعين ، والديماغوجية او حكومة
العامة التي تتبع اهواءها المتقلبة. والملكية هي حكومة الفرد العادل ،
والأرستقراطية هي حكومة الأقلية العادلة ، والديموقراطية هي حكومة الاغلبية
الفقيرة ، تمتاز بالمساواة والحرية واحترام القانون. والحكومة المثلي بنظره هي
حكومة الطبقة المتوسطة التي تجمع بين الارستقراطية والديموقراطية وتتقيد بالدستور
وتتلاءم مع طبيعة البلاد والشعب.
وعملاً بنظريتيهما المختلفتين هاتين لم
يؤسس افلاطون اسرة ولم يتزوج ، بينما تزوج ارسطو مرتين وأنجب ابنة وابناً. واغري
افلاطون أحد الامراء في احدي الجزر بتطبيق جمهورية الخيالية ، ففشل وقبض عليه وبيع
في سوق النخاسة حتي افتداه أحدهم واعتقه. اما ارسطو فاتصل بفيليب ملك مقدونيا وعهد
اليه بتأديب ابنه الاسكندر فاضطلع بالمهمة وتخرج علي يديه ملك عظيم ، وعندما دالت
دولة المقدونيين عزم أهل اثينا علي الانتقام منه فهرب قائلاً : لن اعطي الاثينيين
فرصة ثانية للاجرام ضد الفلسفة.
وحاول الفارابي ثانياً ان يوفق بين
منهجي افلاطون وارسطو في البحث والتأليف ، فوجد انهما مختلفان في الظاهر ومتفقان
في الغاية ، والغاية التي ابتغاها كل منهما هي التعمية والاغلاق والتعقيد. وهذا
حكم بعيد عن الصواب لأنهما متباينان في النهج تبايناً كاملاً. فمنهج أفلاطون هو
الحوار حيث نجد شخصين أو أكثر يتحادثان حول مسألة من المسائل الفلسفية ويتبادلان
الرأي ويتناقشان. وغالباً ما يكون سقراط احدهما ، والآخر أحد المفكرين اليونان ممن
يخالف سقراط الرأي. ويستمر الحوار الرشيق الشيق المثمر بينهما حتي ينتهيا الي
النتيجة التي يريدها افلاطون. وقد يستعين اثناء الحوار باساطير او أمثلة خرافية
كانت شائعة في عصره علي الأغلب لايضاح فكرته وليس لتعميتها وتغطيتها كما يظن
الفارابي.
أما منهج ارسطو فمختلف كل الاختلاف ،
انه ليس حواراً قصيصاً ، بل نثر علمي جاف ، دقيق العبارات ، يتبع مراحل أربع : في
المرحلة الأولي يعين موضوع البحث «لأن الباحث الذي لا يبدأ بوضع المسألة كالماشي
الذي لا يدري الي أيه جهة هو متوجه» وفي المرحلة التالية يسرد الآراء حول الموضوع
ويناقشها لأن «الذي يسمع الحجج المتعارضة جميعاً يكون موقفه أفضل للحكم» ، وفي
المرحلة الثالثة يسجل الصعوبات أو المشاكل التي يثيرها الموضوع ، ويعرف الصعوبة
بأنها «وضع رأيين متعارضين لكل منهما حجته في الجواب عن مسألة بعينها». (أنظر كتاب
الجدل من منطق ارسطو ، وكتاب ما بعد الطبيعة) وأخيراً يبحث عن حلول للمسألة التي
يعالجها.
وحالو الفارابي ، ثالثاً ، التوفيق بين
افلاطون وارسطو في المنطق فلم يجد تعارضاً بينهما في شيء من مسائله ، لا في مفهوم
الجوهر ولا في مفهوم القسمة ولا في مفهوم القياس. ولاواقع ان علم المنطق وضعه
ارسطو بعد موت افلاطون ، فلم يكن ثمة متسع للخلاف بينهما ، وقد اشار الفارابي الي
هذه الحقيقة.
ولكن باباً من أبواب المنطق طرقة
افلاطون قبل ارسطو هو الجدل ، وقد اعتبره منهجاً علمياً صحيحاً ، وهو عبارة عن
المناقشة التي تجري بين شخصين حول مسألة من المسائل وتؤدي الي توليد المعرفة. وقد
حدده بأنه المنهج الذي به يرتفع العقل من المحسوس الي المعقول دون أن يستخدم شيئاً
حسياً بل بالانتقال من معانٍ الي معانٍ بواسطة معان (الجمهورية ص ٥١١) ، وبأنه
العلم الكلي بالامور الدائمة والمباديء الاولي يصل إليه العقل بعد العلوم الجزئية
، ثم ينزل منه الي هذه العلوم يربطها بمبادئها ، وإلي المحسوسات يفسرها. وهكذا
يميز افلاطون بين نوعين من الجدل : الجدل الصاعد الذي يرتقي من المحسوسات الي
المعقولات مروراً بالمظنونات والمستدلات. فيكون لدينا اربعة أنواع من المعرفة هي
الاحساس او ادراك عوارض الأجسام ، والظن أو الحكم علي المحسوسات بما هي كذلك ،
والاستدلال أو علم الماهيات الرياضية المتحققة من المحسوسات ، والتعقل أو ادراك
الماهيات المجردة من كل مادة أو المثل.
ثم الجدل النازل الذي ينزل من المعقولات
الي المحسوسات ليحكم
بالكليات (الانواع
والاجناس) علي الجزئيات الحسية. والحكم الذي يتجلي به الجدل النازل هو ادراك
العلاقة بني الموضوع والمحمول ، أو اشتراكهما في صفة من الصفات. فالجدل اذن هو
الذي يتبين ملاءمة الماهيات او المثل بعضها لبعض ، ويراها مرتبة في انواع واجناس ،
ويري هذه المثل مرتبطة بمثل اعلي أعم هو مثل الخير بالذات (الله) ، ويري أخيراً أن
ثمة مبدأين أساسيين للعلوم هما مبدأ عدم التناقض أو الهوية ، ومبدأ العلية الفاعلية
والغائية.
والطريقة التي يرتب بها الجدل المثل أو
الماهيات في أنواع وأجناس هي طريقة القسمة ، وأفضلها القسمة الثنائية ، فتقسم
الجنس إلي أنواع ، ويقسم النوع الي فصول ، وكل فصل إلي أجزاء بسيطة.
أما ارسطو فقد اعتبر الجدل نوعاً من
الاستدلال يقوم علي مقدمتين ونتيجة وتكون مقدماته محتملة ، أي آراءً متواترة
مقبولة عند العامة أو العلماء. وبذا ينماز عن أنواع الاستدلال الاخري : البرهان ،
والمغالطة. فمقدمات الاستدلال البرهاني يقينية ومقدمات البرهان المغالطة. فمقدمات
الاستدلال البرهاني يقينية ومقدمات البرهان المغالطي مموهة او غير صحيحة. وقد حده
بقوله : «الجدل استدلال باليجاب او بالسلب في مسألة واحدة بالذات مع تحاشي الوقوع
في التناقض ، والدفاع عن النتيجة الموجبة أوالسالبة».
والذي يسمح للمجادلين بالدفاع عن القضية
السالبة والقضية الموجبة في وقت واحد هو المقدمة المحتملة ، لأن المقدمات اليقينية
لا تنتج النقيضين في آن واحد. وعلي هذا الاساس يخالف ارسطو
افلاطون ولا يعتبر
مثله الجدل علماً او منهج علم ، بل استدلالاً احتمالياً يستعمل غالباً في الخطابة.
والفرق الآخر بينهما في المنطق هو أن
أفلاطون يعتبر الماهيات التي في الذهن صوراً للمثل التي رأتها النفس في السماء قبل
حلولها الجسد ، أما ارسطو فيعتبر تلك الماهيات صوراً للأشياء الحسية جردها الذهن
بواسطة الحواس منها.
ولا خلاف بين الرجلين في مباديء المنطق
: مبدأ عدم التناقص ومبدأ العلية ، ولا في القسمة. بيد ان ارسطو حصر فائدة القسمة
في نطاق ضيّق من القياس ، بينما اعتمدها افلاطون منهجاً عاماً للجدل.
وأراد الفارابي ، رابعاً ، أن يوفق بين
رأيي الحكيمين اليونانيين في الابصار : رأي افلاطون القائل ان الابصار يتم بخروج
شيء من العين الي الشيء المبصر ، ورأي ارسطو المعاكس القائل ان الابصار يتم بخروج
شيء من الشيء المبصر الي العين. فأرجع الخلاف الظاهر بينهما الي استعمال لفظ
الخروج المشترك. فهو يحمّل اللغة وزر التناقض الحاصل بين الفيلسوفين. وقد كان
الفارابي رائداً في التخريج اللغوي لحل الاشكالات والتناقضات الفلسفية ، وتبعه في
ذلك الغزالي وابن رشد من الفلاسفة العرب ، ثم اصحاب المذهب التحليلي في الفلسفة
المعاصرة.
والمسألة الخامسة التي ابتغي ابو نصر ان
يوفق فيها بين افلاطون وارسطو هي الاخلاق. وتوقف عند مسألة خلقية واحدة هي مبدأ
الاخلاق ، فوجد أن
هذا المبدأ واحد عند الفيلسوفين وهو التربية والعادة. والواقع ان ذلك هو رأي ارسطو
، فهو يذهب إلي أنها مكتسبة ، تنتج عن التربية التي يتلقاها الطفل والعادات التي
يتعلمها في حياته. ولكن تلك العادات عندما تترسخ تصبح كأنها طبيعة ثانية. أما
افلاطون فيؤخذ من سياق نظريته الخلقية ميله إلي أن الأخلاق ترتكز علي قوي النفس
الفطرية الثلالث وهي القوة العاقلة والقوة الغضبية والقوة الشهوانية.
ولكن ثمة خلافاً بين الرجلين في مسألة
أخري لم يشر إليها الفارابي هي مفهوم الفضيلة. انها بنظر أفلاطون العدالة ،
والعدالة هي التوازن بين قوي النفس الثلاث : الفكرية والغضبية والشهوانية بحيث
تقوم كل منها بوظيفتها باعتدال ولا تطغي علي غيرها ، وتخضع الشهوانية للغضبية ،
والغضبية للفكرية.
أما ارسطو فيعتبر الفضيلة وسطاً بين
طرفين رذلين. فالشجاعة فضيلة تقع بين رذيلتي الجبن والتهور ، والعفة فضيلة تقع بين
طرفين يعتبران رذيلتين هما الشره وانعدام الاحساس ... الخ.
والمسألة السادسة التي عالجها الفارابي
وحاول ردم الهوة بصددها بين امامي الفلسفة اليونانية هي المعرفة. قال افلاطون ان
المعرفة تذكر لأنها تتكون من معان أو ماهيات موجودة في الذهن ، وهذه الماهيات ليست
سوي صور للمثل الموجودة في السماء رأتها النفس قبل أن تحل في الجسد ولا يمكن أن
تكون تجريداً للكائنات الحسية المتغيرة باستمرار ،
أما ارسطو فيذهب إلي
عكس ذلك ويقول ان تلك الافكار أو الماهيات جردها الذهن عن الكائنات الحسية ، ولا
وجود لكائنات مثالية في عالم علوي اسمه عالم المثل. ومع ذلك يري الفارابي أنه لا
يوجد خلاف بين افلاطون وأرسطو بصدد المعرفة. وهو يري رأي أرسطو ويؤول أقوال
افلاطون تأويلاً متعسفاً. فيقول ان النفس عالمة بالقوة ، ولها حواس هي بمثابة آلات
الادراك ، وهذا الادراك يكون للجزئيات ، وعنها تحصل الكليات (الماهيات التي في
الذهن). وتحصل الماهيات في الذهن عن قصد أو غير قصد. والتي تحصل عن غير قصد تدعي
أوائل المعارف ومباديء البرهان وما أشبه ذلك. وهي التي ظنها البعض أنها جاءت عن
غير طربق الحس. وليس التذكر الذي ورد عند افلاطون سوي استرجاع هذه الماهيات أو
أوائل المعرفة أو المباديء التي تكونت عن غير قصد.
وما يقوله الفارابي في تأويل التذكر عند
أفلاطون سبق إليه الجاحظ في نظريته في المعرفة ، وفي كونها طباعاً تحدث عفواً في
الذهن دون إرادة وقصد.
وهو يميل إلي ارسطو أيضاً في مسألة خلود
النفس. ويفسر أقوال أفلاطون التي تذهب إلي خلود النفس ومصدرها الالهي أو السماوي
تفسيراً يستشف منه شكه أو تردده في خلودها ، يقول في ذلك «وقد ظن أكثر الناس في
هذه الأقاويل ظنوناً مجاوزة عن الحد. أما القائلون ببقاء النفس بعد مغادرتها البدن
، فقد افرطوا في تأويل هذه الأقاويل ،
وحرفوها عن سننها ،
وأحسنوا الظن بها أن أجروها مجري البراهين ، ولم يعلموا أن أفلاطون انما يحكي هذا
عن سقراط علي سبيل من يروم تصحيح أمر خفي بعلامات ودلائل».
والأدهي من ذلك كله محاولة الفارابي
التوفيق بين رأيي أفلاطون وارسطو في مسألة قدم العالم وحدوثه. فقد ذهب إلي القول
ان ارسطو كأفلاطون يقول بحدوث العالم ، وان من ظن خلاف ذلك مخطيء.
وفسر قول ارسطو : «ليس للعالم بدء زماني»
تفسيراً اعتباطياً فقال : «ومعني قوله «ان العالم ليس له بدء زماني» أنه لم يتكون
أولاً فأولاً باجزائه ، فان أجزاءه يتقدم بعضها بعضاً في الزمان ، حادث عن حركة
الفلك ، فمحال أن يكون لحدوثه بدء زماني. ويصح بذلك أنه انما يكون عن ابداع الباري
، جل جلاله ، اياه دفعة بدون زمان ، وعن حركته حدث الزمان».
ان دليله علي قول ارسطو بحدوث العالم هو
ما ورد في كتاب الربوبية أو اثالوجيا المنسوب خطأ إلي أرسطو. ان هذا الدليل فاسد
لأن ما ورد في هذا الكتاب المنحول يعبر عن رأي صاحبه الحقيقي أفلوطين ، ولا يمتّ
بصلة قريبة أو بعيدة لارسطو.
وعندما ينتهي أبو نصر إلي مسألة المثل
التي تميزت بها فلسفة أفلاطون ينفي ان يكون ارسطو قد أنكرها أو انتقدها ، بل يذهب
إلي أبعد من ذلك فيزعم أنه قال بها كأفلاطون. ودليله هنا علي دعواه هو
ذاته الدليل الذي
اعتمده في مسألة حدوث العالم ، أعني به كتاب الربوبية أو أثالوجيا المنحول. وبما
أن هذا الدليل فاسد فكل ما بني عليه فاسد مثله لأن ما بني علي فاسد فهو فاسد.
وهو علاوة علي ذلك يفهم تلك المثل فهماً
سيئاً. فيقول انها ليست سوي صور ذهنية موجودة في ذات الله ، علي منوالها خلق
الكائنات الحسية ، وهو ليست كما يتوهم البعض أشباحاً قائمة في أماكن أخر خارجة عن
هذا العالم.
والمسألة الأخيرة التي حاول التوفيق
فيها بين افلاطون وارسطو هي الدينونة أي الثواب والعقاب في الحياة الثانية. يذهب
الفارابي إلي انهما يعتقدانها ويريانها ودليله جملة نسبها الي ارسطو وهي «ان
المكافأة واجبة في الطبيعة» وخرافة وردت في آخر كتاب الجمهورية تحكي قصة جندي
اثيني مات اثناء المعركة وعاد الي الحياة بعد اثني عشر يوماً وروي كل ما شاهد من
محاسبة النفوس علي ايدي قضاة بعد الموت.
إن قول أرسطو لا يدل علي الدينونة ، ولا
أظن ان ارسطو اعتقد بها.
كان لكتاب «الجمع بين رأيي الحكيمين»
تأثير سيء في الفلسفة العربية لأن الفلاسفة العرب الذين جاؤوا بعد الفارابي اقتفوا
أثره وحاولوا التوفيق بين افلاطون وارسطو وتعاليم الدين الاسلامي ، ولم يستطيعوا
مثله التمييز جيداً بين آراء افلاطون وآراء ارسطو ، وبمعني آخر لم يتعودوا علي فهم
الفلسفة اليونانية فهماً صحيحاً.
هذه تهمة رماهم بها المستشرقون
واعتبروها عيباً شنيعاً في الفلسفة
العربية لأن من لا
يقوي علي فهم الفلسفة لا يقدر علي التفلسف.
ولم ينج من هذا العيب سوي الفيلسوف
العربي الأخير اعني به ابن رشد ، الذي استطاع في كتابه «تهافت التهافت» أن يكتشف
هذه الغلطة التي ارتكبها الفارابي ومن جاؤوا بعده من فلاسفة العرب بمن أوفيهم الغزالي ، وان يضع حداً فصلاً
واضحاً بين ما قاله ارسطو وما لم يقله.
والكتاب الذي قدمنا له لم تحققه لأنه قد
سبقنا الي هذا العمل العديد من الباحثين أولهم المستشرق ديتريصي الذي نشره لأول
مرة في ليدن سنة ١٨٩٠ م ، وطبع ثانية في مصر ١٩٠٧ م. ثم توالت الطبعات العديدة في
طهران وبيروت ... الخ.
وأهم المخطوطات الباقية لهذا الكتاب
مخطوطة المتحف البريطاني ADD.
٧٥١٨ RICH ومخطوطة برلين رقم ٥٧٨.٢ ومخطوطة بريل ١.٤٦٤.٥٧ ومخطوطة المتحف
العراقي رقم ٩٥٢ / ٢ ، ومخطوطة جامعة استنبول رقم ١٤٥٨ A.Y ... الخ.
بيروت
في ١ / ٩ / ١٩٩٤
|
د. علي بو محلم
|
كتاب الجمع بين رأيي
الحكيمين
افلاطون الالهي وارسطوطاليس
للشيخ الامام الملقب بالمعلم الثاني ابي
نصر الفارابي
بِسْمِ اَللّٰهِ
اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ
الحمد لواهب العقل ومبدعه ، ومصور الكل
، ومخترعه ، كفى احسانه القديم وافضاله. والصلاة على سيد الانبياء محمد وآله.
١ ـ غرض الكتاب
اما بعد ، فاني لما رأيت اكثر اهل زماننا
قد تحاضّوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه ، وادعوا ان بين الحكيمين المقدمين المبرزين
اختلافا في اثبات المبدع الاوّل ، وفي وجود الاسباب منه ، وفي امر النفس والعقل ، وفي
المجازات
على الافعال خيرها وشرّها ، وفي كثير من
__________________
الامور المدنية
والخلقية والمنطقية؛ اردت ، في مقالتي هذه ، ان اشرع في الجمع بين رأييهما ،
والابانة عمّا يدلّ عليه فحوى قوليهما ، ليظهر الاتّفاق بين ما كانا يعتقدانه ،
ويزول الشك والإرتياب عن قلوب الناظرين في كتبهما ، وأبين مواضع الظنون ومداخل
الشكوك في مقالاتهما ، لان ذلك من اهمّ ما يقصد بيانه ، وانفع ما يراد شرحه
وايضاحه.
٢ ـ حد الفلسفة ،
وابداع افلاطون وارسطو لها
اذ الفلسفة ، حدها وماهيتها ، انها
العلم بالموجودات بما هي موجودة .
وكان هذان الحكيمان هما مبدعان للفلسفة ، ومنشئان لأوائلها واصولها ، ومتممان
لأواخرها وفروعها ، وعليهما المعوّل في قليلها وكثيرها ، واليهما المرجع في يسيرها
وخطيرها. وما يصدر عنهما في كل فنّ انما هو الاصل المعتمد عليه ، لخلوّه من
الشوائب والكدر ، بذلك نطقت الألسن ، وشهدت العقول؛ ان لم يكن من الكافّة فمن الاكثرين
من ذوي الالباب الناصعة والعقول الصافية. ولما كان القول والاعتقاد انما يكون
صادقا متى كان للموجود المعبّر عنه
__________________
مطابقا
؛ ثم كان بين قول هذين الحكيمين ، في كثير من انواع الفلسفة ، خلاف ، لم يخل الامر
فيه من احدى ثلاث خلال : إمّا ان يكون هذا الحدّ المبين عن ماهية الفلسفة غير صحيح
، واما ان يكون رأي الجميع او الاكثرين واعتقادهم في تفلسف هذين الرجلين سخيفا
ومدخولا ، واما ان يكون في معرفة الظانّين فيهما بانّ بينهما خلافا في هذه الاصول
تقصير.
٣ ـ موضوعات الفلسفة
والحدّ الصحيح مطابق لصناعة الفلسفة؛ وذلك
يتبين من استقراء جزئيات هذه الصناعة. وذلك ان موضوعات العلوم وموادّها لا تخلو من
ان تكون : اما إلهية ، واما طبيعية ، واما منطقية ، واما رياضية ، او سياسية.
وصناعة الفلسفة هي المستنبطة لهذه ، والمخرجة لها ، حتى انه لا يوجد شيء من
موجودات العالم الاّ وللفلسفة فيه مدخل ، وعليه غرض ، ومنه علم بمقدار الطاقة
الأنسية (الانسانية). وطريق القسمة يصرح ويوضح ما ذكرناه ، وهو الذي يؤثر الحكيم
افلاطون. فان المقسّم يروم ان لا يشذّ عنه شيء موجود من الموجودات. ولو لم يسلكها
افلاطون لما كان الحكيم ارسطوطاليس يتصدّى لسلوكها.
__________________
٤ ـ ارسطو ينشيء علم
المنطق ويتمم سائر الفلسفة التي بدأها افلاطون
غير انه ، لما وجد افلاطون قد احكمها ،
وبيّنها ، واتقنها ، واوضحها ، اهتمّ ارسطاطاليس باحتمال الكدّ واعمال الجهد في انشاء
طريق القياس؛ وشرع في بيانه وتهذيبه ، ليستعمل القياس والبرهان في جزء جزء مما
توجبه القسمة ، ليكون كالتابع والمتمّم والمساعد والناصح. ومن تدرب في علم المنطق
، واحكم علم الآداب الخلقية ، ثم شرع في الطبيعيات والالهيات ، ودرس كتب هذين
الحكيمين ، يتبيّن له مصداق ما اقوله ، حيث يجدهما قد قصدا تدوين العلوم بموجودات
العالم ، واجتهدا في ايضاح احوالها على ما هي عليه ، من غير قصد منهما لاختراع ،
واغراب ، وابداع ، وزخرفة ، وتشويق ؛ بل لتوفية كل منهما قسطه ونصيبه ، بحسب الوسع
والطاقة .
واذا كان ذلك كذلك ، فالحد الذي قيل في الفلسفة ، انها العلم بالموجودات بما هي موجودة
، حد صحيح ، يبين عن ذات المحدود ويدلّ على ماهيته.
٥ ـ اجماع العقول
المختلفة حجة
فأما ان يكون رأي الجميع او الاكثرين ،
واعتقادهم في هذين الحكيمين انهما المنظوران والامامان المبرّزان في هذه الصناعة ،
سخيفا
__________________
مدخولا؛ فذلك بعيد عن
قبول العقل ايّاه واذعانه له؛ اذ الموجود يشهد بضدّه. لانا نعلم يقينا انه ليس شيء
من الحجج اقوى وانفع واحكم من شهادات المعارف المختلفة بالشيء الواحد ، واجتماع
الآراء الكثيرة ، اذ العقل ، عند الجميع ، حجّة. ولا جل ان ذا العقل ربما يخيّل
اليه الشيء بعد الشيء ، على خلاف ما هو عليه ، من جهة تشابه العلامات المستدلّ بها
على حال الشيء ، احتيج الى اجتماع عقول كثيرة مختلفة. فمهما اجتمعت ، فلا حجّة
اقوى ، ولا يقين احكم من ذلك.
ثم لا يغرّنك وجود أناس كثيرة على آراء مدخولة؛
فانّ الجماعة المقلّدين لرأي واحد ، المدّعين لامام يؤمّهم فيما اجتمعوا عليه ،
بمنزلة عقل واحد ، والعقل الواحد ربما يخطئ في الشيء الواحد ، حسب ما ذكرنا ، لا
سيما اذا لم يتدبّر الرأي الذي يعتقده مرارا ، ولم ينظر فيه بعين التفتيش
والمعاندة. وان حسن الظنّ بالشيء او الاهمال في البحث ، قد يغطي ، ويعمي ، ويخيّل.
واما العقول المختلفة ، اذا اتفقت ، بعد
تأمّل منها ، وتدرّب ، وبحث ، وتنقير
ومعاندة ، وتبكيت
، واثارة الاماكن المتقابلة ، فلا شيء اصحّ مما اعتقدته ، وشهدت به ، واتفقت عليه.
ونحن نجد الالسنة المختلفة متفقة بتقديم هذين الحكيمين؛ وفي التفلسف بهما
__________________
تضرب الامثال؛
واليهما يساق الاعتبار؛ وعندهما يتناهى الوصف بالحكم العميقة والعلوم اللطيفة ،
والاستنباطات العجيبة ، والغوص في المعاني الدقيقة المؤدية في كل شيء الى المحض
والحقيقة.
واذا كان هذا هكذا ، فقد بقي ان يكون في
معرفة الظانّين بهما ان بينهما خلافا في الاصول ، تقصير. وينبغي ان تعلم ان ما من ظن
يخطأ ، او سبب يغلط ، الاّ وله داع اليه ، وباعث عليه. ونحن نبين في هذه المواضع بعض
الاسباب الداعية الى الظنّ بان بين الحكيمين خلافا في الاصول؛ ثم نتبع ذلك بالجمع بين
رأييهما.
٦ ـ عيب الاستقراء
اعلم ، ان مما هو متأكد في الطبائع ـ
بحيث لا تقلع عنه (الطبائع) ولا يمكن خلوها عنه ، والتبرؤ منه في العلوم والآراء
والاعتقادات ، وفي اسباب النواميس والشرائع ، وكذلك في المعاشرات المدنية والمعائش
ـ هو الحكم بالكلّ عند استقراء الجزئيات : اما في الطبيعيات ، فمثل حكمنا بان كل
حجر يرسب في الماء ، ولعل بعض الاحجار يطفو؛ وان كل نبات محترق بالنار ، ولعل بعضها
لا يحترق بالنار ؛ وان جرم الكل متناه ، ولعله غير متناه. وفي الشرعيات ، مثل ان كل
من شوهد فعل الخير منه على اكثر الاحوال ، فهو عدل ، صادق
__________________
الشهادة في كثير من
الأشياء ، من غير ان يشاهد جميع احواله. [وفي المعاشرات ، مثل السكون والطمأنينة اللتين
حدّهما في انفسنا محدود ، انما منه استدلالات من غير ان يشاهد في جميع احواله].
ولما كان امر هذه القضية على ما وصفناه من استحكامه واستيلائه على الطبائع ، ثم
وجد افلاطون وارسطوطاليس ، وبينهما في السير والافعال ، وكثير من الاقوال ، خلاف ظاهر
، فكيف يضبط الوهم معهما بتوهم وتحكم بالخلاف الكلّي بينهما؛ مع سوق الوهم الى القول
والفعل جميعا تابعين للاعتقاد؛ ولا سيما حيث لا مراء فيه ولا احتشام ، مع تمادي
المدة؟
٧ ـ اختلاف سيرتي
أفلاطون وأرسطو لم يؤدي الي اختلاف آرائهما السياسة والخلقية
ثم ، من افعالهما المباينة ، وسيرهما
المختلفة ، تخلّي افلاطون من كثير من الاسباب الدنيوية ، ورفضه لها ، وتحذيره في
كثير من اقاويله عنها ، وايثاره تجنبها؛ وملابسة ارسطوطاليس لما كان يهجر افلاطون
، حتى استولى على كثير من الاملاك وتزوّج ، واولد ، وتوزّر للملك الاسكندر ، وحوى من
الاسباب الدنيوية ما لا يخفى على من اعتنى بدرس كتب اخبار المتقدمين. فظاهر هذا
الشأن يوجب الظنّ بأنّ بين الاعتقادين خلافا في امر الدارين.
وليس الامر كذلك ، في الحقيقة : فان
افلاطون هو الذي دوّن السياسات ، وهذبها ، وبيّن السير العادلة ، والعشرة
الأنسية المدنية ، وابان عن فضائلها ، واظهر الفساد العارض لأفعال من هجر العشرة المدنية
، وترك التعاون فيها. ومقالاته ، فيما ذكرناه ، مشهورة ، يتدارسها الأمم المختلفة
من لدن زمانه الى عصرنا هذا. غير انّه ، لما رأى امر النفس وتقويمها اوّل ما يبتدئ
به الانسان ، حتى اذا احكم تعديلها وتقويمها
، ارتقى منها الى تقويم غيرها
؛ ثم ، لم يجد في نفسه من القوة ما يمكنه الفراغ مما يهمّه من امرها ، افنى ايامه
في اهمّ الواجبات عليه ، عازما على انه ، متى فرغ من الاهمّ الاولي ، اقبل على
الاقرب الادنى ، حسب ما اوصى به في مقالاته في «السياسات والاخلاق».
وان ارسطوطاليس جرى على مثل ما جرى عليه
افلاطون في اقاويله «ورسائله السياسية». ثم لما رجع الى امر نفسه خاصّة ، احس منها
بقوة ورحب ذراع وسعة صدر وتوسع اخلاق وكمال امكنه معها تقويمها ، والتفرّغ للتعاون
، والاستمتاع بكثير من الاسباب المدنية.
فمن تأمل هذه الاحوال ، علم انه لم يكن
، بين الرأيين والاعتقادين ، خلاف ، وان التباين الواقع لهما كان سببه نقص في
القوى الطبيعية في
__________________
احدهما ، وزيادة فيها
في الآخر ، فلا غير؛ على حسب ما لا يخلو منه كل الاثنين من اشخاص الناس ، اذ
الاكثرون قد يعلمون ما هو آثر وأصوب وأولى؛ غير انهم لا يطيقونه ، ولا يقدرون
عليه؛ وربما اطاقوا البعض وعجزوا عن البعض.
٨ ـ منها افلاطون
وارسطو في البحث مختلفان في الظاهر ولكنهما متفقان في الغاية
ومن ذلك ايضا ، تباين مذهبهما في تدوين
العلوم ، وتأليف الكتب.
وذلك ان افلاطون كان يمنع ، في قديم
الايام ، عن تدوين العلوم وايداع بطون الكتب دون الصدور الزكية والعقول المرضية.
فلما خشي على نفسه الغفلة والنسيان ، وذهاب ما يستنبطه ، وتعسّر وقوفه عليه ، حيث استغزر
علمه وحكمته ، وتبسط فيها؛ فاختار الرموز والالغاز
، قصدا منه ، لتدوين علومه وحكمته ، على السبيل الذي لا يطّلع عليه الاّ المستحقّون
لها ، والمستوجبون للاحاطة بها ، طلبا وبحثا وتنقيرا واجتهادا. واما ارسطوطاليس ،
فكان مذهبه الايضاح ، والتدوين ، والترتيب ، والتبليغ ، والكشف ، والبيان ،
واستيفاء كل ما يجد اليه السبيل من ذلك.
__________________
وهذان سبيلان ، على ظاهر الامر ،
متباينان. غير ان الباحث عن علوم ارسطوطاليس ، والدارس ، لكتبه ، والمواظب عليها ،
لا يخفى عليه مذهبه في وجوه الاغلاق والتعمية والتعقيد ، مع ما يظهره من قصد
البيان والايضاح. من ذلك ما يوجد في اقاويله من حذف المقدّمة الضرورية من كثير من
القياسات الطبيعية والالهية والخلقية التي اوردها؛ مما دلّ على مواضعها المفسّرون
لها. ومن ذلك حذف كثير من النتائج ، وحذف الواحد من كل زوجين ، والاقتصار على
الواحد منهما؛ مثل قوله في «رسالته الى الاسكندر» ، في سياسات المدن الجزئية : «من
آثر اختيار العدل في التعاون المدني ، فخليق ان يميّزه مدبّر المدينة في العقوبة».
وتمام هذا القول هكذا : من آثر اختيار العدل على الجور ، فخليق ان يميّزه مدبّر المدينة
في العقوبة والثواب. يعني ان من آثر العدل ، فخليق ان يثاب ، كما ان من آثر الجور
، فخليق ان يعاقب.
ومن ذلك ، ذكره لمقدمتي قياس ما ،
واتباعهما نتيجة قياس آخر ، وذكره لمقدمتي قياس ، واتباعه نتيجة لوازم تلك
المقدّمات ، مثل ما فعله في كتاب «القياس»
، عند ذكر اجزاء الجواهر انها جواهر. ومن ذلك ، (إشباعه) القول في تعديد جزئيات الشيء
الواضح ، ليرى ، من نفسه ، البلاغ والجهد في الاستيفاء؛ ثم تجاوزه عن الغامض من غير
اشباع في القول ، ولا توفيته في الخط.
__________________
ومن ذلك ، النظم والترتيب والرسم الذي
في كتبه العلمية ، حيث تظنّ ان ذلك طباع له ، لا يمكنه التحوّل عنه. فاذا تؤمل رسائله
وجد كلامه فيها منشأ ومنظوما على رسوم وترتيبات مخالفة لما في تلك الكتب. وتكفينا «رسالته»
المعروفة الى افلاطون ، في جواب ما كان افلاطون كتب اليه به ، يعاتبه على تأليفه الكتب
وترتيبه العلوم ، واخراجها في تأليفاته الكاملة المستقصاة. فانه يصرح ، في هذه «الرسالة
الى افلاطون» ، ويقول : «اني وان دوّنت هذه العلوم والحكم المضمونة بها ، فقد رتّبتها
ترتيبا لا يخلص اليها الاّ اهلها ، وعبّرت عنها بعبارات لا يحيط بها الاّ بنوها». فقد
ظهر ، مما وصفناه ، ان الذي سبق الى الاوهام من التباين في المسلكين في امر ،
يشتمل عليه حكمان ظاهران متخالفان ، يجمعها مقصود واحد.
٩ ـ لا خلاف بين
افلاطون وارسطو في تفضيل الجواهر
ومن ذلك ايضا ، امر الجواهر ، وان التي
منها اقدم ، عند ارسطوطاليس غير التي منها اقدم ، عند افلاطون. فان اكثر الناظرين
في كتبهما يحكمون بخلاف بين رأييهما في هذا الباب. والذي حداهم الى هذا الحكم ،
وهذا الظن ، هو ما وجدوا من اقاويل افلاطون في كثير من كتبه ، مثل كتاب «طيماوس»
، وكتاب «بوليطيا الصغير»
، دلالة على ان افضل الجواهر واقدمها واشرفها ، هي القريبة
__________________
من العقل والنفس ،
البعيدة عن الحس والوجود الكياني. ثم وجدوا كثيرا من اقاويل ارسطوطاليس في كتبه ،
مثل كتابه في «المقولات» ، وكتابه في «القياسات الشرطية» ، يصرح بان اولى الجواهر
، بالتفضيل والتقديم ، الجواهر الأول ، التي هي الاشخاص. فلما وجدوا هذه الاقاويل
، على ما ذكرناه من التفاوت والتباين ، لم يشكوا في ان بين الاعتقادين خلافا .
والامر كذلك لان من مذهب الحكماء
والفلاسفة ان يفرقوا بين الاقاويل والقضايا في الصناعات المختلفة ، فيتكلّمون على
الشيء الواحد في صناعة بحسب مقتضى تلك الصناعة؛ ثم يتكلمون على ذلك الشيء بعينه ،
في صناعة اخرى ، بغير ما تكلموا به اولا. وليس ذلك ببديع ولا مستنكر؛ اذ مدار الفلسفة
على القول من حيث ومن جهة ما. كما قد قيل انه لو ارتفع من حيث ومن جهة ما ، بطلت تلك
العلوم والفلسفة. ألا ترى أن الشخص الواحد ، كسقراط مثلا ، يكون داخلا تحت الجوهر
، من حيث هو انسان ، وتحت الكم من حيث هو ذو مقدار ، وتحت الكيف من حيث هو ابيض او
فاضل او غير ذلك؛ وفي المضاف ، من حيث هو اب او ابن؛ وفي الوضع ، من حيث هو جالس
او متّك. وكذلك سائر ما اشبهه.
__________________
فالحكيم ارسطوطاليس ، حيث جعل اولى
الجواهر ، بالتقديم والتفضيل ، اشخاص الجواهر ، انما جعل ذلك في صناعة «المنطق
وصناعة الكيان» ، حيث راعى احوال الموجودات القريبة الى المحسوس الذي منه يؤخذ
جميع المفهومات ، وبها قوام الكلي المتصور. واما الحكيم افلاطون ، فانه حيث جعل
اولى الجواهر ، بالتقديم والتفضيل ، الكليات ، فانه انما جعل ذلك فيما «بعد
الطبيعة» وفي «اقاويله الالهية» ، حيث كان يراعي الموجودات البسيطة الباقية ، التي
لا تستحيل ولا تدثر.
فلما كان بين المقصودين فرق ظاهر ، وبين
الفريقين بون بعيد ، وبين المبحوث عنهما خلاف ، فقد صحّ ان هذين الرأيين ، من الحكيمين
، متفقان لا خلاف بينهما؛ اذا الاختلاف انما يكون حاصلا ان حكما على الجواهر من جهة
واحدة وبالاضافة الى مقصود واحد بحكمين مختلفين. فلما لم يكن ذلك كذلك ، فقد اتضح
ان رأييهما يجتمعان على حكم واحد في تقديم الجواهر وتفضيلها.
١٠ ـ القسمة التي اعتمدها
افلاطون لم يهملها ارسطو
ومن ذلك ، ما يظن بهما في امر القسمة والتركيب
في توفية الحدود.
ان افلاطون يرى ان توفية الحدود انما يكون
بطريق القسمة ، وارسطوطاليس يرى ان توفية الحدود انما يكون بطريق البرهان والتركيب.
وينبغي ان تعلم ان مثل ذلك مثل الدرج
الذي يدرج عليه ، وينزل منه : فان المسافة واحدة وبين السالكين خلاف. وذلك ان ارسطوطاليس
، لما رأى ان اقرب الطرق واوثقها في توفية الحدود ، هو بطلب ما يخص الشيء وما يعمه
، مما هي ذاتية له وجوهرية
، وسائر ما ذكره في «الحرف» الذي يتكلم فيه على توفية الحدود ، من كتبه فيما «بعد الطبيعة»
، وكذلك في كتاب «البرهان» ، وفي كتاب «الجدل» ، وفي غير ذلك
من المواضع ، مما يطول ذكره؛ واكثر كلامه لم يخل من قسمة ما ، وان كان غير مصرح
بها ، فانه حين يفرق بين العاميّ والخاصّ ، وبين الذاتي وغير الذاتي ، فهو سالك ، بطبيعته
وذهنه وفكره ، طريق القسمة ، وانما يصرح ببعض اطرافها. ولا جل ذلك لم يطرح طريق القسمة
رأسا ، لكنه يعدّه من التعاون على اقتضاء اجزاء المحدود. والدليل على ذلك ، قوله ،
في كتاب «القياس» ، في آخر المقالة الاولى : «فاما القسمة التي تكون بالاجناس جزء صغير
من هذا المأخذ ، فانه سهل ان يعرف» ، وسائر ما يتلوه. وهو لم يعد المعاني التي يرى
افلاطون استعمالها ، حين يقصد الى اعمّ ما يجده مما يشتمل على الشيء المقصود
تحديده ، فيقسمه بفصلين ذاتيين ، ثم يقسم
__________________
كل قسم منهما كذلك ، وينظر
في اي الجزءين يقع المقصود تحديده؛ ثم لا يزال يفعل كذلك الى ان يحصل امر عاميّ قريب
من المقصود تحديده ، وفصل يقوّم ذاته ويفرده عمّا يشاركه. وهو في ذلك لا يخلو من تركيب
ما حيث يركّب الفصل على الجنس؛ وان لم يقصد ذلك من اول الامر. فاذا كان لا يخلو من
ذلك فيما يستعمله. وان كان ظاهر سلوكه ذلك خلاف ظاهر سلوكه هذه ، فالمعاني واحدة. وايضا
، فسواء طلبت جنس الشيء وفصله ، او طلبت الشيء في جنسه وفصله. فظاهر ان لا خلاف
بين الرأيين في الاصل ، وان كان بين المسلكين خلاف. ونحن لا ندّعي انه لا بون ، بوجه
من الوجوه وجهة من الجهات ، بين الطريقين ، لانه يلزمنا ، عند ذلك ، ان يكون قول ارسطوطاليس
ومأخذه وسلوكه ، هي باعينها قول افلاطون ومأخذه وسلوكه. وذلك محال وشنيع ، ولكنّا
ندّعي انه لا خلاف بينهما في الاصول والمقاصد ، على ما بيّناه او سنبيّنه بمشيئة اللّه
وحسن توفيقه.
١١ ـ لا خلاف بين
افلاطون وارسطو حول القياس
ومن ذلك ايضا ، ما انتحله امونيوس
وكثير من الاسكلائيين
__________________
وآخرهم تامسطيوس
فيمن يتبعه ، من ان القياس المختلط من الضروري والوجودي اذا كانت المقدمة الكبرى منهما
ضرورية ، كانت النتيجة وجودية لا ضرورية. ونسبوا ذلك الى افلاطون ، وادّعوا انه
يأتي بقياسات ، في كتبه ، توجد مقدماتها الكبرى ضرورية ونتائجها وجودية ، مثل
القياس الذي يأتي به في كتاب «طيماوس» ، حيث يقول : «الوجود افضل من لا وجود ، والافضل
تشتاقه الطبيعة ابدا». ويزعمون ان النتيجة اللازمة لهاتين المقدمتين ، وهي ان
الطبيعة تشتاق الوجود ، ليست ضرورية ، من جهات : منها انه لا ضرورة في الطبيعة ،
وان الذي في الطبيعة من الوجود هو الوجود الذي على الأكثر؛ ومنها ان الطبيعة قد تشتاق
الى الوجود عند المضاف اللاحق لوجود ما ، هي اللازمة عنه. وزعموا ان المقدمة الكبرى
من هذا القياس ضرورية ، لقوله : «ابدا». وارسطوطاليس يصرح في كتاب «القياس» : ان القياس
الذي تكون مقدماته مختلطة من الضروري ومن الوجودي ، وتكون الكبرى هي الضرورية ،
فان النتيجة تكون ضرورية. وهذا خلاف ظاهر.
فنقول : لو لا انه لا يوجد لافلاطون قول
يصرح فيه ان امثال هذه النتائج تكون ضرورية او وجودية البتة ، وانما ذلك شيء يدّعيه
الناظرون ، ويزعمون انه قد يوجد لافلاطون قياسات على هذا السبيل ، مثل ما حكيناه عنه
، لكان بينهما خلاف ظاهر. الاّ ان الذي دعاهم
__________________
الى هذا الاعتقاد هو
قلّة التمييز وخلط صناعة المنطق بالطبيعة
وذلك اذ ، لما هم وجدوا القياس مركّبا من مقدّمتين وثلاثة حدود : اوّل ، واوسط ، وآخر
، ووجدوا لزوم الحد الأول
للاوسط ضروريا ، ولزوم الاوسط للاخر وجوديا ، ورأوا الحد الاوسط ـ وكان هو العلة في
لزوم الحد الأول للاخر ، والواصل له به ـ ثم وجدوا حاله نفسه عند الآخر حال الوجود
، قالوا : اذا كان حال الاوسط الذي هو العلة والسبب في وصول الأول بالآخر حال الوجود
، فكيف يجوز ان يكون حال الأول عند الآخر حال الاضطرار؟ وانما سوّغ لهم هذا
الاعتقاد ، لنظرهم في مجرّد الامور والمعاني ، وازورارهم عن شرائط المنطق وشرائط المقول
على الكل. ولو علموا وتفكروا وتأملوا حال المقول على الكل وشرطه ، وان معناه هو ان
كل ما هو «ب» ، وكل ما يكون «ب» ، فهو اتمّ ، لوجدوا ان هو بشرط المقول على الكل بالضرورة.
ولما عرض لهم الشكّ ، ولما ساغ لهم ما اعتقدوه وايضا فان القياسات التي يأتون بها عن
افلاطون ، اذا تؤمّل حقّ التأمل فيها ، وجدوا اكثرها واردا في صور القياس المؤتلف
من الموجبتين في الشكل الثاني. ومهما نظر في واحد واحد من مقدماتها ، تبيّن وهن ما
ادّعوه فيها. وقد لخّص الاسكندر الافروديسي معنى المقول على الكل ،
__________________
وفاصل عن ارسطو فيما
ادّعوه. وشرحنا نحن اقاويله ايضا عن كتاب «انولوطيقا» في هذا الباب ، وبيّنا معنى
المقول على الكل ، ولخصنا امره ، شافيا ، وفرّقنا فيه بين الضروري القياسي وبين
الضروري البرهاني ، بحيث يكون فيه غنية لمن تأمله عن كل ما يورثه لبثا في هذا الباب.
فقد ظهر ان الذي ادّعاه ارسطوطاليس في هذا القياس ، هو على ما ادّعاه ، وان
افلاطون لا يوجد له قول يصرح فيه بما يخالف قول ارسطو .
ومما اشبه ذلك هو ما ادّعوه على افلاطون
انه يستعمل الضرب من القياس في الشكل الأول والثالث ، الذي المقدمة الصغرى منه
سالبة. وقد بيّن ارسطو مرّة في «انولوطيقا» انه غير منتج. وقد تكلّم المفسّرون في
هذا الشكل وحلّلوه ، وبيّنوا امره. ونحن ايضا ، شرحنا في تفاسيرنا وبينا ان الذي
اتى به افلاطون في كتاب «السياسة» ، وكذلك ارسطوطاليس في كتاب «السماء والعالم» مما
يوهم انها سوالب ، ليست بسوالب ، لكنها موجبات معدولة؛ مثل قوله : السماء لا خفيف ولا
ثقيل ، وكذلك سائر ما اشبهها؛ اذ الموضوعات فيها موجودة ، والموجبات المعدولة ، مهما
وقعت في القياس ، بحيث لو وقعت هناك سوالب بسيطة ، كان الضرب غير منتج ، لامتنع
القياس من ان يكون منتجا.
ومن ذلك ايضا ، ما اتى به ارسطوطاليس في
الفصل الخامس من الكتاب «باري هرمينياس» ، وهو ان الموجبة التي المحمول فيها ضدّ من
__________________
الاضداد ، فان سالبته
اشدّ مضادة من الموجبة التي المحمول فيها ضدّ ذلك المحمول. فان كثيرا من الناس
ظنوا ان افلاطون يخالفه في هذا الرأي ، وانه يرى ان الموجبة التي المحمول فيها ضد
المحمول في الموجبة الاخرى ، اشدّ مضادة. واحتجوا على ذلك بكثير من اقاويله
السياسية والخلقية؛ منها ما ذكره في كتاب «السياسة» : ان الاعدل متوسّط بين الجور والعدل.
وهؤلاء ، فقد ذهب عليهم ما نحاه افلاطون في كتاب «السياسة» ، وما نحاه ارسطوطاليس
في «باري هرمينياس» ، وذلك ان الغرضين المقصودين متباينان. فان ارسطو انما بيّن
معاندة الاقاويل ، وانها اشدّ واتمّ معاندة. والدليل على ذلك ما اورده في الحجج ، وبيّن
ان من الامور ما لا يوجد فيها مضادة البتة ، وليس شيء من الامور الاّ ويوجد فيها
سوالب معاندة له. وايضا ، فان كان واجبا في غير ما ذكرنا ، ان يجري الامر على هذا
المثال ، فقد ترى ان ما قيل في ذلك صواب؛ وذلك انه قد يجب ، اما ان يكون اعتقاد
النقيض هو الضد في كل موضع ، واما ان يكون في موضع من المواضع هذه. الاّ ان
الأشياء التي ليس يوجد فيها ضد اصلا ، فان الكذب فيها هو الضد المعاند للحق. ومثال
ذلك ، من ظنّ بانسان انه ليس بانسان ، فقد ظن ظنا كاذبا. فان كان هذان الاعتقادان
هما الضدان ، فسائر الاعتقادات انما الضد فيها هو اعتقاد النقيض. واما افلاطون ، حيث
بيّن ان الاعدل متوسّط بين العدل والجور ، فانه انما قصد بيان المعاني السياسية ومراتبها
، لا معاندة الاقاويل فيها. وقد ذكر ارسطو في «نيقوماخيا الصغير في السياسة» شبها
بما بيّنه افلاطون. فقد تبيّن
لمتأمل هذه الاقاويل
والناظر فيها بعين النصفة ، انه لا خلاف بين الرأيين ، ولا تباين بين الاعتقادين .
وبالجملة ، فليس يوجد الى الآن لافلاطون
اقاويل يبين فيها المعاني المنطقية التي زعم كثير من الناس ان بينه وبين
ارسطوطاليس فيها خلافا. وانما يحتجون على ما يزعمون ببعض اقاويله السياسية
والخلقية والالهية ، حسب ما ذكرناه.
١٢ ـ الابصار عند
افلاطون يتم بخروج شيء من البصر الي الاشياء ، وعند ارسطو بشيء يخرج من الاشياء
الي البصر ، ومع ذلك الخلاف لفظي
ومن ذلك حال الابصار ، وكيفيته؛ وما
ينسب الى افلاطون من ان رأيه مخالف لرأي ارسطو : ان ارسطو يرى ان الابصار انما
يكون بانفعال من البصر؛ وافلاطون يرى ان الابصار انما يكون بخروج شيء من البصر وملاقاته
المبصر وقد اكثر المفسرون من الفريقين الخوض في هذا الباب؛ وارادوا من الحجج والشناعات
والالزامات؛ وحرّفوا اقاويل الائمّة
عن سننها المقصودة بها ، وتأوّلوا تأويلات انساغت لهم معها الشناعات ، وجانبوا طريق
الانصاف والحق. وذلك ان اصحاب
__________________
ارسطوطاليس
، لما سمعوا قول اصحاب افلاطون في الابصار
، وانه انما يكون بخروج شيء من البصر ، قالوا ان الخروج انما يكون للجسم ، وهذا
الجسم الذي زعموا انه يخرج من البصر ، امّا ان يكون هواء او ضوءا او نارا. وان كان
هواء ، فان الهواء قد يوجد فيما بين البصر والمبصر ، فما حاجة الى خروج هواء آخر؟ وان
كان ضياء ، فان الضياء ايضا قد يوجد في الهواء الذي بين البصر والمبصر ، فالضياء
الخارج من البصر فضل لا يحتاج اليه. وايضا ، فانه وان كان ضياء ، فلم احتيج معه
الى الضياء الراكد بين البصر والمبصر؟ ولم لا يغني هذا الضياء الخارج من البصر عن
الضياء الذي يحتاج اليه في الهواء؟ ولم لا يبصر في الظلمة ، ان كان الذي يخرج من
البصر هو ضياء؟ وايضا ، ان قيل ان الضياء الذي يخرج من البصر يكون ضعيفا ، فلم لا
يقوى اذا اجتمعت ابصار كثيرة بالليل على النظر الى شيء واحد ، كما نرى من ذلك من
قوة الضوء عند اجتماع السرج الكثيرة؟ وان كان نارا ، فلم لا يحمي ولا يحرق ، مثل
ما تفعله النار؟ ولم لا ينطفي في المياه ، كما تنطفي النار؟ ولم (لا) ينفذ الى
اسفل كما ينفذ الى فوق ، وليس من شأن النار ان تنفذ الى الاسفل؟ وايضا ، ان قيل ان
الذي يخرج عن البصر شيء آخر غير هذه الأشياء ، فلم لا يتلاقى ولا يتصادم عند
مقابلة المناظر ، فيمنع الناظرين المتقابلين عن الادراك النظري؟ هذه
__________________
وما اشبهها من الشناعات
التي وقعت لهم ، عند تحريفهم لفظ الخروج عن مقصود القول ، وجريهم الى الخروج الذي يقال
في الاجسام.
ثم ان اصحاب افلاطون ، لمّا سمعوا اقوال
اصحاب ارسطوطاليس في الابصار ، وانه انما يكون بالانفعال ، حرّفوا هذه اللفظة بان
قالوا : ان الانفعال لا يخلو من تأثر واستحالة ، وتغير في الكيفية .. وهذا الانفعال
، اما ان يكون في العضو الباصر ، او في الجسم المشفّ الذي بين البصر والمبصر. فان كان
في العضو لزم ان تستحيل الحدقة ، في آن واحد بعينه ، من الوان بلا نهاية؛ وذلك
محال؛ اذ الاستحالة انما تكون ، لا محالة ، في زمان ومن شيء واحد بعينه ، الى شيء
واحد بعينه محدود. وان كان يحصل في بعضه دون بعض ، لزم ان تكون تلك الاجزاء مفصّلة
متميّزة؛ وليست كذلك. وان كان ذلك الانفعال يلحق الجسم المشفّ ، اعني الهواء الذي بين
البصر والمبصر ، لزم ان يكون الموضوع الواحد بالعدد قابلا للضدّين في وقت واحد معا
، وذلك محال. هذه وما اشبهها من الشناعات التي اوردوها.
ثم ان اصحاب ارسطو احتجوا على صحة ما
ادعوه ، فقالوا : لو لم تكن الالوان وما يقوم مقامها ، محمولة في الجسم المشفّ
بالفعل ، لما ادرك البصر الكواكب والأشياء البعيدة جدا ، في لحظة بلا زمان. فان الذي
ينتقل لا بدّ من ان يبلغ المسافة القريبة قبل بلوغه المسافة البعيدة. ونحن نلحظ
الكواكب ، مع بعد المسافة ، في الزمان الذي نلحظ فيه ما هو اقرب منها ، ولا يغادر
ذلك شيئا. فظهر ، من هذه الجهة ، ان الهواء المشفّ يحمل الوان المبصرات ، فتؤدّي الى
البصر.
واحتجّ اصحاب افلاطون على صحة ما ادعوه من
ان شيئا ينبثّ ويخرج من البصر الى المبصر فيلاقيه ، بان المبصرات ، متى كانت
متفاوتة بالمسافات ، ادركنا ما هو اقرب دون ما هو ابعد ، والعلة في ذلك ان الشيء
الخارج من البصر يدرك بقوّته ما يقرب منه ، ثم لا يزال يضعف ، فيكون ادراكه اقلّ واقلّ
، حتى تفنى قوّته ، فلا
يدرك ما هو بعيد عنه جدا البتة .
ومما يؤكد هذه الدعوى ، انّا متى مددنا ابصارنا الى مسافة بعيدة ، واوقعناها على مبصر
ينجلي بضوء نار قريبة منه ، ادركنا ذلك المبصر ، وان كانت المسافة التي بيننا وبينه
مظلمة. فلو كان الامر على ما قاله ارسطو واصحابه ، لوجب ان يكون جميع المسافة التي
بيننا وبين المبصر مضيئا ليحمل الالوان فتؤدي الى البصر. فلما وجدنا الجسم المتجلي
من بعد مبصرا ، علمنا ان شيئا خرج من البصر وامتدّ ، وقطع الظلمة ، وبلغ المبصر الذي
تجلى بضوء ما ادركه.
ولو كان كلا الفريقين ارخوا اعينهم قليلا
، وتوسطوا النظر وقصدوا الحق ، وهجروا طريق العصبية
، لعلموا ان الافلاطونيّين انما ارادوا بلفظ الخروج معنى غير معنى خروج الجسم من المكان.
__________________
وانما اضطرهم الى اطلاق لفظ «الخروج» ضرورة
العبارة وضيق اللغة ، وعدم لفظ يدل على اثبات القوى من غير ان يخيل الخروج الذي
للاجسام. وان اصحاب ارسطوطاليس ايضا ارادوا بلفظ «الانفعال» معنى غير معنى
الانفعال الذي يكون في الكيفية مع الاستحالة والتغير. وظاهر ان الشيء الذي يشبه
بشيء ما ، تكون ذاته وانيّته غير المشبه به. ومتى نظرنا بعين النصفة في هذا الامر
، علمنا ان هاهنا قوة واصلة بين البصر والمبصر؛ وان من شنع على اصحاب افلاطون في قولهم
ان قوة ما تخرج من البصر فتلاقي المبصر ، فان قوله ان الهواء يحمل لون المبصر ، فتؤديه
الى البصر ليلاقيه مماسا ، ليس بدون قولهم في الشناعة. فان كان ما يلزم اقاويل اولئك
في اثبات القوة وخروجها ، يلزم قول هؤلاء في حمل الهواء الالوان وابدائها الى الابصار.
فظاهر ان هذه واشباهها معان لطيفة دقيقة ، تنبّه لها المتفلسفون وبحثوا عنها ، واضطرّهم
الامر الى العبارة عنها بالالفاظ القريبة من تلك المعاني؛ ولم يجدوا لها الفاظا موضوعة
مفردة يعبر عنها حقّ العبارة ، من غير اشتراك يعرض فيها. فلما كان ذلك كذلك ، وجدوا
العائبون مقالا ، فقالوا : واكثر ما يقع من المخالفة انما يقع في امثال هذه
المعاني للاسباب التي ذكرناها. وذلك لا يخلو من احد امرين : اما لتخلف ، واما لمعاندة.
فاما ذو الذهن الصحيح والرأي السديد والعقل الرصين المحكم الثابت ، اذا لم يتعمّد التمويه
او تعصّب او مغالبة ، فقلّما يعتقد خلاف ان العالم اطلق لفظا على سبيل الضرورة ،
عند ما رام بيان امر غامض وايضاح معنى لطيف فلا يخلو المتبصّر له عن اشتباه توقعه الالفاظ
المشتركة والمستعارة.
١٣ ـ الاخلاق عند
افلاطون وارسطو مكتسبة وليست طباعاً :
ومن ذلك ايضا ، امر اخلاق النفس ، وظنّهم
بان رأي ارسطو مخالف لرأي افلاطون. وذلك ان ارسطو يصرح في كتاب «نيقوماخيا» ان
الاخلاق كلها عادات تتغير ، وانه ليس شيء منها بالطبع؛ وان الانسان يمكنه ان ينتقل
من كل واحد منها الى غيره بالاعتياد والدربة. وافلاطون يصرح في كتاب «السياسة» وفي
كتاب «بوليطيا» خاصة بان الطبع يغلب العادة؛ وان الكهول حيثما طبعوا على خلق ما ، يعسر
زوالهم عنه؛ وانهم متى قصدوا زوال ذلك الخلق عنهم ازدادوا فيه تماديا. ويأتي على
ذلك بمثال من الطريق : اذا نبت فيه الدغل والحشيش والشجر معوجّة ، متى قصد خلاء
الطريق منها او ميل الشجر الى جانب آخر ، فانها اذا خلّيت سبيلها اخذت من الطريق
اكثر مما كانت اخذت قبل ذلك.
وليس يشكّ احد ممن يسمع هاتين المقالتين
ان بين الحكيمين في امر الاخلاق خلافا.
وليس الامر ، في الحقيقة ، كما ظنوا. وذلك
ان ارسطو ، في كتابه المعروف «بنيقوماخيا» انما يتكلم على القوانين المدنية ، على
ما بيناه في مواضع عن شرحنا لذلك الكتاب. ولو كان الامر فيه ايضا على ما قاله
فرفوريوس
، وكثير ممن بعده من المفسّرين ، انه يتكلم على الاخلاق ، فان كلامه على القوانين
الخلقية والكلام القانوني ، ابدا يكون كليا
__________________
ومطلقا ، لا بحسب شيء
آخر. ومن البيّن ان كل خلق ، اذا نظر اليه مطلقا ، علم انه يتنقّل ويتغيّر ، ولو
بعسر ، وليس شيء من الاخلاق ممتنعا عن التغيّر والتنقّل ، فان الطفل الذي نفسه
تعدّ بالقوة ، ليس فيه شيء من الاخلاق بالفعل ، ولا من الصفات النفسانية. وبالجملة
، فان ما كان فيه بالقوة ففيه تهيّؤ لقبول الشيء وضدّه. ومهما اكتسب احد الضدين
يمكن زواله عن ذلك الضد المكتسب الى ضده ، الى ان تنقص البنية ويلحقه نوع من الفساد
، مثل ما يعرض لموضوع الاعدام والملكات ، فيتغير بحيث لا يتغالبان عليه. وذلك نوع من
الفساد وعدم التهيؤ. فاذا كان ذلك كذلك ، فليس شيء من الاخلاق ، اذا نظر اليه مطلقا
بالطبع ، لا يمكن فيه التغيّر والتبدّل .
واما افلاطون ، فانه ينظر في انواع
السياسات ، وايّها انفع ، وايّها اشد ضررا. فينظر في احوال قابلي السياسات
وفاعليها ، وايّها اسهل قبولا ، وايّها اعسر. ولعمري ان من نشأ على خلق من الاخلاق
واتفقت له تقويته ، يمكن بها من نفسه على خلق من الاخلاق ، فان زوال ذلك عنه يعسر جدا.
والعسر غير الممتنع. وليس ينكر ارسطو ان بعض الناس يمكن فيه التنقّل من خلق الى خلق
اسهل ، وفي بعضهم اعسر ، على ما صرح به في كتابه المعروف «بنيقوماخيا الصغير» ،
فانه عدّ اسباب عسر التنقل من خلق الى خلق ، واسباب السهولة ، كم
__________________
هي ، وما هي ، وعلى ايّ
جهة كل واحد من تلك الاسباب ، وما العلامات ، وما الموانع. فمن تأمل تلك الاقاويل حق
التأمل ، واعطى كل شيء حقه ، عرف ان لا خلاف بين الحكيمين في الحقيقة؛ وانما ذلك شيء
يخيله الظاهر من الاقاويل عند ما ينظر واحد واحد منها على انفراد ، من غير ان
يتأمل المكان الذي فيه ذلك القول ، ومرتبة العلم الذي هو منه. وهاهنا اصل عظيم
الغناء في تصور العلوم ، وخصوصا في امثال هذه الموانع ، وهو انه كما المادّة ، مهما
كانت متصورة بصورة ما ثم حدثت فيها صورة أخرى ، صارت مع صورتها جميعا مادة للصورة
الثالثة الحادثة فيها ، كالخشب الذي له صورة يباين بها سائر الاجسام ، ثم يجعل منها
الواحا ، ثم يجعل من الالواح سريرا. فان صورة السرير ، من حيث حدثت في الالواح مادة
لها ، وفي الالواح ، التي هي مادة بالاضافة الى صورة السرير ، صور كثيرة ، مثل
الصور اللوحية والصور الخشبية والصور النباتية وغيرها من الصور القديمة. كذلك مهما
كانت النفس المتخلّقة ببعض الاخلاق ، ثم تكلفت اكتساب خلق جديد ، كان الاخلاق التي
معها كالاشياء الطبيعية لها ، وهذه المكتسبة الجديدة ، اعتيادية ، ثم ان مرّت على هذه
ودامت على اكتساب خلق ثالث ، صارت تلك بمنزلة الطبيعية ، وذلك بالاضافة الى هذه
الجديدة المكتسبة.
فمهما رأيت افلاطون او غيره يقول : ان من
الاخلاق ما هي طبيعية ، ومنها ما هي مكتسبة ، فاعلم ما ذكرناه ، وتفهمه من فحوى كلامهم
، لئلا يشكل عليك الامر؛ فظن ان من الاخلاق ما هي طبيعية
بالحقيقة ، لا يمكن
زوالها. فان ذلك شنيع جدا. ونفس اللفظ يناقض معناه اذا تؤمّل فيه جدا.
١٤ ـ المعرفة عند
افلاطون تذكر وعند ارسطو احساس ، ومع ذلك لا فرق بينهما
ومن ذلك ايضا ، ان ارسطوطاليس قد اورد
في كتاب «البرهان» شكّا ان الذي يطلب علما ما ، لا يخلو من احد الوجهين : فانه ، اما
ان يطلب ما يجهله ، او ما يعلمه. فان كان يطلب ما يجهله ، فكيف يوقن في تعلمه انه هو
الذي كان يطلبه؟ وان كان يطلب ما يعلمه ، فطلبه علما ثانيا فضل لا يحتاج اليه. ثم
احدث الكلام في ذلك الى ان قال : ان الذي يطلب علم شيء من الأشياء ، انما يطلب في
شيء آخر ما قد وجد في نفسه على التحصيل ، مثل ان المساواة وغير المساواة موجودتان
في النفس ، والذي يطلب الخشبة ، هل هي مساوية او غير مساوية ، انما يطلب ما لها منها
على التحصيل. فاذا وجد احدهما فكأنه يذكر ما كان موجودا في نفسه؛ ثم ان كانت مساوية
، فبالمساواة؛ وان كانت غير مساوية ، فبغير المساواة.
وافلاطون بيّن في كتابه المعروف ب «فاذن»
ان التعلّم تذكر ، واتى على ذلك الحجج يحكيها عن سقراط في مسائلاته ومجاوباته في
امر المساوي والمساواة؛ وان المساواة هي التي تكون في النفس ، وان المساوي ، مثل
الخشبة او غيرها مما تكون مساوية لغيرها متى احس بها
الانسان ، تذكّر
المساواة التي كانت في النفس؛ فعلم ان هذا المساوي انما كان مساويا بمساواة شبيهة
بالتي في النفس. وكذلك سائر ما يتعلّم ، انما يتذكر ما في النفس. واللّه اعلم .
وقد ظنّ اكثر الناس ، من هذه الاقاويل ،
ظنونا مجاوزة عن الحد. اما القائلون ببقاء النفس بعد مفارقتها البدن
، فقد افرطوا في تأويل هذه الاقاويل ، وحرّفوها عن سننها ، واحسنوا الظنّ بها ان
اجروها مجرى البراهين؛ ولم يعلموا ان افلاطون انما يحكي هذا عن سقراط على سبيل من
يروم تصحيح امر خفيّ بعلامات ودلائل. والقياس بعلامات لا يكون برهانا ، كما
علّمناه الحكيم ارسطو في «انولوطيقا الأولى والثانية». ـ واما المدافعون لها ، فقد
افرطوا ايضا في التشنيع ، وزعموا ان ارسطو مخالف له في هذا الرأي ، واغفلوا قوله
في اوّل كتاب «البرهان» حيث ابتدأ فقال : كل تعليم وكل تعلّم فانما يكون عن معرفة
متقدمة الوجود. ثم قال بعد قليل : وقد يتعلم الانسان بعض الأشياء وقد كان علمه من
قبل قديما ، وبعض الأشياء
__________________
تعلّمها يحصل من حيث تعلّمها
معا. مثال ذلك : جميع الأشياء الموجودة تحت الأشياء الكلية.
فليت شعري ، هل يغادر معنى هذا القول ما
قاله افلاطون شيئا ، سوى ان العقل المستقيم والرأي السديد والميل الى الحق والانصاف
معدوم في الاكثرين من الناس! فمن تأمّل حصول المقدّمات الأولى وحال التعلّم تأمّلا
شافيا ، علم انه لا يوجد بين رأيي الحكيمين ، في هذا المعنى ، خلاف ولا تباين ولا مخالفة.
ونحن نومئ الى طرف منه يسير بمقدار ما يتبين به هذا المعنى ليزول الشك الواقع فيه.
فنقول : من البيّن الظاهر ان للطفل نفسا
عالمة بالقوة ، ولها الحواس آلات الادراك. وادراك الحواس انما يكون للجزئيات؛ وعن
الجزئيات تحصل الكليات ، والكليات هي التجارب على الحقيقة. غير ان من التجارب ما
يحصل عن قصد. وقد جرت العادة ، بين الجمهور ، بان يسمّى التي تحصل من الكليات عن
قصد متقدّمة التجارب. فاما التي تحصل من الكليات للانسان لا عن قصد ، فاما ان لا
يوجد لها اسم عند الجمهور ، لانهم لا يعنونه ؛ واما ان يوجد لها اسم عند العلماء ،
فيسمّونها اوائل المعارف ومبادئ البرهان وما اشبهها من الاسماء.
وقد بيّن ارسطو في كتاب «البرهان» ان من
فقد حسّا ما فقد فقد علما ما. فالمعارف انما تحصل في النفس بطريق الحس .
ولما كانت المعارف انما حصلت في النفس عن غير قصد اولا فاولا ، فلم يتذكر
__________________
الانسان ، وقد حصل جزء
جزء منها. فلذلك قد يتوهم اكثر الناس انها لم تزل في النفس ، وانها تعلم طريقا غير
الحس. فاذا حصلت من هذه التجارب في النفس ، صارت النفس عاقلة ، اذ العقل ليس هو
شيئا غير التجارب. ومهما كانت هذه التجارب اكثر ، كانت النفس اتمّ عقلا. ثم ان
الانسان ، مهما قصد معرفة شيء من الأشياء ، اشتاق الى الوقوف على حال من احوال ذلك
الشيء ، وتكلّف الحاق ذلك الشيء في حالته تلك بما تقدم معرفته وليس ذلك الا طلب ما
هو موجود في نفسه من ذلك الشيء ، مثل انه متى اشتاق الى معرفة شيء من الأشياء ، هل
هو حيّ ام ليس بحي. وقد تقدم فحصل في نفسه معنى الحي ومعنى غير الحي .
فانه يطلب بذهنه او بحسه او بهما جميعا احد المعنيين ، فاذا صادفه ، سكن عنده واطمأن
به والتذّ بما زال عنه من اذى الحيرة والجهل. وهذا ما قاله افلاطون : ان التعلم
تذكر ، وان التفكر هو تكلّف
العلم ، والتذكر تكلف الذكر. والطالب مشتاق متكلّف؛ فمهما وجد مهمّا قصد معرفته دلائل
وعلامات ومعاني ما كان في نفسه قديما ، فكأنه يتذكر عند ذلك ، كالناظر الى جسم يشبه
بعض اعراضه بعض اعراض جسم آخر كان قد عرفه وغفل عنه ، فيتذكره بما ادركه من شبيهه.
وليس للعقل فعل مخصّ به دون الحس سوى ادراك جميع الأشياء والاضداد ، وتوهّم
__________________
احوال الموجودات على غير
ما هي عليه. فان الحس يدرك من حال الموجود المجتمع مجتمعا ، ومن حال الموجود
المتفرق متفرقا ، ومن حال الموجود القبيح قبيحا ، ومن حال الموجود الجميل جميلا ، وكذلك
سائرها. واما العقل ، فانه قد يدرك من حال كل موجود ما قد ادركه الحسّ ، وكذلك
ضدّه ، فانه يدرك من حال الموجود المجتمع مجتمعا ومتفرقا معا ، ومن حال الموجود
المتفرق متفرقا ومجتمعا معا ، وكذلك سائر ما اشبهها.
فمن تامل ما وضعناه على سبيل الايجاز بما
قد بالغ الحكيم ارسطو في وصفه ، في آخر كتاب «البرهان» وفي كتاب «النفس» ، وقد شرحه
المفسرون واستقصوا امره ، علم ان الذي ذكره الحكيم في اول كتاب البرهان» وحكيناه في
هذا القول ، قريب مما قاله افلاطون في كتاب «فاذن» ، الا ان بين الموضوعين خلافا ،
وذلك ان الحكيم ارسطو يذكر ذلك عند ما يريد ايضاح امر العلم والقياس. واما افلاطون
فانه يذكره عند ما يريد ايضاح امر النفس. ولذلك اشكل على اكثر من ينظر في اقاويلهما.
وفيما اوردناه كفاية لمن قصد سواء السبيل.
١٥ ـ العالم حادث عند
افلاطون وارسطو ، ومن قال ان ارسطو يقول بقدم العالم مخطيء
ومن ذلك ايضا امر العالم وحدوثه؛ وهل له
صانع هو علته الفاعلية ، ام لا. ومما يظن بارسطوطاليس انه يرى ان العالم قديم ،
وبافلاطون انه يرى ان العالم محدث.
فاقول : ان الذي دعى هؤلاء الى هذا الظن
القبيح المستنكر بارسطوطاليس الحكيم
، هو ما قاله في كتاب «طوبيقا» انه قد توجد قضية واحدة بعينها يمكن ان يؤتى على
كلا طرفيها قياس من مقدمات ذائعة ، مثال ذلك : هذا العالم قديم ام ليس بقديم. وقد
وجب على هؤلاء المختلفين ، اما اولا ، فبأنّ ما يؤتى به على سبيل المثال لا يجري مجرى
الاعتقاد؛ وايضا فان غرض ارسطو في كتاب «طوبيقا» ليس هو بيان امر العالم ، لكن
غرضه امر القياسات المركبة من المقدمات الذائعة. وكان قد وجد اهل زمانه يتناظرون في
امر العالم : هل هو قديم ام محدث ، كما كانوا يتناظرون في اللذة ، هل هي خير ام شرّ
، وكانوا يأتون على كلا الطرفين من كل مسألة بقياسات ذائعة. وقد بيّن ارسطو في ذلك
الكتاب وفي غيره من كتبه ، ان المقدّمة المشهورة لا يراعي فيها الصدق والكذب ، لان
المشهور بما كان كاذبا ، ولا يطرح في الجدل لكذبه ، وربما كان صادقا ، فيستعمل لشهرته
في الجدل ، ولصدقه في البرهان. فظاهر انه لا يمكن ان ينسب اليه الاعتقاد بان العالم
قديم بهذا المثال الذي اتي به في هذا الكتاب.
ومما دعاهم الى ذلك الظن ايضا ، ما يذكره
في كتاب «السماء والعالم» ان الكل ليس له بدء زماني ، فيظنون عند ذلك انه يقول
بقدم العالم ،
__________________
وليس الامر كذلك. اذ
قد تقدم فبيّن في ذلك الكتاب وغيره من الكتب الطبيعية والالهية ، ان الزمان انما
هو عدد حركة الفلك ، وعنه يحدث. وما يحدث عن الشيء لا يشتمل ذلك الشيء. ومعنى قوله
«ان العالم ليس له بدء زماني» ، انه لم يتكوّن اولا فاولا باجزائه ، كما يتكوّن البيت
مثلا ، او الحيوان الذي يتكون اولا فاولا باجزائه ، فان اجزاءه يتقدم بعضها بعضا في
الزمان .
والزمان حادث عن حركة الفلك. فمحال ان يكون لحدوثه بدء زماني. ويصخ بذلك انه انما يكون
عن ابداع الباري ، جل جلاله ، اياه دفعة بلا زمان؛ وعن حركته حدث الزمان.
ومن نظر في اقاويله في الربوبية في
الكتاب المعروف «باثولوجيا»
لم يشبه عليه امره في اثباته الصانع المبدع لهذا العالم. فان الامر في تلك
الاقاويل اظهر من ان يخفي. وهناك تبين ان الهيولى ابدعها الباري ، جل ثناؤه ، لا
عن شيء؛ وانها تجسمت عن الباري ، سبحانه ، وعن ارادته؛ ثم ترتبت. وقد بيّن في «السماع
الطبيعي» ان الكل لا يمكن حدوثه بالبخت والاتفاق؛ وكذلك في العالم جملته. يقول في
كتاب «السماء والعالم» : ويستدل على ذلك بالنظام البديع الذي يوجد لاجزاء العالم بعضها
مع بعض».
__________________
وقد بين هناك ايضا امر العلل ، كم هي ، واثبت
الاسباب الفاعلة. وقد بين هناك ايضا امر المكوّن والمحرّك ، وانه غير المتكوّن وغير
المتحرّك. وكما ان افلاطون بين في كتابه المعروف «بطيماوس» ان كل متكوّن فانما
يكون عن علة مكوّنة له اضطرارا ، وان المتكوّن لا يكون علة لكون ذاته. كذلك
ارسطوطاليس بين في كتاب «اثولوجيا» ان الواحد موجود في كل كثرة ، لان كل كثرة لا
يوجد فيها الواحد لا يتناهى ابدا البتة .
وبرهن على ذلك براهين واضحة ، مثل قوله ان كل واحد من اجزاء الكثير ، اما ان يكون واحدا
واما ان لا يكون واحدا ، فان لم يكن واحدا لم يخل من ان يكون اما كثيرا واما لا
شيء ؛ وان كان لا شيء لزم ان لا يجتمع منها كثرة ، وان كان كثيرا فما الفرق بينه وبين
الكثرة؟ ويلزم ايضا من ذلك ان ما (لا) يتناهى اكثر مما لا يتناهى. ثم بيّن ان ما يوجد
فيه الواحد من هذا العالم فهو لا واحد الا بجهة وجهة؛ فاذا لم يكن في الحقيقة
واحدا ، بل كان كل واحد فيه موجودا ، كان الواحد غيره وهو غير الواحد. ثم بيّن ان
الواحد الحق هو الذي افاد سائر الموجودات الواحدية. ثم بيّن ان الكثير بعد الواحد
، لا محالة. وان الواحد تقدّم الكثرة. ثم بيّن ان كل كثرة تقرب من الواحد الحق كان
اول كل كثرة مما يبعد عنه؛ وكذلك بالعكس. ثم يترقى ، بعد تقديمه هذه المقدمات ، الى
القول في اجزاء العالم ، الجسمانية منها والروحانية؛ ويبين بيانا شافيا انها كلها
حدثت
__________________
عن ابداع الباري لها؛
وانه ، عز وجل ، هو العلة الفاعلة ، الواحد الحق ، ومبدع كل شيء ، على حسب ما
بيّنه افلاطون في كتبه في الربوبية ، مثل «طيماوس» و «بوليطيا» وغير ذلك من سائر
اقاويله. وايضا فان «حروف ارسطوطاليس فيما بعد الطبيعة» انما يترقى فيها من الباري
، جل جلاله ، في حرف «اللام» ، ثم ينحرف راجعا في بيان صحة ما تقدم من تلك
المقدمات ، الى ان يسبق فيها ، وذلك مما لا يعلم انه يسبقه اليه من قبله ولم يلحقه
من بعده الى يومنا هذا. فهل تظن بمن هذا سبيله انه يعتقد نفي
الصانع وقدم العالم؟ .
ولا مونيوس رسالة مفردة في ذكر اقاويل هذين
الحكيمين في اثبات الصانع ، استغنينا ، لشهرتها ، عن احضارنا اياها في هذا
الموضوع. ولو لا ان هذا الطريق الذي يسلكه في هذه المقالة هو الطريق الاوسط ، فمتى
ما تنكّبناه كنا كمن ينهى عن خلق ويأتي بمثله؛ لا فرطنا في القول وبيّنا انه ليس لاحد
من اهل المذاهب والنحل والشرائع وسائر الطرائق ، من العلم بحدوث العالم واثبات الصانع
له وتلخيص امر الابداع ، ما لارسطوطاليس ، وقبله لافلاطون ، ولمن يسلك سبيلهما.
وذلك ان كل ما يوجد من اقاويل العلماء ، من سائر المذاهب والنحل ، ليس يدل على
التفضيل الا على قدم الطبيعة وبقائها ومن احبّ الوقوف على ذلك ، فلينظر في الكتب
المصنفة في المبدءات والاخبار المرويّة
__________________
فيها ، والآثار
المحكيّة عن قدمائهم ، ليرى الاعاجيب عن قولهم بانه كان في الاصل ماء
، فتحرك ، واجتمع زبد ، وانعقد منه الارض ، وارتفع منه الدخان ، وانتظم منه السماء.
ثم ما يقوله اليهود والمجوس وسائر الامم ، مما يدل جميعه على الاستحالات والتغاير
، التي هي اضداد الابداع. وما يوجد لجميعهم مما سيؤول اليه امر السماوات والارضين
من طيها ولفها وطرحها في جهنم وتبديدها ؛ وما اشبه ذلك مما لا يدل شيء منه علي التلاشي
المحض. ولو لا ما انقذ اللّه اهل العقول والاذهان بهذين الحكيمين ، ومن سلك
سبيلهما ممن وضّحوا امر الابداع
بحجج واضحة مقنعة ، وانه ايجاد الشيء لا عن شيء ، وان كل ما يتكوّن من شيء ما فانه
يفسد ، لا محالة ، الى ذلك الشيء؛ والعالم مبدع من غير شيء ، فمآله الى غير شيء؛
فيما شاكل ذلك من الدلائل والحجج والبراهين التي توجد كتبهما مملوّة منها ، وخصوصا
ما لهما في الربوبية وفي مبادئ الطبيعة ، لكان الناس في حيرة ولبس. غير ان لنا في
هذا الباب طريقا نسلكه يتبين به امر تلك الاقاويل الشرعية ، وانها على غاية السداد
والصواب.
__________________
وهو ان الباري ، جل جلاله ، مدبر جميع
العالم ، لا يعزب عنه مثقال حبة من خردل ، ولا يفوت عنايته شيء من اجزاء العالم ، على
سبيل الذي بيناه في العناية ، من ان العناية الكلية شائعة في الجزئيات ، وان كل
شيء من اجزاء العالم واحواله موضوع با وقف المواضع واتقنها ، على ما يدل عليه كتب
التشريحات ومنافع الاعضاء وما اشبهها من الاقاويل الطبيعية ، وكل امر من الامور
التي بها قوامه موكول الى من يقوم بها ضرورة على غاية الاتقان والاحكام الى ان
يترقى من الاجزاء الطبيعية الى البرهانيات والسياسيات والشرعيات. والبرهانيات
موكولة الى اصحاب الاذهان الصافية والعقول المستقيمة ، والسياسيات موكولة الى ذوي الآراء
السديدة؛ والشرعيات موكولة الى ذوي الالهامات الروحانية. واعمّ هذه كلها الشرعيات
، والفاظها خارجة عن مقادير عقول المخاطبين. ولذلك لا يؤاخذون بما لا يطيقون
تصوره.
فان من تصوّر في امر المبدع الأول انه
جسم ، وانه يفعل بحركة
وزمان ، ثم لا يقدر ، بذهنه ، على تصوّر ما هو الطف من ذلك واليق به ، ومهما توهّم
انه غير جسيم ، وانه يفعل فعلا بلا حركة وزمان ، لا يثبت في ذهنه معنى متصوّر البتّة.
وان أجبر على ذلك زاد غيّا وضلالا؛ وكان فيما يتصوره ويعتقده معذورا مصيبا. ثم يقدر
بذهنه على ان يعلم انه غير جسيم ، وان فعله بلا حركة؛ غير انه لا يقدر على
__________________
تصور انه لا في مكان؛
وان اجبر على ذلك وكلّف تصوّره تبلّد ، فانه يترك على حاله ولا يساق الى غيرها. وكذلك
لا يقدر الجمهور على معرفة شيء يحدث لا عن شيء ، ويفسد لا الى شيء؛ فلذلك ما قد خوطبوا
بما قدروا على تصوّره وادراكه وتفهّمه ، لا يجوز ان ينسب شيء من ذلك فيما هو في موضعه
الى الخطأ والوهي؛ بل كل ذلك صواب مستقيم. فطرق البراهين الحقيقة منشأها من عند
الفلاسفة الذين مقدّمهم هذان الحكيمان ، اعني افلاطون وارسطوطاليس.
واما طريق البراهين المقنعة المستقيمة
العجيبة النفع ، فمنشؤها من عند اصحاب الشرائع الذين عوّضوا بالابداع الوحي والالهامات.
ومن كان هذا سبيله ومحلّه من ايضاح الحجج واقامة البراهين على وحدانية الصانع الحق
، وكان اقاويله في كيفية الابداع وتلخيص معناه باقاويل هذين الحكيمين ، فمستنكر ان
يظن بهما فسادا يعتري ما يعتقدانه ، وان رأييهما مدخولان فيما يسلكانه.
١٦ ـ المثل قال بها
افلاطون وارسطو (في كتاب اثالوجيا) ولذا لا يوجد تباين بينهما
ومن ذلك ، الصور والمثل التي تنسب الى افلاطون
انه يثبتها ، وارسطو على خلاف رأيه فيهما. وذلك ان افلاطون ، في كثير من اقاويله ،
يومئ الى ان للموجودات صورا مجردة في عالم الاله؛ وربما يسميها «المثل الالهية» ؛ وانها
لا تدثر ولا تفسد ، ولكنها باقية ، وان
الذي يدثر ويفسد انما
هي هذه الموجودات التي هي كائنة. وارسطو ذكر في «حروفه» فيما بعد الطبيعة
، كلاما شنّع فيه على القائلين «بالمثل» «والصور» التي يقال انها موجودة قائمة في
عالم الاله ، غير فاسدة؛ وبيّن ما يلزمها من الشناعات ، انه يجب ان هناك خطوطا وسطوحا
وافلاكا ، ثم توجد حركات من الافلاك والادوار ، وانه يوجد هناك علوم ، مثل علم
النجوم وعلم الالحان ، واصوات مؤتلفة واصوات غير مؤتلفة ، وطب وهندسة ، ومقادير مستقيمة
وأخر معوجة ، واشياء حارة وأشياء باردة ، وبالجملة كيفية فاعلة ومنفعلة ، وكليات وجزئيات
، ومواد وصور ، وشناعات اخر ، ينطق بها في تلك الاقاويل ، ما يطول بذكرها هذا
القول. وقد استغنينا ، لشهرتها ، عن الاعادة ، مثل ما فعلنا بسائر الاقاويل حيث
اومأنا اليها والى اماكنها ، وخلّينا ذكرها بالنظر فيها والتأويل لها لمن يلتمسها
من مواضعها فان الغرض المقصود من مقالتنا هذه ايضاح الطرق التي ، اذا سلكها طالب الحق
، لم يضل فيها ، وامكنه الوقوف على حقيقة المراد باقاويل هذين الحكيمين ، من غير ان
ينحرف عن سواء السبيل الى ما تخيّله الالفاظ المشكلة.
وقد نجد ان ارسطو ، في كتابه في الربوبية
المعروف ب «اثولوجيا» يثبت الصور الروحانية ، ويصرح بانها موجودة في عالم الربوبية.
فلا تخلو هذه الاقاويل ، اذا اخذت على ظاهرها ، من احدى ثلاث
__________________
حالات: اما ان يكون بعضها
متناقضة بعضها؛ واما ان يكون بعضها لارسطو وبعضها ليس له؛ واما ان يكون لها معان وتأويلات
تتّفق بواطنها وان اختلف ظواهرها ، فتتطابق عند ذلك وتتفق. فاما ان يظن بارسطو ، مع
براعته وشدّة يقظته وجلاله هذه المعاني عنده ، اعني الصور الروحانية ، انه يناقض
نفسه في علم واحد ـ وهو العلم الربوبي ـ فبعيد ومستنكر. واما ان بعضها لارسطو وبعضها
ليس له ، فهو ابعد جدا ، اذ الكتب الناطقة بتلك الاقاويل اشهر من ان يظنّ ببعضها
انه منحول. فبقي ان يكون لها تأويلات ومعان ، اذا كشف عنها ، ارتفع الشك والحيرة.
فنقول انه ، لما كان الباري ، جلّ جلاله
، بانيّته وذاته ، مباينا لجميع ما سواه ، وذلك لانه بمعنى اشرف وافضل واعلى ، بحيث
لا يناسبه في انيّته ولا يشاكله ولا يشابهه حقيقة ولا مجازا ، ثم مع ذلك لم يكن بدّ
من وصفه واطلاق لفظ فيه من هذه الالفاظ المتواطئة عليه ، فان من الواجب الضروري ان
يعلم ان مع كل لفظة نقولها في شيء من اوصافه ، معنى بذاته بعيد من المعنى الذي
نتصوره من تلك اللفظة. وذلك كما قلنا بمعنى اشرف واعلى ، حتى اذا قلنا انه موجود؛
علمنا مع ذلك ان وجوده لا كوجود سائر ما هو دونه. واذا قلنا انه حي ؛ علمنا انه حي
بمعنى اشرف مما نعلمه من الحي الذي هو دونه. وكذلك الامر في سائرها. ومهما استحكم
هذا المعنى وتمكّن من ذهن المتعلّم للفلسفة التي بعد الطبيعيات ، سهل عليه تصوّر ما
يقوله افلاطون وارسطوطاليس ومن سلك سبيلهما.
فنرجع الآن الى حيث فارقناه؛ فنقول : لما
كان اللّه تعالى حيّا موجدا لهذا العالم بجميع ما فيه ، فواجب ان يكون عنده صور ما
يريد ايجاده في ذاته ، جلّ اللّه من اشتباه.
وايضا ، فان ذاته ، لما كانت باقية ، لا
يجوز عليه التبدّل والتغيّر. فما هو بحيّزه ايضا كذلك باق غير داثر ولا متغير. ولو
لم يكن للموجودات صور وآثار في ذات الموجد
الحي المريد ، فما الذي كان يوجده؟ وعلى اي مثال ينحو بما يفعله ويبدعه؟ أما علمت انّ
من نفى هذا المعنى عن الفاعل الحي المريد ، لزمه ان يقول بان ما يوجده انما يوجده
جزافا وتنحّسا وعلى غير قصد؛ ولا ينحو نحو غرض مقصود بارادته. وهذا من اشنع
الشناعات.
فعلى هذا المعنى ينبغي ان تعرف وتصوّر اقاويل
أولئك الحكماء فيما اثبتوه من الصور الالهية؛ لا على انها اشباح قائمة في اماكن اخر
خارجة عن هذا العالم. فانها متى تصوّرت على هذا السبيل ، يلزم القول بوجود عوالم غير
متناهية ، كلها كأمثال هذا العالم. وقد بيّن الحكيم ارسطو ما يلزم القائلين بوجود
العوالم الكثيرة في كتبه في «الطبيعيات» .
وشرح المفسّرون اقاويله بغاية الايضاح. وينبغي ان
__________________
تتدبّر هذا الطريق
الذي ذكرناه مرارا كثيرة في الاقاويل الالهية؛ فانه عظيم النفع وعليه المعوّل في جميع
ذلك ، وفي اهماله الضرر الشديد. وان تعلم ، مع ذلك ، ان الضرورة تدعو الى اطلاق الالفاظ
الطبعية والمنطقية المتواطئة
على تلك المعاني اللطيفة الشريفة ، العالية عن جميع الاوصاف ، المتباينة عن جميع الامور
الكيانية الموجودة بالوجود الطبيعي. فانه ان قصد لاختراع الفاظ اخر واستئناف وضع
لغات ، سوى ما هي مستعملة ، لما كان يوجد السبيل الى الفاظه ، ويتصوّر منها غير ما
باشرته الحواسّ. فلما كانت الضرورة تمنع وتحول بيننا وبين ذلك ، اقتصرنا على ما
يوجد من الالفاظ ، واوجبنا على انفسنا الاخطار بالبال ان المعاني الالهية التي
يعبر عنها بهذه الالفاظ ، هي بنوع اشرف وعلى غير ما نتخيّله ونتصوّره.
ومما يجري هذا المجرى ، اقاويل افلاطون
في كتاب «طيماوس» من كتبه في امر النفس والعقل؛ وان لكل واحد منهما عالما سوى عالم
الآخر ، وان تلك العوالم متتالية ، بعضها اعلى وبعضها اسفل. وسائر ما قال مما اشبه
ذلك. ومن الواجب ان نتصور منها شبه ما ذكرناه ، انه انما يريد بعوالم العقل حيّزه
وكذلك بعوالم النفس. لا ان للعقل مكانا وللنفس مكانا وللباري تعالى مكانا ، بعضها
اعلى وبعضها اسفل ، كما يكون للاجسام. فان ذلك مما يستنكره المبتدئون بالتفلسف ، فكيف
المرتاضون بها؟ وانما يريد بالاعلى والاسفل الفضيلة والشرف ، لا
__________________
المكان السطحي. وقوله
«عالم العقل» انما هو ، على ما يقال ، عالم الجهل وعالم العلم وعالم الغيب؛ ويراد
بذلك حيز كل واحد منها.
وكذلك ما قاله من افاضة النفس على
الطبيعة ، وافاضة العقل على النفس؛ انما اراد به افاضة العقل بالمعونة في حفظ الصور
الكلية عند احساس النفس بمفصّلاتها ، والتفصيل عند احساسها بمجتمعاتها وتحصيلاتها ما
يودعه اياها من الصور الدائرة الفاسدة. وكذلك سائر ما يجري مجراها من معونة العقل للنفس.
واراد بافاضة النفس للطبيعة ، ما تفيدها من المعونة ، والانسياق نحو ما ينفعها ، مما
به قوامها؛ ومنه التذاذها والتلطف بها وسائر ما اشبه ذلك.
واراد برجوع النفس الى عالمها ، عند
الاطلاق من محبسها ، ان النفس ما دامت في هذا العالم فانها مضطرة الى مساعدة البدن
الطبيعي ، الذي هو مجلها ، كانها تشتاق الى الاستراحة .
فاذا رجعت الى ذاتها ، فكانها اطلقت من محبس مؤذ الى حيزها الملائم المشاكل لها. وعلى
هذه الجهة ينبغي ان يقاس كل ما سوى ما ذكرناه من تلك الرموز. فان تلك المعاني ، بدقتها
ولطفها ، تمنعت عن العبارة عنها بغير تلك الجهة التي استعملها الحكيم افلاطون ومن
سلك سبيله. وان العقل ، على ما بيّنه الحكيم ارسطو ، في كتبه في «النفس» ،
__________________
وكذلك الاسكندر ، وغيره
من الفلاسفة ، هو اشرف اجزاء النفس ، وانه هي بالفعل ناجزة ، وبه تعلم الالهيات ، ويعرف
الباري ، جل ثناؤه. فكأنه اقرب الموجودات اليه شرفا ولطفا وصفاء؛ لا مكانا وموضعا.
ثم تتلوه النفس ، لانها كالمتوسطة بين العقل والطبيعة ، اذ لها حواس طبيعية؛
فكأنها متحدة من احد طرفيها بالعقل ، الذي هو متحد بالباري ، جل وعز ، على السبيل الذي
ذكرناه؛ ومن الطرف الآخر متحدة بالطبيعة؛ وكانت الطبيعة تتلوها كيانة لا مكانا. فعلى
هذا السبيل ، وعلى ما يشاكلها مما يعسر وصفها قولا ، ينبغي ان تعلم ما يقوله افلاطون
في اقاويله. فانها مهما أجريت هذا المجرى ، زالت الظنون والشكوك التي تؤدي الى القول
بان بينه وبين ارسطو اختلافا في هذا المعنى. الا ترى ان ارسطو ، حيث يريد ان يبيّن
من امر النفس والعقل والربوبية حالا ، كيف يجرؤ ويتشدّق في القول ، ويخرج مخرج الالغاز
على سبيل التشبيه؟
وذلك في كتابه المعروف «باثولوجيا» ، حيث
يقول : «اني ربما خلوت بنفسي كثيرا ، وخلعت بدني ، فصرت كاني جوهر مجرد بلا جسم؛ فاكون
داخلا في ذاتي وراجعا اليها ، وخارجا من سائر الأشياء سواي؛ فأكون العلم والعالم والمعلوم
جميعا ، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما بقيت متعجبا. فاعلم عند ذلك ، اني من العالم
الشريف جزء صغير؛ فاني لمحيّا فاعل؛ فلما ايقنت بذلك ترقّيت
بذهني من ذلك العالم الى
العالم الالهي ، فصرت كأني هناك متعلق بها؛ فعند ذلك يلمع لي من النور والبهاء ما يكلّ
الألسن عن وصفه ، والاذان عن سمعه ؛ فاذا استغشي في ذلك النور وبلغت طاقتي ، ولم اقو
على احتماله
، هبطت الى عالم الفكرة؛ فاذا صرت الى عالم الفكرة ، حجبت عني الفكرة ذلك النور ، وتذكرت
، عند ذلك ، اخي يرقليطوس ، من حيث امر بالطلب والبحث عن جوهر النفس الشريفة بالصعود
الى عالم العقل». ـ هذا في كلام له طويل ، يجتهد فيه ويروم بيان هذه المعاني اللطيفة؛
فيمنعه العقل الكياني عن ادراك ما عنده وايضاحه.
فمن اراد ان يقف على يسير ما أومئوا اليه
، فان الكثير منه عسير وبعيد. فليحفظ ما ذكرناه بذهنه ، ولا يتبع الالفاظ متابعة
تامّة ، لعله يدرك بعض ما قصد بتلك الرموز والالغاز. فانهم قد بالغوا واجتهدوا ، ومن
بعدهم الى يومنا هذا ، ممن لم يكن قصدهم الحق؛ بل كان كدّهم العصبية وطلب العيوب؛
فحرفوا وبدلوا ، ولم يقدروا ، مع الجهد والعناية والقصد التامّ ، على الكشف والايضاح.
فانّا ، مع شدة العناية بذلك ، نعلم انّا لم نبلغ من الواجب فيه الاّ ايسر اليسير
، لان الامر في نفسه صعب ممتنع جدا.
__________________
١٧ ـ قول افلاطون
وارسطو بالدينونة
ومما يظن بالحكيمين ، افلاطون وارسطو ، انهما
لا يريانه ولا يعتقدانه ، امر المجازاة والثواب والعقاب. وذلك وهم فاسد بهما. فان
ارسطو صرح بقوله ان المكافأة واجبة في الطبيعة. ويقول في «رسالته» التي كتبها الى
والدة الاسكندر ، حين بلغها بغيه وجزعت عليه وعزمت على التشكك بنفسها. واول تلك
الرسالة : «فاما شهود اللّه في ارضه التي هي الانفس العالمة ، فقد تطابقت على ان
الاسكندر العظيم من افضل الاخيار الماضين؛ واما الآثار الممدوحة ، فقد رسمت له في
عيون اماكن الارض واطراف مساكن الانفس ، بين مشارقها ومغاربها ؛ ولن يؤتي اللّه احدا
ما اتاه الاسكندر ، (الاّ) من اجتباء واختيار؛ والخير من اختاره اللّه تعالى.
فمنهم من شهدت عليه دلائل الاختيار؛ ومنهم من خفيت تلك فيه. والاسكندر اشهر
الماضين والحاضرين دلائل ، واحسنهم ذكرا واحمدهم حيوة ، واسلمهم وفاة. يا والدة
اسكندر ، ان كنت مشفقة على العظيم اسكندر ، فلا تكسبنّ ما يبعدك عنه ، ولا تجلبي
على نفسك ما يحول بينك وبينه ، حين الالتقاء في زمرة الاخيار ، واحرصي على ما
يقرّبك منه؛ واوّل ذلك توليتك بنفسك الطاهرة امر القرابين في هيكل زيوس» .
__________________
فهذا ، وما يتلوه من كلامه ، يدل دلالة
واضحة على انه كان يوجب المجازاة معتقدا ...
واما افلاطون ، فانه اودع آخر كتابه في «السياسة»
القصة الناطقة
بالبعث والنشور والحكم ، والعدل ، والميزان ، وتوفية الثواب والعقاب على الاعمال ،
خيرها وشرها.
__________________
الخاتمة
فمن تأمل ما ذكرناه من اقاويل هذين
الحكيمين ، ثم لم يعرّج على العناد الصراع ، اغناه ذلك عن متابعة الظنون الفاسدة ،
والاوهام المدخولة ، واكتساب الوزر ، بما ينسب الى هؤلاء الافاضل ، مما هم منه
براء وعنه بمعزل.
وعند هذا الكلام نختم القول فيما رمنا بيانه
، من الجمع بين رأيي الحكيمين افلاطون وارسطوطاليس.
والحمد للّه حقّ حمده ، والصلاة على النبي
محمد ، خير خلقه ، وعلى الطاهرين من عشرته ، والطيبين من ذريته آمين.
فهرس الكتاب
المقدمة.......................................................................... ٥
١ ـ غرض الكتاب.............................................................. ٢٧
٢ ـ حد الفلسفة
وابداعا......................................................... ٢٨
٣ ـ موضوعات
الفلسفة......................................................... ٢٩
٤ ـ أرسطو ينشيء
علم المنطق.................................................... ٣٠
٥ ـ اجماع العلوم
المختلفة حجة................................................... ٣٠
٦ ـ عيوب الاستقراء............................................................ ٣٢
٧ ـ اختلاف سيرتي
افلاطون وارسطو لم يؤد إلي اختلاف آرائهما السياسية والخلقية...... ٣٣
٨ ـ منهجا
افلاطون وارسطو مختلفان في الظاهر ومتفقان في الغاية...................... ٣٥
٩ ـ لا خلاف بين
افلاطون وارسطو في تفضيل الجواهر.............................. ٣٧
١٠ ـ القسمة التي
اعتمدها افلاطون لم يهملها أرسطو............................... ٣٩
١١ ـ لا خلاف بين
افلاطون وارسطو حول القياس.................................. ٤١
١٢ ـ الخلاف بين
افلاطون وارسطو حول البصر لفظي فقط.......................... ٤٦
١٣ ـ الأخلاق عند
ارسطو وافلاطون مكتسبة وليست طباعاً......................... ٥١
١٤ ـ المعرفة عند
افلاطون تذكر وعند ارسطو احساس ومع ذلك لا خلاف بينهما....... ٥٤
١٥ ـ العالم حادث
عند افلاطون وارسطو.......................................... ٥٨
١٦ ـ المثل قال
بها افلاطون وارسطو علي السواء..................................... ٦٥
١٧ ـ قول افلاطون
وارسطو بالدينونة.............................................. ٧٣
١٨ ـ الخاتمة.................................................................... ٧٥
|