بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين ، وصلواته على أشرف المرسلين : محمد خاتم النبيين ، وآله وصحبه أجمعين.

أما بعد : فهذه فصول نافعة في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الطب الذي تطبب به ، ووصفه لغيره. نبين (١) ما فيه من الحكمة التي تعجز عقول أكبر (٢) الأطباء عن الوصول إليها (٣). فنقول ـ وبالله نستعين ، ومنه نستمد الحول والقوة ـ :

( فصل ) المرض نوعان : مرض القلوب ، ومرض الأبدان (٤). وهما مذكوران في القرآن.

__________________

(١) في زاد المعاد ( ٣ / ٦٣ : ط المصرية ) : « ونبين » وهو ملائم لما ورد فيه قلبه.

(٢) في الزاد : « أكثر ». أي : خبرة ومعرفة ، لا عددا.

(٣) في الزاد زيادة بعد ذلك ، هي : « وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم ». وسيأتى قريبا نحوها.

(٤) إن هذا التقسيم فيه من الحكمة الإلهية والاعجاز الكثير ، ما لم يتوصل إليه الأطباء إلا حديثا : في منتصف القرن الثامن عشر. فقد قسمت الأمراض عموما إلى قسمين :

١ ـ الأمراض العضوية. وهى : الأمراض التي تنتج من عدم أداء أي جزء من أجزاء الجسم وظيفته كاملا ، أو توقفه عن العمل بالكلية. أو تنتج من دخول ميكروبات مختلفة الأنواع إلى الجسم ، وتصيب أي عضو فيه بالتلف. وينتج عن ذلك أعراض المرض. وكل مرض عضوي له أعراض وتاريخ ومواصفات ومضاعفات خاصة به : بحيث يمكن التفرقة بين الأمراض العضوية ، وتشخيص كل منها.

وهذا هو المقصود بمرض الأبدان ، كما ذكره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأمثال هذه الأمراض هي : الشلل ، الحميات ، الدرن ، الصفراء ، إلخ.

٢ ـ الأمراض النفسية. وهى ـ في الحقيقة ـ : أعراض أمراض متنوعة وكثيرة جدا ، يشعر بها المريض. وبالكشف عليه بواسطة الطبيب ، مع الاستعانة بجميع الأبحاث اللازمة ـ مثل الأشعة والتحاليل المختلفة إلخ ـ يوجد المريض في حالة طبيعية ، أي : عدم وجود مرض عضوي بالجسم.

وهذه الاعراض تنتج عن مؤثرات خارجية في الحياة العامة. مثل : الخوف ، الشك ، الغرام ، عدم الاكتفاء الجنسي. كثرة الاجهاد ، إلخ.

وهذا هو مرض القلوب ، كما ذكره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحكمة تقسيمه إلى أمراض شبه وشك ، ومرض شهوة وغى ، ففيه كل الحكمة حسب النظريات الحديثة في علم النفس. ١ ه‍ د.


ومرض القلوب نوعان : مرض شبهة وشك ، ومرض شهوة وغى. وكلاهما في القرآن ، قال تعالى في مرض الشبهة : ( في قلوبهم مرض ، فزادهم الله مرضا ) ، وقال تعالى : ( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ ) ، وقال تعالى في حق من دعى إلى تحكيم القرآن والسنة ، فأبى وأعرض : ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم : إذا فريق منهم معرضون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفى قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟ بل أولئك هم الظالمون ). فهذا مرض الشبهات والشكوك.

وأما مرض الشهوات ، فقال تعالى : ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ، إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ). فهذا مرض شهوة الزنا. والله أعلم.

( فصل ) وأما مرض الأبدان ، فقال تعالى : ( ليس على الأعمى حرج ، ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج ). وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء ، لسر بديع : يبين لك عظمة القرآن ، والاستغناء به لمن فهمه وعقله ، عن سواه.

وذلك : أن قواعد طب الأبدان ثلاثة : حفظ الصحة ، والحمية عن المؤذى ، واستفراغ المواد الفاسدة. فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة ، في هذه المواضع الثلاثة ، فقال في آية الصوم (١) : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر : فعدة من أيام أخر ) ، فأباح الفطر للمريض : لعذر المرض ، وللمسافر : طلبا لحفظ صحته وقوته ، لئلا يذهبها الصوم في السفر : لاجتماع شدة الحركة ، وما يوجبه : من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل ، فتخور القوة وتضعف. فأباح للمسافر الفطر : حفظا لصحته وقوته ، عما يضعفها.

وقال في آية الحج : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) ، فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه ـ : من قمل ، أو حكة ،

__________________

(١) كذا في الزاد (ص ٦٤). وفى الأصل : « الطعام ».


أو غيرهما ـ أن يحلق رأسه في الاحرام : استفراغا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه ، باحتقانها تحت الشعر. فإذا حلق رأسه ففتحت المسام ، فخرجت تلك الأبخرة منها ـ : فهذا الاستفراغ ، يقاس عليه كل استفراغ يؤذى انحباسه.

والأشياء التي يؤذى انحباسها ومدافعتها عشرة : الدم إذا هاج ، والمنى إذا تتابع (١) ، والبول ، والغائط ، والريح ، والقئ ، والعطاس ، والنوم ، والجوع ، والعطش. وكل واحد ـ من هذه العشرة ـ يوجب حبسه داء من الأدواء بحبسه. وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها ـ وهو : البخار المحتقن في الرأس. ـ على استفراغ ما هو أصعب منه ، كما هي طريقة القرآن : التنبيه بالأدنى على الاعلى.

وأما الحمية ، فقال تعالى في آية الوضوء : ( وإن كنتم مرضى ، أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء ، : فتيمموا صعيدا طيبا ) ، فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب : حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه. وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذله من داخل أو خارج.

فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب الثلاثة ، ومجامع قواعده.

ونحن نذكر هدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، ونبين أن هديه فيه أكمل هدى.

فأما طب القلوب ، فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم (٢) فإن صلاح القلوب : أن تكون عارفة بربها وفاطرها ، وبأسمائه وصفاته ، وأفعاله وأحكامه ، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ولمحابه ، متجنبة لمناهيه ومساخطه. ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك ، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل. وما يظن ـ : من حصول صحة القلب بدون اتباعهم. ـ فغلط ممن يظن ذلك. وإنما ذلك : حياة نفسه البهيمية الشهوانية ، وصحتها وقوتها. وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل.

__________________

(١) كذا في الأصل. وفى الزاد : « سبغ ».

(٢) إن الايمان بالله وبرسله ، والعقيدة الراسخة ـ لمن أهم علاج حالات مرض القلوب ، أي : المرض النفسي. اه‍ د.


ومن لم يميز بين هذا وهذا : فليبك على حياة قلبه : فإنه من الأموات ، وعلى نوره : فإنه منغمس في بحار الظلمات.

( فصل ) وأما طب الأبدان ، فإنه نوعان : نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقة وبهيمه ، فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب : كطب الجوع والعطش والبرد والتعب ، بأضدادها وما يزيلها.

والثاني ما يحتاج إلى فكر وتأمل : كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة في المزاج ، بحيث يخرج بها عن الاعتدال : إما إلى حرارة ، أو برودة ، أو يبوسة ، أو رطوبة ، أو ما يتركب من اثنين منها. وهى نوعان : إما مادية ، وإما كيفية. أعنى : إما أن يكون بانصباب مادة ، أو بحدوث كيفية. والفرق بينهما : أن أمراض الكيفية تكون بعد زوال المواد التي أوجبتها ، فتزول موادها ، ويبقى أثرها كيفية في المزاج. وأمراض المادة أسبابها معها تمدها. وإذا كان سبب المرض معه : فالنظر في السبب ينبغي أن يقع أولا ، ثم في المرض ثانيا ، ثم في الدواء ثالثا.

أو الأمراض الالية ، وهى : التي تخرج العضو عن هيئته : إما في شكل ، أو تجويف ، أو مجرى ، أو خشونة ، أو ملامسة ، أو عدد ، أو عظم ، أو وضع. فإن هذه الأعضاء إذا تألفت ، وكان منها ، البدن ـ سمى تألفها : اتصالا ، والخروج عن الاعتدال فيه يسمى : تفرق الاتصال.

أو الأمراض العامة : التي نعم المتشابهة والالية.

والأمراض المتشابهة هي : التي يخرج بها المزاج عن الاعتدال ، وهذا الخروج يسمى

مرضا : بعد أن يضر بالفعل إضرارا محسوسا. وهى على ثمانية أضرب : أربعة بسيطة ، وأربعة مركبة. والبسيطة : البارد ، والحار ، والرطب ، واليابس. والمركبة : الحار الرطب ، والحار اليابس ، والبارد الرطب ، والبارد اليابس. وهى إما أن تكون بانصباب مادة ، أو بغير انصباب مادة.

وإن لم يضر المرض بالفعل (١) ، يسمى خروجا عن الاعتدال صحة.

__________________

(١) كذا بالزاد (ص ٦٥). وفى الأصل : « بالعقل » وهو تصحيف.


وللبدن ثلاثة أحوال : حال طبيعية ، وحال خارجة عن الطبيعية ، وحال متوسطة بين الامرين. فالأولى بها يكون البدن صحيحا ، والثانية يكون بها مريضا ، والحال الثالثة هي متوسطة بين الحالتين : فإن الضد لا ينتقل إلى ضده إلا بمتوسط (١).

وسبب خروج البدن عن طبيعته : إما من داخله ، لأنه مركب من الحار والبارد ، والرطب واليابس. وإما من خارج : فلان ما يلقاه قد يكون موافقا ، وقد يكون غير موافق.

والضرر الذي يلحق الانسان قد يكون من سوء المزاج : بخروجه عن الاعتدال ، وقد يكون من فساد العضو ، وقد يكون من ضعف في القوى أو الأرواح الحاملة لها ويرجع ذلك إلى زيادة ما الاعتدال في عدم زيادته ، أو نقصان ما الاعتدال في عدم نقصانه ، أو تفرق ما الاعتدال في اتصاله ، أو اتصال ما الاعتدال في تفرقه ، أو امتداد ما الاعتدال في انقباضه ، أو خروج ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله : بحيث يخرجه عن اعتداله.

فالطبيب هو الذي يفرق ما يضر بالانسان جمعه ، أو يجمع فيه ما يضره تفرقه ، أو ينقص منه ما يضره زيادته ، أو يزيد فيه ما يضره نقصه. فيجلب الصحة المفقودة ، أو يحفظها بالشكل والشبه ، ويدفع العلة الموجودة بالضد والنقيض ويخرجها ، أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية. وسترى هذا كله في هدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شافيا وكافيا ، بحول الله وقوته ، وفضله ومعونته.

( فصل ) فكان من هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فعل التداوي في نفسه ، والامر به لمن أصابه مرض من أهله أو أصحابه (٢). ولكن لم يكن من هديه ولا هدى أصحابه ، استعمال هذه الأدوية المركبة التي تسمى : أقراباذين (٢). بل كان غالب أدويتهم بالمفردات ، وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه ، أو يكسر سورته. وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها : من العرب ، والترك ، وأهل البوادي قاطبة. وإنما عنى بالمركبات الروم واليونانيون. وأكثر طب الهند بالمفردات.

__________________

(١) كذا بالأصل وفى الزاد : « لمتوسط ». وكلاهما صحيح.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد : « وأصحابه .. أقرباذين ».


وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء : لا يعدل إلى الدواء ، ومتى أمكن بالبسيط : لا يعدل إلى المركب. قالوا : وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحمية ، لم يحاول دفعه بالأدوية. قالوا : ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقى الأدوية (١) ، فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلله ، أو وجد داء لا يوافقه ، أو وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه أو كيفيته ـ : تشبث بالصحة وعبث بها.

وأرباب التجارب من الأطباء طبهم بالمفردات غالبا ، وهم أحد فرق الطب الثلاث :

والتحقيق في ذلك : أن الأدوية من جنس الأغذية ، والأمة والطائفة التي غالب أغذيتها المفردات : أمراضها (٢) قليلة جدا ، وطبها بالمفردات. وأهل المدن الذين غلبت. عليهم الأغذية المركبة ، يحتاجون إلى الأدوية المركبة. وسبب ذلك أن أمراضهم في الغالب مركبة ، فالأدوية المركبة أنفع لها. وأمراض أهل البوادي والصحاري مفردة : فيكفي في مداواتها الأدوية المفردة. فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية.

ونحن نقول : إن ههنا أمرا آخر نسبة طب الأطباء إليه ، كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم. وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم. فإن ما عندهم من العلم بالطب ( منهم ) من يقول : هو قياس ، ( ومنهم ) من يقول : هو تجربة ، ( ومنهم ) من يقول : إلهامات ومنامات وحدس صائب ، ( ومنهم ) من يقول : أخذ كثير منه (٣) من الحيوانات البهيمية ، كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم : تعمد إلى السراج ، فتلغ في الزيت تتداوى به. وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض ـ وقد غشيت أبصارها ـ : تأتى إلى ورق الرازيانج ، فتمر عيونها عليها. وكما عهد من الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه. وأمثال ذلك : مما ذكر في مبادئ الطب.

__________________

(١) عند وجود مرض معين ، يجب استعمال الدواء اللازم بدون إسراف. لان كل دواء سلاح ذو حدين يفيد المريض من المرض من ناحية ، فإن زادت كميته وجرعته وطالت مدة استعماله : فربما يؤدى إلى مرض أي عضو من أعضاء الجسم السليمة. ويوجد كثير من الأمراض لا يحتاج علاجها إلى أكثر من الراحة التامة ، ونظام معين في التغذية. اه‍ د.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد : « فأمراضها ». وكل صحيح.

(٣) هذه الكلمة ساقطة من الزاد ، وهى متعينة أو جيدة.


وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره؟! فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي : كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء. بل ههنا من الأدوية التي تشفى من الأمراض ، ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء ، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم ـ : من الأدوية القلبية والروحانية ، وقوة القلب ، واعتماده على الله ، والتوكل عليه ، والالتجاء إليه ، والانطراح والانكسار بين يديه ، والتذلل له ، والصدقة والدعاء ، والتوبة والاستغفار ، والاحسان إلى الخلق ، وإغاثة الملهوف ، والتفريج عن المكروب. فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم ـ على اختلاف أديانها ومللها ـ فوجدوا لها : من التأثير في الشفاء ، ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ، ولا تجربته ، ولا قياسه.

وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة ، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية ، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة الأدوية الطرقية عند الأطباء. وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية : ليس خارجا عنها. ولكن الأسباب متنوعة : فإن القلب متى اتصل برب العالمين ، وخالق الداء والدواء ، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء ـ : كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه ، المعرض عنه. وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة : تعاونا على دفع الداء وقهره ، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه ، وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به ، وحبها له ، وتنعمها بذكره ، وانصراف قواها كلها إليه ، وجمعها عليه ، واستعانتها به ، وتوكلها عليه ـ أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية ، وتوجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلمة؟! ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس ، وأعظمهم حجابا ، وأكثفهم نفسا ، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الانسان (١). وسنذكر ـ إن شاء الله ـ السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ ، التي رقى بها فقام حتى كان ما به قلبة (٢).

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٦٦) : « الانسانية ».

(٢) القلبة (بزنة سبلة) : الداء أو الألم الذي يتقلب منه صاحبه. اه‍ ق.


فهذان نوعان من الطب النبوي ، نحن ـ بحول الله ـ نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة ، ومبلغ علومنا القاصرة ، ومعارفنا المتلاشية جدا ، وبضاعتنا المزجاة. (١) ولكنا نستوهب من بيده الخير كله ، ونستمد من فضله. فإنه العزيز الوهاب.

( فصل ) روى مسلم في صحيحه ـ من حديث أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء : برأ بإذن الله عز وجل » (٢).

وفى الصحيحين : (٣) عن عطاء ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ما أنزل الله من داء ، إلا أنزل له شفاء » (٤).

وفى مسند الإمام أحمد ، من حديث زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك ، قال : « كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاءت الاعراب ، فقالوا : يا رسول الله ، أنتداوى؟ فقال : نعم يا عباد الله ، تداووا : فإن الله عز وجل لم يضع داء ، إلا وضع له شفاء ، غير داء واحد. قالوا : ما هو؟ قال : الهرم ». وفى لفظ : « إن الله لم ينزل داء ، إلا أنزل له شفاء : علمه من علمه وجهله من جهله » (٥). وفى المسند ـ من حديث ابن مسعود يرفعه ـ : « إن الله عز وجل لم ينزل داء ، إلا أنزل له شفاء : علمه من علمه ، وجهله من جهله » (٦).

وفى المسند والسنن ، عن أبي خزامة ، قال : « قلت يا رسول الله ، أرأيت رقى

__________________

(١) البضاعة المزجاة هي : القليلة : أو التي لم يتم صلاحها. والكلام على التمثيل. اه‍ ق.

(٢) وأخرجه أيضا : أحمد ، والحاكم. اه‍ ق.

(٣) أي : صحيحي الامامين البخاري ومسلم في الحديث. وهما على الترتيب ـ بإجماع الأمة ـ أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى. اه‍ ق.

(٤) وأخرجه أيضا : النسائي ، وابن ماجة. ولم أره بمسلم. وأخرجه الحاكم ـ عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ـ بنحوه ، وقال : صحيح على شرط مسلم. وأقره الذهبي. اه‍ ق.

(٥) وأخرجه أيضا : أبو داود ، والترمذي ـ وقال : حسن صحيح. ـ والنسائي ، وابن ماجة وابن حبان في صحيحيهما ، والحاكم من عشر طرق عن زياد عنه ، على شرط البخاري ومسلم ، وجعله أصلا لهذا الباب. اه‍ ق.

(٦) وأخرجه أيضا : النسائي ، وابن ماجة ، والحاكم ، وابن حبان في صحيحيهما ، والطبراني ، ورجاله ثقات. وهو ـ أيضا ـ في مسند أبي حنيفة. اه‍ ق.


نسترقيها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال : هي من قدر الله » (١).

فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات ، وإبطال قول من أنكرها.

ويجوز أن يكون قوله : « لكل داء دواء » ، على عمومه : حتى يتناول الأدواء القاتلة ، والأدواء التي لا يمكن طبيبا أن يبرئها. ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ، ولكن طوى علمها عن البشر ، ولم يجعل لهم إليه سبيلا. لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله. ولهذا علق النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الشفاء ، على مصادفة الدواء للداء. فإنه لا شئ من المخلوقات إلا له ضد ، فكل (٢) داء له ضد من الدواء : يعالج بضده. فعلق ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ البرء ، بموافقة الداء للدواء. وهذا قدر زائد على مجرد وجوده. فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية ، أو زاد في الكمية على ما ينبغي ـ : نقله إلى داء آخر. ومتى قصر عنها : لم يف بمقاومته ، وكان العلاج قاصرا. ومتى لم يقع المداوى على الدواء : لم يحصل الشفاء. ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء : لم ينفع. ومتى كان البدن غير قابل له (٣) ، أو القوة عاجزة عن حمله ، أو ثم مانع يمنع من تأثيره ـ : لم يحصل البرء ، لعدم المصادفة. ومتى تمت المصادفة : حصل البرء ولابد. وهذا أحسن المحملين في الحديث.

والثاني : أن يكون من العام المراد به الخاص ، لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف (٤) الخارج منه. وهذا يستعمل في كل لسان. ويكون المراد : أن الله لم يضع داء يقبل

__________________

(١) السنن المذكورة هي سنن الترمذي. وقد أخرج الحديث أيضا : ابن ماجة ، والحاكم في صحيحه. وقال الترمذي : حسن صحيح. اه‍ ق. وانظر : الدرة البهية للسعدي وهامشها (ص ٣٤ و ٧٢).

(٢) في الزاد (ص ٦٧) : « وكل ». وما في الأصل أحسن.

(٣) أي : للدواء. وهذا ما يعرف في الطب الحديث : بالحساسية للدواء ، أي عدم قبول الجسم لهذا الدواء ، مع شيوع استعماله في أجسام أخرى. اه‍ د.

(٤) كذا بالأصل. وفى الزاد : « أضعاف أضعاف ».


الدواء ، إلا وضع له دواء. فلا يدخل في هذا (١) الأدواء التي لا تقبل الدواء.

وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد : ( تدمر كل شئ بأمر ربها ) أي : كل شئ يقبل التدمير ، ومن شأن الريح أن تدمره. ونظائره كثيرة.

ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ، ومقاومة بعضها لبعض ، ودفع بعضها ببعض ، وتسليط بعضها على بعض ـ : تبين له كمال قدرة الرب تعالى وحكمته وإتقانه ما صنعه ، وتفرده بالربوبية والوحدانية والقهر ، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه ، كما أنه الغنى بذاته ، وكل ما سواه محتاج بذاته.

وفى هذه الأحاديث الصحيحة : الامر بالتداوي ، وأنه لا ينافي التوكل : كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها ، بل لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات (٢) لمسبباتها قدرا وشرعا. وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الامر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها : أن تركها أقوى في التوكل. فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقته : اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه. ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلا : كان معطلا للحكمة والشرع. فلا يجعل العبد عجزه توكلا ، ولا توكله عجزا.

وفيها : رد على من أنكر التداوي ، وقال : إن كان الشفاء قد قدر فالتداوي لا يفيد ، وإن لم يكن قدر فكذلك. وأيضا : فإن المرض حصل بقدر الله ، وقدر الله لا يدفع ولا يرد.

وهذا السؤال هو الذي أورده الاعراب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما أفاضل الصحابة : فأعلم بالله وحكمته وصفاته ، من أن يوردوا مثل هذا.

__________________

(١) كذا بالزاد ، وهو الظاهر. وفى الأصل : « هذه ».

(٢) في الزاد زيادة بعد ذلك ، هي : « معطلها أن تركها ». وهى مقدمة عن موضعها ، وساقطة منه فيه.


وقد أجابهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما شفى وكفى ، فقال : هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله ، فما خرج شئ عن قدره ، بل يرد [ قدره ] (١) بقدره. وهذا الرد من قدره. فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما. وهذا : كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها ، وكرد قدر العدو بالجهاد. وكل من قدر الله : الدافع ، والمدفوع ، والدفع.

ويقال لمورد هذا السؤال : هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببا من الأسباب التي تجلب بها منفعة ، أو تدفع بها مضرة. لان المنفعة والمضرة : إن قدرتا لم يكن بد من وقوعهما ، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما. وفى ذلك خراب الدين والدنيا ، وفساد العالم. وهذا لا يقوله إلا دافع للحق ، معاند له فيذكر القدر : ليدفع حجة المحق (٢) عليه. كالمشركين الذين قالوا (٣) : ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) ، و ( لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ). فهذا قالوه : دفعا لحجة الله عليهم بالرسل.

وجواب هذا السائل أن يقال : بقى قسم ثالث لم تذكره ، وهو : أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب ، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب ، وإلا فلا.

فإن قال : إن كان قدر لي السبب فعلته ، وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله.

قيل : فهل تقبل هذا الاحتجاج من عبدك وولدك وأجيرك ، إذا احتج به عليك ـ

فيما أمرته به ، ونهيته عنه ـ فخالفك. فإن قبلته : فلا تلم من عصاك وأخذ مالك ، وقذف عرضك ، وضيع حقوقك. وإن لم تقبله : فكيف يكون مقبولا منك في دفع حقوق الله عليك!!.

وقد روى في أثر إسرائيلي : « أن إبراهيم الخليل قال : يا رب ، ممن الداء! قال :

__________________

(١) هذه الزيادة عن الزاد : ( ص ٦٧ ).

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « المحقق » ولعله تحريف.

(٣) على ما حكى الله عنهم : في سورة الأنعام ( ١٤٨ ) ، وسورة النحل (٣٥).


منى. قال : فممن الدواء؟ قال : منى. قال : فما بال الطبيب؟ قال : رجل أرسل الدواء على يديه ».

وفى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لكل داء دواء » ، تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه. فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله : تعلق قلبه بروح الرجاء ، وبرد من حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء. ومتى قويت نفسه : انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سببا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية. ومتى قويت هذه الأرواح : قويت القوى التي هي حاملة لها : فقهرت المرض ودفعته. وكذلك الطبيب : إذا علم أن لهذا الداء دواء ، أمكنه طلبه والتفتيش عليه.

وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب ، وما جعل الله للقلب مرضا إلا جعل له شفاء بضده. فإن علمه صاحب الداء واستعمله ، وصادف داء قلبه ـ : أبرأه بإذن (١) الله تعالى.

( فصل ) في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في الاحتماء من التخم والزيادة في الاكل على قدر الحاجة ، والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب.

في المسند وغيره ـ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « ما ملا آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لابد فاعلا : فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه » (٢).

( فصل ) الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة : أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية ، وهى الأمراض الأكثرية. وسببها : إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن ، وتناول الأغذية القليلة النفع ، البطيئة الهضم ، والا كثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة. فإذا ملا الآدمي بطنه من هذه الأغذية ، واعتاد ذلك ـ : أورثته أمراضا متنوعة ، منها بطئ

__________________

(١) كذا بالزاد (٦٨) وفى الأصل : « بأن » وهو تحريف.

(٢) وأخرجه أيضا : الترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم وابن حبان في صحيحيهما. وقال الترمذي : حسن وفى نسخة : حسن صحيح. ومعنى « بحسب ابن آدم » : يكفيه. وصلبه : ظهره ، مجازا في جميع البدن : لأنه عماده الذي يقوم به. اه‍ ق.


الزوال أو سريعه. فإذا توسط في الغذاء ، وتناول منه قدر الحاجة ، وكان معتدلا في كميته وكيفيته ـ : كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير.

ومراتب الغذاء ثلاثة : ( أحدها ) : مرتبة الحاجة ، ( والثانية ) مرتبة الكفاية ، ( والثالثة ) : مرتبة الفضلة. فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ولا تضعف معها ، فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه ، ويدع الثلث الاخر للماء ، والثالث للنفس. وهذا من أنفع ما للبدن والقلب : فإن البطن إذا امتلا من الطعام ، ضاق عن الشراب. فإذا أورد عليه الشراب : ضاق عن النفس ، وعرض له الكرب والتعب ، وصار محمله بمنزله حامل الحمل الثقيل. هذا إلى ما يلزم ذلك : من فساد القلب ، وكسل الجوارح عن الطاعات ، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع.

فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن (١). هذا إذا كان دائما أو أكثريا. وأما إذا كان في الأحيان ، فلا بأس ( به ) (٢) : فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اللبن ، حتى قال : « والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا » ، وأكل الصحابة بحضرته مرارا ، حتى شبعوا. والشبع المفرط يضعف القوى والبدن : وإن أخصبه. وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء ، لا بحسب كثرته.

ولما كان في الانسان جزء أرضي ، وجزء هوائي ، وجزء مائي ـ : قسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، طعامه وشرابه ونفسه ، على الاجزاء الثلاثة.

فإن قيل : فأين حظ جزء النار (٣)؟. قيل : هذه المسألة تكلم فيها الأطباء ، وقالوا : إن في البدن جزءا ناريا بالفعل ، وهو أحد أركانه وإسطقساته (٤).

__________________

(١) قال الشافعي رضي الله عنه : « ما شبعت منذ ست عشرة سنة ، إلا شبعة طرحتها. لان الشبع : يثقل البدن ، ويقسى القلب ، ويزيل الفطنة ، ويجلب النوم ، ويضعف صاحبه عن العبادة ». انظر : آداب الشافعي لابن أبي حاتم الرازي ، وهامشه (ص ١٠٦).

(٢) زيادة جيدة : عن الزاد (٦٨).

(٣) كذا بالأصل. وفى الزاد : « الجزء الناري ».

(٤) أي : أصوله. جمع « إسطقس ». وهو لفظ يوناني بمعنى : الأصل. وسموا العناصر الأربع ـ التي هي : الماء ، والأرض ، والهواء ، والنار. ـ إسطقسات : لأنها أصول المركبات التي هي : الحيوانات والنباتات والمعادن ، عندهم. اه‍ ق


ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء ـ من الأطباء وغيرهم ـ وقالوا : ليس في البدن جزء ناري بالفعل. واستدلوا بوجوه :

( أحدها ) : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى : أنه نزل عن الأثير واختلط بهذه الاجزاء المائية والأرضية ، أو يقال : إنه تولد فيها وتكون.

والأول مستبعد لوجهين : أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة ، فلو نزلت لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم. الثاني : أن تلك الأجزاء النارية لابد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد. ونحن نشاهد في هذا العالم : أن النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل ، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير ـ التي هي في غاية البرد ، ونهاية العظم ـ أولى بالانطفاء.

وأما الثاني ـ وهو أن يقال : إنها تكونت ههنا. ـ فهو أبعد وأبعد : لان الجسم الذي صار نارا ، بعد أن لم يكن كذلك ، قد كان قبل صيرورته : إما أرضا ، وإما ماء ، وإما هواء. لانحصار الأركان في هذه الأربعة. وهذا الذي قد صار نارا أولا ، كان مختلطا بأحد هذه الأجسام ومتصلا بها. والجسم الذي لا يكون نارا : إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها ، لا يكون مستعدا لان ينقلب نارا. لأنه في نفسه ليس بنار. والأجسام المختلطة به باردة. فكيف يكون مستعدا لانقلابه نارا؟!.

وإن قلتم : لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام وتجعلها نارا ، بسبب مخالطتها إياها؟.

قلنا : الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية ، كالكلام في الأول.

فإن قلتم : إنا نرى في رش الماء على النورة (١) المطفأة تنفصل منها نار ، وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ظهرت النار منها ، وإذا ضربنا الحجر على الحديد ظهرت

__________________

(١) النورة (بزنة ثومة) : حجر الكلس ، أي الجير. ثم غلب على أخلاط تضاف إلى الكلس : من زرنيخ وغيره. اه‍ ق.


النار. وكل هذه النارية حدثت عند الاختلاط. وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول أيضا.

قال المنكرون : نحن لا ننكر أن تكون المصاكة (١) الشديدة محدثة للنار ، كما في ضرب الحجارة على الحديد ، أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة للنار ، كما في البلورة. لكنا نستبعد ذلك جدا في أجرام النبات والحيوان : إذ ليس في أجرامها من الاصطكاك ما يوجب حدوث النار ، ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة. كيف : وشعاع الشمس يقع على ظاهرها ، فلا نتولد النار البتة؟!. فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار؟!.

( الوجه الثاني في أصل المسألة ) : أن الأطباء مجمعون على أن الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع ، فلو كانت تلك السخونة بسبب الأجزء النارية : لكانت محالا. إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها ، كيف يعقل بقاؤها في الاجزاء المائية الغالبة دهرا طويلا ، بحيث لا تنطفئ؟! مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل.

( الوجه الثالث ) : أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل ، لكان مغلوبا بالجزء المائي الذي فيه ، وكان الجزء الناري مقهورا به ، وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض ، يقتضى انقلاب طبيعة المغلوب إلى طبيعة الغالب. فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء النارية القليلة جدا ، إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار.

( الوجه الرابع ) : أن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الانسان في كتابه ، في مواضع متعددة ، يخبر في بعضها : أنه خلقه من ماء ، وفى بعضها : أنه خلقه من تراب ، وفى بعضها : أنه خلقه من المركب منهما ، وهو : الطين ، وفى بعضها : أنه خلق من صلصال كالفخار ، وهو : الطين الذي ضربته الشمس والريح حتى صار صلصالا كالفخار. ولم يخبر في موضع واحد : أنه خلقه من نار ، بل جعل ذلك خاصية إبليس.

__________________

(١) المصاكة مفاعلة من الصك. وهى : المصادمة. اه‍ ق.


وثبت في صحيح مسلم ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم ». وهذا صريح : في أنه خلق مما وصفه الله في كتابه فقط ، ولم يصف لنا سبحانه : أنه خلقه من نار ، ولا أن في مادته شيئا من النار.

( الوجه الخامس ) : أن غاية ما يستدلون به ، ما يشاهدون : من الحرارة في أبدان الحيوان. وهى دليل على الاجزاء النارية. وهذا لا يدل : فإن أسباب الحرارة أعم من النار ، فإنها تكون من النار تارة ، وعن الحركة أخرى ، وعن انعكاس الأشعة ، وعن سخونة الهواء ، وعن مجاورة النار. وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضا. وتكون عن أسباب أخر. فلا يلزم من الحرارة النار.

قال أصحاب النار (١) : من المعلوم أن التراب والماء : إذا اختلطا فلابد لهما من حرارة تقتضى طبخهما وامتزاجهما ، وإلا : كان كل منهما غير ممازج للآخر ولا متحدا به. وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين ـ بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس ـ فسد. فلا يخلو إما أن يحصل في المركب جسم منضج طابخ بالطبع ، أولا. فإن حصل : فهو الجزء الناري ، وإن لم يحصل : لم يكن المركب مسخنا بطبعه ، بل إن سخن : كان التسخين عرضيا. فإذا زال التسخين العرضي : لم يكن الشئ حارا في طبعه ، ولا في كيفيته ، وكان باردا مطلقا. لكن : من الأغذية والأدوية ما يكون حارا بالطبع ، فعلمنا أن حرارتها إنما كانت : لان فيها جوهرا ناريا.

وأيضا : فلو لم يكن في البدن جزء مسخن ، لوجب أن يكون في نهاية البرد. لان الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد ، وكانت خالية عن المعاون والمعارض ـ : وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية. ولو كان كذلك : لما حصل [ لها ] (٢) الاحساس بالبرد ، لان البرد الواصل إليه : إذا كان في الغاية كان مثله ، والشئ لا ينفعل عن مثله. وإذا لم ينفعل عنه :

__________________

(١) أي : القائلون بدخولها في العناصر التي خلق منها الانسان. وفيه تعريض بكفرهم : على سبيل التورية والايهام. اه‍ ق. (٢) زيادة جيدة : عن الزاد (ص ٧٠).


لم يحس به ، وإذا لم يحس به : لم يتألم عنه. وإن كان دونه : فعدم الانفعال يكون أولى. فلو لم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع : لما انفعل عن البرد ، ولا تألم به.

قالوا : وأدلتكم إنما تبطل قول من يقول : الاجزاء النارية باقية في هذه المركبات على حالها وطبيعتها النارية. ونحن لا نقول بذلك ، بل نقول : إن صورتها النوعية تفسد عند الامتزاج.

قال الآخرون : لم لا يجوز أن يقال : إن الأرض والماء والهواء إذا اختلطت : فالحرارة المنضجة الطابخة لها ، هي : حرارة الشمس وسائر الكواكب. ثم ذلك المركب ، عند كمال نضجه ، يستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة السخونة : نباتا كان ، أو حيوانا ، أو معدنا؟ وما المانع أن تكون السخونة والحرارة التي في المركبات ، هي بسبب خواص وقوى يحدثها الله تعالى. عند ذلك الامتزاج. لا من أجزاء نارية بالفعل؟ ولا سبيل لكم إلى إبطال هذا الامكان البتة. وقد اعترف جماعة من فضلاء الأطباء بذلك.

وأما حديث إحساس البدن بالبرد ، فنقول : هذا يدل على أن في البدن حرارة وتسخينا ، ومن ينكر ذلك؟! لكن : ما الدليل على انحصار المسخن في النار؟ فإنه وإن كان كل نار مسخنا ، فإن هذه القضية لا تنعكس كلية ، بل عكسها الصادق : « بعض المسخن نار ».

وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية ، فأكثر الأطباء على بقاء صورتها النوعية. والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل متأخريكم ، في كتابه المسمى : « بالشفاء » (١) ، وبرهن على بقاء الأركان أجمع ، على طبائعها في المركبات. وبالله التوفيق.

( فصل ) وكان علاجه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للمرض ، ثلاثة أنواع : ( أحدها ) بالأدوية الطبيعية. ( والثاني ) : بالأدوية الإلهية. ( والثالث ) : بالمركب من الامرين.

__________________

(١) هو كتاب الشيخ الرئيس : أبى على الحسين بن [ عبد الله بن ] سينا ، أكبر فلاسفة المسلمين : في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية. وله شطحات لا يرضى عن مثلها العلماء ومنهم المؤلف. ولهذا عرض به بقوله : « متأخريكم » ، بدل « منكم » مثلا!!!. اه‍ ق

(٢ ـ الطب النبوي)


ونحن نذكر الأنواع الثلاثة من هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنبدأ بذكر الأدوية الطبيعية التي وصفها واستعملها ، ثم نذكر الأدوية الإلهية ، ثم المركبة.

وهذا إنما يشير إليه إشارة : فإن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنما بعث : هاديا ، وداعيا إلى الله وإلى جنته ، ومعرفا بالله ، ومبينا للأمة مواقع رضاه وآمرا لهم بها ، ومواقع سخطه وناهيا لهم عنها ، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم ، وأخبار تخليق العالم ، وأمر المبدأ والمعاد ، وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها ، وأسباب ذلك.

وأما طب الأبدان ، فجاء من تكميل شريعته ، ومقصودا لغيره : بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه. فإذا قدر الاستغناء عنه : كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح ، وحفظ صحتها ، ودفع أسقامها ، وحميتها مما يفسدها ـ هو المقصود بالقصد الأول. وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع ، وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدا ، وهى مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة. وبالله التوفيق.

ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية

فصل في هديه في علاج الحمى

ثبت في الصحيحين ، عن نافع عن ابن عمر ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم ، فابردوها بالماء » (١).

وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ، ورآه منافيا لدواء الحمى وعلاجها. ونحن نبين ـ بحول الله وقوته ـ وجهه وفقهه ، فنقول :

__________________

(١) كل حالات الحميات عند اشتداد الحرارة ، تعالج بالماء بطريقتين : ١ ـ من الخارج على هيئة مكمدات باردة أو مثلجة ، لغرض تهبيط درجة الحرارة. ٢ ـ تعاطى الماء بالفم بكثرة أثناء الحميات ، يساعد جميع أعضاء الجسم ـ خصوصا الكليتين ـ على النهوض بوظائفها الحيوية للجسم اه‍ د.

وأخرج الحديث أيضا : النسائي وابن ماجة ، ومالك ، وأحمد. و (الفيح) : سطوع الحر وفورانه و « من » : بيانية. وعلى ذلك ما سيأتي في الوجه الثاني ـ من شرح المؤلف للحديث ـ : من أن الكلام على التشبيه. اه‍ ق.


خطاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نوعان : عام لأهل الأرض ، وخاص ببعضهم. فالأول : كعامة خطابه. والثاني كقوله : « لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ، ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا أو غربوا ». فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق ولا المغرب (١) ولا العراق ، ولكن لأهل المدينة وما على سمتها : كالشام وغيرها. وكذلك قوله : « ما بين المشرق والمغرب قبلة ».

وإذا عرف هذا : فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز وما والاهم ، إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم ، من نوع الحمى اليومية العرضية ، الحادثة عن شدة حرارة الشمس. وهذه ينفعها الماء البارد : شربا ، واغتسالا. فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل بالقلب ، وتنبث منه (٢) ـ بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق ـ إلى جميع البدن ، فتشتعل فيه اشتعالا : يضر بالافعال الطبيعية.

وهى تنقسم إلى قسمين : عرضية ، وهى الحادثة : إما عن الورم ، أو الحركة ، أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ (٣) الشديد ، ونحو ذلك. ومرضية ، وهى ثلاثة أنواع. وهى لا تكون إلا في مادة أولى ، ثم منها يسخن (٤) جميع البدن. فإن كان مبدأ تعلقها بالروح ، سميت : حمى يوم ، لأنها في الغالب تزول في يوم ، ونهايتها ثلاثة أيام. وإن كان مبدأ تعلقها بأخلاط ، سميت : عفنية ، وهى أربعة أصناف : صفراوية ، وسوداوية ، وبلغمية ، ودموية. وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية ، سميت : حمى دق. وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة.

وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعا عظيما لا يبلغه الدواء ، وكثيرا ما يكون حمى يوم وحمى

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد (٧١) : « والمغرب ».

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد : « تشتعل في القلب ، وتنبت منه » ولعل فيه بعض التحصيف.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : « أو الغيظ » وهو تصحيف.

(٤) في الزاد : « تسخن » ، وهو تصحيف.


العفن ، سببا لانضاج مواد غليظة لم تكن تنضج بدونها ، وسببا لتفتح سدد لم تكن (١) تصل إليها الأدوية المفتحة.

وأما الرمد الحديث والمتقادم : فإنها تبرئ أكثر أنواعه برءا عجيبا سريعا. وتنفع من الفالج واللقوة والتشنج الامتلائي ، وكثيرا من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة.

وقال لي بعض فضلاء الأطباء : إن كثيرا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى : كما يستبشر المريض بالعافية ، فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء بكثير : فإنها تنضج من الاخلاط والمواد الفاسدة ، ما يضر بالبدن ، فإذا أنضجتها صادفها الدواء : متهيئة للخروج بنضاجها ، فأخرجها. فكانت سببا للشفاء (٢).

وإذا عرف هذا فيجوز : أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية. فإنها تسكن على المكان : بالانغماس في الماء البارد ، وسقى الماء البارد المثلوج. ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر. فإنها مجرد كيفية حارة (٣) متعلقة بالروح ، فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة : تسكنها وتخمد لهبها ، من غير حاجة إلى استفراغ مادة ، أو انتظار نضج.

ويجوز : أن يراد به جميع أنواع الحميات.

وقد اعترف فاضل الأطباء جالينوس : بأن الماء البارد ينفع فيها ، قال في المقالة العاشرة من كتاب « حيلة البرء » : « ولو أن رجلا شابا ، حسن اللحم ، خصب البدن ـ في وقت القيظ ، وفى وقت منتهى الحمى ـ وليس في أحشائه ورم ، استحم بماء بارد ، أو سبح فيه ـ : لانتفع بذلك ». وقال : « ونحن نأمر بذلك بلا توقف ».

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٧١) : « يكن » وكلاهما صحيح.

(٢) إن بعض الأمراض الزمنة ـ : مثل مرض الروماتزم المفصلي الزمن ، الذي تتصلب فيه المفاصل ، وتصبح غير قادرة على التحرك. أو مرض الزهري الزمن في الجهاز العصبي ـ تتحسن كثيرا بارتفاع درجة حرارة الجسم ، أي : في حالات الحميات. ولذلك من ضمن طرق العلاج الطبي ـ في مثل هذه الحالات ـ : الحمى الصناعية. أي : خلق حالة حمى في المريض بحقنة بمواد معينة اه‍ د.

(٣) كذا بالأصل. وفى الزاد : « حادة » ، وهو تصحيف.


وقال الرازي في كتابه الكبير : « إذا كانت القوة قوية والحمى حادة جدا ـ والنضج بين ، ولا ورم في الجوف ، ولا فتق ـ : ينفع الماء البارد شربا. وإن كان العليل خصب البدن ، والزمان حار ، وكان معتادا لاستعمال الماء البارد من خارج ـ : فليؤذن فيه ».

وقوله : « الحمى من فيح جهنم » ، هو : شدة لهبها وانتشارها. ونظيره قوله : « شدة الحر من فيح جهنم ». وفيه وجهان :

( أحدهما ) : أن ذلك أنموذج ورقيقة اشتقت من جهنم ، ليستدل بها العباد عليها ويعتبروا بها. ثم إن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب تقتضيها. كما أن الروح والفرح والسرور واللذة : من نعيم الجنة ، أظهرها الله في هذه الدار : عبرة ودلالة ، وقدر ظهورها بأسباب توجبها.

( والثاني ) : أن يكون المراد التشبيه ، فشبه شدة الحمى ولهبها بفوح جهنم ، وشبه شدة الحربة أيضا. تنبيها للنفوس على شدة عذاب النار ، وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها. وهو : ما يصيب من قرب منها : من حرها.

وقوله : « فابردوها » ، روى بوجهين : بقطع الهمزة وفتحها ، رباعي من « أبرد الشئ » : إذا صيره باردا ، مثل « أسخنه » : إذا صيره سخنا. والثاني : بهمزة الوصل مضمومة ، من « برد الشئ يبرده ». وهو أفصح : لغة واستعمالا. والرباعي لغة رديئة عندهم. قال الحماسي :

إذا وجدت لهيب الحب في كبدي :

أقبلت نحو سقاء القوم أبترد

هبني بردت ببرد الماء ظاهره

فمن لنار على الأحشاء تتقد؟!

وقوله : « بالماء » ، فيه قولان : ( أحدهما ) : أنه كل ماء. وهو الصحيح.

( والثاني ) : أنه ماء زمزم. واحتج أصحاب هذا القول ، بما رواه البخاري في صحيحه ، عن أبي جمرة نصر (١) بن عمران الضبعي ، قال : « كنت أجالس ابن عباس بمكة ،

__________________

(١) بالأصل : « حمزة نصر » : وبالزاد (ص ٧٢) : « جمرة نضر ». وكلاهما قد وقع فيه تصحيف والصواب ما أثبتناه. راجع تهذيب التهذيب (١٠ / ٤٣١) ، والخلاصة (ص ٣٤٤ : ط الخشاب).


فأخذتني الحمى فقال : ابردها عنك بماء زمزم ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : إن الحمى من فيح جهنم ، فابردوها بالماء » ، أو قال : « بماء زمزم ».

وراوى هذا قد شك فيه. ولو جزم به : لكان أمرا لأهل مكة : بماء زمزم ، إذ هو متيسر عندهم ، ولغيرهم : بما عندهم من الماء.

ثم اختلف من قال : إنه على عمومه ، هل المراد به : الصدقة بالماء؟ أو استعماله؟ على قولين. والصحيح : أنه استعماله. وأظن : أن الذي حمل من قال : المراد الصدقة به ، أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى ، ولم يفهم وجهه. مع أن لقوله وجها حسنا ، وهو : أن الجزاء من جنس العمل. فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد ، أخمد الله لهيب الحمى عنه : جزاء وفاقا. ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته. وأما المراد به : فاستعماله.

وقد ذكر أبو نعيم وغيره ـ من حديث أنس ، يرفعه ـ : « إذا حم أحدكم : فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر » (١).

وفى سنن ابن ماجة ـ عن أبي هريرة يرفعه ـ : « الحمى من كير جهنم ، فنحوها عنكم بالماء البارد » (٢).

وفى المسند وغيره ـ من حديث الحسن ، عن سمرة يرفعه ـ : « الحمى قطعة من النار ، فابردوها عنكم بالماء البارد » (٣).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا حم دعا بقربة من ماء ، فأفرغها على رأسه ، فاغتسل.

__________________

(١) أبو نعيم هو : صاحب كتاب « حلية الأولياء ». وأخرج الحديث أيضا : النسائي ، والحاكم في صحيحه ، والضياء ( المقدسي ) في « المختارة » ـ وشرطه فيها أحسن من شرط الحاكم في صحيحه ـ وأبو يعلى والطبراني في الأوسط. ورجاله ثقات. اه‍ ق.

(٢) هذا الحديث لم يخرجه ـ من أصحاب الكتب الستة ـ غير ابن ماجة ، ولم يخرجه مالك ، ولا أحمد ، ولا الدارمي ، ولا الحاكم. ولكن السندي شارحه ( شارح سنن ابن ماجة ) نقل : أنه صحيح ورجاله ثقات. و ( الكير ) هو : كير الحداد ، على جعل مثله لجهنم : تشبيها ، أو تخبيلا. اه‍ ق.

(٣) وأخرجه : الحاكم في صحيحه ، والطبراني في الأوسط ، والبزار. اه‍ ق.


وفى السنن من حديث أبي هريرة ، قال : « ذكرت الحمى عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسبها رجل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تسبها ، فإنها تنفى الذنوب كما تنفى النار خبث الحديد » (١).

لما كانت الحمى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة ، وتناول الأغذية والأدوية النافعة ، وفى ذلك إعانة على تنقية البدن ، ونفى أخباثه وفضوله ، وتصفيته من مواده الرديئة ، وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد : في نفى خبثه ، وتصفية جوهره ـ : كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تصفى جوهر الحديد. وهذا القدر هو المعلوم عند أطباء الأبدان ، وأما تصفيتها القلب من وسخه ودرنه ، وإخراجها خبائثه ـ : فأمر يعلمه أطباء القلوب ، ويجدونه : كما أخبرهم به نبيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولكن مرض القلب إذا صار مأيوسا (٢) عن برئه : لم ينفع فيه هذا العلاج.

فالحمى تنفع البدن والقلب. وما كان بهذه المثابة : فسبه ظلم وعدوان.

وذكرت مرة ـ وأنا محموم ـ قول بعض الشعراء يسبها :

زارت مكفرة الذنوب ، وودعت

تبا لها : من زائر ومودع

قالت ـ وقد عزمت على ترحالها ـ :

ماذا تريد؟ فقلت : أن لا ترجعي

فقلت : تباله ، إذ سب ما نهى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن سبه. ولو قال :

زارت مكفرة الذنوب لصبها

أهلا بها : من زائر ، ومودع

قالت ـ وقد عزمت على ترحالها ـ :

ماذا تريد؟ فقلت : أن لا تقلعي

ـ : لكان أولى به ، ولأقلعت عنه. فأقلعت عنى سريعا.

وقد روى في أثر ـ لا أعرف حاله (٣) : « حمى يوم كفارة سنة ». وفيه قولان :

__________________

(١) وأخرج مسلم عن جابر ، نحوه. اه‍ ق.

(٢) أي : ميؤوسا. من « أيس » مقلوب « يئس » اه‍ ق.

(٣) أي. درجته من الصحة. اه‍ ق.


( أحدهما ) : أن الحمى تدخل في كل الأعضاء والمفاصل ، وعدتها ثلثمائة وستون مفصلا فتكفر عنه ـ بعدد كل مفصل ـ ذنوب يوم.

( والثاني ) : أنها تؤثر في البدن تأثيرا لا يزول بالكلية إلى سنة ، كما قيل في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « من شرب الخمر : لم تقبل له صلاة أربعين يوما » ـ : إن أثر الخمر يبقى في جوف العبد وعروقه وأعضائه ، أربعين يوما. والله أعلم.

قال أبو هريرة : « ما من مرض يصيبني أحب إلي من الحمى : لأنها تدخل في كل عضو منى ، وإن الله سبحانه يعطى كل عضو حظه من الاجر ».

وقد روى الترمذي في جامعه ـ من حديث رافع بن خديج ، يرفعه ـ : « إذا أصابت أحدكم الحمى ـ وإنما الحمى قطعة من النار ـ فليطفئها بالماء البارد ، ويستقبل نهرا جاريا. فليستقبل جرية الماء بعد الفجر ، وقبل طلوع الشمس. وليقل : باسم الله ، اللهم : اشف عبدك ، وصدق رسولك. وينغمس فيه ثلاث غمسات ، ثلاثة أيام. فإن برئ ، وإلا : ففي خمس ، فإن لم يبرأ في خمس : فسبع ، فإنها لا تكاد تجاوز السبع بإذن الله » (١).

قلت : وهو ينفع فعله ـ في فصل الصيف ، في البلاد الحارة ـ على الشرائط التي تقدمت. فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون : لبعده من ملاقاة الشمس ، ووفور القوى في ذلك الوقت : لما أفادها النوم والسكون وبرد الهواء. فيجتمع قوة القوى ، وقوة الدواء ـ وهو الماء البارد ـ على حرارة الحمى العرضية ، أو الغب الخالصة ـ أعنى : التي لا ورم معها ، ولا شئ من الاعراض الرديئة ، والمواد الفاسدة. فيطفئها بإذن الله ، لا سيما

__________________

(١) هذا النص المنسوب لرافع بن خديج سهوا ، هو : نص حديث الترمذي عن ثوبان ، وقال عقبه : غريب. لجهالة الرجل الراوي عن ثوبان في سنده. وأخرجه أحمد عن رجل يقال له : سعيد ، من أهل الشام. أي نكرة تحوطه الجهالة. أما المروى عن رافع بن خديج ، فهو نص آخر. وهو : « الحمى من فور جهنم ، فأبردوها بالماء ». أخرجه : البخاري ، ومسلم والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجة ، والدارمي ، وأحمد. و « فور جهنم » هو : وهجها وشدة حرها. و « من » في الحديث : بيانية. فيكون الاظهر : أن الكلام على التشبيه ، كما سبق في أحد وجهين للمؤلف ، في شرح حديث : « شدة الحر من فيح جهنم ». اه‍ ق.


في أحد الأيام المذكورة في الحديث. وهى الأيام التي يقع فيها بحران الأمراض الحادة كثيرا. لا سيما في البلاد المذكورة : لرقة أخلاط سكانها ، وسرعة انفعالهم عن الدواء النافع.

فصل في هديه في علاج استطلاق البطن

في الصحيحين ـ من حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري ـ : « أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن أخي يشتكى بطنه ، وفى رواية : استطلق بطنه ، فقال : اسقه. عسلا. فذهب ثم رجع ، فقال : قد سقيته فلم يغن عنه شيئا. وفى لفظ : فلم يزده إلا استطلاقا. مرتين أو ثلاثا ، كل ذلك يقول له : اسقه عسلا. فقال له في الثالثة أو الرابعة : صدق الله وكذب بطن أخيك (١) ». وفى صحيح مسلم ، في لفظ له : « إن أخي عرب بطنه » ، أي : فسد هضمه ، واعتلت معدته. والاسم : « العرب » بفتح الراء ، و « الذرب » أيضا.

والعسل فيه منافع عظيمة : فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها (٢) ، محلل للرطوبات : أكلا وطلاء ، نافع للمشايخ وأصحاب البلغم ، ومن كان مزاجه باردا رطبا. وهو مغذ ، ملين للطبيعة ، حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه ، مذهب لكيفيات الأدوية الكريهة ، منق للكبد والصدر ، مدر للبول ، موافق للسعال الكائن عن البلغم. وإذا شرب حارا بدهن الورد : نفع من نهش الهوام وشرب الأفيون. وإن شرب وحده ممزوجا بماء : نفع من عضة الكلب الكلب ، وأكل الفطر (٣) القتال. وإذا جعل فيه

__________________

(١) وأخرجه أيضا : أحمد ، والترمذي ، والنسائي. و « الاستطلاق » هو : الاسهال. ومثله : « العرب » و « الذرب » في الحديث بعده. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « صدق الله » الخ ، إشارة إلى قوله تعالى في النحل : ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه ، فيه شفاء للناس ). اه‍ ق.

(٢) كذا بالزاد ( ص ٧٣ ). وفى الأصل : « وغيرهم ». وهو تصحيف.

(٣) الفطر ( بضمتين! ) : نوع من الكمأة قتال. اه‍ ق. وفى الزاد : « القطر » بالقاف. وهو تصحيف.


اللحم الطري : حفظ طراوته ثلاثة أشهر. وكذلك : إن جعل فيه القثاء والخيار والقرع والباذنجان. ويحفظ كثيرا من الفاكهة ستة أشهر. ويحفظ جثة الموتى. ويسمى : الحافظ الأمين. وإذ لطخ به البدن المقمل والشعر : قتل قمله وصئبانه (١) ، وطول الشعر وحسنه ونعمه. وإن اكتحل به : جلا ظلمة البصر. وإن استن به : بيض الأسنان وصقلها ، وحفظ صحتها وصحة اللثة ، ويفتح أفواه العروق ، ويدر الطمث. ولعقه على الريق : يذهب البلغم ، ويغسل خمل المعدة ، ويدفع الفضلات عنها ، ويسخنها تسخينا معتدلا ، ويفتح سددها ، ويفعل ذلك بالكبد والكلى (٢) والمثانة. وهو أقل ضررا لسدد الكبد والطحال من كل حلو.

وهو ـ مع هذا كله ـ مأمون الغائلة ، قليل المضار ، مضر بالعرض للصفراويين. ودفعها : بالخل ونحوه ، فيعود حينئذ نافعا له جدا.

وهو غذاء مع الأغذية ، ودواء مع الأدوية ، وشراب مع الأشربة ، وحلو مع الحلو ، وطلاء مع الأطلية ، ومفرح مع المفرحات. فما خلق لنا شئ في معناه : أفضل منه ولا مثله ، ولا قريب منه. ولم يكن معول القدماء إلا عليه. وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسكر البتة ، ولا يعرفونه ، فإنه حديث العهد : حدث قريبا.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يشربه بالماء على الريق. وفى ذلك سر بديع في حفظ الصحة ، لا يدركه إلا الفطن الفاضل. وسنذكر ذلك ـ إن شاء الله ـ عند ذكر هديه : في حفظ الصحة.

وفى سنن ابن ماجة مرفوعا ، من حديث أبي هريرة ـ : « من لعق ثلاث غدوات كل شهر : لم يصبه عظيم البلاء (٣) ».

__________________

(١) كذا بالزاد. أي : بيضه. وفى الأصل : « صبيانه » ، وهو تصحيف طريف.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « والكلا ».

(٣) في سنده : الزبير بن سعيد ، وهو متروك ، ومع ذلك فهو منقطع ، قال البخاري : لا نعرف له سماعا عن أبي هريرة. و « الغدوات » : جمع « غدوة » ، وهى أول النهار. والتقدير : من لعق العسل ثلاث غدوات الخ. اه‍ ق. أو لعل كلمة « منه » أو « من العسل » قد سقطت من الناسخ أو الراوي.


وفى أثر آخر : « عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن (١) ».

فجمع بين الطب البشرى والإلهي ، وبين طب الأبدان وطب الأرواح ، وبين الدواء الأرضي والدواء السمائي.

إذا عرف هذا : فهذا الذي وصف له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العسل ، كان استطلاق بطنه : عن تخمة أصابته عن امتلاء ، فأمره بشرب العسل : لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء ، فإن العسل فيه جلاء ودفع للفضول. وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيه للزوجتها : فإن المعدة لها خمل كخمل المنشفة ، فإذا علقت بها الاخلاط اللزجة : أفسدتها وأفسدت الغذاء. فدواؤها بما يجلوها من تلك الاخلاط. والعسل جلاء ، والعسل من أحسن ما عولج به هذا الداء : لا سيما إن مزج بالماء الحار.

وفى تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع ، وهو : أن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب حال الداء : إن قصر عنه لم يزله بالكلية ، وإن جاوزه أوهن القوى (٢) فأحدث ضررا آخر. فلما أمره أن يسقيه العسل : سقاه مقدارا لا يفي بمقاومة الداء ، ولا يبلغ الغرض. فلما أخبره : علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة. فلما تكرر ترداده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أكد عليه المعاودة : ليصل إلى المقدار المقاوم للداء. فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء : برئ بإذن الله. واعتبار مقادير الأدوية وكيفياتها ، ومقدار قوة المرض والمريض ـ من أكبر قواعد الطب.

وفى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « صدق ( الله ) (٣) وكذب بطن أخيك » ، إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء ، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ، ولكن : لكذب البطن ، وكثرة المادة الفاسدة فيه. فأمره بتكرار الدواء : لكثرة المادة.

وليس طبه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كطب الأطباء ، فإن طب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : متيقن قطعي

__________________

(١) أخرجه : ابن ماجة ، والحاكم في صحيحه ـ وقال : على شرط الشيخين. وأقره الذهبي ـ عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ مرفوعا. اه‍ ق.

(٢) أوهن القوى : أضعفها.! اه‍ ق.

(٣) زيادة متعينة : عن الزاد ( ص ٧٤ ).


إلهي : صادر عن الوحي ، ومشكاة النبوة ، وكمال العقل. وطب غيره أكثره حدس (١) وظنون وتجارب ، ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة ، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء له ، وكمال التلقي له : بالايمان والاذعان. فهذا القرآن ـ الذي هو شفاء لما في الصدور ـ إن لم يتلق هذا التلقي : لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها ، بل لا يزيد المنافقين إلا رجسا إلى رجسهم ، ومرضا إلى مرضهم. وأين يقع (٢) طب الأبدان منه؟! فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة : كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة ، والقلوب الحية. فإعراض الناس عن طب النبوة : كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو : الشفاء النافع. وليس ذلك لقصور في الدواء ، ولكن : لخبث الطبيعة ، وفساد المحل وعدم قبوله. والله الموفق.

( فصل ) وقد اختلف الناس في قوله تعالى : ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه : فيه شفاء للناس ) ، هل الضمير في « فيه » راجع إلى الشراب؟ أو راجع إلى القرآن؟ ـ على قولين ، الصحيح ( منهما ) : رجوعه إلى الشراب. وهو قول ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والأكثرين. فإنه هو المذكور ، والكلام سيق لأجله. ولا ذكر للقرآن في الآية. وهذا الحديث الصحيح ـ وهو قوله : « صدق الله » ـ كالصريح فيه. والله تعالى أعلم.

فصل في هديه في الطاعون وعلاجه ، والاحتراز منه

في الصحيحين ـ عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ـ : « أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد : ماذا سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الطاعون؟ فقال أسامة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل ، وعلى من كان قبلكم ، فإذا سمعتم به بأرض : فلا تدخلوا عليه ، وإذا وقع بأرض ـ وأنتم بها ـ فلا تخرجوا منها فرارا منه (٣).

__________________

(١) الحدس : التخمين.! اه‍ ق

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد : « يقطع » ، وهو تحريف.

(٣) هذا هو ما يتبع حتى الآن : في الوقاية من الطاعون. فإن أصيبت قرية ما بهذا المرض : عمل حولها (كردون صحى) : يمنع أي شخص من الخروج منها ، ويمنع دخول أي شخص إليها ، ما عدا الأطباء


وفى الصحيحين أيضا : عن حفصة بنت سيرين ، قالت : قال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « الطاعون شهادة لكل مسلم (١) ».

الطاعون من حيث اللغة : نوع من الوباء. قاله صاحب الصحاح. وهو عند أهل الطب : ورم ردئ قتال ، يخرج معه تلهب شديد مؤلم جدا ، يتجاوز المقدار في ذلك ، ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر أو أكمد ، ويؤول أمره إلى التقرح سريعا. وفى الأكثر يحدث في ثلاث مواضع : في الإبط. وخلف الاذن والأرنبة ، وفى اللحوم الرخوة (٢).

وفى أثر عن عائشة : « أنها قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الطعن قد عرفناه ، فما الطاعون؟ قال : غدة كغدة البعير يخرج في المراق والإبط (٣) ».

قال الأطباء : إذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة والمغابن ، وخلف الاذن والأرنبة ، وكان من جنس فاسد سمى ـ يسمى : طاعونا. وسببه : دم ردئ مائل إلى العفونة والفساد ، مستحيل إلى جوهر سمى : يفسد العضو ، ويغير ما يليه ، وربما رشح دما وصديدا ، ويؤدى (٤) إلى القلب كيفية رديئة : فيحدث القئ والخفقان والغشى. وهذا الاسم ـ وإن كان يعم كل ورم يؤدى إلى القلب كيفية رديئة ، حتى يصير لذلك قتالا ـ فإنه يختص به الحادث في اللحم الغددي (٥) : لأنه لرداءته لا يقبله من الأعضاء ، إلا ما كان أضعف بالطبع. وأردؤه : ما حدث في الإبط وخلف الاذن ، لقربهما من الأعضاء التي هي أرأس. وأسلمه : الأحمر ، ثم الأصفر. والذي إلى السواد : فلا يفلت منه أحد.

__________________

والمعاونين لهم. وبذلك يمنع المرض من الانتشار خارج هذه القرية ، ويحصر المرضى في مكان واحد يسهل فيه مراقبتهم وعلاجهم. اه‍ د.

وأخرج الشيخان الحديث أيضا : عن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه وأسامة. والحديث أخرجه أيضا : مالك والنسائي وأحمد ومحمد (بن الحسن) في موطئه. اه‍ ق

(١) وأخرجه أيضا أحمد في مسنده اه‍ ق

(٢) مرض الطاعون تجئ عدواه من البراغيث المحملة بالميكروب من الفيران. وغالبا ما يلدغ البرغوث الساق ، ثم الذراع ، ثم الوجه. وهذا يفسر وجود الطاعون الدملي في الأوردة أو تحت الإبط ، أو الرقبة كما ذكر. اه‍ د.

(٣) أخرجه : أحمد ، والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في فوائد أبى بكر بن خلاد ، وابن خزيمة بسند حسن. اه‍ ق.

(٤) كذا بالزاد (ص ٧٥). وفى الأصل : « ويؤوى » ، وهو تصحيف.

(٥) كذا بالزاد. وفى الأصل : « الغدوي » وهو تصحيف.


ولما كان الطاعون يكثر في الوباء وفى البلاد الحربية (١) ، عبر عنه : بالوباء ، كما قال الخليل : « الوباء : الطاعون ». وقيل : هو كل مرض يعم.

والتحقيق : أن بين الوباء والطاعون عموما وخصوصا (مطلقا) ، فكل طاعون وباء ، وليس كل وباء طاعونا. وكذلك الأمراض العامة : أعم من الطاعون ، فإنه واحد منها.

والطواعين : خراجات ، وقروح ، وأورام رديئة حادثة في المواضع المتقدم ذكرها : قلت : هذه القروح والأورام والخراجات (٢) ، هي : آثار الطاعون ، وليست نفسه.

ولكن الأطباء لما لم تدرك منه إلا الأثر الظاهر : جعلوه نفس الطاعون.

والطاعون يعبر به عن ثلاثة أمور :

( أحدها) : هذا الأثر الظاهر ، وهو الذي ذكره الأطباء.

( والثاني ) : الموت الحادث عنه. وهو المراد بالحديث الصحيح ، في قوله : « الطاعون شهادة لكل مسلم ».

( والثالث ) : السبب الفاعل لهذا الداء.

وقد ورد في الحديث الصحيح : « أنه بقية رجز أرسل على بني إسرائيل » ، وورد فيه : « أنه وخز الجن » (٣) وجاء : « أنه دعوة نبي » (٤).

وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها ، كما ليس عندهم ما يدل عليها. والرسل تخبر بالأمور الغائبة. وهذه الآثار التي أدركوها من أمر الطاعون ، ليس معهم ما ينفى أن تكون بتوسط الأرواح : فإن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها ، أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها ، وانفعال الأجسام وطبائعها عنها. والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفا في أجسام بني آدم : عند حدوث الوباء ،

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٧٥) : « الوبية » ولعل الصواب : « الحرية » فليحرر.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد : « والجراحات ». ولعله تصحيف.

(٣) أخرجه : الطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في فوائد أبى بكر بن خلاد عن عائشة. وأخرجه أحمد : عن أبي موسى بإسناد رجاله ثقات. وأخرجه الطبراني عنه أيضا. اه‍ ق.

(٤) في البخاري ومسلم : « أنه رجز أرسل على بني إسرائيل ». فلعله دعوة نبي من أنبيائهم. اه‍ ق.


وفساد الهواء. كما يجعل لها تصرفا : عند غلبة بعض المواد الرديئة ، التي تحدث للنفوس هيئة رديئة ، ولا سيما : عند هيجان الدم والمرة السوداء ، وعند هيجان المنى. فإن الأرواح الشيطانية تتمكن من فعلها بصاحب هذه العوارض ، مالا تتمكن من غيره ـ : ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب : من الذكر والدعاء ، والابتهال والتضرع ، والصدقة ، وقراءة القرآن. فإنه يستنزل لذلك من الأرواح الملكية ، ما يقهر هذه الأرواح الخبيثة ، ويبطل شرها ، ويدفع تأثيرها. وقد جربنا ـ نحن وغيرنا ـ هذا مرارا لا يحصيها إلا الله ، ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة ، واستجلاب قربها ـ تأثيرا عظيما : في تقوية الطبيعة ، ودفع المواد الرديئة. وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها. ولا يكاد يخرم. فمن وفقه الله : بادر عند إحساسه بأسباب الشر ، إلى هذه الأسباب : التي تدفعها عنه. وهى له من أنفع الدواء. وإذا أراد الله عز وجل إنفاذ قضائه وقدره : أغفل قلب العبد عن معرفتها وتصورها وإرادتها ، فلا يشعر بها ، ولا يريدها : ليقضى الله فيه أمرا كان مفعولا.

وسنزيد هذا المعنى ـ إن شاء الله تعالى ـ إيضاحا وبيانا : عند الكلام على التداوي بالرقى والعوذ النبوية ، والاذكار والدعوات ، وفعل الخيرات. ونبين : أن نسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي ، كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم. كما اعترف به حذاقهم وأئمتهم : ونبين : أن الطبيعة الانسانية أشد شئ انفعالا عن الأرواح ، وأن قوى العوذ (١) والرقى والدعوات فوق قوى الأدوية : حتى إنها تبطل قوى السموم القاتلة.

والمقصود : أن فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام والعلة الفاعلة للطاعون ، وأن (٢) فساد جوهر الهواء الموجب لحدوث الوباء. وفساده يكون لاستحالة جوهره إلى الرداءة : لغلبة إحدى الكيفيات الرديئة عليه ، كالعفونة والنتن والسمية ، في أي وقت كان من أوقات السنة ، وإن كان أكثر حدوثه : في أواخر الصيف ، وفى الخريف غالبا. لكثرة اجتماع

__________________

(١) جمع « عوذة » وهى الرقية. فعطف « الرقي » عليها للتفسير. وسميت « عوذة » : لأنها يعوذ بها المريض ، أي يمتنع من المرض.! اه‍ ق.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٧٦) : « فإن » ، وكل صحيح كما لا يخفى.


الفضلات المرارية الحادة وغيرها في فصل الصيف ، وعدم تحللها في آخره. وفى الخريف : لبرد الجو ، وردغة (١) الأبخرة والفضلات التي كانت تتحلل في زمن الصيف ، فتنحصر فتسخن وتعفن : فتحدث الأمراض العفنة. ولا سيما : إذا صادفت (٢) البدن مستعدا قابلا ، رهلا ، قليل الحركة ، كثير المواد. فهذا لا يكاد يفلت من العطب.

وأصح الفصول فيه : فصل الربيع ، قال أبقراط (٣) : « إن في الخريف أشد ما يكون من الأمراض وأقتل ، وأما الربيع : فأصح الأوقات كلها ، وأقلها موتا ». وقد جرت عادة الصيادلة ومجهزي الموتى : أنهم يستدينون ويتسلفون في الربيع والصيف ، على فصل الخريف. فهو ربيعهم ، وهم أشوق شئ إليه ، وأفرح بقدومه.

وقد روى في حديث : « إذا طلع النجم : ارتفعت العاهة عن كل بلد ». وفسر : بطلوع الثريا ، وفسر : بطلوع النبات زمن الربيع. ومنه : ( النجم والشجر يسجدان ) ، فإن كمال طلوعه وتمامه يكون في فصل الربيع ، وهو : الفصل الذي ترتفع فيه الآفات.

وأما الثريا : فالامراض تكثر وقت طلوعها مع الفجر وسقوطها. قال التميمي في كتاب « مادة البقاء » : « أشد أوقات السنة فسادا ، وأعظمها بلية على الأجساد ـ وقتان : ( أحدهما ) : وقت سقوط الثريا للمغيب عند طلوع الفجر ، ( والثاني ) : وقت طلوعها من المشرق قبل طلوع الشمس على العالم ، بمنزلة (٤) من منازل القمر. وهو : وقت تصرم فصل الربيع وانقضائه. غير أن الفساد الكائن عند طلوعها ، أقل ضررا من الفساد الكائن عند سقوطها ».

وقال أبو محمد بن قتيبة : « يقال : ما طلعت الثريا ولا نأت إلا بعاهة في الناس ، والإبل وغروبها أعوه (٥) من طلوعها ».

وفى الحديث قول ثالث ـ ولعله أولى الأقوال به ـ : أن المراد بالنجم : الثريا ، وبالعاهة :

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد : « وردعه للأبخرة ». وهو تصحيف.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « صادف ». والظاهر أن النقص من الناسخ أو الطابع.

(٣) كذا بالأصل. وفى الزاد : (ص ٧٦) : « بقراط » ، ولعل كلا منهما صحيح. وليراجع.

(٤) كذا بالأصل. وفى الزاد : « لمنزلة » ، وكلاهما صحيح.

(٥) أي : أشد عاهة وإصابة. من « عاه الشئ » : إذا أصابته آفة. اه‍ ق. وهذا لفظ الأصل. وفى الزاد : « أعود » ، وهو تصحيف غريب


الآفة التي تلحق الزرع والثمار ، في فصل الشتاء وصدر فصل الربيع. فحصل الامن عليها : عند طلوع الثريا في الوقت المذكور. ولذلك نهى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن بيع الثمرة وشرائها : قبل أن يبدو صلاحها.

والمقصود الكلام على هديه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند وقوع الطاعون.

( فصل ) وقد جمع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها ، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه ، كمال التحرز منه. فإن في الدخول في الأرض التي هو بها : تعريضا (١) للبلاء ، وموافاة له في محل سلطانه ، وإعانة الانسان على نفسه. وهذا مخالف للشرع والعقل. بل تجنبه الدخول إلى أرضه : من باب الحمية التي أرشد الله سبحانه إليها ، وهى : حمية عن الأمكنة والأهوية المؤذية.

وأما نهيه عن الخروج من بلده ، ففيه معنيان :

( أحدهما ) : حمل النفوس على الثقة بالله ، والتوكل عليه ، والصبر على أقضيته والرضا بها.

( والثاني ) : ما قاله أئمة الطب : أنه يجب على كل محترز من الوباء ، أن يخرج من (٢) بدنه الرطوبات الفضلية ، ويقلل الغذاء ، ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه ، إلا الرياضة والحمام : فإنهما يجب أن يحذرا. لان البدن لا يخلو غالبا من فضل ردئ كامن فيه ، فتثيره (٣) الرياضة والحمام ، ويخلطانه بالكيموس الجيد. وذلك يجلب علة عظيمة. بل يجب عند وقوع الطاعون : السكون والدعة ، وتسكين هيجان الاخلاط. ولا يمكن الخروج من أرض الوباء والسفر منها ، إلا بحركة شديدة. وهى مضرة جدا.

هذا كلام أفضل الأطباء والمتأخرين. فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي ، وما فيه : من علاج القلب والبدن ، وصلاحهما.

فإن قيل : ففي قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لا تخرجوا فرارا منه » ، ما يبطل أن يكون

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد : تعرضا. وكل صواب.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٧٧) : « عن ».

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : « فتثير ». وهو تحريف.

(٣ ـ الطب النبوي)


أراد هذا المعنى الذي ذكرتموه ، وأنه لا يمنع الخروج لعارض ، ولا يحبس مسافرا عن سفره.

قيل : لم يقل أحد ـ طبيب ولا غيره ـ : إن الناس يتركون حركاتهم عند الطواعين ، ويصيرون بمنزلة الجمادات. وإنما ينبغي فيه التقليل (١) من الحركة بحسب الامكان. والفار منه لا موجب لحركته إلا مجرد الفرار منه ، ودعته وسكونه : أنفع لقلبه وبدنه ، وأقرب إلى توكله على الله تعالى واستسلامه لقضائه. وأما من لا يستغنى عن الحركة ـ : كالصناع ، والاجراء ، والمسافرين ، والبرد ، وغيرهم. ـ فلا يقال لهم : اتركوا حركاتكم جملة ، وإن أمروا : أن يتركوا منها ما لا حاجة لهم إليه : كحركة المسافر فارا منه. والله تعالى أعلم.

وفى المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها ، عدة حكم :

( أحدها ) : تجنب الأسباب المؤذية ، والبعد منها.

( الثاني ) : الاخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد.

( الثالث ) : أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد ، فيمرضون.

( الرابع ) : أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك ، فيحصل لهم بمجاورتهم ، من جنس أمراضهم.

وفى سنن أبي داود مرفوعا : « إن من العرق التلف » (٢). قال ابن قتيبة : العرق : مداناة الوباء ، ومداناة المرضى.

( الخامس ) : حمية النفوس عن الطيرة والعدوي ، فإنها تتأثر بهما : فإن الطيرة على من تطير بها.

وبالجملة ففي النهى عن الدخول في أرضه : الامر بالحذر والحمية ، والنهى عن التعرض لأسباب التلف. وفى النهى عن الفرار منه : الامر بالتوكل والتسليم والتفويض. فالأول تأديب وتعليم ، والثاني تفويض وتسليم.

وفى الصحيح : « أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ، حتى إذا كان بسرغ لقيه

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد : « التقلل ».

(٢) وأخرجه أيضا : أحمد ، والبيهقي في شعب الايمان عن فروة بن مسيك. اه‍ ق.


أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه ، فأخبروه : أن الوباء قد وقع بالشام. فاختلفوا ، فقال لابن عباس : ادع لي المهاجرين الأولين. قال : فدعوتهم ، فاستشارهم ، وأخبرهم : أن الوباء قد وقع بالشام. فاختلفوا ، فقال له بعضهم : خرجت لأمر ، فلا نرى أن ترجع عنه. وقال آخرون : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال عمر : ارتفعوا عنى. ثم قال : ادع لي الأنصار. فدعوتهم له ، فاستشارهم. فسلكوا سبيل المهاجرين ، واختلفوا كاختلافهم. فقال : ارتفعوا عنى. ثم قال : ادع لي من ههنا من مشيخة قريش : من مهاجرة الفتح. فدعوتهم له ، فلم يختلف عليه منهم رجلان ، قالوا : نرى أن ترجع بالناس ، ولا تقدمهم على هذا الوباء. فأذن عمر في الناس : إني مصبح على ظهر. فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح : يا أمير المؤمنين ، أفرارا من قدر الله تعالى؟!. قال : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، نعم : نفر من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى ، أرأيت : لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان : إحداهما (١) خصبة ، والاخرى جدبة ، ألست إن رعيتها الخصبة : رعيتها بقدر الله تعالى ، وإن رعيتها الجدبة : رعيتها بقدر الله؟!. قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف ـ وكان متغيبا في بعض حاجاته ـ فقال : إن عندي في هذا علما ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : « إذا كان بأرض وأنتم بها : فلا تخرجوا فرارا منه ، وإذا سمعتم به بأرض : فلا تقدموا عليه (٢) ».

فصل في هديه في داء الاستسقاء وعلاجه

في الصحيحين ـ من حديث أنس بن مالك ـ قال : « قدم رهط من عرينة وعكل ، على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاجتووا المدينة ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : لو خرجتم إلى إبل الصدقة ، فشربتم من أبوالها وألبانها. ففعلوا. فلما صحوا : عمدوا إلى الرعاة ، فقتلوهم واستاقوا الإبل ،

__________________

(١) هذا هو الأولى المناسب. وفى الأصل والزاد ( ص ٧٧ ) : « أحدهما ». ولا يبعد تحريفه.

(٢) وأخرجه أيضا : مسلم وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وأحمد. و « سرغ » ـ بفتح فسكون ـ : موضع بالشام. و « الظهر » المراد به المطايا ، لأنها تركب على ظهورها. و « العدوتان » تثنية « عدوة » ، وهما : جانبا الوادي. اه‍ ق.


وحاربوا الله ورسوله. فبعث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في آثارهم ، فأخذوا : فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وألقاهم في الشمس حتى ماتوا ».

والدليل على أن هذا المرض كان الاستسقاء ، ما رواه مسلم في صحيحه ـ في هذا الحديث ـ أنهم قالوا : « إنا اجتوينا المدينة ، فعظمت بطوننا ، وارتهشت أعضاؤنا » وذكر تمام الحديث (١).

والجوى : داء من أدواء الجوف. والاستسقاء : مرض مادي ، سببه : مادة غريبة باردة ، تتخلل الأعضاء ، فتربو لها : إما الأعضاء الظاهرة كلها ، وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والاخلاط. وأقسامه ثلاثة : لحمي وهو أصعبها ، وزقي ، وطبلي.

ولما كانت الأدوية المحتاج إليها في علاجه ، هي الأدوية الجالبة التي فيها إطلاق معتدل ، وإدرار بحسب الحاجة ـ وهذه الأمور موجودة في أبوال الإبل وألبانها ـ : أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشربها. فإن في لبن اللقاح جلاء وتليينا ، وإدرارا وتلطيفا وتفتيحا للسدد ، إذا كان أكثر رعيها الشيح والقيصوم والبابونج والأقحوان والإذخر ، وغير ذلك : من الأدوية النافعة للاستسقاء.

وهذا المرض لا يكون إلا مع آفة في الكبد خاصة (٢) ، أو مع مشاركة. وأكثرها عن السدد فيها. ولبن اللقاح العربية نافع من السدد ، لما فيه : من التفتيح والمنافع المذكورة. قال الرازي : « لبن اللقاح يشفى أوجاع الكبد ، وفساد المزاج ». وقال الإسرائيلي : « لبن اللقاح : أرق الألبان ، وأكثرها مائية وحدة ، وأقلها غذاء. فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول ، وإطلاق البطن ، وتفتيح السدد. ويدل على ذلك ملوحته اليسيرة التي فيه لافراط حرارة حيوانية بالطبع. ولذلك صار أخص الألبان بتطرية الكبد ، وتفتيح سددها ، وتحليل صلابة الطعام (٣) : إذا كان حديثا ، والنفع من الاستسقاء خاصة : إذا استعمل لحرارته التي

__________________

(١) وأخرجه أيضا : أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وأحمد. اه‍ ق.

(٢) الاستسقاء : مرض يتميز بانتفاخ البطن نتيجة لوجود سائل مصلى داخل التجويف البريتوني. وأسبابه عديدة ، أهمها : تليف الكبد نتيجة بلهارسيا ، هبوط القلب ، الدرن البريتوني ، إلخ. وعلاجه ينصب على علاج السبب له ، مع عمل عملية بذل بطن ، لاستخراج السائل في حالة الشدة. اه‍ د.

(٣) كذا بالأصل وفى الزاد (ص ٧٨) : « الطحال »!!.


يخرج بها من الضرع ، مع بول الفصيل وهو حار ، كما يخرج من الحيوان. فإن ذلك مما يزيد في ملوحته ، وتقطيعه الفضول ، وإطلاقه البطن. فإن تعذر انحداره وإطلاقه البطن : وجب أن يطلق بدواء مسهل. قال صاحب القانون : « ولا يلتفت إلى ما يقال : من أن طبيعة اللبن مضادة لعلاج الاستسقاء. قال : واعلم أن لبن النوق دواء نافع ، لما فيه : من الجلاء برفق ، وما فيه : من خاصية. وإن هذا اللبن شديد المنفعة. فلو أن إنسانا أقام عليه بدل الماء والطعام : شفى به. وقد جرب ذلك في قوم : دفعوا إلى بلاد العرب ، فقادتهم الضرورة إلى ذلك ، فعوفوا. وأنفع الأبوال : بول الجمل الاعرابى ، وهو النجيب » انتهى.

وفى القصة دليل على التداوي والتطبب : وعلى طهارة بول مأكول اللحم : فإن التداوي بالمحرمات غير جائز (١) ، ولم يؤمروا ـ مع قرب عهدهم بالاسلام ـ بغسل أفواههم ، وما أصابته ثيابهم من أبوالها ، للصلاة. وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة. وعلى مقابلة الجاني بمثل ما فعل ، فإن هؤلاء قتلوا الراعي ، وسملوا عينيه. ثبت ذلك في صحيح مسلم. وعلى قتل الجماعة وأخذ أطرافهم بالواحد. وعلى أنه إذا اجتمع في حق الجاني حد وقصاص : استوفيا معا. فإن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قطع أيديهم وأرجلهم : حدا لله على جرأتهم (٢) ، وقتلهم : لقتلهم الراعي. وعلى أن المحارب : إذا أخذ المال وقتل ، قطعت يده ورجله في مقام واحد ، وقتل. وعلى أن الجنايات : إذا تعددت تغلظت عقوباتها ، فإن هؤلاء : ارتدوا بعد إسلامهم ، وقتلوا النفس ، ومثلوا بالمقتول ، وأخذوا المال ، وجاهروا بالمحاربة. وعلى أن حكم ردة (٣) المحاربين حكم مباشرهم ، فإنه من المعلوم أن كل واحد منهم لم يباشر القتل بنفسه ، ولا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك. وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا : فلا يسقطه العفو ، ولا تعتبر فيه المكافأة. وهذا مذهب أهل المدينة ، وأحد الوجهين في مذهب أحمد : اختاره شيخنا (٤) ، وأفتى به.

__________________

(١) هذا غير متفق عليه! ودليل المجيز : أنه حينئذ لا يكون حراما.!!. اه‍ ق.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٧٨) : « حرابهم » ، ولعله مصحف عنه ، أو عن « حرابتهم ».

(٣) كذا بالأصل. وفى الزاد : « ردء ». والظاهر أن كليهما مصحف عن « ردع ». فليراجع.

(٤) هو : شيخ الاسلام ابن تيمية الحنبلي!! اه‍ ق.


فصل في هديه في علاج الجرح

في الصحيحين عن أبي حازم : « أنه سمع سهل بن سعد يسأل عما دووي به جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يوم أحد. فقال : جرح وجهه ، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه. وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تغسل الدم ، وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن. فلما رأت فاطمة الدم لا يزيد إلا كثرة : أخذت قطعة حصير فأحرقتها ، حتى إذا صارت رمادا : ألصقته بالجرح ، فاستمسك الدم » (١) برماد الحصير المعمول من البردى. وله فعل قوى في حبس الدم : لان فيه تجفيفا قويا ، وقلة لذع. فإن الأدوية القوية التجفيف ، إذا كان فيها لذع : هيجت الدم وجلبته.

وهذا الرماد إذا نفح (٢) وحده أو مع الخل في أنف الراعف : قطع رعافه.

وقال صاحب القانون : « البردى ينفع من النزف ويمنعه ، ويذر على الجراحات الطرية فيدملها. والقرطاس المصري كان قديما يعمل منه. ومزاجه بارد يابس ورماد [ ٥ ] (٣) نافع من آكلة الفم ، ويحبس نفث الدم ، ويمنع القروح الخبيثة أن تسعى ».

فصل في هديه في العلاج بشرب العسل

والحجامة والكي

في صحيح البخاري : عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : « الشفاء في ثلاث : شربة عسل ، وشرطة محجم ، وكية نار. وأنا أنهى أمتي عن الكي » (٤).

قال أبو عبد الله المازري (٥) : « الأمراض الامتلائية : إما أن تكون دموية ،

__________________

(١) وأخرجه أيضا : أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وأحمد. و « المجن » هو : الترس الذي يتقى به المقاتل. اه‍ ق.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٧٩) : « نفخ » بالمعجمة. ولعله تصحيف.

(٣) زيادة متعينة : عن الزاد.

(٤) وأخرجه أيضا : ابن ماجة ، وأحمد ، والبزار. اه‍ ق.

(٥) كذا بالزاد (ص ٧٩). وفى الأصل : « المارزي » ، وهو تصحيف.


أو صفراوية ، أو بلغمية ، أو سوداوية. فإن كانت دموية : فشفاؤها إخراج الدم. وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية : فشفاؤها بالاسهال الذي يليق بكل خلط منها. وكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نبه بالعسل على المسهلات ، وبالحجامة على الفصد. وقد قال بعض الناس : إن الفصد يدخل في قوله : شرطة محجم ، فإذا أعيا الدواء : فآخر الطب الكي. فذكره ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من (١) الأدوية : لأنه يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية ، وحيث لا ينفع الدواء المشروب. وقوله : أنا أنهى أمتي عن الكي ، وفى الحديث الآخر : وما أحب أن أكتوي (٢). إشارة إلى أن يؤخر العلاج به : حتى تدفع الضرورة إليه ، ولا يعجل التداوي به ، لما فيه : من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي ». انتهى كلامه.

وقال بعض الأطباء : الأمراض المزاجية إما أن تكون بمادة أو بغير مادة ، والمادية منها : إما حارة ، أو باردة ، أو رطبة ، أو يابسة ، أو ما تركب منها. وهذه الكيفيات الأربع منها كيفيتان فاعلتان ـ وهما : الحرارة والبرودة. ـ وكيفيتان منفعلتان ، وهما : الرطوبة واليبوسة. ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين (٣) الفاعلتين ، استصحاب كيفية منفعلة معها. وكذلك كان لكل واحد من الاخلاط الموجودة في البدن وسائر المركبات ، كيفيتان : فاعلة ومنفعلة.

فحصل من ذلك : أن أصل الأمراض المزاجية ، هي التابعة لاقوى كيفيات الاخلاط ، التي هي : الحرارة والبرودة. فجاء (٤) كلام النبوة في أصل معالجة الأمراض ـ التي هي الحارة والباردة ـ على طريق التمثيل. فإن كان المرض حارا : عالجناه بإخراج الدم : بالفصد كان ، أو بالحجامة. لان في ذلك استفراغا للمادة ، وتبريدا للمزاج (٥). وإن كان باردا :

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد : « في » ، وكل صحيح.

(٢) أخرجه : البخاري ، ومسلم ، وأحمد عن جابر. اه‍ ق.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : « الكيفيبن » ، وهو تحريف.

(٤) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٧٩) : « فحاصل ». وكلاهما صحيح.

(٥) عبارة الأصل : « وتبريدا للخراج ». وعبارة الزاد : « تبريد للمزاج ». والصواب ما أثبتناه.


عالجناه بالتسخين ، وذلك موجود في العسل. فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة الباردة ، فالعسل أيضا يفعل في ذلك لما فيه : من الانضاج والتقطيع ، والتلطيف ، والجلاء ، والتليين. فيحصل بذلك استفراغ تلك المادة : برفق ، وأمن من نكاية المسهلات القوية.

وأما الكي : فلان كل واحد من الأمراض المادية ، إما أن يكون حادا (١) : فيكون سريع الافضاء (٢) لاحد الطرفين ، فلا يحتاج إليه فيه. وإما أن يكون مزمنا ، وأفضل علاجه بعد الاستفراغ : الكي في الأعضاء التي يجوز فيها الكي. لأنه لا يكون مزمنا إلا عن مادة باردة غليظة : قد رسخت في العضو ، وأفسدت مزاجه ، وأحالت جميع ما يتصل إليه إلى مشابهة جوهرها ، فيشتعل (٣) في ذلك العضو. فيستخرج بالكي تلك المادة ، من ذلك المكان الذي هي (٤) فيه ، بإفناء الجزء الناري الموجود : بالكي لتلك المادة.

فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخذ معالجة الأمراض المادية جميعها ، كما استنبطنا معالجة الأمراض الساذجة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إن شدة الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها بالماء ».

( فصل ) وأما الحجامة ، ففي سنن ابن ماجة ـ من حديث جبارة (٥) بن المغلس ، وهو ضعيف ، عن كثير بن سليم ـ قال : سمعت أنس بن مالك ، يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ما مررت ليلة أسرى بي بملا ، إلا قالوا : يا محمد ، مر أمتك بالحجامة » (٦). وروى الترمذي في جامعه ـ من حديث ابن عباس ـ هذا الحديث ، وقال فيه : « عليك بالحجامة يا محمد » (٧).

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد. وهو صحيح.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد : « الانقضاء ». ولعله تحريف.

(٣) عبارة الأصل : « ما يتصل ... فيستعمل ». وعبارة الزاد (ص ٨٠) : « ما يصل .. فيشتعل ».

(٤) كذا بالأصل أي : المادة. وفى الزاد : « هو ». وهو صحيح : من حيث إن المادة مرض.

(٥) كذا بالأصل. وفى الزاد : (جنادة). وهو تصحيف. انظر : تهذيب التهذيب (٢ / ٥٧) ، والخلاصة (ص ٥٥).

(٦) فيه غير جبارة ـ الذي ضعفه ـ ضعيف آخر ، هو : كثير بن سليم. اه‍ ق.

(٧) أخرجه : أحمد ، والحاكم. وفى إسناده : عباد بن منصور ، وهو ضعيف. اه‍ ق.


وفى الصحيحين ـ من حديث طاوس ، عن ابن عباس : ـ « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، احتجم ، وأعطى الحجام أجره » (١).

وفى الصحيحين أيضا ـ عن حميد الطويل ، عن أنس ـ : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، « حجمه أبو طيبة : فأمر له بصاعين من طعام ، وكلم مواليه : فخفضوا (٢) عنه من ضريبته ، وقال : خير ما تداويتم به الحجامة » (٣).

وفى جامع الترمذي : عن عباد بن منصور ، قال : سمعت عكرمة يقول : « كان لابن عباس غلمة ثلاثة حجامون ، فكان اثنان يغلان عليه وعلى أهله ، وواحد لحجمه وحجم أهله. قال : وقال ابن عباس : قال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم العبد الحجام : يذهب الدم ، ويجفف الصلب ، ويجلو عن البصر. وقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث عرج به ـ ما مر على ملا من الملائكة ، إلا قالوا : عليك بالحجامة. وقال : إن خير ما يحتجمون فيه يوم سبع عشرة ، ويوم تسع عشرة ، ويوم إحدى وعشرين. وقال : إن خير ما تداويتم به السعوط ، واللدود ، والحجامة ، والمشي. وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لد ، فقال : من لدني؟ فكلهم أمسكوا. فقال : لا يبقى أحد في البيت إلا لد ، إلا العباس ». قال : هذا حديث غريب. ورواه ابن ماجة (٤).

( فصل ) وأما منافع الحجامة : فإنها تنقى سطح البدن أكثر من الفصد ، والفصد لأعماق البدن أفضل. والحجامة تستخرج الدم من نواحي الجلد.

قلت : والتحقيق في أمرها وأمر الفصد : أنهما يختلفان باختلاف الزمان والمكان ، والأسنان والأمزجة. والبلاد الحارة ، والأزمنة الحارة ، والأمزجة الحارة التي دم أصحابها

__________________

(١) وأخرجه أيضا : أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة. اه‍ ق.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٨٠) : « فخففوا ».

(٣) وأخرجه أيضا : النسائي ، وأحمد. اه‍ ق.

(٤) ورواه أيضا : أحمد ، والحاكم. وفى سنده : عباد بن منصور ، وهو ضعيف. ومعنى « يغلان » : يعملان للناس بالغلة! وهى هنا : الأجرة!. و « السعوط » ( بفتح أوله ) هو : ما يجعل من الدواء في الانف و « اللدود » (بفتح أوله) هو من الأدوية : ما يصب في أحد جانبي فم المريض ، وهما لديداه. هكذا قيل! وسيأتى للمصنف تفسيره بذلك!. اه‍ ق.


في غاية النضج ـ الحجامة فيها أنفع من الفصد بكثير : فإن الدم ينضج ويروق ويخرج إلى سطح الجسد الداخل ، فتخرج الحجامة ما لا يخرجه الفصد. ولذلك كانت أنفع للصبيان من الفصد ، ولمن لا يقوى على الفصد.

وقد نص الأطباء : على أن البلاد الحارة الحجامة فيها أنفع وأفضل من الفصد ، وتستحب في وسط الشهر (١) وبعد وسطه ، وبالجملة : في الربع الثالث من أرباع الشهر. لان الدم في أول الشهر لم يكن بعد قد هاج وتبيغ (٢) ، وفى آخره : يكون قد سكن. وأما في وسطه وبعيده : فيكون في نهاية التزيد.

قال صاحب القانون : « ويأمر باستعمال الحجامة لا في أول الشهر : لان الاخلاط لا تكون قد تحركت وهاجت ، ولا في آخره : لأنها تكون قد نقصت. بل في وسط الشهر : حين تكون الاخلاط هائجة بالغة في تزايدها ، لتزايد النور في جرم القمر. وقد روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : خير ما تداويتم به : الحجامة ، والفصد (٣). وفى حديث : خير الدواء : الحجامة والفصاد ». انتهى.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « خير ما تداويتم به الحجامة » ، إشارة إلى أهل الحجاز والبلاد الحارة : لان دماءهم رقيقة ، وهى أميل إلى ظاهر أبدانهم ، لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد ، واجتماعها في نواحي الجلد ، ولان مسام أبدانهم واسعة ، وقواهم متخلخلة. ففي الفصد لهم خطر. والحجامة تفرق اتصالي إرادي : يتبعه استفراغ كلي من العروق ، وخاصة العروق

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : « وسطه ». وهو تحريف.

(٢) أي : هاج ، وكثر! وسيأتى للمصنف تفسيره بالأول!. اه‍ ق.

(٣) الحجامات على نوعين : حجامات جافة ، وحجامات رطبة. وتختلف الرطبة عن الجافة : بالتشريط قبل وضع الحجامات لامتصاص بعض الدم من مكان المرض. وتستعمل الحجامات الجافة إلى الآن : لتخفيف الآلام في العضلات ، خصوصا عضلات الظهر ، نتيجة إصاباتها بالروماتزم. أما الحجامات الرطبة ، فتستعمل في بعض حالات هبوط القلب المصحوبة بارتشاح في الرئتين ، وتعمل على ظهر القفص الصدري.

أما الفصد ، فيستعمل الآن : في حالات هبوط القلب الشديد المصحوب بزرقة في الشفتين ، وعسر شديد في التنفس. ويعمل الفصد بواسطة إبرة واسعة القناة ، تدخل في وريد ذراع المريض. ويأخذ من ٣٠٠ سم إلى ٥٠٠ سم ٣. وهذه العملية البسيطة أنقذت حياة كثير من مرض هبوط القلب ، في الحالات الأخيرة. اه‍ د.


التي لا تفصد كثيرا ، ولفصد كل واحد منها نفع خاص. ففصد الباسليق : ينفع من حرارة الكبد والطحال والأورام الكائنة فيهما من الدم ، وينفع من أورام الرئة ، وينفع الشوصة وذات الجنب ، وجميع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك. وفصد الأكحل ( ينفع ) (١) من الامتلاء العارض في جميع البدن ( : إذا كان دمويا. وكذلك : إذا كان الدم قد فسد في جميع البدن ) (٢). وفصد القفال ينفع من العلل العارضة في الرأس والرقبة ، من كثرة الدم أو فساده. وفصد الودجين ينفع من وجع الطحال والربو والبهو ، ووجع الجبين.

والحجامة على الكاهل تنفع من وجع المنكب والحلق. والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس وأجزائه : كالوجه والأسنان والأذنين والعينين والأنف والحلق ، إذا كان حدوث ذلك عن كثرة الدم ، أو فساده ، أو عنهما جميعا.

قال أنس رضى الله تعالى عنه : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل » (٣).

وفى الصحيحين عنه : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتجم ثلاثا : واحدة على كاهله ، واثنتين على الأخدعين (٤) ».

وفى الصحيح عنه : « أنه احتجم ـ وهو محرم ـ في رأسه : لصداع كان به » (٥).

__________________

(١) زيادة عن الزاد (ص ٨١).

(٢) زيادة متعينة : عن الزاد (ص ٨١).

(٣) حديث أنس هذا ليس بالصحيحين!!!. وإنما أخرجه : أبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجة ، وأحمد ، والحاكم. ونص أبى داود : « احتجم ثلاثا في الأخدعين والكاهل » ، وعند الباقين بغير ذكر العدد. وعلة هذا السهو وأمثاله!! من الإمام ابن القيم ـ وهو قليل ـ : أنه رحمه الله ألف كتابه الضخم « زاد المعاد ، في هدى خير العباد » ـ الذي هذا الكتاب جزء منه ـ من حفظه : وهو في سفر!!. اه‍ ق.

(٤) هذا الحديث ـ أيضا ـ ليس بالصحيحين عن أنس!! ، وإنما هو فيهما : عن ابن عباس. اه‍ ق.

(٥) وهذا ـ أيضا ـ إنما أخرجه : أبو داود ، والترمذي في الشمائل ، والنسائي ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. ونصه : « احتجم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو محرم ، على ظهر القدم ، من وجع » ، وفى بعضها : « من نساء كان به ». اه‍ ق.


وفى سنن ابن ماجة ، عن علي : « نزل جبريل على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بحجامة الأخدعين والكاهل » (١).

وفى سنن أبي داود ـ من حديث جابر ـ : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، احتجم في وركه من ونى كان به » (٢).

( فصل ) واختلف الأطباء في الحجامة على نقرة القفا ، وهى : القمحدوة.

وذكر أبو نعيم ـ في كتاب الطب النبوي ـ حديثا مرفوعا : « عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة ، فإنها تشفى من خمسة أدواء » ذكر منها الجذام. وفى حديث آخر : « عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة ، فإنها شفاء من اثنين وسبعين داء ».

فطائفة منهم استحسنته ، وقالت : إنها تنفع في جحوظ (٣) العين والنتوء العارض فيها ، وكثير من أمراضها ، ومن ثقل الحاجبين والجفن ، وتنفع من جربه.

وروى : أن أحمد بن حنبل احتاج إليها ، فاحتجم في جانبي قفاه ، ولم يحتجم في النقرة.

وممن كرهها صاحب القانون ، وقال : « إنها تورث النسيان حقا ، كما قال سيدنا ومولانا وصاحب شريعتنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن مؤخر الدماغ موضع الحفظ ، والحجامة تذهبه » انتهى كلامه.

ورد عليه آخرون ، وقالوا : الحديث لا يثبت ، وإن ثبت : فالحجامة إنما تضعف مؤخر الدماغ ، إذا استعملت بغير ضرورة. فأما إذا استعملت لغلبة الدم عليها : فإنها نافعة له طبا وشرعا ، فقد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه احتجم في عدة أماكن من قفاه ، بحسب ما اقتضاه الحال في ذلك ، واحتجم في غير القفا بحسب ما دعت إليه حاجته.

( فصل ) والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم ، إذا استعملت في وقتها ، وتنقى الرأس والكفين.

__________________

(١) في سند هذا الحديث : أصبغ بن نباتة ، وهو ضعيف. اه‍ ق.

(٢) وأخرجه أيضا : النسائي ، وابن ماجة. و « الونى » هو : التعب. اه‍ ق.

(٣) في الأصل : « في جحظ ». وفى الزاد (ص ٨١) : « من جحظ ». والظاهر أنه محرف عن « جحوظ ». انظر : النهاية (١ / ١٤٥) ، والمختار.


والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصد الصافن ، وهو : عرق عظيم عند الكعب. وتنفع من قروح الفخذين والساقين (١) ، وانقطاع الطمث ، والحكة العارضة في الأنثيين.

والحجامة في أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ وجربه وبثوره ، ومن النقرس والبواسير والفيل وحكة الظهر.

فصل في هديه في أوقات الحجامة

روى الترمذي في جامعه ـ من حديث ابن عباس ، يرفعه ـ : إن خير ما تحتجمون فيه يوم سابع عشرة أو تاسع عشرة ، ويوم إحدى وعشرين » (٢).

وفيه عن أنس : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يحتجم في الأخدعين والكاهل ، وكان يحتجم لسبعة عشر ، وتسعة عشر ، وفى إحدى وعشرين (٣) ».

وفى سنن ابن ماجة ـ عن أنس مرفوعا ـ : « من أراد الحجامة : فليتحر سبعة عشر ، أو تسعة عشر ، أو إحدى وعشرين. ولا يتبيغ بأحدكم الدم ، فيقتله (٤) ».

وفى سنن أبي داود ـ من حديث أبي هريرة مرفوعا ـ : « من احتجم لسبع عشرة ، أو تسع عشرة ، أو إحدى وعشرين ـ : كانت شفاء من كل داء » (٥). وهذا معناه : من كل داء سببه غلبة الدم.

وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء : أن الحجامة ـ في النصف الثاني ، وما يليه من الربع الثالث من أرباعه ـ أنفع من أوله وآخره ، وإذا استعملت عند الحاجة إليها ، نفعت أي وقت كان : من أول الشهر وآخره.

__________________

(١) كذا في الزاد. وهو المناسب. وفى الأصل : « والساق ».

(٢) سبق هذا الحديث ضمن حديث طويل : في سنده عباد بن منصور ، وهو ضعيف. اه‍ ق.

(٣) وأخرجه : أحمد أيضا ، وعلل. اه‍ ق.

(٤) سنده ضعيف. وسبق معنى « التبيغ » ، وهو : هيجان الدم!!. وسيأتى تفسيره به!!. اه‍ ق.

(٥) في سنده : سعيد بن عبد الرحمن الجمحي ، وهو ضعيف. اه‍ ق.


قال الخلال : أخبرني عصمة بن عصام ، قال : حدثنا حنبل ، قال : كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يحتجم أي وقت هاج به الدم ، وأي ساعة كانت.

وقال صاحب القانون : «أوقاتها في النهار : الساعة الثانية أو الثالثة. ويجب توقيتها بعد الحمام ، إلا في من دمه غليظ : فيجب أن يستحم ، ثم يحم ساعة ، ثم يحتجم» انتهى.

وتكره عندهم الحجامة على الشبع : فإنها ربما أورثت سددا وأمراضا رديئة ، ولا سيما : إذا كان الغذاء رديئا غليظا.

وفى أثر : « الحجامة على الريق دواء ، وعلى الشبع داء ، وفى سبعة عشر من الشهر شفاء ».

واختيار هذه الأوقات للحجامة : فيما إذا كانت على سبيل الاحتياط والتحرز (١) من الأذى ، وحفظا للصحة. وأما في مداواة الأمراض : فحيثما وجد الاحتياج إليها ، وجب استعمالها.

وفى قوله : « لا يتبيغ بأحدكم الدم ، فيقتله » ، دلالة على ذلك. يعنى : لئلا يتبيغ ، فحذف حرف الجر مع « أن » ، ثم حذفت « أن ». و « التبيغ » : الهيج ، وهو مقلوب

البغى. وهو بمعناه : فإنه بغى الدم وهيجانه. وقد تقدم : أن الإمام أحمد كان يحتجم أي وقت احتاج من الشهر.

( فصل ) وأما اختيار أيام الأسبوع للحجامة ، فقال الخلال في جامعه : « أخبرنا حرب ابن إسماعيل ، قال : قلت لأحمد : تكره الحجامة في شئ من الأيام؟ قال : قد جاء في الأربعاء والسبت ». وفيه عن الحسين بن حسان : « أنه سأل أبا عبد الله عن الحجامة : أي وقت تكره؟ فقال : في يوم السبت ، ويوم الأربعاء ، ويقولون : يوم الجمعة ».

وروى الخلال ـ عن أبي سلمة وأبى سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، مرفوعا ـ : « من احتجم يوم الأربعاء ، أو يوم السبت ـ فأصابه بياض أو برص ـ : فلا يلومن إلا نفسه (٢) ».

وقال الخلال : أخبرنا محمد بن علي بن جعفر : أن يعقوب بن بختان حدثهم ، قال :

__________________

(١) كذا بالزاد ( ص ٨٢ ). وفى الأصل : « والتحزر » ، وهو تصحيف.

(٢) سنده ضعيف. اه‍ ق.


« سئل أحمد عن النورة والحجامة يوم السبت ويوم الأربعاء؟ فكرهها وقال : بلغني عن رجل أنه تنور واحتجم (يعنى : يوم الأربعاء) ، فأصابه البرص. فقلت له (١) : كأنه تهاون بالحديث. قال : نعم ».

وفى كتاب « الافراد » للدار قطني ـ من حديث نافع ـ قال : قال لي عبد الله بن عمر : « تبيغ بي الدم ، فابغ لي حجاما ، ولا يكن صبيا ، ولا شيخا كبيرا. فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : الحجامة تزيد الحافظ حفظا ، والعاقل عقلا ، فاحتجموا على اسم الله تعالى ، ولا تحتجموا : الخميس والجمعة والسبت والاحد ، واحتجموا الاثنين. وما كان من جذام ولا برص ، إلا نزل يوم الأربعاء (٢) ». قال الدارقطني : تفرد به زياد ابن يحيى ، وقد رواه أيوب عن نافع ، وقال فيه : « واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء ، ولا تحتجموا يوم الأربعاء ».

وقد روى أبو داود في سننه ـ من حديث أبي بكرة ـ « أنه كان يكره الحجامة يوم الثلاثاء ، وقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : يوم الثلاثاء : يوم الدم ، وفيه ساعة لا يرقأ فيه (٣) الدم (٤) ».

( فصل ) وفى ضمن هذه الأحاديث المتقدمة : استحباب التداوي ، واستحباب الحجامة ، وأنها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحال ، وجواز احتجام المحرم : وإن آل إلى قطع شئ من الشعر ، فإن ذلك جائز. وفى وجوب الفدية عليه نظر ، ولا يقوى الوجوب. وجواز احتجام الصائم : فإن في صحيح البخاري : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتجم

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٨٢) : « قلت ».

(٢) ورواه ابن ماجة من طريقين ضعفهما ، والحاكم ـ كالدار قطني ـ بالافراد : بأسانيد ضعيفة. اه‍ ق.

(٣) كذا بالأصل. أي : في الساعة بمعنى الوقت. وفى الزاد : (فيها). وهو ظاهر.

(٤) سنده أيضا ضعيف ، وكل هذه الأحاديث ـ التي ذكرت فيها الأيام ـ ضعيفة. فقد قال الحافظ في الفتح : تقل الخلال عن أحمد أنه كره الحجامة في هذه الأيام ، وإن كان الحديث لم يثبت ، وقال الفيروز بادي في سفر السعادة : وباب الحجامة ، واختيارها في بعض الأيام ، وكراهتها في بعضها ـ ما ثبت فيه شئ. وكفى بقولهما حجة. اه‍ ق.


وهو صائم » ، ولكن : هل يفطر بذلك؟ أم لا؟ مسألة أخرى ، الصواب : الفطر بالحجامة ، لصحته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من غير معارض. وأصح ما يعارض به : حديث حجامته وهو صائم. ولكن : لا يدل على عدم الفطر ، إلا بعد أربعة أمور : ( أحدها ) : أن الصوم كان فرضا. ( الثاني ) : أنه كان مقيما. ( الثالث ) : أنه لم يكن به مرض احتاج معه إلى الحجامة. ( الرابع ) : أن هذا الحديث متأخر عن قوله : « أفطر الحاجم والمحجوم ». فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع : أمكن الاستدلال بفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على بقاء الصوم مع الحجامة. وإلا : فما المانع أن يكون الصوم نفلا يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها ، أو من رمضان لكنه في السفر ، أو من رمضان في الحضر لكن دعت الحاجة إليها (١) : كما تدعو حاجة من به مرض إلى الفطر ، أو يكون فرضا من رمضان في الحضر من غير حاجة إليها ، لكنه مبقى على الأصل. وقوله : « أفطر الحاجم والمحجوم » ، ناقل ومتأخر. فتعين المصير إليه. ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدمات الأربع ، فكيف بإثباتها كلها؟!.

وفيها : دليل على استئجار الطبيب وغيره ، من غير عقد إجارة ، بل يعطيه أجرة المثل ، أو ما يرضيه.

وفيها : دليل على جواز التكسب بصناعة الحجامة ، وإن كان لا يطيب للحر أكل أجرته من غير تحريم عليه. فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أعطاه أجره ، ولم يمنعه من أكله. وتسميته إياه خبيثا : كتسميته للثوم والبصل خبيثين ، ولم يلزم من ذلك تحريمهما.

وفيها : دليل على جواز ضرب الرجل الخراج على عبده كل يوم شيئا معلوما ، بقدر طاقته ، وأن للعبد أن يتصرف فيما زاد على خراجه. ولو منع من التصرف فيه (٢) : لكان كسبه كله خراجا ، ولم يكن لتقديره فائدة. بل ما زاد على خراجه ، فهو تمليك من سيده له : يتصرف فيه كما أراد. والله أعلم.

__________________

(١) هذه الكلمة لم ترد في الزاد : ( ص ٨٣ ). وذكرها أولى من حذفها.

(٢) لم ترد هذه الكلمة في الزاد : ( ص ٨٣ ).


فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قطع العروق والكي

ثبت في الصحيح ـ من حديث جابر بن عبد الله ـ : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى أبى ابن كعب طبيبا ، فقطع له عرقا ، وكواه عليه (١) ».

ولما رمى سعد بن معاذ في أكحله : حسمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ورمت : فحسمه ثانية. و ( الحسم ) هو : الكي. وفى طريق آخر : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كوى سعد بن معاذ في أكحله بمشقص. ثم حسمه سعد بن معاذ ، أو غيره من أصحابه ». وفى لفظ آخر : « أن رجلا من الأنصار رمى في أكحله بمشقص ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكوى » (٢).

وقال أبو عبيد : « وقد أتى (٣) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، برجل نعت له الكي ، فقال : اكووه (أ) وارضفوه » (٤). قال أبو عبيدة : الرضف : الحجارة تسخن ثم تكمد بها.

وقال الفضل بن دكين : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كواه في أكحله » (٥).

وفى صحيح البخاري ـ من حديث أنس ـ : « أنه كوى من ذات الجنب : والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حي ».

وفى الترمذي عن أنس : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كوى أسعد بن زرارة من الشوكة » (٦).

وقد تقدم الحديث المتفق عليه ، وفيه « وما أحب أن أكتوي » ، وفى لفظ آخر : « وأنا أنهى أمتي عن الكي ».

وفى جامع الترمذي وغيره ـ عن عمران بن حصين ـ : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نهى عن

__________________

(١) أخرجه : مسلم ، وابن ماجة ، وأحمد ، والحاكم. اه‍ ق.

(٢) هذه الأحاديث المتشابهة أخرجها : مسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، وأحمد ، والحاكم عن جابر. اه‍ ق.

(٣) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٨٣) : « وفد إلى ». والظاهر؟؟ أنه تصحيف. انظر : النهاية (٢ / ٨٥) ، والزيادة الآتية عنها.

(٤) أخرجه الحاكم عن ابن مسعود. اه‍ ق.

(٥) مروى ضمن الروايات السابقة للحديث ، في مسلم وغيره ، عن جابر. اه‍ ق.

(٦) وأخرجه أيضا : الحاكم. اه‍ ق.

(٤ ـ الطب النبوي)


الكي (١). قال : فابتلينا فاكتوينا ، فما أفلحنا ، ولا أنجحنا » ، وفي لفظ « نهينا عن الكي » وقال : « فما أفلحنا ولا أبحعنا (٢) ».

قال الخطابي : « إنما كوى سعدا ليرقأ الدم من جرحه ، وخاف عليه أن ينزف فيهلك. والكي مستعمل في هذا الباب : كما يكوى من تقطع يده أو رجله. وأما النهى عن الكي ، فهو : أن يكتوى طلبا للشفاء. وكانوا يعتقدون : أنه متى لم يكتو هلك ، فنهاهم عنه : لأجل هذه النية. وقيل : إنما نهى عنه عمران بن حصين خاصة ، لأنه كان به ناصور وكان موضعه خطرا ، فنهى عن كيه. فيشبه أن يكون النهى متصرفا (٣) إلى الموضع المخوف منه. والله تعالى أعلم. وقال ابن قتيبة : الكي جنسان : كي الصحيح لئلا يعتل ، فهذا الذي قيل فيه : « لم يتوكل من اكتوى » ، لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه. والثاني : كي الجرح إذا نغل ، والعضو إذا قطع. ففي هذا الشفاء. وأما إذا كان الكي للتداوي : الذي يجوز أن ينجح ، ويجوز أن لا ينجح ، فإنه إلى الكراهة أقرب ». انتهى.

وثبت في الصحيح ـ من حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب : « أنهم الذين لا يسترقون ، ولا يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون » (٤).

فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع : ( أحدها ) : فعله. ( والثاني ) : عدم محبته له. ( والثالث ) : الثناء على من تركه. ( والرابع ) : النهى عنه.

ولا تعارض بينها ـ بحمد الله تعالى ـ : فإن فعله يدل على جوازه ، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه. وأما الثناء على تاركه : فيدل على أن تركه أولى وأفضل. وأما النهى عنه : فعلى سبيل الاختيار والكراهة ، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه ، بل يفعل خوفا من حدوث الداء. والله أعلم.

__________________

(١) وأخرجه أيضا : أبو داود ، وأحمد. وسنده قوى. اه‍ ق.

(٢) بالأصل : « أنجحنا » ، وهو تصحيف. وفى الزاد ـ في الموضعين ـ : « أنجعنا » ، وفى أحدهما تصحيف.

(٣) كذا بالأصل وفى الزاد (ص ٨٣) : « منصرفا » بالنون.

(٤) أخرجه : البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وأحمد عن ابن عباس. اه‍ ق.


فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الصرع

أخرجا في الصحيحين ـ من حديث عطاء بن أبي رباح ـ قال : قال ابن عباس : « ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت : بلى. قال : هذه المرأة السوداء ، أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إني أصرع ، وإني أتكشف ، فادع الله لي. فقال : إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك. فقالت : أصبر. قالت : فإني أتكشف ، فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها » (١).

قلت : الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية ، وصرع من الاخلاط الرديئة. والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء : في سببه وعلاجه.

وأما صرع الأرواح : فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ، ولا يدفعونه. ويعترفون : بأن علاجه مقابلة (٢) الأرواح الشريفة الخيرة العلوية ، لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة ، فتدفع (٣) آثارها ، وتعارض أفعالها وتبطلها. وقد نص على ذلك أبقراط في بعض كتبه ، فذكر بعض علاج الصرع ، وقال : « هذا إنما ينفع في الصرع الذي سببه : الاخلاط والمادة. وأما الصرع الذي يكون من الأرواح ، فلا ينفع فيه هذا العلاج ».

أما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة ـ فأولئك ينكرون صرع الأرواح ، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع. وليس معهم إلا الجهل. وإلا : فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك ، والحس والوجود شاهد به. وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الاخلاط ، هو صادق في بعض أقسامه ، لا في كلها.

وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع : المرض الإلهي ، وقالوا : إنه من الأرواح.

وأما جالينوس وغيره ، فتأولوا عليهم هذه التسمية ، وقالوا : إنما سموها (٤) بالمرض

__________________

(١) ورواه أيضا : النسائي ، وأحمد ، والبزار. اه‍ ق.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٨٤) : « بمقابلة ». وكلاهما صحيح.

(٣) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٨٤) : « فتدافع .. بقراط ».

(٤) كذا بالأصل. أي : الصرع الذي هو علة. وفى الزاد : سموه. وهو ظاهر.


الإلهي ، لكون هذه العلة تحدث في الرأس ، فتضر بالجزء الإلهي الظاهر (١) الذي مسكنه الدماغ.

وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح ، وأحكامها ، وتأثيراتها.

وجاءت زنادقة الأطباء : فلم يثبتوا إلا صرع الاخلاط وحده.

ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها ، يضحك من جهل هؤلاء ، وضعف عقولهم.

وعلاج هذا النوع يكون بأمرين : أمر من جهة المصروع ، وأمر من جهة المعالج.

فالذي من جهة المصروع ، يكون : بقوة نفسه ، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها ، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان. فإن هذا نوع محاربة ، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا لامرين : أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا ، وأن يكون الساعد قويا. فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل ، فكيف إذا عدم الأمران جميعا : يكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ، ولا سلاح له؟!

والثاني من جهة المعالج : بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا ، حتى إن من المعالجين من يكتفى بقوله : اخرج منه ، أو يقول باسم الله ، أو يقول : (٢) لا حول ولا قوة إلا بالله.

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يقول : « اخرج عدو الله ، أنا رسول الله » (٣).

وشاهدت شيخنا : يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ، ويقول : قال لك الشيخ : اخرجي فإن هذا لا يحل لك. فيفيق المصروع. وربما خاطبها بنفسه. وربما كانت الروح ماردة : فيخرجها بالضرب ، فيفيق المصروع ، ولا يحس بألم. وقد شاهدنا ـ نحن وغيرنا ـ منه ذلك مرارا.

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد : « الطاهر » ، وهو تصحيف.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد : « أو بقول ». وكلاهما صحيح ، وإن كان ما في الأصل أحسن.

(٣) أخرجه أبو داود : عن أم أبان. اه‍ ق.


وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المصروع : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ، وأنكم إلينا لا ترجعون؟! ).

وحدثني : « أنه قرأها مرة في أذن المصروع ، فقالت الروح : نعم ، ومد بها صوته. قال : فأخذت له عصا ، وضربته بها في عروق عنقه ، حتى كلت (١) يداي من الضرب. ولم يشك الحاضرون : بأنه يموت لذلك الضرب. ففي أثناء الضرب ، قالت : أنا أحبه. فقلت لها : هو لا يحبك. قالت : أنا أريد أن أحج به. فقلت لها : هو لا يريد أن يحج معك. فقالت : أنا أدعه كرامة لك. ( قال ) قلت : لا ، ولكن : طاعة لله ولرسوله. قالت : فأنا أخرج منه. قال : فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا ، وقال : ما جاء بي إلى حضرة الشيخ ، قالوا له : وهذا الضرب كله؟ فقال : وعلى أي شئ يضربني الشيخ ، ولم أذنب؟ ولم يشعر بأنه وقع به الضرب (٢) البتة » (٣).

وكان يعالج بآية الكرسي ، وكان يأمر بكثرة قراة المصروع ومن يعالجه بها ، وبقراءة المعوذتين.

وبالجملة : فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة. وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله ، تكون : من جهة قلة دينهم ، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ ، والتحصنات النبوية والايمانية. فتلقى الروح الخبيثة الرجل ، أعزل لا سلاح معه ، وربما كان عريانا : فيؤثر فيه هذا.

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٨٥) : « تخلت ». وكل صحيح ، وإن كان ما في الأصل أنسب.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد : « ضرب ».

(٣) الصرع هو : مرض عصبي ينتج من تهيج خلايا المخ ، ويمتاز بحصول نوبات تشنجات في جميع أعضاء الجسم ، وخروج ريم أحيانا ما يكون مدمما : نتيجة قرص اللسان بالأسنان. ويعقب التشنجات تقلص في جميع عضلات الجسم لمدة قصيرة يتبعها ارتخاء العضلات ، ودخول المريض في نوم عميق. ويكون المريض أثناء النوم غائبا تماما عن وعيه : لا يدرى إطلاقا ما حدث. وعلاجه : إعطاء مهدئات.

ولكن بعض الحالات النفسية ـ المسماة بالهستريا العصبية ـ تشابه في أعراضها الظاهرة الصرع : مما لا تخفى على فطنة الأطباء. ففي هذه الحالات الأخيرة ، قد يفيد الضرب أو التعذيب أو العقاب : كعلاج لمثل هذه الحالات. اه‍ د.


ولو كشف الغطاء : لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة ، وهى في أسرها وقبضتها : تسوقها حيث شاءت ، ولا يمكنها الامتناع عنها ، ولا مخالفتها ، وبها الصرع الأعظم : الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة. فهناك يتحقق : أنه كان هو المصروع حقيقة. وبالله المستعان.

وعلاج هذا الصرع : باقتران العقل الصحيح إلى الايمان بما جاءت به الرسل ، وأن تكون الجنة والنار نصب عينه ، وقبلة قلبه ، ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثولات (١) والآفات بهم ، ووقوعها خلال ديارهم : كمواقع القطر ، وهم صرعى لا يفيقون.

وما أشد أعداء هذا الصرع. ولكن لما عمت البلية به بحيث (٢) ينظر الانسان لا يرى إلا مصروعا ، لم يصر مستغربا ولا مستنكرا. بل صار لكثرة المصروعين ، عين المستنكر المستغرب خلافه.

فإذا أراد الله بعبد حيرا : أفاق من هذه الصرعة ، ونظر إلى أبناء الدنيا : مصروعين حوله يمينا وشمالا ، على اختلاف طبقاتهم. فمنهم : من أطبق به الجنون ، ومنهم : من يفيق أحيانا قليلة ويعود إلى جنونه ، ومنهم : من يجن مرة ويفيق أخرى (٣) ، فإذا أفاق : عمل عمل أهل الإفاقة والعقل ، ثم يعاوده الصرع : فيقع في التخبيط.

( فصل ) وأما صرع الاخلاط (٤) فهو : علة تمنع الأعضاء النفيسة عن الافعال والحركة والانتصاب ، منعا غير تام. وسببه : خلط غليظ لزج ، يسد منافذ بطون الدماغ سدة غير تامة ، فيمتنع نفوذ الحس والحركة ، فيه وفى الأعضاء ، نفوذا ما من غير انقطاع بالكلية. وقد يكون لأسباب أخر : كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح ، أو بخار

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد : (ص ٨٥). وهود « المثلات » ( بفتح الميم ) جمع « مثلة » ( بالفتح فالضم ) العقوبات. وإن كان اللفظ الثاني هو المشهور أو الذي اقتصرت عليه بعض المعاجم. انظر : القاموس (٤ / ٤٩) ، والمختار؟؟ (٦١٥).

(٢) هذا إلخ عبارة الأصل. وفى الزاد : « بحيث لا يرى إلا مصروعا ».

(٣) كذا بالأصل. وعبارة الزاد : « ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى ».

(٤) كذا بالأصل. وفى الزاد : « الاختلاط » ، وهو تحريف.


ردئ يرتفع إليه من بعض الأعضاء ، أو كيفية لاذعة. فينقبض الدماغ لدفع المؤذى ، فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء ، ولا يمكن أن يبقى الانسان معه منتصبا ، بل يسقط ويظهر في فيه الزبد غالبا.

وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادثة (١) : باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة. وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة : باعتبار طول مكثها ، وعسر برئها ، لا سيما إن جاوز في السن خمسا وعشرين سنة. وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره. فإن صرع هؤلاء يكون لازما. قال أبقراط : « إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا ».

إذا عرف هذا : فهذه المرأة التي جاء الحديث : أنها كانت تصرع وتنكشف ـ يجوز : أن يكون صرعها من هذا النوع ، فوعدها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجنة : بصبرها على هذا المرض ، ودعا لها : أن لا تنكشف ، وخيرها بين الصبر والجنة ، وبين الدعاء لها بالشفاء : من غير ضمان ، فاختارت الصبر والجنة.

وفى ذلك : دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي ، وأن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله ، يفعل ما لا يناله علاج الأطباء ، وأن تأثيره وفعله ، وتأثر الطبيعة عنه وانفعالها ـ أعظم من تأثير الأدوية البدنية ، وانفعال الطبيعة عنها. وقد جربنا هذا مرارا نحن وغيرنا.

وعقلاء الأطباء معترفون : بأن في فعل القوى النفسية وانفعالاتها ، في شفاء الأمراض ، عجائب. وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم وسفلتهم وجهالهم.

والظاهر : أن صرع ( هذه ) (٢) المرأة كان من هذا النوع. ويجوز : أن يكون من جهة الأرواح ، ويكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد خيرها بين الصبر على ذلك مع الجنة ، وبين الدعاء لها بالشفاء ، فاختارت الصبر والستر. والله أعلم.

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد : « الحادة » ، ولعله تحريف.

(٢) زيادة حسنة : عن الزاد (ص ٨٦).


فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج عرق النساء

روى ابن ماجة في سننه ـ من حديث محمد بن سيرين عن أنس بن مالك ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : « دواء عرق النساء : ألية شاة أعرابية تذاب ، ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ، ثم تشرب على الريق : في كل يوم جزء » (١).

عرق النساء : وجع يبتدئ من مفصل الورك ، وينزل من خلف على الفخذ ، وربما امتد على الكعب. وكلما طالت مدته : زاد نزوله ويهزل معه الرجل والفخذ.

وهذا الحديث فيه معنى لغوى ، ومعنى طبي.

فأما المعنى اللغوي : فدليل على جواز تسمية هذا المرض : بعرق النساء ، خلافا لمن منع هذه التسمية ، وقال : النساء هو العرق نفسه ، فيكون من باب إضافة الشئ إلى نفسه. وهو ممتنع.

وجواب هذا القائل من وجهين : (أحدهما) : أن العرق أعم من النساء ، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص. نحو : كل الدراهم (أ) (٢) وبعضها. (الثاني) : أن النساء هو المرض الحال بالعرق ، والإضافة فيه من باب إضافة الشئ إلى محله وموضعه (٣). قيل : وسمى بذلك : لان ألمه ينسى ما سواه. وهذا العرق ممتد من مفصل الورك ، وينتهى إلى آخر القدم وراء الكعب ، من الجانب الوحشي فيما بين عظم الساق والوتر.

وأما المعنى الطبي ، فقد تقدم : أن كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نوعان ، ( أحدهما ) : عام بحسب الأزمان والأماكن ، والاشخاص والأحوال. ( والثاني ) : خاص بحسب هذه الأمور أو بعضها. وهذا من هذا القسم : فإن هذا خطاب للعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم ، ولا سيما أعراب البوادي. فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم ، فإن هذا المرض : يحدث من يبس ، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة. فعلاجها بالاسهال. « والالية » فيها

__________________

(١) وأخرجه : أحمد ، والحاكم في صحيحه. اه‍ ق.

(٢) زيادة : عن الزاد ( ص ٨٦ ).

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : « وموضوعه » ، وهو تحريف.


الخاصيتان : الانضاج (١) والتليين ، ففيها الانضاج والاخراج. وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الامرين.

وفى تعيين الشاة الاعرابية : قلة فضولها ، وصغر مقدارها ، ولطف جوهرها ، وخاصية مرعاها. لأنها ترعى أعشاب البر الحارة : كالشيح والقيصوم ، ونحوهما. وهذه النباتات : إذا تغذى بها الحيوان ، صار في لحمه من طبعها ، بعد أن يلطفها تغذية بها ، ويكسبها مزاجا ألطف منها ، ولا سيما الالية ، وظهور فعل هذه النباتات في اللبن ، أقوى منه في اللحم. ولكن الخاصية التي في الالية ـ : من الانضاج والتليين ـ لا توجد في اللبن. وهذا مما تقدم : أن أدوية غالب الأمم والبوادي بالأدوية المفردة ، وعليه أطباء الهند. وأما الروم واليونان : فيعتنون بالمركبة. وهم متفقون كلهم : على أن من سعادة الطبيب أن يداوى بالغذاء ، فإن عجز : فبالمفرد ، فإن عجز : فبما كان أقل تركيبا.

وقد تقدم : أن غالب عادات العرب وأهل البوادي الأمراض البسيطة : فالأدوية البسيطة تناسبها. وهذه لبساطة أغذيتهم في الغالب. وأما الأمراض المركبة : فغالبا تحدث عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافها ، فاختيرت لها الأدوية المركبة. والله تعالى أعلم (٢).

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج يبس الطبع

واحتياجه إلى ما يمشيه ويلينه

روى الترمذي في جامعه ، وابن ماجة في سننه ـ من حديث أسماء بنت عميس ـ قالت : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بماذا كنت تستمشين؟ قالت : بالشبرم.

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد : « والانضاج ». والزيادة من الناسخ أو الطابع.

(٢) عرق النساء هو : مرض يصيب النساء والرجال على السواء ، وآلامه مفرطة تبتدئ غالبا في أسفل العمود الفقرى ، ويمتد الألم إلى إحدى الأليتين ، ثم إلى الجزء الخلفي من الفخذ ، وأحيانا حتى الكعب. وينتج غالبا من انفصال غضروفي بأسفل العمود الفقرى ، أو التهاب روماتزمي بالعصب الانسى. وعلاجه الأساسي : الراحة التامة على الظهر لمدة خمسة عشر يوما على الأقل ، مع إعطاء مهدئات للألم مثل الأسپرين إلخ. والحجامات الجافة والكي أحيانا يساعدان على علاجه. اه‍ د.


قال : حار جار. ثم قالت : استمشيت بالسنا (١). فقال : لو كان شئ يشفى من الموت لكان السنا (٢) ».

وفى سنن ابن ماجة ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، قال : « سمعت عبد الله بن أم حرام (٣) ـ وكان مما صلى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، القبلتين ـ يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : عليكم بالسنا والسنوت (٤). فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام. قيل : يا رسول الله ، وما السام؟ قال : الموت ».

قوله : « بم تستمشين؟ » أي : تليين الطبع حتى يمشى ولا يصير بمنزلة الواقف ، فيؤذى باحتباس النجو. ولهذا سمى الدواء المسهل : مشيا ، على وزن فعيل. وقيل : لان المسهول يكثر المشي والاختلاف للحاجة.

وقد روى : « بماذا (٥) تستشفين؟ فقالت : بالشبرم ». وهو من جملة الأدوية اليتوعية ، وهو : قشر عرق شجرة. وهو حار يابس في الدرجة الرابعة. وأجوده المائل إلى الحمرة ، الخفيف الرقيق الذي يشبه الجلد الملفوف. وبالجملة : فهو من الأدوية التي أوصى الأطباء بترك استعمالها ، لخطرها وفرط إسهالها.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « حار جار » ، ويروى « حار يار ». قال أبو عبيد :

__________________

(١) كذا بالأصل ، وسنن الترمذي : (٨ / ٢٣٤). وكذلك في سنن ابن ماجة (٢ / ١٨٠ : ط العلمية) بدون كلمة « قالت ». وفى الزاد (ص ٨٦) : « ثم قال استمشين بالسنا » ، وهو خطأ وتحريف.

(٢) أو السلاميكا. وهى على أنواع كثيرة ، أفضلها : السنا الهندي لنقاوتها. وتستعمل السنا للآن كملين في حالات الامساك. وتستعمل أوراق النبات فقط بعد نقعها في الماء لمدة ١٢ ساعة ، ويشرب المنقوع بدون الورق. أما إذا غليت فقد تسبب مغصا شديدا بالأمعاء. وكمية الورق المنقوعة تختلف من شخص إلى آخر ، وعلى قدر حالة الامساك. وغالبا من ١٠ إلى ١٥ ورقة للنقع لمدة ١٢ ساعة. اه‍ د.

وأخرج الحديث أيضا : أحمد ، والحاكم. وأخرج الطبراني عن أم سلمة نحوه. والشبرم بزنة « قنفذ ». وسيبينه المؤلف ، وسيبين السنا أيضا!!. اه‍ ق.

(٣) كذا بالأصل وسنن ابن ماجة : ( ٢ / ١٧٩ ). وفى الزاد : « بن حرام » وهو خطأ وتحريف.؟؟ : التهذيب ١٢ / ٣ ، والخلاصة ٣٨٠.

(٤) وأخرجه أيضا : الحاكم وأخرج النسائي عن أنس نحوه. وسيبين ( المؤلف ) المراد بالسنوت. وهو بفتح السين وضمها ، والفتح أفصح. اه‍ ق.

(٥) كذا بالأصل. وفى الزاد ( ص ٨٧ ) : بما الذي.


وأكثر كلامهم بالياء. قلت : وفيه قولان (أحدهما) : أن الحار الجار بالجيم : الشديد الاسهال ، فوصفه بالحرارة وشدة الاسهال ، وكذلك هو. قاله أبو حنيفة الدينوري.

( والثاني ) ـ وهو الصواب ـ : أن هذا من الاتباع الذي يقصد به تأكيد الأول ، ويكون بين التأكيد اللفظي والمعنوي. ولهذا يراعون فيه اتباعه في أكثر حروفه. كقولهم : حسن بسن ، أي : كامل الحسن. وقولهم : حسن قسن بالقاف. ومنه شيطان ليطان ، وحار جار. مع أن في الجار معنى آخر ، وهو : الذي يجر الشئ الذي يصيبه ، من شدة حرارته وجذبه له ، كأنه ينزعه ويسلخه. و « يار » إما لغة في « جار » ، كقولهم : صهري وصهريج ، والصهارى والصهاريج. وإما اتباع مستقل.

وأما « السناء » ففيه لغتان : المد والقصر. وهو : نبت حجازي ، أفضله المكي وهو : دواء شريف مأمون الغائلة ، قريب من الاعتدال ، حار يابس في الدرجة الأولى ، يسهل الصفراء والسوداء ، ويقوى ( جرم ) (١) القلب. وهذه فضيلة شريفة فيه. وخاصيته : النفع من الوسواس السوداوي ، ومن الشقاق العارض في البدن ، ويفتح العضل ، وانتشار الشعر ، ومن القمل والصداع العتيق ، والجرب والبثور ، والحكة والصرع. وشرب مائه مطبوخا أصلح من شربه مدقوقا. ومقدار الشربة منه : إلى ثلاثة دراهم ، ومن مائه : إلى خمسة دراهم. وإن طبخ معه شئ من زهر البنفسج والزبيب الأحمر المنزوع العجم ، كان أصلح.

قال الرازي : « السناء والشاهترج (٢) يسهلان الاخلاط المحترقة ، وينفعان من الجرب والحكة. والشربة من كل واحد منهما : من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم ».

وأما « السنوت » ففيه ثمانية أقوال : (أحدها (٣) : أنه العسل. ( والثاني ) : أنه رب عكة السمن يخرج خططا سوداء على السمن. حكاهما عمر بن بكر السكسكي. ( الثالث ) : أنه حب بشبه الكمون (وليس به. قاله (٤) ابن الاعرابى. ( الرابع ) : أنه الكمون)

__________________

(١) زيادة : عن الزاد (٨٧).

(٢) في تذكرة داود : أنه ملك البقول ، ويسمى : كزبرة الحمار. وهو نوعان بينهما في التذكرة!!. وهو فارسي.! اه‍ ق.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : أحدهما. وهو تحريف.

(٤) في الزاد ـ والزيادة كلها عنه ـ : « قال » ، وهو تحريف.


الكرماني. ( الخامس ) : أنه الرازيانج. حكاهما أبو حنيفة الدينوري عن بعض الاعراب. ( السادس ) : أنه الشبت. ( السابع ) : أنه التمر. حكاهما أبو بكر بن السنى الحافظ. ( الثامن ) : أنه العسل الذي يكون في زقاق السمن. حكاه عبد اللطيف البغدادي. قال بعض الأطباء : وهذا أجدر بالمعنى وأقرب إلى الصواب. أي : يخلط السناء مدقوقا بالعسل المخالط للسمن ، ثم يلعق ، فيكون أصلح من استعماله مفردا ، لما في العسل والسمن من إصلاح السنا (١) وإعانته على الاسهال. والله أعلم.

وقد روى الترمذي وغيره ـ من حديث ابن عباس يرفعه ـ : « إن خير ما تداويتم به السعوط ، واللدود ، والحجامة ، والمشي » (٢). المشي هو : الذي يمشى الطبع ويلينه ، ويسهل خروج الخارج.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج حكة (٣) الجسم

وما يولد القمل

جاء (٤) في الصحيحين ـ من حديث قتادة ، عن أنس بن مالك ـ قال : « رخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ـ رضى الله تعالى عنهما ـ : في لبس الحرير ، لحكة كانت بهما ». وفى رواية : « أن عبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ـ رضى الله تعالى عنهما ـ شكوا القمل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في غزاة (٥) لهما ، فرخص لهما في قمص الحرير. ورأيته عليهما ».

هذا الحديث يتعلق به أمران : أحدهما فقهي ، والآخر طبي.

__________________

(١) كذا بالأصل مقصورا. وفى الزاد : « السناء » ممدودا. وكل صحيح.

(٢) سبق تخريجه وأنه غريب!. وسبق تفسير السعوط واللدود ، وأن الأول : ما يجعل في الانف من الدواء ، والآخر : في جانب الانف.!! أما المشي فقد فسره! وقيل : سمى به لأنه يكثر مشى صاحبه إلى الخلاء!. اه‍ ق.

(٣) كذا بالأصل. وعبارة الزاد (ص ٨٧) : « في علاج الجسم ». والنقص من الناسخ أو الطابع.

(٤) هذا اللفظ لم يرد في الزاد.

(٥) كذا بالأصل. وفى الزاد : « غزوة ». وكلاهما صحيح.


فأما الفقهي ، فالذي استقرت عليه سنته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : إباحة الحرير للنساء مطلقا ، وتحريمه على الرجال إلا لحاجة ، أو مصلحة راجحة. فالحاجة إما من شدة البرد : ولا يجد غيره ، أو لا يجد سترة سواه. ومنها : إلباسه (١) للحرب والمرض ، والحكة وكثرة القمل. كما دل عليه حديث أنس هذا الصحيح.

والجواز أصح الروايتين عن الإمام أحمد ، وأصح قولي الشافعي. إذ (٢) الأصل : عدم التخصيص. والرخصة إذا ثبتت في حق بعض الأمة لمعنى ، تعدت إلى كل من وجد فيه ذلك المعنى. إذ الحكم يعم بعموم سببه.

ومن منع منه قال : أحاديث التحريم عامة ، وأحاديث الرخصة يحتمل اختصاصها بعبد الرحمن بن عوف والزبير ، ويحتمل تعديها إلى غيرهما. وإذا احتمل الأمران : كان الاخذ بالعموم أولى. ولهذا قال بعض الرواة في هذا الحديث : « فلا أدرى : أبلغت الرخصة من بعدهما ، أم لا؟ ».

والصحيح : عموم الرخصة ، فإنه عرف خطاب الشرع في ذلك ، ما لم يصرح بالتخصيص وعدم إلحاق غير من رخص له أولا به. كقوله لأبي بردة : « تجزيك ولن تجزى عن أحد بعدك ». وكقوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في نكاح من وهبت نفسها له ـ : ( خالصة لك من دون المؤمنين ). وتحريم الحرير إنما كان سدا للذريعة ، ولهذا أبيح للنساء ، وللحاجة والمصلحة الراجحة. ( وهذه قاعدة ) (٣) ما حرم لسد الذرائع : فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة. كما حرم النظر : سدا لذريعة الفعل ، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة الراجحة. وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهى : سدا لذريعة. المشابهة الصورية بعباد الشمس ، وأبيحت للمصلحة الراجحة. وكما حرم ربا الفضل :

__________________

(١) كذا بالزاد (ص ٨٨). وفى الأصل : « ومنهما لباسه ». وهو تحريف.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « إذا » ، وهو خطأ وتحريف.

(٣) هذه الزيادة : عن الزاد ( ص ٨٨ ).


سدا لذريعة ربا النسيئة ، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة : من العرايا (١). وقد أشبعنا الكلام فيما يحل ويحرم : من لباس الحرير ، في كتاب : « التحبير ، لما يحل ويحرم من لباس الحرير ».

( فصل ) وأما الامر الطبي ، فهو : أن الحرير من الأدوية المتخذة من الحيوان ، ولذلك يعد في الأدوية الحيوانية. لان مخرجه من الحيوان. وهو كثير المنافع ، جليل الموقع. ومن خاصيته : تقوية القلب وتفريحه ، والنفع من كثير من أمراضه ، ومن غلبة المرة السوداء والأدواء الحادثة عنها. وهو مقو للبصر : إذا اكتحل به. والخام منه ـ وهو المستعمل في صناعة الطب ـ حار يابس في الدرجة الأولى. وقيل : حار رطب فيها وقيل معتدل ( في صناعة الطب ) (٢). وإذا اتخذ منه ملبوس : كان معتدل الحرارة في مزاجه ، مسخنا للبدن ، وربما برد البدن بتسمينه إياه.

قال الرازي : « الإبريسم (٣) أسخن من الكتان ، وأبرد من القطن ، يربى اللحم. وكل لباس خشن فإنه يهزل ويصلب البشرة ، وبالعكس ».

قلت : والملابس ثلاثة أقسام : قسم يسخن البدن ويدفئه ، وقسم يدفئه ولا يسخنه ، وقسم لا يسخنه ولا يدفئه. وليس هناك ما يسخنه ولا يدفئه : إذ ما يسخنه فهو أولى بتدفئته. فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ ، وملابس الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن. فثياب الكتان باردة يابسة ، وثياب الصوف حارة يابسة ، وثياب القطن معتدلة الحرارة ، وثياب الحرير ألين من القطن وأقل حرارة منه. قال صاحب المنهاج : « ولبسه لا يسخن كالقطن بل هو معتدل ». وكل لباس أملس صقيل : فإنه أقل إسخانا للبدن ، وأقل عونا في تحلل ما يتحلل منه ، وأحرى أن يلبس في الصيف وفى البلاد الحارة.

__________________

(١) جمع « عرية » ـ بزنة قضية ـ وهى : النخلة يعطيها صاحبها لفقير ، لينتفع بثمرتها إلى سنة ، فتدفعه الحاجة إلى أن يأخذ بثمرتها تمرا قبل أن تحزر ثمرتها. فلا يضر الفضل حينئذ. اه‍ ق.

(٢) زيادة : عن الزاد ( ص ٨٨ ).

(٣) الإبريسم ـ بفتح السين وضمها ـ : الحرير. أو هو معرب!! اه‍ ق.


ولما كانت ثياب الحرير ، كذلك وليس فيها شئ من اليبس والخشونة الكائنتين (١) في غيرها ـ : صارت نافعة من الحكة : إذ الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة فلذلك رخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، للزبير وعبد الرحمن ، في لباس الحرير : لمداواة الحكة. وثياب الحرير أبعد عن تولد القمل فيها : إذ كان مزاجها مخالفا لمزاج ما يتولد منه القمل.

وأما القسم الذي لا يدفئ ولا يسخن : فالمتخذ من الحديد والرصاص والخشب والتراب ونحوها.

فإن قيل : فإذا كان لباس الحرير أعدل اللباس وأوفقه للبدن ، فلماذا حرمته الشريعة الكاملة الفاضلة ، التي أباحت الطيبات ، وحرمت الخبائث؟.

قيل : هذا السؤال : يجيب عنه كل طائفة ـ من طوائف المسلمين ـ بجواب.

فمنكروا الحكم والتعليل : لما رفعت قاعدة التعليل من أصلها ، لم تحتج إلى جواب هذا السؤال.

ومثبتوا التعليل والحكم ـ وهم الأكثرون ـ منهم من يجيب عن هذا : بأن الشريعة حرمته : لتصبر النفوس عنه ، وتتركه لله ، فتثاب على ذلك. لا سيما ولها عوض عنه بغيره.

ومنهم من يجيب عنه : بأنه خلق في الأصل للنساء كالحلية بالذهب ، فحرم على الرجال لما فيه : من مفسدة تشبه الرجال بالنساء. ومنهم من قال : حرم لما يورثه : من الفخر والخيلاء والعجب.

ومنهم من قال : حرم لما يورثه للبدن لملاسته : من الاونوثية والتخنث ، وضد الشهامة والرجولية. فإن لبسه يكسب القلب صفة من صفات الإناث. ولهذا لا تكاد تجد من يلبسه في الأكثر ، إلا وعلى شمائله : من التخنث والتأنث والرخاوة ، مالا يخفى حتى لو كان من أشهم (٢) الناس وأكثرهم فحولية ورجولية ، فلا بد أن ينقصه لبس

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٨٨) : « الكائنين ». وكل صحيح.

(٢) كذا بالزاد (ص ٨٩). وفى الأصل : « شهم » ، وهو تحريف.


الحرير منها وإن لم يذهبها. ومن غلظت طباعه وكثفت عن فهم هذا : فليسلم للشارع الحكم. ولهذا كان أصح القولين : أنه يحرم على الولي أن يلبسه الصبى ، لما ينشأ عليه من صفات أهل التأنيث.

وقد روى النسائي ـ من حديث أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « إن الله أحل لاناث أمتي الحرير والذهب ، وحرمه على ذكورها » ، وفى لفظ : « حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي ، وأحل لاناثهم ».

وفى صحيح البخاري : عن حذيفة ، قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن لبس الحرير والديباج ، وأن يجلس عليه. وقال : هو لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة ».

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج ذات الجنب

روى الترمذي في جامعه ـ من حديث زيد بن أرقم ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : « تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت (١) ».

ذات (٢) الجنب ـ عند الأطباء ـ نوعان : حقيقي ، وغير حقيقي. فالحقيقي : ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للاضلاع. وغير الحقيقي : ألم يشبهه ، يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية ، تحتقن بين الصفاقات ، فتحدث وجعا قريبا من وجع ذات الجنب الحقيقي. إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود ، وفى الحقيقي ناخس.

قال صاحب القانون : « قد يعرض في الجنب والصفاقات والعضل ، التي في الصدر والاضلاع ونواحيها ، أورام مؤذية جدا موجعة ، تسمى : شوصة ، وبرساما ، وذات الجنب. وقد تكون أيضا أوجاعا في هذه الأعضاء ، ليست من ورم ولكن من رياح غليظة ، فيظن : أنها من هذه العلة ، ولا تكون. قال : واعلم أن كل وجع في الجنب قد يسمى : ذات الجنب ، اشتقاقا من مكان الألم. لان معنى ذات الجنب : صاحبة الجنب. والغرض به ههنا : وجع الجنب. فإذا عرض في الجنب ألم عن أي سبب كان ، نسب إليه.

__________________

(١) وأخرجه : ابن ماجة ، وأحمد ، والحاكم. اه‍ ق.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٨٩) : « وذات ». وكلاهما صواب.


وعليه حمل كلام ( أ ) بقراط في قوله : إن أصحاب ذات الجنب ينتفعون بالحمام. وقيل : المراد به كل من به وجع جنب ، أو وجع رئة من سوء مزاج ، أو من أخلاط غليظة أو لذاعة ، من غير ورم ولا حمى ».

قال بعض الأطباء : وأما معنى ذات الجنب ، في لغة اليونان ، فهو : ورم الجنب الحار ، وكذلك : ورم كل واحد من الأعضاء الباطنة. وإنما سمى ذات الجنب ورم ذلك العضو : إذا كان ورما حارا فقط. ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض ، وهى : الحمى ، والسعال ، والوجع الناخس ، وضيق النفس ، والنبض المنشاري (١).

والعلاج الموجود في الحديث ليس هو لهذا القسم ، لكن للقسم الثاني الكائن عن الريح الغليظة. فإن القسط البحري ـ وهو : العود الهندي ، على ما جاء مفسرا في أحاديث أخر ـ صنف من القسط : إذا دق دقا ناعما ، وخلط بالزيت المسخن ، ودلك به مكان الريح المذكور ، أو لعق ـ : كان دواء موافقا لذلك ، نافعا له ، محللا لمادته ، مذهبا لها ، مقويا للأعضاء الباطنة ، مفتحا للسدد. والعود المذكور في منافعه كذلك. قال المسيحي : « العود حار يابس قابض ، يحبس البطن ، ويقوى الأعضاء الباطنة ، ويطرد الريح ، ويفتح السدد ، نافع من ذات الجنب ، ويذهب فضل الرطوبة. والعود المذكور جيد للدماغ. قال : ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقية أيضا : إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية ، لا سيما في وقت انحطاط العلة. والله أعلم ».

وذات الجنب : من الأمراض الخطرة. وفى الحديث الصحيح عن أم سلمة ، أنها قالت : « بدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمرضه : في بيت ميمونة ، وكان كلما خف عليه : خرج وصلى بالناس ، وكان كلما وجد ثقلا ، قال : مروا أبا بكر فليصل بالناس. واشتد شكواه حتى (٢) غمر. ومن شدة الوجع ، اجتمع عنده نساؤه ، وعمه العباس ، وأم الفضل بنت

__________________

(١) هذا الوصف ينطبق على الوجع الصدري : نتيجة التهاب الرئة. ويعالج الآن بالأدوية المضادة للميكروبات ، مثل : أقراص السلفا ، وجقن الينسلين. اه‍ د.

(٢) كذا بالأصل. وفى الزاد ص ٩٠ : « ثدي عمر .. فاجتمع ». وهو تصحيف وتحريف.

(٥ ـ الطب النبوي)


الحرث ، وأسماء بنت عميس. فتشاوروا في لده : فلدوه وهو مغمور. فلما أفاق قال : من فعل بي هذا؟ هذا من عمل نساء جئن من ههنا. وأشار بيده إلى أرض الحبشة. وكانت (أم) (١) سلمة وأسماء لدتاه. فقالوا : يا رسول الله ، خشينا أن يكون بك ذات الجنب. قال : فبم لددتموني؟ قالوا : بالعود الهندي ، وشئ من ورس وقطران من زيت. فقال : ما كان الله ليقذفني بذلك الداء. ثم قال : عزمت عليكم : أن لا يبقى في البيت أحد إلا لد ، إلا عمى العباس ».

وفى الصحيحين : عن عائشة رضى الله تعالى عنها ، قالت : « لددنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأشار : أن لا تلدوني. فقلنا : كراهية المريض للدواء. فلما أفاق قال : ألم أنهكم أن لا تلدوني؟! لايبقى منكم أحد إلا لد ، غير عمى العباس : فإنه لم يشهدكم ».

قال أبو عبيد : « عن الأصمعي اللدود : ما يسقى الانسان في أحد شقى الفم ، أخذ من لديدى الوادي ، وهما : جانباه. وأما الوجور فهو في وسط الفم ». قلت : واللدود ( بالفتح ) هو : الدواء الذي يلد به ، والسعوط : ما أدخل من أنفه.

وفى هذا الحديث ـ من الفقه ـ : معاقبة الجاني بمثل ما فعل سواء ، إذا لم يكن فعله محرما لحق الله. وهذا هو الصواب المقطوع به لبضعة عشر دليلا قد ذكرناها في موضع آخر. وهو منصوص أحمد. وهو ثابت عن الخلفاء الراشدين. وترجمة المسألة بالقصاص في اللطمة والضربة. وفيها عدة أحاديث لا معارض لها البتة ، فيتعين القول بها.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الصراع والشقيقة

روى ابن ماجة في سننه ، حديثا في صحته نظر ، هو (٢) : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا صدع : غلف رأسه بالحناء ، ويقول : إنه نافع بإذن الله من الصداع ».

والصداع : ألم في بعض أجزاء الرأس (أو في كله. فما كان منه في أحد شقى الرأس) (٣) ،

__________________

(١) زيادة متعينة : عن الزاد (ص ٩٠).

(٢) قوله : هو ، لم يرد في الزاد (ص ٩٠).

(٣) هذه الزيادة ، عن الزاد (ص ٩٠).


لازما يسمى : شقيقة ، وإن كان شاملا لجميعه لازما يسمى : بيضة (١) وخوذة ، تشبيها ببيضة السلاح التي تشتمل على الرأس كله. وربما كان في مؤخر الرأس أو في مقدمه. وأنواعه كثيرة ، وأسبابه مختلفة. وحقيقة الصداع : سخونة الرأس واحتماؤه ، لما دار فيه من البخار الذي (٢) يطلب النفوذ من الرأس؟؟ ، فلا يجد منفذا : فيصدعه ، كما يصدع الوعاء (٣) إذا حمى ما فيه وطلب النفوذ. فكل شئ رطب : إذا حمى طلب مكانا أوسع من مكانه الذي كان فيه. فإذا عرض هذا البخار في الرأس كله ، بحيث لا يمكنه التفشي (٤) والتحلل وجال في الرأس ـ سمى : السدر.

والصداع يكون عن أسباب عديدة (٥). ( أحدها ) : من غلبة واحدة من الطبائع الأربعة. ( والخامس ) (٦) : يكون من قروح تكون في المعدة ، فيألم الرأس لذلك الورم ، للاتصال من العصب المنحدر من الرأس بالمعدة. ( والسادس ) : من ريح غليظة تكون في المعدة ، فتصعد إلى الرأس فتصدعه (٧). ( والسابع ) : يكون من ورم في عروق المعدة ، فيألم الرأس بألم المعدة ، للاتصال الذي بينهما. ( والثامن ) : صداع يحصل من (٨)

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : « ببيضة » ، ولعله تحريف

(٢) قوله : الذي ، لم يرد في الزاد (ص ٩٠).

(٣) كذا بالأصل. وفى الزاد : « الوعي » ولعله تحريف. انظر : المختار والمصباح (مادة : وعى)

(٤) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٩٠) : « التغشي » بالغين. وهو تصحيف.

(٥) الصداع هو : ألم بأي جزء من أجزاء الرأس. وأسبابه عديدة جدا لا يمكن حصرها في هذا المجال. ويتميز كل مرض بصداع معين ، وفى مكان معين ، وفى أوقات معينة. فمن أسباب الصداع :

١ ـ حالات الحمى : يكون الصداع شاملا الرأس بأكمله.

٢ ـ التهاب الجيوب الأنفية : يكون الصداع في المقدمة ، وغالبا في الصباح.

٣ ـ ورم بالمخ : يكون الصداع داخليا عميقا ، مستمرا ومتزايدا.

٤ ـ ضعف الابصار : يكون الصداع في المقدمة ، وغالبا بعد إجهاد البصر.

٥ ـ ارتفاع ضغط الدم : الصداع فيه خلفي.

٦ ـ الصداع العصبي : يكون الصداع فيه نصفيا ، وفى الصباح ، ومصحوبا بقئ.

٧ ـ وهناك أسباب أخرى عديدة.

وعلاج الصداع هو علاج المسبب له. ومن أهم المسكنات له وقتيا ، أقراص الأسپرين. اه‍ د.

(٦) كذا بالأصل والزاد. وهو صحيح : لأنه اعتبر السابق أربعة أسباب باعتبار تنوع الطبائع

(٧) كذا بالأصل. وفى الزاد : « فيصدعه » ، وكل صحيح.

(٨) كذا بالأصل. وفى الزاد : « عن ».


امتلاء المعدة من الطعام. ثم ينحدر ويبقى بعضه نيئا ، فيصدع الرأس ويثقله. ( والتاسع ) : يعرض بعد الجماع : لتخلل الجسم ، فيصل إليه من حر الهواء ، أكثر من قدره. ( والعاشر ) : صداع يحصل بعد القئ والاستفراغ : إما لغلبة اليبس ، وإما لتصاعد الأبخرة من المعدة إليه. ( والحادي عشر ) : صداع يعرض عن شدة الحر وسخونة الهواء. ( والثاني عشر ) : ما يعرض من شدة البرد ، وتكاثف الأبخرة في الرأس ، وعدم تحللها. ( والثالث عشر ) : ما يحدث من السهر ، وحبس النوم. ( والرابع عشر ) : ما يحدث من ضغط الرأس ، وحمل الشئ الثقيل عليه. ( والخامس عشر ) : ما يحدث من كثرة الكلام ، فتضعف قوة الدماغ لأجله. ( والسادس عشر ) : ما يحدث من كثرة الحركة ، والرياضة المفرطة (١). ( والسابع عشر ) : ما يحدث من الاعراض النفسانية : كالهموم والغموم ، والأحزان والوسواس ، والأفكار الرديئة. ( والثامن عشر ) : ما يحدث من شدة الجوع ، فإن الأبخرة لا تجد ما تعمل فيه ، فتكثر وتتصاعد إلى الدماغ فتؤلمه. ( والتاسع عشر ) : ما يحدث من ورم في صفاق الدماغ ، ويجد صاحبه كأنه يضرب بالمطارق على رأسه. ( والعشرون ) : ما يحدث بسبب الحمى ، لاشتعال حرارتها فيه ، فيتألم. والله أعلم.

( فصل ) وسبب صداع الشقيقة : مادة في شرايين الرأس وحدها ، حاصلة فيها ، أو مرتقية إليها ، فيقبلها الجانب الأضعف من جانبيه. وتلك المادة : إما بخارية ، وإما أخلاط حارة أو باردة. وعلامتها الخاصة بها : ضربان الشرايين وخاصة في الدموي. وإذا ضبطت بالعصائب ، ومنعت الضربان : سكن الوجع.

وقد ذكر أبو نعيم ـ في كتاب الطب النبوي له ـ : أن هذا النوع كان يصيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيمكث اليوم واليومين ، ولا يخرج. وفيه : عن ابن عباس ، قال : « خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقد عصب رأسه بعصابة ».

وفى الصحيح : « أنه قال في مرض موته : وا رأساه (٢). وكان يعصب رأسه في مرضه ».

__________________

(١) كذا بالزاد ( ص ٩١ ). وفى الأصل : « المفردة ». وهو تصحيف.

(٢) وأخرجه أيضا : النسائي ، وابن ماجة ، وأحمد. اه‍ ق.


وعصب الرأس ينفع في وجع الشقيقة ، وغيرها : من أوجاع الرأس.

( فصل ) وعلاجه يختلف باختلاف أنواعه وأسبابه. فمنه : ما علاجه بالاستفراغ. ومنه : ما علاجه بتناول الغذاء. ومنه : ما علاجه بالسكون والدعة. ومنه : ما علاجه بالضمادات. ومنه : ما علاجه بالتبريد. ومنه : ما علاجه بالتسخين. ومنه : ما علاجه بأن يجتنب سماع الأصوات والحركات.

إذا عرف هذا : فعلاج الصداع ـ في هذا الحديث ـ بالحناء ، هو جزئي ، لا كلي. وهو علاج نوع من أنواعه. فإن الصداع : إذا كان من حرارة ملتهبة ، ولم يكن من مادة يجب استفراغها ـ : نفع فيه الحناء نفعا ظاهرا. وإذا دق وضمدت به الجبهة مع الخل : سكن الصداع. وفيه قوة موافقة للعصب : إذا ضمد به سكن أوجاعه. وهذا لا يختص بوجع الرأس ، بل يعم الأعضاء. وفيه قبض تشد به الأعضاء. وإذا ضمد به موضع الورم الحار والملتهب ، سكنه.

وقد روى البخاري في تاريخه ، وأبو داود في السنن : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما شكا إليه أحد وجعا في رأسه ، إلا قال : احتجم. ولا شكا إليه وجعا في رجليه ، إلا قال له : اختضب بالحناء ».

وفى الترمذي : عن سلمى أم رافع ، خادمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : « كان لا يصيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قرحة ولا شوكة ، إلا وضع عليها الحناء » (١).

( فصل ) والحناء بارد في الأولى ، يابس في الثانية ، وقوة شجر الحناء وأغصانها ، مركبة من قوة محللة اكتسبتها من جوهر فيها مائي حار باعتدال ، ومن قوة قابضة اكتسبتها من جوهر فيها أرضى بارد.

__________________

(١) الحديثان عن سلمى أم رافع. والمعنى واحد ، وهو : مداواة كل وجع في الرجلين بالحناء. أخرجه! أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، وأحمد ، والحاكم ، والبخاري في التاريخ بأسانيد كلها ضعاف. ونقل شارح الترمذي عن ابن العربي!! تضعيف كل ما ورد في الحناء ، ورده. وقال الفيروز بادي (في سفر السعادة) : باب فضائل الحناء لم يثبت فيه شئ. وكفى بحكمهما فيصلا!! اه‍ ق


ومن منافعه : أنه محلل نافع من حرق النار ، وفيه قوة موافقة للعصب : إذا ضمد به. وينفع إذا مضغ من قروح الفم والسلاق العارض فيه. ويبرئ القلاع الحادث في أفواه الصبيان. والضماد به ينفع من الأورام الحارة الملهبة ، ويفعل في الخراجات (١) فعل دم الأخوين (٢). وإذا خلط نوره (٣) مع الشمع المصفى ودهن الورد : ينفع من أوجاع الجنب.

ومن خواصه : أنه إذا بدأ الجدري يخرج بصبى ، فخضبت أسافل رجليه بحناء ـ : فإنه يؤمن على عينيه أن يخرج فيها شئ منه. وهذا صحيح مجرب لا شك فيه. وإذا جعل نوره بين طي ثياب الصوف : طيبها ، ومنع السوس عنها. وإذا نقع ورقه في ماء عذب يغمره ، ثم عصر وشرب من صفوه أربعين (٤) يوما ، كل يوم عشرون درهما مع عشرة دراهم سكر ، ويغذى عليه بلحم الضأن الصغير ـ : فإنه ينفع من ابتداء الجذام بخاصية فيه عجيبة.

وحكى : أن رجلا تشققت أظافير أصابع يده ، وأنه بذل لمن يبرئه مالا ، فلم يجد. فوصفت له امرأة : أن يشرب عشرة أيام حناء ، فلم يقدم عليه. ثم نقعه بماء وشربه : فبرأ ، ورجعت أظافيره إلى حسنها.

والحناء إذا ألزمت به الأظفار معجونا : حسنها ونفعها. وإذا عجن بالسمن ، وضمد به بقايا الأورام الحارة التي ترشح ماء أصفر ـ : نفعها ، ونفع من الجرب المتقرح المزمن ، منفعة بليغة. وهو ينبت الشعر ويقويه ويحسنه ، ويقوى الرأس. وينفع من النفاطات والبثور العارضة في الساقين والرجلين ، وسائر البدن.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معالجة المرضى بترك اعطائهم ما يكرهونه

من الطعام والشراب ، وأنهم لا يكرهون على تناولهما

روى الترمذي في جامعه ، وابن ماجة : عن عقبة بن عامر الجهني ، قال : قال

__________________

(١) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٩١) : « الجراحات ».

(٢) في التذكرة ـ بعد أن تردد في بيان حقيقته ـ : « والصحيح أنا لا نعرف أصله ، وإنما يجلب هكذا من بلاد الهند ». اه‍ ق.

(٣) سبق تفسير « النورة »!!!. اه‍ ق.

(٤) بالأصل : « أربعون .. عشرون ». وفى الزاد : « أربعين. عشرين ». وفى كل تصحيف


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب ، فإن الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم (١) ».

قال بعض فضلاء الأطباء : ما أغزر فوائد هذه الكلمة النبوية ، المشتملة على حكم إلهية ، لا سيما للأطباء ولمن يعالج المرضى. وذلك : أن المريض إذا عاف الطعام أو الشراب ، فذلك : لاشتغال الطبيعة بمجاهدة المرض ، أو لسقوط شهوته أو نقصانها : لضعف الحرارة. الغريزية ، أو خمودها. وكيفما كان : فلا يجوز حينئذ إعطاء الغذاء في هذه الحالة.

واعلم أن الجوع إنما هو : طلب الأعضاء للغذاء ، لتخلف الطبيعة به عليها ، عوض ما يتحلل منها ، فتجذب الأعضاء القصوى من الأعضاء الدنيا ، حتى ينتهى الجذب إلى المعدة ، فيحس الانسان بالجوع ، فيطلب الغذاء. وإذا وجد المرض : اشتغلت الطبيعة بمادته وإنضاجها وإخراجها ، عن طلب الغذاء أو الشراب. فإذا أكره المريض على استعمال شئ من ذلك : تعطلت به الطبيعة عن فعلها ، واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إنضاج مادة المرض ودفعه. فيكون ذلك سببا لضرر المريض ، ولا سيما في أوقات البحارين (٢) ، أو ضعف الحار الغريزي ، أو خموده. فيكون ذلك زيادة في البلية ، وتعجيل النازلة المتوقعة. ولا ينبغي أن يستعمل في هذا الوقت والحال ، إلا ما يحفظ عليه قوته ويقويها ، من غير استعمال مزعج للطبيعة البتة. وذلك يكون بما لطف قوامه : من الأشربة والأغذية. واعتدال مزاجه : كشراب اللينوفر (٣) والتفاح والورد الطري ، وما أشبه ذلك. ومن الأغذية : أمراق الفراريج المعتدلة المطيبة (٤) فقط. وإنعاش قواه : بالاراييج (٥) العطرة

__________________

(١) وأخرجه أيضا : الحاكم. اه‍ ق. ومعظم الأمراض يصحبها عدم رغبة المريض للطعام. وإطعام المريض قصدا في هذه الحالة ، يعود عليه بالضرر : لعدم قيام الجهاز الهضمي بعمله كما يجب ، مما يتبعه عسر هضم ، وسوء حالة المريض. وكل مريض له غذاء معين له ، وغالبا ما يكون غذاء قليلا سهل الهضم. ومن دلائل شفاء المريض : عودته إلى سابق رغبته في الطعام. ف‍ « لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب » اه‍ د.

(٢) جمع « بحران » بضم فسكون. وهو : حال من أحوال الأمراض إذا اشتدت!!. اه‍ ق.

(٣) في التذكرة : الأشهر فيه تقديم النون. وقال فيه : « فارسي معناه ذو الأجنحة. وهو : نبت مائي له أصل كالجزر ، وساق أملس ، يطول سجفه! عمق الماء ، فإذا ساوى سطحه أورق وأزهر. إلى أن قال : وهو يعرف بمصر بعرائس النبل. اه‍ ق.

(٤) كذا بالأصل. وفى الزاد (ص ٩٢) : « الطيبة ».

(٥) جمع « أريج ». وهو : توهج ريح الطيب. والمراد : الأشياء ذوات الأريج. اه‍ ق. وهذا لفظ الأصل. وفى الزاد : « بالاراييح » بالحاء المهملة


الموافقة ، والاخبار السارة. فإن الطبيب خادم الطبيعة ومعينها ، لا معيقها.

واعلم أن الدم الجيد هو المغذى للبدن ، وأن البلغم دم فج (١) قد نضج بعض النضج. فإذا كان بعض المرضى في بدنه بلغم كثير ـ وعدم الغذاء ـ : عطفت الطبيعة عليه ، وطبخته وأنضجته ، وصيرته دما وغذت به الأعضاء ، واكتفت به عما سواه. والطبيعة هو : القوة التي وكلها الله سبحانه بتدبير البدن وحفظه وصحته ، وحراسته مدة حياته.

واعلم أنه قد يحتاج في الندرة إلى إجبار المريض على الطعام والشراب. وذلك في الأمراض التي يكون معها اختلاط العقل.

وعلى هذا : فيكون الحديث من العام المخصوص ، أو من المطلق الذي قد دل على تقييده دليل. ومعنى الحديث : أن المريض قد يعيش بلا غذاء أياما ، لا يعيش الصحيح في مثلها.

وفى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « فإن الله يطعمهم ويسقيهم » ، معنى لطيف زائد على ما ذكره الأطباء ، لا يعرفه إلا من له عناية بأحكام القلوب والأرواح ، وتأثيرها في طبيعة (٢) البدن وانفعال الطبيعة عنها ، كما تنفعل هي كثيرا عن الطبيعة. ونحن نشير إليه إشارة ، فنقول : النفس إذا حصل لها ما يشغلها ـ : من محبوب ، أو مكروه ، أو مخوف. ـ اشتغلت به عن طلب الغذاء والشراب : فلا تحس بجوع ولا عطش ، بل ولا حر ولا برد. بل تشتغل به عن الاحساس بالمؤلم (٣) الشديد الألم ، فلا تحس به. وما من أحد إلا وقد وجد في نفسه ذلك أو شيئا منه. وإذا اشتغلت النفس بما دهمها وورد عليها : لم تحس بألم الجوع.

فإن كان الوارد مفرحا قوى التفريح : قام لها مقام الغذاء ، فشبعت به ، وانتعشت قواها وتضاعفت ، وجرت الدموية في الجسد حتى تظهر في سطحه ، فيشرق وجهه ، وتظهر دمويته. فإن الفرح يوجب انبساط دم القلب ، فينبعث في العروق ، فتمتلئ به.

__________________

(١) أي نيئ!!!. اه‍ ق.

(٢) كذا بالزاد : (ص ٩٢). وفى الأصل : « طبية » ، وهو تحريف.

(٣) كذا بالأصل. وفى الزاد : « المؤلم » ، وهو تحريف.


فلا تطلب الأعضاء معلومها : من الغذاء المعتاد ، لاشتغالها بما هو أحب إليها وإلى الطبيعة منه. والطبيعة إذا ظفرت بما تحب : آثرته على ما هو دونه.

وإن كان الوارد مؤلما أو محزنا أو مخوفا : اشتغلت بمحاربته ومقاومته ومدافعته ، عن طلب الغذاء. فهي ـ في حال حربها ـ في شغل عن طلب الطعام والشراب. فإن ظفرت في هذا الحرب : انتعشت قواها ، وأخلفت (١) عليها نظير ما فاتها من قوة الطعام والشراب. وإن كانت مغلوبة مقهورة : انحطت قواها بحسب ما حصل لها من ذلك. وإن كانت الحرب بينها وبين هذا العدو سجالا : فالقوة تظهر تارة ، وتخفى أخرى. وبالجملة : فالحرب بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوين المتقابلين ، والنصر للغالب. والمغلوب : إما قتيل ، وإما جريح ، وإما أسير.

فالمريض له مدد من الله تعالى يغذيه به زائدا على ما ذكره الأطباء : من تغذيته بالدم. وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره ، وانطراحه بين يدي ربه عز وجل. فيحصل له من ذلك ما يوجب له قربا من ربه. فإن العبد أقرب ما يكون من ربه : إذا انكسر قلبه ، ورحمة ربه قريبة منه. فإن كان وليا له : حصل له من الأغذية القلبية ، ما تقوى به قوى طبيعته وتنتعش به قواه ، أعظم من قوتها وانتعاشها بالأغذية البدنية. وكلما قوى إيمانه وحبه لربه وأنسه به وفرحه به ، وقوى يقينه بربه ، واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه ـ : وجد في نفسه من هذه القوة ، مالا يعبر عنه ، ولا يدركه وصف طبيب ، ولا يناله علمه.

ومن غلظ طبعه ، وكثفت نفسه عن فهم هذا والتصديق به ـ : فلينظر حال كثير من عشاق الصور الذين قد امتلأت قلوبهم بحب ما يعشقونه : من صورة ، أو جاه ، أو مال ، أو علم. وقد شاهد الناس من هذا عجائب في أنفسهم ، وفى وغيرهم.

وقد ثبت في الصحيح ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أنه كان يواصل في الصيام ( الأيام ) (٢)

__________________

(١) كذا بالزاد : (ص ٩٣). وفى الأصل : « واختلفت » ، وهو تحريف.

(٢) الزيادة : عن الزاد (ص ٩٣).


ذوات العدد ، وينهى أصحابه عن الوصال ، ويقول : « لست كهيئتكم ، إني أظل يطعمني ربى ويسقيني ». ومعلوم أن هذا الطعام والشراب ليس هو الطعام الذي يأكله الانسان بفهمه. وإلا : لم يكن مواصلا ، ولم يتحقق الفرق ، بل لم يكن صائما. فإنه قال : « أظل يطعمني ربى ويسقيني ». وأيضا : فإنه فرق بينه وبينهم في نفس الوصال ، وأنه يقدر منه على مالا يقدرون عليه. فلو كان يأكل ويشرب بفهمه ، لم يقل : « لست كهيئتكم ». وإنما فهم هذا من الحديث ، من قل نصيبه من غذاء الأرواح والقلوب ، وتأثيره في القوة وإنعاشها واغتذائها به ، فوق تأثير الغذاء الجسماني. والله الموفق.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج العذرة

وفى العلاج بالسعوط

ثبت في الصحيحين أنه قال : « خير ما تداويتم به الحجامة ، والقسط البحري (١). ولا تعذبوا صبياتكم بالغمز من العذرة » (٢).

وفى السنن والمسند عنه ـ من حديث جابر بن عبد الله ـ قال : « دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على عائشة : وعندها صبي تسيل منخراه دما ، فقال : ما هذا؟ فقالوا : به العذرة ، أو وجع في رأسه. فقال : ويلكن ، لا تقتلن أولادكن ، أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه : فلتأخذ قسطا هنديا ، فلتحكه بماء ثم تسعطه إياه. فأمرت عائشة رضي الله عنها ، فصنع ذلك بالصبى فبرأ » (٣).

قال أبو عبيد : « عن أبي عبيدة ، العذرة : تهيج في الحلق من الدم ، فإذا عولج

__________________

(١) القسط البحري هو على نوعين : الهندي والصبني. وهو من الأدوية القديمة والتي لا تزال تستعمل في الهند : في حالات الصداع ، والزكام ، وبعض حالات الربو ـ بطريقة السعوط. اه‍ ق.

(٢) وأخرجه أيضا : النسائي ، والشافعي في السنن ، وأحمد والبزار ، والطبراني في الأوسط ـ عن أنس. اه‍ ق.

(٣) أخرجه. أحمد ، والحاكم ، وأبو يعلى ، والبزار. ورجالهم رجال الصحيح. فإذا ضم إليه وإلى حديث أنس قبله ، حديث أم محصن ـ الذي أخرجه البخاري ومسلم ، وأبو داود والنسائي ، وأحمد وابن حبان ـ : تأكد أن مداواة هذا المرض بالقسط الهندي ، أمر صحيح ثابت.!! اه‍ ق


منه ، قيل : قد عذر به ، فهو معذور » انتهى. وقيل : العذرة : قرحة تخرج فيما بين الاذن والحلق ، وتعرض للصبيان غالبا.

وأما نفع السعوط منها بالقسط المحكوك ، فلان العذرة مادتها دم يغلب عليه البلغم ، لكن تولده في أبدان الصبيان. وفى القسط تجفيف يشد اللهاة ويرفعها إلى مكانها. وقد يكون نفعه في هذا الداء بالخاصية. وقد ينفع في الأدواء الحارة ، والأدوية الحارة بالذات تارة ، وبالعرض أخرى. وقد ذكر صاحب القانون في معالجة سقوط اللهاة : القسط مع الشب اليماني وبزر المرو.

والقسط البحري المذكور في الحديث ، فهو : العود الهندي ، وهو الأبيض منه. وهو حلو ، وفيه منافع عديدة. وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة ، وبالعلاق. وهو : شئ يعلقونه على الصبيان. فنهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال ، وأسهل عليهم.

والسعوط : ما يصب في الانف ، وقد يكون بأدوية مفردة ومركبة : تدق وتنخل وتعجن وتجفف ، ثم تحل عند الحاجة ، ويسعط بها في أنف الانسان : وهو مستلق على ظهره وبين كتفيه ما يرفعهما ، لينخفض رأسه ، فيتمكن السعوط من الوصول إلى دماغه. ويستخرج ما فيه من الداء بالعطاس.

وقد مدح النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ التداوي بالسعوط فيما يحتاج إليه فيه. وذكر أبو داود في سننه : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استعط ».

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج المفؤود

روى أبو داود في سننه ـ من حديث مجاهد ، عن سعد ـ قال : « مرضت مرضا ، فأتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعودني. فوضع يده بين ثديي : حتى وجدت بردها على فؤادي ، وقال لي : إنك رجل مفؤود ، فأت الحرث بن كلدة من ثقيف (١) ، فإنه

__________________

(١) طبيب العرب!!! اه‍ ق. ورواية سنن أبي داود (٤ / ٧ : ط النجارية أولى) : « أخا ثقيف ».


رجل يتطبب ، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة. فليجأهن (١) بنواهن ، ثم ليلدك (١) بهن » (٢).

المفؤود : الذي أصيب فؤاده ، فهو يشتكيه. كالمبطون : الذي يشتكى بطنه. واللدود : ما يسقاه الانسان من أحد جانبي الفم. وفى التمر خاصية عجيبة لهذا الداء ولا سيما تمر المدينة ، ولا سيما العجوة منه. وفى كونها سبعا خاصية أخرى تدرك بالوحي.

وفى الصحيحين ـ من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من تصبح بسبع تمرات من تمر العالية ، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر ». وفى لفظ : « من أكل سبع تمرات مما بين لا بتيها (٣) ، حين يصبح ، لم يضره سم حتى يمسى » (٤).

والتمر حار في الثانية ، يابس في الأولى. وقيل : رطب فيها. وقيل : معتدل. وهو غذاء فاضل حافظ للصحة ، لا سيما لمن اعتاد الغذاء به : كأهل المدينة وغيرهم. وهو من أفضل الأغذية في البلاد الباردة والحارة التي حرارتها في الدرجة الثانية. وهو لهم أنفع منه لأهل البلاد الباردة : لبرودة بواطن سكانها ، وحرارة بواطن سكان البلاد الباردة. ولذلك يكثر أهل الحجاز واليمن والطائف ، وما يليهم ـ من البلاد المشابهة لها ـ من الأغذية الحارة ، مالا يتأنى لغيرهم : كالتمر والعسل. وشاهدناهم يضعون في أطعمتهم من الفلفل والزنجبيل ، فوق ما يضعه غيرهم ، نحو عشرة أضعاف أو أكثر ، ويأكلون الزنجبيل كما يأكل غيرهم الحلوى. ولقد شاهدت من يتنقل (٥) به منهم كان يتنقل بالنقل. ويوافقهم

__________________

(١) كذا بالزاد (ص ٩٤) ، وسنن أبي داود (٤ / ٨). وانظر : النهاية (٤ / ١٩٤). وفى الأصل : « فليلجأهن .. ليدلك ». وهو تحريف.

وعلق « ق » على ذلك فقال : من وجأه بمعنى دقه. أي : فليدقهن. والكلمة محرفة في الأصل. اه‍ د.

(٢) أخرجه أبو داود بسند حسن ، والطبراني بسند ضعيف. وآخره ـ كما في أبى داود ـ : « ليلدك » من اللد. ومنه اللدود. وقد سبق تعريفه! وسيعرفه المصنف!!. والكلمة فيه محرفة أيضا. اه‍ ق.

(٣) لا بتيها : ما يحيط بجانبيها من الحجارة السود المحترقة من قديم. تثنية « لابة » بزنة غاية. اه‍ ق.

(٤) وأخرجه أيضا : أبو داود ، وأحمد. اه‍ ق.

(٥) كذا بالزاد (ص ٩٤) وفى الأصل في الموضعين : « ينتقل ». وهو تصحيف.


ذلك ، ولا يضرهم : لبرودة أجوافهم ، وخروج الحرارة إلى ظاهر الجسد. كما تشاهد مياه الآبار : تبرد في الصيف ، وتسخن في الشتاء. وكذلك تنضج المعدة من الأغذية الغليظة ، في الشتاء ، مالا تنضجه في الصيف.

وأما أهل المدينة : فالتمر لهم يكاد أن يكون بمنزلة الحنطة لغيرهم ، وهو قوتهم ومادتهم. وتمر العالية من أجود أصناف تمرهم : فإنه متين الجسم ، لذيذ الطعم ، صادق الحلاوة.

والتمر يدخل في الأغذية والأدوية والفاكهة ، وهو يوافق أكثر الأبدان ، مقو للحار الغريزي. ولا يتولد عنه من الفضلات الرديئة ، ما يتولد عن غيره من الأغذية والفاكهة ، بل يمنع لمن اعتاده ، من تعفن الاخلاط وفسادها.

وهذا الحديث من الخطاب الذي أريد به الخاص : كأهل المدينة ومن جاورهم. ولا ريب أن للأمكنة اختصاصا ينفع كثير (١) من الأدوية في ذلك المكان دون غيره ، فيكون الدواء الذي قد نبت في هذا المكان نافعا من الداء ، ولا يوجد فيه ذلك النفع : إذا نبت في مكان غيره ، لتأثير نفس التربة ، أو الهواء ، أو هما جميعا. فإن للأرض خواص وطبائع يقارب اختلافها اختلاف طبائع الانسان. وكثير من النبات يكون في بعض البلاد غذاء مأكولا ، وفى بعضها سما قاتلا. ورب أدوية لقوم أغذية لآخرين ، وأدوية لقوم من أمراض هي أدوية لآخرين في أمراض سواها ، وأدوية لأهل بلاد (٢) لا تناسب غيرهم ولا تنفعهم.

وأما خاصية السبع ، فإنها قد وقعت قدرا وشرعا. فخلق الله عز وجل السماوات سبعا ، والأرضين سبعا ، والأيام سبعا ، والانسان كمل خلقه في سبعة أطوار. وشرع الله لعباده الطواف سبعا ، والسعي بين الصفا والمروة سبعا ، ورمى الجمار (٣) سبعا سبعا ، وتكبيرات العيدين سبعا في الأولى. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « مروه بالصلاة لسبع ». وإذا صار للغلام سبع

__________________

(١) بالزاد : « كثيرا » ، وهو تحريف.

(٢) بالزاد (ص ٩٥) : « بلدها ».

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : « الحجار » ، وهو تصحيف


سنين : خير بين أبويه في رواية ، وفى رواية أخرى : أبوه أحق به من أمه ، وفى ثالثة : أمه أحق به. وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه : أن يصب عليه من سبع قرب. وسخر الله الريح على قوم عاد سبع ليال. ودعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن يعينه الله على قومه بسبع كسبع يوسف. ومثل الله سبحانه ما يضاعف به صدقة المتصدق : بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، والسنابل التي رآها صاحب يوسف سبعا (١) ، والسنين التي (٢) زرعوها دأبا سبعا. وتضاعف الصدقة إلى سبعمائة ضعف : إلى أضعاف كثيرة. ويدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب سبعون ألفا.

فلا ريب أن لهذا العدد خاصية ليست لغيره ، والسبعة جمعت معاني العدد كله وخواصه. فإن العدد شفع (ووتر. والشفع أول وثان ، والوتر كذلك. فهذه أربع مراتب : شفع ) (٣) أول وثان ، ووتر أول وثان. ولا تجتمع هذه المراتب في أقل من سبعة. وهى عدد كامل جامع لمراتب العدد الأربعة ، أعنى : الشفع والوتر والأوائل والثواني ، ونعني بالوتر الأول : الثلاثة ، وبالثاني : الخمسة ، وبالشفع الأول : الاثنين ، وبالثاني ، الأربعة. وللأطباء اعتناء عظيم بالسبعة ، ولا سيما في البحارين. وقد قال أبقراط (٤) : « كل شئ في هذا العالم فهو مقدر على سبعة أجزاء » ، والنجوم سبعة ، والأيام سبعة ، وأسنان الناس سبعة أولها طفل : إلى سبع ، ثم صبي : إلى أربع عشرة ، ثم مراهق ، ثم شاب ، ثم كهل ، ثم شيخ ، ثم هرم : إلى منتهى العمر. والله تعالى أعلم بحكمته وشرعه وقدره في تخصيص هذا العدد : هل هو لهذا المعنى؟ أو لغيره؟.

ونفع هذا العدد من هذا التمر ، من هذا البلد ، من هذه البقعة بعينها ، من السم

__________________

(١) هكذا في الأصل ( والزاد ص ٩٥ في الموضعين ) بنصب « سبعا ». والظاهر أنها على المفعولية لفعل مقدر ، كالسابق تقديره : ومثل الله. اه‍ ق. والذي نراه أنه إما محرف عن « سبع » ، أو أن أصل الكلام : « وكانت السنابل. ».

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « الذي » ، وهو تحريف.

(٣) الزيادة عن الزاد (ص ٩٥). (٤) بالأصل والزاد : « بقراط ».


والسحر ـ بحيث تمنع إصابته ـ : من الخواص التي لو قالها أبقراط وجالينوس وغيرهما من الأطباء ، لتلقاها عنهم الأطباء بالقبول والاذعان والانقياد. مع أن القائل إنما معه الحدس والتخمين والظن. فمن كلامه كله يقين وقطع وبرهان ووحى ، أولى أن تتلقى أقواله بالقبول والتسليم ، وترك الاعتراض. وأدوية السموم تارة تكون بالخاصية ، كخواص كثير من الاحجار والجواهر واليواقيت. والله أعلم.

( فصل ) ويجوز نفع التمر المذكور في بعض السموم. فيكون الحديث من العام المخصوص. ويجوز نفعه ، لخاصية تلك البلد وتلك التربة الخاصة ، من كل سم. ولكن ههنا أمر لا بد من بيانه ، وهو : أن من شرط انتفاع العليل بالدواء قبوله واعتقاده النفع به ، فتقبله الطبيعة فتستعين به على دفع العلة. حتى إن كثيرا من المعالجات تنفع (١) بالاعتقاد وحسن القبول ، وكمال التلقي. وقد شاهد الناس من ذلك عجائب. وهذا : لان الطبيعة يشتد قبولها له ، وتفرح النفس به ، فتنتعش القوة ، ويقوى سلطان الطبيعة ، وينبعث الحار الغريزي فيساعد على دفع المؤذى. وبالعكس يكون كثير من الأدوية نافعا لتلك العلة ، فيقطع عمله سوء اعتقاد العليل فيه ، وعدم أخذ الطبيعة له بالقبول ، فلا يجدى (٢) عليها شيئا.

واعتبر هذا بأعظم الأدوية والأسقية (٣) ، وأنفعها للقلوب والابدان ، والمعاش والمعاد ، والدنيا والآخرة ، وهو : القرآن الذي هو شفاء من كل داء ، كيف لا ينفع القلوب التي لا تعتقد فيه الشفاء والنفع ، بل لا يزيدها إلا مرضا على مرضها. وليس لشفاء القلوب دواء قط أنفع من القرآن : فإنه شفاؤها التام الكامل الذي لا يغادر فيها سقما إلا أبرأه ، ويحفظ عليها صحتها المطلقة ، ويحميها الحمية التامة من كل مؤذ ومضر. ومع هذا فإعراض أكثر القلوب عنه ، وعدم اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه أنه كذلك ، وعدم استعماله ، والعدول عنه إلى الأدوية التي ركبها بنو حدسها (٤) ـ حال بينها وبين الشفاء به ، وغلبت العوائد ،

__________________

(١) بالزاد (ص ٩٥) : « ينفع » : وكل صيحيح.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « تجدى » ، ولعله تصحيف.

(٣) بالزاد : « والأشفية ». (٤) بالزاد ٩٦ : جنسها. وهو الظاهر


واشتد الاعراض ، وتمكنت العلل والأدواء المزمنة من القلوب ، وتربى المرضى والأطباء على علاج بنى جنسهم ، وما وصفه (١) لهم شيوخهم ومن يعظمونه ويحسنون به ظنونهم. فعظم

المصاب ، واستحكم الدواء ، وتركبت أمراض وعلل أعيا عليهم علاجها ، وكلما عالجوها بتلك

العلاجات الحادثة : تفاقم أمرها وقويت : ولسان الحال ينادى عليهم :

ومن العجائب ـ والعجائب جمة ـ

قرب الشفاء ، وما إليه وصول

كالعيس في البيداء : يقتلها الظما

والماء فوق ظهورها محمول

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دفع ضرر الأغذية والفاكهة

وإصلاحها بما يدفع ضررها ، ويقوى نفعها

ئبت في الصحيحين ـ من حديث عبد الله بن جعفر ـ قال : « رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكل الرطب بالقثاء » (٢).

والرطب حار رطب في الثانية : يقوى المعدة الباردة ويوافقها ، ويزيد في الباه. ولكنه سريع التعفن ، معطش ، معكر للدم مصدع ، مولد للسدد ووجع المثانة ، ومضر بالأسنان. والقثاء بارد رطب في الثانية : مسكن للعطش ، منعش للقوى بشمه : لما فيه من العطرية ، مطفئ لحرارة المعدة الملتهبة. وإذا جفف بزره ودق ، واستحلب بالماء وشرب ـ : سكن العطش ، وأدر البول ، ونفع من وجع المثانة. وإذا دق ونخل ، ودلك به الأسنان : جلاها. وإذا دق ورقه ، وعمل منه ضماد مع الميفختج (٣) : نفع من عضة الكلب الكلب.

وبالجملة : فهذا حار ، وهذا بارد. وفى كل منهما صلاح الآخر ، وإزالة لأكثر ضرره ، ومقاومة كل كيفية بضدها ، ودفع سورتها بالأخرى. وهذا أصل العلاج كله ،

__________________

(١) في الزاد : « وضعه ». وكل صحيح.

(٢) وأخرجه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد. اه‍ ق.

(٣) هكذا في الأصل الذي بيدنا (والزاد ص ٩٦). ولا معنى لها. وكأنها محرفة عن « الميخبخ ». قال فيه داود : يراد به أغلوقى ، وهو عقيد العنب إلخ. اه‍ ق


وهو أصل في حفظ الصحة. بل علم الطب كله يستفاد من هذا. وفي استعمال ذلك وأمثاله

في الأغذية والأدوية ، إصلاح لها وتعديل ، ودفع لما فيها : من الكيفيات المضرة ، لما يقابلها وفى ذلك عون على صحة البدن وقوته وخصبه.

قالت عائشة رضي الله عنها : « سمنوني بكل شئ ، فلم أسمن. فسمنوني بالقثاء والرطب ، فسمنت ».

وبالجملة : فدفع ضرر البارد بالحار ، والحار بالبارد ، والرطب باليابس ، واليابس بالرطب ، وتعديل أحدهما بالآخر ـ : من أبلغ أنواع العلاجات وحفظ الصحة.

ونظير هذا ما تقدم : من أمره بالسنا والسنوت ، وهو : العسل الذي فيه شئ من السمن يصلح به السنا ويعدله. فصلوات الله وسلامه على من بعث بعمارة القلوب والابدان ، وبمصالح الدنيا والآخرة.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحمية

الدواء كله شيئان : حمية ، وحفظ صحة. فإذا وقع التخليط : احتيج إلى الاستفراغ الموافق. وكذلك مدار الطب كله على هذه القواعد الثلاث.

والحمية حميتان : حمية عما يجلب المرض ، وحمية عما يزيده ، فيقف على حاله. فالأولى : حمية الأصحاء. والثانية : حمية المرضى. فإن المريض إذا احتمى : وقف مرضه عن التزايد ، وأخذت القوى في دفعه.

والأصل في الحمية قوله تعالى : (وإن كنتم مرضى ، أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء ، فتيمموا صعيدا طيبا) ، فحمى المريض من استعمال الماء : لأنه يضره.

وفى سنن ابن ماجة وغيره ، عن أم المنذر بنت قيس الأنصارية ، قالت : « دخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعه علي ، وعلي ناقة من مرض ، ولنا دوال معلقة. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(٦ ـ الطب النبوي)


يأكل منها ، وقام علي يأكل منها. فطفق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لعلي : إنك ناقة ، حتى كف. قالت : وصنعت شعيرا وسلقا ، فجئت به. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : من هذ أصب ، فإنه أنفع لك » ، وفى لفظ : « فقال : من هذا فأصب ، فإنه أوفق لك » (١).

وفى سنن ابن ماجة أيضا ، عن صهيب ، قال : « قدمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبين يديه خبز وتمر ـ فقال : ادن فكل. فأخذت تمرا فأكلت. فقال : أتأكل تمرا وبك رمد؟! فقلت : يا رسول الله ، أمضغ من الناحية الأخرى فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم » (٢).

وفى حديث محفوظ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إن الله إذا أحب عبدا : حماه من الدنيا ، كما يحمى أحدكم مريضه عن الطعام والشراب » ، وفى لفظ : « إن الله يحمى عبده المؤمن من الدنيا ».

وأما الحديث الدائر على ألسنة كثير من الناس : « الحمية رأس الدواء ، والمعدة بيت الداء ، وعودوا كل جسم ما اعتاد » ، فهذا الحديث إنما هو من كلام الحرث بن كلدة طبيب العرب ، ولا يصح رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قاله غير واحد من أئمة الحديث.

ويذكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أن المعدة حوض البدن ، والعروق إليها واردة. فإذا صحت المعدة : صدرت العروق بالصحة ، وإذا سقمت المعدة : صدرت العروق بالسقم ».

وقال الحرث : « رأس الطب الحمية ». والحمية عندهم للصحيح في المضرة ، بمنزلة التخليط للمريض والناقة. وأنفع ما تكون الحمية للناقة من المرض : فإن طبيعته لم ترجع بعد إلى قوتها ، والقوة الهاضمة ضعيفة. والطبيعة قابلة ، والأعضاء مستعدة ، فتخليطه يوجب انتكاسها. وهو أصعب من ابتداء مرضه.

واعلم أن في منع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي من الاكل من الدوالي وهو ناقة ، أحسن التدبير (٣) : فإن الدوالي أفناء من الرطب تعلق في البيت للاكل ، بمنزلة عناقيد العنب. والفاكهة

__________________

(١) وأخرجه أيضا أبو داود وأحمد ، والحاكم في صحيحه. اه‍ ق.

(٢) وأخرجه أيضا الترمذي والحاكم اه‍ ق.

(٣) كذا بالزاد (ص ٩٧). وفى الأصل : « أحسن من التدبير » ، والزيادة من الناسخ أو الطابع


تضر بالناقة من المرض : لسرعة استحالتها ، وضعف الطبيعة عن دفعها ، فإنها بعد لم تتمكن قوتها : وهى مشغولة بدفع آثار العلة وإزالتها من البدن. وفى الرطب خاصة نوع ثقل على المعدة ، فتشتغل بمعالجته وإصلاحه ، عما هي بصدده : من إزالة بقية المرض ، وآثاره ، فإما أن تقف تلك البقية ، وإما أن تتزايد. فلما وضع بين يديه السلق والشعير ، أمره : أن يصيب منه. فإنه من أنفع الأغذية للناقه : فإن في ماء الشعير ـ من التبريد والتغذية ، والتلطيف والتليين ، وتقوية الطبيعة ـ ما هو أصلح للناقه ، ولا سيما إذا طبخ بأصول السلق. فهذا من أوفق الغذاء لمن في معدته ضعف ، ولا يتولد عنه من الاخلاط ، ما يخاف منه.

وقال زيد بن أسلم : « حمى عمر رضي الله عنه مريضا له ، حتى إنه من شدة ما حماه ، كان يمص النوى ». وبالجملة : فالحمية من أكبر الأدوية قبل الداء (١) ، فتمنع حصوله. وإذا حصل : فتمنع تزايده وانتشاره.

( فصل ) ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا مما يحمى عنه العليل والناقة والصحيح ، إذا اشتدت الشهوة إليه ، ومالت إليه الطبيعة ، فتناول منه الشئ اليسير الذي لا تعجز الطبيعة عن هضمه ـ : لم يضره تناوله ، بل ربما انتفع به. فإن الطبيعة والمعدة تتلقيانه بالقبول والمحبة ، فيصلحان ما يخشى من ضرره. وقد يكون أنفع من تناول ما تكرهه الطبيعة وتدفعه : من الدواء.

ولهذا أقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صهيبا ـ وهو أرمد ـ على تناول التمرات اليسيرة ، وعلم أنها لا تضره.

ومن هذا ما يروى عن علي : « أنه دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أرمد ـ وبين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تمر يأكله ـ فقال : يا علي ، تشتهيه؟ ورمى إليه بتمرة ، ثم بأخرى ، حتى رمى إليه سبعا. ثم قال : حسبك يا علي » (٢).

ومن هذا ما رواه ابن ماجة في سننه ـ من حديث عكرمة ، عن ابن عباس ـ :

__________________

(١) في الزاد : « الدواء » ، وهو تحريف فتأمل.

(٢) رواه أبو نعيم في الطب بإسناد حسن. اه‍ ق.


« أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاد رجلا ، فقال له : ما تشتهى؟ فقال : أشتهي خبز بر. وفى لفظ : أشتهي كعكا. فقال النبي (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كان عنده خبز بر ، فليبعث إلى أخيه. ثم قال : إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا ، فليطعمه » (٢).

ففي هذا الحديث سر طبي لطيف : فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق طبيعي ، وكان فيه ضرر ما ـ : كان أنفع وأقل ضررا مما لا يشتهيه. وإن كان نافعا في نفسه : فإن صدق شهوته ، ومحبة الطبيعة له ـ تدفع (٣) ضرره. وبغض الطبيعة وكراهتها للنافع ، قد يجلب لها منه ضررا. وبالجملة : فاللذيذ المشتهى تقبل الطبيعة عليه بعناية. فتهضمه على أحمد الوجوه ، سيما عند انبعاث ( النفس ) (٤) إليه بصدق الشهوة ، وصحة القوة. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الرمد بالسكون والرعة

وترك الحركة ، والحمية مما يهيج الرمد

وقد تقدم : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمى صهيبا من التمر ، وأنكر عليه أكله : وهو أرمد. وحمى عليا من الرطب لما أصابه الرمد

وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا رمدت عين امرأة من نسائه : لم يأتها حتى تبرأ عينها ».

( الرمد ) : ورم حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين ، وهو بياضها الظاهر. وسببه : انصباب أحد الاخلاط الأربعة ، أو ريح حارة تكثر كميتها في الرأس والبدن ، فينبعث منها قسط إلى جوهر العين ، أو ضربة تصيب العين ، فترسل الطبيعة إليها من الدم والروح مقدارا كثيرا ، تروم بذلك شفاءها مما عرض لها. ولأجل ذلك يورم العضو المضروب. والقياس يوجب ضده.

__________________

(١) كذا بالزاد (ص ٩٧). وفى الأصل : « فقال له النبي ». والزيادة من الطابع أو الناسخ.

(٢) وأخرجه أيضا عن أنس. اه‍ ق.

(٣) بالزاد ٩٨ : « يدفع ». وكلاهما صحيح.

(٤) الزيادة عن الزاد.


واعلم أنه كما يرتفع من الأرض إلى الجو بخاران : أحدهما حار يابس ، والآخر حار رطب ، فينعقدان سحابا متراكما ، ويمنعان (١) أبصارنا من إدراك السماء ـ : فكذلك يرتفع من قعر المعدة إلى منتهاها مثل ذلك ، فيمنعان النظر ، ويتولد عنهما علل شتى. فإن قويت الطبيعة على ذلك ، ودفعته إلى الخياشيم : أحدث الزكام ، وإن دفعته إلى اللهاة والمنخرين : أحدث الخناق ، وإن دفعته إلى الجنب : أحدث الشوصة ، وإن دفعته إلى الصدر : أحدث النزلة ، وإن انحدر إلى القلب : أحدث الخبطة ، وإن دفعته إلى العين : أحدث رمدا ، وإن انحدر إلى الجوف : أحدث السيلان ، وإن دفعته إلى منازل الدماغ : أحدث النسيان ، وإن ترطبت أوعية الدماغ منه ، وامتلأت به عروقه. أحدث النوم الشديد. ولذلك كان النوم رطبا ، والسهر يابسا. وإن طلب البخار النفوذ من الرأس ، فلم يقدر عليه : أعقبه الصداع والسهر. وإن مال البخار إلى أحد شقى الرأس : أعقبه الشقيقة. وإن ملك قمة الرأس ووسط الهامة : أعقبه داء البيضة. وإن برد منه حجاب الدماغ أو سخن أو ترطب ، وهاجت منه أرياح : أحدث العطاس. وإن أهاج الرطوبة البلغمية فيه ، حتى غلب الحار الغريزي : أحدث الاغماء والسكتات (٢). وإن أهاج المرة السوداء ، حتى أظلم هواء الدماغ : أحدث الوسواس. وإن فاض ذلك إلى مجارى العصب : أحدث الصرع الطبيعي. وإن ترطبت مجامع عصب الرأس ، وفاض ذلك في مجاريه : أعقبه الفالج. وإن كان البخار من مرة صفراء ملتهبة محمية للدماغ : أحدث البرسام ، فإن شركه الصدر في ذلك : كان سرساما. فافهم هذا الفصل.

والمقصود : أن أخلاط البدن والرأس تكون متحركة هابحة في حال الرمد ، والجماع مما يزيد حركتها وثورانها : فإنه حركة كلية للبدن والروح والطبيعة. فأما البدن فيسخن بالحركة لا محالة ، والنفس تشتد حركتها : طلبا للذة واستكمالها ، والروح تتحرك تبعا لحركة النفس والبدن. فإن (٣) أول تعلق الروح من البدن بالقلب ، ومنه ينشأ الروح

__________________

(١) كذا بالزاد (ص ٩٨). وفى الأصل : « يمنعان ».

(٢) كذا بالأصل والزاد. ولعله محرف عن « السكات ».

(٣) بالزاد ٩٨ : « فإنه » وهو تحريف.


وينبث في الأعضاء. وأما حركة الطبيعة : فلان ترسل ما يجب إرساله من المنى ، على المقدار الذي يجب إرساله. وبالجملة : فالجماع : حركة كلية عامة ، يتحرك فيها البدن وقواه وطبيعته وأخلاطه ، والروح والنفس. فكل حركة فهي مثيرة للاخلاط مرققة لها ، توجب دفعها وسيلانها إلى الأعضاء الضعيفة. والعين في حال رمدها أضعف ما يكون ، فأضر ما عليها حركة الجماع. قال أبقراط (١) في كتاب الفصول : « وقد يدل ركوب السفن أن الحركة تثور الأبدان ». هذا مع أن في الرمد منافع كثيرة ، منها : ما يستدعيه من الحمية والاستفراغ ، وتنقية الرأس والبدن من فضلاتهما وعفوناتهما (٢) ، والكف عما يؤذى النفس والبدن : من الغضب والهم والحزن ، والحركات العنيفة ، والأعمال الشاقة. وفى أثر سلفى : « لا تكرهوا الرمد ، فإنه يقطع عروق العمى ».

ومن أسباب علاجه : ملازمة السكون والراحة ، وترك مس العين والاشتغال بها. فإن أضداد (٣) ذلك يوجب انصباب المواد إليها. وقد قال بعض السلف : « مثل أصحاب محمد : مثل العين ، ودواء العين ترك مسها ».

وقد روى في حديث مرفوع ـ الله أعلم به ـ : « علاج الرمد : تقطير الماء البارد في العين ». وهو من أكبر الأدوية للرمد الحار : فإن الماء دواء بارد يستعان به على طفء حرارة الرمد ، إذا كان حارا. ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، لامرأته زينب ـ وقد اشتكت عينها ـ : « لو فعلت كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان خيرا لك وأجدر أن تشفى : تنضحين في عينك الماء ، ثم تقولين : أذهب الباس رب الناس ، واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما » (٤).

وهذا مما تقدم مرارا : أنه خاص ببعض البلاد ، وبعض أوجاع العين. فلا تجعل (٥)

__________________

(١) بالزاد : « بقراط ». ولعله تحريف. انظر : طبقات الأطباء ١ / ٢٤.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « فضلاتها وعفونتها » ، وهو تحريف.

(٣) كذا بالأصل. ولعل « يوجب » مصحف عن » توجب ». وفى الزاد / ٩٩ : « إصدار ».

(٤) أخرجه أبو داود وابن ماجة ، والحاكم في صحيحه. اه‍ ق.

(٥) بالزاد ٩٩ : « يجعل ». وهو صحيح أيضا.


كلام النبوة الجزئي الخاص كليا عاما ، ولا الكلى العام جزئيا خاصا ، فيقع من الخطأ وخلاف الصواب ، ما يقع. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الخدران الكلى

الذي يجمد معه البدن.

ذكر أبو عبيد في « غريب الحديث » ـ من حديث أبي عثمان النهدي : « أن قوما مروا بشجرة فأكلوا منها ، فكأنما مرت بهم ريح فأجمدتهم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قرسوا (١) الماء في الشنان ، وصبوا عليهم فيما بين الأذانين » ، ثم قال أبو عبيد : « قرسوا يعنى : بردوا. وقول الناس : قد قرس البرد ، إنما هو من هذا بالسين ، ليس بالصاد. والشنان : الأسقية والقرب الخلقان. يقال للسقاء : شن ، وللقربة : شنة. وإنما ذكر الشنان دون الجرة (٢) : لأنها أشد تبريدا للماء. وقوله : بين الأذانين ، يعنى : أذان الفجر والإقامة. فسمى الإقامة أذانا » انتهى كلامه.

قال بعض الأطباء : وهذا العلاج من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أفضل علاج هذا الداء ، إذا كان وقوعه بالحجاز. وهى بلاد حارة يابسة ، والحار الغريزي ضعيف في بواطن سكانها ، وصب الماء البارد عليهم في الوقت المذكور ـ وهو أبرد أوقات اليوم ـ يوجب جمع الحار الغريزي المنتشر في البدن الحامل لجميع قواه ، فيقوى (٣) القوة الدافعة ، ويجتمع من أقطار البدن إلى باطنه الذي هو محل ذلك الداء ، ويستظهر بباقي القوى على دفع المرض المذكور ، فيدفعه بإذن الله عز وجل. ولو أن أبقراط (٤) أو جالينوس أو غيرهما وصف هذا الدواء لهذا الداء : لخضعت له الأطباء ، وعجبوا من كمال معرفته.

__________________

(١) بالزاد : « فرسوا ... فرسوا ... فرس » وهو تصحيف.

(٢) بالزاد : « الجدد ». وهو تصحيف.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : « فتقوى ». وهو تصحيف.

(٤) بالزاد : « بقراط ».


فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب

وإرشاده إلى دفع مضرات السموم بأضدادها

في الصحيحين ـ من حديث أبي هريرة ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « إذا وقع الذباب في إناء أحدكم : فامقلوه ، فإن في أحد جناحيه داء ، وفى الآخر شفاء » (١).

وفى سنن ابن ماجة ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « أحد جناحي الذباب سم ، والآخر شفاء. فإذا وقع في الطعام : فامقلوه ، فإنه يقدم السم ، ويؤخر الشفاء » (٢).

هذا الحديث فيه أمران : أمر فقهي ، وأمر طبي. فأما الفقهي : فهو دليل ـ ظاهر الدلالة جدا ـ على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع ، فإنه لا ينجسه. وهذا قول جمهور العلماء. ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك.

ووجه الاستدلال به : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمر بمقله ، وهو غمسه في الطعام. ومعلوم أنه يموت من ذلك ، ولا سيما : إذا كان الطعام حارا. فلو كان ينجسه : لكان أمرا بإفساد الطعام ، وهو ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنما أمر بإصلاحه. ثم عدا (٣) هذا الحكم إلى كل مالا نفس له سائلة : كالنحلة والزنبور والعنكبوت ، وأشباه ذلك. إذ الحكم يعم بعموم علته ، وينتفى لانتفاء سببه. فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته ، وكان ذلك مفقودا فيما لا دم له سائل ـ : انتفى الحكم بالتنجيس (٤) ، لانتفاء علته.

ثم قال من لم يحكم بنجاسة عظم الميتة : إذا كان هذا ثابتا في الحيوان الكامل ـ مع ما فيه من الرطوبات والفضلات ، وعدم الصلابة ـ : فثبوته في العظم ، الذي هو أبعد عن

__________________

(١) أخرجه البخاري. ولم يخرجه مسلم كما جزم به الحافظ في الفتح. وأخرجه أبو داود وابن ماجة وأحمد وابن حبان والبيهقي. اه‍ ق.

(٢) وأخرجه أيضا النسائي وأحمد والحاكم والبيهقي. اه‍ ق.

(٣) أي : جاوز. وبالزاد ٩٩ : « عدى » بالضم. وهو أحسن.

(٤) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : « في التنجيس ».


الرطوبات والفضلات واحتقان الدم ، أولى. وهذا في غاية القوة ، فالمصير إليه أولى.

وأول من حفظ عنه في الاسلام أنه تكلم بهذه اللفظة ـ فقال : مالا نفس له سائلة. ـ إبراهيم النخعي رضي الله عنه ، وعنه تلقاها الفقهاء. والنفس في اللغة يعبر بها : عن الدم. ومنه « نفست المرأة » بفتح النون : إذا حاضت ، و « نفست » بضمها : إذا ولدت.

وأما المعنى الطبي ، فقال أبو عبيد : « معنى » امقلوه « : اغمسوه ليخرج الشفاء منه ، كما خرج الداء. يقال للرجلين : هما يتماقلان ، إذا تغاطا في الماء ».

واعلم أن في الذباب عندهم قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه ، وهى بمنزلة السلاح. فإذا سقط فيما يؤذيه : اتقاه بسلاحه. فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء ، فيغمس كله في الماء والطعام ، فيقابل المادة السمية المادة النافعة ، فيزول ضررها. وهذا طب لا يهتدى إليه كبار الأطباء وأئمتهم ، بل هو خارج من مشكاة النبوة. ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق ، يخضع لهذا العلاج ، ويقر لمن جاء به : بأنه أكمل الخلق على الاطلاق ، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية.

وقد ذكر غير واحد من الأطباء : أن لسع الزنبور والعقرب إذا دلك موضعه بالذباب : نفع منه نفعا بينا وسكنه. وما ذاك إلا للمادة التي فيه من الشفاء. وإذا دلك به الورم الذي يخرج في شعر العين ، المسمى شعرة ـ بعد قطع رؤوس الذباب ـ : أبرأه.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج البثرة

ذكر ابن السنى في كتابه ، عن بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : « دخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد خرج في إصبعي بثرة ـ فقال : عندك ذريرة؟ قلت : نعم. قال : ضعيها عليها. وقال : قولي : اللهم مصغر الكبير ، ومكبر الصغير ، صغر مابى » (١).

__________________

(١) وأخرجه أيضا الحاكم ، وقال : « صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. اه‍ ق


( الذريرة ) : دواء هندي يتخذ من قصب الذريرة. وهى حارة يابسة ، تنفع من أورام المعدة والكبد والاستسقاء ، وتقوى القلب لطيبها.

وفى الصحيحين عن عائشة ، أنها قالت : « طيبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي ، بذريرة ، في حجة الوداع ، للحل والاحرام ».

و ( البثرة ) : خراج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة ، فتسترق مكانا من الجسد تخرج منه ، فهي محتاجة إلى ما ينضجها ويخرجها. والذريرة أحد ما يفعل بها ذلك : فإن فيها إنضاجا وإخراجا مع طيب رائحتها ، مع أن فيها تبريدا للنارية التي في تلك المادة. ولذلك (١) قال صاحب القانون : ـ « إنه لا أفضل لحرق النار من الذريرة بدهن الورد والخل ».

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الأورام والخراجات

التي تبرأ بالبط والبزل

يذكر عن علي أنه قال : « دخلت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على رجل يعوده بظهره ورم ، فقالوا : يا رسول الله ، بهذه مدة. قال : بطوا عنه. قال علي : فما برحت حتى بطت ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهد ».

ويذكر عن أبي هريرة : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر طبيبا : أن ببط بطن رجل أجوى البطن ، فقيل : يا رسول الله ، هل ينفع الطب؟ قال : الذي أنزل الداء ، أنزل الشفاء فيما شاء ».

( الورم ) : مادة في حجم العضو ، لفضل مادة غير طبيعية ، تنصب إليه وتوجد (٢) في أجناس الأمراض كلها. والمواد التي يكون عنها من الاخلاط الأربعة والمائية والريح. وإذا اجتمع الورم سمى : خراجا. وكل ورم حار يؤول أمره إلى أحد ثلاثة أشياء : إما تحلل ، وإما جمع مدة ، وإما استحالة إلى الصلابة. فإن كانت القوة قوية : استولت على مادة

__________________

(١) هذا هو الظاهر. وفى الزاد ١٠٠ : « وكذلك ».

(٢) بالزاد ١٠٠ : « ويوجد ». وكل صحيح.


الورم وحللته ، وهى أصلح الحالات التي يؤول حال الورم إليها. وإن كانت دون ذلك : أنضجت المادة وأحالتها مدة بيضاء ، وفتحت لها مكانا أسالتها منه. وإن نقصت عن ذلك : أحالت المادة مدة غير مستحكمة النضج ، وعجزت عن فتح مكان في العضو تدفعها منه ، فيخاف على العضو الفساد : بطول لبثها فيه ، فيحتاج حينئذ إلى إعانة الطبيب ، بالبط أو غيره ، لاخراج تلك المادة الرديئة المفسدة للعضو.

وفى البط فائدتان : ( إحداهما ) : إخراج المادة الرديئة المفسدة. ( والثانية ) : منع اجتماع مادة أخرى إليها تقويها (١).

وأما قوله في الحديث الثاني : « إنه أمر طبيبا أن يبط بطن رجل أجوى البطن » ، فالجوى يقال على معان منها : الماء المنتن الذي يكون في البطن ، يحدث عنه الاستسقاء.

وقد اختلف الأطباء في بزله لخروج هذه المادة : فمنعه طائفة منهم : لخطره ، وبعد السلامة معه. وجوزته طائفة أخرى ، وقالت : لا علاج له سواه. وهذا عندهم إنما هو في الاستسقاء الزقى. فإنه ـ كما تقدم ـ ثلاثة أنواع : طبلي ، وهو : الذي ينتفخ معه البطن بمادة ريحية ، إذا ضربت عليه سمع له صوت كصوت الطبل. ولحمى ، وهو : الذي يربو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية ، تفشو مع الدم في الأعضاء. وهو أصعب من الأول. وزقى ، وهو : الذي يجتمع معه في البطن الأسفل مادة رديئة ( يسمع ) (٢) لها عند الحركة خضخضة كخضخضة الماء في الزق. وهو أردأ (٣) أنواعه عند الأكثرين من الأطباء. وقالت طائفة : أردأ (٣) أنواعه اللحمي ، لعموم الآفة به.

ومن جملة علاج الزقى : إخراج ذلك الماء بالبزل ، ويكون ذلك بمنزلة فصد العروق

__________________

(١) هذا وصف دقيق للخراج واحتمالات طرق تخلص الجسم منه. والخراج هو : التهاب أي جزء من أجزاء الجسم مع تكون مادة صديدية بداخله. وأهم علاج له هو : فتحه بعملية جراحية لاخراج المادة الصديدية. اه‍ د.

(٢) زيادة جيدة عن الزاد (١٠١).

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : « أردى ». وهو لغة ضعيفة. انظر المختار والمصباح


لاخراج الدم الفاسد. لكنه خطر كما تقدم. وإن ثبت هذا الحديث : فهو دليل على جواز بزله. والله أعلم (١).

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج المرضى

بتطييب نفوسهم ، وتقوية قلوبهم

روى ابن ماجة في سننه ـ من حديث أبي سعيد الخدري ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إذا دخلتم على المريض : فنفسوا له في الاجل ، فإن ذلك لا يرد شيئا ، وهو يطيب (٢) نفس المريض (٣) ».

في هذا الحديث نوع شريف جدا من أشرف أنواع العلاج ، وهو : الارشاد إلى ما يطيب نفس العليل : من الكلام الذي تقوى به الطبيعة ، وتنتعش به القوة ، وينبعث به الحار الغريزي ، فيتساعد على دفع العلة أو تخفيفها ، الذي هو غاية تأثير الطبيب.

وتفريح (٤) نفس المريض ، وتطييب قلبه ، وإدخال ما يسره عليه ـ له تأثير عجيب : في شفاء علته ، وخفتها. فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك ، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذى. وقد شاهد الناس كثيرا من المرضى : تنتعش قواه بعيادة من يحبونه ويعظمونه ، ورؤيتهم لهم ( ولطفهم بهم ) (٥) ، ومكالمتهم إياهم. وهذا أحد فوائد عيادة المرضى التي تتعلق بهم. فإن فيها أربعة أنواع من الفوائد : نوع يرجع إلى المريض ، ونوع يعود على العائد ، ونوع يعود على أهل المريض ، ونوع يعود على العامة.

وقد تقدم في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان يسأل المريض عن شكواه ، وكيف يجده؟ ويسأله عما يشتهيه ، ويضع يده على جبهته ، وربما وضعها بين ثدييه ، ويدعو له ، ويصف له

__________________

(١) الاستسقاء هو : تكون سائل مصلى داخل التجويف البريتوني بالبطن. وأسبابه متعددة ، أهمها : تليف الكبد ، وهبوط القلب. وفى حالة اشتداد ضغط السائل ، يتبع علاج البذل إلى الآن ، بواسطة إبرة بذل بطن معقمة تدخل التجويف البريتوني لاخراج السائل. اه‍ د.

(٢) كذا بالأصل والفتح الكبير (١ / ١٠٩). وفى الزاد : « تطييب ».

(٣) وأخرجه أيضا الترمذي. وفى إسناده لين. اه‍ ق.

(٤) كذا بالزاد. وفى الأصل : « وتفريج » ، ولعله تصحيف. (٥) زيادة حسنة عن الزاد


ما ينفع في علته. وربما توضأ وصب على المريض من وضوئه. وربما كان يقول للمريض : « لا بأس عليك ، طهور إن شاء الله تعالى ». وهذا من كمال اللطف ، وحسن العلاج والتدبير.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الأبدان بما اعتادته

من الأدوية والأغذية ، دون ما لم تعتده

هذا أصل عظيم من أصول العلاج ، وأنفع شئ فيه. وإذا أخطأه الطبيب : ضر المريض من حيث يظن أنه ينفعه. ولا يعدل عنه إلى ما يجده من الأدوية في كتب الطب ، إلا طبيب جاهل. فإن ملاءمة الأدوية والأغذية للأبدان : بحسب استعدادها وقبولها. وهؤلاء أهل البوادي والا كارون وغيرهم : لا ينجع فيهم شراب اللينوفر والورد الطري ولا المغلى (١) ، ولا يؤثر في طباعهم شيئا. بل عامة أدوية أهل الحضر وأهل الرفاهية ، لا تجدى عليهم. والتجربة شاهدة بذلك.

ومن تأمل ما ذكرناه ـ من العلاج النبوي ـ رآه كله موافقا لعادة العليل وأرضه ، وما نشأ عليه. فهذا أصل عظم من أصول العلاج : يجب الاعتناء به. وقد صرح به أفاضل أهل الطب ، حتى قال طبيب العرب ، بل أطبهم الحارث بن كلدة ـ وكان فيهم كأبقراط في قومه ـ : « الحمية رأس الدواء ، والمعدة بيت الداء ، وعودوا كل بدن ما اعتاد » ، وفى لفظ عنه : « الأزم دواء ». والأزم : الامساك عن الاكل ، يعنى به : الجوع. وهو من أكبر الأدوية في شفاء الأمراض الامتلائية كلها : بحيث إنه أفضل في علاجها من المستفرغات ، إذا لم يخف من كثرة الامتلاء ، وهيجان الاخلاط وحدتها وغليانها.

وقوله : « المعدة بيت الداء » ، ( المعدة ) : عضو عصبي مجوف كالقرعة في شكله ، مركب من ثلاث طبقات مؤلفة من شظايا دقيقة عصبية ، تسمى الليف ، ويحيط بها لحم ،

__________________

(١) بالأصل والزاد ١٠١ : « المغالى ». والظاهر أنه محرف عما أثبتناه. انظر المصباح : ( غلا )


وليف إحدى الطبقات بالطول ، والاخرى بالعرض ، والثالثة بالورب (١). وفم المعدة أكثر عصبا ، وقعرها أكثر لحما. وفى باطنها خمل. وهى محصورة في وسط البطن ، وأميل إلى الجانب الأيمن قليلا. خلقت على هذه الصفة : لحكمة لطيفة من الخالق الحكيم سبحانه. وهى بيت الداء وكانت محلا لهضم الأول. وفيها ينضج الغذاء ، وينحدر منها بعد ذلك إلى الكبد والأمعاء. ويتخلف منه فيها فضلات عجزت القوة الهاضمة عن تمام هضمها : إما لكثرة الغذاء ، أو لرداءته ، أو لسوء ترتيب في استعماله له ، أو لمجموع ذلك. وهذه الأشياء بعضها مما لا يتخلص الانسان منه غالبا ، فتكون المعدة بيت الداء لذلك. وكأنه يشير بذلك : إلى الحث على تقليل الغذاء ، ومنع النفس من اتباع الشهوات ، والتحرز عن الفضلات. وأما العادة : فلانها كالطبيعة للانسان ، ولذلك يقال : العادة طبع ثان. وهى قوة عظيمة في البدن ، حتى إن أمرا واحدا إذا قيس إلى أبدان مختلفة العادات : كان مختلف النسبة إليها ، وإن كانت تلك الأبدان متفقة في الوجوه الأخرى. مثال ذلك : أبدان ثلاثة حارة المزاج في سن الشباب ، أحدها : عود تناول الأشياء الحارة. والثاني : عود تناول (الأشياء الباردة. والثالث : عود تناول) (٢) الأشياء المتوسطة. فإن الأول متى تناول عسلا : لم يضربه. والثاني (٣) متى تناوله : أضربه. والثالث : يضربه قليلا. فالعادة ركن عظيم في حفظ الصحة ، ومعالجة الأمراض. ولذلك جاء العلاج النبوي بإجراء كل بدن على عادته : في استعمال الأغذية والأدوية ، وغير ذلك.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تغذية المريض

بألطف ما اعتاده من الأغذية

في الصحيحين (٤) من حديث عروة ، عن عائشة : « أنها كانت إذا مات الميت من

__________________

(١) بالأصل والزاد : « بالوراب ». وهو تحريف. وقد علق ق ، فقال : سبق تفسيره ، والذي رأيناه فيما بين أيدينا من كتب اللغة ، هو « الورب » بدون الألف.

(٢) زيادة متعينة عن الزاد ١٠٢.

(٣) كذا بالزاد وفى الأصل : « الثاني » وهو تحريف.

(٤) بالأصل : « صحيح مسلم ». والنص الآتي موافق في جملته لما في صحيح البخاري ٧ / ٧٥ (بولاق) ، وصحيح مسلم ٧ / ٢٦ (تركيا). وعبارة الزاد : « في الصحيحين ... اجتمع ... إلى أهلهن ، أمرت ببرمه تلبينة ، فطبخت وصنت ثريدا ، ثم صبت التلبينة عليه ، ثم قالت : كلوا .. ».

وانظر صحيح البخاري ٧ / ١٢٤


أهلها ، فاجتمع لدلك النساء ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها ، أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ، ثم صنع ثريد ، فصبت التلبينة عليها ، ثم قالت : كلن منها ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : التلبينة مجمة لفؤاد المريض ، تذهب ببعض الحزن » (١).

وفى السنن ، من حديث عائشة أيضا ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « عليكم بالبغيض النافع ، التلبين » (٢) ، قالت : « وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اشتكى أحد من أهله : لم تزل البرمة على النار ، حتى ينتهى أحد طرفيه » يعنى : يبرأ أو يموت. وعنها : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قيل له : إن فلانا وجع لا يطعم الطعام ، قال : عليكم بالتلبينة فحسوه إياها. ويقول : الذي نفسي بيده ، إنها تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكن وجهها من الوسخ » (٣).

( التلبين ) هو : الحساء الرقيق الذي هو في قوام اللبن ، ومنه اشتق اسمه. قال الهروي : « سميت تلبينة : لشهها باللبن ، لبياضها ورقتها ». وهذا الغذاء هو النافع للعليل ، وهو الرقيق النضيج ، لا الغليظ النيئ. وإذا شئت أن تعرف فضل التلبينة : فاعرف فضل ماء الشعير ، بل هي (٤) أفضل من ماء الشعير لهم : فإنها حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته. والفرق بينها وبين ماء الشعير : أنه يطبخ صحاحا ، والتلبينة تطبخ منه مطحونا. وهى أنفع منه لخروج خاصية الشعير بالطحن.

وقد تقدم : أن للعادات تأثيرا في الانتفاع بالأدوية والأغذية. وكانت عادة القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحونا ، لا صحاحا. وهو أكثر تغذية ، وأقوى فعلا ، وأعظم جلاء. وإنما أطباء المدن منه صحاحا : ليكون أرق وألطف ، فلا يثقل على طبيعة المريض. وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها ، وثقل ماء الشعير المطحون عليها.

__________________

(١) وأخرجه أيضا البخاري والترمذي والنسائي وأحمد. اه‍ ق.

(٢) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد والحاكم. اه‍ ق.

(٣) أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم. اه‍ ق.

(٤) في الزاد ١٠٢ : « هي ماء الشعير ». والنقص من الناسخ أو الطابع


والمقصود : أن ماء الشعير مطبوخا صحاحا ، ينفذ سريعا ، ويجلو جلاء ظاهرا ، ويغذى غذاء لطيفا. وإذا شرب حارا : كان إجلاؤه أقوى ، ونفوذه أسرع ، وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثر ، وتلميسه لسطوح المعدة أوفق.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « فيها مجمة لفؤاد المريض » ، يروى بوجهين : بفتح الميم والجيم ، وبضم الميم وكسر الجيم. والأول أشهر. ومعناه : أنها مريحة له ، أي تريحه وتسكنه. من « الاجمام » وهو : الراحة.

وقوله : « ويذهب ببعض الحزن » ، هذا ـ والله أعلم ـ : لان الغم والحزن يبردان المزاج ، ويضعفان الحرارة الغريزية : لميل الروح الحامل لها إلى جهة القلب ، الذي هو منشؤها. وهذا الحساء يقوى (١) الحرارة الغريزية : بزيادته في مادتها ، فتزيل أكثر ما عرض له : من الغم والحزن.

وقد يقال ـ وهو أقرب : إنها تذهب ببعض الحزن ، بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة. فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية. والله أعلم.

وقد يقال : إن قوى الحزين تضعف باستيلاء اليبس على أعضائه ، وعلى معدته خاصة ، لتقليل الغذاء. وهذا الحساء يرطبها ويقويها ويغذيها ، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض. لكن المريض كثيرا ما يجتمع في معدته خلط مراري أو بلغمي أو صديدي ، وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة ويسروه ، ويحدره (٢) ويميعه ، ويعدل كيفيته ، ويكسر سورته ـ فيريحها ، ولا سيما لمن عادته الاغتذاء بخبز الشعير. وهى عادة أهل المدينة إذ ذاك. وكان هو غالب قوتهم ، وكانت الحنطة عزيزة عندهم. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج السم

الذي أصابه بخيبر من اليهود

ذكر عبد الرزاق ـ عن معمر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ـ :

__________________

(١) بالزاد ١٠٣ : « مقوى ». ولعله تصحيف.

(٢) بالزاد : « ويخدره ويمنعه ». وهو تصحيف


« أن امرأة يهودية أهدت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة مصلية بخيبر ، فقال : ما هذا (١)؟ قالت : هدية. وحذرت أن تقول : من الصدقة ، فلا يأكل منها. فأكل منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكل الصحابة. ثم قال : أمسكوا. ثم قال للمرأة : هل سمعت هذه الشاة؟ قالت : من أخبرك بهذا؟ قال : هذا العظم ـ لساقها وهو في يده ـ قالت : نعم قال : لم؟ قالت : أردت إن كنت كاذبا : أن يستريح منك الناس ، وإن كنت نبيا : لم يضرك. قال : فاحتجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة على الكاهل ، وأمر أصحابه أن يحتجموا ، فاحتجموا. فمات بعضهم ».

وفى طريق أخرى : « واحتجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كاهله ، من أجل الذي أكل : من الشاة. حجمه أبو هند بالقرن والشفرة ـ وهو مولى لبنى بياضة من الأنصار ـ وبقى بعد ذلك ثلاث سنين ، حتى كان وجعه الذي توفى فيه ، فقال : ما زلت أجد من (٢) الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر ، حتى كان (٣) هذا أوان انقطاع الأبهر منى. فتوفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيدا ».

قال موسى بن عقبة : معالجة السم تكون بالاستفراغات ، وبالأدوية التي تعارض فعل السم وتبطله : إما بكيفاتها ، وإما بخواصها. فمن عدم الدواء : فيبادر إلى الاستفراغ الكلى (٤). وأنفعه الحجامة لا سيما : إذا كان البلد حارا ، والزمان حارا. فإن القوة السمية تسرى إلى الدم ، فتنبعث في العروق والمجارى حتى تصل إلى القلب ، فيكون الهلاك. فالدم هو المنفذ الموصل للسم إلى القلب والأعضاء. فإذا بادر المسموم وأخرج

__________________

(١) بالزاد : « هذه .. فأكل النبي ».

(٢) كذا بالزاد ١٠٣. وفى الأصل : « في » ولعله تصحيف.

(٣) بالزاد والأصل : « كأن ». والظاهر أنه تصحيف. انظر الفتح الكبير ٣ / ٩٣.

(٤) التسمم الغذائي أو بالسموم ، أهم أعراضه القئ المتكرر. وأهم طرق علاجه هو : غسيل المعدة من المادة السمية. ومن السهل القيام بذلك ، بتناول كميات كبيرة من الماء الدافئ المذاب به بعض ملح الطعام ، واستفراغه ثانيا. وهذه العملية تتكرر عدة مرات حتى يعود الماء كما هو. وبذلك تكون المعدة أصبحت خالية من المادة السمية. ويعطى بعد ذلك مسهل لاخراج ما تسرب من المادة السمية ، من الشرج. اه‍ د.

(٧ ـ الطب النبوي)


الدم : خرجت معه تلك الكيفية السمية التي خالطته. فإن كان استفراغا تاما : لم يضره السم ، بل : إما أن يذهب ، وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة ، فتبطل فعله أو تضعفه.

ولما احتجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : احتجم في الكاهل ـ وهو أقرب المواضع التي تمكن (١) فيها الحجامة ، إلى القلب ـ فخرجت المادة السمية مع الدم : لا خروجا كليا ، بل بقى أثرها مع ضعفه. لما يريد الله سبحانه : من تكميل مراتب الفضل كلها له.

فلما أراد الله إكرامه بالشهادة : ظهر تأثير ذلك الأثر الكامن من السم ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا ، وظهر سر قوله تعالى لأعدائه من اليهود : (أفكلما (٢) جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم : ففريقا كذبتم ، وفريقا تقتلون؟) ، فجاء بلفظ « كذبتم » بالماضي الذي قد وقع منه وتحقق ، وجاء بلفظ « تقتلون » بالمستقبل الذي يتوقعونه وينتظرونه. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج السحر الذي سحرته اليهودية

قد أنكر هذا طائفة من الناس ، وقالوا : لا يجوز هذا عليه ، وظنوه نقصا وعيبا. وليس الامر كما زعموا ، بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من الأسقام والأوجاع وهو من الأمراض ، وإصابته به كإصابته بالسم : لافرق بينهما.

وقد ثبت في الصحيحين ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : « سحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ، ولم يأتهن » (٣). وذلك أشد ما يكون من السحر.

قال القاضي عياض : « والسحر مرض من الأمراض ، وعارض من العلل ، يجوز

__________________

(١) بالزاد : « يمكن ». وكلاهما صحيح.

(٢) بالأصل والزاد : « أو كلما ». وهو تصحيف. والآية من سورة البقرة : (٨٧). وانظر سورة المائدة : (٧٠).

(٣) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد. اه‍ ق


عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنواع الأمراض ، مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته. وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله ، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شئ من صدقه ، لقيام الدليل والاجماع على عصمته من هذا. وإنما هذا فيما يجوز طروه (١) عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها ، ولافضل من أجلها ، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر. فغير بعيد : أنه يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له ، ثم ينجلى عنه كما كان ».

والمقصود ذكر هديه في علاج هذا المرض. وقد روى عنه نوعان : ( أحدهما ) ـ وهو أبلغهما ـ : استخراجه وتبطيله : كما صح عند صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أنه سأل ربه سبحانه في ذلك ، فدل عليه. فاستخرجه من بئر. فكان في مشط ومشاطة ، وجف طلعة ذكر. فلما استخرجه : ذهب ما به حتى كأنما نشط من عقال ». فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب. وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ.

( والنوع الثاني ) : الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر. فإن للسحر تأثيرا في الطبيعة وهيجان أخلاطها ، وتشويش مزاجها ، فإذا ظهر أثره في عضو ، وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو ـ : نفع جدا.

وقد ذكر أبو عبيد في كتاب « غريب الحديث » له ـ بإسناده عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى ـ : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتجم على رأسه بقرن حين طب » ، قال أبو عبيد : « معنى (طب) أي : سحر ».

وقد أشكل هذا على من قل علمه ، وقال : ما للحجامة والسحر؟ وما الرابطة بين هذا الداء وهذا الدواء؟ ولو وجد هذا القائل أبقراط وابن سينا أو غيرهما ، قد نص على هذا العلاج ـ : لتلقاه بالقبول والتسليم ، وقال : قد نص عليه من لا نشك في معرفته وفضله.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٠٤. وفى الأصل : « طرده ». وهو تصحيف


فاعلم أن مادة السحر الذي أصيب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهت إلى رأسه : إلى إحدى قواه التي فيه ، بحيث كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ ولم يفعله. وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية : بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدم منه ، فغيرت مزاجه عن طبيعته الأصلية.

والسحر (١) مركب من تأثيرات الأرواح الخبيثة ، وانفعال القوى الطبيعية عنها. وهو سحر التمريجات (٢). وهو أشد ما يكون من السحر ، ولا سيما في الموضع الذي انتهى (٣) إليه السحر. واستعمال الحجامة على ذلك المكان ـ الذي تضررت أفعاله بالسحر ـ من أنفع المعالجة : إذا استعملت على القانون الذي ينبغي. قال أبقراط : « الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من (٤) المواضع التي هي إليها أميل ، بالأشياء التي تصلح لاستفراغها ».

وقالت طائفة من الناس : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أصيب بهذا الداء ، وكان يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله ـ : ظن أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها ، مالت إلى جهة الدماغ ، وغلبت على البطن المقدم منه ، فأزالت مزاجه عن الحالة الطبيعية له. وكان استعمال الحجامة ـ إذ ذاك ـ من أبلغ الأدوية ، وأنفع المعالجة ، فاحتجم. وكان ذلك قبل أن يوحى إليه : أن ذلك من السحر. فلما جاءه الوحي من الله تعالى ، وأخبره أنه قد سحر ـ : عدل إلى العلاج الحقيقي ، وهو استخراج السحر وإبطاله ، فسأل الله سبحانه : فدله على مكانه ، فاستخرجه. فقام كأنما نشط من عقال. وكان غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده وظاهر جوارحه ، لاعلى عقله وقلبه. ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يخيل إليه : من إتيان النساء ، بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له. ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض. والله أعلم.

( فصل ) ومن أنفع علاجات السحر : الأدوية الإلهية : بل هي أدويته النافعة بالذات. فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية. ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها :

__________________

(١) بالزاد ١٠٤ زيادة : « هو ».

(٢) بالزاد : « التمريجات ». وهو تصحيف.

(٣) بالزاد : « انتهى السحر إليه ».

(٤) كذا بالزاد. وفى الأصل : « في ». ولعله تصحيف.


من الاذكار والآيات والدعوات ، التي تبطل فعلها وتأثيرها. وكلما كانت أقوى وأشد : كانت أبلغ في النشرة. وذلك بمنزلة التقاء جيشين : مع كل واحد منهما عدته وسلاحه ، فأيهما غلب الاخر : قهره وكان الحكم له. فالقلب إذا كان ممتلئا من الله ، مغمورا بذكره ـ وله من التوجهات والدعوات ، والاذكار والتعوذات ، ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه ـ : كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له ، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه.

وعند السحرة : أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة ، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات. ولهذا غالب ما يؤثر : في النساء والصبيان ، والجهال وأهل البوادي ، ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد ، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية ، والدعوات والتعوذات النبوية. وبالجملة ، فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة ، التي يكون ميلها إلى السفليات.

قالوا : والمسحور هو الذي يعين على نفسه ، فإنا نجد قلبه متعلقا بشئ ، كثير الالتفات إليه ، فيتسلط على قلبه بما فيه : من الميل والالتفات. والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها ، بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة ، وبفراغها من القوة الإلهية ، وعدم أخذها للعدة التي تجاربها بها ، فتجدها فارغة لا عدة معها ، وفيها ميل إلى ما يناسبها ، فتتسلط عليها ، ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الاستفراغ بالقئ

روى الترمذي في جامعه ـ عن معدان بن أبي طلحة ، عن أبي الدرداء : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاء فتوضأ. فلقيت ثوبان في مسجد دمشق ، فذكرت له ذلك. فقال : صدق ، أنا صببت له وضوءه ». (١) قال الترمذي : وهذا أصح شئ في الباب.

__________________

(١) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم وابن الجارود والدار قطني والبيهقي والطحاوي. اه‍ ق


القئ : أحد الاستفراغات الخمسة التي هي أصول الاستفراغ ، وهى الاسهال ، والقئ ، وإخراج الدم ، وخروج الأبخرة ، والعرق (١). وقد جاءت بها السنة.

أما (٢) الاسهال ، فقد مر في حديث : « خير ما تداويتم به المشئ » ، وفى حديث السناء.

وأما إخراج الدم ، فقد تقدم في أحاديث الحجامة.

وأما استفراغ الأبخرة ، فنذكره عقيب هذا الفصل إن شاء الله.

وأما الاستفراغ بالعرق (٣) ، فلا يكون غالبا بالقصد (٣) ، بل بدفع الطبيعة له إلى ظاهر الجسد ، فتصادف المسام مفتحة ، فيخرج منها.

والقئ : استفراغ من أعلى المعدة (٤) ، والحقنة من أسفلها ، والدواء من أعلاها وأسفلها. والقئ نوعان : نوع بالغلبة والهيجان ، ونوع بالاستدعاء والطلب. فأما الأول : فلا يسوغ حبسه ودفعه إلا إذا أفرط وخيف منه التلف ، فيقطع بالأشياء التي تمسكه. وأما الثاني : فأنفعه عند الحاجة : إذا روعي زمانه وشروطه التي تذكر.

وأسباب القئ عشرة. ( أحدها ) : غلبة المرة الصفراء ، وطفوها على رأس المعدة ، فتطلب الصعود.

( الثاني ) : من غلبة بلغم لزج قد تحرك في المعدة ، واحتاج إلى الخروج.

( الثالث ) : أن يكون من ضعف المعدة في ذاتها ، فلا تهضم الطعام ، فتقذفه إلى جهة فوق.

( الرابع ) : أن يخالطها خلط ردئ ينصب إليها ، فيسئ هضمها ، ويضعف فعلها.

( الخامس ) : أن يكون من زيادة المأكول أو المشروب على القدر الذي تحتمله المعدة ، فتعجز عن إمساكه ، فتطلب دفعه وقذفه.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٠٥ ، وهو الظاهر. وفى الأصل : « من العروق » وهو تحريف يجعل الكلام ناقصا. فتأمل.

(٢) بالزاد : « وأما ». والزيادة من الناسخ أو الطابع.

(٣) بالأصل « بالعروق .. في الفصد ». وبالزاد : « بالعرق .. بالفصد بل تدفع ». والظاهر ما أثبتناه.

(٤) القئ هو : استخراج محتويات المعدة ، وهى صفة طبيعية للجسم السليم عند وجود أحد الأسباب المرضية التي ذكرت في هذا الباب. اه‍ د.


( السادس ) : أن يكون من عدم موافقة المأكول والمشروب لها ، وكراهتها له ، فتطلب دفعه وقذفه.

( السابع ) : أن يحصل فيها ما يثور الطعام بكيفيته وطبيعته ، فتقذف به.

( الثامن ) : القرف. وهو موجب غثيان النفس وتهوعها.

( التاسع ) : من الاعراض النفسانية ، كالهم الشديد والغم والحزن ، وغلبة اشتغال الطبيعة والقوى الطبيعية به ، واهتمامها بوروده ، عن تدبير البدن وإصلاح الغذاء وإنضاجه وهضمه ، فتقذفه المعدة. وقد يكون لأجل تحرك الاخلاط عند تخبط النفس. فإن كل واحد من النفس والبدن ينفعل عن صاحبه ، ويؤثر كيفيته في كيفيته.

( العاشر ) : نقل الطبيعة : بأن يرى من يتقيأ فيغلبه هو (١) القئ من غير استدعاء. فإن الطبيعة نقالة.

وأخبرني بعض حذاق الأطباء ، قال : كان لي ابن أخت حذق في الكحل ، فجلس كحالا. فكان إذا فتح عين الرجل ، ورأى الرمد وكحله : رمد. وتكرر ذلك منه ، فترك الجلوس. قلت له : فما سبب ذلك؟ قال : نقل الطبيعة ، فإنها نقالة. قال : وأعرف آخر كان رأى خراجا في موضع من جسم رجل يحكه ، فحك هو ذلك الموضع ، فخرجت فيه خراجة.

قلت : وكل هذا لابد فيه من استعداد الطبيعة ، وتكون المادة ساكنة فيها غير متحركة ، فتتحرك لسبب من هذه الأسباب. فهذه أسباب لتحرك المادة ، لا أنها (٢) هي الموجبة لهذا العارض.

( فصل ) ولما كانت الاخلاط في البلاد الحارة والأزمنة الحارة ، ترق وتنجذب إلى فوق ـ : كان القئ فيها أنفع. ولما كانت في الأزمنة الباردة والبلاد الباردة ، تغلظ ويصعب جذبها إلى فوق ـ : كان استفراغها بالاسهال أنفع.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٠٦. وفى الأصل : « وهو ». والزيادة من الناسخ أو الطابع.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « لا لأنها » وهو تحريف


وإزالة الاخلاط ودفعها يكون (١) بالجذب والاستفراغ. والجذب يكون من أبعد الطرق ، والاستفراغ من أقربها. والفرق بينهما : أن المادة إذا كانت عاملة في الانصباب أو الترقي ، لم تستقر بعد ، فهي محتاجة إلى الجذب. فإن كانت متصاعدة : جذبت من أسفل ، وإن كانت منصبة : جذبت من فوق. وأما إذا استقرت في موضعها : استفرغت من أقرب الطرق إليها.

فمتى أضرت المادة بالأعضاء العليا : اجتذبت من أسفل ، ومتى أضرت بالأعضاء السفلى : اجتذبت من فوق ، ومتى استقرت : استفرغت من أقرب مكان إليها.

ولهذا احتجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كاهله تارة ، وفى رأسه أخرى ، وعلى ظهر قدمه تارة. فكان يستفرغ مادة الدم المؤذى من أقرب مكان إليه. والله أعلم.

( فصل ) والقئ ينقى المعدة ويقويها ، ويحد البصر ، ويزيل ثقل الرأس ، وينفع قروح الكلى والمثانة ، والأمراض المزمنة : كالجذام والاستسقاء والفالج والرعشة. وينفع اليرقان.

وينبغي أن يستعمله الصحيح في الشهر مرتين متواليتين ، من غير حفظ دور ليتدارك الثاني ما قصر عنه الأول ، وينقى الفضلات التي انصبت بسببه. والاكثار منه يضر المعدة ويجعلها قابلة للفضول ، ويضر بالأسنان والبصر والسمع. وربما صدع عرقا. ويجب أن يجتنبه من به (٢) ورم في الحلق ، أو ضعف في الصدر ، أو دقيق الرقبة ، أو مستعد لنفث الدم ، أو عسر الإجابة له.

وأما ما يفعله كثير من سيئى (٣) التدبير ـ وهو أن يمتلئ من الطعام ، ثم يقذفه ـ : ففيه آفات عديدة ، منها : أنه يعجل الهرم ، ويوقع في أمراض رديئة ، ويجعل القئ له عادة.

والقئ مع اليبوسة وضعف الأحشاء ، وهزال المراق ، أو ضعف المستقئ ـ خطر. وأحمد أوقاته الصيف والربيع ، دون الشتاء والخريف. وينبغي عند القئ : أن

__________________

(١) بالزاد : « تكون ». وهو صحيح أيضا.

(٢) بالزاد ١٠٦ : « له ». ولعله تصحيف.

(٣) هذا هو الظاهر وبالأصل : « سيئ » وفى الزاد : « ممن نسى ».


يعصب العينين ، ويقمط البطن ، ويغسل الوجه بماء بارد عند الفراغ ، وأن يشرب عقبه شراب التفاح مع يسير من مصطكي. وماء الورد ينفعه نفعا بينا. والقئ يستفرغ من أعلى المعدة ، ويجذب من أسفل. والاسهال بالعكس. قال أبقراط : « وينبغي أن يكون الاستفراغ في الصيف من فوق ، أكثر من الاستفراغ بالدواء ، وفى الشتاء من أسفل ».

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الارشاد

إلى معالجة أحذق الطبيبين (١)

ذكر مالك في موطئه ـ عن زيد بن أسلم ـ : « أن رجلا في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جرح ، فاحتقن الدم. وأن الرجل دعا رجلين من بنى أنمار ، فنظرا إليه. فزعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لهما : أيكما أطب؟ فقالا : أوفى الطب خير يا رسول الله؟! فقال : أنزل (٢) الدواء الذي أنزل الداء ».

ففي هذا الحديث : أنه ينبغي الاستعانة ، في كل علم وصناعته ، بأحذق من فيها فالأحذق ، فإنه إلى الإصابة أقرب. وهكذا : يجب على المستفتى أن يستعين على ما نزل به ، بالأعلم فالأعلم. لأنه أقرب إصابة ممن هو دونه. وكذلك : من خفيت عليه القبلة ، فإنه يقلد أعلم من يجده. وعلى هذا فطر الله عباده. كما أن المسافر في البر والبحر : إنما سكون نفسه وطمأنينته إلى أحذق الدليلين وأخبرهما ، وله يقصد ، وعليه يعتمد. فقد اتفقت على هذا الشريعة والفطرة والعقل.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أنزل الدواء الذي أنزل الداء » ، قد جاء مثله عنه في أحاديث كثيرة. فمنها : ما رواه عمرو بن دينار عن هلال بن يساف ، قال : « دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على مريض يعوده ، فقال : أرسلوا إلى طبيب. فقال قاتل : وأنت تقول ذلك

__________________

(١) بالزاد : « الطبيين ». وهو تحريف.

(٢) كذا بالزاد ١٠٧ وهو الموافق لما سيأتي.

وفى الأصل : « الذي أنزل الدواء ».


يا رسول الله؟! قال : نعم ، إن الله عز وجل لم ينزل داء ، إلا أنزل له دواء » (١) وفى الصحيحين ـ من حديث أبي هريرة ، يرفعه ـ : « ما أنزل الله من داء ، إلا أنزل له شفاء » وقد تقدم هذا الحديث وغيره.

واختلف في معنى إنزال الداء والدواء ، فقالت طائفة : إنزاله إعلام العباد به. وليس بشيء. فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر بعموم الانزال لكل داء ودوائه ، وأكثر الخلق لا يعلمون ذلك. ولهذا قال : « علمه من علمه ، وجهله من جهله ».

وقالت طائفة : إنزالهما خلقهما ووضعهما في الأرض ، كما في الحديث الاخر : « إن الله لم يضع داء ، إلا وضع له دواء » وهذا ـ وإن كان أقرب من الذي قبله ـ فلفظة « الانزال » أخص من لفظة « الخلق » و « الوضع ». فلا ينبغي إسقاط خصوصية اللفظة ، بلا موجب.

وقالت طائفة : إنزالهما بواسطة الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق : من داء ودواء ، وغير ذلك. فإن الملائكة موكلة بأمر هذا العالم ، وأمر النوع الإنساني ـ من حين سقوطه في رحم أمه إلى حين موته. فإنزال الداء والدواء مع الملائكة. وهذا أقرب من الوجهين قبله.

وقالت طائفة : إن عامة الأدواء والأدوية هي بواسطة إنزال الغيث من السماء الذي تتولد به الأغذية والأقوات ، والأدوية والأدواء ، وآلات ذلك كله ، وأسبابه ومكملاته ، وما كان منها من المعادن العلوية : فهي تنزل من الجبال ، وما كان منها ـ من الأدوية (٢) والأنهار والثمار ـ فداخل في اللفظ على طريق التغليب والاكتفاء عن الفعلين بفعل واحد يتضمنها. وهو معروف من لغة العرب بل وغيرها من الأمم. كقول الشاعر :

علفتها (٣) تبنا وماء باردا

حتى غدت همالة ، عيناها

وقال الآخر :

ورأيت زوجك : قد غدا

متقلدا سيفا ورمحا

وقال الآخر : * وزججن الحواجب والعيونا *. وهذا أحسن مما قبله من الوجوه والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه أحمد عن هلال عن ذكوان عن رجل من الأنصار ، ورجاله ثقات. اه‍ ق.

(٢) بالأصل : « الأدوية والبهار ». وبالزاد : « الأدوية والأنهار ». والظاهر أن الأصل ما أثبتناه.

(٣) بالزاد ١٠٧ : « وعلفتها ».


وهذا من تمام حكمة الرب عز وجل ، وتمام ربوبيته ، فإنه كما ابتلى عباده بالأدواء ، أعانهم عليها بما يسره لهم : من الأدوية. وكما ابتلاهم بالذنوب. أعانهم عليها بالتوبة ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة. وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثة ـ : من الشياطين. ـ أعانهم عليها بجند من الأرواح الطيبة ، وهم : الملائكة. وكما ابتلاهم بالشهوات ، أعانهم على قضائها بما يسره لهم شرعا وقدرا : من المشتهيات اللذيذة النافعة. فما ابتلاهم سبحانه بشئ ، إلا أعطاهم ما يستعينون به على ذلك البلاء ، ويدفعونه به. ويبقى التفاوت بينهم : في العلم بذلك ، والعلم بطريق حصوله ، والتوصل إليه. وبالله المستعان.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تضمين من طب الناس

وهو جاهل بالطب

روى أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ـ من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ـ من تطبب ـ ولم يعلم منه الطب قبل ذلك ـ : فهو ضامن » (١).

هذا الحديث يتعلق به ثلاثة أمور : أمر لغوى ، وأمر فقهي ، وأمر طبي.

فأما اللغوي ، فالطب ( بكسر الطاء ) في لغة العرب ، يقال على معان ( منها ) : الاصلاح. يقال : طببته ، إذا أصلحته. ويقال : له طب بالأمور ، أي : لطف وسياسة (٢).

قال الشاعر :

وإذا تغير من تميم أمرها :

كنت الطبيب لها برأي ثاقب

( ومنها ) : الحذق. قال الجوهري : كل حاذق طبيب عند العرب. قال أبو عبيد : أصل الطب : الحذق بالأشياء ، والمهارة بها. يقال للرجل : طب وطبيب ، إذا كان كذلك ،

__________________

(١) وأخرجه أيضا الحاكم. اه‍ ق.

(٢) كذا بالزاد ١٠٨. وفى الأصل : « وساس ». ولعله تصحيف.


وإن كان في غير علاج المريض. وقال غيره : رجل طبيب ، أي : حاذق. سمى طبيبا : لحذقه وفطنته. قال علقمة :

فإن تسألوني بالنساء : فإنني

خبير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء ، أو قل ماله :

فليس له في ودهن نصيب

وقال عنترة :

إن تغد في دوني (١) القناع : فإنني

طب بأخذ الفارس المستلئم

أي : إن ترخى عنى قناعك ، وتستري وجهك رغبة عنى ـ : فإني خبير حاذق بأخذ

الفارس الذي قد لبس لامة حربه.

( ومنها ) : العادة. يقال : ليس ذلك بطبي ، أي : عادتي. قال فروة بن مسيك :

فما إن طبنا جبن ، ولكن

منايانا ودولة آخرينا

وقال أحمد بن الحسين :

وما التيه (٢) طبي فيهم ، غير أنني

بغيض إلى الجاهل المتغافل

( ومنها ) : السحر. يقال : رجل مطبوب ، أي : مسحور.

وفى (٣) الصحيح ـ من حديث عائشة ـ : « لما سحرت يهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجلس الملكان عند رأسه وعند رجليه ، فقال أحدهما : ما بال الرجل؟ قال الآخر : مطبوب. قال : من طبه؟ قال : فلان اليهودي ».

قال أبو عبيد : إنما قالوا للمسحور : مطبوب ، لانهم كنوا بالطب عن السحر ، كما كنوا عند اللديغ (٤) فقالوا : سليم ، تفاؤلا بالسلامة. وكما كنوا بالمفازة عن الفلاة المهلكة التي لا ماء فيها ، فقالوا : مفازة ، تفاؤلا بالفوز من الهلاك.

ويقال الطب ، لنفس الدواء. قال ابن أبي الأسلت (٥) :

ألا من مبلغ حسان عنى :

أسحر كان طبك؟ أم جنون؟

__________________

(١) بالزاد ١٠٨ : « تعد في ذوي ». وهو تصحيف.

(٢) بالزاد : « ألقيه » وهو تصحيف.

(٣) بالزاد : « في ». ولعله تحريف.

(٤) كذا بالزاد. وهو المراد. وفى الأصل : « اللذيع » وهو تصحيف.

(٥) بالأصل والزاد : « الاسلب » وهو تصحيف.


وأما قول الحماسي :

فإن كنت مطبوبا : فلا زلت هكذا

وإن كنت مسحورا : فلا برئ السحر

ـ فإنه أراد بالمطبوب : الذي قد سحر ، وأراد بالمسحور : العليل بالمرض. قال الجوهري : « ويقال للعليل : مسحور » ، وأنشد البيت. ومعناه : إن كان هذا الذي قد عراني ، منك ومن حبك ، أسأل الله دوامه ، ولا أريد زواله ، سواء كان سحرا أو مرضا.

« والطب » مثلث الطاء ، فالمفتوح الطاء هو : العالم بالأمور ، وكذلك الطبيب يقال له : طب ، أيضا. و « الطب » بكسر الطاء : فعل الطبيب. « والطب » بضم الطاء :

اسم موضع. قاله ابن السكيت. وأنشد :

فقلت : هل أنهلتم بطب ركابكم

بجائزة الماء التي طاب طيبها؟

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من تطبب » ـ ولم يقل : من طب ـ لان لفظ التفعل يدل على

تكلف الشئ والدخول فيه بعسر وكلفة ، وأنه ليس من أهله. كتحلم ، وتشجع ، وتصبر ، ونظائرها. وكذلك بنوا « تكلف » على هذا الوزن. قال الشاعر.

* وقيس عيلان (١) ومن تقيسا *

وأما الامر الشرعي : فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل. فإذا تعاطى علم الطب وعمله ، ولم يتقدم له به معرفة ـ : فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس ، وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه. فيكون قد غرر بالعليل. فيلزمه الضمان لذلك. وهذا إجماع من أهل العلم.

قال الخطابي : لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض : كان ضامنا ، والمتعاطى علما أو عملا لا يعرفه ، متعد. فإذا تولد من فعله التلف : ضمن الدية ، وسقط عنه القود. ( لأنه ) (٢) لا يستبد بذلك بدون إذن المريض. وجناية المتطبب ـ في قول عامة الفقهاء ـ على عاقلته.

قلت : الأقسام خمسة ، ( أحدها ) : طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ، ولم تجن يده ،

__________________

(١) بالأصل والزاد ١٠٨ : « غيلان » بالغين المعجمة. وهو تصحيف ظاهر.

(٢) زيادة متعينة عن الزاد ١٠٩.


فتولد من فعله ـ المأذون من جهة الشارع ، ومن جهة من يطبه ـ تلف العضو أو النفس ، أو ذهاب صفة. فهذا لا ضمان عليه اتفاقا : فإنها سراية مأذون فيه. وهذا (١) كما إذا ختن الصبى في وقت ، وسنه قابل للختان ، وأعطى الصنعة حقها ، فتلف العضو أو الصبى ـ : لم يضمن. وكذلك : إذا بط من عاقل أو غيره ما ينبغي بطه في وقته ، على الوجه الذي ينبغي ، فتلف به ـ : لم يضمن. وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها : كسراية الحد بالاتفاق ، وسراية القصاص عند الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله : في إيجابه للضمان بها. وسراية التعزير ، وضرب الرجل امرأته ، والمعلم الصبى ، والمستأجر الدابة ، خلافا لأبي حنيفة والشافعي رحمهما الله : في إيجابهما الضمان في ذلك. واستثنى الشافعي رحمه الله ضرب الدابة.

وقاعدة الباب ـ إجماعا ، ونزاعا ـ : أن سراية الجناية مضمونة بالاتفاق ، وسراية الواجب مهدرة بالاتفاق. وما بينهما ففيه النزاع : فأبو حنيفة رحمه الله أوجب ضمانه مطلقا ، وأحمد ومالك رحمهما الله أهدرا ضمانه ، وفرق الشافعي رحمه الله بين المقدر : فأهدر ضمانه ، وبين غير المقدر : فأوجب ضمانه. فأبو حنيفة رحمه الله : نظر إلى أن الاذن في الفعل إنما وقع مشروطا بالسلامة. وأحمد ومالك رحمهما الله : نظرا إلى أن الاذن أسقط الضمان. والشافعي رحمه الله : نظر إلى أن المقدر لا يمكن النقصان منه ، فهو بمنزلة النص. وأما ( غير ) (٢) المقدر ـ كالتعزيرات ، والتأديبات ـ : فاجتهادية ، فإذا تلف بهما : ضمن. لأنه في مظنة العدوان.

( فصل ) القسم الثاني : متطبب جاهل باشرت يده من يطبه ، فتلف به. فهذا إن علم المجنى عليه أنه جاهل لا علم له ، وأذن له في طبه ـ : لم يضمن. ولا يخالف هذه الصورة ظاهر الحديث. فإن السياق وقوة الكلام يدل على أنه غر العليل ، وأوهمه أنه طبيب ، وليس كذلك.

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل « وهكذا » وهو تحريف.

(٢) زيادة متعينة عن الزاد ١٠٩


وإن ظن المريض أنه طبيب ، وأذن له في طبه لأجل معرفته ـ : ضمن الطبيب ما جنت يده. وكذلك : إن وصف له دواء يستعمله ، والعليل يظن أنه وصفه لمعرفته وحذقه فتلف به ـ : ضمنه. والحديث ظاهر فيه أو صريح.

( فصل ) القسم الثالث : طبيب حاذق أذن له ، وأعطى الصنعة حقها ، لكنه أخطأت يده ، وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه ، مثل : أن سبقت يد الخاتن إلى الكمرة. فهذا يضمن : لأنها جناية خطأ. ثم إن كانت الثلث (١) فما زاد : فهو على عاقلته. فإن لم يكن عاقلة (٢) : فهل تكون الدية في ماله؟ أو في بيت المال؟ على قولين هما روايتان عن أحمد.

وقيل : إن كان الطبيب ذميا : ففي ماله ، وإن كان مسلما : ففيه الروايتان.

فإن لم يكن بيت المال ، أو تعذر تحميله : فهل تسقط الدية؟ أو تجب في مال الجاني؟ فيه وجهان ، أشهرهما : سقوطها.

( فصل ) القسم الرابع : الطبيب الحاذق الماهر بصناعته ، اجتهد فوصف للمريض دواء ، فأخطأ في اجتهاده فقتله. فهذا يخرج على روايتين : ( إحداهما ) : أن دية المريض في بيت المال. ( والثانية ) : أنها على عاقلة الطبيب. وقد نص عليهما (٣) الإمام أحمد في خطأ الامام والحاكم.

( فصل ) القسم الخامس : طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ، فقطع سلعة ، من رجل أو صبي أو مجنون ، بغير إذنه أو إذن وليه ، أو ختن صبيا بغير إذن وليه ، فتلف. فقال بعض أصحابنا : يضمن ، لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه.

وإن أذن له البالغ أو ولى الصبى والمجنون : لم يضمن.

ويحتمل : أن لا يضمن مطلقا ، لأنه محسن ، وما على المحسنين من سبيل. وأيضا : فإنه إن كان متعديا : فلا أثر لاذن الولي في إسقاط الضمان ، وإن لم يكن متعديا : فلا وجه لضمانه.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٠٩. وفى الأصل : « الثلاث ». وهو تحريف.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « عاقلته ». وهو تحريف.

(٣) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : « عليها ». ولعله تحريف.


فإن قلت : هو متعد عند عدم الإذن ، غير متعد عند الاذن.

قلت : العدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو ، فلا أثر للاذن وعدمه فيه. وهذا موضع نظر.

( فصل ) والطبيب ـ في هذا الحديث ـ يتناول : من يطبه بوصفه وقوله ، وهو الذي يخص : باسم الطبائعي. وبمروده ، وهو : الكحال. وبمبضعه ومراهمه ، وهو : الجرائحي. وبموساه ، وهو : الخاتن. وبريشته ، وهو : الفاصد. وبمحاجمه ومشرطه ، وهو : الحجام. وبخلعه ووصله ورباطه ، وهو : المجبر. وبمكواته وناره ، وهو : الكواء. وبقربته ، وهو : الحاقن. وسواء كان طبه لحيوان بهيم أو إنسان ، فاسم الطبيب يطلق لغة على هؤلاء كلهم ، كما تقدم. وتخصيص الناس له ببعض أنواع الأطباء ، عرف حادث كتخصيص لفظ الدابة بما يخصها به كل قوم.

( فصل ) والطبيب الحاذق هو : الذي يراعى في علاجه عشرين أمرا :

( أحدها ) : النظر في نوع المرض : من أي الأمراض هو؟.

( الثاني ) : النظر في سببه : من أي شئ حدث؟ والعلة الفاعلة التي كانت سبب حدوثه ، ما هي؟.

( الثالث ) : قوة المريض ، وهل هي مقاومة للمرض ، أو أضعف منه؟ فإن كانت مقاومة للمرض مستظهرة عليه : تركها والمرض ، ولم يحرك بالدواء ساكنا.

( الرابع ) : مزاج البدن الطبيعي ما هو؟. ( الخامس ) : المزاج الحادث على غير المجرى الطبيعي. ( السادس ) : سن المريض. ( السابع ) : عادته. ( الثامن ) : الوقت الحاضر من فصول السنة ، وما يليق به. ( التاسع ) : بلد المريض وتربته. ( العاشر ) : حال الهواء في وقت المرض. ( الحادي عشر ) : النظر في الدواء المضاد لتلك العلة.

( الثاني عشر ) : النظر في قوة الدواء ودرجته ، والموازنة بينها (١) وبين قوة المريض.

__________________

(١) كذا بالزاد ١١٠. وفى الأصل : « بينهما » والظاهر أنه تحريف.


( الثالث عشر ) : أن لا يكون كل قصده إزالة تلك العلة فقط ، بل إزالتها على وجه يأمن معه حدوث أصعب منها. فمتى كان إزالتها لا يؤمن (١) معها حدوث علة أخرى أصعب منها : أبقاها على حالها ، وتلطيفها هو الواجب. وهذا كمرض أفواه العروق : فإنه متى عولج بقطعه وحبسه ، خيف حدوث ما هو أصعب منه.

( الرابع عشر ) : أن يعالج (٢) بالأسهل فالأسهل ، فلا ينتقل من العلاج بالغذاء إلى الدواء ، إلا عند تعذره ، ولا ينتقل إلى الدواء المركب ، إلا عند تعذر الدواء البسيط. فمن سعادة الطبيب : علاجه بالأغذية بدل الأدوية ، وبالأدوية البسيطة بدل المركبة.

( الخامس عشر ) : أن ينظر في العلة : هل هي مما يمكن علاجها ، أولا؟ فإن لم يمكن علاجها : حفظ صناعته وحرمته ، ولا يحمله الطمع على علاج لا يفيد شيئا.

وإن أمكن علاجها ، نظر : هل يمكن زوالها ، أم لا؟ فإن علم أنه لا يمكن زوالها ، نظر : هل يمكن تخفيفها وتقليلها؟ أم لا؟ فإن لم يمكن تقليلها ، ورأى أن غاية الامكان إيقافها وقطع زيادتها ـ : قصد بالعلاج ذلك ، وأعان القوة ، وأضعف المادة.

( السادس عشر ) : أن لا يتعرض للخلط قبل نضجه باستفراغ ، بل يقصد إنضاجه ، فإذا تم نضجه : بادر إلى استفراغه.

( السابع عشر ) : أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها ، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان. فإن انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمر مشهود. والطبيب إذا كان عارفا بأمراض القلب والروح وعلاجهما ، كان هو الطبيب الكامل. والذي لا خبرة له بذلك ـ وإن كان حاذقا في علاج الطبيعة وأحوال البدن ـ نصف طبيب. وكل طبيب لا يداوى العليل : بتفقد (٣) قلبه وصلاحه ، وتقوية أرواحه وقواه بالصدقة وفعل الخير والاحسان ، والاقبال على الله والدار الآخرة ـ فليس بطبيب ، بل متطبب

__________________

(١) بالزاد : « يأمن » ، وهو أنسب. (٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « تعالج » وهو تصحيف.

(٣) بالزاد ١١٠ : يتفقد. وهو تصحيف.

(٨ ـ الطب النبوي)


قاصر. ومن أعظم علاجات المرض : فعل الخير والاحسان ، والذكر والدعاء ، والتضرع والابتهال إلى الله ، والتوبة. ولهذه الأمور تأثير في دفع العلل وحصول الشفاء ، أعظم من الأدوية الطبيعية. ولكن : بحسب استعداد النفس وقبولها ، وعقيدتها في ذلك ونفعه.

( الثامن عشر ) : التلطف بالمريض والرفق به ، كالتلطف بالصبى.

( التاسع عشر ) : أن يستعمل أنواع العلاجات الطبيعية والإلهية ، والعلاج بالتخييل. فإن لحذاق الأطباء في التخييل أمورا عجيبة لا يصل إليها الدواء. فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل معين.

( العشرون ) ـ وهو ملاك أمر الطبيب ـ : أن يجعل علاجه وتدبيره دائرا على ستة أركان : حفظ الصحة الموجودة ، ورد الصحة المفقودة بحسب الامكان ، وإزالة العلة أو تقليلها بحسب الامكان ، واحتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما ، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما. فعلى هذه الأصول الستة مدار العلاج. وكل طبيب لا تكون هذه أخيته (١) التي يرجع إليها ، فليس بطبيب. والله أعلم.

( فصل ) ولما كان للمرض أربعة أحوال : ابتداء وصعود وانتهاء وانحطاط ، تعين على الطبيب مراعاة كل حال من أحوال المرض بما يناسبها ويليق بها ، ويستعمل في كل حال ما يجب استعماله فيها. فإذا رأى في ابتداء المرض أن الطبيعة محتاجة إلى ما يحرك الفضلات ويستفرغها لنضجها ، بادر إليه. فإن فاته تحريك الطبيعة في ابتداء المرض ـ لعائق منع من ذلك ، أو لضعف القوة وعدم احتمالها للاستفراغ ، أو لبرودة الفصل ، أو لتفريط وقع ـ : فينبغي أن يحذر كل الحذر أن يفعل ذلك في صعود المرض ، لأنه إن فعله : تحيرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء ، وتخلت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية. ومثاله : أن يجئ إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه ، فيشغله عنه بأمر آخر. ولكن الواجب في هذه الحال : أن يعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه.

__________________

(١) الأخية بزنة أبيه : الحرمة والذمة. وهى أيضا مشهورة فيما تربط فيه الدابة. وإرادة الأول أظهر اه‍ ق. بل هو المتعين.


فإذا انتهى المرض ووقف وسكن ، أخذ في استفراغه واستئصال أسبابه. فإذا أخذ في الانحطاط كان أولى بذلك. ومثال هذا : مثال العدو إذا انتهت قوته ، وفرغ سلاحه : كان أخذه سهلا ، فإذا ولى وأخذ في الهرب : كان أسهل أخذا. وحدته وشوكته إنما هي في ابتدائه وحال استفراغه ، وسعة قوته. فهكذا الداء والدواء سواء.

( فصل ) ومن حذق الطبيب : أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل (١) ، فلا يعدل إلى الأصعب ، ويتدرج من الأضعف إلى الأقوى. إلا أن يخاف فوت القوة حينئذ : فيجب أن يبتدئ بالأقوى. ولا يقيم في المعالجة على حال واحدة : فتألفها الطبيعة ويقل انفعالها عنه ، ولا تجسر على الأدوية القوية في الفصول القوية. وقد تقدم أنه إذا أمكنه العلاج بالغذاء ، فلا يعالج بالدواء. وإذا أشكل عليه المرض : أحار هو؟ أم بارد؟ فلا يقدم حتى يتبين له ، ولا يجربه بما يخاف عاقبته. ولا بأس بتجربته بما لا يضر أثره.

وإذا اجتمعت أمراض : بدأ بما تخصه واحدة من ثلاث خصال. ( أحدها ) : أن يكون برء الآخر موقوفا على برئه ، كالورم والقرحة. فإنه يبدأ بالورم.

( الثاني ) : أن يكون أحدهما سببا للآخر ، كالسدة والحمى العفنة. فإنه يبدأ بإزالة السبب.

( الثالث ) : أن يكون أحدهما أهم من الآخر ، كالحاد والمزمن. فيبدأ بالحاد. ومع هذا فلا يغفل عن الآخر.

وإذا اجتمع المرض والعرض : بدأ بالمرض ، إلا أن يكون العرض أقوى كالقولنج ، فيسكن الوجع أولا ، ثم يعالج السدة. وإذا أمكنه أن يعتاض عن المعالجة بالاستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم ، لم يستفرغه. وكل صحة أراد حفظها ، حفظها بالمثل أو الشبه. وإن أراد نقلها إلى ما هو أفضل منها ، نقلها بالضد.

__________________

(١) بالزاد ١١١ : الأسهل. ولعله تحريف.


فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التحرز من الأدواء المعدية

بطبعها ، وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها

ثبت في صحيح مسلم ـ من حديث جابر بن عبد الله ـ : « أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم ، فأرسل إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع فقد بايعناك (١) ».

وروى البخاري في صحيحه تعليقا ـ من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « فر من المجذوم ، كما تفر من الأسد (٢) ».

وفى سنن ابن ماجة ، من حديث ابن عباس ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « لا تديموا النظر إلى المجذومين (٣) ».

وفى الصحيحين ، من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لا يوردن ممرض على مصح (٤) ».

ويذكر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين (٥) ».

( الجذام ) : علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله ، فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها ، وربما فسد في آخره أوصالها (٦) حتى تتأكل الأعضاء وتسقط. ويسمى : داء الأسد. وفى هذه التسمية ثلاثة أقوال للأطباء : (أحدها) : أنها لكثرة ما يعترى

__________________

(١) وأخرجه أيضا ابن ماجة وأحمد وابن خزيمة وابن جرير ، عن عمرو بن الشريد عن أبيه اه‍ ق.

(٢) الحديث على طريقة ابن الصلاح يعد موصولا! وأخرجه موصولا أبو نعيم في مستخرجه ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. ووصله البخاري في التاريخ بمعناه. وأخرجه أبو نعيم من طريق آخر عن أبي هريرة بلفظ : « اتقوا المجذوم كما يتقى الأسد ». وأخرج أبو نعيم وابن خزيمة عن عائشة مرفوعا : « وإذا رأيت المجذوم ففر منه فرارك من الأسد ». وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن جعفر بمعناه اه‍ ق.

(٣) وأخرجه أيضا أحمد والطيالسي والطبراني والبيهقي وابن خزيمة في التوكل اه‍ ق.

(٤) وأخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة وأحمد والبيهقي وابن جرير اه‍ ق.

(٥) أخرجه ابن السنى وأبو نعيم في الطب وضعف. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند بزيادة : « لا تديموا النظر إلى المجذومين » قبله. وفيه الفرج بن فضالة. وثقه أحمد وضعفه النسائي. وأخرجه أبو علي والطبراني. وفى إسناد أبى يعلى الفرج بن فضالة ، وفى إسناد الطبراني يحيى الحماني. ضعيف أيضا اه‍ ق.

(٦) بالزاد ١١٢ : اتصالها


الأسد. ( والثاني ) : لأن هذه العلة تجهم وجه صاحبها ، وتجعله في سحنة (١) الأسد (٢). ( والثالث ) : أنه يفترس من يقربه أو يدنو منه بدائه ، افتراس الأسد.

وهذه العلة ـ عند الأطباء ـ من العلل المعدية المتوارثة. ومقارب المجذوم وصاحب السل ، يسقم برائحته. فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : لكمال شفقته على الأمة ونصحه لهم. ـ نهاهم عن الأسباب التي تعرضهم لوصول العيب (٣) والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم. ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء ، وقد تكون الطبيعة سريعة الانفعال ، قابلة للاكتساب من أبدان من تجاوره وتخالطه. فإنها نقالة. وقد يكون خوفها من ذلك ووهمها ، من أكثر أسباب إصابة تلك العلة لها. فإن الوهم فعال مستول على القوى والطبائع. وقد تصل رائحة العليل إلى الصحيح ، فتسقمه. وهذا معاين في بعض الأمراض. والرائحة أحد أسباب العدوي. ومع هذا كله ، فلا بد من وجود استعداد البدن وقبوله لذلك الداء. وقد تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة ، فلما أراد الدخول بها : وجد بكشحها بياضا ، فقال : « الحقي بأهلك ».

وقد ظن طائفة من الناس : أن هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخر تبطلها وتناقضها. فمنها ما رواه الترمذي ـ من حديث عبد الله بن عمر ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخذ بيد رجل مجذوم ، فأدخلها معه في القصعة ، وقال : كل باسم الله ، ثقة بالله ، وتوكلا عليه » (٤). ورواه ابن ماجة من حديث جابر بن عبد الله (٥). وبما ثبت في الصحيح

__________________

(١) بالزاد : سجية. ولعله تصحيف.

(٢) هذا المرض سمى بداء الأسد : لأنه يحول وجه المريض بما يجعله يشبه الأسد ، لكثرة وجود أورام صغيرة وتجعدات في الوجه. وخطورة هذا المرض في إتلاف الأعصاب المتطرفة ، فيفقد المريض حساسية الأطراف أولا ، ثم تتساقط الأصابع تدريجيا. وهو من الأمراض المعدية التي تجئ عدواها من التنفس مع المخالطة الطويلة. ويعزل الآن جميع مرضى الجذام ، في مستعمرات خاصة لهم ، لمنع انتشار المرض اه‍ د.

(٣) كذا بالزاد ١١٢. وفى الأصل. بالغيب. وهو تصحيف.

(٤) وأخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة وابن خزيمة وابن أبي عاصم وابن السنى. وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث المفضل بن فضالة. والمفضل قال فيه ابن معين : ليس بذاك. أي ضعيف اه‍ ق.

(٥) وأخرجه أيضا الحاكم وابن حبان في صحيحيهما ، وأبو يعلى والبيهقي في السنن ، والضياء في المختارة. وسيأتى للمصنف تضعيفه أيضا بنفي صحته وثبوته اه‍ ق.


ـ عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « لا عدوى ، ولا طيرة » (١).

ونحن نقول : لا تعارض ـ بحمد الله ـ بين أحاديثه الصحيحة ، فإذا وقع التعارض : فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتا. فالثقة يغلط أو يكون أحد الحديثين ناسخا للآخر. فإذا (٢) كان مما يقبل النسخ أو التعارض في فهم السامع ، لا ( في ) نفس كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : فلا بد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة. وأما حديثان صحيحان صريحان ، متناقضان من كل وجه ، ليس أحدهما ناسخا للآخر ـ فهذا لا يوجد أصلا. ومعاذ الله : أن يوجد في كلام الصادق المصدوق (٣) ، الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق. والآفة من التقصير في معرفة المنقول والتمييز بين صحيحه ومعلوله ، أو من القصور في فهم مراده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحمل كلامه على غير ما عناه به ، أو منهما معا. ومن ههنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع. وبالله التوفيق.

قال ابن قتيبة في كتاب « اختلاف الحديث » (٤) له ـ حكاية عن (٥) أعداء الحديث وأهله ـ : « قالوا : حديثان متناقضان ، رويتم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : لا عدوى ولا طيرة. وقيل له : إن النقبة تقع بمشفر البعير ، فيجرب لذلك الإبل. قال : فما أعدى الأول.؟ ثم رويتم : لا يورد ذو عاهة على مصح ، وفر من المجذوم فرارك من الأسد. وأتاه رجل مجذوم ليبايعه على الاسلام ، فأرسل إليه البيعة ، وأمره بالانصراف ولم يأذن له. وقال : الشؤم في المرأة والدار والدابة. قالوا : وهذا كله مختلف لا يشبه بعضه بعضا. قال أبو محمد : ونحن نقول : إنه ليس في هذا اختلاف ، ولكل معنى منها وقت وموضع. فإذا وضع موضعه زال الاختلاف. والعدوي جنسان : (أحدهما) : عدوى

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. وسيأتى للمصنف كلام في هذا الحديث يتضمن التشكيك في صحته!!. اه‍ ق.

(٢) بالزاد : إذا. ولعله تحريف فتأمل. والزيادة الآتية عنه.

٣ ـ كذا بالزاد. وفي الأصل : والمصدوق.

٤ ـ المطبوع باسم تأويل مختلف الحديث. والنص فيه ١٢٣ ـ ١٢٦ بزيادة واختلاف قد ننبه على بعضه.

(٥) كذا بالزاد. وفى الأصل : من. وهو تصحيف.


الجذام ، فإن المحذوم يشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته. وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم ، فتضاجعه في شعار واحد ، فيوصل إليها الأذى ، وربما جذمت. وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه. وكذلك من كان به سل ودق ونقب. والأطباء تأمر : أن لا يجالس المسلول ولا المجذوم ، ولا يريدون بذلك معنى العدوي ، وإنما يريدون به معنى تغير الرائحة وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها. والأطباء أبعد الناس عن الايمان بيمن وشؤم. وكذلك النقبة تكون بالبعير ـ وهو جرب رطب ـ فإذا خالط الإبل أو حاكها وأوى في مباركها : وصل إليها بالماء الذي يسيل منه وبالنطف ، نحو ما به. فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يورد ذو عاهة على مصح. كره أن يخالط المعيوه (١) الصحيح لئلا يناله من نطفه وحكته نحو ما به (٢). قال : وأما الجنس الآخر من العدوي ، فهو : الطاعون ينزل ببلد ، فيخرج منه خوف العدوي. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا وقع ببلد وأنتم به ، فلا تخرجوا منه ، وإذا كان ببلد : فلا تدخلوه. يريد بقوله : لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه ، كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله. ويريد ( بقوله : و ) إذا كان ببلد فلا تدخلوه ، أن (٣) مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه ، أسكن لقلوبكم ، وأطيب لعيشكم. ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم (٤) أو الدار ، فينال الرجل مكروه أو جائحة ، فيقول : أعدتني بشؤمها. فهذا هو العدوي الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا عدوى ».

وقالت فرقة أخرى : بل الامر باجتناب المجذوم والفرار منه على الاستحباب والاختيار والارشاد. وأما الاكل معه ، ففعله لبيان الجواز وأن هذا ليس بحرام.

وقالت فرقة أخرى : بل الخطاب بهذين الخطابين جزئي ، لا كلي. فكل واحد

__________________

(١) بالأصل والزاد : « المعتوة ... نطقه وخلقه ». والظاهر أنه مصحف. وما أثبتناه إنما هو مأخوذ من عبارة اختلاف الحديث.

(٢) بالاختلاف والزاد ١١٣ : مما.

(٣) كذا بالاختلاف. والزيادة السابقة عنه. وفى الأصل والزاد : أي.

(٤) بالزاد : الشؤم. وهو تحريف.


خاطبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يليق بحاله : فبعض الناس يكون قوى الايمان قوى التوكل ، يدفع قوة توكله قوة العدوي ، كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة ، فتبطلها. وبعض الناس لا يقوى على ذلك ، فخاطبه بالاحتياط والاخذ بالتحفظ. وكذلك (هو) (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل الحالتين معا : لتقدى به الأمة فيهما ، فيأخذ من قوى من أمته بطريقة التوكل (٢) والثقة بالله ، ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط. وهما طريقان صحيحان : أحدهما للمؤمن القوى ، والآخر للمؤمن الضعيف. فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة وقدوة بحسب حالهم وما يناسبهم. وهذا : كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كوى ، وأثنى على تارك الكي وقرن تركه بالتوكل وترك الطيرة. ولهذا نظائر كثيرة. وهذه طريقة لطيفة حسنة جدا ، من أعطاها حقها ، ورزق فقه نفس فيها ـ : أزالت عنه تعارضا كثيرا يظنه بالسنة الصحيحة.

وذهبت فرقة أخرى : إلى أن الامر بالفرار (٣) منه ومجانبته ، لأمر طبيعي ، وهو : انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة ، إلى الصحيح. وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة ( له ) (٤). وأما أكله معه مقدارا يسيرا من الزمان ، لمصلحة راجحة ، فلا بأس به ، ولا تحصل العدوي من مرة واحدة ولحظة واحدة. فنهى سدا للذريعة (٤) ، وحماية للصحة ، وخالطه مخالطة ما : للحاجة والمصلحة. فلا تعارض بين الامرين.

وقالت طائفة أخرى : يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه ، به من الجذام أمر يسير لا بعدي مثله. وليس الجذمي (٥) كلهم سواء ولا العدوي حاصلة من جميعهم. بل منهم : من لا تضر مخالطته ولا تعدى ، وهو : من أصابه من ذلك شئ يسير ، ثم وقف واستمر على حاله ، ولم يعد بقية جسمه. فهو أن لا يعدى غيره أولى وأحرى.

وقالت فرقة أخرى : إن الجاهلية كانت تعتقد : أن الأمراض المعدية تعدى بطبعها ، من غير إضافة إلى الله سبحانه. فأبطل (٥) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم

__________________

(١) زيادة متعينة عن الزاد.

(٢) بالزاد زيادة : والقوة.

(٣) بالزاد : الفرار. وهو تحريف.

(٤) الزيادة عن الزاد ١١٣.

(٥) كذا بالزاد. وفى الأصل : أبطل. ولعله تحريف.


ليبين لهم أن الله سبحانه هو الذي يمرض ويشفى. ونهى عن القرب منه : ليتبين لهم أن هذه من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها. ففي نهيه : إثبات الأسباب ، وفى فعله : بيان أنها لا تستقل بشئ ، بل الرب سبحانه إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا ، وإن شاء أبقى عليها قواها فأثرت.

وقالت فرقة أخرى : بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ ، فينظر في تاريخها : فإن علم المتأخر منها حكم بأنه الناسخ ، وإلا توقفنا فيها.

وقالت فرقة أخرى : بل بعضها محفوظ ، وبعضها غير محفوظ. وتكلمت في حديث « لا عدوى » وقالت : قد كان أبو هريرة يرويه أولا ، ثم شك فيه فتركه ، وراجعوه فيه وقالوا له : سمعناك تحدث ، فأبى أن يحدث به. قال أبو سلمة : فلا أدرى أنسى أبو هريرة؟ أم نسخ أحد الحديثين الآخر؟. وأما حديث جابر : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ بيد مجذوم ، فأدخلها معه في القصعة » ، فحديث لا يثبت ولا يصح ، وغاية ما قال فيه الترمذي : أنه غريب لم يصححه ، ولم يحسنه. وقد قال شعبة وغيره : اتقوا هذه الغرائب. قال الترمذي : ويروى هذا من فعل عمر ، وهو أثبت. فهذا شأن هذين الحديثين اللذين عورض بهما أحاديث النهى ـ : أحدهما رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره ، والثاني لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والله أعلم وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة ، في كتاب المفتاح (١) ، بأطول من هذا. وبالله التوفيق.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنع من؟؟ التداوي بالمحرمات

روى أبو داود في سننه ـ من حديث أبي الدرداء ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إن الله أنزل الداء والدواء ، وجعل لكل (داء) (٢) دواء. فتداووا ولا تداووا بالمحرم » (٣).

__________________

(١) ص ٥٨٩ ـ ٥٩٠ ، ٦٠٢ ـ ٦٠٧ ، ٦١٣ ـ ٦٢٠ ، ٦٢٢ ط ثانية.

(٢) زيادة عن الزاد ١١٤ متعينة ثابتة.

(٣) وأخرجه أيضا الطبراني. ورجاله ثقات اه‍ ق.


وذكر البخاري في صحيحه ـ عن ابن مسعود (١) ـ : « إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم » (٢).

وفى السنن عن أبي هريرة ، قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدواء الخبيث » (٣).

وفى صحيح مسلم ـ عن طارق بن سويد الجعفي ـ : « أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخمر ، فنهاه أو كره أن يصنعها. فقال : إنما أصنعها للدواء فقال : إنه ليس بدواء ، ولكنه داء ».

وفى السنن : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سئل عن الخمر : يجعل في الدواء ، فقال : إنها داء ، وليست بالدواء ». رواه أبو داود والترمذي.

وفى صحيح مسلم ، عن طارق بن سويد الحضرمي ، قال : « قلت : يا رسول الله ، إن بأرضنا أعنابا نعتصرها ، فنشرب منها؟ قال : لا. فراجعته ، قلت : إنا نستشفى للمريض. قال : إن ذلك ليس بشفاء ، ولكنه داء » (٤).

وفى سنن النسائي : « أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهاه عن قتلها » (٥).

ويذكر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « من تداوى بالخمر فلا شفاه الله » (٦).

المعالجة بالمحرمات قبيحة : عقلا وشرعا. أما الشرع ، فما ذكرنا : من هذه الأحاديث وغيرها.

وأما العقل ، فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه. فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيبا عقوبة لها ، كما حرمه على بني إسرائيل بقوله : ( فبظلم من الذين هادوا ، حرمنا

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : أبى. وهو تصحيف.

(٢) هذا الحديث رواه البخاري معلقا ، ووصله الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح. وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه والبزار وأبو يعلى والطبراني. ورجال أبى يعلى ثقات. عن أم سلمة اه‍ ق.

(٣) أخرجه أبو داود والترمذي اه‍ ق.

(٤) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي اه‍ ق.

(٥) وأخرجه أيضا أبو داود وأحمد والحاكم عن عبد الرحمن بن عثمان. وإسناده قوى اه‍ ق.

(٦) أخرج أبو نعيم في الطب نحوه اه‍ ق. بل بلفظ : « من تداوى بحرام لم يجعل الله فيه شفاء » ، كما في الفتح الكبير ٣ / ١٧٧.


عليهم طيبات أحلت لهم ). وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم ، لخبثه. وتحريمه له حمية لهم ، وصيانة عن تناوله. فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل ، فإنه وإن أثر في إزالتها ، لكنه يعقب سقما أعظم منه في القلب ، بقوة الخبث الذي فيه. فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن ، بسقم القلب.

وأيضا : فإن تحريمه يقتضى تجنبه والبعد (١) عنه بكل طريق ، وفى اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته. وهذا ضد مقصود الشارع.

وأيضا : فإنه داء كما نص عليه صاحب الشريعة ، فلا يجوز أن يتخذ دواء.

وأيضا : فإنه يكسب الطبيعة والروح صفة الخبث ، لان الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالا بينا. فإذا كانت كيفيته (٢) خبيثة : أكسب الطبيعة منه خبثا ، فكيف إذا كان خبيثا في ذاته!. ولهذا حرم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة ، لما تكتسب النفس : من هيأة الخبث وصفته.

وأيضا : فإن في إباحة التداوي به ، ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ، ذريعة إلى تناوله للشهوة (٣) واللذة ، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها ، مزيل لاسقامها ، جالب لشفائها. فهذا أحب شئ إليها. والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن. ولا ريب أن بين سد الذريعة إلى تناوله ، وفتح الذريعة إلى تناوله ـ تناقضا وتعارضا.

وأيضا : فإن في هذا الدواء المحرم من الأدواء ، ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء. وليفرض الكلام في أم الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاء قط : فإنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطباء وكثير من الفقهاء والمتكلمين. قال أبقراط في أثناء كلامه في الأمراض الحادة : « ضرر الخمرة بالرأس شديد : لأنه يسرع الارتفاع إليه ، ويرتفع بارتفاعه الاخلاط التي تعلو في البدن. وهو لذلك (٤) يضر بالذهن ». وقال صاحب الكامل : « إن خاصية الشراب الاضرار بالدماغ والعصب ».

__________________

(١) كذا بالزاد ١١٤. وفى الأصل : وابعد. وهو تصحيف.

(٢) بالأصل كيفية. وهو تصحيف. والتصحيح من عبارة الزاد : كيفيته. اكتسبت.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : تناول الشهوة. ولعله تحريف.

(٤) بالزاد ١١٥ : كذلك.


وأما غيره من الأدوية المحرمة ، فنوعان : (أحدهما) : تعافه النفس ، ولا تنبعث لمساعدته الطبيعة على دفع المرض. كالسموم ولحوم الأفاعي ، وغيرها : من المستقذرات. فيبقى كلا على الطبيعة مثقلا لها ، فيصير حينئذ داء لا دواء. (والثاني) : مالا تعافه النفس ، كالشراب الذي تستعمله الحوامل مثلا. فهذا ضرره أكثر من نفعه. والعقل يقضى بتحريم ذلك. فالعقل والفطرة مطابق للشرع في ذلك.

وههنا سر لطيف في كون المحرمات لا يستشفى بها : فإن شرط الشفاء بالدواء ، تلقيه بالقبول واعتقاد منفعته ، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء. فإن النافع هو المبارك ، وأنفع الأشياء أبركها ، والمبارك من الناس أينما كان ، هو : الذي ينتفع به حيث حل. ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين ، مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها وبين حسن ظنه بها ، وتلقى طبعه لها بالقبول. بل كلما كان العبد أعظم إيمانا : كان أكره لها ، وأسوأ اعتقادا فيها ، وطبعه أكره شئ لها. فإذا تناولها في هذه الحال : كانت داء له لا دواء ، إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها ، وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة. وهذا ينافي الايمان. فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجه داء. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج القمل

الذي في الرأس وإزالته

في الصحيحين عن كعب بن عجرة ، قال « كان بي أذى من رأسي ، فحملت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والقمل يتناثر على وجهي ـ فقال : ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك ما أرى » ، وفى رواية : « فأمره : أن يحلق رأسه ، وأن يطعم فرقا بين ستة ، أو يهدى شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام (١) ».

القمل يتولد في الرأس والبدن من شيئين : خارج عن البدن ، وداخل فيه. فالخارج : الوسخ والدنس المركب في سطح الجسد. والثاني : من خلط ردئ عفن ، تدفعه الطبيعة بين الجلد

__________________

(١) كان ذلك في الحج. والحديث أخرجه أيضا أحمد اه‍ ق


واللحم ، فيتعفن بالرطوبة الدموية في البشرة بعد خروجها من المسام ، فيكون منه القمل ، وأكثر ما يكون ذلك : بعد العلل والأسقام ، بسبب الأوساخ. وإنما كان في رؤوس الصبيان أكثر : لكثرة رطوباتهم ، وتعاطيهم الأسباب التي تولد القمل. ولذلك حلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤوس بنى جعفر. ومن أكبر علاجه : حلق الرأس لينفتح مسام الأبخرة ، فتتصاعد الأبخرة الرديئة ، فتضعف مادة الخلط. وينبغي أن يطلى الرأس بعد ذلك ، بالأدوية التي تقتل القمل وتمنع تولده.

وحلق الرأس ثلاثة أنواع أحدها (١) نسك وقربة ، والثاني بدعة وشرك ، والثالث حاجة ودواء. ( فالأول ) : الحلق في أحد النسكين : الحج أو العمرة. ( والثاني ) : حلق الرأس لغير الله سبحانه. كما يحلقها المريدون لشيوخهم ، فيقول أحدهم : أنا حلقت رأسي لفلان ، وأنت حلقته لفلان. وهذا بمنزلة أن يقول : سجدت لفلان. فإن حلق الرأس خضوع وعبودية وذل ، ولهذا كان من تمام الحج. حتى إنه عند الشافعي ـ رحمه الله ـ ركن من أركانه : لا يتم إلا به. فإنه وضع النواصي بين يدي ربها : خضوعا لعظمته ، وتذللا لعزته. وهو من أبلغ أنواع العبودية. ولهذا كانت العرب : إذا أرادت إذلال الأسير منهم وعتقه ، حلقوا رأسه وأطلقوه. فجاء شيوخ الضلال والمزاحمون للربوبية ـ الذين أساس مشيختهم على الشرك والبدعة ـ فأرادوا من مريديهم أن يتعبدوا لهم ، فزينوا لهم ( حلق رؤوسهم لهم ) (٢) كما زينوا لهم السجود لهم ، وسموه بغير اسمه ، وقالوا : هو وضع الرأس بين يدي الشيخ. ولعمر الله : إن السجود لله هو : وضع الرأس بين يديه سبحانه. وزينوا لهم : أن ينذروا لهم ، ويتوبوا لهم ، ويحلفوا بأسمائهم. وهذا هو اتخاذهم أربابا وآلهة من دون الله. قال تعالى : ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقول للناس : كونوا عبادا لي من دون الله ، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم

__________________

(١) كذا بالزاد ١١٥. وفى الأصل : أحدهما. وهو تحريف.

(٢) زيادة متعينة عن الزاد.


تدرسون. ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟! ).

وأشرف العبودية : عبودية الصلاة. وقد تقاسمها الشيوخ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة فأخذ الشيوخ منها أشرف ما فيها ، وهو : السجود. وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع ، فإذا لقى بعضهم بعضا : ركع له كما يركع المصلى لربه سواء. وأخذ الجبابرة منهم القيام ، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبودية لهم ، وهم جلوس.

وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن هذه الأمور الثلاثة ، على التفصيل. فتعاطيها مخالفة صريحة له. فنهى عن السجود لغير الله ، وقال : « لا ينبغي لاحد أن يسجد لاحد » ، وأنكر على معاذ لما سجد له ، وقال : « مه » ، وتحريم هذا معلوم من دينه بالضرورة. وتجويز من جوزه (١) لغير الله ، مراغمة لله ورسوله. وهو من أبلغ أنواع العبودية. فإذا جوز ( هذا المشرك ) هذا النوع للبشر : فقد جوز عبودية غير الله. وقد صح « أنه قيل له : الرجل يلقى أخاه ، أينحنى له؟ قال : لا. قيل : أيلتزمه ويقبله؟ قال : لا قيل : أيصافحه؟ قال : نعم ».

وأيضا : فالانحناء عند التحية سجود. ومنه قوله تعالى : (وادخلوا الباب سجدا) ، أي منحنين. وإلا : فلا يمكن (٢) السجود والدخول على الجباه.

وصح عنه النهى عن القيام وهو جالس ، كما تعظم الأعاجم بعضها بعضا ، حتى منع (٣) ذلك في الصلاة ، وأمرهم إذا صلى جالسا : أن يصلوا جلوسا وهم أصحاء لا عذر لهم ، لئلا يقوموا على رأسه وهو جالس. مع أن قيامهم لله. فكيف إذا كان القيام تعظيما وعبودية لغيره سبحانه!.

والمقصود : أن النفوس الجاهلة الضالة أسقطت عبودية الله سبحانه ، وأشركت فيها من يعظمه من الخلق ، فسجدت لغير الله ، وركعت له وقامت بين يديه قيام الصلاة ، وحلفت بغيره ، ونذرت لغيره ، وحلقت لغيره ، وذبحت لغيره ، وطافت لغير بيته ، وعظمته بالحب

__________________

(١) كذا بالزاد ١١٦ والزيادة الآتية عنه. وبالأصل : جوز. وهو تحريف.

(٢) بالزاد : فلا يمكن الدخول.

(٣) بالزاد : منع من ذلك.


والخوف والرجاء والطاعة كما يعظم الخالق بل أشد ، وسوت من تعبده من المخلوقين ، برب العالمين. وهؤلاء : هم المضادون لدعوة الرسل ، وهم الذين بربهم يعدلون ، وهم الذين يقولون ـ وهم في النار مع آلهتم يختصمون ـ : ( تالله إن كنا لفى ضلال مبين ، إذ نسويكم برب العالمين ) ، وهم الذين قال فيهم : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ، والذين آمنوا أشد حبا لله ). وهذا كله من الشرك ، والله لا يغفر أن يشرك به.

فهذا فصل معترض في هديه في حلق الرأس ، ولعله أهم مما قصد من الكلام فيه. والله أعلم.

فصول

في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة ، والمركبة منها ومن الأدوية الطبيعية.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج المصاب بالعين

روى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « العين حق ، ولو كان شئ سابق القدر : لسبقته العين » (١) وفى صحيحه أيضا عن أنس : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة ». وفى الصحيحين ، من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « العين حق » (٢).

وفى سنن أبي داود ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : « كان يؤمر العائن فيتوضأ ، ثم يغتسل منه المعين » (٣). وفى الصحيحين عن عائشة ، قالت : « أمرني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أمر أن نسترقى (٤) من العين » (٥).

__________________

(١) وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم والطبراني اه‍ ق.

(٢) وأخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة وأحمد اه‍ ق.

(٣) وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة وأبو نعيم والإسماعيلي اه‍ ق.

(٤) كذا بالزاد ١٠٦. وفى الأصل : يسترقى.

(٥) وأخرج أيضا مسلم وابن حبان عن ابن عباس يرفعه : « وإذا استغسلتم فاغسلوا » اه‍ ق.


وذكر الترمذي ـ من حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عروة بن عامر ، عن عبيد بن رفاعة الزرقي ـ : « أن أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله ، إن بنى جعفر تصيبهم العين ، أفأسترقي لهم؟ فقال : نعم ، فلو كان شئ يسبق القضاء ، لسبقته العين » (١). قال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وروى مالك رحمه الله ، عن ابن شهاب ، عن أبي أمامة (٢) بن سهل بن حنيف ، قال : « رأى عامر بن ربيعة ، سهل بن حنيف يغتسل ، فقال : والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة عذراء. قال : فلبط سهل ، فأتى؟؟ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامرا ، فتغيظ عليه ، وقال : علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت ، اغتسل له. فغسل له عامر وجهه ويديه ، ومرفقيه وركبتيه ، وأطراف رجليه ، وداخلة إزاره في قدح ، ثم صب عليه. فراح مع الناس » (٣).

وروى مالك رحمه الله أيضا ـ عن محمد بن أبي أمامة بن سهل ، عن أبيه ـ (هذا الحديث ، وقال فيه : « إن العين حق ، توضأ له. فتوضأ له » وذكر عبد الرزاق ـ عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه ـ) (٤) مرفوعا : « العين حق ، ولو كان شئ سابق القدر : لسبقته العين ، فإذا (٥) استغسل أحدكم فليغتسل ». ووصله صحيح.

قال الترمذي : يؤمر الرجل العائن بقدح ، فيدخل كفه في فيه فيتمضمض ، ثم يمجه (٦) في القدح ، ويغسل وجهه في القدح ، ثم يدخل يده اليسرى ، فيصب على ركبته اليمنى في القدح ، ثم يدخل يده اليمنى ، فيصب على ركبته اليسرى ، ثم يغسل داخله إزاره ، ولا يوضع

__________________

(١) وأخرجه أيضا النسائي وأحمد اه‍ ق.

(٢) كذا بالأصل والزاد. وفى الموطأ بهامش شرح الزرقاني ٤ / ٣١٩ و ٣٢١ ، والسيوطي ٣ / ١١٨ ـ ١١٩ : أسامة. وهو تصحيف. انظر : شرح الزرقاني ، والتهذيب ١ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤ و ١٢ / ١٣ ، والخلاصة ٣٨ و ٣٩٩.

(٣) وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجة وأحمد ، وابن حبان والحاكم في صحيحيهما اه‍ ق.

(٤) زيادة متعينة عن الزاد ١١٧. وراجع الموطأ.

(٥) بالزاد : وإذا.

(٦) كذا بالزاد. وفى الأصل : يمحيه. وهو تصحيف.


القدح في الأرض ، ثم يصب على رأس الرجل الذي يصيبه (العين) (١) ، من خلفه ، صبة واحدة.

والعين عينان : عين إنسية ، وعين جنية. فقد صح عن أم سلمة : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رأى في بيتها جارية في وجهها سعفة ، فقال : استرقوا لها ، فإن بها النظرة » (٢).

قال الحسين بن مسعود الفراء : وقوله « سعفة » أي : نظرة ، يعنى من الجن. يقول : بها عين أصابتها من نظر الجن ، أنفذ من أسنة الرماح.

ويذكر عن جابر ـ يرفعه ـ : « إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر » (٣). وعن أبي سعيد : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يتعوذ من الجان ، ومن عين الانسان » (٤).

فأبطلت طائفة ـ ممن قل نصيبهم من السمع والعقل ـ أمر العين ، وقالوا : إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها. وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل ، ومن أغلظهم حجابا ، وأكثفهم طباعا ، وأبعدهم من معرفة الأرواح والنفوس وصفاتها ، وأفعالها وتأثيراتها.

وعقلاء الأمم ـ على اختلاف مللهم ونحلهم ـ لا تدفع أمر العين ولا تنكره : وإن اختلفوا في سببه ، ووجهة (٥) تأثير العين. فقالت طائفة : إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة ، انبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين ، فيتضرر. قالوا : ولا يستنكر هذا ، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى ، تتصل بالانسان فيهلك. وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي : أنها إذا وقع بصرها على الانسان هلك ، فكذلك العائن.

وقالت فرقة أخرى : لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية ، فتتصل بالمعين وتتخلل مسام جسمه ، فيحصل له الضرر.

__________________

(١) زيادة عن الزاد.

(٢) أخرجه البخاري ومسلم والحاكم وأبو نعيم والإسماعيلي في مستخرجيهما والطبراني اه‍ ق.

(٣) أخرجه البزار بسند حسن بمعناه اه‍ ق.

(٤) أخرجه الترمذي وحسنه ، والنسائي اه‍ ق.

(٥) كذا بالزاد. وفى الأصل : وجهة. ولعله تحريف.

(٩ ـ الطب النبوي)


وقالت فرقة أخرى : قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر ، عند مقابلة عين العائن لمن يعينه من غير أن يكون منه قوة ، ولا سبب ، ولا تأثير أصلا.

وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم. وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب ، وخالفوا العقلاء أجمعين. ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة ، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة. ولا يمكن العاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام : فإنه أمر مشاهد محسوس. وأنت ترى الوجه : كيف يحمر حمرة شديدة : إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحى منه ، ويصفر صفرة شديدة : عند نظر من يخافه إليه. وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف قواه. وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح. ولشدة ارتباطها بالعين ، ينسب (١) ( الفعل ) إليها ، وليست هي الفاعلة ، وإنما التأثير للروح. والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها ، وكيفياتها وخواصها. فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بينا. ولهذا أمر الله سبحانه رسوله : أن يستعيذ به من شره.

وتأثير الحاسد في أذى المحسود ، أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الانسانية. وهو أصل الإصابة بالعين. فإن النفس الخبيثة الحاسدة ، تتكيف بكيفية خبيثة ، وتقابل المحسود ، فتؤثر بتلك الخاصية (٢). وأشبه الأشياء بهذا الأفعى : فإن السم كامن فيها بالقوة ، فإذا قابلت عدوها : انبعث منها قوة غضبية ، وتكيفت نفسها بكيفية خبيثة مؤذية. فمنها : ما تشتد كيفيتها ونقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين. ومنها : ما يؤثر في طمس البصر. كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الابتروذي الطفيتين (٣) من الحيات : « إنهما يلتمسان البصر ، ويسقطان الحبل ». ومنها : ما تؤثر في الانسان كيفيتها بمجرد الرؤية ، من غير اتصال به ، لشدة خبث تلك النفس وكيفيتها الخبيثة المؤثرة.

والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية ، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة

__________________

(١) كذا بالزاد ١١٧. والزيادة عنه. وفى الأصل : نسبت وهو تصحيف.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : الخاصة. وهو تحريف.

(٣) سمى بذلك : لان على ظهره خطين يشبهان الطفيتين ، أي الخوصتين اه‍ ق بتصرف.


والشريعة. بل التأثير يكون تارة بالاتصال ، وتارة بالمقابلة ، وتارة بالرؤية ، وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه ، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات ، وتارة بالوهم والتخيل.

ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية ، بل قد يكون أعمى ، فيوصف له الشئ فتؤثر نفسه فيه وإن لم يره. وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية. وقد قال تعالى لنبيه : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ) ، وقال : ( قل أعوذ برب الفلق ، من شر ما خلق ، ومن شر غاسق إذا وقب ، ومن شر ) النفاثات في العقد ، ومن شر حاسد إذا حسد). فكل عائن حاسد ، وليس كل حاسد عائنا. فلما كان الحاسد أعم من العائن : كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن. وهى : سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن ، نحو المحسود والمعين ، تصيبه تارة وتخطئه تارة. فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه : أثرت فيه ولا بد ، وإن صادفته حذرا شاكي السلاح ، لا منفذ فيه للسهام ـ : لم تؤثر فيه ، وربما ردت السهام على صاحبها. وهذا بمثابة الرمي الحسى سواء. فهذا من النفوس والأرواح ، وذاك من الأجسام والأشباح. وأصله من إعجاب العائن بالشئ ، ثم يتبعه (١) كيفية نفسه الخبيثة ، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين.

وقد يعين الرجل نفسه ، وقد يعين بغير إرادته ، بل بطبعه. وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني. وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء : « (إن) (٢) من عرف بذلك : حبسه الامام ، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت ». وهذا هو الصواب قطعا.

( فصل ) والمقصود العلاج النبوي لهذه العلة. وهو أنواع.

وقد روى أبو داود في سننه ، عن سهل بن حنيف ، قال : « مررنا بسيل ، فدخلت فاغتسلت فيه ، فخرجت محموما. فنمى ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : مروا أبا ثابت يتعوذه. ( قال ) فقلت : يا سيدي ، والرقى صالحة؟ فقال : لا رقية إلا في نفس أو حمة أو لدغة (٣) » والنفس : العين ، يقال : أصابت فلانا نفس ، أي عين. والنافس : العائن. واللدغة :

__________________

(١) بالزاد ١١٨ : تتبعه.

(٢) زيادة عن الزاد.

(٣) وأخرجه أيضا الحاكم اه‍ ق.


بدال مهملة وغين (١) معجمة ، وهى ضربة العقرب ونحوها.

( فمن التعوذات والرقى ) : الاكثار من قراءة المعوذتين وفاتحة الكتاب وآية الكرسي.

( ومنها ) : التعوذات النبوية ، نحو : أعوذ بكلمات الله التامات (من شر ما خلق.

ونحو : أعوذ بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة. ونحو : أعوذ بكلمات الله التامات) (٢) التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ماذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان.

( ومنها ) : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون.

( ومنها ) : اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات ، من شر ما أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم ، اللهم إنه لا يهزم جندك ، ولا يخلف وعدك ، سبحانك وبحمدك.

( ومنها ) : أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شئ أعظم منه ، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وبأسماء (٣) الله الحسنى ـ ما علمت منها وما لم أعلم ـ من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره ، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، إن ربى على صراط مستقيم.

( ومنها ) : اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت ، عليك توكلت ، وأنت رب العرش العظيم ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، أعلم أن الله على كل شئ قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شئ علما ، وأحصى كل شئ عددا. اللهم إني أعوذ بك من

__________________

(١) كذا بالزاد ١١٨ ، وفى الأصل : وغير. وهو تصحيف.

(٢) الزيادة عن الزاد.

(٣) بالزاد : وأسماء.


من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، إن ربى على صراط مستقيم وان شاء قال : تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو إلهي وإله كل شئ ، واعتصمت بربى ورب كل شئ ، وتوكلت على الحي الذي لا يموت ، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله ، حسبي الله ونعم الوكيل ، حسبي الرب من العباد ، حسبي الخالق من المخلوق ، حسبي الرازق من المرزوق ، حسبي الله (١) هو حسبي ، حسبي الذي بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه ، حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ، وليس (٢) وراء الله مرمى ، حسبي الله لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم.

ومن جرب هذه الدعوات والعوذ : عرف مقدار منفعتها ، وشدة الحاجة إليها. وهى تمنع وصول أثر العائن وتدفعه بعد وصوله ، بحسب قوة إيمان قائلها ، وقوة نفسه واستعداده ، وقوة توكله وثبات قلبه ، فإنها سلاح ، والسلاح بضاربه.

( فصل ) وإذا كان العائن يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين ، فليدفع شرها بقوله : اللهم بارك عليه ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لعامر بن ربيعة ـ لما عان سهل بن حنيف ـ : « ألا بركت » ، أي قلت : اللهم بارك عليه.

ومما يدفع به إصابة العين ، قول : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله. روى هشام بن عروة عن أبيه : أنه كان إذا رأى شيئا يعجبه ، أو دخل حائطا من حيطانه ـ قال : « ما شاء الله لا قوة إلا بالله ».

ومنها : رقية جبريل عليه‌السلام ، للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ التي رواها مسلم في صحيحه ـ : « باسم الله أرقيك ، من كل داء يؤذيك ، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك ، باسم الله أرقيك (٣) ».

ورأى جماعة من السلف : أن يكتب له الآيات من القرآن ، ثم يشربها. قال مجاهد : « لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض ». ومثله عن أبي قلابة. ويذكر عن

__________________

(١) بالزاد ١١٩ : الذي.

(٢) بالزاد : ليس.

(٣) وأخرجه أيضا الترمذي وحسنه ، والنسائي اه‍ ق.


ابن عباس : أنه أمر أن يكتب لامرأة يعسر عليها ولادها ، آيتان (١) من القرآن ، يغسل ويسقى. وقال أيوب : « رأيت أبا قلابة كتب كتابا من القرآن ، ثم غسله بماء وسقاه رجلا كان به وجع ».

( فصل ) ومنها : أن يؤمر العائن بغسل مغابنه وأطرافه ، وداخلة إزاره ـ وفيه قولان :

( أحدهما ) : أنه فرجه. ( والثاني ) : أنه طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده من الجانب الأيمن. ثم يصب على رأس المعين من خلفه بغتة. وهذا مما لا يناله علاج الأطباء ، ولا ينتفع به من أنكره ، أو سخر منه ، أو شك فيه ، أو فعله مجربا : لا يعتقد أن ذلك ينفعه.

وإذا كان في الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها البتة ـ بل هي عندهم خارجة عن قياس الطبيعة تفعل (٢) بالخاصية : فما الذي ينكره زنادقتهم وجهلتهم من الخواص الشرعية؟! هذا مع أن في المعالجة بهذا الإستغسال ، ما تشهد له العقول الصحيحة ، وتقر لمناسبته. فاعلم أن ترياق سم الحية : في لحمها ، وأن علاج تأثير النفس الغضبية في تسكين غضبها وإطفاء ناره : بوضع يدك عليه ، والمسح عليه ، وتسكين غضبه. وذلك بمنزلة رجل : معه شعلة من نار ، وقد أراد أن يقذفك بها ، فصببت عليها الماء وهى في يده ، حتى طفئت. ولذلك أمر العائن أن يقول : اللهم بارك عليه ، ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء الذي هو إحسان إلى المعين. فإن دواء الشئ بضده. ولما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد ، لأنها تطلب النفوذ فلا تجد أرق من المغابن وداخلة الازار ـ ولا سيما إن كان كناية عن الفرج ـ : فإذا غسلت بالماء بطل تأثيرها وعملها. (وأيضا) (٣) : فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص. والمقصود : أن غسلها بالماء يطفئ تلك النارية ، ويذهب بتلك السمية. وفيه أمر آخر ، وهو : وصول أثر الغسل إلى القلب ، من أرق المواضع وأسرعها تنفيذا ، فيطفئ تلك النارية والسمية بالماء ، فيشفى المعين. وهذا كما أن ذوات السموم إذا قتلت بعد لسعها : خف أثر اللسعة عن الملسوع ووجد راحته. فإن أنفسها تمد أذاها بعد لسعها

__________________

(١) بالأصل : آيتين. وهو تصحيف ، يدل عليه أن لفظ الزد أثر.

(٢) بالزاد ١١٩ : يفعل. وهو تصحيف.

(٣) زيادة عن الزاد.


وتوصله إلى الملسوع ، فإذا قتلت : خف الألم. وهذا مشاهد : وإن كان من أسبابه فرح الملسوع واشتفاء نفسه بقتل عدوه ، فتقوى الطبيعة على الألم فتدفعه. وبالجملة : غسل العائن يذهب تلك الكيفية التي ظهرت منه ، وإنما ينفع غسله عند تكيف نفسه بتلك الكيفية.

فإن قيل : فقد ظهرت مناسبة الغسل ، فما مناسبة صب ذلك الماء على المعين؟.

قيل : هو في غاية المناسبة. فإن ذلك الماء (١) أطفأ تلك النارية ، وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل ، فكما طفئت به النار (٢) القائمة بالفاعل ، طفئت به وأبطلت عن المحل المتأثر ، بعد ملابسته للمؤثر العائن. والماء الذي يطفأ به الحديد ، يدخل في أدوية عدة طبيعية ذكرها الأطباء. فهذا الذي طفئ به نارية العائن. لا يستنكر أن يدخل في دواء يناسب هذا الدواء.

وبالجملة فطب الطبائعية وعلاجهم بالنسبة إلى العلاج النبوي ، كطب الطرقية بالنسبة إلى طبهم ، بل أقل. فإن التفاوت الذي بينهم وبين الأنبياء أعظم وأعظم من التفاوت الذي بينهم وبين الطرقية ، بما لا يدرك الانسان مقداره. فقد ظهر لك عقد الاخاء الذي بين الحكمة والشرع ، وعدم مناقضة أحدهما للآخر. والله يهدى من يشاء إلى الصواب ، ويفتح لمن أدام قرع باب التوفيق منه كل باب. وله النعمة السابقة ، والحجة البالغة.

( فصل ) ومن علاج ذلك أيضا والاحتراز منه : ستر محاسن من يخاف عليه العين ، بما يردها عنه. كما ذكر البغوي في كتاب شرح السنة : « أن عثمان رضي الله عنه ، رأى صبيا مليحا ، فقال : دسموا نونته لئلا تصيبه العين » ، ثم قال في تفسيره : ومعنى « دسموا نونته » أي : سودوا نونته ، والنونة : النقرة التي تكون في ذقن الصبى الصغير.

وقال الخطابي في غريب الحديث له : « عن عثمان أنه رأى صبيا تأخذه العين ، فقال : دسموا نونته. فقال أبو عمرو : سألت أحمد بن يحيى عنه ، فقال : أراد بالنونة النقرة التي في ذقنه ، والتدسيم : التسويد. أراد : سودوا ذلك الموضع من ذقنه ، ليرد العين. قال : ومن هذا حديث عائشة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خطب ذات يوم وعلى رأسه عمامة دسماء ، أي : سوداء » ، أراد الاستشهاد على (٣) اللفظة. ومن هذا أخذ الشاعر قوله :

__________________

(١) في الزاد ١٢٠ : الماء ماء طفئ به تلك النارية.

(٢) بالزاد : النارية.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : عن. وهو تصحيف.


ما كان أحوج ذا الكمال إلى

عيب يوقيه من العين!

( فصل ) ومن الرقي التي ترد العين ، ما ذكر عن أبي عبد الله التياحي : « أنه كان

في بعض أسفاره للحج أو الغزو ، على ناقة فارهة ، وكان في الرفقة رجل عائن قلما (١) نظر إلى شئ إلا أتلفه. فقيل لأبي عبد الله : احفظ ناقتك من العائن. فقال : ليس له إلى ناقتي سبيل. فأخبر العائن بقوله ، فتحين غيبة أبى عبد الله : فجاء إلى رحله ، فنظر إلى الناقة ، فاضطربت وسقطت. فجاء أبو عبد الله ، فأخبر : أن العائن قد عانها ، وهى كما ترى فقال :

دلوني عليه. فدل ، فوقف عليه : وقال باسم الله ، حبس حابس ، وحجر يابس وشهاب قابس ، رددت عين العائن عليه ، وعلى أحب الناس إليه ، (فارجع البصر هل ترى من فطور ، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) فخرجت حدقتا العائن ، وقامت الناقة ، لا بأس بها ».

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العلاج العام

لكل شكوى ، بالرقية الإلهية

روى أبو داود في سننه ، من حديث أبي الدرداء ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : « من اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له ، فليقل : ربنا الله الذي في السماء ، تقدس اسمك وأمرك (٢) في السماء والأرض ، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض ، واغفر لنا حوبنا وخطايانا ، أنت رب الطيبين ، أنزل رحمة من عندك ، وشفاء من شفائك على هذا الوجع. فيبرأ بإذن الله ».

وفى صحيح مسلم ـ عن أبي سعيد الخدري ـ : « أن جبريل عليه‌السلام أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا محمد ، اشتكيت؟ قال : نعم. فقال جبريل عليه‌السلام : باسم الله أرقيك ، من

__________________

(١) كذا بالزاد ١٢٠. وفى الأصل : فما. ولعله تصحيف.

(٢) في سنن أبي داود ٤ / ١٢ : أمرك. ولعله تحريف. وفى سائر النص اختلاف. وانظر الفتح الكبير ٣ / ١٦١.


كل داء يؤذيك ، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك ، باسم الله أرقيك ».

فإن قيل : فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود : « لا رقية إلا من عين أو حمة » ، والحمة : ذوات السموم كلها؟.

فالجواب : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يرد به نفى جواز الرقية في غيرها ، بل المراد به : لا رقية أولى وأنفع منها في العين والحمة. ويدل عليه سياق الحديث ، فإن سهل بن حنيف قال له لما أصابته العين : أو في الرقي خير؟ فقال : « لا رقية إلا في نفس أو حمة » ، ويدل (١) عليه سائر أحاديث الرقي العامة والخاصة. وقد روى أبو داود من حديث أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لا رقية إلا من عين ، أو حمة ، أو دم لا يرقأ ». (٢) وفى صحيح مسلم عنه أيضا : « رخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة ».

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رقية اللديغ بالفاتحة

أخرجا في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : « انطلق نفر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفرة سافروها ، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب ، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم. فلدغ سيد ذلك الحي ، فسعوا له بكل شئ لا ينفعه شئ. فقام بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا ، لعلهم أن يكون عند بعضهم شئ فأتوهم فقالوا : يا أيها الرهط ، إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شئ لا ينفعه شئ (٣) ، فهل عند أحد منكم من شئ؟ فقال بعضهم : نعم ، والله إني لارقى ، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا ، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا. فصالحوهم على قطيع من الغنم. فانطلق يتفل عليه ، ويقرأ الحمد لله رب العالمين. فكأنما نشط من عقال. فانطلق يمشى وما به قلبة. قال : فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقتسموا. فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) كذا بالزاد ١٢١. وهو الظاهر. وفى الأصل : يدل.

(٢) وأخرجه أيضا الحاكم في صحيحه. اه‍ ق. وهذا لفظ الأصل والفتح الكبير ٣ / ٣٤٤. وفى الزاد وسنن أبي داود ٤ / ١١ : أو دم يرقأ. وهو تحريف.

(٣) هذا لم يرد في الزاد.


فنذكر له الذي كان ، فننظر ما يأمرنا. فقدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكروا له ذلك. فقال : وما يدريك أنها رقية. ثم قال : قد أصبتم ، اقتسموا واضربوا لي معكم سهما (١) ». وقد روى ابن ماجة في سننه ، من حديث على ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « خير الدواء القرآن ».

ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة ، فما الظن بكلام رب العالمين : الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه ، الذي هو الشفاء التام ، والعصمة النافعة ، والنور الهادي ، والرحمة العامة ، الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلالته. قال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ). و « من » ههنا لبيان الجنس ، لا للتبعيض. هذا أصح القولين. كقوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ). وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟. فما الظن بفاتحة الكتاب : التي لم ينزل في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها ، المتضمنة لجميع معاني كتب الله ، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب ومجامعها ، وهى : الله والرب والرحمن والرحيم (٢) ، وإثبات المعاد ، وذكر التوحيدين : توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة ، وطلب الهداية ، وتخصيصه سبحانه بذلك ، وذكر أفضل الدعاء على الاطلاق وأنفعه وأفرضه ، وما العباد أحوج شئ إليه ، وهو : الهداية إلى صراطه المستقيم المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته ، بفعل ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، والاستقامة عليه إلى الممات. ويتضمن ذكر أصناف الخلائق وانقسامهم إلى منعم عليه : بمعرفته (٣) الحق والعمل به ومحبته وإيثاره ، ومغضوب عليه : بعدوله عن الحق بعد معرفته له ، وضال : بعدم معرفته له. وهؤلاء أقسام الخليقة. مع تضمنها لاثبات القدر والشرع ، والأسماء والصفات ، والمعاد والنبوات ، وتزكية النفوس ، وإصلاح القلوب ، وذكر عدل الله وإحسانه ، والرد على جميع أهل البدع والباطل

__________________

(١) أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجة وأحمد. اه‍ ق.

(٢) هذا سقط من الزاد ١٢١. (٣) بالزاد : بمعرفة. وكلاهما صحيح.


كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير في شرحها؟!. وحقيق بسورة هذا بعض شأنها : أن يستشفى بها من الأدواء ، ويرقى بها اللديغ.

وبالجملة : فما تضمنته الفاتحة ـ : من إخلاص العبودية ، والثناء على الله ، وتفويض الامر كله إليه ، والاستعانة به والتوكل عليه ، وسؤاله مجامع النعم كلها ، وهى : الهداية التي تجلب النعم ، وتدفع النقم. ـ من أعظم الأدوية الشافية الكافية.

وقد قيل : إن موضع الرقية منها : ( إياك نعبد وإياك نستعين ). ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء ، فإن فيهما ـ : من عموم التفويض والتوكل ، والالتجاء والاستعانة ، والافتقار والطلب ، والجمع بين أعلى الغايات ، وهى : عبادة الرب وحده ، وأشرف الوسائل ، وهى : الاستعانة به على عبادته. ـ ما ليس في غيرها.

ولقد مر بي وقت بمكة : سقمت فيه ، وفقدت الطبيب والدواء ، فكنت أتعالج بها : آخذ شربة من ماء زمزم ، وأقرؤها عليها مرارا ، ثم أشربه (١). فوجدت بذلك البرء التام. ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع ، فأنتفع بها غاية الانتفاع.

( فصل ) وفى تأثير الرقي بالفاتحة وغيرها ، في علاج ذوات السموم ، سر بديع. فإن ذوات السموم أثرت بكيفيات نفوسها الخبيثة كما تقدم ، وسلاحها : حمتها (٢) التي تلدغ بها ، وهى لا تلدغ حتى تغضب ، فإذا غضبت : ثار فيها السموم ، فتقذفه بآلتها (٣). وقد جعل الله سبحانه لكل داء دواء ، ولكل شئ ضدا. ونفس (٤) الراقي تفعل في نفس المرقى ، فيقع بين نفسيهما (٥) فعل وانفعال ـ كما يقع بين الداء والدواء ـ : فتقوى نفس المرقى وقوته بالرقية على ذلك الداء ، فيدفعه بإذن الله. ومدار تأثير الأدوية والأدواء ، على الفعل والانفعال. وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين ، يقع بين الداء والدواء

__________________

(١) كذا بالزاد ١٢٢. وفى الأصل : أشرب. ولعله تحريف.

(٢) بالأصل والزاد : حماتها. وهو تحريف. وأصل « الحمة » : السم. ثم أطلقت على إبرة نحو العقرب للمجاورة : لان السم يخرج منها. انظر : النهاية ١ / ٢٦٢ ، والمختار والمصباح (حمى).

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : بالنهار. وهو تصحيف.

(٤) بالزاد : نفس. وهو تحريف.

(٥) بالأصل والزاد : نفسهما. ولعله تحريف.


الروحانيين ، والروحاني والطبيعي. وفى النفث والتفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء ، والنفس المباشر للرقية والذكر والدعاء. فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه ، فإذا صاحبها شئ من أجزاء باطنه ـ من الريق والهواء والنفس ـ : كانت أتم تأثيرا ، وأقوى فعلا ونفوذا ، ويحصل بالازدواج بينهما كيفية مؤثرة ، شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.

وبالجملة : فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة ، وتزيد بكيفية نفسه ، وتستعين بالرقية وبالنفث (١) على إزالة ذلك الأثر. وكلما كانت كيفية نفس الراق أقوى ، كانت الرقية أتم ، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها. وفى النفث (١) سر آخر : فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة. ولهذا تفعله السحرة ، كما يفعله أهل الايمان. قال تعالى : ( ومن شر النفاثات في العقد ). وذلك : لان النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة ، وترسل أنفاسها سهاما لها ، وتمدها بالنفث والتفل الذي معه شئ من ريق (٢) مصاحب لكيفية مؤثرة. والسواحر تستعين بالنفث استعانة بينة : وإن لم يتصل بجسم المسحور ، بل ينفث على العقدة ويعقدها ويتكلم بالسحر ، فيعمل ذلك في المسحور (٣) : بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة ، فتقابلها الروح الزكية الطيبة ، بكيفية الدفع والتكلم بالرقية ، وتستعين بالنفث ، فأيهما قوى كان الحكم له. ومقابلة الأرواح بعضها لبعض ومحاربتها وآلتها ، من جنس مقابلة الأجسام ومحاربتها وآلتها سواء. بل الأصل في المحاربة والتقابل للأرواح ، والأجسام آلتها وجندها. ولكن : من غلب عليه الحس لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالها وانفعالاتها ، لاستيلاء سلطان الحس عليه ، وبعده من عالم الأرواح وأحكامها وأفعالها.

والمقصود : أن الروح إذا كانت قوية ، وتكيفت بمعانى الفاتحة ، واستعانت بالنفث

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : « وبالنفس .. وفى النفس ». وهو تصحيف.

(٢) بالزاد ١٢٢ : الريق. وما في الأصل أحسن.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : بالمسحور. ولعله تحريف.


والتفل ـ : قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة ، فأزالته. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج لدغة العقرب بالرقية

روى ابن أبي شيبة في مسنده ، من حديث عبد الله بن مسعود ، قال : « بينا رسول ( الله ) (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى ، إذ سجد : فلدغته عقرب في إصبعه ، فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : لعن الله العقرب : ما تدع نبيا ولا غيره. ( قال ) : ثم دعا بإناء فيه ماء وملح ، فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ، ويقرأ قل هو الله أحد ، والمعوذتين. حتى سكنت » (٢).

ففي هذا الحديث ، العلاج بالدواء المركب من الامرين : الطبيعي والإلهي.

فإن في سورة الاخلاص ـ : من كمال التوحيد العلمي الاعتقادي ، وإثبات الأحدية لله المستلزمة نفى كل شركة عنه ، وإثبات الصمدية المستلزمة لاثبات كل كمال له ، مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها ، أي : تقصده الخليقة وتتوجه إليه علويها وسفليها ، ونفى الوالد والولد والكفء عنه ، المتضمن لنفى الأصل والفرع والنظير والمماثل. ـ ما (٤) اختصت به ، وصارت تعدل ثلث القرآن. ففي اسمه « الصمد » : إثبات كل الكمال ، وفى نفى الكفء : التنزيه عن الشبيه والمثال ، وفى « الاحد » : نفى كل شريك لذي الجلال. وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد.

وفى المعوذتين الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا : فإن الاستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر يستعاذ منه ، سواء كان في الأجسام أو الأرواح. والاستعاذة من شر الغاسق ، وهو الليل ، وآيته ـ وهو القمر إذا غاب ـ تتضمن (٤) الاستعاذة من شر ما ينتشر

__________________

(١) الزيادة عن الزاد.

(٢) وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط ، والبيهقي في الشعب ، وأبو نعيم في الطب ، وابن مردويه عن علي والمستنفري اه‍ ق.

(٣) هذا هو الظاهر. وبالأصل والزاد : مما.

(٤) كذا بالزاد ١٢٣. وهو المناسب. وفى الأصل : يتضمن.


فيه : من الأرواح الخبيثة التي كان نور النهار يحول بينها وبين الانتشار ، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمر : انتشرت وعاثت. والاستعاذة من شر النفاثات في العقد تتضمن الاستعاذة من شر السواحر وسحرهن. والاستعاذة من شر الحاسد تتضمن الاستعاذة من النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها. والسورة الثانية تتضمن الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن. فقد جمعت السورتان الاستعاذة من كل شر ، ولهما شأن عظيم في الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها. ولهذا أوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقبة بن عامر ، بقراءتهما عقب كل صلاة. ذكره الترمذي في جامعه. وفى هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة. وقال : « ما تعوذ المتعوذون بمثلهما ». وقد ذكر : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحر في إحدى عشرة عقدة ، وأن جبريل نزل عليه بهما ، فجعل كلما يقرأ آية منهما : انحلت عقدة ، حتى انحلت العقد كلها وكأنما نشط من عقال ».

وأما العلاج الطبيعي فيه : فإن في الملح نفعا لكثير من السموم ، ولا سيما لدغة العقرب. قال صاحب القانون : « يضمد به مع بزر (١) الكتان للسع العقرب ». وذكره غيره أيضا. وفى الملح : من القوة الجاذبة المحللة ، ما يجذب السموم ويحللها. ولما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج ـ : جمع بين الماء المبرد لنار اللسعة ، والملح الذي فيه جذب وإخراج. وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله ، وفيه تنبيه على أن علاج هذا الداء : بالتبريد والجذب والاخراج. والله أعلم.

وقد روى مسلم في صحيحه ، عن أبي هريرة ، قال : « جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة! فقال : أما لو قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضرك » (٢).

واعلم أن الأدوية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله ، وتمنع من وقوعه ، وإن وقع : لم يقع وقوعا مضرا وإن كان مؤذيا. والأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء. فالتعوذات والاذكار : إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب ، وإما أن تحول بينها وبين كمال

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : بذر. وما أثبت أولى أو الصحيح. انظر المصباح : (بذر).

(٢) وأخرجه أيضا أحمد اه‍ ق


تأثيرها ، بحسب كمال المتعوذ (١) وقوته وضعفه. فالرقى والعوذ تستعمل : لحفظ الصحة ، ولإزالة المرض.

أما الأول ، فكما في الصحيحين ، من حديث عائشة ، قالت (٢) : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا أوى إلى فراشه : نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين ، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يده من جسده ».

وكما في حديث عوذة أبى الدرداء المرفوع : « اللهم أنت ربى ، لا إله إلا أنت ، عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم » ، وقد تقدم. وفيه : « من قالها أول نهاره : لم تصبه مصيبة حتى يمسى ، ومن قالها آخر نهاره : لم تصبه مصيبة حتى يصبح ».

وكما في الصحيحين : « من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة ، في ليلة ، كفتاه ».

وكما في صحيح مسلم ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « من نزل منزلا ، فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شئ حتى يرتحل من منزله ذلك ».

وكما في سنن أبي داود : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في السفر ، يقول بالليل : يا أرض ، ربى وربك الله ، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك ، وشر ما يدب عليك ، أعوذ بالله من أسد وأسود ، ومن الحية والعقرب ، ومن ساكن البلد ، ومن والد وما ولد ».

وأما (٣) الثاني ، فكما تقدم : من الرقية بالفاتحة ، والرقية للعقرب وغيرها مما يأتي.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رقية النملة

قد تقدم من حديث أنس ـ الذي في صحيح مسلم ـ : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة ».

وفى سنن أبي داود ، عن الشفاء بنت عبد الله ، قالت : « دخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) بالزاد ١٢٣ : التعوذ ولعله تحريف.

(٢) هذا لم يرد في الزاد.

(٣) بالزاد ١٢٤ : فصل وأما. ولعله تحريف.


ـ وأنا عند حفصة ـ فقال : ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة ».

( النملة ) : قروح تخرج في الجنبين ، وهو داء معروف. وسمى نملة : لان صاحبه يحس في مكانه (١) كأن نملة تدب عليه وتعضه. وأصنافها ثلاثة.

قال ابن قتيبة وغيره : كان المجوس يزعمون : أن ولد الرجل من أخته ، إذا حط على النملة : شفى صاحبها. ومنه قول الشاعر :

ولا عيب فينا غير حط لمعشر (١)

كرام ، وأنا لا نحط على النمل

وروى الخلال : « أن الشفاء بنت عبد الله كانت ترقى في الجاهلية من النملة ، فلما هاجرت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكانت قد بايعته بمكة ـ قالت : يا رسول الله ، إني كنت أرقى في الجاهلية من النملة ، وإني أريد أن أعرضها عليك. فعرضتها فقالت : باسم الله صلت حتى يعود من أفواهها ولا تضر أحدا (٢) ، اللهم : اكشف الباس ، رب (٢) الناس. قال : ترقى بها على عود سبع مرات ، وتقصد مكانا نظيفا ، وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق ، وتطليه على النملة ». وفى الحديث : دليل على جواز تعليم النساء الكتابة.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رقية الحية

قد تقدم قوله : « لا رقية إلا في عين أو حمة » ( الحمة ) : بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها.

وفى سنن ابن ماجة ـ من حديث عائشة ـ : « رخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرقية من الحية والعقرب ». ويذكر عن ابن شهاب الزهري ، قال : « لدغ بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل من راق؟ فقالوا : يا رسول الله ، إن آل حزم كانوا يرقون رقية الحية ، فلما نهيت عن الرقي : تركوها. فقال : ادعوا عمارة بن حزم. فدعوه فعرض عليه رقاه ، فقال : لا بأس بها. فأذن له فيها ، فرقاه (٣) ».

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : « كلامه .. حط لمشعر ». وهو تصحيف.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : « أحد .. ورب ». وهو تحريف.

(٣) وأخرجه أيضا البخاري ومسلم والنسائي وأحمد اه‍ ق.


فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رقية القرحة والجرح

أخرجا في الصحيحين عن عائشة ، قالت : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا اشتكى الانسان أو كانت به قرحة أو جرح ، قال (١) بإصبعه هكذا ( ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها ) ، وقال : باسم الله تربة أرضنا ، بريقة بعضنا ، ليشفى سقيمنا ، بإذن ربنا (٢) ».

هذا من العلاج السهل الميسر النافع المركب ، وهى معالجة لطيفة يعالج بها القروح والجراحات الطرية ، لا سيما عند عدم غيرها من الأدوية. إذ كانت موجودة بكل أرض. وقد علم : أن طبيعة التراب الخالص باردة يابسة ، مجففة لرطوبات القروح والجراحات ، التي تمنع الطبيعة من جودة فعلها ، وسرعة اندمالها ، لا سيما في البلاد الحارة ، وأصحاب الأمزجة الحارة. فإن القروح والجراحات يتبعها ـ في أكثر الامر ـ سوء مزاج حار ، فيجتمع حرارة البلد والمزاج والجراح. وطبيعة التراب الخالص باردة يابسة أشد من برودة جميع الأدوية المفردة الباردة ، فتقابل. برودة التراب حرارة المرض ، لا سيما إن كان التراب قد غسل وجفف. ويتبعها أيضا كثرة الرطوبات الرديئة والسيلان ، والتراب مجفف لها ، مزيل : لشدة يبسه وتجفيفه. للرطوبة الرديئة المانعة من برئها. ويحصل به ـ مع ذلك ـ تعديل مزاج العضو العليل. ومتى اعتدل مزاج العضو : قويت قواه المدبرة ، ودفعت عنه الألم بإذن الله.

ومعنى الحديث : أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ، ثم يضعها على التراب ، فيعلق بها منه شئ ، فيمسح به على الجرح ويقول هذا الكلام ، لما فيه : من بركة (ذكر) (٣) اسم الله ، وتفويض الامر إليه ، والتوكل عليه. فينضم أحد العلاجين إلى الآخر ، فيقوى التأثير.

وهل المراد بقوله : « تربة أرضنا » ، جميع الأرض؟ أو أرض المدينة خاصة؟ فيه قولان. ولا ريب أن من التربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواء كثيرة ، ويشفى بها أسقاما رديئة. قال جالينوس : « رأيت بالإسكندرية مطحولين ومستسقين كثيرا ، يستعملون طين

__________________

(١) إن العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال ، كما في نهاية : ٣ / ٢٨٥.

(٢) وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد اه‍ ق.

(٣) الزيادة عن الزاد ١٢٥.

( ١٠ ـ الطب النبوي )


مصر ، ويطلون به على سوقهم وأفخاذهم وسواعدهم وظهورهم وأضلاعهم ، فينتفعون به منفعة بينة. قال : وعلى هذا النحو ، فقد يقع هذا الطلاء للأورام العفنة والمترهلة الرخوة. قال : وإني لأعرف قوما ـ ترهلت أبدانهم كلها من كثرة استفراغ الدم من أسفل ـ انتفعوا بهذا الطين نفعا بينا ، وقوما آخرين شفوا به أوجاعا مزمنة ، كانت متمكنة في بعض الأعضاء تمكنا شديدا ، فبرأت وذهبت أصلا ». وقال صاحب الكتاب المسيحي : « قوة الطين المجلوب من كنوس ـ وهى جزيرة المصطكي ـ قوة تجلو أو تغسل ، وتنبت اللحم في القروح ، وتختم القروح » انتهى.

وإذا كان هذا في هذه التربات ، فما الظن بأطيب تربة على وجه الأرض وأبركها : وقد خالطت ريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقارنت رقيته باسم ربه وتفويض الامر إليه؟! وقد تقدم أن قوى الرقية وتأثيرها : بحسب الراقي وانفعال المرقى عن رقيته. وهذا أمر لا ينكره طبيب فاضل عاقل مسلم ، فإن انتفى أحد الأوصاف ، فليقل ما شاء.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الوجع بالرقية

روى مسلم في صحيحه ، عن عثمان بن أبي العاص : « أنه شكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ضع يدك على الذي تألم من جسدك ، وقل : باسم الله ثلاثا ، وقل سبع مرات : أعوذ بعزة الله وقدرته ، من شر ما أجد وأحاذر (١) ».

ففي هذا العلاج ـ : من ذكر اسم الله والتفويض إليه ، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم. ـ ما يذهب به. وتكراره ليكون أنجع وأبلغ ، كتكرار الدواء لاخراج المادة. وفى السبع خاصية لا توجد في غيرها.

وفى الصحيحين : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعود بعض أهله ، يمسح عليه بيده اليمنى ، ويقول : اللهم رب الناس ، أذهب الباس : واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما ».

__________________

(١) وأخرجه ابن ماجة وأحمد والطبراني اه‍ ق.


ففي هذه الرقية ، توسل إلى الله : بكمال ربوبيته ، وكمال رحمته بالشفاء ، وأنه وحدهالشافي ، وأنه لا شفاء إلا شفاؤه. فتضمنت التوسل إليه : بتوحيده وإحسانه وربوبيته.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج مر المصيبة وحزنها

قال تعالى : ( وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون ).

وفى المسند عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم : أجرني في مصيبتي ، وأخلف لي خيرا منها ـ إلا آجره (١) الله في مصيبته ، وأخلف له خيرا منها (٢) ».

وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب ، وأنفعه له في عاجلته وآجلته. فإنها تتضمن أصلين عظيمين ـ إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته ـ ( أحدهما ) : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة ، وقد جعله عند العبد عارية. فإذا أخذه منه ، فهو كالمعير : يأخذ متاعه من المستعير. وأيضا : فإنه محفوف بعدمين : عدم قبله ، وعدم بعده. وملك العبد له متعة (٣) معارة في زمن يسير. وأيضا : فإنه ليس هو (٤) الذي أوجده عن عدمه ، حتى يكون ملكه حقيقة ، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ، ولا يبقى عليه وجوده. فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي. وأيضا : فإنه متصرف فيه بالامر ، تصرف العبد المأمور المنهى ، لا تصرف الملاك. ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه ، إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.

( والثاني ) : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ، ولا بد أن يخلف الدنيا (٥)

__________________

(١) بالزاد ١٢٥ : أجاره وهو صحيح إن ثبتت رواية « أجرني » بكسر الجيم. وانظر : مسند أحمد ٦ / ٣١٧ ، والنهاية ١ / ١٧ ، واللسان ٥ / ٦٥ والمختار : ( أجر ).

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : معها. وهو تصحيف.

(٣) بالأصل والزاد : منعه. وهو تصحيف.

(٤) هذا لم يرد بالزاد.

(٥) كذا بالزاد. وفى الأصل : الدينار. وهو تحريف.


وراء ظهره ، ويجئ ربه فردا ـ كما خلقه أول مرة ـ بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ، ولكن بالحسنات والسيئات. فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته ، فكيف يفرح بموجود ، أو يأسى على مفقود! ففكرة العبد (١) في مبدئه ومعاده ، من أعظم علاج هذا الداء.

ومن علاجه : أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قال تعالى : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ، إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور ).

ومن علاجه : أن ينظر إلى ما أصيب به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه ، وادخر له ـ إن صبر ورضى ـ ما هو أعظم من فوات تلك (٢) المصيبة بأضعاف مضاعفة ، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.

ومن علاجه : أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد (٣) ، ولينظر يمنة ، فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة ، فهل يرى إلا حسرة؟ (٤) وأنه لو فتش العالم : لم ير فيهم إلا مبتلى إما بفوات محبوب ، أو حصول مكروه ، وأن سرور الدنيا أحلام نوم ، أو كظل زائل : إن أضحكت قليلا ، أبكت كثيرا ، وإن سرت يوما ، ساءت دهرا ، وإن متعت قليلا ، منعت طويلا ، وما ملأت دارا خيرة ، إلا ملأتها عبرة (٥) ، ولا سرته بيوم سرور ، إلا خبأت له يوم شرور.

قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه : « لكل فرحة ترحة ، وما ملئ بيت فرحا ، إلا ملئ ترحا ».

وقال ابن سيرين : « ما كان ضحك قط ، إلا كان من بعده بكاء ».

__________________

(١) بالزاد ١٢٦ : ففكره في مبدئه. وكل صحيح.

(٢) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : ذلك.

(٣) مأخوذ من مثل الأضبط بن قريع : « في كل أرض سعد بن زيد » اه‍ ق بتصرف.

(٤) هذا اقتباس من رسالة بديع الزمان الهمذاني ، إلى أبى عامر الضبي ، يعزيه ببعض أقاربه. انظر الرسائل (ص ٩٣) : ط الجوائب).

(٥) بالزاد هنا وفيما سيأتي : عبرة وهو تصحيف.


وقالت هند بنت النعمان : « لقد رأيتنا : ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكا ، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا : ونحن أقل الناس. وإنه حق على الله : أن لا يملا دارا خيرة ، إلا ملاها عبرة ».

وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها ، فقالت : « أصبحنا ذات صباح : وما في العرب أحد إلا يرجونا ، ثم أمسينا : وما في العرب أحد إلا يرحمنا ».

وبكت أختها حرقة بنت النعمان يوما ـ وهى في عزها ـ فقيل لها : ما يبكيك؟ لعل أحدا آذاك؟ قالت : لا ، ولكن رأيت غضارة في أهلي ، وقلما امتلأت دار سرورا ، إلا امتلأت حزنا ».

قال إسحق بن طلحة : « دخلت عليها يوما ، فقلت لها : كيف رأيت عبرات الملوك؟ فقالت : ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه بالأمس (١) ، إنا نجد في الكتب : أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة ، إلا سيعقبون بعدها عبرة ، وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه ، إلا بطن لهم بيوم يكرهونه. ثم قالت :

فبينا نسوس الناس : والامر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

فأف لدنيا لا يدوم نعيمها :

تقلب تارات بنا ، وتصرف ».

ومن علاجها : أن يعلم أن الجزع لا يردها ، بل يضاعفها. وهو في الحقيقة من تزايد المرض.

ومن علاجها : أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم ـ وهو من (٢) الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع ـ أعظم من المصيبة في الحقيقة.

ومن علاجها : أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ، ويسئ صديقه ، ويغضب ربه ، ويسر شيطانه ، ويحبط أجره ، ويضعف نفسه. وإذا صبر واحتسب : أقصى شيطانه ، ورده خاسئا ، وأرضى ربه ، وسر صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه ، وعزاهم هو

__________________

(١) بالزاد ١٢٦ : الأمس.

(٢) هذا لم يرد بالزاد.


قبل أن يعزوه. فهذا هو الثبات والكمال الأعظم ، لا لطم الخدود ، وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور ، والسخط على المقدور.

ومن علاجها : أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب ـ من اللذة والمسرة ـ أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به ، لو بقى عليه. ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى (١) له في الجنة ، على حمده لربه واسترجاعه. فلينظر أي المصيبتين أعظم : مصيبة العاجلة؟ أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد؟.

وفى الترمذي مرفوعا : « يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا ، لما يرون : من ثواب أهل البلاء ».

وقال بعض السلف : « لولا مصائب الدنيا ، لوردنا القيامة مفاليس ».

ومن علاجها : أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله. فإنه من كل شئ عوض ، إلا الله فما منه عوض. كما قيل :

من كل ـ شئ إذا ضيعته ـ عوض ،

وما من الله ـ إن ضيعته ـ عوض

ومن علاجها : أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه (٢) له ، فمن رضى فله الرضا ، ومن سخط فله السخط. فحظك منها ما أحدثته لك. فاختر إما خير الحظوظ ، أو شرها. فإن أحدثت له سخطا وكفرا : كتب في ديوان الهالكين. وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب ، أو في (٣) فعل محرم ـ : كتب في ديوان المفرطين. وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر : كتب في ديوان المغبونين. وإن أحدثت له اعتراضا على الله ، وقدحا في حكمته ـ : فقد قرع باب الزندقة أو ولجه. وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله : كتب في (ديوان الصابرين. وإن أحدثت له الرضا : كتب في) (٤) ديوان الراضين. وإن أحدثت له الحمد والشكر : كتب في ديوان الشاكرين ، وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين. وإن أحدثت له

__________________

(١) بالزاد : بنى.

(٢) كذا بالزاد ١٢٧. وفى الأصل : يحدثه. ولعله تصحيف.

(٣) بالزاد : أو فعل. وكل صحيح.

(٤) الزيادة عن الزاد.


محبة واشتياقا إلى لقاء ربه : كتب في ديوان المحبين المخلصين.

وفى مسند الإمام أحمد والترمذي ـ من حديث محمود بن لبيد يرفعه ـ : « إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضى فله الرضا ، ومن سخط فله السخط » ، زاد أحمد : « ومن جزع فله الجزع ».

ومن (١) علاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته ، فآخر أمره إلى صبر الاضطرار. وهو غير محمود ولا مثاب.

قال بعض الحكماء : « العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ، ما يفعله الجاهل بعد أيام. ومن لم يصبر صبر الكرام ، سلا سلو البهائم ». وفى الصحيح مرفوعا : « الصبر عند الصدمة الأولى ». وقال الأشعث بن قيس : « إنك إن صبرت إيمانا واحتسابا ، وإلا سلوت سلو البهائم ».

ومن علاجها : أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له ، وأن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب. فمن ادعى محبة محبوب ، ثم سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه (٢) ـ : فقد شهد على نفسه بكذبه ، وتمقت إلى محبوبه.

وقال أبو الدرداء : « إن الله إذا قضى قضاء ، أحب أن يرضى به ». وكان عمران ابن الحصين ، يقول في علته : « أحبه إلي : أحبه إليه ». وكذلك قال أبو العالية.

وهذا دواء وعلاج لا يعمل إلا مع المحبين ، ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به.

ومن علاجها : أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين وأدومهما : لذة تمتعه بما أصيب به ، ولذة تمتعه بثواب الله له. فإن ظهر له الرجحان ، فآثر الراجح : فليحمد الله على توفيقه. وإن آثر المرجوح من كل وجه : فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه ، أعظم من مصيبته التي أصيب ما؟؟ في دنياه.

ومن علاجها : أن يعلم أن الذي ابتلاه بها : أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، وأنه

__________________

(١) بالزاد : من. والنقص من الناسخ أو الطابع.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : يسخط. وهو مع صحته تحريف.


سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه ، ولا ليعذبه به ، ولا ليجتاحه ، وإنما افتقده به : ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه ، وليسمع تضرعه وابتهاله ، وليراه طريحا ببابه ، لائذا بجنابه ، مكسور القلب بين يديه ، رافعا قصص الشكوى إليه.

قال الشيخ عبد القادر : « يا بنى : إن المصيبة ما جاءت لتهلكك ، وانما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك ، يا بنى : القدر سبع ، والسبع لا يأكل الميتة ».

والمقصود : أن المصيبة كير العبد الذي يسبك به حاصله ، فإما أن يخرج ذهبا أحمر ، وإما أن يخرج خبثا كله. كما قيل :

سبكناه : ونحسبه لجينا ،

فأبدى الكير عن خبث الحديد

فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا : فبين يديه الكير الأعظم. فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك ، وأنه لا بد من أحد الكيرين ـ فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل.

ومن علاجها : أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها ، لأصاب العبد ـ : من أدواء الكبر والعجب ، والقرعنة وقسوة القلب. ـ ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا. فمن رحمة أرحم الراحمين : أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب ، تكون حمية له من هذه الأدواء ، وحفظا لصحة عبوديته ، واستفراغا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه. فسبحان من يرحم ببلائه ، ويبتلى بنعمائه! كما قيل :

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت

ويبتلى الله بعض القوم ، بالنعم

فلولا أنه سبحانه يداوى عباده بأدوية المحن والابتلاء ، لطغوا وبغوا وعتوا. والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرا : سقاه دواء ـ من الابتلاء والامتحان ـ على قدر حاله ، يستفرغ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه : أهله لاشرف مراتب الدنيا ـ وهى عبوديتة وأرفع ثواب الآخرة ، وهو رؤيته وقربه.

ومن علاجها : أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة ، يقلبها الله سبحانه


كذلك ، وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة. ولان ينتقل من مرارة منقطعة ، إلى حلاوة دائمة ـ خير له من عكس ذلك.

فإن خفى عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق : « حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات ».

وفى هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق ، وظهرت حقائق الرجال. فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة ، على الحلاوة الدائمة التي لا تزول ، ولم يحتمل مرارة ساعة بحلاوة الأبد ، ولا ذل ساعة لعز الأبد ، ولا محنة ساعة لعافية الأبد. فإن الحاضر عنده شهادة ، والمنتظر غيب ، والايمان ضعيف ، وسلطان الشهوة حاكم. فتولد من ذلك إيثار العاجلة ، ورفض الآخرة.

وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها. وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجلة ، ويجاوزه إلى العواقب والغايات ـ : فله شأن آخر.

فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته : من النعيم المقيم ، والسعادة الأبدية ، والفوز الأكبر ، وما أعد لأهل البطالة والإضاعة : من الخزي والعقاب ، والحسرات الدائمة. ثم اختر أي القسمين أليق بك. و ( كل يعمل على شاكلته ) ، وكل أحد يصبو إلى ما يناسبه وما هو الأولى به. ولا تستطل هذا العلاج : فشدة الحاجة إليه ـ من الطبيب والعليل ـ دعت إلى بسطه. وبالله التوفيق.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الكرب والهم والغم والحزن

أخرجا في الصحيحين ـ من حديث ابن عباس ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يقول عند الكرب : « لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ( السبع ) (١) ، ورب الأرض ، رب العرش الكريم ».

وفى جامع الترمذي عن أنس : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا حزبه أمر ، قال :

__________________

(١) زيادة عن الزاد ١٢٨.


« يا حي يا قيوم ، برحمتك أستغيث ». وفيه عن أبي هريرة : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا أهمه الامر : رفع طرفه إلى السماء ، فقال : سبحان الله العظيم. وإذا اجتهد في الدعاء ، قال : يا حي يا قيوم ».

وفى سنن أبي داود ، عن أبي بكر الصديق ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : « دعوات المكروب : اللهم رحمتك أرجو ، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله ، لا إله إلا أنت ». وفيها أيضا عن أسماء بنت عميس ، قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب ـ أو في الكرب ـ : الله ربى لا أشرك به شيئا » ، وفى رواية : أنها تقال سبع مرات.

وفى مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : « ما أصاب عبدا هم ولا حزن ـ فقال : اللهم إني عبدك (ابن عبدك) (١) ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همى. ـ إلا أذهب الله حزنه وهمه ، وأبدله مكانه فرحا ».

وفى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « دعوة ذي النون إذا دعار به وهو في بطن الحوت ـ : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ). لم يدع بها رجل مسلم في شئ قط ، إلا استجيب له ». وفى رواية : « إني لاعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه ، كلمة أخي يونس ».

وفى سنن أبي داود (٢) ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : « (دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ذات يوم ـ في المسجد ، فإذا هو برجل من الأنصار ، يقال له : أبو أمامة. فقال) :

__________________

(١) زيادة عن الزاد.

(٢) بالأصل زيادة بعد ذلك : عن أبي داود. وهى من عبث الناسخ أو الطابع. أو مصحفة عن « عن أبي نضرة » وإن كانت لم ترد في الزاد ١٢٩. والزيادة الآتية عنه وعن سنن أبي داود : ٢ / ٩٣.


يا أبا أمامة مالي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة؟ فقال : هموم لزمتني وديون يا رسول الله. فقال : ألا أعلمك كلاما إذا أنت قلته ، أذهب الله عز وجل همك ، وقضى دينك؟ ( قال ) قلت : بلى يا رسول الله. قال : قل ـ إذا أصبحت ، وإذا أمسيت ـ : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين ، وقهر الرجال. ( قال ) : ففعلت ذلك ، فأذهب الله عز وجل همى ، وقضى عنى ديني ».

وفى سنن أبي داود ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من لزم الاستغفار : جعل الله له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب ».

وفى المسند : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا حزبه أمر : فزع إلى الصلاة ». وقد قال تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ).

وفى السنن : « عليكم بالجهاد : فإنه من أبواب الجنة ، يدفع الله به عن النفوس الهم والغم ».

ويذكر عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من كثرت همومه وغمومه : فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ». وثبت في الصحيحين : أنها كنز من كنوز الجنة. وفى الترمذي : أنها باب من أبواب الجنة.

هذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعا من الدواء ـ فإن لم تقو على إذهاب داء الهم والغم والحزن : فهو داء قد استحكم وتمكنت أسبابه ، ويحتاج إلى استفراغ كلي ـ :

( الأول ) : توحيد الربوبية. ( الثاني ) : توحيد الإلهية. ( الثالث ) : التوحيد العلمي الاعتقادي (١). ( الرابع ) : تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك. ( الخامس ) : اعتراف العبد بأنه هو الظالم.

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : الاعتقاد. وهو تحريف.


( السادس ) : التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء إليه ، وهو : أسماؤه وصفاته. ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات : الحي القيوم. ( السابع ) : الاستعانة به وحده.

( الثامن ) : إقرار العبد له بالرجاء. ( التاسع ) : تحقيق التوكل عليه ، والتفويض إليه ، والاعتراف له : بأن ناصيته في يده يصرفه كيف يشاء ، وأنه ماض فيه حكمه ، عدل فيه قضاؤه.

( العاشر ) : أن يرتع قلبه في رياض القرآن ، ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان ، وأن يستضئ به في ( ظلمات ) (١) الشبهات والشهوات ، وأن يتسلى به عن كل فائت ، ويتعزى به عن كل مصيبة ، ويستشفى به من أدواء صدره : فيكون جلاء حزنه ، وشفاء همه وغمه.

( الحادي عشر ) : الاستغفار. ( الثاني عشر ) : التوبة. ( الثالث عشر ) : الجهاد. ( الرابع عشر ) : الصلاة. ( الخامس عشر ) : البراءة من الحول والقوة ، وتفويضهما إلى من هما بيده.

فصل في بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الامر أحد

خلق الله سبحانه ابن آدم وأعضاءه ، وجعل لكل عضو منها كمالا : إذا فقده أحس بالألم ، وجعل لملكها ـ وهو القلب ـ كمالا : إذا فقده حضرته أسقامه وآلامه : من الهموم والغموم والأحزان.

فإذا فقدت العين ما خلقت له من قوة الابصار ، وفقدت الاذن ما خلقت له : من قوة السمع ، و ( فقد ) (٢) اللسان ما خلق له : من قوة الكلام ـ : فقدت كمالها.

والقلب خلق : لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده ، والسرور به ، والابتهاج بحبه ، والرضا عنه ، والتوكل عليه ، والحب فيه ، والبغض فيه ، والموالاة فيه ، والمعاداة فيه ، ودوام

__________________

(١) الزيادة عن الزاد ١٢٩.

(٢) زيادة حسنة لم ترد في الزاد أيضا.


ذكره ، وأن (١) يكون أحب إليه من كل ما سواه ، وأرجى عنده من كل ما سواه ، وأجل في قلبه من كل ما سواه ، ولا نعيم له ولا سرور ولا لذة ـ بل ولا حياة ـ إلا بذلك. وهذا له بمنزلة الغذاء والصحة والحياة. فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته : فالهموم والغموم والأحزان مسارعة من كل صوب إليه ، ورهن مقيم عليه.

ومن أعظم أدوائه : الشرك والذنوب والغفلة ، والاستهانة بمحابه ومراضيه ، وترك التفويض إليه ، وقلة الاعتماد عليه ، والركون إلى ما سواه ، والسخط بمقدوره ، والشك في وعده ووعيده.

وإذا تأملت أمراض القلب : وجدت هذه الأمور وأمثالها ، هي أسبابها ، لا سبب لها سواها. فدواؤه ـ الذي لا دواء له سواه ـ ما تضمنته هذه العلاجات النبوية : من الأمور المضادة لهذه الأدواء. فإن المرض يزال بالضد ، والصحة تحفظ بالمثل. فصحته تحفظ بهذه الأمور النبوية ، وأمراضه بأضدادها.

فالتوحيد يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذة والفرح والابتهاج. والتوبة استفراغ للاخلاط والمواد الفاسدة التي هي سبب أسقامه ، وحمية له من التخليط ، فهي تغلق عنه باب الشرور. فيفتح له باب السعادة والخير بالتوحيد ، ويغلق باب الشرور بالتوبة والاستغفار.

قال بعض المتقدمين من أئمة الطب : « من أراد عافية الجسم : فليقلل من الطعام والشراب ، ومن أراد عافية القلب : فليترك الآثام ». وقال ثابت بن قرة : « راحة الجسم في قلة الطعام ، وراحة الروح في قلة الآثام ، وراحة اللسان في قلة الكلام ».

والذنوب للقلب بمنزلة السموم : إن لم تهلكه أضعفته ولا بد. وإذا أضعفت (٢) قوته : لم يقدر على مقاومة الأمراض. قال طبيب القلوب عبد الله بن المبارك :

__________________

(١) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : أن.

(٢) بالزاد ١٣٠ : ضعفت.


رأيت الذنوب تميت القلوب ،

وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب ،

وخير لنفسك عصيانها

فالهوى أكبر أدوائها ، ومخالفته أعظم أدويتها. والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة ، ( فهي ) (١) لجهلها تظن شفاءها في اتباع هواها ، وإنما فيه تلفها وعطبها. ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح. بل يضع (٢) الداء موضع الدواء فتعتمده ، ويضع الدواء موضع الداء فتجتنبه ، فيتولد ـ من بين إيثارها للداء ، واجتنابها للدواء ـ أنواع من الأسقام والعلل التي تعيى الأطباء ، ويتعذر معها الشفاء. والمصيبة العظمى : أنها تركب (٣) ذلك على القدر ، فتبرئ نفسها ، وتلوم ربها بلسان الحال دائما ، ويقوى اللوم حتى يصرح به اللسان.

وإذا وصل العليل إلى هذه الحال : فلا يطمع (٤) في برئه ، إلا أن تتداركه رحمة من ربه : فيحييه حياة جديدة ، ويرزقه طريقة حميدة. فلهذا كان حديث ابن عباس في دعاء الكرب ، مشتملا على توحيد الإلهية والربوبية ، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم. وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والاحسان والتجاوز ، ووصفه بكمال ربوبيته للعالم العلوي والسفلى ، والعرش الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها. والربوبية التامة تستلزم توحيده ، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والاجلال والطاعة ، إلا له. وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له ، وسلب كل نقص وتمثيل عنه. وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه.

فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده ، فيحصل له ـ من الابتهاج واللذة والسرور ـ ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم. وأنت تجد المريض : إذا ورد عليه

__________________

(١) الزيادة عن الزاد.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : تضع. وهو تصحيف

(٣) كذا بالزاد : وفى الأصل : تركت. ولعله مصحف عنه ، فتأمل.

(٤) كذا بالزاد. وفى الأصل : يطمح. وهو تصحيف.


ما يسره ويفرحه ويقوى نفسه ، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسى. فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى.

ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف ـ التي تضمنها دعاء الكرب ـ : وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق ، وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور. وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها ، وباشر قلبه حقائقها.

وفى تأثير قوله : « يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث » ـ في دفع هذا الداء ـ مناسبة بديعة. فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها ، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الافعال. ولهذا كان اسم الله الأعظم ـ الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ـ هو : اسم الحي القيوم. والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام. ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة : لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ، ولا شئ من الآفات. ونقصان الحياة ـ يضر (١) بالافعال ، وينافى (١) القيومية. فكمال القيومية لكمال الحياة. فالحي المطلق التام لا يفوته ( صفة ) (٢) الكمال البتة ، والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة. فالتوسل بصفة الحياة والقومية ، له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ، ويضر بالافعال.

ونظير هذا توسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ربه ـ بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل ـ : أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه. فإن حياة القلب بالهداية ، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الاملاك الثلاثة بالحياة : فجبريل موكل بالوحي الذي هو حياة القلوب ، وميكائيل بالقطر الذي هو حياة الأبدان والحيوان ، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها. فالتوسل إليه سبحانه ، بربوبيته (٣) هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة ، له تأثير في حصول المطلوب.

والمقصود : أن لاسم الحي القيوم تأثيرا خاصا في إجابة الدعوات ، وكشف الكربات.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٣٠. وفى الأصل : « تضر .. وتنافى » ، وهو تصحيف.

(٢) زيادة عن الزاد.

(٣) كذا بالأصل. وهو الظاهر أو الأولى. وفى الزاد : بربوبية.


وفى السنن وصحيح أبى حاتم مرفوعا : « اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : ( وإلهكم إله واحد ، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) ، وفاتحة آل عمران : ( ألم. الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) ». قال الترمذي : حديث صحيح.

وفى السنن وصحيح ابن حبان أيضا ـ من حديث أنس ـ : « أن رجلا دعا ، فقال اللهم ، إني أسألك بأن لك الحمد ، لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والاكرام ، يا حي يا قيوم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد دعا الله باسمه الأعظم : الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ».

ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا اجتهد في الدعاء ، قال : يا حي يا قيوم.

وفى قوله : « اللهم رحمتك أرجو ، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله ، لا إله إلا أنت » ـ : من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيديه ، والاعتماد عليه وحده ، وتفويض الامر إليه ، والتضرع إليه : أن يتولى إصلاح شأنه ، ولا يكله إلى نفسه ، والتوسل إليه بتوحيده. ـ ما (١) له تأثير قوى في دفع هذا الداء. وكذلك قوله : « الله ربى لا أشرك به شيئا ».

وأما حديث ابن مسعود : « اللهم إني عبدك ابن (٢) عبدك ». ففيه : من المعارف الإلهية ، وأسرار العبودية ، مالا يتسع له كتاب. فإنه يتضمن الاعتراف بعبوديته وعبودية آبائه وأمهاته ، وأن ناصيته بيده يصرفها كيف يشاء ، فلا يملك العبد دونه لنفسه ، نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا. لان من ناصيته بيد غيره : فليس إليه شئ من أمره ، بل هو عان في قبضته ، ذليل تحت سلطان قهره.

وقوله : « ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ». متضمن لأصلين عظيمين ، عليهما مدار التوحيد : ( أحدهما ) إثبات القدر وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ، ماضية فيه ، لا انفكاك له عنها ، ولا حيلة له في دفعها.

__________________

(١) بالأصل والزاد : مما!

(٢) كذا بالأصل. وهو موافق لما تقدم (ص ١٥٤). وفى الزاد : وابن.


( والثاني ) : أنه سبحانه عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده ، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والاحسان. فإن الظلم سببه : حاجة الظالم أو جهله أو سفهه ، فيستحيل صدوره ممن هو بكل شئ عليم ، ومن هو غنى عن كل شئ ، وكل شئ فقير إليه ، ومن هو أحكم الحاكمين. فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته وحمده ، كما لم يخرج عن قدرته ومشيئته. فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته. ولهذا (١) قال نبي الله هود صلى الله على نبينا وعليه وسلم ـ وقد خوفه قومه بآلهتهم ـ : (٢) ( [ إني ] أشهد الله واشهدوا : أنى برئ مما تشركون من دونه ، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ، إني توكلت على الله ربى وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، إن ربى على صراط مستقيم ) أي : مع كونه سبحانه آخذا بنواصي خلقه وتصريفهم كما يشاء ، فهو على صراط مستقيم : لا يتصرف فيهم إلا بالعدل والحكمة ، والاحسان والرحمة. فقوله : « ماض في حكمك » ، مطابق لقوله : ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) ، وقوله : « عدل في قضاؤك » ، مطابق لقوله : ( إن ربى على صراط مستقيم ).

ثم توسل إلى ربه بأسمائه التي سمى بها نفسه : ما علم العباد منها ، وما لم يعلموا ، ومنها : ما استأثره في علم الغيب عنده : فلم يطلع عليه ملكا مقربا ، ولا نبيا مرسلا. وهذه الوسيلة أعظم الوسائل ، وأحبها إلى الله ، وأقربها تحصيلا للمطلوب.

ثم سأله : أن يجعل القرآن لقلبه كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان ـ وكذلك القرآن : ربيع القلوب. ـ وأن يجعله شفاء همه وغمه ، فيكون له بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء ، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله. وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية وغيرها. فأحرى (٣) بهذا العلاج ـ إذا صدق العليل في استعماله ـ أن يزيل عنه داءه ، ويعقبه

__________________

(١) بالزاد ١٣١ : فلهذا.

(٢) على ما حكاه الله عنه : في سورة هود (٥٤ ـ ٥٦). والزيادة واردة في الزاد.

(٣) كذا بالزاد ١٣٢. وفى الأصل : « فأحر ».

(١١ ـ الطب النبوي)


شفاء تاما وصحة وعافية. والله الموفق.

وأما دعوة ذي النون ، فإن فيها ـ : من كمال التوحيد والتنزيه للرب تعالى ، واعتراف العبد بظلمه وذنبه. ـ ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم. وأبلغ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء الحوائج. فإن التوحيد والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال لله ، وسلب كل نقص وعيب وتمثيل عنه. والاعتراف بالظلم بتضمن إيمان العبد بالشرع والثواب والعقاب ، ويوجب انكساره ورجوعه إلى الله ، واستقالة عثرته ، والاعتراف بعبوديته وافتقاره إلى ربه. فههنا أربعة أمور قد وقع التوسل بها : التوحيد ، والتنزيه ، والعبودية ، والاعتراف.

وأما حديث أبي أمامة : « اللهم ، إني أعوذ بك من الهم والحزن » ، فقد تضمن الاستعاذة من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان مزدوجان : فالهم والحزن أخوان ، والعجز والكسل أخوان ، والجبن والبخل أخوان ، وضلع الدين (١) وغلبة الرجال أخوان. فإن المكروه المؤلم إذا ورد على القلب : فإما أن يكون سببه أمرا ماضيا ، فيوجب له الحزن. وإن كان أمرا متوقعا في المستقبل : أوجب الهم. وتخلف العبد عن مصالحه وتفويتها عليه : إما أن يكون من عدم القدرة وهو العجز ، أو من عدم الإرادة وهو الكسل. وحبس خيره ونفعه عن نفسه وعن بنى (٢) جنسه : إما أن يكون منع نفعه ببدنه : فهو الجبن ، أو بماله : فهو البخل. وقهر الناس له إما بحق : فهو ضلع الدين ، أو بباطل : فهو غلبة الرجال. فقد تضمن الحديث الاستعاذة من كل شر.

وأما تأثير الاستغفار في دفع الهم والغم والضيق. فلما (٣) اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة : أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم ، والخوف والحزن ، وضيق الصدر ، وأمراض القلب. حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم ، وسئمتها نفوسهم ـ : ارتكبوها

__________________

(١) أي شدته ( وثقله ) والرواية السابقة : « غلبة الدين » ، وهما رويتان اه‍ ق. ووردت الثانية : في سنن الترمذي ١٣ / ٢٥ ، والنهاية ٣ / ٢٣ ، والمختار ٣٨٣. وليس مراد ابن القيم ذكر الرواية الثانية أو الإشارة إليها ، إنما مراده تفسير لفظ الرواية الأولى.

(٢) بالزاد : وبنى.

(٣) كذا بالأصل والزاد. وهو بيان لعلة تأثير الاستغفار. وقد ضرب عليه ق وأبدله بقوله : فمما. وهو خطأ وخروج عن المعنى المراد.


دفعا لما يجدونه في صدورهم : من الضيق والهم والغم. كما قال شيخ الفسوق (١) :

وكأس شربت على لذة

وأخرى تداويت منها بها

وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب : فلا دواء لها الا التوبة والاستغفار.

وأما الصلاة فشأنها في تفريح القلب وتقويته ، وشرحه وابتهاجه ولذته ، أكبر شأن. وفيها ـ : من اتصال القلب والروح بالله وقربه ، والتنعم بذكره ، والابتهاج بمناجاته ، والوقوف بين يديه ، واستعمال جميع البدن وقواه وآلاته في عبوديته ، وإعطاء كل عضو حظه منها ، واشتغاله عن التعلق بالمخلوق (٢) وملابستهم ومحاورتهم ، وانجذاب قوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره ، وراحته من عدوه حالة الصلاة. ـ ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرحات ، والأغذية التي لا تلائم إلا القلوب الصحيحة. وأما القلوب العليلة ، فهي كالابدان العليلة : لا تناسبها الأغذية الفاضلة.

فالصلاة : من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة ، وهى منهاة عن الاثم ، ودافعة لادواء القلوب ، ومطردة للداء عن الجسد ، ومنورة للقلب ، ومبيضة للوجه ، ومنشطة للجوارح والنفس ، وجالبة للرزق ، ودافعة للظلم ، وناصرة للمظلوم ، وقامعة لاخلاط الشهوات ، وحافظة للنعمة ، ودافعة للنقمة ، ومنزلة للرحمة ، وكاشفة للغمة ، ونافعة من كثير من أوجاع البطن.

وقد روى ابن ماجة في سننه ـ من حديث مجاهد ، عن أبي هريرة ـ قال : « رآني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا نائم أشكو من وجع بطني ، فقال لي : « يا أبا هريرة ، إشكم درد؟ ( قال ) قلت : نعم يا رسول الله. قال : قم فصل ، فإن في الصلاة شفاء.

وقد روى هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة ، وأنه (٣) هو الذي قال ذلك لمجاهد. وهو

__________________

(١) هو الأعشى. وقد اقتدى به أبو نواس في قوله :

دع عنك لومي ، فإن اللوم إغراء ،

وداوني بالتي كانت هي الداء

(٢) كذا بالأصل والزاد ١٣٢. وهو صحيح لا ينافيه ما بعده ، لأنه جمع من حيث تعدد أفراده. وقد ضرب عليه ق ، وأبدله بلفظ : بالمخلوقين. ولا ضرورة له.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : أنه. وهو تحريف.


أشبه (١). ومعنى هذه اللفظة بالفارسية : أيوجعك بطنك؟.

فإن لم ينشرح صدر زنديق الأطباء بهذا العلاج : فيخاطب بصناعة الطب ، ويقال له : الصلاة رياضة النفس والبدن جميعا ، إذ كانت تشتمل على حركات وأوضاع مختلفة : من الانتصاب ، والركوع ، والسجود ، والتورك ، والانتقالات ، وغيرها من الأوضاع : التي يتحرك معها أكثر المفاصل ، وينغمز معها أكثر الأعضاء الباطنة : كالمعدة والأمعاء ، وسائر آلات النفس والغذاء. فما ينكر أن (٢) في هذه الحركات تقوية وتحليلا للمواد ـ ولا سيما بواسطة قوة النفس وانشراحها في الصلاة ـ فتقوى الطبيعة ، فيندفع الألم.

ولكن داء الزندقة والاعراض عما جاءت به الرسل ، والتعوض عنه بالالحاد ـ داء : ليس له دواء إلا نار ( تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى ، الذي كذب وتولى ) (٣).

وأما تأثير الجهاد في دفع الهم والغم ، فأمر معلوم بالوجدان : فإن النفس متى تركت صائل الباطل وصولته واستيلاءه ، اشتد همها وغمها ، وكربها وخوفها. فإذا جاهدته لله تعالى : أبدل الله ذلك الهم والحزن ، فرحا ونشاطا وقوة. كما قال تعالى : ( قاتلوهم : يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم ، وينصركم عليهم ، ويشف صدور قوم مؤمنين ، ويذهب غيظ قلوبهم ). فلا شئ أذهب لجوى القلب وغمه وهمه وحزنه ، من الجهاد والله المستعان.

وأما تأثير « لا حول ولا قوة إلا بالله » في دفع هذا الداء فلما فيها : من كمال التفويض ، والتبرئ من الحول والقوة إلا به ، وتسليم الامر كله له ، وعدم منازعته في شئ منه ، وعموم ذلك لكل تحول من حال إلى حال في العالم العلوي والسفلى ، والقوة على ذلك التحول ، وأن ذلك كله بالله وحده. فلا يقوم لهذه الكلمة شئ.

وفى بعض الآثار : « أنه ما ينزل ملك من السماء ولا يصعد إليها ، إلا بلا حول ولا قوة إلا بالله ». ولها تأثير عجيب في طرد الشيطان. والله المستعان.

__________________

(١) وقال الفيروز بادي في سفر السعادة : وباب تكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفارسية ، لم يصح فيه شئ ، ولم يثبت. اه‍ ق.

(٢) في الزاد : « أن يكون .. وتحليل ». وكلاهما صحيح.

(٣) اقتباس من سورة الليل : (١٤ ـ ١٦).


فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الفزع والأرق المانع من النوم

روى الترمذي في جامعه ، عن بريدة ، قال : شكا خالد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ما أنام الليل من الارق. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إذا أويت إلى فراشك ، فقل : اللهم رب السماوات السبع وما أظلت ، ورب الأرضين وما أقلت ، ورب الشياطين وما أضلت ، كن لي جارا من شر خلقك كلهم جميعا : أن يفرط على أحد منهم ، أو يبغي علي ، عز جارك ، وجل ثناؤك ، ولا إله غيرك ».

وفيه أيضا ـ عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يعلمهم من الفزع : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأعوذ بك رب أن يحضرون. قال : وكان عبد الله بن عمر (١) يعلمهن من عقل من بنيه ، ومن لم يعقل كتبه وعلقه (٢) عليه ».

ولا يخفى مناسبة هذه العوذة ، لعلاج هذا الداء.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج داء الحريق وإطفائه

يذكر عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إذا رأيتم الحريق : فكبروا ، فإن التكبير يطفئه » (٣).

لما كان الحريق سببه النار ، وهى مادة الشيطان التي خلق منها ، وكان فيه من الفساد

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد وسنن الترمذي ١٣ / ٥٢. وهو صحيح إذا كان المخبر بهذا جد شعيب وهو عبد الله بن عمرو. أما إن كان المخبر محمدا والد شعيب فلا يبعد أن يكون مصحفا عن « عمرو ».

(٢) كذا بالأصل والسنن. أي علقه عبد الله نفسه. وفى الزاد : فأعلقه. أي فيعلقه هذا القائل. فتأمل.

(٣) أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، صحيفة : في صحة أحاديثها اختلاف اه‍ ق. بل هي من أصح الأحاديث ، وكانت تسمى الصادقة. وقد احتج بها الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة. وإنما طعن فيها من لم يتحمل أعباء الفقه والفتوى : كأبى حاتم البستي ، وابن حزم الأندلسي. انظر : زاد المعاد (٤ / ٣٥٢ ـ ٣٥٣ بهامش شرح المواهب) ، وإعلام الموقعين (١ / ١١٦ و ٣١٧ : ط الكرى) ، وهامش مقدمة صحيح البخاري (ص ٤٠ : ط الفجالة).


العام ، ما يناسب الشيطان بمادته وفعله ـ : كان للشيطان (١) إعانة عليه ، وتنفيذا له ، وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد. ( و ) (٢) هذان الأمران ـ وهما : العلو في الأرض ، والفساد. ـ هما هدى الشيطان ، وإليهما يدعو ، وبهما يهلك بني آدم. فالنار والشيطان كل منهما يربد العلو في الأرض والفساد. وكبرياء الرب عز وجل تقمع الشيطان وفعله.

ولهذا كان تكبير الله عز وجل ، له أثر في إطفاء الحريق. فإن كبرياء الله عز وجل لا يقوم لها شئ ، فإذا (٣) كبر المسلم ربه : أثر تكبيره في خمود النار وخمود الشيطان التي هي مادته ، فيطفئ الحريق. وقد جربنا نحن وغيرنا هذا ، فوجدناه كذلك. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حفظ الصحة

لما كان اعتدال البدن وصحته وبقاؤه ، إنما هو بواسطة الرطوبة المقاومة للحرارة ـ : فالرطوبة مادته ، والحرارة تنضجها وتدفع فضلاتها ، وتصلحها وتلطفها. وإلا : أفسدت البدن ولم يمكن قيامه. وكذلك الرطوبة : هي غذاء الحرارة ، فلولا الرطوبة : لأحرقت البدن وأيبسته وأفسدته. فقوام كل واحدة منهما بصاحبتها ، وقوام البدن بهما جميعا. وكل منهما مادة للأخرى ، فالحرارة مادة للرطوبة : تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة ، والرطوبة مادة للحرارة : تغذوها وتحملها. ومتى مالت إحداهما إلى الزيادة على الأخرى : حصل لمزاج البدن الانحراف ، بحسب ذلك. فالحرارة دائما تحلل الرطوبة ، فيحتاج البدن إلى ما به يخلف عليه ما حللته الحرارة ـ ضرورة بقائه ـ وهو : الطعام والشراب. ومتى زاد على مقدار التحلل : ضعفت الحرارة عن تحليل فضلاته ، فاستحالت مواد رديئة : فعاثت في البدن وأفسدت ، فحصلت الأمراض المتنوعة بحسب تنوع موادها ، وقبول الأعضاء واستعدادها.

__________________

(١) كذا بالزاد. أي كان الحريق إعانة للشيطان على الفساد. وفى الأصل : الشيطان. وهو تحريف.

(٢) زيادة عن الزاد.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : إذا. وهو تحريف.


وهذا كله مستفاد من قوله تعالى : ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ). فأرشد عباده إلى إدخال ما يقيم البدن : من الطعام والشراب ، عوض ما تحلل منه ، وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن : في الكمية والكيفية. فمتى جاوز ذلك : كان إسرافا. وكلاهما مانع من الصحة ، جالب للمرض. أعنى : عدم الأكل والشرب ، أو الاسراف فيه.

فحفظ الصحة كله في هاتين الكلمتين الإلهيتين. ولا ريب أن البدن دائما : في التحلل والاستخلاف ، وكلما كثر التحلل : ضعفت الحرارة لفناء مادتها ، فإن كثرة التحلل تفنى الرطوبة ، وهى مادة الحرارة ، وإذا ضعفت الحرارة : ضعف الهضم ، ولا يزال كذلك حتى تفنى الرطوبة ، وتنطفئ الحرارة جملة ، فيستكمل العبد الاجل الذي كتب الله له أن يصل إليه.

فغاية علاج الانسان لنفسه ولغيره : حراسة البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة ، لا أنه (١) يستلزم بقاء الحرارة والرطوبة اللتين بقاء الشباب والصحة والقوة بهما ، فإن هذا مما لم يحصل لبشر في هذه الدار. وإنما غاية الطبيب : أن يحمى الرطوبة عن مفسداتها من العفونة وغيرها ، ويحمى الحرارة عن مضعفاتها ، ويعدل بينهما بالعدل في التدبير الذي به قام بدن الانسان ، كما أن به قامت السماوات والأرض. وسائر المخلوقات إنما قوامها بالعدل.

ومن تأمل هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجده أفضل هدى يمكن حفظ الصحة به. فإن حفظها موقوف على حسن تدبير المطعم والمشرب والملبس ( والمسكن ) (٢) والهواء ، والنوم واليقظة ، والحركة والسكون ، والمنكح ، والاستفراغ والاحتباس. فإذا حصلت هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد والسن والعادة ـ : كان أقرب إلى دوام الصحة والعافية أو غلبتها إلى انقضاء الأجل.

ولما كانت الصحة من أجل نعم الله على عبده ، وأجزل عطاياه ، وأوفر منحه ـ بل

__________________

(١) كذا بالزاد ١٣٤. وفى الأصل : لأنه. وهو تحريف.

(٢) الزيادة عن الزاد ١٣٤.


العافية المطلقة أجل النعم على الاطلاق ـ : فحقيق لمن رزق حظا من التوفيق ، مراعاتها (١) وحفظها ، وحمايتها عما يضادها.

وقد روى البخاري في صحيحه ـ من حديث ابن عباس ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ».

وفى الترمذي وغيره ـ من حديث عبد الله بن محصن الأنصاري ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من أصبح معافى في جسده ، آمنا في سربه ، عنده قوت يومه ـ : فكأنما حيزت له الدنيا ». وفى الترمذي أيضا ـ من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة : من النعيم ، أن يقال له : ألم نصح لك جسمك ، ونروك من الماء البارد؟! ». ومن ههنا ، قال من قال من السلف ـ في قوله تعالى : ( ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم ). ـ قال : عن الصحة.

وفى مسند الإمام أحمد : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال للعباس : « يا عباس يا عم رسول الله ، سل الله العافية في الدنيا والآخرة ». وفيه عن أبي بكر الصديق ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : « سلوا الله اليقين والمعافاة ، فما أوتى أحد ـ بعد اليقين ـ خيرا من العافية ». فجمع بين عافيتي الدين والدنيا. ولا يتم صلاح العبد في الدارين ، إلا باليقين والعافية. فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة ، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا ، في قلبه وبدنه.

وفى سنن النسائي ـ من حديث أبي هريرة يرفعه ـ : « سلوا الله العفو والعافية والمعافاة ، فما أوتى أحد ـ بعد يقين ـ خيرا من معافاة ». وهذه الثلاثة تتضمن إزالة الشرور الماضية : بالعفو ، والحاضرة : بالعافية ، والمستقبلة : بالمعافاة. فإنها تتضمن المداومة والاستمرار على العافية.

وفى الترمذي مرفوعا : « ما سئل الله شيئا أحب إليه من العافية ».

وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : عن أبي الدرداء (٢) : « قلت : يا رسول الله ، لان أعافى

__________________

(١) بالزاد : بمراعاتها. وهو تحريف.

(٢) كذا بالزاد ١٣٥. وفى الأصل أبى داود. وهو تحريف.


فأشكر ، أحب إلي من أن أبتلى فأصبر. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ورسول الله يحب معك العافية ».

ويذكر عن ابن عباس : « أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : ما أسأل الله بعد الصلوات الخمس؟ فقال : سل الله العافية. فأعاد عليه ، فقال له في الثالثة : سل الله العافية في الدنيا والآخرة ».

وإذا كان هذا شأن العافية والصحة : فنذكر من هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في مراعاة هذه الأمور ، ما يتبين لمن نظر فيه أنه أكمل الهدى على الاطلاق : ينال به حفظ صحة البدن والقلب ، وحياة الدنيا والآخرة. والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فصل

فأما المطعم والمشرب ، فلم يكن من عادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حبس النفس على نوع واحد من الأغذية ، لا يتعداه إلى ما سواه. فإن ذلك يضر بالطبيعة جدا ، وقد يتعذر عليها أحيانا : فإن لم يتناول غيره ضعف أو هلك ، وإن تناول غيره لم تقبله الطبيعة : فاستضر به. فقصرها على نوع واحد دائما ـ ولو أنه أفضل الأغذية ـ خطر (مضر) (١).

بل كان يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله : من اللحم والفاكهة والخبز والتمر ، وغيره مما ذكرناه في هديه في المأكول. فعليك بمراجعته ههنا.

وإذا كان في أحد الطعامين كيفية تحتاج إلى كسر وتعديل : كسرها وعدلها بضدها إن أمكن ، كتعديله (٢) حرارة الرطب بالبطيخ. وإن لم يجد ذلك : تناوله على حاجة وداعية من النفس من غير إسراف ، فلا تتضرر به الطبيعة.

وكان إذا عافت نفسه الطعام : لم يأكله ، ولم يحملها إياه على كره. وهذا أصل عظيم

__________________

(١) الزيادة عن الزاد.

(٢) بالزاد : كتعديل. وما بالأصل أحسن.


في حفظ الصحة. فمتى أكل الانسان ما تعافه نفسه ولا تشتهيه (١) : كان تضرره به أكثر من انتفاعه.

قال أنس : « ما عاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طعاما قط ، إن اشتهاه : أكله ، وإلا : تركه ولم يأكل منه ». ولما قدم إليه الضب المشوى : لم يأكل منه ، فقيل له : أهو حرام؟ قال : « لا ، ولكن : لم يكن بأرض قومي ، فاجدنى أعافه ». فراعى عادته وشهوته ، فلما لم يكن يعتاد أكله بأرضه ، وكانت نفسه لا تشتهيه ـ : أمسك عنه ، ولم يمنع من أكله من يشتهيه ، ومن عادته أكله.

وكان يحب اللحم ، وأحبه إليه : الذراع ومقدم الشاة. ولذلك سم فيه.

وفى الصحيحين : « أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلحم ، فرفع إليه الذراع ، وكانت تعجبه ». وذكر أبو عبيد وغيره ، عن ضباعة بنت الزبير ـ : « أنها ذبحت في بيتها شاة ، فأرسل إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن أطعمينا من شاتكم. فقالت للرسول : ما بقى عندنا إلا الرقبة (٢) ، وإني لاستحى أن أرسل بها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فرجع الرسول فأخبره ، فقال : ارجع إليها ، فقل لها : أرسلي بها ، فإنها هادية الشاة وأقرب إلى الخير ، وأبعدها من الأذى ».

ولا ريب أن أخف لحم الشاة : لحم الرقبة ، ولحم الذراع والعضد. وهو أخف على المعدة ، وأسرع انهضاما. وفى هذا مراعاة الأغذية التي تجمع ثلاثة أوصاف : ( الأول ) (٣) : كثرة نفعها وتأثيرها في القوى. ( الثاني ) : خفتها على المعدة ، وعدم ثقلها عليها. ( الثالث ) : سرعة هضمها. وهذا أفضل ما يكون من الغذاء. والتغذي باليسير من هذا ، أنفع من الكثير من غيره.

__________________

(١) بالزاد : يشتهيه. وكل صحيح.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل. الرقية. وهو تصحيف.

(٣) زيادة حسنة لم ترد بالزاد أيضا.


وكان يحب الحلواء والعسل. وهذه الثلاثة ـ أعنى : اللحم ، والعسل ، والحلواء. ـ من أفضل الأغذية ، وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء. وللاغتذاء بها نفع عظيم في حفظ الصحة والقوة ، ولا ينضر (١) منها إلا من به علة وآفة.

وكان يأكل الخبز مأدوما ما وجد له إداما ، فتارة يأدمه باللحم ، ويقول : « هو سيد طعام أهل الدنيا والآخرة ». رواه ابن ماجة وغيره. وتارة بالبطيخ ، وتارة بالتمر. فإنه وضع تمرة على كسرة ، وقال : « هذا إدام هذه ». وفى هذا ـ من تدبير الغذاء ـ أن خبز الشعير بارد يابس ، والتمر حار رطب على أصح القولين ، فأدم خبز الشعير به من أحسن التدبير ، لا سيما لمن تلك عادتهم : كأهل المدينة. وتارة بالخل ، ويقول : « نعم الادام الخل ». وهذا ثناء عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر ، لا تفضيل له على غيره : كما يظن الجهال. وسبب الحديث : « أنه دخل على أهله يوما ، فقدموا له خبزا ، فقال : هل عندكم من إدام؟ قالوا : ما عندنا إلا خل. فقال : نعم الادام الخل ».

والمقصود : أن أكل الخبز مأدوما من أسباب حفظ الصحة ، بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده. وسمى الأدم أدما : لاصلاحه الخبز وجعله ملائما لحفظ الصحة. ومنه قوله في إباحته للخاطب النظر : « إنه أحرى أن يؤدم بينهما » ، أي : أقرب إلى الالتئام والموافقة ، فإن الزوج يدخل على بصيرة ، فلا يندم.

وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ، ولا يحتمى عنها. وهذا أيضا من أكبر أسباب حفظ الصحة : فإن الله سبحانه ـ بحكمته ـ جعل في كل بلد (٢) من الفاكهة ، ما ينتفع به أهلها في وقته ، فيكون تناوله من أسباب صحتهم وعافيتهم ، ويغنى عن كثير من الأدوية. وقل من احتمى عن فاكهة بلده : خشية السقم ، إلا وهو من أسقم الناس جسما ، وأبعدهم من الصحة والقوة.

وما في تلك الفاكهة ـ : من الرطوبات. ـ فحرارة الفصل والأرض. وحرارة المعدة

__________________

(١) بالزاد. ينفر.

(٢) بالزاد ١٣٦ : بلدة.


تنضجها ، وتدفع شرها : إذا لم يسرف في تناولها ، ولم يحمل منها الطبيعة فوق ما تحتمله ، ولم يفسد بها الغذاء قبل هضمه ، ولا أفسدها بشرب الماء عليها ، وتناول الغذاء بعد التحلي منها. فإن القولنج كثيرا ما يحدث عند ذلك. فمن أكل منها ما ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي ـ : كانت له دواء نافعا.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هيئة الجلوس للاكل

صح عنه أن قال : « لا آكل متكئا » وقال : « إنما أجلس كما يجلس العبد ، وآكل كما يأكل العبد ». وروى ابن ماجة في سننه : « أنه نهى أن يأكل الرجل وهو منبطح على وجهه ».

وقد فسر الاتكاء : بالتربع (١). وفسر : بالاتكاء على الشئ ، وهو الاعتماد عليه. وفسر بالاتكاء على الجنب. والأنواع الثلاثة من الاتكاء ، فنوع منها يضر بالاكل ، وهو : الاتكاء على الجنب. فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعي عن هيئته ، ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ، ويضغط المعدة : فلا يستحكم فتحها للغذاء. وأيضا : فإنها تميل ولا تبقى منتصبة ، فلا يصل الغذاء إليها بسهولة.

وأما النوعان الآخران ، فمن جلوس الجبابرة المنافى للعبودية. ولهذا قال : « آكل كما يأكل العبد » ، وكان يأكل وهو مقع. ويذكر عنه : « أنه كان يجلس للاكل متوركا على ركبتيه ، ويضع بطن قدمه اليسرى ، على ظهر قدمه اليمنى » ، تواضعا لربه عز وجل ، وأدبا بين يديه ، واحتراما للطعام وللمؤاكل. فهذه الهيئة أنفع هيئات الاكل وأفضلها : لان الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي ، الذي خلقها الله سبحانه عليه ، مع ما فيها من الهيئة الأدبية. وأجود ما اغتذى الانسان : إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعي ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الانسان منتصبا الانتصاب الطبيعي. وأردأ (٢) الجلسات للاكل الاتكاء على الجنب ، لما تقدم : من أن المرئ وأعضاء الازدراد تضيق عند هذه الهيئة ، والمعدة لا تبقى

__________________

(١) بالزاد : بالتربيع.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : أردى.


على وضعها الطبيعي. لأنها تنعصر مما يلي البطن بالأرض ، ومما يلي الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء وآلات النفس.

وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذي تحت الجالس ، فيكون المعنى : أنى إذا أكلت لم أقعد متكئا على الأوطية والوسائد ، كفعل الجبابرة ومن يزيد؟ الاكثار من الطعام ، لكني آكل بلغة كما يأكل العبد.

( فصل ) وكان يأكل بأصابعه الثلاث. وهذا أنفع ما يكون من الاكلات : فإن الاكل بإصبع أو إصبعين لا يستلذ به الآكل ولا يمريه ، ولا يشبعه إلا بعد طول ، ولا تفرح آلات الطعام والمعدة بما ينالها في كل أكلة ، فتأخذها على إغماض ، كما يأخذ الرجل حقه (١) حبة أو حبتين أو نحو ذلك ، فلا يلتذ بأخذه ، ولا يسر به. والاكل (٢) بالخمسة والراحة يوجب ازدحام الطعام على آلاته وعلى المعدة ـ وربما استدت الآلات فمات ـ وتغصب (٣) الآلات على دفعه ، والمعدة على احتماله ، ولا يجد له لذة ولا استمراء. فأنفع الاكل : أكله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأكل من اقتدى به بالأصابع الثلاث.

( فصل ) ومن تدبر (٤) أغذيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما كان يأكله ـ : وجده (٤) لم يجمع قط بين لبن وسمك ، ولا بين لبن وحامض ، ولا بين غذائين حارين ، ولا باردين ، ولا لزجين ، ولا قابضين ولا مسهلين ، ولا غليظين ، ولا مرخيين ، ولا مستحيلين إلى خلط واحد ، ولا بين مختلفين : كقابض ومسهل ، وسريع الهضم وبطيئه ، ولا بين شوى وطبيخ ، ولا بين طري وقديد ، ولا بين لبن وبيض ، ولا بين لحم ولبن. ولم يكن يأكل طعاما في وقت شدة حرارته ، ولا طبيخا بائتا يسخن له بالغد ، ولا شيئا من الأطعمة العفنة والمالحة : كالكوامخ والمخللات والملوحات. وكل هذه الأنواع ضار مولد لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال.

وكان يصلح ضرر بعض الأغذية ببعض : إذا وجد إليه سبيلا ، فيكسر حرارة هذا

__________________

(١) كذا بالزاد ١٣٧. وفى الأصل : حبة. وهو تصحيف.

(٢) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : والآكل. ولعله تصحيف ، فتأمل.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : وانصبت. وهو تصحيف.

(٤) بالزاد : « تدبر ... وحده » ، وبالأصل : « تدبير ... وحده ». وفى كل تصحيف. فتأمل.


ببرودة هذا ، ويبوسة هذا برطوبة هذا. كما فعل في القثاء والرطب ، وكما كان يأكل التمر بالسمن ـ وهو : الحبس. ـ ويشرب نقيع التمر يلطف به كيموسات الأغذية الشديدة.

وكان يأمر بالعشاء ولو بكف من تمر ، ويقول : « ترك العشاء مهرمة » ذكره الترمذي في جامعه ، وابن ماجة في سننه (١).

وذكر أبو نعيم عنه : « أنه كان ينهى عن النوم على الاكل ، ويذكر : أنه يقسى القلب ». ولهذا ، في وصايا الأطباء لمن أراد حفظ الصحة : أن يمشى بعد العشاء خطوات ولو مائة خطوة ، ولا ينام عقبة ، فإنه مضر جدا. وقال مسلموهم : أو يصلى عقيبه ، ليستقر الغذاء بقعر المعدة ، فيسهل هضمه ويجود بذلك.

ولم يكن من هديه : أن يشرب على طعامه فيفسده ، ولا سيما إن كان الماء حارا أو باردا ، فإنه ردئ جدا. قال الشاعر :

لا تكن عند أكل سخن وبرد ،

ودخول الحمام ـ تشرب ماء

فإذا ما اجتنبت ذلك حقا :

لم تخف ما حييت ، في الجوف داء

ويكره شرب الماء عقيب الرياضة والتعب ، وعقيب الجماع ، وعقيب الطعام وقبله ، وعقيب أكل الفاكهة ـ وإن كان الشرب عقيب بعضها ، أسهل من بعض ـ وعقب الحمام ، وعند الانتباه من النوم. فهذا كله مناف لحفظ الصحة. ولا اعتبار بالعوائد : فإنها طبائع ثوان.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشراب (٢)

وأما هديه في الشراب ، فمن أكمل هدى يحفظ به الصحة : فإنه كان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد : وفى هذا من حفظ الصحة ، مالا لا يهتدى إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء

__________________

(١) حديث ضعيف! اه‍ ق. وانظر : المقاصد الحسنة (ص ١٥٧ ـ ١٥٨ : ط القاهرة).

(٢) هذا العنوان كله لم يرد في الزاد ١٣٧.


فإن شربه ولعقه على الريق : يذيب البلغم ، ويغسل خمل المعدة ، ويجلوا لزوجتها ، ويدفع عنها الفضلات ، ويسخنها باعتدال ، ويدفع سددها ، ويفعل مثل ذلك بالكبد والكلى والمثانة. وهو أنفع للمعدة من كل حلو دخلها. وإنما يضر بالعرض لصاحب الصفراء : لحدته وحدة الصفراء ، فربما هيجها. ودفع مضرته لهم بالخل ، فيعود حينئذ لهم نافعا جدا. وشربه أنفع من كثير من الأشربة ، المتخذة من السكر ( أو أكثرها ) (١) ، ولا سيما لمن لم يعتد هذه الأشربة ، ولا ألفها طبعه. فإنه إذا شربها : لا يلائمه ملائمة العسل ، ولا قريبا منه. والمحكم في ذلك العادة : فإنها تهدم أصولا ، وتبنى أصولا.

وأما الشراب إذا جمع وصفى الحلاوة والبرودة : فمن أنفع شئ للبدن ، ومن أكبر (٢) أسباب حفظ الصحة ، وللأرواح والقوى والكبد والقلب ، عشق شديد له ، واستمداد منه. وإذا كان فيه الوصفان : حصلت به التغذية ، وتنفيذ الطعام إلى الأعضاء وإيصاله إليها ، أتم تنفيذ.

والماء البارد رطب : يقمع الحرارة ، ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية ، ويرد عليه بدل ما تحلل منها ، ويرقق (٣) الغذاء ، وينفذه (٣) في العروق.

واختلف الأطباء : هل يغذى البدن؟ ـ على قولين :

فأثبت طائفة التغذية به ، بناء على ما يشاهدونه : من النمو والزيادة والقوة في البدن به ، ولا سيما عند ( شدة ) (٤) الحاجة إليه.

قالوا : وبين الحيوان والنبات قدر مشترك من وجوه عديدة ، منها : النمو والاغتذاء والاعتدال. وفى النبات قوة حس وحركة تناسبه. ولهذا كان غذاء النبات بالماء. فما ينكر أن يكون للحيوان (به) (٤) نوع غذاء ، وأن يكون جزءا من غذائه التام.

__________________

(١) زيادة عن الزاد.

(٢) بالزاد ١٣٨ : آكد.

(٣) بالأصل : « ويرقق .. وينفذ » ، وبالزاد : « ويرفق .. وينفذه ». وأصل كل ما أثبتناه « وإن ورد » يرفق « بمعنى ينفع كما في المختار.

(٤) زيادة عن الزاد.


قالوا : ونحن لا ننكر أن قوة الغذاء ومعظمه في الطعام ، وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية البتة. قالوا : وأيضا الطعام إنما يغذى بما فيه : من المائية ، ولولاها لما حصلت به التغذية.

قالوا : ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات ، ولا ريب أن ما كان أقرب إلى مادة الشئ حصلت به التغذية ، فكيف إذا كانت مادته الأصلية؟! قال الله تعالى : ( وجعلنا من الماء كل شئ حي (١) ). فكيف ينكر (٢) حصول التغذية بما هو مادة الحياة على الاطلاق؟!.

قالوا : وقد رأينا العطشان إذا حصل له الري بالماء البارد : تراجعت إليه قواه ونشاطه وحركته ، وصبر عن الطعام ، وانتفع بالقدر اليسير منه. ورأينا العطشان لا ينتفع بالقدر الكثير من الطعام ، ولا يجد به (٣) القوة والاغتذاء. ونحن لا ننكر أن الماء ينفذ الغذاء إلى أجزاء البدن ، وإلى جميع الأعضاء ، وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به. وإنما ننكر على من سلبه قوة التغذية عنه البتة ، ويكاد قوله عندنا يدخل في إنكار الأمور الوجدانية.

وأنكرت طائفة أخرى حصول التغذية به. واحتجت بأمور : يرجع حاصلها إلى عدم الاكتفاء به ، وأنه لا يقوم مقام الطعام ، وأنه لا يزيد في نمو الأعضاء ، ولا يخلف عليها بدل ما حللته الحرارة ، ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية ، فإنهم يجعلون تغذيته بحسب جوهره ولطافته ورقته ، وتغذية كل شئ بحسبه. وقد شوهد الهواء الرطب البارد اللين اللذيذ : يغذى بحسبه. والرائحة الطيبة : تغذى نوعا من الغذاء. فتغذية الماء أظهر وأظهر.

والمقصود : أنه إذا كان باردا ، وخالط ما يحليه ـ : كالعسل أو الزبيب أو التمر أو السكر. ـ كان من أنفع ما يدخل البدن ، وحفظ عليه صحته. فلهذا كان أحب الشراب

__________________

(١) كذا بالزاد وسورة الأنبياء : (٣٠). وفى الأصل : حيا. وهو تصحيف ناشئ عن فهم أن

جعل بمعنى صير ، مع أنها بمعنى خلق.

(٢) بالزاد : ننكر.

(٣) بالزاد : يحدثه. ولعل أصله : يحدث به.


إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، البارد الحلو. والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضد هذه الأشياء.

ولما كان الماء البائت أنفع من الذي يشرب وقت استقائه ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد دخل إلى حائط أبى الهيثم بن التيهان ـ : « هل من ماء بات في شنه؟ » فأتاه به ، فشرب منه (١). رواه البخاري. ولفظه : « إن كان عندكم ماء بات في شنه (٢) ، وإلا كرعنا ».

والماء البائت بمنزلة العجين الخمير ، والذي شرب لوقته بمنزلة الفطير. وأيضا : فإن الاجزاء الترابية والأرضية تفارقه إذا بات ، وقد ذكر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستعذب له الماء ، ويختار البائت منه. وقالت عائشة : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يستقى له الماء العذب من بئر السقيا ».

والماء الذي في القرب والشنان ، ألذ من الذي يكون في آنية الفخار والأحجار وغيرهما ، ولا سيما أسقية الأدم. ولهذا التمس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماء بات في شنه ، دون غيرها من الأواني. وفى الماء ـ إذا وضع في الشنان وقرب الأدم ـ خاصة لطيفة ، لما فيها : من المسام المنفتحة يرشح منها الماء. ولهذا : الماء الذي (٣) في الفخار الذي يرشح ، ألذ منه وأبرد في الذي لا يرشح فصلوات الله وسلامه على أكمل الخلق ، وأشرفهم نفسا ، وأفضلهم هديا في كل شئ لقد دل أمته على أفضل الأمور وأنفعها لهم : في القلوب والابدان ، في الدنيا والآخرة.

قالت عائشة رضي الله عنها (٤) : « كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الحلو البارد ». وهذا يحتمل : أن يريد به الماء العذب : كمياه العيون والآبار الحلوة. فإنه ( كان ) (٥) يستعذب له الماء. ويحتمل : أن يريد به الماء الممزوج بالعسل ، أو الذي نقع فيه التمر أو الزبيب. وقد يقال ـ وهو الاظهر ـ : يعمهما جميعا.

وقوله في الحديث الصحيح : « إن كان عندك ماء بات في شن ، وإلا كرعنا » ، فيه

__________________

(١) وأخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة وأحمد عن جابر. اه‍ ق.

(٢) بالزاد والفتح الكبير (١ / ٢٦٨) : شن. وفى الفتح زيادة : فاسقنا.

(٣) هذه الكلمة لم ترد بالزاد.

(٤) جملة الدعاء لم ترد بالزاد.

(٥) زيادة عن الزاد.

(١٢ ـ الطب النبوي)


دليل على جواز الكرع ، وهو : الشرب بالفم من الحوض والمقراة ونحوها. وهذه ـ والله أعلم ـ واقعة عين دعت الحاجة فيها إلى الكرع بالفم ، أو قاله مبينا لجوازه. فإن من الناس من يكرهه ، والأطباء تكاد تحرمه ، ويقولون : إنه يضر بالمعدة. وقد روى في حديث ـ لا أدري ما حاله؟ ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهانا أن نشرب على بطوننا ـ وهو : الكرع. ـ ونهانا أن نعترف باليد الواحدة ، وقال : لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ، ولا يشرب بالليل من إناء حتى يختبره ، إلا أن يكون مخمرا ».

وحديث البخاري أصح من هذا. وإن صح فلا تعارض بينهما : إذ لعل الشرب باليد لم يكن يمكن حينئذ ، فقال : وإلا كرعنا. والشرب بالفم إنما يضر : إذا انكب الشارب على وجهه وبطنه ، كالذي يشرب من النهر والغدير. فأما إذا شرب منتصبا بفمه ، من حوض مرتفع ونحوه ـ : فلا فرق بين أن يشرب بيده أو بفمه.

( فصل ) وكان من هديه الشرب قاعدا ، هذا كان هديه المعتاد.

وصح عنه : أنه نهى عن الشرب قائما. وصح عنه : أنه أمر الذي شرب قائما أن يستقئ. وصح عنه : أنه شرب قائما (١).

فقالت (٢) طائفة : هذا ناسخ للنهي.

وقالت طائفة : بل مبين أن النهى ليس التحريم ، بل للارشاد وترك الأولى.

وقالت طائفة : لا تعارض بينهما أصلا ، فإنه إنما شرب قائما للحاجة : فإنه جاء إلى زمزم ـ وهم يستقون (٣) منها ـ فاستقى ، فناولوه الدلو ، فشرب وهو قائم. وهذا كان موضع حاجة.

وللشرب قائما آفات عديدة ، منها : أنه لا يحصل به الري التام ، ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء ، وينزل بسرعة وحدة إلى المعدة ، فيخشى منه أن يبرد حرارتها ويشوشها ، ويسرع النفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريج. وكل هذا يضر بالشارب.

__________________

(١) انظر : آداب الشافعي وهامشه (ص ٧٩ و ٣٣٠).

(٢) بالزاد ١٣٩ : قالت. ولعله تحريف.

(٣) بالزاد : يسقون. وما في الأصل أحسن وأنسب.


وأما إذا فعله نادرا أو لحاجة : لم يضره.

ولا يعترض بالعوائد على هذا : فإن العوائد طبائع ثوان ، ولها أحكام أخرى ، وهى بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء.

( فصل ) وفى صحيح مسلم ـ من حديث أنس بن مالك ـ قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتنفس في الشراب ثلاثا ، ويقول : إنه أروى وأمرأ وأبرأ ». (١)

( الشراب ) في لسان الشارع وحملة الشرع ـ هو : الماء. ومعنى تنفسه في الشراب : إبانة القدح عن فيه وتنفسه خارجه ، ثم يعود إلى الشراب. كما جاء مصرحا به في الحديث الاخر : « إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في القدح ، ولكن : ليبن الاناء عن فيه ».

وفى هذا الشرب حكم جمة ، وفوائد مهمة ، وقد نبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مجامعها ، بقوله : « إنه أروى وأمرأ وأبرأ ». فأروى : أشد ريا وأبلغه وأنفعه. وأبرأ : أفعل من البرء ـ وهو الشفاء ـ أي : يبرئ من شدة العطش ودائه ، لتردده على المعدة المتلهبة دفعات ، فتسكن الدفعة الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه ، والثالثة ما عجزت الثانية عنه. وأيضا : فإنه أسلم لحرارة المعدة ، وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة واحدة ، ونهلة واحدة.

وأيضا : فإنه لا يروى لمصادفته لحرارة العطش لحظة ، ثم يقلع عنها ولما تكسر سورتها وحدتها. وإن انكسرت لم تبطل بالكلية ، بخلاف كسرها على التمهل والتدريج.

وأيضا : فإنه أسلم عاقبة وآمن غائلة من تناول جميع ما يروى دفعة واحدة. فإنه يخاف منه أن يطفئ الحرارة الغريزية ـ بشدة برده ، وكثرة كميته ـ أو يضعفها : فيؤدى ذلك إلى فساد مزاج المعدة والكبد ، وإلى أمراض رديئة خصوصا في سكان البلاد الحارة : كالحجاز واليمن ونحوهما : أو في الأزمنة الحارة : كشدة الصيف. فإن الشرب وهلة واحدة مخوف عليهم جدا : فإن الحار الغريزي ضعيف في بواطن أهلها ، وفى تلك الأزمنة الحارة.

وقوله : « وأمرأ » هو أفعل من « مرئ الطعام والشراب في بدنه » : إذا دخله وخالطه

__________________

(١) وأخرجه البخاري بدون زيادة : « ويقول » : إنه أروى « إلخ. وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد بها. اه‍ ق.


بسهولة ولذة ونفع. ومنه : ( فكلوه هنيئا مريئا ) هنيئا في عاقبته ، مريئا في مذاقه. وقيل : معناه أنه أسرع انحدارا عن المرئ (١) ، لسهولته وخفته عليه ، بخلاف الكثير : فإنه لا يسهل على المرئ (١) انحداره.

ومن آفات الشرب نهلة واحدة : أنه يخاف منه الشرق ، بأن ينسد مجرى الشراب ـ لكثرة الوارد عليه ـ فيغص به. فإذا تنفس رويدا ثم شرب (٢) : أمن من ذلك ، ومن فوائده : أن الشارب إذا شرب أول مرة ، تصاعد البخار الدخاني الحار ـ الذي كان على القلب والكبد ـ لورود الماء البارد عليه ، فأخرجته الطبيعة عنها ، فإذا شرب مرة واحدة : اتفق نزول الماء البارد وصعود البخار ، فيتدافعان ويتعالجان. ومن ذلك يحدث الشرق والغصة ، ولا يتهنأ (٣) الشارب بالماء ، ولا يمرئه ، ولا يتم ريه.

وقد روى عبد الله بن المبارك ، والبيهقي ، وغيرهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « إذا شرب أحدكم : فليمص الماء مصا ، ولا يعب عبا ، فإن (٤) الكباد من العب ».

و ( الكباد ) ـ بضم الكاف وتخفيف الباء ـ هو : وجع الكبد. وقد علم بالتجربة : أن ورود الماء جملة واحدة على الكبد يؤلمها ، ويضعف حرارتها. وسبب ذلك : المضادة التي بين حرارتها ، وبين ما ورد عليها : من كيفية المبرود وكميته. ولو ورد بالتدريج شيئا فشيئا : لم يضاد حرارتها ، ولم يضعفها. وهذا مثاله : صب الماء البارد على القدر وهى تفور ، لا يضرها صبه قليلا قليلا.

وقد روى الترمذي في جامعه ـ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « لا تشربوا نفسا واحدا : كشرب البعير ، ولكن (٥) : اشربوا مثنى وثلاث ، وسموا إذا أنتم شربتم ، واحمدوا إذا (٦) أنتم فرغتم (٧) ».

__________________

(١) بالأصل والزاد ١٤٠ : « المري » بدون همزة. وهو خطأ. وراجع المختار والمصباح ، والنهاية ٤ / ٨٧ بتأمل. (٢) بالزاد : يشرب.

(٣) بالأصل : يتهنى. وإبدال الهمزة ياء هنا عامي ، كما صرح به في المصباح. وعبارة الزاد : يهنأ.

(٤) هذا إلخ لفظ رواية سعيد بن منصور ، وابن السنى ، وأبى نعيم في الطب. كما في الفتح الكبير : ١ / ١٢٣. وانظر : النهاية ٤ / ٣. وعبارة الأصل والزاد : « فإنه من الكباد ». وهى إما محرفة عما أثبتناه ، أو عن « فإن منه الكباد « أو عن » فإنه من العب الكباد ». (٥) بالزاد : لكن.

(٦) كذا بالفتح الكبير : ٣ / ٣٢٧. وبالأصل هنا والزاد في الموضعين : إذ. وهو تحريف.

(٧) رواية الفتح : رفعتم. وقد علق ق بقوله : هذا الحديث ضعيف!!.


وللتسمية في أول الطعام والشراب ، وحمد الله في آخره ـ تأثير عجيب : في نفعه واستمرائه ، ودفع مضرته. قال الإمام أحمد : « إذا جمع الطعام أربعا فقد كمل : إذا ذكر اسم الله في أوله ، وحمد الله في آخره ، وكثرت عليه الأيدي ، وكان من حل ».

( فصل ) وقد روى مسلم في صحيحه ـ من حديث جابر بن عبد الله ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : « غطوا الاناء ، وأوكوا السقاء ، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء : لا يمر بإناء ليس عليه غطاء ، وسقاء ليس عليه وكاء ـ إلا وقع فيه من ذلك الداء ».

وهذا مما لا تناله علوم الأطباء ومعارفهم. وقد عرفه من عرفه ـ : من عقلاء الناس. ـ بالتجربة. قال الليث بن سعد ـ أحد رواة الحديث ـ : « الأعاجم عندنا يتقون تلك الليلة في السنة ، في كانون الأول منها ».

وصح عنه : أنه أمر بتخمير الاناء ولو أن يعرض عليه عودا. وفى عرض العود عليه ـ من الحكمة ـ : أنه لا ينسى تخميره ، بل يعتاده حتى بالعود. وفيه : أنه ربما أراد الدبيب أن يسقط فيه ، فيمر على العود ، فيكون العود جسرا له يمنعه من السقوط فيه.

وصح عنه : أنه أمر عند إبكاء الاناء ، بذكر اسم الله. فإن ذكر اسم الله ـ عند تخمير الاناء ـ يطرد عنه الشيطان ، وإيكاؤه يطرد عنه الهوام. ولذلك أمر بذكر اسم الله في هذين الموضعين ، لهذين المعنيين.

وروى البخاري في صحيحه ـ من حديث ابن عباس ـ : « أن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نهى عن الشرب من في السقاء ».

وفى هذا آداب عديدة ، ( منها ) : أن تردد أنفاس الشارب فيه يكسبه زهومة ورائحة كريهة ، يعاف لأجلها ( ومنها ) : أنه ربما غلب الداخل إلى جوفه ـ من الماء ـ فتضرر ( به ) (١). ( ومنها ) : أنه ربما كان فيه حيوان لا يشعر به ، فيؤذيه. ( ومنها ) : أن الماء

__________________

(١) الزيادة عن الزاد ١٥٨.


ربما كان فيه قذاة أو غيرها ، لا يراها عند الشرب ، فتلج جوفه. ( ومنها ) : أن الشرب كذلك يملا البطن من الهواء ، فيضيق عن أخذ حظه من الماء ، أو يزاحمه ، أو يؤذيه. ولغير ذلك من الحكم.

فإن قيل : فما تصنعون بما في جامع الترمذي : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دعا بإداوة يوم أحد ، فقال : اختنث فم الإداوة. ثم شرب منها من فمها ».؟

قلنا : نكتفي فيه بقول الترمذي : « هذا حديث ليس إسناده بصحيح ، وعبد الله ابن عمر العمرى يضعف من قبل حفظه. ولا أدري : سمع من عيسى ، أولا؟ ». انتهى. يريد : عيسى بن عبد الله ، الذي رواه عنه عن رجل من الأنصار.

( فصل ) وفى سنن أبي داود ـ من حديث أبي سعيد الخدري ـ قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن الشرب في ثلمة القدح ، وأن ينفخ في الشراب ».

وهذا من الآداب التي يتم بها مصلحة الشارب. فإن الشرب من ثلمة القدح فيه عدة مفاسد : ( أحدها ) (١) : أن ما يكون على وجه الماء ـ من قذى أو غيره ـ يجتمع إلى الثلمة ، بخلاف الجانب الصحيح.

( الثاني ) : أنه ربما شوش على الشارب ، ولم يتمكن من حسن الشرب من الثلمة.

( الثالث ) : أن الوسخ والزهومة تجتمع في الثلمة ، ولا يصل إليها الغسل ، كما يصل إلى الجانب الصحيح.

( الرابع ) : أن الثلمة محل العيب في القدح ، وهى أردأ مكان فيه. فينبغي تجنبه وقصد الجانب الصحيح : فإن الردئ من كل شئ لاخير فيه. ورأى بعض السلف رجلا يشترى حاجة رديئة ، فقال : « لا تفعل ، أما علمت أن الله نزع البركة من كل ردئ؟! ».

( الخامس ) : أنه ربما كان في الثلمة شق أو تحديد يخرج فم الشارب. ولغير هذه من المفاسد.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٤١. وفى الأصل : أحدهما. وهو تحريف.


وأما النفخ في الشراب : فإنه يكسبه من فم النافخ رائحة كريهة ، يعاف لأجلها ، ولا سيما إن كان متغير الفم. وبالجملة : فأنفاس النافخ تخالطه.

ولهذا ، جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بين النهى عن التنفس في الاناء ، والنفخ فيه ـ في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (١) ، قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن يتنفس في الاناء ، أو ينفخ فيه ».

فإن قيل : فما تصنعون بما في الصحيحين ـ من حديث أنس ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتنفس في الاناء ثلاثا »؟.

قيل : نقابله بالقبول والتسليم ، ولا معارضة بينه وبين الأول. فإن معناه : أنه كان يتنفس في شربه ثلاثا ، وذكر الاناء : لأنه آلة الشرب. وهذا كما جاء في الحديث الصحيح : « أن إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مات في الثدي » ، أي : في مدة الرضاع.

( فصل ) وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرب اللبن : خالصا تارة ، ومشوبا بالماء أخرى.

وفى شرب اللبن الحلو في تلك البلاد الحارة ـ خالصا ومشوبا ـ نفع عظيم : في حفظ الصحة ، وترطيب البدن ، ورى الكبد ، ولا سيما اللبن الذي ترعى دوابه الشيح والقيصوم والخزامى ، وما أشبهها. فإن لبنها : غذاء مع الأغذية ، وشراب مع الأشربة ، ودواء مع الأدوية.

وفى جامع الترمذي ـ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « إذا أكل أحدكم طعاما ، فليقل : اللهم ، بارك لنا فيه ، وأطعمنا خيرا منه. وإذا سقى لبنا ، فليقل : اللهم ، بارك لنا فيه ، وزدنا منه. فإنه ليس شئ يجزى (٢) من الطعام والشراب ، إلا اللبن ». قال الترمذي : هذا حديث حسن.

__________________

(١) بالزاد : عنه.

(٢) كذا بالأصل والزاد ١٤١ ، والنهاية ١ / ١٦٠. أي : يكفي. وفى الفتح الكبير (١ / ٨٦ و

٣ / ١٦٤) : يجزى. وفى سنن الترمذي (١٣ / ١١) : يجزى مكان. مع اختلاف آخر. والكل صحيح راجع المصباح : ( جزى ).


( فصل ) وثبت في صحيح مسلم : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينتبذ له (١) أول الليل ، ويشربه ـ إذا أصبح ـ يومه ذلك ، والليلة التي تجئ ، والغد والليلة الأخرى ، والغد إلى العصر. فإن بقى منه شئ : سقاه الخادم ، أو أمر به فصب ».

وهذا النبيذ هو : ماء (٢) يطرح فيه تمر يحليه ، وهو يدخل في الغذاء والشراب ، وله نفع عظيم : في زيادة القوة ، وحفظ الصحة. ولم يكن يشربه بعد ثلاث : خوفا من تغيره إلى الاسكار.

فصل في تدبيره لأمر الملبس

وكان من أتم الهدى ، وأنفعه للبدن ، وأخفه عليه ، وأيسره لبسا وخلعا.

وكان أكثر لبسه (٣) والازر. وهى أخف على البدن من غيرها. وكان يلبس القميص ، بل كان أحب الثياب إليه.

وكان هديه في لبسه لما يلبسه ، أنفع شئ للبدن. فإنه لم يكن يطيل أكمامه ويوسعها ، بل كانت كم قميصه إلى الرسغ : لاتجاوز (٤) اليد ، فتشق على لابسها ، وتمنعه خفة الحركة والبطش. ولا تقصر عن هذه ، فتبرز للحر والبرد.

وكان ذيل قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين : لم يتجاوز الكعبين ، فيؤذى الماشي ويؤوده ، ويجعله كالمقيد. ولم يقصر عن عضلة ساقه ، فتنكشف (٥) : فيتأذى بالحر والبرد.

ولم تكن عمامته بالكبيرة التي يؤذى الرأس حملها ويضعفه ، ويجعله عرضة للضعف والآفات ، كما يشاهد من حال أصحابها ، ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد ، بل وسطا بين ذلك. وكان يدخلها تحت حنكه. وفى ذلك فوائد عديدة : فإنها

__________________

(١) بالزاد : ينبذ. وكل صحيح على ما في النهاية : ٤ / ١٢١.

(٢) بالزاد : ما. وكلاهما صحيح.

(٣) بالزاد للأردية. وكل صحيح.

(٤) بالزاد : « يجاوز .. فيشق. ويمنعه. يقصر ». وما في الأصل أنسب.

(٥) بالزاد : فتكشف ويتأذى.


تقى العنق الحر والبرد ، وهو أثبت لها ولا سيما عند ركوب الخيل والإبل ، والكر والفر. وكثير من الناس اتخذ الكلاليب عوضا عن التحنك (١) ويا بعد ما بينهما في النفع والزينة! وأنت إذا تأملت هذه اللبسة : وجدتها من أنفع اللبسات وأبلغها في حفظ صحة البدن وقوته ، وأبعدها من التكلف والمشقة على البدن.

وكان يلبس الخفاف في السفر دائما أو أغلب أحواله ـ : لحاجة الرجلين إلى ما يقيهما من الحر والبرد. ـ وفى الحضر أحيانا.

وكان أحب ألوان الثياب إليه البياض والحبرة ، وهى : البرود المحبرة.

ولم يكن من هديه لبس الأحمر ، ولا الأسود ، ولا المصبغ ، ولا المصقول.

وأما الحلة الحمراء التي لبسها ، فهي : الرداء اليماني الذي فيه سواد وحمرة وبياض ، كالحلة الخضراء. فقد لبس هذه وهذه. وقد تقدم تقرير ذلك ، وتغليظ من زعم أنه لبس الأحمر ألقاني ـ بما فيه كفاية.

فصل في تدبيره لأمر المسكر

لما علم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه على ظهر سير ، وأن الدنيا مرحلة مسافر ـ ينزل فيها مدة عمره ، ثم ينتقل عنها إلى الآخرة ـ : لم يكن من هديه وهدى أصحابه ومن تبعه ، الاعتناء بالمساكن وتشييدها ، وتعليتها وزخرفتها (٢) وتوسيعها. بل كانت من أحسن منازل المسافر : تقى الحر والبرد ، وتستر عن العيون ، وتمنع من ولوج الدواب ، ولا يخاف سقوطها لفرط ثقلها ، ولا تعشعش فيها الهوام لسعتها ، ولا تعتور عليها الأهوية والرياح المؤذية لارتفاعها. وليست تحت الأرض. فتؤذى ساكنها ، ولافى غاية الارتفاع عليها ، بل وسط. وتلك أعدل المساكن وأنفعها ، وأقلها حرا وبردا ، ولا تضيق عن ساكنها فينحصر ، ولا

__________________

(١) بالزاد ١٤٢ : الحنك. وهو أحسن.

(٢) كذا بالزاد. وهو المناسب. وفى الأصل : زخرفها. ولعله تحريف. وانظر : اللسان ١١ / ٣٢.


تفضل (١) عنه بغير منفعة ولا فائدة فتأوى الهوام في خلوها. ولم يكن فيها كنف تؤذى ساكنها برائحتها ، بل رائحتها من أطيب الروائح : لأنه كان يحب الطيب ولا يزال عنده ، وريحه هو من أطيب الرائحة ، وعرفه (٢) من أطيب الطيب ولم يكن في الدار كنيف تظهر رائحته. ولا ريب أن هذه من أعدل المساكن وأنفعها ، وأوفقها للبدن وحفظ صحته.

فصل في تدبيره لأمر النوم واليقظة

ومن (٣) تدبر نومه ويقظته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وجده أعدل نوم وأنفعه للبدن والأعضاء والقوى ، فإنه كان ينام أول الليل ، ويستيقظ أول النصف الثاني ، فيقوم ويستاك ويتوضأ ويصلى ما كتب الله له. فيأخذ البدن والأعضاء والقوى حظها من النوم والراحة ، وحظها من الرياضة ، مع وفور الاجر. وهذا غاية صلاح القلب والبدن والدنيا والآخرة.

ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه ، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه. وكان يفعله على أكمل الوجوه ، فينام ـ إذا دعته الحاجة إلى النوم ـ على شقة الأيمن : ذاكرا الله حتى تغلبه عيناه ، غير ممتلئ البدن من الطعام والشراب ، ولا مباشر بجنبه الأرض ، ولا متخذ للفرش المرتفعة ، بل له ضجاع (٤) من أدم حشوه ليف. وكان يضطجع على الوسادة ، ويضع يده تحت خده أحيانا.

ونحن نذكر فصلا في النوم ، والنافع (٥) منه والضار. فنقول :

( النوم ) : حالة للبدن يتبعها غور الحرارة الغريزية والقوى إلى باطن البدن ، لطلب

__________________

(١) بالزاد : تفصل. وهو تصحيف.

(٢) بالزاد : وعرقه. ولعله تصحيف.

(٣) بالزاد : من.

(٤) كذا بالأصل والزاد. يعنى. : ما يضطجع عليه. وفى النهاية ٣ / ١٢ ، واللسان ١٠ / ٨٨ : ضجعة ( بالكسر ). المراد ما ذكرنا. فليس ما بالأصل محرفا كما جوزه ق.

(٥) بالزاد. النافع. ولعله تحريف فتأمل.


الراحة. وهو نوعان : طبيعي ، وغير طبيعي. فالطبيعي : إمساك القوى النفسانية على أفعالها ، وهى قوى الحس والحركة الإرادية. ومتى أمسكت هذه القوى عن تحريك البدن : استرخى ، واجتمعت الرطوبات والأبخرة التي كانت تتحلل وتتفرق بالحركات واليقظة في الدماغ الذي هو مبدأ هذه القوى ، فيتخدر ويسترخى. وذلك النوم الطبيعي. وأما النوم غير الطبيعي ، فيكون لعرض أو مرض. وذلك : بأن تستولى الرطوبات على الدماغ استيلاء لا تقدر اليقظة على تفريقها ، أو تصعد أبخرة رطبة كثيرة ـ كما يكون عقيب الامتلاء من الطعام والشراب ـ فتثقل الدماغ وترخيه ، فيتخدر ويقع إمساك القوى النفسانية عن أفعالها ، فيكون النوم.

وللنوم فائدتان جليلتان : ( إحداهما ) (١) : سكون الجوارح وراحتها مما يعرض لها من التعب ، فيريح (٢) الحواس من نصب اليقظة ، ويزيل الاعياء والكلال. ( والثانية ) : هضم الغذاء ، ونضج الاخلاط. لان الحرارة الغريزية ـ في وقت النوم ـ تفور إلى باطن البدن ، فتعين على ذلك. ولهذا يبرد ظاهره ، ويحتاج النائم إلى فضل دثار.

وأنفع النوم : أن ينام على الشق الأيمن ـ : ليستقر الطعام بهذه الهيئة في المعدة ، استقرارا حسنا. فإن المعدة أميل إلى الجانب الأيسر قليلا. ـ ثم يتحول إلى الشق الأيسر قليلا : ليسرع الهضم بذلك لاستمالة (٣) المعدة على الكبد ، ثم يستقر نومه على الجانب الأيمن : ليكون الغذاء أسرع انحدارا عن (٤) المعدة. فيكون النوم على الجانب الأيمن بداءة نومه ونهايته. وكثرة النوم على الجانب الأيسر مضر بالقلب ، بسبب ميل الأعضاء إليه : فتنصب إليه المواد.

وأردأ النوم : النوم على الظهر. ولا يضر الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم.

__________________

(١) هذا هو المناسب. وبالأصل : والزاد ١٤٣ : أحدهما.

(٢) كذا بالزاد. وهو الملائم. وفى الأصل : فتستريح.

(٣) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : لاشتمال. ولعله تحريف.

(٤) بالزاد : من.


وأردأ منه : أن ينام منبطحا على وجهه. وفى المسند وسنن ابن ماجة ، عن أبي أمامة ، قال : « مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رجل نائم في المسجد ، منبطح على وجهه ، فضربه برجله ، وقال : قم ـ أو اقعد ـ فإنها نومة جهنمية ».

قال : أبقراط في كتاب التقدمة : « وأما نوم المريض على بطنه ، من غير أن يكون عادته في صحته جرت بذلك ، فذلك يدل على اختلاط عقل ، وعلى ألم في نواحي البطن ». قال الشراح لكتابه : لأنه خالف العادة الجيدة ، إلى هيئة رديئة ، من غير سبب ظاهر ولا باطن.

والنوم المعتدل ممكن للقوى الطبيعة من أفعالها ، مريخ للقوة النفسانية ، مكثر من جوهر حاملها ، حتى إنه ربما عاد بإرخائه مانعا من تحلل الأرواح.

ونوم النهار ردئ يورث الأمراض الرطوبية والنوازل ، ويفسد اللون ، ويورث الطحال ، ويرخى العصب ، ويكسل ويضعف الشهوة ، إلا في الصيف وقت الهاجرة. وأردؤه : نوم أول النهار. وأردأ منه : النوم آخره بعد العصر. ورأى عبد الله بن عباس ابنا له نائما نومة الصبحة ، فقال : « قم ، أتنام. في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق؟! »

وقيل : نوم النهار ثلاثة : خلق ، وخرق (١) وحمق. فالخلق : نومة الهاجرة ، وهى خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والخرق (١) : نومة الضحى يشغل عن أمر الدنيا والآخرة. والحمق : نومة العصر. قال بعض السلف : « من نام بعد العصر ، فاختلص عقله ـ فلا يلومن إلا نفسه ». وقال الشاعر :

ألا إن نومات الضحى تورث الفتى

خبالا ، ونومات العصير جنون

ونوم الصبحة (٢) يمنع الرزق : لان ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها ، وهو وقت

__________________

(١) بالزاد : « وحرق ... والحرق ». وهو تصحيف.

(٢) أي : حين يصبح المرء ، كما في المختار. وبالزاد : الصبيحة.


قسمة الأرزاق. فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة. وهو مضر جدا بالبدن : لارخائه البدن ، وإفساده للفضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة ، فيحدث تكسرا وعيا وضعفا. وإن كان قبل التبرز (١) والحركة والرياضة وإشغال المعدة بشئ ، فذلك الداء العضال المولد لأنواع من الأدواء.

والنوم في الشمس : يثير الداء الدفين. ونوم الانسان ـ بعضه في الشمس ، وبعضه في الظل ـ ردئ. وقد روى أبو داود في سننه ـ من حديث أبي هريرة ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا كان أحدكم في الشمس ، فقلص عنه الظل ـ فصار بعضه في الشمس ، وبعضه في الظل ـ فليقم (٢) ».

وفى سنن ابن ماجة وغيره ـ من حديث بريدة بن الحصيب (٣) : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى أن يقعد الرجل بين الظل والشمس (٤) ». وهذا تنبيه على منع النوم بينهما.

وفى الصحيحين ، عن البراء بن عازب ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « إذا أتيت مضجعك : فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل : اللهم ، إني أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمرى إليك ، وألجأت ظهري إليك : رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا (٥) منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت. واجعلهن آخر كلامك. فإن مت من ليلتك : مت على الفطرة ».

وفى صحيح البخاري عن عائشة : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا صلى ركعتي الفجر ـ يعنى : سنتها : ـ اضطجع على شقه الأيمن ».

وقد قيل : إن الحكمة في النوم على الجانب الأيمن : أن لا يستغرق النائم في نومه. لان القلب فيه ميل إلى جهة اليسار ، فإذا نام على جنبه الأيمن : طلب القلب مسقره من الجانب الأيسر ، وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله في نومه. بخلاف قراره في النوم على الجانب

__________________

(١) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل. التبرد. ولعله تصحيف.

(٢) وأخرجه الحاكم في صحيحه اه‍ ق.

(٣) كذا بالزاد ، والخلاصة ٤٠ ، والتهذيب ١ / ٤٣٣. وفى الأصل : الخصيب (بالمعجمة). وهو تصحيف.

(٤) وأخرجه أيضا أبو داود ، وإسناده صحيح اه‍ ق.

(٥) كذا بالزاد ، والفتح الكبير ١ / ٦٦. وفى الأصل : منجأ. وهو خطأ وتصحيف.


اليسار : فإنه مستقره ، فيحصل بذلك الدعة التامة ، فيستغرق الانسان في نومه ويستثقل : فيفوته مصالح دينه ودنياه.

ولما كان النائم بمنزلة الميت ، والنوم أخو الموت ـ ولهذا يستحيل على الحي الذي لا يموت ( سبحانه ) (١) وأهل الجنة لا ينامون فيها ـ ( و ) كان النائم محتاجا إلى من يحرس نفسه ويحفظها مما يعرض لها من الآفات ، ويحرس بدنه أيضا من طوارق الآفات ، وكان ربه وفاطره تعالى هو المتولى لذلك وحده ـ : علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النائم ، أن يقول كلمات التفويض والالتجاء والرغبة والرهبة : ليستدعى بها كمال حفظ الله له وحراسته لنفسه وبدنه ، وأرشده (٢) مع ذلك إلى أن يستذكر الايمان وينام عليه ، ويجعل التكلم به آخر كلامه. فإنه ربما توفاه الله في منامه ، فإذا كان الايمان آخر كلامه : دخل الجنة.

فتضمن هذا الهدى في المنام ، مصالح القلب والبدن والروح : في النوم واليقظة ، والدنيا والآخرة. فصلوات الله وسلامه على من نالت به أمته كل خير.

وقوله : « أسلمت نفسي إليك » ، أي : جعلتها مسلمة لك تسليم العبد المملوك نفسه إلى سيده ومالكه.

وتوجيه وجهه إليه : يتضمن إقباله بالكلية على ربه ، وإخلاص القصد والإرادة له ، وإقراره بالخضوع والذل والانقياد. قال تعالى : ( فإن حاجوك فقل : أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ). وذكر الوجه : إذ هو أشرف ما في الانسان ، ومجمع الحواس. وأيضا : ففيه معنى التوجه والقصد ، من قوله :

* رب العباد إليه الوجه والعمل *

وتفويض الامر إليه : رده إلى الله سبحانه. وذلك يوجب سكون القلب وطمأنينته ، والرضا بما يقضيه ويختاره له : مما يحبه ويرضاه. والتفويض من أشرف مقامات العبودية ، ولا علة فيه ، وهو من مقامات الخاصة. خلافا لزاعمي خلاف ذلك.

وإلجاء الظهر إليه سبحانه ، يتضمن قوة الاعتماد عليه ، والثقة ( به ) (٣) ، والسكون

__________________

(١) هذه الزيادة جيدة ، والآتية متعينة. ولم تردا في الزاد أيضا. وجواب « لما » قوله : علم. فتنبه.

(٢) بالزاد ١٤٤ : فأرشده. وما بالأصل أحسن.

(٣) زيادة عن الزاد.


إليه ، والتوكل عليه. فإن من أسند ظهره إلى ركن وثيق : لم يخف السقوط.

ولما كان للقلب قونان؟ : قوة الطلب وهى الرغبة ، وقوة الهرب وهى الرهبة ، وكان العبد طالبا لمصالحه ، هاربا من مضاره ـ : جمع الامرين في هذا التفويض والتوجه ، فقال : « رغبة ورهبة إليك ».

ثم أثنى على ربه : بأنه لا ملجأ للعبد سواه ، ولا منجاله منه غيره ، فهو الذي يلجأ إليه العبد : لينجيه من نفسه. كما في الحديث الآخر : « أعوذ برضاك من سخطك ، وبعوفك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ». فهو سبحانه الذي يعيذ عبده ، وينجيه من بأسه الذي بمشيئته وقدرته ، فمنه البلاء ومنه الإعانة ، ومنه ما يطلب النجاة منه ، وإليه الالتجاء في النجاة. فهو الذي يلجأ إليه في أن ينجى مما منه ، ويستعاذ به مما منه. فهو رب كل شئ ، ولا يكون شئ إلا بمشيئته. ( وإن يمسسك الله بضر : فلا كاشف له إلا هو ) ، ( قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا ، أو أراد بكم رحمة ).

ثم ختم الدعاء بالاقرار بالايمان بكتابه ورسوله ، الذي هو ملاك النجاة والفوز في الدنيا والآخرة. فهذا هديه في نومه :

لو لم يقل : إني رسول ، لكا

ن شاهد ـ في هديه ـ ينطق

( فصل ) وأما هديه في يقظته : فكان يستيقظ إذا صاح الصارخ ـ وهو الديك ـ فيحمد الله تعالى ويكبره ، ويهلله ويدعوه ، ثم يستاك ، ثم يقوم إلى وضوئه ، ثم يقف للصلاة بين يدي ربه : مناجيا له بكلامه ، مثنيا عليه ، راجيا له ، راغبا راهبا. فأي حفظ لصحة القلب والبدن والروح والقوى ، ولنعيم الدنيا والآخرة ـ فوق هذا؟!.

( فصل ) وأما تدبير الحركة والسكون ـ وهو الرياضة ـ فنذكر منها فصلا يعلم منه مطابقة هديه في ذلك ، لأكمل أنواعه وأحمدها وأصوبها. فنقول :

من المعلوم افتقار البدن ـ في بقائه ـ إلى الغذاء والشراب. ولا يصير الغذاء بجملته جزءا من البدن ، بل لا بد أن يبقى منه عند كل هضم بقية ما : إذا كثرت على ممر الزمان اجتمع منها شئ له كمية وكيفية ، فيضر بكميته : بأن يسد ويثقل البدن ، ويوجب أمراض


الاحتباس. وإن استفرغ تأذى البدن بالأدوية : لان أكثرها سمية ، ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفع به. ويضر بكيفيته : بأن يسخن بنفسه ، أو بالعفن ، أو يبرد بنفسه ، أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه.

وسدد الفضلات ـ لا محالة ـ ضارة : تركت أو استفرغت. والحركة أقوى الأسباب في منع تولدها : فإنها تسخن الأعضاء ، وتسيل فضلاتها ، فلا تجتمع على طول الزمان ، ويعود البدن الخفة والنشاط ، ويجعله قابلا للغذاء ، ويصلب المفاصل ، ويقوى الأوتار والرباطات. ويؤمن جميع الأمراض المادية ، وأكثر الأمراض المزاجية ـ إذا استعمل القدر المعتدل منه (١) في وقته ، وكان باقي التدبير صوابا.

ووقت الرياضة : بعد انحدار الغذاء وكمال الهضم. والرياضة المعتدلة هي : التي تحمر فيها البشرة وتربو ، ويتندى (٢) فيها البدن ، وأما التي يلزمها سيلان العرق ، فمفرطة. وأي عضو كثرت رياضته قوى ، وخصوصا على نوع تلك الرياضة. بل كل قوة فهذا شأنها : فإن من استكثر من الحفظ قويت حافظته ، ومن استكثر من الفكر قويت قوته المفكرة. ولكل عضو رياضة تخصه : فللصدر القراءة : فليبتدئ فيها من الخفية إلى الجهر بتدريج. ورياضة السمع : بسمع الأصوات والكلام بالتدريج ، فينتقل من الأخف إلى الأثقل. وكذلك رياضة اللسان في الكلام. وكذلك رياضة البصر. وكذلك رياضة المشي بالتدريج شيئا فشيئا.

وأما ركوب الخيل ، ورمى النشاب ، والصراع والمسابقة على الاقدام ـ فرياضة للبدن كله ، وهى قالعة لامراض مزمنة : كالجذام والاستسقاء والقولنج.

ورياضة النفوس : بالتعلم والتأدب ، والفرح والسرور ، والصبر والثبات والاقدام ، والسماح وفعل الخير ، ونحو ذلك : مما ترتاض به النفوس. ومن أعظم رياضتها : الصبر

__________________

(١) بالزاد ١٤٥ : منها. وكل صحيح.

(٢) كذا بالأصل. وهو الظاهر. وفى الزاد : ويبتدئ بها. ولعله تصحيف.


والحب والشجاعة والاحسان ، فلا تزال ترتاض بذلك شيئا فشيئا ، حتى تصير لها هذه الصفات هيآت راسخة ، وملكات ثابتة.

وأنت إذا تأملت هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، وجدته أكمل هدى حافظ للصحة والقوى ، ونافع في المعاش والمعاد.

ولا ريب أن الصلاة نفسها فيها ـ : من حفظ صحة البدن ، وإذابة أخلاطه وفضلاته. ـ ما هو من أنفع شئ له ، سوى ما فيها : من حفظ صحة الايمان ، وسعادة الدنيا والآخرة.

وكذلك قيام الليل : من أنفع أسباب حفظ الصحة ، ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة ، ومن أنشط شئ للبدن والروح والقلب. كما في الصحيحين ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ـ إذا هو نام ـ ثلاث عقد ، يضرب على كل عقدة : عليك ليل طويل فارقد. فإن هو استيقظ ، فذكر : الله انحلت عقدة. فإن توضأ : انحلت عقدة ثانية. فإن صلى : انحلت عقده كلها ، فأصبح نشيطا طيب النفس. وإلا : أصبح خبيث النفس كسلان ».

وفى الصوم الشرعي ـ : من أسباب حفظ الصحة ، ورياضة البدن والنفس. ـ مالا يدفعه صحيح الفطرة.

وأما الجهاد وما فيه من الحركات الكلية ـ التي هي من أعظم أسباب القوة ، وحفظ الصحة ، وصلابة القلب والبدن ودفع فضلاتهما ، وزوال الهم والغم والحزن ـ : فأمر إنما يعرفه من له منه نصيب. وكذلك الحج وفعل المناسك. وكذلك المسابقة على الخيل بالنصال ، والمشي في الحوائج وإلى الاخوان ، وقضاء حقوقهم ، وعيادة مرضاهم ، وتشييع جنائزهم ، والمشي إلى المساجد للجمعات والجماعات ، وحركة الوضوء والاغتسال وغير ذلك.

وهذا أقل ما فيه : الرياضة المعينة على حفظ الصحة ، ودفع الفضلات. وأماما شرع له ـ : من التوصل به إلى خيرات الدنيا والآخرة ، ودفع شرورهما. ـ فأمر وراء ذلك.

فعلمت أن هديه فوق كل هدى : في طب الأبدان والقلوب ، وحفظ صحتهما ، ودفع

(١٣ ـ الطب النبوي)


أسقامهما. ولا مزيد على ذلك لمن قد أحضر رشده. وبالله التوفيق.

فصل

وأما الجماع والباه ، فكان هديه فيه أكمل هدى : تحفظ (١) به الصحة ، ويتم به اللذة وسرور النفس ، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها. فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية ، ( أحدها ) : حفظ النسل ، ودوام النوع الإنساني إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم.

( الثاني ) : إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن.

( الثالث ) : قضاء الوطر ، ونيل اللذة ، والتمتع بالنعمة. وهذه ـ وحدها ـ هي الفائدة التي في الجنة : إذ لا تناسل هناك ، ولا احتقان يستفرغه الانزال.

وفضلاء الأطباء يرون : أن الجماع من أحمد أسباب حفظ الصحة. قال جالينوس : « الغالب على جوهر المني : النار والهواء. ومزاجه حار رطب ، لان كونه : من الدم الصافي الذي تغتذى به الأعضاء الأصلية ».

وإذا ثبت فضل المني ، فاعلم : أنه لا ينبغي إخراجه إلا في طلب النسل ، أو إخراج المحتقن منه. فإنه إذا دام احتقانه : أحدث أمراضا رديئة ، منها : الوسواس والجنون والصرع ، وغير ذلك وقد يبرئ استعماله من هذه الأمراض كثيرا. فإنه إذا طال احتباسه : فسد واستحال إلى كيفية سمية ، توجب أمرضا رديئة كما ذكرنا. ولذلك تدفعه الطبيعة ـ إذا كثر عندها ـ من غير جماع.

وقال بعض السلف : « ينبغي للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثا : ينبغي أن لا يدع المشي ، فإن احتاج إليه يوما ، قدر عليه. وينبغي أن لا يدع الاكل : فإن أمعاءه تضيق. وينبغي أن لا يدع الجماع : فإن البئر إذا لم تنزح (٢) ذهب ماؤها ».

__________________

(١) بالزاد ١٤٦ : يحفظ. وكلاهما صحيح.

(٢) بالزاد ينزح. وكل صحيح.


وقال محمد بن زكريا : « من ترك الجماع مدة طويلة : ضعفت قوى أعصابه واستد مجاريها ، وتقلص ذكره. (قال) : ورأيت جماعة تركوه لنوع من التقشف (١) : فبردت أبدانهم ، وعسرت حركاتهم ، ووقعت عليهم كآبة بلا سبب ، وقلت شهواتهم وهضمهم » انتهى (٢).

ومن منافعه : غض البصر ، وكف النفس ، والقدرة على العفة عن الحرام ، وتحصيل ذلك للمرأة. فهو ينفع نفسه في دنياه وأخراه ، وينفع المرأة.

ولذلك كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعاهده ويحبه ، ويقول : « حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ». وفى كتاب الزهد للإمام أحمد ـ في هذا الحديث ـ زيادة لطيفة ، وهى : « أصبر عن الطعام والشراب ، ولا أصبر عنهن » (٣).

وحث على التزويج أمته ، فقال : « تزوجوا ، فإني مكاثر بكم الأمم ». وقال ابن عباس : « خير هذه الأمة أكثرها نساء ». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) : « إني أتزوج النساء ، وآكل اللحم ، وأنام وأقوم وأصوم وأفطر. فمن رغب عن سنتي : فليس منى » وقال : « يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة : فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحفظ للفرج. ومن لم يستطع : فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء ». ولما تزوج جابر ثيبا ، قال له : « هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ».

ورى ابن ماجة في سننه ـ من حديث أنس بن مالك ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا : فليتزوج الحرائر ». وفى سننه أيضا ـ من حديث ابن عباس ، يرفعه ـ قال : « لم نر للمتحابين مثل النكاح ».

__________________

(١) بالزاد : التنشيف. وهو تصحيف.

(٢) الامتناع عن الجماع عادة غير طبيعية : تؤذى الجسم ، وتسبب الفتور والضعف ، وتسبب معظم الأمراض النفسية اه‍ د.

(٣) لم نعثر على هذه الزيادة ولا على أصل الحديث في كتاب الزهد المطبوع بمكة. ولعله استقراءنا ناقص. وانظر صفحة ٣٦٩ منه.

(٤) جملة الدعاء كلها لم ترد بالزاد.


وفى صحيح مسلم ـ من حديث عبد الله بن عمر ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا : المرأة الصالحة ».

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرض أمته على نكاح الابكار الحسان ، وذوات الدين. وفى سنن النسائي ، عن أبي هريرة ، قال : « سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي النساء خير؟ قال : التي تسره إذا نظر (١) ، وتطيعه إذا أمر ، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله ». وفى الصحيحين ، عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : « تنكح المرأة : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها. فاظفر بذات الدين ، تربت يداك ».

وكان يحث على نكاح الولود ، ويكره المرأة التي لا تلد. كما في سنن أبي داود ـ عن معقل بن يسار ـ : « أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال ، وإنها لا تلد ، أفأتزوجها؟ قال : لا. ثم أتاه الثانية ، فنهاه ثم أتاه الثالثة ، فقال : تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم الأمم ».

وفى الترمذي عنه مرفوعا : « أربع من سنن المرسلين : النكاح ، والسواك ، والتعطر ، والحناء ». روى في الجامع : بالنون ، والياء (٢). وسمعت أبا الحجاج الحافظ ، يقول : « الصواب : أنه الختان ، وسفطت النون من الحاشية. وكذلك رواه المحاملي عن شيخ أبى عيسى الترمذي ».

ومما ينبغي تقديمه على الجماع : ملاعبته (٣) المرأة وتقبيلها ، ومص لسانها.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يلاعب أهله ويقبلها. وروى أبو داود في سننه : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقبل عائشة ويمص لسانها ». ويذكر عن جابر بن عبد الله ، قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المواقعة قبل الملاعبة ».

وكان رسول (٤) الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ربما جامع نساءه كلهن بغسل واحد ، وربما اغتسل عند كل

__________________

(١) كذا بالزاد ، والفتح الكبير ٢ / ٩٩. وهو الملائم. وفى الأصل زيادة : « إليها ». ولعلها من الناسخ أو الطابع. (٢) يعنى بلفظ : والحياء. وإلا كان مصحفا عن « والحاء ».

(٣) بالزاد ١٤٧ : ملاعبة. وكلاهما صحيح. (٤) قوله : رسول الله ، لم يرد في الزاد.


واحدة منهن. فروى مسلم في صحيحه ، عن أنس : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد ». وروى أبو داود في سننه ـ عن أبي رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف على نسائه في ليلة ، فاغتسل عند كل امرأة منهن غسلا. فقلت : يا رسول الله ، لو اغتسلت غسلا واحدا! فقال : هذا أطهر وأطيب ».

وشرع للمجامع ـ إذا أراد العود قبل الغسل ـ الوضوء بين الجماعين ، كما روى مسلم في صحيحه ـ من حديث أبي سعيد الخدري ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إذا أتى أحدكم أهله ، ثم أراد أن يعود : فليتوضأ ».

وفى الغسل والوضوء بعد الوطئ ـ : من النشاط وطيب النفس ، وإخلاف بعض ما تحلل بالجماع ، وكمال الطهر والنظافة ، واجتماع الحار الغريزي إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجماع ، وحصول النظافة التي يحبها الله ويبغض خلافها. ـ ما هو من أحسن التدبير من الجماع ، وحفظ الصحة والقوى فيه.

( فصل ) وأنفع الجماع : ما حصل بعد الهضم ، وعند اعتدال البدن : في حره وبرده ، ويبوسته ورطوبته ، وخلائه وامتلائه. وضرره عند امتلاء البدن : أسهل وأقل من ضرره عند خلوه. وكذلك ضرره عند كثرة الرطوبة : أقل منه عند اليبوسة ، وعند حرارته : أقل منه عند برودته. وإنما ينبغي أن يجامع : إذا اشتدت الشهوة ، وحصل الانتشار التام الذي ليس عن تكلف ، ولا فكر في صورة ، ولا نظر متتابع.

ولا ينبغي أن يستدعى شهوة الجماع ويتكلفها ، ويحمل نفسه عليها. وليبادر إليه : إذا هاجت به كثرة المنى ، واشتد شبقه. وليحذر جماع العجوز ، والصغيرة ـ التي لا يوطأ مثلها ، والتي لا شهوة لها ـ والمريضة ، والقبيحة المنظر ، والبغيضة. فوطئ هؤلاء يوهن القوى ويضعف الجماع بالخاصية.

وغلط من قال من الأطباء : إن جماع الثيب أنفع من جماع البكر ، وأحفظ للصحة. وهذا من القياس الفاسد ، حتى ربما حذر منه بعضهم. وهو مخالف لما عليه عقلاء الناس ، ولما اتفقت عليه الطبيعة والشريعة. وفى جماع البكر ـ : من الخاصية ، وكمال التعلق بينها وبين


مجامعها ، وامتلاء قلبها من محبته ، وعدم تقسيم هواها بينه وبين غيره. ـ ما ليس للثيب.

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجابر ـ : « هلا تزوجت بكرا! ».

وقد جعل الله سبحانه ـ من كمال نساء أهل الجنة من الحور العين ـ : أنهن لم يطمثهن أحد قبل من جعلن له : من أهل الجنة. وقالت عائشة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أرأيت لو مررت بشجرة قد أرتع فيها ، وشجرة لم يرتع فيها ، ففي أيهما كنت ترتع بعيرك؟ » ، قال : « في التي لم يرتع فيها ». تريد : أنه لم يأخذ بكرا غيرها.

وجماع المرأة المحبوبة في النفس يقل إضعافه للبدن مع كثرة استفراغه للمني.

وجماع البغيضة يحل البدن ، ويوهن القوى مع قلة استفراغه.

وجماع الحائض حرام طبعا وشرعا : فإنه مضر جدا ، والأطباء قاطبة تحذر منه.

وأحسن أشكال الجماع : أن يعلو الرجل المرأة مستفرشا لها ، بعد الملاعبة والقبلة. وبهذا سميت المرأة فراشا ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « الولد للفراش ». وهذا من تمام قوامية الرجل على المرأة ، كما قال تعالى : ( الرجال قوامون على النساء ). وكما قيل :

إذا رمتها : كانت فراشا يقلني

وعند فراغي : خادم يتملق

وقد قال تعالى : « هن لباس لكم ، وأنتم لباس لهن ». وأكمل اللباس وأسبغه :

على هذه الحال ، فإن فراش الرجل لباس له ، وكذلك لحاف المرأة لباس لها. فهذا الشكل الفاضل مأخوذ من هذه الآية ، وبه يحسن موقع استعارة اللباس : من كل من الزوجين للآخر.

وفيه وجه آخر ، وهو : أنها تنعطف عليه أحيانا ، فتكون عليه كاللباس. قال الشاعر :

إذا ما الضجيع ثنى عطفه :

تثنت ، فكانت عليه لباسا

وأردأ أشكاله : أن تعلوه المرأة ، ويجامعها على ظهره. وهو خلاف الشكل الطبيعي الذي طبع الله عليه الرجل والمرأة ، بل نوع الذكر والأنثى. وفيه من المفاسد : أن المني يتعسر خروجه كله ، فربما بقى في العضو منه بقية : فيتعفن ويفسد ، فيضر.

وأيضا : فربما سال إلى الذكر رطوبات من الفرج. وأيضا : فإن الرحم لا يتمكن من الاشتمال على الماء ، واجتماعه فيه ، وانضمامه عليه ـ لتخليق الولد.


وأيضا : فإن المرأة مفعول بها طبعا وشرعا ، وإذا كانت فاعلة : خالفت مقتضى الطبع والشرع. وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جنوبهن ـ على حرف ـ ويقولون : هو أيسر للمرأة.

وكانت قريش والأنصار تشرح (١) النساء على أقفائهن ، فعابت اليهود عليهم ذلك. فأنزل الله عز وجل : ( نساؤكم حرث لكم : فأتوا حرثكم أنى شئتم ).

وفى الصحيحين عن جابر ، قال : « كانت اليهود تقول : إذا أتى الرجل امرأته ، من دبرها ، في قبلها ـ : كان الولد أحول. فأنزل الله عز وجل : ( نساؤكم حرث لكم ، فأتوا حرثكم أنى شئتم ) » ، وفى لفظ لمسلم : « إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية ، غير أن ذلك في صمام واحد ». و ( المجبية ) : المنكبة على وجهها. و ( الصمام الواحد ) : الفرج ، وهو موضع الحرث والولد.

وأما الدبر : فم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء. ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطئ الزوجة في دبرها ، فقد غلط عليه.

وفى سنن أبي داود ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ملعون من أتى المرأة في دبرها ». وفى لفظ لأحمد وابن ماجة : « لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها ».

وفى لفظ الترمذي وأحمد : « من أتى حائضا ، أو امرأته في دبرها ، أو كاهنا فصدقه ـ : فقد كفر بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ». وفى لفظ للبيهقي : « من أتى شيئا ـ من الرجال والنساء ـ في الادبار : فقد كفر ».

وفى مصنف وكيع : حدثني زمعة بن صالح ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن يزيد ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إن الله لا يستحى (٢) من الحق ، لا تأتوا النساء في أعجازهن » ، وقال مرة : « في أدبارهن ». وفى

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد. أي : يطؤونهن نائمات. انظر : النهاية ٢ / ٢١١. وقال ق : « الظاهر أنها محرفة عن تطرح ». وهو خطأنا شئ عن التسرع وعدم البحث والتثبت.

(٢) بالزاد ١٤٨ ـ ١٤٩ ( هنا وفيما سيأتي ) ، وكثير من المصادر الأخرى : يستحيى. وهى لغة أهل الحجاز على الأصل. وما في الأصل لغة تميم. انظر المختار.


الترمذي ، عن طلق بن علي ، قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لا تأتوا النساء في أعجازهن ، فإن الله لا يستحى من الحق ». وفى الكامل لابن عدى ـ من حديثه عن المحاملي ، عن سعيد بن يحيى الأموي ـ قال : حدثنا محمد بن حمزة ، عن زيد بن رفيع ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود يرفعه : « لا تأتوا النساء في أعجازهن ».

وروينا ـ من حديث الحسن بن علي الجوهري ، عن أبي ذر ، مرفوعا ـ : « من أتى الرجال والنساء في أدبارهن ، فقد كفر ».

وروى إسماعيل بن عياش ، عن شريك بن أبي صالح ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر يرفعه : « استحيوا من الله ـ فإن الله لا يستحى من الحق ـ لا تأتوا النساء في حشوشهن ». ورواه الدارقطني من هذه الطريق ، ولفظه : « إن الله لا يستحى من الحق ، ولا يحل إتيان (١) النساء في حشوشهن ».

وقال البغوي : حدثنا هدبة (٢) ، حدثنا همام ، قال : سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها ، فقال : حدثني عمرو بن شعيب ـ عن أبيه ، عن جده ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « تلك اللوطية الصغرى ». وقال الامام (٣) أحمد رحمه الله ـ في مسنده ـ : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا همام ، أخبرنا عن قتادة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده. فذكره.

وفى المسند أيضا ، عن ابن عباس قال (٣) : « أنزلت هذه الآية : ( نساءكم حرث لكم ) ، في أناس من الأنصار : أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألوه. فقال : ائتها على كل حال إذا (٤) كان في الفرج ».

__________________

(١) بالزاد : مأتاك.

(٢) كذا بالزاد. وهو : ابن خالد القيسي ، شيخ البغوي ، وتلميذ همام بن يحيى. انظر : التهذيب ١١ / ٢٤ ـ ٢٥ ، والخلاصة ٣٥٥. وفى الأصل : هدية (بالياء). وهو تصحيف.

(٣) لم يرد هذا بالزاد.

(٤) كذا بالزاد ١٤٩. وفى الأصل : إذ. وهو تحريف.


وفى المسند أيضا ، عن ابن عباس ، قال : « جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، هلكت. فقال : وما الذي أهلكك؟ قال : حولت رحلي البارحة. ( قال ) : فلم يرد عليه شيئا ، فأوحى الله إلى رسوله : ( نساؤكم حرث لكم ، فأتوا حرثكم أنى شئتم ) ، أقبل وأدبر ، واتق الحيضة؟؟ والدبر ».

وفى الترمذي ـ عن ابن عباس مرفوعا ـ : « لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر ».

وروينا ـ من حديث أبي على الحسن بن الحسين بن دوما ، عن البراء بن عازب يرفعه ـ : « كفر بالله العظيم عشرة من هذه الأمة : القاتل ، والساحر ، والديوث ، وناكح المرأة في دبرها ، ومانع الزكاة ، ومن وجد سعة : فمات ولم يحج ، وشارب الخمر ، والساعي في الفتن ، وبائع السلاح من أهل الحرب ، ومن نكح ذات محرم منه ».

وقال عبد الله بن وهب : حدثنا عبد الله ( بن ) (١) لهيعة ، عن مشرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : « ملعون من يأتي النساء في محاشهن » ، يعنى : أدبارهن.

وفى مسند الحرث بن ( أبى ) (١) أسامة ـ من حديث أبي هريرة ، وابن عباس ـ قالا : « خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل وفاته ، وهى آخر خطبة خطبها بالمدينة حتى لحق بالله عز وجل ، وعظنا فيها وقال : ـ من نكح امرته في دبرها ، أو رجلا أو صبيا : حشر يوم القيامة : وريحه أنتن من الجيفة ، يتأذى به الناس حتى يدخل النار ، وأحبط الله أجره ، ولا يقبل منه صرفا ولا عدلا ، ويدخل في تابوت من نار ، ويسد (٢) عليه بمسامير من نار ». قال أبو هريرة : هذا لمن لم يتب.

__________________

(١) زيادة متعينة عن الزاد ، وانظر الرسالة المستطرفة للكتاني : ( ص ٥٠ ).

(٢) بالزاد : ويشد عليه مسامير. والظاهر ما في الأصل.


وذكر أبو نعيم الأصبهاني ـ من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه ـ : « إن الله لا يستحى من الحق ، لا تأتوا النساء في أعجازهن ».

وقال الشافعي (١) : « أخبرني عمى محمد بن علي بن شافع ، قال : أخبرني عبد الله بن علي ابن السائب ، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح ، عن خزيمة بن ثابت ـ : « أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال : حلال. فلما ولى دعاه ، فقال : كيف قلت؟ في أي الخربتين (٢)؟ أو في أي الخرزتين؟ أو في أي الخصفتين؟ أمن دبرها في قبلها : فنعم ، أما (٣) من دبرها في دبرها : فلا. فإن (٤) الله لا يستحى من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن ».

قال الربيع : « فقيل للشافعي : فما تقول؟ فقال : عمى ثقة ، وعبد الله بن علي ثقة ، وقد أثنى على الأنصاري (٥) خيرا (يعنى : عمرو بن الجلاح) ، وخزيمة ممن لا يشك في ثقته ، فلست أرخص فيه ، بل أنهى عنه ».

قلت : ومن ههنا ، نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة : من السلف والأئمة فإنهم أباحوا : أن يكون الدبر طريقا إلى الوطئ في الفرج ، فيطأ من الدبر ، لا في الدبر. فاشتبه على السامع : من نفى ، أو لم يظن بينهما فرقا. فهذا الذي أباحه السلف والأئمة ، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه (٦).

وقد قال تعالى : ( فأتوهن من حيث أمركم الله ) ، قال مجاهد : « سألت ابن عباس عن قوله تعالى : ( فأتوهن من حيث أمركم الله ) ، فقال : تأتيها من حيث

__________________

(١) كما في الام ٥ / ٨٤ و ١٥٦ ، والسنن الكبرى للبيهقي ٧ / ١٩٦ : ببعض اختلاف.

(٢) بالزاد : الحرثتين. ولعله تصحيف. وانظر : النهاية. والمراد من الألفاظ الثلاثة : الثقبان.

(٣) كذا بالسنن الكبرى. وهو الظاهر. وفى الأصل والزاد والام وبعض نسخ السنن : أم.

(٤) كذا بالأصل والام ١٥٦. وفى الزاد والسنن والام ٨٤ : إن.

(٥) كذا بالزاد. وفى الأصل : الأنصار. وهو تحريف. وعبارة الام والسنن هي : « وقد أخبرني محمد عن الأنصاري المحدث بها ، أنه (يعنى عبد الله) أثنى عليه (على الأنصاري) خيرا ».

(٦) انظر : آداب الشافعي وهامشه ٢١٦ ـ ٢١٧ و ٢٩٣ ، وتحفة العروس ١٦٦ ـ ١٦٩.


أمرت أن تعتزلها. يعنى : في الحيض ». وقال علي بن طلحة عنه : « يقول : في الفرج ، ولا تعده إلى غيره ».

وقد دلت الآية على تحريم الوطئ في دبرها ، من وجهين :

( أحدهما ) : أنه إنما أباح إتيانها في الحرث ـ وهو موضع الولد ـ لا في الحش الذي هو موضع الأذى. وموضع الحرث هو المراد من قوله : ( من حيث أمركم الله ) الآية. قال تعالى (١) : ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ). وإتيانها في قبلها من دبرها ، مستفاد من الآية أيضا. لأنه قال : ( أنى شئتم ) ، أي من حيث شئتم ، من أمام ، أو من خلف. قال ابن عباس : « ( فأتوا حرثكم ) يعنى : الفرج ».

وإذا كان الله حرم الوطئ في الفرج ، لأجل الأذى العارض ـ : فما الظن بالحش الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل ، والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء ، إلى أدبار الصبيان.

( وأيضا ) : للمرأة (٢) حق على الزوج في الوطئ ، وطؤها في دبرها يفوت حقها ، ولا يقضى وطرها ، ولا يحصل مقصودها.

( وأيضا ) : فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يخلق له ، وإنما لذي هيئ له الفرج. فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا.

( وأيضا ) : فإن ذلك مضر بالرجل ، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء : من الفلاسفة وغيرهم. لان للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن ، وراحة الرجل منه. والوطئ في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ، ولا يخرج كل المحتقن : لمخالفته للامر الطبيعي.

( وأيضا ) : يضر من وجه آخر ، وهو : إحواجه إلى حركات متعبة جدا ، لمخالفته للطبيعة.

( وأيضا ) : فإنه محل القذر والنجو ، فيستقبله الرجل بوجهه ، ويلابسه.

__________________

(١) هذا لم يرد بالزاد.

(٢) بالزاد : فللمرأة.


( وأيضا ) : فإنه يضر بالمرأة جدا ، لأنه وارد غريب ، بعيد عن الطباع ، منافر لها غاية المنافرة.

( وأيضا ) : فإنه يحدث الهم والغم ، والنفرة عن الفاعل والمفعول.

( وأيضا ) : فإنه يسود الوجه ، ويظلم الصدر ، ويطمس نور القلب ، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء : يعرفها من له أدنى فراسة.

( وأيضا ) : فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد ، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ولا بد.

( وأيضا ) : فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فسادا لا يكاد يرجى بعده صلاح ، إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح.

( وأيضا ) : فإنه يذهب بالمحاسن منهما ، ويكسوهما ضدها. كما يذهب بالمودة بينهما ، ويبدلهما بها تباغضا وتلاعنا.

( وأيضا ) : فإنه من أكبر أسباب زوال النعم ، وحلول النقم. فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله ، وإعراضه عن فاعله ، وعدم نظره إليه. فأي خير يرجوه بعد هذا؟ وأي شر يأمنه؟ وكيف حياة عبد قد حلت عليه لعنة الله ومقته ، وأعرض عنه بوجهه ، ولم ينظر إليه!.

( وأيضا ) : فإنه يذهب بالحياء جملة ، والحياء هو حياة القلوب ، فإذا فقدها القلب : استحسن القبيح ، واستقبح الحسن. وحينئذ : فقد استحكم فساده.

( وأيضا ) : فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله عليه (١) ، ويخرج الانسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئا من الحيوان ، بل هو طبع منكوس. وإذا نكس الطبع : انتكس القلب والعمل والهدى ، فيستطيب ـ حينئذ ـ الخبيث من الأعمال والهيئات ، ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره.

( وأيضا ) : فإنه يورث ـ من الوقاحة والجرأة ـ مالا يورثه سواه.

( وأيضا ) : فإنه يورث ـ من المهانة والسفال والحقارة ـ مالا يورثه غيره.

( وأيضا ) : فإنه يكسو العبد ـ من حلة المقت والبغضاء وازدراء (٢) الناس له

__________________

(١) هذا ليس بالزاد ١٥٠.

(٢) بالأصل : واذدراء. وهو تصحيف.


واحتقارهم إياه ، واستصغارهم له ـ ما هو مشاهد بالحس. فصلاة الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة : في هديه واتباع ما جاء به ، وهلاك الدنيا والآخرة : في مخالفة هديه وما جاء به.

( فصل ) والجماع الضار نوعان : ضار شرعا ، وضار طبعا.

فالضار شرعا : المحرم. وهو مراتب بعضها أشد من بعض. والتحريم العارض منه أخف من اللازم : كتحريم الاحرام والصيام والاعتكاف ، وتحريم المظاهر منها قبل التكفير ، وتحريم وطئ الحائض ، ونحو ذلك. ولهذا لاحد في هذا الجماع.

وأما اللازم ، فنوعان : ( نوع ) لا سبيل إلى حلة البتة ، كذوات المحارم. فهذا من أضر الجماع ، وهو يوجب القتل حدا عند طائفة من العلماء : كأحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ وغيره. وفيه حديث مرفوع ثابت. ( والثاني ) : ما يمكن أن يكون حالا ، كالأجنبية. فإن كانت ذات زوج ، ففي وطئها حقان : حق لله ، وحق للزوج. فإن كانت مكرهة : ففيه ثلاثة حقوق. وإن كان لها أهل وأقارب ـ يلحقهم العار بذلك ـ : صار فيه أربعة حقوق. فإن كانت ذات محرم منه : صار فيه خمسون حقوق. فمضرة هذا النوع بحسب درجاته في التحريم.

وأما الضار طبعا ، فنوعان أيضا : نوع ضار بكيفته كما تقدم ، ونوع ضار بكميته ، كالاكثار منه : فإنه يسقط القوة ، ويضر بالعصب ، ويحدث الرعشة والفالج والتشنج ، ويضعف البصر وسائر القوى ، ويطفئ الحرارة الغريزية ، ويوسع المجارى ويجعلها مستعدة للفضلات المؤذية.

وأنفع أوقاته : ما كان بعد انهضام الغذاء في المعدة ، وفى زمان معتدل ، لا على جوع : فإنه يضعف الحار الغريزي ، ولا على شبع : فإنه يوجب أمراضا سددية ، ولا على تعب ، ولا إثر حمام ، ولا استفراغ ، ولا انفعال نفساني : كالغم والهم والحزن ، وشدة الفرح.

وأجود أوقاته : بعد هزيع من الليل ، إذا صادف انهضام الطعام. ثم يغتسل أو يتوضأ


وينام عقبه : فيرجع (١) إليه قواه. وليحذر الحركة والرياضة عقبه : فإنها مضرة جدا.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج العشق

هذا مرض من أمراض القلب ، مخالف لسائر الأمراض : في ذاته وأسبابه وعلاجه. وإذا تمكن واستحكم : عز على الأطباء دواؤه ، وأعيا العليل داؤه.

وإنما حكاه الله سبحانه ـ في كتابه ـ عن طائفتين من الناس : من النساء ، وعشاق الصبيان المردان. فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف. وحكاه عن قوم لوط فقال تعالى ـ إخبارا عنهم لما جاءت الملائكة لوطا ـ : ( وجاء أهل المدينة يستبشرون قال : إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ، واتقوا الله ولا تخزون. قالوا : أو لم ننهك عن العالمين؟! قال : هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين. لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون ).

وأما ما زعمه بعض من لم يقدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق قدره : « أنه ابتلى به في شأن زينب بنت جحش ، وأنه رآها فقال : سبحان مقلب القلوب! وأخذت بقلبه ، وجعل يقول لزيد بن حارثة : أمسكها. حتى أنزل الله عليه : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه : أمسك عليك زوجك واتق الله ، وتخفى في نفسك ما الله مبديه ، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) » ـ فظن هذا الزاعم : أن ذلك في شأن العشق ، وصنف بعضهم كتابا في العشق ، وذكر فيه عشق الأنبياء ، وذكر هذه الواقعة. وهذا من جهل هذا القائل بالقرآن وبالرسل وتحميله كلام الله مالا يحتمله ، ونسبته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما برأه الله منه. فإن زينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تبناه ، وكان يدعى : ابن محمد ـ وكانت زينب فيها شمم وترفع عليه ـ فشاور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلاقها ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أمسك عليك زوجك واتق الله ». وأخفى

__________________

(١) بالزاد ١٥٠ : فيراجع. ولعله تحريف.


في نفسه أن يتزوجها إن طلقها زيد ، وكان يخشى من قالة الناس : إنه تزوج امرأة ابنه. لان زيدا كان يدعى ابنه. فهذا هو الذي أخفاه في نفسه ، وهذه هي الخشية من الناس التي وقعت له. ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية : يعدد فيها نعمه عليه لا يعاتبه فيها ، وأعلمه أنه لا ينبغي له أن يخشى الناس فيما أحل الله له ، وأن الله أحق أن يخشاه. فلا يتحرج ما أحله له ، لأجل قول الناس. ثم أخبره : أنه سبحانه زوجه إياها بعد قضاء زيد وطره منها ، لتقتدى أمته ( به ) (١) في ذلك ، ويتزوج الرجل بامرأة ابنه من التبني ، لا امرأة ابنه لصلبه. ولهذا قال في آية التحريم : ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) ، وقال في هذه السورة (٢) : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) ، وقال في أولها : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ، ذلكم قولكم بأفواهكم). فتأمل هذا الذب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودفع (٣) طعن الطاعنين عنه. وبالله التوفيق.

نعم : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب نساءه ، وكان أحبهن إليه عائشة رضي الله عنها. ولم تكن تبلغ محبته لها ولا لاحد ـ سوى ربه ـ نهاية الحب ، بل صح عنه أنه قال : « لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا ، لاتخذت أبا بكر خليلا » ، وفى لفظ : « وإن صاحبكم خليل الرحمن ».

( فصل ) وعشق الصور إنما يبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى ، المعرضة عنه ، المتعوضة بغيره عنه. فإذا امتلا القلب من محبة الله والشوق إلى لقائه : دفع ذلك عنه مرض عشق الصور. ولهذا قال تعالى في حق يوسف : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين ). فدل على أن الاخلاص سبب لدفع العشق ، وما يترتب عليه : من السوء والفحشاء التي هي ثمرته ونتيجته. فصرف المسبب صرف لسببه.

__________________

(١) الزيادة عن الزاد ١٥١.

(٢) يعنى : سورة الأحزاب (٤٠) التي تعرضت لقصة زينب. لا سورة النساء التي اشتملت على آية التحريم : (٢٣).

(٣) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : وادفع. ولعله تحريف.


ولهذا قال بعض السلف : « العشق : حركة قلب فارغ ». يعنى : ( فارغا ) (١) مما سوى معشوقه. قال تعالى : ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ، ان كادت لتبدى به ) ، أي : فارغا من كل شئ إلا من موسى ، لفرط محبتها له ، وتعلق قلبها به ، والعشق مركب من أمرين : استحسان للمعشوق ، وطمع في الوصول إليه. فمتى انتفى أحدهما : انتفى العشق.

وقد أعيت علة العشق على كثير من العقلاء ، وتكلم فيها بعضهم بكلام يرغب عن ذكره إلى الصواب. فنقول : قد استقرت حكمة الله عز وجل ـ في خلقه وأمره ـ على وقوع التناسب والتآلف بين الأشباه ، وانجذاب الشئ إلى موافقه ومجانسه بالطبع ، وهروبه من مخالفه ونفرته عنه بالطبع. فسر التمازج والاتصال في العالم العلوي والسفلى ، إنما هو : التناسب والتشاكل والتوافق. وسر التباين والانفصال إنما هو. بعدم التشاكل والتناسب. وعلى ذلك تمام الخلق والامر. فالمثل (٢) إلى مثله مائل وإليه صائر ، والضد عن ضده هارب وعنه نافر.

وقد قال تعالى : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ). فجعل سبحانه علة سكون الرجل إلى امرأته ، كونها من جنسه وجوهره. فعلة السكون المذكور ـ وهو الحب ـ : كونها منه. فدل على أن العلة ليست بحسن الصورة ، ولا الموافقة في القصد والإرادة ، ولا في الخلق والهدى. وإن كانت هذه أيضا من أسباب السكون والمحبة.

وقد ثبت في الصحيح ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ». وفى مسند الإمام أحمد ، وغيره ـ في سبب هذا الحديث ـ : « أن امرأة بمكة (كانت) (٣) تضحك الناس ، فجاءت إلى المدينة ، فنزلت على امرأة تضحك الناس. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأرواح جنود مجندة » الحديث.

وقد استقرت شريعته سبحانه : أن حكم الشئ حكم مثله ، فلا تفرق شريعته بين متماثلين أبدا ، ولا تجمع بين مضادين. ومن ظن خلاف ذلك : فإما لقلة علمه بالشريعة ،

__________________

(١) زيادة حسنة عن الزاد.

(٢) كذا بالزاد ١٥٢. وفى الأصل : والمثل. والمثبت أحسن.

(٣) زيادة جيدة عن الزاد.


وإما لتقصيره في معرفة التماثل والاختلاف ، وإما لنسبته (١) إلى شريعته ما لم ينزل به سلطانا ، بل يكون من آراء الرجال. فبحكمته وعدله ظهر خلقه وشرعه ، وبالعدل والميزان قام الخلق والشرع ، وهو : التسوية بين المتماثلين ، والتفريق بين المختلفين. وهذا كما أنه ثابت في الدنيا ، فهو كذلك يوم القيامة. قال تعالى : ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا (٢) يعبدون ، من دون الله ، فاهدوهم إلى صراط الجحيم ). قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ وبعده الإمام أحمد رحمه الله ـ : « أزواجهم : أشباههم ونظراؤهم ». وقال تعالى : ( وإذا النفوس زوجت ) ، أي : قرن كل صاحب عمل بشكله ونظيره ، فقرن بين المتحابين في الله : في الجنة ، وقرن بين المتحابين في طاعة الشيطان : في الجحيم. فالمرء مع من أحب شاء أو أبى. وفى صحيح الحاكم وغيره ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « لا يحب المرء قوما إلا حشر معهم ».

والمحبة أنواع متعددة. فأفضلها وأجلها : المحبة في الله ولله ، وهى تستلزم محبة ما أحب الله ، وتستلزم محبة الله ورسوله ( ومنها ) : محبة الاتفاق في طريقة أو دين ، أو مذهب أو نحلة ، أو قرابة أو صناعة ، أو مراد ما. ( ومنها ) : محبة لنيل غرض من المحبوب إما من جاهه ، أو من ماله ، أو من تعليمه وإرشاده ، أو قضاء وطر منه. وهذه هي المحبة العرضية : التي تزول بزوال موجبها ، فإنه من ودك لأمر ولى عند انقضائه.

وأما محبة المشاكلة والمناسبة التي بين المحب والمحبوب ، فمحبة (٣) لازمة : لا تزول إلا لعارض يزيلها. ومحبة العشق من هذا النوع : فإنها استحسان روحاني ، وامتزاج نفساني ولا يعرض في شئ من أنواع المحبة ـ : من الوسواس والنحول ، وشغل البال والتلف. ـ ما يعرض من العشق.

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : النسبة. وهو تصحيف.

(٢) كذا بالزاد وسورة الصافات : (٢٢). وفى الأصل : كان. وهو تحريف.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : فمحبته. وهو تحريف.

(١٤ ـ الطب ـ النبوي)


فإن قيل : فإذا كان سبب العشق ما ذكرتم ـ : من الاتصال والتناسب الروحاني ـ فما باله لا يكون دائما من الطرفين ، بل تجده كثيرا من طرف العاشق وحده؟ فلو كان سببه الاتصال النفسي ، والامتزاج الروحاني ـ : لكانت المحبة مشتركة بينهما.

فالجواب : أن السبب قد يتخلف عنه مسببه لفوات شرط ، أو لوجود مانع. وتخلف المحبة من الجانب الآخر ، لا بد أن يكون لاحد ثلاثة أسباب : ( الأول ) : علة في المحبة ، وأنها محبة عرضية (١) ، لا ذاتية. ولا يجب الاشتراك في المحبة العرضية (١) ، بل قد يلزمها نفرة من المحبوب. ( الثاني ) : مانع يقوم بالمحب ـ يمنع محبة محبوبه له ـ إما في خلقه ، أو خلقه ، أو هديه ، أو فعله ، أو هيأنه ، أو غير ذلك. ( الثالث ) : مانع يقوم بالمحبوب ، يمنع مشاركته للمحب في محبته. ولولا ذلك المانع : لقام به من المحبة ( لمحبه ) (٢) مثل ما قام بالآخر.

فإذا انتفت هذه الموانع ، وكانت المحبة ذاتية ـ : فلا يكون قط إلا من الجانبين.

ولولا مانع الكبر والحسد والرياسة والمعاداة في الكفار ، لكانت الرسل أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم. ولما زال هذا المانع من قلوب أتباعهم : كانت محبتهم لهم فوق محبة الأنفس والاهل والمال.

( فصل ) والمقصود : أن العشق لما كان مرضا من الأمراض ، كان قابلا للعلاج. وله أنواع من العلاج. فإن كان مما للعاشق سبيل إلى وصل محبوبه شرعا وقدرا ، فهو علاجه. كما ثبت في الصحيحين ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة : فليتزوج ، ومن لم يستطع : فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء ». فدل المحب على علاجين : أصلى وبدلي ، وأمره بالأصلي ـ وهو العلاج الذي وضع لهذا الداء ـ فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبيلا.

وروى ابن ماجة في سننه ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « لم نر للمتحابين مثل النكاح ». وهذا هو (٣) المعنى الذي أشار إليه سبحانه ـ عقيب إحلال

__________________

(١) بالزاد : « غرضية .. الغرضية ». ولعله تصحيف مع صحته.

(٢) الزيادة عن الزاد.

(٣) هذا ليس بالزاد ١٥٣.


النساء حرائرهن وإمائهن عند الحاجة ـ بقوله : ( يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الانسان ضعيفا ). فذكر تخفيفه سبحانه (١) في هذا الموضع ، وإخباره عن ضعف الانسان ـ يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة ، وأنه سبحانه خفف عنه أمرها بما أباحه له : من أطايب النساء مثنى وثلاث ورباع ، وأباح له ما شاء : مما ملكت يمينه ، ثم أباح له أن يتزوج بالإماء ـ إن احتاج إلى ذلك ـ : علاجا لهذه الشهوة ، وتخفيفا عن هذا الخلق الضعيف. ورحمة به.

( فصل ) وإن كان لا سبيل للعاشق إلى وصال معشوقه قدرا أو شرعا ، أو هو ممتنع عليه من الجهتين ـ وهو الداء العضال ـ فمن علاجه : إشعار نفسه اليأس منه. فإن النفس متى يئست من الشئ : استراحت منه ، ولم نلتفت إليه.

فإن لم يزل مرض العشق مع اليأس ، فقد انحرف الطبع انحرافا شديدا : فينتقل إلى علاج آخر ، وهو علاج عقله : بأن يعلم بأن تعلق القلب بمالا مطمع في حصوله نوع من الجنون ، وصاحبه بمنزلة من يعشق الشمس : وروحه متعلقة بالصعود إليها ، والدوران معها في فلكها. وهذا معدود ـ عند جميع العقلاء ـ في زمرة المجانين.

وإن كان الوصال متعذرا شرعا لا قدرا ، فعلاجه : بأن ينزله منزلة المتعذر قدرا. إذ ما لم يأذن الله فيه ، فعلاج العبد ونجاته موقوف على اجتنابه. فليشعر نفسه : أنه معدوم ممتنع لا سبيل له إليه ، وأنه بمنزلة سائر المحالات.

فإن لم تجبه النفس الامارة ، فليتركه لاحد أمرين : إما خشية ، وإما فوات محبوب هو أحب إليه ، وأنفع له ، وخير له منه ، وأدوم لذة وسرورا. فإن العاقل متى وازن بين نيل محبوب سريع الزوال ، بفوات محبوب أعظم منه وأدوم وأنفع وألذ ، أو بالعكس ـ : ظهر له التفاوت. فلا تبع لذة الأبد ـ التي هي لا خطر لها ـ بلذة ساعة تنقلب آلاما ، وحقيقتها : أنها أحلام نائم ، أو خيال لا ثبات له. فتذهب اللذة ، وتبقى التبعة ، وتزول الشهوة ، وتبقى الشقوة.

__________________

(١) هذا ليس بالزاد.


الثاني : حصول مكروه أشق عليه من فوات هذا المحبوب ، بل يجتمع له الأمران. أعنى : فوات ما هو أحب إليه من هذا المحبوب ، وحصول ما هو أكره إليه من فوات هذا المحبوب. فإذا تيقن أن في إعطاء النفس حظها من هذا المحبوب ، هذين الامرين ـ : هان عليه تركه ، ورأى أن صبره على فوته أسهل من صبره عليهما بكثير. فعقله ودينه ومروءته وإنسانيته : تأمره باحتمال الضرر اليسير ، الذي ينقلب سريعا لذة وسرورا وفرحا ، لدفع هذين الضررين العظيمين. وجهله وهواه وظلمه وطيشه وخفته : تأمره (١) بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه ، جالبا عليه ما جلب. والمعصوم من عصمه الله.

فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء ، ولم تطاوعه لهذه المعالجة ـ : فلينظر ما تجلب عليه هذه الشهوة من مفاسد عاجلته (٢) ، وما تمنعه من مصالحها. فإنها أجلب شئ لمفاسد الدنيا ، وأعظم شئ تعطيلا لمصالحها. فإنها تحول بين العبد وبين رشده الذي هو ملاك أمره ، وقوام مصالحه.

فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء : فليتذكر قبائح المحبوب ، وما يدعوه إلى النفرة عنه. فإنه إن طلبها وتأملها : وجدها أضعاف محاسنه التي تدعو إلى حبه. وليسأل جيرانه عما خفى عليه منها : فإن المحاسن كما هي داعية الحب والإرادة ، فالمساوى داعية البغض والنفرة. فليوازن بين الداعيين ، وليحب أسبقهما وأقربهما منه بابا. ولا يكن ممن غره لون جمال على جسم أبرص مجذوم ، وليجاوز بصره حسن (٣) الصورة إلى قبح الفعل ، وليعبر من حسن المنظر والجسم ، إلى قبح المخبر والقلب.

فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها : لم يبق له إلا صدق اللجأ (٤) إلى من يجيب المضطر إذا دعاه ، وليطرح نفسه بين يديه على بابه : مستغيثا به ، متضرعا متذللا مستكينا.

فمتى وفق لذلك : فقد قرع باب التوفيق. فليعف وليكتم ، ولا يشبب بذكر المحبوب ،

__________________

(١) بالزاد : يأمره. وكل صحيح كما لا يخفى.

(٢) كذا بالأصل والزاد. أي دنياه : فلا تتوهم أنه محرف عن « عاجلة ».

(٣) كذا بالزاد ١٥٤. وفى الأصل : من حسن. ولعل الزيادة من الناسخ أو الطابع. انظر المختار والمصباح : ( جوز ).

(٤) كذا بالزاد. وفى الأصل : اللجاء. وهو خطأ وتحريف على ما في المختار : ( لجأ ).


ولا يفضحه بين الناس ويعرضه للأذى ، فإنه يكون ظالما متعديا.

ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي رواه سويد بن سعيد ، عن علي بن مسهر ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورواه عن (١) ابن مسهر أيضا ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وراه الزبير بن بكار ، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون (٢) ، عن عبد العزيز بن حازم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « من عشق فعف فمات ، فهو شهيد » ، وفى رواية : « من عشق وكتم وعف وصبر ، غفر له الله وأدخله الجنة ».

فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يجوز أن يكون من كلامه. فإن الشهادة درجة عالية عند الله ، مقرونة بدرجة الصديقية ، ولها أعمال وأحوال هي (٣) شرط في حصولها. وهى نوعان : عامة وخاصة ، فالخاصة : الشهادة في سبيل الله. والعامة خمس مذكورة في الصحيح ليس العشق واحدا منها. وكيف يكون العشق ـ الذي هو شرك في المحبة ، وفراغ عن الله ، وتمليك القلب والروح والحب لغيره ـ تنال به درجة الشهادة؟! هذا من المحال : فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد ، بل هو خمر الروح : الذي يسكرها ، ويصدها عن ذكر الله وحبه ، والتلذذ بمناجاته ، والانس به ، ويوجب عبودية القلب لغيره. فإن قلب العاشق متعبد لمعشوقه ، بل العشق لب العبودية : فإنها كمال الذل والحب والخضوع والتعظيم. فكيف يكون تعبد القلب لغير الله ، مما تنال به درجة أفاضل الموحدين وساداتهم وخواص الأولياء؟! فلو كان إسناد هذا الحديث كالشمس : كان غلطا ووهما. ولا يحفظ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفظ العشق ، في حديث صحيح البتة.

ثم : إن العشق منه حلال ، ومنه حرام. فكيف يظن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه يحكم على كل

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : على. وهو تصحيف.

(٢) راجع الكلام عن هذا اللقب : في هامش آداب الشافعي ١١١ ـ ١١٢.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : وهى. ولعله تحريف.


عاشق يكتم ويعف بأنه شهيد؟! فترى من يعشق امرأة غيره ، أو يعشق المردان والبغايا ـ ينال بعشقه درجة الشهداء. وهل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كيف : والعشق مرض من الأمراض التي جعل الله سبحانه لها الأدوية شرعا وقدرا ، والتداوي منه إما واجب : إن كان عشقا حراما ، وإما مستحب؟! وأنت إذا تأملت الأمراض والآفات ـ التي حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابها بالشهادة ـ : وجدتها من الأمراض التي لا علاج لها ، كالمطعون والمبطون والمجبوب (١) والحريق والغريق ، وموت المرأة يقتلها ولدها في بطنها. فإن هذه بلايا من الله لا صنع للعبد فيها ، ولا علاج لها ، وليست أسبابها محرمة ، ولا يترتب عليها ـ : من فساد القلب ، وتعبده لغير الله. ـ ما يترتب على العشق.

فإن لم يكف هذا في إبطال نسبة هذا الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلد أئمة الحديث العالمين به وبعلله : فإنه لا يحفظ عن إمام واحد منهم قط ، أنه شهد له بصحة بل ولا بحسن (٢). كيف : وقد أنكروا على سويد هذا الحديث ، ورموه لأجله بالعظائم ، واستحل بعضهم غزوه لأجله.؟! قال أبو أحمد بن عدي في كامله : « هذا الحديث أحد ما أنكر على سويد » ، وكذلك قال البيهقي : « إنه مما أنكر عليه ». وكذلك قال ابن طاهر في الذخيرة وذكره الحاكم في تاريخ نيسابور ، وقال : « أنا أنعجب من هذا الحديث. فإنه لم يحدث به عن غير سويد ، وهو ثقة ». وذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات. وكان أبوبكر الأزرق يرفعه أولا عن سويد ، فعوتب فيه : فأسقط ذكر (٣) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان لا يجاوز به ابن عباس رضي الله عنهما.

ومن المصائب التي لا تحتمل : جعل هذا الحديث من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن له أدنى إلمام بالحديث وعلله : لا يحتمل هذا البتة. ولا يحتمل أن يكون من حديث ابن الماجشون ، عن ابن أبي حازم ، عن ابن أبي نجيح ، عن

__________________

(١) بالزاد : والمجنون. وهو خطأ وتصحيف.

(٢) بالزاد : يحسن. وهو خطأ وتصحيف.

(٣) هذا ليس بالزاد ١٥٥. وإثباته أولى.


مجاهد ، عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) (١) مرفوعا. وفى صحته موقوفا على (٢) ابن عباس نظر.

وقد رمى الناس سويد بن سعيد ـ راوي هذا الحديث ـ بالعظائم ، وأنكره عليه يحيى بن معين ، وقال : « هو ساقط كذاب ، لو كان لي فرس ورمح : كنت أغزوه » وقال الإمام أحمد : متروك الحديث. وقال النسائي : ليس بثقة. وقال البخاري : « كان قد عمى ، فيلقن (٣) ما ليس من حديثه ». وقال ابن حبان : « يأتي بالمعضلات عن الثقات ، يجب مجانبة ما روى » انتهى. وأحسن ما قيل فيه قول أبى حاتم الرازي : « إنه صدوق كثير التدليس (٤) » ، ثم قول الدارقطني : « هو ثقة. غير أنه لما كبر كان ربما قرئ عليه حديث فيه بعض النكارة ، فيجيزه » انتهى. وعيب على مسلم إخراج حديثه : وهذه حاله. ولكن مسلم روى من حديثه : ما تابعه عليه غيره ولم ينفرد به ، ولم يكن منكرا ولا شاذا. بخلاف هذا الحديث. والله أعلم.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حفظ الصحة بالطيب

لما كانت الرائحة الطيبة غذاء الروح ، والروح مطية القوى ، والقوى تزداد بالطيب ـ وهو ينفع الدماغ والقلب وسائر الأعضاء الباطنة ، ويفرح القلب ويسر النفس ، ويبسط (٥) الروح. وهو أصدق شئ للروح ، وأشده ملاءمة لها ، وبينه وبين الروح الطيبة نسبة قريبة ـ : كان أحد المحبوبين (٦) من الدنيا ، إلى أطيب الطيبين صلوات الله عليه وسلامه.

__________________

(١) الزيادة عن الزاد.

(٢) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : مرفوعا عن. وهو تصحيف ، فتأمل.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : فتلقن. ولعله تصحيف.

(٤) التدليس : إسقاط بعض رواة الحديث ترويجا له!. اه‍ ق. وانظر : مقدمة صحيح البخاري (ص ١١٢ ـ ١١٣ ط الفجالة).

(٥) كذا بالزاد. أي يسر. وفى الأصل : ينشط. ولعله تصحيف.

(٦) كذا بالأصل والزاد. أي الطيب والنساء. وظنه ق جمعا ، فقال : « المناسب : أحد المحبوبات ، التي هي الطيب والنساء والصلاة. كما في وزد في الحديث بلفظ : وقرة عيني في الصلاة » اه‍. وهو خطأ : فالصلاة ليست من الأمور الدنيوية المقصودة لذاتها ، والمتهافت عليها.


وفى صحيح البخاري : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يرد الطيب ». وفى صحيح مسلم ـ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « من عرض عليه ريحان فلا يرده : فإنه طيب الريح ، خفيف المحمل ». وفى سنن أبي داود والنسائي ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « من عرض عليه طيب فلا يرده : فإنه خفيف المحمل ، طيب الرائحة ».

وفى مسند البزار ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « إن الله طيب يحب الطيب ، نظيف يحب النظافة ، كريم يحب الكرم ، جواد يحب الجود. فنظفوا أفناءكم وساحاتكم ، ولا تشبهوا باليهود : يجمعون الاكباء (١) في دورهم ». ( الاكباء ) (١) : الزبالة.

وذكر ابن أبي شيبة : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان له سكة (٢) يتطيب منها ». وصح عنه أنه قال : « إن لله حقا على كل مسلم : أن يغتسل في كل سبعة أيام ، وإن كان له طيب : أن يمس منه ».

وفى الطيب من الخاصية : أن الملائكة تحبه ، والشياطين تنفر عنه. وأحب شئ إلى الشياطين : الرائحة المنتنة الكريهة ، فالارواح الطيبة تحب الرائحة الطيبة ، والأرواح الخبيثة تحب الرائحة الخبيثة. وكل روح تميل إلى ما يناسبها : فالخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وهذا ـ وإن كان في النساء والرجال ـ فإنه يتناول الأعمال والأقوال ، والمطاعم والمشارب ، والملابس والروائح (٣) ـ : إما بعموم لفظه ، أو بعموم معناه.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حفظ صحة العين

روى أبو داود في سننه ـ عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة الأنصاري ،

__________________

(١) كذا بالأصل والنهاية ٤ / ٦. وهو جمع « كبا » بالكسر والقصر. وفى الزاد : الأكب. وهو تحريف. وانظر : القاموس ٤ / ٣٨١.

(٢) كذا بالأصل والزاد. ولعله إن لم يكن محرفا عن « سك » بالضم ـ وهو طيب معروف ـ يكون المراد منه الآنية التي يوضع فيها السك ، أو القدر اليسير منه : نظير قطر وقطرة. انظر : النهاية ٢ / ١٧٢ ، والقاموس ٣ / ٣٠٦ ، والمختار.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : والأرائح. ولعله مصحف عن « الأراييح ». انظر القاموس (١ / ٢٢٤) بتأمل.


عن أبيه ، عن جده رضي الله عنه ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالإثمد المروح عند النوم ، وقال (١) : ليتقه الصائم ». قال أبو عبيد : « المروح : المطيب بالمسك ».

وفى سنن ابن ماجة وغيره ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : « كانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكحلة يكتحل منها ثلاثا في كل عين ». وفى الترمذي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اكتحل : يجعل في اليمنى ثلاثا ، يبتدئ بها ويختم بها ، وفى اليسرى ثنتين ».

وقد روى أبو داود عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من اكتحل فليوتر ». فهل الوتر بالنسبة إلى العينين كلتيهما ـ : فيكون في هذه ثلاث وفى هذه اثنتان ، واليمنى أولى بالابتداء والتفضيل. ـ أو هو بالنسبة إلى كل عين : فيكون في هذه ثلاث ، وفى هذه ثلاث؟ وهما قولان في مذهب أحمد وغيره.

وفى الكحل : حفظ لصحة العين ، وتقوية للنور الباصر ، وجلاء لها ، وتلطيف للمادة الرديئة ، واستخراج لها مع الزينة في بعض أنواعه. وله عند النوم مزيد فضل : لاشتمالها على الكحل ، وسكونها عقيبه عن الحركة المضرة بها ، وخدمة الطبيعة لها. وللأثمد في ذلك خاصية.

وفى سنن ابن ماجة ـ عن سالم ، عن أبيه يرفعه ـ : « عليكم بالإثمد. فإنه يجلو البصر وينبت الشعر » (٢). وفى كتاب أبى نعيم : « فإنه منبتة للشعر ، مذهبة للقذى ، مصفاة للبصر ». وفى سنن ابن ماجة أيضا ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، يرفعه ـ : « خير أكحالكم الأثمد : يجلو البصر ، وينبت الشعر » (٤).

__________________

(١) بالزاد : قال. وهو تحريف.

(٢) وأخرجه أيضا الترمذي في الشمائل ، والحاكم وصححه ، وأقره الذهبي اه‍ ق.

(٣) وأخرجه أيضا الطبراني وابن أبي عاصم عن علي ، وسنده حسن اه‍ ق.

(٤) وأخرجه أيضا الترمذي وحسنه ، وابن ماجة ، وابن حبان والحاكم في صحيحيهما ، والطبراني وأبو نعيم في الحلية اه‍ ق.


فصل

في ذكر شئ من الأدوية والأغذية المفردة ، التي جاءت على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

مرتبة على حروف المعجم

حرف الهمزة

١ ـ ( إثمد ) (١). هو : حجر الكحل الأسود ، يؤتى به من أصفهان (٢) ـ وهو

أفضله ـ ويؤتى به من جهة الغرب (٣) أيضا. وأجوده : السريع التفتيت الذي لفتاته بصيص وداخله أملس ليس فيه شئ من الأوساخ.

ومزاجه بارد يابس : ينفع العين ويقويها ، ويشد أعصابها ، ويحفظ صحتها ، ويذهب اللحم الزائد في القروح ويدملها ، وينقى أوساخها ويجلوها ، ويذهب الصداع : إذا اكتحل به مع العسل المائي الرقيق. وإذا دق وخلط ببعض الشحوم الطرية ، ولطخ على حرق النار ـ : لم تعرض فيه خشكريشة ، ونفع من التنفط الحادث بسببه. وهو أجود أكحال العين ـ لا سيما للمشايخ والذين قد ضعفت أبصارهم ـ : إذا جعل معه شئ من المسك.

٢ ـ ( أترج ) (٤). ثبت في الصحيح (٥) ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ، كمثل الأترجة : طعمها طيب ، وريحها طيب ».

وفى (٦) الأترج منافع كثيرة. وهو مركب من أربعة أشياء : قشر ، ولحم ، وحمض ،

__________________

(١) هو : الكحل الأسود. وليس له قيمة علاجية ، ويستعمل الآن للزينة فقط اه‍ د.

(٢) بالزاد ١٥٦ : أصبهان. وكلاهما اسم لمدينة عظيمة مشهورة بالعجم.

(٣) بالزاد : المغرب.

(٤) ويسمى أيضا : تفاح العجم أو ليمون اليهود. قشره يحتوى على زيت طيار. وهو لذلك طارد للأرياح هاضم اه‍ د.

(٥) انظر : هامش التوضيح والبيان لشجرة الايمان للسعدي ( ص ٥٥ ).

(٦) بالزاد : في.


وبزر. ولكل واحد منها مزاج يخصه : فقشره حار يابس ، ولحمه حار رطب ، وحمضه بارد يابس ، وبزره حار يابس.

ومن منافع قشره : أنه إذا جعل في الثياب منع السوس. ورائحته تصلح فساد الهواء والوباء. ويطيب النكهة إذا أمسكها في الفم ، ويحلل الرياح. وإذا جعل في الطعام كالأبازير : أعان على الهضم. قال صاحب القانون : « وعصارة قشره تنفع من نهش الأفاعي شربا ، وقشره ضمادا ، وحراقة قشره طلاء جيد للبرص » انتهى.

وأما لحمه : فملطف لحرارة المعدة ، نافع لأصحاب المرة الصفراء ، قامع للبخارات الحارة.

وقال الغافقي : « أكل لحمه ينفع البواسير » انتهى.

وأما حماضه : فقابض كاسر للصفراء ، ومسكن للخفقان الحار ، نافع من اليرقان شربا واكتحالا ، قاطع للقئ الصفراوي ، مشه للطعام ، عاقل للطبيعة ، نافع من الاسهال الصفراوي. وعصارة حماضه يسكن غلمة النساء ، وينفع طلاء من الكلف ، ويذهب بالقوبا. ويستدل على ذلك من فعله في الحبر : إذا وقع على الثياب قلعه. وله قوة تلطف وتقطع وتبرد ، وتطفئ حرارة الكبد ، وتقوى المعدة ، وتمنع حدة المرة الصفراء ، وتزيل الغم العارض منها ، وتسكن العطش.

وأما بزره : فله قوة محللة مجففة. وقال ابن ماسويه : « خاصية حبه : النفع من السموم القاتلة ، إذا شرب منه وزن مثقالين مقشرا بماء فاتر ، وطلاء مطبوخ. وإن دق ووضع على موضع اللسعة : نفع. وهو ملين للطبيعة ، مطيب للنكهة. وأكثر هذا الفعل موجود في قشره ».

وقال غيره : « خاصية حبه : النفع من لسع (١) العقارب ، إذا شرب منه وزن مثقالين مقشرا بماء فاتر. وكذلك : إذا دق ووضع على موضع اللدغة ».

وقال غيره : « حبه يصلح للسموم كلها ، وهو نافع من لدغ الهوام كلها ».

__________________

(١) بالزاد : لسعات.


وذكر : « أن بعض الأكاسرة غضب على قوم من الأطباء ، فأمر بحبسهم ، وخيرهم أدما لا يزيد لهم عليه. فاختاروا الأترج. فقيل لهم : لم اخترتموه على غيره؟ فقالوا : لأنه في العاجل ريحان ، ومنظره مفرح ، وقشره طيب الرائحة ، ولحمه فاكهة ، وحمضه أدم ، وحبه ترياق ، وفيه دهن ».

وحقيق بشئ هذه منافعه : أن يشبه به خلاصة الوجود ، وهو المؤمن الذي يقرأ القرآن. وكان بعض السلف يحب النظر إليه ، لما في منظره : من التفريح.

٣ ـ ( أرز ). فيه حديثان باطلان موضوعان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ( أحدهما ) : « أنه لو كان رجلا لكان حليما ». ( الثاني ) : « كل شئ أخرجته الأرض ففيه داء وشفاء ، إلا الأرز : فإنه شفاء لا داء فيه ». ذكرناهما : تنبيها وتحذيرا من نسبتهما إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبعد : فهو حار يابس. وهو أغذي الحبوب بعد الحنطة ، وأحمدها خلطا : يشد البطن شدا يسيرا ، ويقوى المعدة ويدبغها ، ويمكث فيها. وأطباء الهند تزعم : أنه أحمد الأغذية وأنفعها إذا طبخ بألبان البقر. وله تأثير : في خصب البدن ، وزيادة المني ، وكثرة التغذية ، وتصفية اللون.

٤ ـ ( أرز ) : بفتح الهمزة وسكون الراء ، وهو : الصنوبر. ذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : « مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيؤها الرياح : تقيمها مرة ، وتميلها أخرى. ومثل المنافق مثل الإرزة : لا تزال قائمة على أصلها ، حتى يكون انجعافها (١) مرة واحدة ».

وحبه حار رطب ، وفيه إنضاج وتليين وتحليل ، ولذع يذهب بنقعه في الماء. وهو عسر الهضم ، وفيه تغذية كثيرة. وهو جيد للسعال ولتنقية رطوبات الرئة ، ويزيد في المني ، ويولد مغصا. وترياقه : حب الرمان المز.

__________________

(١) كذا بالنهاية ١ / ١٦٦ ، واللسان ١٠ / ٣٧١. أي : انقلاعها. وفى الأصل والزاد والفتح الكبير (٣ / ١٣١) : انجفافها. وفسره ق بالجفاف واليبس. والظاهر أنه تصحيف ، وأن المعنى الأول هو المراد. وراجع اللسان وغيره : ( جف ).


٥ ـ ( إذخر ) (١) ثبت في الصحيح ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال في مكة : « لا يختلى خلاها ». قال له العباس رضي الله عنه : « إلا الإذخر يا رسول الله ، فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال : « إلا الإذخر ».

والإذخر حار في الثانية ، يابس في الأولى. لطيف مفتح للسدد وأفواه العروق ، يدر البول والطمث ، ويفتت الحصا ، ويحلل الأورام الصلبة في المعدة والكبد والكليتين : شربا وضمادا. وأصله : يقوى عمود الأسنان والمعدة ، ويسكن الغثيان ويعقل البطن.

حرف الباء

١ ـ ( بطيخ ). روى أبو داود والترمذي ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أنه كان يأكل البطيخ بالرطب ، يقول : « يدفع حر هذا برد هذا ». وفى البطيخ عدة أحاديث لا يصح منها شئ غير هذا الحديث الواحد.

والمراد به : الأخضر. وهو بارد رطب ، وفيه جلاء. وهو أسرع انحدارا عن المعدة من القثاء والخيار. وهو سريع الاستحالة إلى أي خلط كان صادفه في المعدة. وإذا كان آكله محرورا : انتفع به جدا ، وإن كان مبرودا : دفع ضرره بيسير من الزنجبيل ونحوه.

وينبغي أكله قبل الطعام ، ويتبع به. وإلا غثى وقيأ (٢). وقال بعض الأطباء : « إنه قبل الطعام يغسل البطن غسلا ، ويذهب بالداء أصلا ».

٢ ـ ( بلح ). روى النسائي وابن ماجة في سننهما ـ من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « كلو البلح بالتمر. فإن الشيطان إذا نظر إلى ابن آدم يأكل البلح بالتمر ، يقول. بقى ابن آدم حتى أكل الحديث بالعتيق ». وفى رواية : « كلو البلح بالتمر ، فإن الشيطان

__________________

(١) ويسمى أيضا : طيب العرب. يمضغه الهنود فيحدث تنبها في الجهاز العصبي. ويستخرج منه زيت طيار يفيد خارجيا لعلاج الروماتزم اه‍ د.

(٢) كذا بالزاد ١٥٧. وفى الأصل : وقيى ، ولعله من باب تسهيل الهمزة.


يحزن إذا رأى ابن آدم يأكله ، يقول : عاش ابن آدم حتى أكل الجديد بالخلق ». رواه البزار في مسنده ، وهذا لفظه.

قلت : الباء في الحديث بمعنى « مع » ، أي : كلوا هذا مع هذا.

قال بعض أطباء الاسلام : « إنما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأكل البلخ بالتمر ، ولم يأمر بأكل البسر مع التمر ـ : لان البلح بارد يابس ، والتمر حار رطب ، ففي كل منهما إصلاح للآخر. وليس كذلك البسر مع التمر : فإن كل واحد منهما حار ، وإن كانت حرارة التمر أكثر ». ولا ينبغي ـ من جهة الطب ـ الجمع بين حارين أو باردين ، كما تقدم.

وفى هذا الحديث : التنبيه على صحة أصل صناعة الطب ، ومراعاة التدبير الذي يصلح في دفع كيفيات الأغذية والأدوية بعضها ببعض ، ومراعاة القانون الطبي الذي يحفظ به الصحة.

وفى البلح برودة ويبوسة. وهو ينفع الفم واللثة والمعدة. وهو ردئ للصدر والرئة : بالخشونة التي فيه ، بطئ في المعدة ، يسير التغذية. وهو للنخلة كالحصرم لشجرة العنب. وهما جميعا يولدان رياحا وقراقر ونفخا ، ولا سيما : إذا شرب عليهما (١) الماء. ودفع مضرتهما (١) : بالتمر أو بالعسل والزبد.

٣ ـ ( بسر ). ثبت في الصحيح : « أن أبا الهيثم بن التيهان لما ضافه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، جاءهم بعذق ـ وهو من النخلة كالعنقود من العنب ـ فقال له : هلا انتقيت لنا من رطبه! فقال : أحببت أن تتنقوا من بسره ورطبه ».

البسر حار يابس ، ويبسه أكثر من حره. ينشف الرطوبة ، ويدبغ المعدة ، ويحبس البطن ، وينفع اللثة والفم. وأنفعه : ما كان هشا وحلوا. وكثرة أكله وأكل البلح يحدث السدد في الأحشاء.

٤ ـ ( بيض ). ذكر البيهقي في شعب الايمان ، أثرا مرفوعا : « أن نبيا من الأنبياء

__________________

(١) بالأصل : « عليها .. مضرتها ». وبالزاد ١٥٨ : « عليها .. مضرتهما ». وأصلهما ما ذكرنا.


شكا إلى الله سبحانه الضعف ، فأمره بأكل البيض ». وفى ثبوته نظر.

ويختار من البيض الحديث على العتيق ، وبيض الدجاج على سائر بيض الطير. وهو معتدل يميل إلى البرودة قليلا.

قال صاحب القانون : « ومحه حار رطب ، يولد دما صحيحا محمودا ، ويغذى غذاء يسيرا ، ويسرع الانحدار من المعدة : إذا كان رخوا ». وقال غيره : « مح البيض مسكن للألم ، مملس للحلق وقصبة الرئة ، نافع للحلق والسعال وقروح الرئة والكلى والمثانة ، مذهب للخشونة لا سيما إذا أخذ بدهن اللوز الحلو ، ومنضج لما في الصدر ملين له ، مسهل لخشونة الحلق ».

وبياضه إذا قطر في العين الوارمة ورما حارا : برده وسكن الوجع ، وإذا لطخ به حرق النار أول ما يعرض له (١) : لم يدعه يتنفط ، وإذا لطخ به الوجه : منع من (٢) الاحتراق العارض من الشمس ، وإذا خلط بالكندر ولطخ على الجبهة : نفع من النزلة.

وذكره صاحب القانون في الأدوية القلبية ، ثم قال : « وهو ـ وإن لم يكن من الأدوية المطلقة ـ فإنه مما له مدخل في تقوية القلب جدا ، أعنى : الصفرة. وهى تجمع ثلاثة معان : سرعة الاستحالة إلى الدم ، وقلة الفضل ، وكون الدم المتولد منه مجانسا للدم الذي يغذو القلب خفيفا مندفعا إليه بسرعة. ولذلك هو أوفق ما يتلافى به عادية الأمراض المحللة لجوهر الروح ».

٥ ـ ( بصل ). روى أبو داود في سننه ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها سئلت عن البصل ، فقالت : « إن آخر طعام أكله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان فيه بصل ».

وثبت عنه في الصحيحين : « أنه منع آكله من دخول المسجد ».

والبصل حار في الثالثة ، وفيه رطوبة فضلية. ينفع من تغير المياه ، ويدفع ريح السموم ، ويفتق الشهوة ، ويقوى المعدة ، ويهيج الباه ، ويزيد في المني ، ويحسن اللون ، ويقطع البلغم ، ويجلو المعدة.

__________________

(١) بالزاد : أوما. وهو تحريف.

(٢) هذا ليس بالزاد.


وبزره يذهب البهق ، ويدلك به حول داء الثعلب فينفع جدا. وهو بالملح يقلع الثآليل. وإذا شمه من شرب دواء مسهلا : منعه من القئ والغثيان ، وأذهب رائحة ذلك الدواء. وإذا تسعط بمائه : نقى الرأس. ويقطر في الاذن : لثقل السمع والطنين والقيح والماء الحادث في الاذنين. وينفع من الماء النازل في العينين اكتحالا : يكتحل ببزره مع العسل ، لبياض العين.

والمطبوخ منه كثير الغذاء : ينفع من اليرقان والسعال وخشونة الصدر ، ويدر البول ، ويلين الطبع. وينفع من عضة الكلب غير الكلب ، إذا نطل عليها ماؤه بملح وسذاب. وإذا احتمل : فتح أفواه البواسير.

( فصل ) وأما ضرره : فإنه يورث الشقيقة ، ويصدع الرأس ، ويولد أرياحا ، ويظلم البصر. وكثرة أكله : تورث النسيان ، ويفسد العقل ، ويغير رائحة الفم والنكهة ، ويؤذى الجليس والملائكة. وإماتته طبخا تذهب بهذه المضرات منه.

وفى السنن : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر آكله وآكل الثوم : أن يميتهما طبخا ».

ويذهب رائحته مضغ ورق السذاب عليه.

٦ ـ ( باذنجان ). في الحديث الموضوع المختلق على رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « الباذنجان لما أكل له ». وهذا الكلام مما يستقبح نسبته إلى آحاد العقلاء ، فضلا عن الأنبياء.

وبعد ، فهو نوعان ، أبيض وأسود. وفيه خلاف : هل هو بارد؟ أو حار؟ والصحيح : أنه حار. وهو مولد للسوداء والبواسير والسدد والسرطان والجذام ، ويفسد اللون ويسوده ، ويضربنتن الفم. والأبيض منه المستطيل عار من ذلك.

حرف التاء

١ ـ ( تمر ). ثبت في الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من تصبح بسبع تمرات ( وفى لفظ : من تمر العالية ) ، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر ». وثبت عنه أنه قال : « بيت لا تمر فيه


جياع أهله ». وثبت عنه (١) : أنه أكل التمر بالزبد ، وأكل التمر بالخبز ، وأكله مفردا.

وهو حار في الثانية. وهل هو رطب في الأولى؟ أو يابس فيها؟ على قولين.

وهو : مقو للكبد ، ملين للطبع ، يزيد في الباه ولا سيما مع حب الصنوبر ، ويبرئ من خشونة الحلق. ومن لم يعتده ـ : كأهل البلاد الباردة. ـ فإنه يورث لهم السدد ، ويؤذى الأسنان ، ويهيج الصداع. ودفع ضرره باللوز والخشخاش.

وهو من أكثر الثمار تغذية للبدن ، بما فيه : من الجوهر الحار الرطب. وأكله على الريق يقتل الدود : فإنه ـ مع حرارته ـ فيه قوة ترياقية ، فإذا أديم استعماله على الريق : جفف (٢) مادة الدود وأضعفه ، وقلله أو قتله. وهو فاكهة وغذاء ودواء وشراب وحلوى.

٢ ـ ( تين ). لما لم يكن التين بأرض الحجاز والمدينة ، لم يأت له ذكر في السنة. فإن أرضه تنافى أرض النخل. ولكن : قد أقسم الله به في كتابه ، لكثرة منافعه وفوائده. والصحيح : أن المقسم به هو التين المعروف.

وهو حار. وفى رطوبته ويبوسته قولان. وأجوده : الأبيض الناضج القشر ، يجلو رمل الكلى والمثانة ، ويؤمن من السموم. وهو أغذا (٣) من جميع الفواكه ، وينفع خشونة الحلق والصدر وقصبة الرئة ، ويغسل الكبد والطحال ، وينقى الخلط البلغمي من المعدة ، ويغذو البدن غذاء جيدا. إلا أنه يولد القمل : إذا أكثر منه جدا.

ويابسه : يغذو وينفع العصب ، وهو مع الجوز واللوز محمود. قال جالينوس : « وإذ أكل مع الجوز والسذاب ـ قبل أخذ السم القاتل ـ : نفع وحفظ من الضرر ».

ويذكر عن أبي الدرداء : « أهدى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طبق من تين ، فقال : كلوا. وأكل منه وقال : لو قلت : إن فاكهة نزلت من الجنة ، قلت هذه. لان فاكهة الجنة بلا عجم.

__________________

(١) هذا ليس بالزاد ١٥٩.

(٢) بالزاد خفف. وما بالأصل أولى.

(٣) كذا بالأصل. وبالزاد : أغذي. وكل صحيح. وقد رسمه ق هكذا : « أغذأ » ، ثم قال : أي أشد تغذية ، أفعل تفضيل من غذاء يغذوه اه‍. وهو من أعجب ما شاهدنا في التصحيح. فراجع المختار والمصباح وغيرهما.

(١٥ ـ الطب النبوي)


فكلوا منها : فإنها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرس ». وفى ثبوت هذا نظر.

واللحم منه أجود ، و ( هو ) يعطش المحرورين ، ويسكن العطش الكائن عن البلغم المالح ، وينفع السعال المزمن ، ويدر البول ، ويفتح سدد الكبد والطحال ، ويوافق الكلى والمثانة. ولاكله على الريق منفعة عجيبة : في تفتيح مجارى الغذاء ، وخصوصا باللوز والجوز. وأكله مع الأغذية الغليظة ردئ جدا.

والتوت الأبيض قريب منه. ولكنه (١) أقل تغذية ، وأضر بالمعدة.

٣ ـ ( تلبينه ). قد تقدم : أنها ماء الشعير المطحون. وذكرنا منافعها ، وأنها أنفع لأهل الحجاز من ماء الشعير الصحيح (٢).

حرف الثاء

١ ـ ( ثلج ). ثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « اللهم ، اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ». وفى هذا الحديث ـ من الفقه ـ أن الداء يداوى بضده. فإن في الخطايا ، من الحرارة والحريق ، ما يضاد الثلج والبرد والماء البارد.

ولا يقال : إن الماء الحار أبلغ في إزالة الوسخ. لان في الماء البارد ـ : من تصليب الجسم وتقويته. ـ ما ليس في الحار. والخطايا توجب أثرين : التدنيس والارخاء. فالمطلوب تداويها بما ينظف القلب ويصلبه. فذكر الماء البارد والثلج والبرد ، إشارة إلى هذين الامرين.

وبعد : فالثلج بارد على الأصح. وغلط من قال : حار. وشبهته : تولد الحيوان فيه. وهذا لا يدل على حرارته : فإنه يتولد في الفواكه الباردة ، وفى الخل. وأما تعطيشة : فلتهييجه الحرارة ، لا لحرارته في نفسه.

ويضر المعدة والعصب. وإذا كان وجع الأسنان من حرارة مفرطة : سكنها.

٢ ـ ( ثوم ). هو قريب من البصل. وفى الحديث : « من أكلهما فليمتهما طبخا »

__________________

(١) بالزاد : لكنه والزيادة السابقة حسنة.

(٢) فراجع صفحة : ٩٤ ـ ٩٦.


وأهدى إليه طعام فيه ثوم ، فأرسل به إلى أبى أيوب الأنصاري ، فقال : يا رسول الله ، تكرهه وترسل به إلي؟! فقال : « إني أناجي من لا تناجى ».

وبعد : فهو حار يابس في الرابعة ، يسخن إسخانا قويا ، ويجفف تجفيفا بالغا نافعا (١) للمبرودين ولمن مزاجه بلغمي ، ولمن أشرف على الوقوع في الفالج. وهو مجفف للمني ، مفتح للسدد ، محلل للرياح الغليظة ، هاضم للطعام ، قاطع للعطش ، مطلق للبطن ، مدر للبول. يقوم في لسع الهوام وجميع الأورام الباردة ، مقام الترياق. وإذا دق وعمل به (٢) ضماد على نهش الحيات ، أو في لسع العقارب ـ : نفعها ، وجذب السموم منها ، ويسخن البدن ، ويزيد في حرارته ، ويقطع البلغم ، ويحلل النفخ ، ويصفى الحلق ، ويحفظ صحة أكثر الأبدان ، وينفع من تغير المياه والسعال المزمن. ويؤكل نيئا (٣) ومطبوخا ومشويا. وينفع من وجع الصدر من البرد ، ويخرج العلق من الحلق. وإذا دق مع الخل والملح والعسل ، ثم وضع على الضرس المتأكل : فتته وأسقطه ، وعلى الضرس الوجع : سكن وجعه. وإن دق منه مقدار درهمين ، وأخذ مع ماء العسل ـ : أخرج البلغم والدود. وإذا طلى بالعسل على البهق : نفع.

ومن مضاره : أنه يصدع ويضر الدماغ والعينين ، ويضعف البصر والباه ، ويعطش ، ويهيج الصفراء ، ويجيف رائحة الفم. ويذهب رائحته : أن يمضغ عليه ورق السذاب.

٣ ـ ( ثريد ). ثبت في الصحيحين عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « فضل عائشة على النساء : كفضل الثريد على سائر الطعام ».

والثريد ـ وإن كان مركبا ـ فإنه مركب من خبز ولحم. فالخبز أفضل الأقوات ، واللحم سيد الادام. فإذا اجتمعا : لم يكن بعدهما غاية.

وتنازع الناس : أيهما أفضل؟ والصواب : أن الحاجة إلى الخبز أكثر وأعم ، واللحم أجل وأفضل ، وهو أشبه بجوهر البدن من كل ما عداه ، وهو طعام أهل الجنة. وقد قال تعالى لمن طلب البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل : (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي

__________________

(١) بالزاد ١٦٠ : نافع. وما في الأصل أحسن.

(٢) بالأصل والزاد : فيه!.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : نيا. وهو لغة عامية على ما في المصباح : (نئ).


هو خير؟!). وكثير من السلف : على أن الفوم هو (١) الحنطة. وعلى هذا : فالآية نص على أن اللحم خير من الحنطة. والله سبحانه أعلم.

حرف الجيم

١ ـ ( جمار ) وهو : قلب النخل. ثبت في الصحيحين ، عن عبد الله بن عمر ، قال : بينا نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلوس ، إذ أتى بجمار نخلة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إن من الشجر شجرة مثل الرجل المسلم لا يسقط ورقها » الحديث.

والجمار بارد يابس في الأولى : يختم القروح ، وينفع من نفث الدم ، واستطلاق البطن ، وغلبة المرة الصفراء ، وثائرة الدم. وليس بردئ الكيموس. ويغذو غذاء يسيرا. وهو بطئ الهضم. وشجرته كلها منافع. ولهذا مثلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالرجل المسلم : لكثرة خيره ومنافعه.

٢ ـ ( جبن ). في السنن ـ عن عبد الله بن عمر ـ : « أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجبنة ، في تبوك ، فدعا بسكين ، وسمى وقطع ». رواه أبو داود. وأكله الصحابة رضي الله عنهم بالشام والعراق.

والرطب غير المملوح : جيد للمعدة ، هين السلوك في الأعضاء ، يزيد في اللحم ، ويلين البطن تليينا معتدلا. والمملوح أقل غذاء من الرطب ، وهو ردئ للمعدة ، مؤذ للأمعاء. والعتيق يعقل البطن ـ وكذا المشوى ـ وينفع القروح ، ويمنع الاسهال.

وهو بارد رطب. فإن استعمل مشويا : كان أصلح لمزاجه. فإن النار تصلحه وتعدله ، وتلطف جوهره ، وتطيب طعمه ورائحته. والعتيق المالح حار يابس. وشيه يصلحه أيضا : بتلطيف جوهره ، وكسر حرافته. لما تجذبه النار منه : من الاجزاء الحارة اليابسة المناسبة لها. والمملح منه يهزل ، ويولد حصاة الكلى والمثانة. وهو ردئ للمعدة. وخلطه بالملطفات أردأ : بسبب تنفيذها له إلى المعدة.

__________________

(١) هذا وجملة « والله سبحانه أعلم » لم يردا بالزاد.


حرف الحاء

١ ـ ( حناء ). قد تقدمت الأحاديث في فضله وذكر منافعه. فأغنى عن إعادته (١).

٢ ـ ( حبة السوداء ). ثبت في الصحيحين ـ من حديث أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : « عليكم بهذه الحبة السوداء. فإن فيها شفاء من كل داء ، إلا السام ». (٢) و ( السام ) : الموت.

( الحبة السوداء ) هي : الشونيز ، في لغة الفرس. وهى : الكمون الأسود ، وتسمى : الكمون الهندي (٣). قال الحربي عن الحسن (رضي الله عنه) : إنها الخردل. وحكى الهروي : أنها الحبة الخضراء ، ثمرة البطم. وكلاهما وهم. والصواب : أنها الشونيز.

وهى كثيرة المنافع جدا. وقوله : « شفاء من كل داء » ، مثل قوله تعالى : ( تدمر كل شئ بأمر ربها ) ، أي : كل شئ يقبل التدمير ، ونظائره. وهى نافعة من جميع الأمراض الباردة. وتدخل في الأمراض الحارة اليابسة بالعرض ، فتوصل قوى الأدوية الباردة الرطبة إليها ، بسرعة تنفيذها : إذا أخذ يسيرها.

وقد نص صاحب القانون وغيره ، على الزعفران في قرص الكافور ، لسرعة تنفيذه وإبصاله قوته. وله نظائر يعرفها حذاق الصناعة. ولا تستبعد منفعة الحار في أمراض حارة بالخاصية. فإنك تجد ذلك في أدوية كثيرة ، منها : الانزروت (٤) وما يركب معه من أدوية الرمد ، كالسكر وغيره من المفردات الحارة. والرمد ورم حار : باتفاق الأطباء. وكذلك نفع الكبريت الحار جدا من الجرب.

__________________

(١) راجع صفحة : ٦٦ ـ ٧٠.

(٢) وأخرجه أيضا الترمذي وأحمد وابن حبان. وأخرجه أيضا البخاري وابن ماجة وأحمد عن عائشة رضي الله عنها اه‍ ق.

(٣) وتسمى أيضا : حبة البركة. ويستخرج من بذرها زيت يستعمل في السعال ، وهو مهضم وطارد للأرياح اه‍ د. والزيادة الآتية عن الزاد ١٦١.

(٤) كذا بالأصل والزاد هنا وفيما سيأتي. وقد علق عليه ق بقوله : لعله « الانزوت » بدون راء : نوع من الكحل اه‍.


والشونيز حار يابس في الثالثة : مذهب للنفخ ، مخرج لحب القرع ، نافع من البرص وحمى الربع والبلغمية ، مفتح للسدد ، ومحلل للرياح ، مجفف لبلة المعدة ورطوبتها. وإن دق وعجن بالعسل ، وشرب بالماء الحار : أذاب الحصاة التي تكون في الكليتين والمثانة. ويدر (١) البول والحيض واللبن : إذا أديم شربه أياما. وإن سخن بالخل ، وطلى على البطن ـ : قتل حب القرع. فإن عجن بماء الحنظل الرطب أو المطبوخ : كان فعله في إخراج الدود أقوى.

ويجلو ويقطع ويحلل ، ويشفى من الزكام البارد : إذا دق وصر في خرقة واشتم دائما : أذهبه.

ودهنه نافع لداء (٢) الحية ، ومن الثآليل والخيلان. وإذا شرب منه مثقال بماء : نفع من البهر وضيق النفس. والضماد به ينفع من الصداع البارد. وإذا نقع منه سبع حبات عددا في لبن امرأة ، وسعط به صاحب اليرقان ـ : نفعه نفعا بليغا.

وإذا طبخ بخل ، وتمضمض به : نفع من وجع الأسنان عن برد. وإذا استعط به مسحوقا : نفع من ابتداء الماء العارض في العين. وإن ضمد به مع الخل : قلع البثور والجرب المتقرح ، وحلل الأورام البلغمية المزمنة ، والأورام الصلبة.

وينفع من اللقوة : إذا تسعط بدهنه. وإذا شرب منه مقدار نصف مثقال إلى مثقال : نفع من لسع الرتيلاء. وإن سحق ناعما ، وخلط بدهن الحبة الخضراء ، وقطر منه في الاذن ثلاث قطرات ـ : نفع من البرد العارض فيها ، والريح والسدد.

وإن قلى ، ثم دق ناعما ، ثم نقع في زيت ، وقطر في الانف ثلاث قطرات أو أربع : نفع من الزكام العارض معه عطاس كثير.

وإذا أحرق ، وخلط بشمع مذاب بدهن السوسن أو دهن الحناء ، وطلى به القروح الخارجة من الساقين ، بعد غسلها بالخل ـ : نفعها وأزال القروح.

وإذا سحق بخل ، وطلى به البرص والبهق الأسود والحزاز (٣) الغليظ ـ : نفعها وأبرأها.

__________________

(١) هذا هو الظاهر. وفى الزاد : وتدر.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : داء. وهو تحريف.

(٣) كذا بالزاد. أي الهبرية في الرأس. انظر : المختار والقاموس (حزز). وفى الأصل : الخزاز (بالخاء المعجمة). وهو تصحيف.


وإذا سحق ناعما ، واستف منه كل يوم درهمين بماء بارد ، من عضه (١) كلب كلب ، قبل أن يفرغ (٢) من الماء ـ : نفعه نفعا بليغا ، وأمن على نفسه من الهلاك. وإذا سعط بدهنه : نفع من الفالج والكزاز ، وقطع موادهما. وإذا دخن به : طرد الهوام.

وإذا أذيب الانزروت بماء ، ولطخ على داخل الحلقة ، ثم ذر عليها الشونيز ـ : كان من الذرورات الجيدة ، العجيبة النفع من البواسير. ومنافعه أضعاف ما ذكرنا. والشربة منه درهمان. وزعم قوم : أن الاكثار منه قاتل.

٣ ـ ( حرير ). قد تقدم : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أباحه للزبير ولعبد الرحمن بن عوف ، من

حكة كانت بهما. وتقدم منافعه ومزاجه. فلا حاجة إلى إعادته (٣).

٤ ـ ( حرف ) (٤). قال أبو حنيفة ( الدينوري ) : « هذا هو : الحب الذي يتداوى

به ، وهو : الثفاء (٥) الذي جاء فيه الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ونباته يقال له : الحرف ، وتسميه العامة : ( حب ) الرشاد ». وقال أبو عبيد : « الثفاء هو الحرف ».

قلت : والحديث الذي أشار إليه ، ما رواه أبو عبيد وغيره ـ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « ماذا في الامرين من الشفاء؟ : الثفاء والصبر ». ورواه أبو داود في المراسيل (٦).

وقوته في الحرارة واليبوسة ، في الدرجة الثالثة. وهو : يسخن ويلين البطن ، ويخرج

__________________

(١) بالأصل والزاد : عضة. وهو تصحيف فتأمل.

(٢) يعنى : قبل أن ينتهى من تناوله ، لا بعده. وبالأصل والزاد : يفزع. والظاهر أنه مصحف عنه

(٣) فراجع صفحة : ٦٠ ـ ٦٤

(٤) نبات حشيشي ، وتسمى بذوره : حب الرشاد. يستعمل كمدر للعاب ، طارد للأرياح ومقو جنسي اه‍ د.

(٥) بالأصل والزاد : الشفاء وهو تصحيف طريف. انظر : النهاية ١ / ١٢٩ ، واللسان ١ / ٢٣. والزيادة الآتية عنه : ١٠ / ٣٩٠ ، والأولى للتوصيح.

(٦) في سند هذا الحديث إلى ابن عباس ـ كما ذكر ابن الديبع ـ رزين. وهو ضعيف. وأخرج ابن السنى وأبو نعيم بإسناد ضعيف عن أبي هريرة : « عليكم بالثفاء ، فإن الله جعل فيه شفاء من كل داء » اه‍ ق.


الدود وحب القرع ، ويحلل أورام الطحال ، ويحرك شهوة الجماع ، ويجلو الجرب المتقرح والقوباء (١).

وإذا ضمد به مع العسل : حلل ورم الطحال. وإذا طبخ مع الحناء : أخرج الفضول التي في الصدر. وشربه ينفع من نهش الهوام ولسعها.

وإذا دخن به في موضع : طرد الهوام عنه ، ويمسك الشعر المتساقط. وإذا خلط بسويق الشعير والخل ، وتضمد به : نفع من عرق النساء ، وحلل الأورام الحارة في آخرها.

وإذا تضمد به مع الماء : أنضج الدماميل. وينفع من الاسترخاء في جميع الأعضاء ، ويزيد في الباه ، ويشهى الطعام. وينفع الربو وعسرة النفس وغلظ الطحال ، وينقى الرئة ، ويذر الطمث. وينفع من عرق النساء ووجع حق الورك ـ مما يخرج من الفضول ـ : إذا شرب أو احتقن به. ويجلو ما في الصدر والرئة : من البلغم اللزج.

وإن شرب منه بعد سحقه ، وزن خمسة دراهم بالماء الحار ـ : أسهل الطبيعة ، وحلل الرياح ، ونفع من وجع القولنج البارد السبب. وإذا سحق وشرب : نفع من البرص.

وإن لطخ عليه وعلى البهق الأبيض بالخل : نفع منهما ، وينفع من الصداع الحادث من البرد والبلغم. وإن قلى وشرب : عقل الطبع ـ لا سيما إذا لم يسحق ـ : لتحلل لزوجته بالقلى. وإذا غسل بمائه الرأس : نقاه من الأوساخ والرطوبات اللزجة.

قال جالينوس : « قوته مثل قوة بزر الخردل. ولذلك قد يسخن به أوجاع الورك المعروفة بالنسا ، وأوجاع الرأس ، وكل واحد من العلل التي تحتاج إلى التسخين. كما يسخن بزر الخردل. وقد يخلط أيضا في أدوية يسقاها أصحاب الربو : من طريق أن الامر فيه معلوم أنه يقطع الاخلاط الغليظة تقطيعا قويا ، كما يقطعها بزر الخردل. لأنه شبيه به في كل شئ ».

٥ ـ ( حلبة ). يذكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أنه عاد سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ بمكة ، فقال : ادعوا له طبيبا. فدعى الحارث بن كلدة ، فنظر إليه فقال : ليس عليه

__________________

(١) كذا بالزاد ١٦٢ وبالأصل : القوبا. وهو تحريف على ما في المصباح : (قوب).


بأس ، فاتخذوا له فريقة ـ وهى : الحلبة مع تمر عجوة رطبة يطبخان فيحساهما. ـ ففعل ذلك ، فبرأ » (١).

وقوة الحلبة من الحرارة في الدرجة الثانية ، ومن اليبوسة في الأولى.

وإذا طبخت بالماء : لينت الحلق والصدر والبطن ، وتسكن السعال والخشونة والربو وعسر النفس ، وتزيد في الباه. وهى جيدة للريح والبلغم والبواسير ، محدرة الكيموسات المرتبكة في الأمعاء. وتحلل البلغم اللزج من الصدر ، وتنفع من الدبيلات وأمراض الرئة. وتستعمل لهذه الأدواء في الأحشاء ، مع السمن والفانيذ.

وإذا شربت مع وزن خمسة دراهم فوة (٢) : أدرت الحيض. وإذا طبخت وغسل بها الشعر : جعدته وأذهبت الحزاز.

ودقيقها إذا خلط بالنطرون والخل ، وضمد به ـ : حلل ورم الطحال. وقد تجلس المرأة في الماء الذي طبخت فيه الحلبة ، فتنتفع به من وجع الرحم العارض من ورم فيه. وإذا ضمد به الأورام الصلبة القليلة الحرارة : نفعتها وحللتها. وإذا شرب ماؤها نفع من المغص العارض من الرياح ، وأزلق الأمعاء.

وإذا أكلت مطبوخة بالتمر أو العسل أو التين ، على الريق ـ : حللت البلغم اللزج العارض في الصدر والمعدة ، ونفعت من السعال المتطاول منه.

وهى نافعة من الحصر ، مطلقة للبطن. وإذا وضعت على الظفر المتشنج : أصلحته. ودهنها ينفع ـ إذا خلط بالشمع ـ من الشقاق العارض من البرد. ومنافعها أضعاف ما ذكرنا.

ويذكر عن القاسم بن عبد الرحمن ، أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « استشفوا بالحلبة ». وقال بعض الأطباء : « لو علم الناس منافعها ، لاشتروها بوزنها ذهبا ».

__________________

(١) بالزاد : فبرئ. وكل صحيح. والأولى لغة أهل الحجاز ، كما في المختار.

(٢) كسكرة : عروق يصبغ بها تنفع الكبد والطحال. أنظر : المختار ف وا) ، والقاموس ٤ / ٢٩٠.


حرف الخاء

١ ـ ( خبز ). ثبت في الصحيح ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة ، يتكفؤها الجبار بيده نزلا لأهل الجنة ».

وروى أبو داود في سننه ـ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ـ قال : « كان أحب الطعام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثريد من الخبز ، والثريد من الحيس ».

وروى أبو داود في سننه أيضا ـ من حديث ابن عمر رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « وددت أن عندي خبزة بيضاء ، من برة سمراء : ملبقة بسمن ولبن. فقام رجل من القوم ، فاتخذه فجاء به. فقال : في أي شئ كان هذا السمن؟ فقال : في عكة ضب. فقال : ارفعه ».

وذكر البيهقي ـ من حديث عائشة رضي الله عنها ، ترفعه ـ : « أكرموا الخبز. ومن كرامته : أن لا ينتظر به الأدم ». والموقوف أشبه. فلا يثبت رفعه ، ولا رفع ما قبله.

وأما حديث النهى عن قطع الخبز بالسكين ، فباطل : لا أصل له عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنما المروى : النهى عن قطع اللحم بالسكين. ولا يصح أيضا. قال مهنأ (١) : « سألت أحمد عن حديث أبي معشر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقطعوا اللحم بالسكين ، فإن ذلك من فعل الأعاجم. فقال : ليس بصحيح ، ولا يعرف هذا ، وحديث عمرو بن أمية خلاف هذا ، وحديث المغيرة ». يعنى بحديث عمرو بن أمية : « كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتز من لحم الشاة ». وبحديث (٢) المغيرة : « أنه لما أضافه : أمر بجنب فشوى ، ثم أخذ الشفرة فجعل يحز ».

( فصل ) وأحمد أنواع الخبز : أجودها اختمارا ، وعجنا. ثم خبز التنور أجود أصنافه ،

__________________

(١) بالزاد ١٦٣ : مهنا ( بدون همزة ). ولعل حذفها للتخفيف. انظر المصباح.

(٢) كذا بالزاد. وهو الظاهر المناسب. وفى الأصل : وفى حديث.


وبعده خبز الفرن. ثم خبز الملة في المرتبة الثالثة ، وأجوده : ما اتخذ من الحنطة الحديثة.

وأكثر أنواعه تغذية : خبز السميد ، و ( هو ) أبطؤها هضما لقلة نخالته. ويتلوه خبز الحوارى ، ثم الخشكار.

وأحمد أوقات أكله : في آخر اليوم الذي خبز فيه. واللين منه أكثر تليينا وغذاء وترطيبا ، وأسرع انحدارا. واليابس بخلافه.

ومزاج الخبز من البر حار في وسط الدرجة الثانية ، وقريب من الاعتدال في الرطوبة واليبوسة. واليبس يغلب على ما جففته النار منه ، والرطوبة على ضده.

وفى خبز الحنطة خاصية ، وهو : أنه يسمن سريعا. وخبز القطائف يولد خلطا غليظا ، والفتيت نفاخ بطئ الهضم. والمعمول باللبن مسدد ، كثير الغذاء ، بطئ الانحدار.

وخبز الشعير بارد يابس في الأولى. وهو أفل غذاء من خبز الحنطة.

٢ ـ ( خل ). روى مسلم في صحيحه ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل أهله الادام ، فقالوا : ما عندنا إلا خل. فدعا به ، وجعل يأكل ويقول : نعم الادام الخل ، ( نعم الادام الخل ) (١) ». وفى سنن ابن ماجة ـ عن أم سعيد رضي الله عنها ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « نعم الادام الخل ، اللهم : بارك في الخل. ولم يفتقر بيت فيه الخل ». الخل مركب من الحرارة والبرودة ، وهى (٢) أغلب عليه. وهو يابس في الثالثة ، قوى التجفيف. يمنع من انصباب المواد ، ويلطف الطبيعة.

وخل الخمر : ينفع المعدة الملتهبة ، ويقمع الصفراء ، ويدفع ضرر الأدوية القتالة ، ويحلل اللبن والدم : إذا جمدا (٣) في الجوف. وينفع الطحال ، ويدبغ المعدة ، ويعقل البطن ويقطع العطش ، ويمنع الورم حيث يريد أن يحدث. ويعين على الهضم ، ويضاد البلغم

__________________

(١) زيادة عن الزاد لعلها سقطت من الأصل. والزيادة السابقة جيدة.

(٢) هذا لبس بالزاد. وذكره أولى.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : ولعله تحريف


ويلطف الأغذية الغليظة ، ويرق الدم.

وإذا شرب بالملح : نفع من أكل الفطر (١) القتال. وإذا احتسى : قطع العلق المتعلق بأصل الحنك. وإذا تمضمض به مسخنا : نفع من وجع الأسنان ، وقوى اللثة.

وهو نافع للداحس : إذا طلى به ، والنملة ، والأورام الحارة ، وحرق النار. وهو مشه للاكل ، مطيب للمعدة ، صالح للشباب ، وفى الصيف لسكان البلاد الحارة.

٣ ـ ( خلال ). فيه حديثان لا يثبتان : ( أحدهما ) يروى من حديث أبي أيوب الأنصاري ـ يرفعه ـ : « يا حبذا المتخللون من الطعام! إنه ليس شئ أشد على الملك من بقية تبقى في الفم ، من الطعام ». وفيه واصل بن السائب ، قال البخاري والرازي : منكر الحديث. وقال النسائي والأزدي : متروك الحديث.

( الثاني ) يروى من حديث ابن عباس ، قال عبد الله بن أحمد : « سألت أبى عن شيخ روى عنه صالح الوحاظي ـ يقال له : محمد بن عبد الملك الأنصاري ـ : حدثنا عطاء عن ابن عباس ، قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتخلل بالليط والآس ، وقال : إنهما يسقيان عروق الجذام. فقال : إني (٢) رأيت محمد بن عبد الملك ، وكان أعمى ، يضع الحديث ويكذب ».

وبعد : فالخلال نافع اللثة والأسنان ، حافظ لصحتها ، نافع من تغير النكهة. وأجوده : ما اتخذ من عيدان الأخلة ، وخشب الزيتون ، والخلاف. والتخلل بالقصب والآس والريحان والبادروج (٣) مضر.

حرف الدال

١ ـ ( دهن ). روى الترمذي في كتاب الشمائل ـ من حديث أنس بن مالك

__________________

(١) بالزاد : القطر. وهو تصحيف.

(٢) بالزاد ١٦٤ : أبى. وكل صحيح كما لا يخفى.

(٣) كذا بالأصل والزاد. والذي في تذكرة داود ـ على ما قال ق ـ : بالحاء.


رضي الله عنهما ـ قال (١) : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر دهن رأسه ، وتسريح لحيته ، ويكثر القناع. كأن ثوبه ثوب زيات ».

الدهن يسد مسام البدن ، ويمنع ما يتحلل منه. وإذا استعمل بعد الاغتسال بالماء الحار : حسن البدن ورطبه. وإن دهن به الشعر : حسنه وطوله ، ونفع من الحصبة ، ودفع أكثر الآفات عنه. وفى الترمذي ـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، مرفوعا ـ : « كلوا الزيت ، وادهنوا به ». وسيأتى إن شاء الله تعالى.

والدهن في البلاد الحارة ـ : كالحجاز ونحوه ـ. من آكد أسباب حفظ الصحة ، وإصلاح البدن. وهو كالضروري لهم. وأما البلاد الباردة : فلا يحتاج إليه أهلها. والالحاح به في الرأس ، فيه خطر بالبصر.

وأنفع الادهان البسيطة : الزيت ، ثم السمن ، ثم الشيرج.

وأما المركبة ، فمنها بارد رطب : كدهن البنفسج. ـ ينفع من الصداع الحار ، وينوم أصحاب السهر ، ويرطب الدماغ ، وينفع من الشقاق وغلبة اليبس والجفاف ، ويطلى به الجرب والحكة اليابسة ، فينفعها. ويسهل حركة المفاصل ، ويصلح لأصحاب الأمزجة الحارة ، في زمن (٢) الصيف.

وفيه حديثان باطلان موضوعان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (أحدهما) : « فضل دهن البنفسج على سائر الادهان ، كفضلي على سائر الناس ». (والثاني) : « فضل دهن البنفسج على سائر الادهان ، كفضل الاسلام على سائر الأديان ».

ومنها حار رطب : كدهن البان. وليس دهن زهره ، بل : دهن يستخرج من حب أبيض أغبر نحو الفستق ، كثير الدهنية والدسم. ينفع من صلابة العصب ويلينه. وينفع من البرش والنمش والكلف والبهق ، ويسهل بلغما غليظا ، ويلين الأوتار اليابسة ، ويسخن العصب.

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : قيل. ولعله تصحيف.

(٢) بالزاد زيادة : أيام.


وقد روى فيه حديث باطل مختلق لا أصل له : « ادهنوا بالبان. فإنه أحظى لكم عند نسائكم ».

ومن منافعه : أن يجلو الأسنان ويكسبها بهجة ، وينقيها من الصدأ (١). ومن مسح به وجهه ورأسه : لم يصبه حصبة (٢) ولا شقاق. وإذا دهن به حقوه ومذاكيره وما والاها : نفع من برد الكليتين وتقطير البول.

حرف الذال

١ ـ ( ذريرة ). ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : « طيبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي بذريرة ، في حجة الوداع ، لحله وإحرامه ».

تقدم الكلام في الذريرة ومنافعها وماهيتها (٣). فلا حاجة لإعادته.

٢ ـ ( ذباب ). تقدم في حديث أبي هريرة المتفق عليه ، في أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغمس الذباب في الطعام إذا سقط فيه ، لأجل الشفاء الذي في جناحه. وهو كالترياق للسم الذي في الجناح الآخر. وذكرنا منافع الذباب هناك (٤).

٣ ـ ( ذهب ). روى أبو داود والترمذي : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رخص لعرفجة ابن أسعد ـ لما قطع أنفه يوم الكلاب ، واتخذ أنفا من ورق ، فأنتن عليه ـ فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن يتخذ أنفا من ذهب ». وليس لعرفجة عندهم غير هذا الحديث الواحد.

الذهب : زينة الدنيا ، وطلسم الوجود ، ومفرح النفوس ، ومقوى الظهور ، وسر الله في أرضه. مزاجه (٥) في سائر الكيفيات ، وفيه حرارة لطيفة تدخل في سائر المعجونات اللطيفة والمفرحات. وهو أعدل المعدنيات على الاطلاق وأشرفها.

__________________

(١) بالأصل والزاد : الصدى. وهو تصحيف إن لم يكن من باب التخفيف. انظر القاموس : (صدأ).

(٢) بالأصل والزاد : حصا. والظاهر أنه محرف عما أثبتنا ، فتأمل.

(٣) راجع صفحة : ٩٠.

(٤) راجع صفحة : ٨٨ ، ٨٩.

(٥) بالزاد : ومزاجه. وكل صحيح.


ومن خواصه : أنه إذا دفن في الأرض : لم يضره التراب ولم ينقصه شيئا. وبرادته إذا خلطت بالأدوية : نفعت من ضعف القلب والرجفان العارض من السوداء. وينفع من حديث النفس ، والحزن والغم ، والفزع والعشق. ويسمن البدن ويقويه ، ويذهب الصفار ، ويحسن اللون. وينفع من الجذام وجميع الأوجاع والأمراض السوداوية. ويدخل بخاصية في أدوية داء الثعلب وداء الحية ، شربا وطلاء. ويجلو العين ويقويها ، وينفع من كثير من أمراضها ، ويقوى جميع الأعضاء.

وإمساكه في الفم يزيل البخر. ومن كان به مرض يحتاج إلى الكي ، وكوى به ـ : لم يتنفط موضعه ، ويبرأ سريعا. وإن اتخذ منه ميلا واكتحل به : قوى العين وجلاها. وإن اتخذ منه خاتم فصه منه ، وأحمى وكوى به قوادم أجنحة الحمام ـ : ألفت أبراجها ، ولم تنتقل عنها.

وله خاصية عجيبة في تقوية النفوس ، لأجلها أبيح في الحرب والسلاح منه ما أبيح.

وقد روى الترمذي ـ من حديث بريدة العصري رضي الله عنه ـ قال : « دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يوم الفتح : وعلى سيفه ذهب وفضة ».

وهو معشوق النفوس التي متى ظفرت به : سلاها عن غيره من محبوبات الدنيا.

قال تعالى : ( زين للناس حب الشهوات : من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسومة والانعام والحرث ).

وفى الصحيحين ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « لو كان لابن آدم واد من ذهب : لابتغى إليه ثانيا. ولو كان له ثان : لابتغى ثالثا. ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ».

هذا وإنه أعظم حائل بين الخليقة وبين فوزها الأكبر يوم معادها ، وأعظم شئ عصى الله به. وبه قطعت الأرحام ، وأريقت الدماء ، واستحلت المحارم ، ومنعت الحقوق ، وتظالم العباد. وهو المرغب في الدنيا وعاجلها ، والمزهد في الآخرة وما أعده الله


لأوليائه فيها. فكم أميت به من حق ، وأحيى به من باطل ، ونصر به ظالم ، وقهر به مظلوم. وما أحسن ما قال فيه أبو قاسم (١) الحريري :

تبا له من خادع مماذق

أصفر ذي وجهين كالمنافق

يبدو بوصفين لعين الرامق :

زينة معشوق ، ولون عاشق

وحبه عند ذوي الحقائق

يدعو إلى ارتكاب سخط الخالق

لولاه : لم تقطع يمين السارق

ولا بدت مظلمة من فاسق

ولا اشمأز باخل من طارق ،

ولا اشتكى الممطول مطل العائق

ولا أستعيذ من حسود راشق.

وشر ما فيه من الخلائق :

أن ليس يغنى عنك في المضايق ،

إلا إذا فر فرار الآبق

حرف الراء

١ ـ ( رطب ). قال الله تعالى لمريم : ( وهزي إليك بجذع (٢) النخلة : تساقط عليك رطبا جنيا. فكلى واشربي وقرى عينا ).

وفى الصحيحين ، عن عبد الله بن جعفر ، قال : « رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكل القثاء بالرطب ».

وفي سنن أبي داود ، عن أنس ، قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلى ، فإن لم تكن رطبات : فتمرات. فإن لم تكن تمرات : حسا حسوات من ماء ».

طبع الرطب طبع المياه : حار رطب يقوى المعدة الباردة ويوافقها ، ويزيد في الباه ، ويخصب البدن ، ويوافق أصحاب الأمزجة الباردة ، ويغذو غذاء كثيرا :

__________________

(١) بالزاد ١٦٥. أبو القاسم. والأبيات في المقامة الدينارية بزيادة : (ص ٢٩ ، ٣٠ : ط الحسينية. أو ١ / ٦٥ ـ ٦٧ من شرح الشريشي : ط بولاق).

(٢) كذا بالزاد وسورة مريم : (٢٥). وصحف في الأصل بالزاي.


وهو من أعظم الفاكهة موافقة لأهل المدينة وغيرها ـ : من البلاد التي هو فاكهتهم فيها. وأنفعها للبدن : وإن كان من لم يعتده يسرع التعفن في جسده ، ويتولد عنه دم ليس بمحمود ، ويحدث (١) في إكثاره منه صداع وسوداء ، ويؤذى أسنانه. وإصلاحه بالسكنجبين ونحوه.

وفى فطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصوم ، عليه أو على التمر أو الماء ، تدبير لطيف جدا. فإن الصوم يخلى المعدة من الغذاء : فلا تجد الكبد فيها ما تجذ به وترسله إلى القوى والأعضاء. والحلو أسرع شئ وصولا إلى الكبد ، وأحبه إليها ـ ولا سيما إن كان رطبا ـ فيشتد قبولها له ، فتنتفع به هي والقوى. فإن لم يكن فالتمر : لحلاوته وتغذيته. فإن لم يكن فحسوات الماء : تطفئ لهيب المعدة وحرارة الصوم ، فتنتبه بعده للطعام ، وتأخذه بشهوة.

٢ ـ ( ريحان ). قال تعالى : ( فأما إن كان من المقربين ، فروح وريحان وجنة نعيم ). وقال تعالى : ( والحب ذو العصف والريحان ).

وفى صحيح مسلم ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « من عرض عليه ريحان فلا يرده : فإنه خفيف المحمل ، طيب الرائحة ».

وفى سنن ابن ماجة ـ من حديث أسامة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « ألا مشمر للجنة ، فإن الجنة لا خطر لها. هي ـ ورب الكعبة ـ : نور يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وتمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة ، وحبرة ونعمة ، في محلة عالية بهية. قالوا : نعم يا رسول الله ، نحن المشمرون لها. قال : قولوا إن شاء الله تعالى. فقال القوم : إن شاء الله ».

الريحان : كل نبت طيب الريح. فكل أهل بلد يخصونه بشئ من ذلك : فأهل الغرب يخصونه بالآس ، وهو الذي يعرفه العرب : من الريحان. وأهل العراق والشام يخصونه بالحبق.

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : يحدث. وهو تحريف.

(١٦ ـ الطب النبوي)


فأما الآس ، فمزاجه بارد في الأولى ، يابس في الثانية. وهو ـ مع ذلك ـ مركب من قوى متضادة ، والأكثر فيه الجوهر الأرضي البارد. وفيه (١) شئ حار لطيف. وهو يجفف الرأس (٢) تجفيفا قويا. وأجزاؤه متقاربة القوة ، وهى قوة قابضة حابسة من داخل وخارج معا.

وهو قاطع للاسهال الصفراوي ، دافع للبخار الحار الرطب : إذا شم ، مفرح للقلب تفريحا شديدا. وشمه مانع للوباء ، وكذلك افتراشه في البيت.

ويبرئ الأورام الحادثة في الحالبين : إذا وضع عليها. وإذا دق ورقه وهو غض ، وضرب بالخل ، ووضع على الرأس ـ : قطع الرعاف. وإذا سحق ورقه اليابس ، وذر على القروح ذوات الرطوبة ـ : نفعها. ويقوى الأعضاء الواهية : إذا ضمد به ، وينفع داء الداحس. وإذا ذر على البثور والقروح التي في اليدين والرجلين : نفعها.

وإذا دلك به البدن : قطع العرق ، ونشف الرطوبات الفضلية ، وأذهب نتن الإبط.

وإذا جلس في طبيخه : نفع من خروج المقعدة والرحم ، ومن استرخاء المفاصل. وإذا صب على الكسور العظام التي لم تلتحم : نفعها.

ويجلو قشور الرأس وقروحه الرطبة وبثوره ، ويمسك الشعر المتساقط ويسوده. وإذا دق ورقه وصب عليه ماء يسير ، وخلط به شئ من زيت أو دهن الورد ، وضمد به ـ : وافق القروح الرطبة ، والنملة والحمرة ، والأورام الحادة والشرى والبواسير.

وحبه نافع من نفث الدم العارض في الصدر والرئة ، دابغ للمعدة. وليس بضار للصدر ولا الرئة : لجلاوته (٣). وخاصيته : النفع من استطلاق البطن مع السعال. وذلك نادر في الأدوية. وهو مدر للبول ، نافع من لذع (٤) المثانة ، وعض الرتيلاء ، ولسع العقارب.

والتخلل بعرقه مضر ، فليحذر.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٦٦. وفى الأصل : فيه. ولعله تحريف.

(٢) هذا ليس بالزاد.

(٣) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : لحلاوته.

(٤) كذا بالزاد. وفى الأصل : لدغ. وهو تصحيف.


وأما الريحان الفارسي ـ الذي يسمى ـ : الحبق. ـ فحار في أحد القولين. ينفع شمه من الصداع الحار : إذا رش عليه الماء ، ويبرد ويرطب بالعرض. وبارد في الآخر. وهل هو رطب؟ أو يابس؟ على قولين. والصحيح : أن فيه من الطبائع الأربع. ويجلب النوم.

وبزره حابس للاسهال الصفراوي ومسكن للمغص ، مقو للقلب ، نافع للأمراض السوداوية.

٣ ـ ( رمان ). قال تعالى : ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ).

ويذكر عن ابن عباس ـ موقوفا ومرفوعا ـ : « مامن رمان ، من رمانكم هذا ، إلا وهو ملقح بحبة من رمان الجنة ». والموقوف أشبه. وذكر حرب وغيره ، عن علي ، أنه قال : « كلوا الرمان بشحمه ، فإنه دباغ المعدة ».

حلو الرمان حار رطب ، جيد للمعدة ، مقو لها بما فيه : من قبض لطيف. نافع للحلق والصدر والرئة ، جيد للسعال. وماؤه ملين للبطن ، يغذو البدن غذاء فاضلا يسيرا ، سريع التحلل : لرقته ولطافته. ويولد حرارة يسيرة في المعدة وريحا. ولذلك يعين على الباه ، ولا يصلح للمحمومين. وله خاصية عجيبة : إذا أكل بالخبز يمنعه من الفساد في المعدة.

وحامضه بارد يابس ، قابض لطيف. ينفع المعدة الملتهبة ، ويدر البول أكثر من غيره : من الرمان. ويسكن الصفراء ، ويقطع الاسهال ، ويمنع القئ ، ويلطف الفضول ، ويطفئ حرارة الكبد ، ويقوى الأعضاء. نافع من الخفقان الصفراوي ، والآلام العارضة للقلب وفم المعدة. ويقوى المعدة ، ويدفع الفضول عنها ، ويطفئ المرة الصفراء والدم.

وإذا استخرج ماؤه بشحمه ، وطبخ بيسير من العسل حتى يصير كالمرهم ، واكتحل به ـ : قطع الصفرة من العين ، ونقاها من الرطوبات الغليظة. وإذا لطخ على اللثة : نفع من الأكلة العارضة لها. وإن استخرج ماؤها بشحمهما : أطلق البطن ، وأحدر الرطوبات العفنة المرية ، ونفع من حميات الغب (١) المتطاولة.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٦٧. أي المنقطعة التي تطرأ يوما وتنقطع آخر ، مثلا. وفى الأصل : العنب. ولعه محرف عنه.


وأما الرمان المز ، فمتوسط طبعا وفعلا بين النوعين. وهذا أميل إلى لطافة الحامض قليلا. وحب الرمان مع العسل طلاء (١) للداحس والقروح الخبيثة. وأقماعه للجراحات. قالوا : ومن ابتلع ثلاثة من جنبذ الرمان ( في ) (٢) كل سنة ، أمن الرمد سنة كلها.

حرف الزاي

١ ـ ( زيت ). قال تعالى : ( يوقد من شجرة مباركة ، زيتونة لا شرقية ولا غربية ، يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار ).

وفى الترمذي وابن ماجة ـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « كلوا الزيت وادهنوا به ، فإنه من شجرة مباركة ». وللبيهقي وابن ماجة أيضا ، عن عبد الله ( بن عمر ) (٢) رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ائتدموا بالزيت وادهنوا به ، فإنه من شجرة مباركة ».

الزيت حار رطب في الأولى. وغلط من قال : يابس. والزيت بحسب زيتونه : فالمعتصر من النضيج أعدله وأجوده ، ومن الفج فيه برودة ويبوسة ، ومن الزيتون الأحمر متوسط بين الزيتين ، ومن الأسود يسخن ويرطب باعتدال ، وينفع من السموم ، ويطلق البطن ، ويخرج الدود. والعتيق منه أشد تسخيبا وتحليلا. وما استخرج منه بالماء ، فهو أقل حرارة وألطف ، وأبلغ في النفع. وجميع أصنافه ملينة للبشرة ، وتبطئ الشيب.

وماء الزيتون المالح يمنع من تنفط حرق النار ، ويشد اللثة. وورقه (٣) ينفع من الحمرة والنملة والقروح الوسخة والشرى. ويمنع العرق. ومنافعه أضعاف ما ذكرناه (٤).

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : طلا. وهو تحريف على ما في المصباح : (طلى).

(٢) زيادة عن الزاد.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : ورقه ولعله تحريف.

(٤) بالزاد : ذكرنا.


٢ ـ ( زبد ). روى أبو داود في سننه ، عن ابني بسر (١) السلميين رضي الله عنهما ، قالا : « دخل علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقدمنا له زبدا وتمرا. وكان يحب الزبد والتمر ».

الزبد حار رطب ، فيه منافع كثيرة ، منها : الانضاج والتحليل. ويبرئ الأورام التي تكون إلى جانب الاذنين والحالبين ، وأورام الفم ، وسائر الأورام التي تعرض في أبدان النساء والصبيان ـ : إذا استعمل وحده. وإذا لعق منه : نفع من نفث الدم الذي يكون من الرئة ، وأنضج الأورام العارضة فيها.

وهو ملين للطبيعة والعصب والأورام الصلبة العارضة من المرة السوداء والبلغم ، نافع من اليبس العارض في البدن. وإذا طلى على منابت أسنان الطفل : كان معينا على نباتها وطلوعها. وهو نافع من السعال العارض من البرد واليبس. ويذهب القوبي والخشونة التي في البدن ، ويلين الطبيعة. ولكنه يسقط شهوة الطعام ، ويذهب بوخامة الحلو : كالعسل والتمر.

وفى جمعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين التمر وبينه ـ من الحكمة ـ : إصلاح كل منهما بالآخر.

٣ ـ ( زبيب ). روى فيه حديثان لا يصحان ، ( أحدهما ) : « نعم الطعام الزبيب : يطيب النكهة ، ويذيب البلغم ». ( والثاني ) : « نعم الطعام الزبيب : يذهب النصب ، ويشد العصب ، ويطفئ الغضب ، ويصفى اللون ، ويطيب النكهة ». وهذا أيضا لا يصح فيه شئ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبعد : فأجود الزبيب ما كبر جسمه ، وسمن شحمه ولحمه ، ورق قشره ، ونزع عجمه ، وصغر حبه. وجرم الزبيب حار رطب في الأولى ، ( وحبه ) (٢) بارد يابس. وهو كالعنب المتخذ منه : الحلو منه حار ، والحامض قابض بارد ، والأبيض أشد قبضا من غيره. وإذا أكل لحمه : وافق قصبة الرئة ، ونفع من السعال ووجع الكلى والمثانة. ويقوى المعدة ، ويلين البطن.

والحلو اللحم أكثر غذاء من العنب ، وأقل غذاء من التين اليابس. وله قوة منضجة

__________________

(١) كذا بالأصل ، وسنن أبي داود ٣ / ٣٦٣ ، والتهذيب ١٢ / ٢٨٦ ، والخلاصة ٤٠٨. وفى الزاد : بشر (بالمعجمة). وهو تصحيف.

(٢) زيادة عن الزاد.


هاضمة ، قابضة محللة باعتدال. وهو بالجملة : يقوى المعدة والكبد والطحال ، نافع من وجع الحلق والصدر والرئة والكلى والمثانة.

وأعدله : أو يؤكل بغير حبه. وهو يغذى غذاء صالحا ، ولا يسدد كما يفعل التمر. وإذا أكل منه بعجمه : كان أكثر نفعا للمعدة والكبد والطحال. وإذا لصق لحمه على الأظافير المتحركة : أسرع قلعها. والحلو منه ومالا عجم له نافع لأصحاب الرطوبات والبلغم. وهو يخصب الكبد وينفعها بخاصيته.

وفيه نفع للحفظ. قال الزهري : « من أحب أن يحفظ الحديث ، فليأكل الزبيب ». وكان المنصور يذكر عن جده عبد الله بن عباس : « عجمه داء ، ولحمه دواء ».

٤ ـ ( زنجبيل ) (١). قال تعالى : ( ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ).

وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي ـ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ـ قال : « أهدى ملك الرم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جرة زنجبيل ، فأطعم كل إنسان قطعة ، وأطعمني قطعة ».

الزنجبيل حار في الثانية ، رطب في الأولى. مسخن ، معين على هضم الطعام ، ملين للبطن تليينا معتدلا ، نافع من سدد الكبد العارضة عن البرد والرطوبة ، ومن ظلمة البصر الحادثة عن الرطوبة ـ : أكلا واكتحالا. معين على الجماع. وهو محلل للرياح الغليظة الحادثة في الأمعاء والمعدة.

وبالجملة : فهو صالح للكبد والمعدة الباردتي المزاج. وإذا أخذ منه مع السكر وزن درهمين بالماء الحار ، أسهل فضولا لزجه لعابية. ويقع في المعجونات التي تحلل البلغم وتذيبه.

والمزي منه حار يابس ، يهيج الجماع ويزيد المنى ، ويسخن المعدة والكبد ، ويعين على الاستمراء ، وينشف البلغم الغالب على البدن ، ويزيد في الحفظ ، ويوافق برد الكبد

__________________

(١) هو مهدئ للمعدة ، مسكن للمغص ، طارد للأرياح. اه‍ د.


والمعدة : يزيل بلتها الحادثة عن أكل الفاكهة. ويطيب النكهة ، ويدفع به ضرر الأطعمة الغليظة الباردة.

حرف السين

١ ـ ( سنا ). قد تقدم ، وتقدم « سنوت » أيضا (١). وفيه سبعة أقوال :

( أحدها ) : أنه العسل. ( الثاني ) : أنه رب عكة السمن ، يخرج خططا سوداء على السمن. ( الثالث ) : أنه حب يشبه الكمون ، وليس بكمون. ( الرابع ) : الكمون الكرماني. ( الخامس ) : أنه الشبت (٢) ( السادس ) : أنه التمر. ( السابع ) : أنه الرازيانج.

٢ ـ ( سفرجل ). روى ابن ماجة في سننه ، حديث إسماعيل بن محمد الطلحي ، عن شعيب بن حاجب ، عن أبي سعيد ، عن عبد الملك الزبيري ، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ، قال : « دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وبيده سفرجلة ، فقال : دونكها يا طلحة ، فإنها تجم الفؤاد ». ورواه النسائي من طريق آخر ، وقال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو في جماعة من أصحابه ، وبيده سفرجلة يقلبها ـ فلما جلست إليه : دحا بها إلى ، ثم قال : دونكها أبا ذر ، فإنها تشد القلب ، وتطيب النفس ، وتذهب بطخاء الصدر ».

وقد روى في السفرجل أحاديث أخر : هذه أمثلها ، ولا تصح.

والسفرجل بارد يابس ، ويختلف في ذلك باختلاف طعمه. وكله بارد قابض ، جيد للمعدة. والحلو منه أقل بردا ويبسا ، وأميل إلى الاعتدال. والحامض أشد قبضا ويبسا وبردا. وكله يسكن العطش والقئ ، ويدر البول ، ويعقل الطبع ، وينفع من قرحة الأمعاء ، ونفث الدم ، والهيضة. وينفع من الغثيان. ويمنع من تصاعد الأبخرة : إذا استعمل بعد الطعام. وحراقة أغصانه وورقه المغسولة ، كالتوتياء في فعله.

__________________

(١) راجع صفحه : ٥٧ ـ ٦٠.

(٢) كذا بالزاد ١٦٨. وهو الموافق لما تقدم (ص ٦٠). وبالأصل : الشبث ( بكسر فسكون ). وكلاهما قد ورد في القاموس : ١ / ١٥١ و ١٦٨. فليحرر المراد.


وهو قبل الطعام يقبض ، وبعده يلين الطبع ، ويسرع بانحدار الثقل. والاكثار منه مضر بالعصب ، ملود للقولنج. ويطفئ المرة الصفراء المتولدة في المعدة.

وإن شوى : كان أقل لخشونته وأخف. وإذا قور وسطه ، ونزع حبه ، وجعل فيه العسل ، وطين جرمه بالعجين ، وأودع الرماد الحار ـ : نفع نفعا حسنا.

وأجود ما أكل مشويا أو مطبوخا بالعسل. وحبه ينفع من خشونة الحلق ، وقصبة الرئة ، وكثير من الأمراض. ودهنه يمنع العرق ، ويقوى المعدة. والمربى منه تقوى المعدة والكبد ، وتشد القب ، وتطيب النفس.

ومعنى « تجم الفؤاد » : تريحه. وقيل : تفتحه وتوسعه ، من « جمام الماء ». وهو : اتساعه وكثرته. و « الطخاء » للقلب مثل الغيم على السماء ، قال أبو عبيد : « الطخاء : ثقل (١) وغشاء. وتقول : ما في السماء طخاء ، أي : سحاب ظلمة ».

٣ ـ ( سواك ). في الصحيحين ـ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « لولا أن أشق على أمتي : لامرتهم بالسواك عند كل صلاة ». وفيهما : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام من الليل : يشوص فاه بالسواك ». وفى صحيح البخاري ـ تعليقا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « السواك مطهرة للفم ، مرضاة للرب ». وفى صحيح مسلم : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا دخل بيته : بدأ بالسواك ». والأحاديث فيه كثيرة.

وصح عنه : أنه استاك عند موته. وصح عنه أنه قال : « أكثرت عليكم في السواك ».

وأصلح ما اتخذ السواك : من خشب الأراك ونحوه. ولا ينبغي أن يؤخذ من شجرة مجهولة : فربما كانت سما. وينبغي القصد في استعماله. فإن بالغ فيه : فربما أذهب طلاوة الأسنان وصقالتها ، وهيأها لقبول الأبخرة المتصاعدة من المعدة والأوساخ. ومتى استعمل

__________________

(١) بالأصل والزاد : ثفل ( بالفاء ). وهو تصحيف. وقوله : وغشاء ، ملائم لما ذكره بعده. ولعله تفسير بالنظر إلى معناه الأصلي كما يشير إليه صنيع صاحب القاموس : ٤ / ٣٥٦. وإلا فالأصح أو الأولى ـ بالنظر للحديث ـ التعبير : « بالغشى » بفتح فسكون كما في النهاية ٣ / ٣٤. وهو : ما يعطل القوى المحركة ، والأوردة الحساسة ، لضعف القلب. وفسره بعضهم : بالاغماء. انظر المصباح ( غشى )


باعتدال : جلى الأسنان ، وقوى العمود ، وأطلق اللسان ، ومنع الحفر ، وطيب النكهة ، ونقى الدماغ ، وشهى الطعام.

وأجود ما استعمل مبلولا بماء الورد ، ومن أنفعه : أصول الجوز ، قال صاحب التيسير : « زعموا أنه إذا استاك به المستاك كل خامس من الأيام : نقى الرأس. وصفى الحواس ، وأحد الذهن ».

وفى السواك عدة منافع : يطيب الفم ، ويشد اللثة ، ويقطع البلغم ، ويجلو البصر ، ويذهب بالحفر ، ويصح المعدة ، ويصفى الصوت ، ويعين على هضم الطعام ، ويسهل مجارى الكلام ، وينشط للقراءة والذكر والصلاة ، ويطرد النوم ، ويرضى الرب ، ويعجب الملائكة ، ويكثر الحسنات.

ويستحب كل وقت. ويتأكد : عند الصلاة ، والوضوء ، والانتباه من النوم ، وتغير رائحة الفم. ويستحب للمفطر والصائم في كل وقت : لعموم الأحاديث فيه ، ولحاجة الصائم إليه ، ولأنه مرضاة للرب : ( ومرضاته ) (١) مطلوبة في الصوم أشد من طلبها في الفطر. ولأنه مطهرة للفم ، والطهور للصائم من أفضل أعماله.

وفى السنن ، عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه ، قال : « رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا أحصى ، يستاك : وهو صائم ». وقال البخاري : قال ابن عمر : « يستاك أول النهار وآخره ».

وأجمع الناس : على أن الصائم يتمضمض وجوبا واستحبابا. والمضمضة أبلغ من السواك. وليس لله غرض في التقرب إليه بالرائحة الكريهة ، ولا هي من جنس ما شرع التعبد به. وإنما ذكر « طيب الخلوف عند الله يوم القيامة » : حثا منه على الصوم ، لا حثا على إبقاء الرائحة. بل : الصائم أحوج إلى السواك من المفطر.

وأيضا : فإن رضوان الله أكبر من استطابته لخلوف في الصائم.

__________________

(١) زيادة جيدة عن الزاد ١٦٩.


( وأيضا ) : فإن محبته للسواك أعظم من محبته لبقاء خلوف فم الصائم.

( وأيضا ) : فإن السوك لا يمنع طيب الخلوف ـ الذي يزيله السواك ـ : عند الله يوم القيامة : بل يأتي الصائم يوم القيامة : وخلوف فمه أطيب من المسك ، علامة على صيامه ، ولو أزاله بالسواك. كما أن الجريح يأتي يوم القيامة : ولون دم جرحه لون الدم ، وريحه ريح المسك. وهو مأمور بإزالته في الدنيا.

( وأيضا ) : فإن الخلوف لا يزول بالسواك. فإن سببه قائم ، وهو : خلو المعدة عن الطعام. وإنما يزول أثره ، وهو المنعقد على الأسنان واللثة.

( وأيضا ) : فإن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ علم أمته ما يستحب لهم في الصيام ، وما يكره لهم. ولم يجعل السواك من القسم المكروه : وهو يعلم أنهم يفعلونه : وقد حضهم عليه بأبلغ ألفاظ العموم والشمول : وهم يشاهدونه يستاك وهو صائم ، مرارا كثيرة تفوت الاحصاء. ويعلم أنهم يقتدون به. ولم يقل لهم يوما من الدهر : لا تستاكوا بعد الزوال. وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع. والله أعلم.

٤ ـ ( سمن ). روى محمد بن جرير الطبري بإسناده ـ من حديث صهيب ، يرفعه ـ : « عليكم بألبان البقر : فإنها شفاء ، وسمنها دواء ، ولحومها داء ». رواه عن أحمد بن الحسن الترمذي : حدثنا محمد بن موسى النسائي ، حدثنا دفاع بن دغفل السدوسي ، عن عبد الحميد ابن صيفي بن صهيب ، عن أبيه ، عن جده. ولا يثبت ما في هذا الاسناد.

والسمن حار رطب في الأولى. وفيه جلاء يسير ، ولطافة ، وتفشية للأورام الحادثة من الأبدان الناعمة. وهو أقوى من الزبد : في الانضاج والتليين. وذكر جالينوس : « أنه أبرأ الأورام الحادثة في الاذن ، وفى الأرنبة ». وإذا ذلك به موضع الأسنان : نبت سريعا.

وإذا خلط عسل ولو زمر : جلا ما في الصدر والرئة ، والكيموسات الغليظة اللزجة. إلا أنه ضار بالمعدة : سيما إذا كان مزاج صاحبها بلغميا.


وأما سمن البقر والمعز ، فإنه إذا شرب مع العسل : نفع من شرب السم القاتل ، ومن لدغ الحيات والعقارب. وفى كتاب ابن السنى ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : « لم يستشف الناس بشئ أفضل من السمن ».

٥ ـ ( سمك ). روى الإمام أحمد بن حنبل ، وابن ماجة في سننه ـ من حديث عبد الله بن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد ، والكبد والطحال ».

أصناف السمك كثيرة. وأجوده : ما لذ طعمه ، وطاب ريحه ، وتوسط مقداره ، وكان رقيق القشر ، ولم يكن صلب اللحم ولا يابسه ، وكان في ماء عذب جار (١) على الحصباء ، ويتغذى بالنبات ، لا الاقذار. وأصلح أماكنه : ما كان في نهر جيد الماء ، وكان يأوى إلى الأماكن الصخرية ، ثم الرملية ، والمياه الجارية العذبة التي لا قذر فيها ولا حمأة ، الكثيرة الاضطراب والتموج ، المكشوفة للشمس والرياح.

والسمك البحري فاضل محمود لطيف. والطري منه بارد رطب ، عسر الانهضام ، يولد بلغما كثيرا. إلا البحري وما جرى مجراه : فإنه يولد خلطا محمودا. وهو يخصب البدن ، ويزيد في المنى ، ويصلح الامزاج الحارة.

وأما المالح فأجوده : ما كان قريب العهد بالتملح. وهو حار يابس ، وكلما تقادم عهده : ازداد حره ويبسه. والسلور منه كثير اللزوجة ، ويسمى الجري. واليهود لا تأكله. وإذا أكل طريا : كان ملينا للبطن. وإذا ملح وعتق وأكل : صفى قصبة الرئة ، وجود الصوت. وإذا دق ووضع من خارج : أخرج السلى (٢) والفضول من عمق البدن ، من طريق أن له قوة جاذبة.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٧٠. وصحف في الأصل : بالحاء.

(٢) هو الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفا فيه. وفى الأصل والزاد : السلا. والظاهر أنه مصحف عنه أو رسم آخر له ( كالضحى ) ، لا محرف عن « السلاء » بالمد وتشديد اللام : شوك النخل. فتأمل ، ورواجع : النهاية ٢ / ١٧٣ و ١٧٩ ، والمصباح ( سلا ).


وماء ملح الجري المالح إذا جلس فيه من كانت به قرحة الأمعاء ، في ابتداء العلة ، وافقه : بجذبه المواد إلى ظاهر البدن. وإذا احتقن به : أبرأ من عرق النساء (١).

وأجود ما في السمك : ما قرب من مؤخرها. والطري السمين منه يخصب البدن لحمه وودكه.

في الصحيحين ـ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ـ قال : « بعثنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلثمائة راكب ، وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. فأتينا (٢) الساحل ، فأصابنا جوع شديد : حتى أكلنا الخبط. فألقى لنا البحر حوتا (يقال) لها : عنبر. فأكلنا منه نصف شهر ، وائتدمنا بودكه : حتى ثابت أجسامنا. فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه ، وحمل رجلا على بعيره ، ونصبه فمر تحته ».

٦ ـ ( سلق ) (٣) روى الترمذي وأبو داود ، عن أم المنذر ، قالت : « دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ومعه علي رضي الله عنه ، ولنا دوال معلقة. ( قالت ) : فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكل ، وعلى معه يأكل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مه يا علي! فإنك ناقة. ( قالت ) : فجعلت لهم سلقا وشعيرا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا علي ، فأصب من هذا : فإنه أوفق لك ». قال الترمذي : حديث حسن غريب.

السلق حار يابس في الأولى. وقيل : رطب فيها. وقيل : مركب منهما. وفيه برودة ملطفة ، وتحليل وتفتيح. وفى الأسود منه قبض ، ونفع من داء الثعلب ، والكلف ، والحزاز (٤) والثآليل : إذا يطلى بمائه. ويقتل القمل ، ويطلى به القوباء (٥) مع العسل ، ويفتح سدد الكبد والطحال.

__________________

(١) كذا بالزاد موافقا لما تقدم : ( ص ٥٦ ). وفى الأصل : النساء ( بالمد ). وهو تحريف على ما في النهاية ٢ / ١٤٢ ، والمصباح والمختار والقاموس.

(٢) كذا بالزاد ـ والزيادة الآتية عنه وعن صحيح البخاري ٧ / ٩٠ ، ومسلم ٦ / ٦٢ (أو ١٣ / ٨٧ من الشرح) ـ وبالأصل : وأتينا. ولعله تصحيف.

(٣) يقصد به السلق البحري. ولا يستعمل الان إلا في الجروح المتقيحة ، وبعض الأمراض الجلدية اه‍ د.

(٤) كذا بالزاد. أي الهبرية في الرأس كما تقدم : ص ٢٣٠. والواحدة حزازة. كما في المختار. وبالأصل : الحرارة. وهو إما مصحف عن « الحزازة » أما محرف عما أثبتناه.

(٥) بالأصل والزاد : بدون الهمزة. وهو تحريف على ما تقدم ص ٢٣٢.


وأسوده يعقل البطن ولا سيما مع العدس ، وهما رديئان. والأبيض يلين مع العدس ويحقن بمائه للاسهال ، وينفع من القولنج مع المري والتوابل. وهو قليل الغذاء ردئ الكيموس ، يحرق الدم. ويصلحه الخل والخردل. والاكثار منه يولد القبض والنفخ.

حرف الشين

١ ـ ( شونيز ) هو : الحبة السوداء. وقد تقدم في حرف الحاء (١).

٢ ـ ( شبرم ) (٢) روى الترمذي وابن ماجة في سننهما ـ من حديث أسماء بنت عميس ـ قالت : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بماذا كنت تستمشين؟ قالت : بالشبرم. قال : حار يار » (٣).

الشبرم : شجر صغير وكبير كقامة الرجل وأرجح ، له قضبان حمر ملعمة ببياض ، وفى رؤوس قضبانه جمة من ورق ، وله نور صغار أصفر إلى البياض ، يسقط ويخلفه مراود صغار : فيها حب صغير مثل البطم في قدره أحمر اللون ، ولها عروق عليها قشور حمر. والمستعمل منه : قشر عروقه ، ولبن قضبانه.

وهو حار يابس في الدرجة الرابعة. ويسهل السوداء والكيموسات الغليظة والماء الأصفر والبلغم. مكرب مغث. والاكثار منه يقتل. وينبغي إذا استعمل أن ينقع في اللبن الحليب يوما وليلة ، ويغير عليه (٤) اللبن ـ في اليوم ـ مرتين أو ثلاثا ، ويخرج ويجفف في الظل ، ويخلط معه الورد والكثيراء (٥) ويشرب بماء العسل أو عصير العنب.

__________________

(١) ص ٢٢٩ ـ ٢٣١.

(٢) نبات كان يستعمل قديما ، وبطل استعماله لكثرة أنواعه وكثرة السام منها : مما أدى إلى وفاة الكثيرين من استعماله. وتستعمل بعض خلاصاته الان كمدر للبلغم اه‍ د

(٣) كذا بالزاد ١٧١ ، موافقا لما تقدم : (ص ٥٨). وصحف في الأصل بالباء الموحدة.

(٤) كذا بالزاد. وفى الأصل : على. وهو تحريف.

(٥) هي : رطوبة تحرج من أصل شجرة تكون بجبال لبنان ، كما في القاموس ١ / ١٢٥. وبالأصل والزاد : بدون همزة.


والشربة منه : ما بين أربع دوانق إلى دانقين ، على حسب القوة. قال (١) حنين : « أما لبن الشبرم ، فلا خير فيه. ولا أرى شربه البتة : فقد قتل به أطباء الطرقات كثيرا من الناس ».

٣ ـ ( شعير ). روى ابن ماجة ـ من حديث عائشة ـ قالت : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أخذ أحدا (٢) من أهله الوعك : أمر بالحساء من الشعير فصنع ، ثم أمرهم فحسوا منه ، ثم يقول : إنه ليرتو (٣) فؤاد الحزين ، ويسرو ( عن ) فؤاد السقيم : كما تسرو إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها ». ومعنى « يرتوه » : يشده ويقويه. و « يسرو » : يكشف ويزيل.

وقد تقدم (٤) أن هذا هو : ماء الشعير المغلى. وهو أكثر غذاء من سويقه. وهو نافع للسعال وخشونة الحلق ، صالح لقمع حدة الفضول ، مدر للبول ، جلاء لما في المعدة ، قاطع للعطش ، مطفئ (٥) للحرارة. وفيه قوة يجلو بها ويلطف ويحلل.

وصفته : أن يؤخذ من الشعير الجيد المرضوض مقدار ، ومن الماء الصافي العذب خمسة أمثاله ، ويلقى في قدر نظيف ، ويطبخ بنار معتدلة إلى أن يبقى منه خمساه ، ويصفى ويستعمل منه مقدار الحاجة محلا.

٤ ـ ( شوى ). قال الله تعالى في ضيافة خليله إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لأضيافه : ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ). و ( الحنيذ ) : المشوى على الرضف ، وهى : الحجارة المحماة.

وفى الترمذي ـ عن أم سلمة رضي الله عنها ـ : « أنها قربت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جنبا

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : وقال. ولعله تحريف. فتأمل.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : أحد. وهو تحريف. ولفظ سنن ابن ماجة ٢ / ١٧٨ : أهله.

(٣) ورد بالأصل والزاد ـ في الموضعين ـ بالقاف. وهو خطأ وتصحيف. انظر : السنن ، والنهاية ٢ / ٦٤ ـ ٦٥. والزيادة الآتية عنهما.

(٤) ص ٩٦.

(٥) بالأصل والزاد : مطف.


مشويا ، فأكل منه ، ثم قام إلى الصلاة : وما توضأ ». قال الترمذي : حديث صحيح. وفيه أيضا ، عن عبد الله بن الحرث ، قال : « أكلنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شواء في المسجد » (١). وفيه أيضا ، عن مغيرة بن شعبة ، قال : « ضفت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة ـ فأمر بجنب فشوى ، ثم أخذ الشفرة فجعل يجز لي بها منه. ( قال ) : فجاء بلال يؤذن للصلاة ، فألقى الشفرة ، فقال : ماله تربت يداه ».

أنفع الشوى : شوى الضأن الحولي ، ثم العجل اللطيف السمين. وهو حار رطب إلى اليبوسة ، كثير التوليد للسوداء. وهو من أغذية الأقوياء والأصحاء والمرتاضين. والمطبوخ أنفع وأخف على المعدة ، وأرطب منه ومن المطجن.

وأردؤه : المشوى في الشمس. والمشوى على الجمر خير من المشوى باللهيب ، وهو : الحنيذ.

٥ ـ ( شحم ). ثبت في المسند عن أنس : « أن يهوديا أضاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدم له خبز شعير ، وإهالة سنخة ». و ( الاهالة ) : الشحم المذاب. والالية. ( والسنخة ) : المتغيرة.

وثبت في الصحيح ، عن عبد الله بن مغفل ، قال : « دلى جراب من شحم ، يوم خيبر ، فالتزمته وقلت : والله ، لا أعطى أحدا منه شيئا. فالتفت فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يضحك ، ولم يقل شيئا ». أجود الشحم : ما كان من حيوان مكتمل. وهو حار رطب. وهو أقل رطوبة من السمن. ولهذا ، لو أذيب الشحم والسمن : كان الشحم أسرع جمودا.

وهو ينع من خشونة الحلق ، ويرخى ، ويعفن. ويدفع ضرره بالليمون المملوح والزنجبيل. وشحم المعز أقبض الشحوم. وشحم التيوس أشد تحليلا ، وينفع من قروح الأمعاء. وشحم العنز أقوى في ذلك ، ويحتقن به للسحج والزحير.

__________________

(١) بالأصل بعد ذلك زيادة ليست بالزاد ، هي : « وفيه أيضا عن مغيرة بن شعبة ، قال : ضفت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شواء في المسجد ». وهى من عبث الناسخ أو الطابع.


حرف الصاد

١ ـ ( صلاة ). قال الله تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ). وقال : ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ، إن الله مع الصابرين ). وقال تعالى : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ، لا نسألك رزقا نحن نرزقك ، والعاقبة للتقوى ).

وفى السنن : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ».

وقد تقدم ذكر الاستشفاء بالصلاة من عامة الأوجاع ، قبل استحكامها (١).

والصلاة : مجلبة للرزق ، حافظة للصحة ، دافعة للأذى ، مطردة للادواء ، مقوية للقلب ، مبيضة للوجه ، مفرحة للنفس ، مذهبة للكسل ، منشطة للجوارح ، ممدة للقوى ، شارحة للصدر ، مغذية للروح ، منورة للقلب ، حافظة للنعمة ، دافعة للنقمة ، جالبة للبركة ، مبعدة من الشيطان ، مقربة من الرحمن.

وبالجملة : فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما ، ودفع المواد الرديئة عنهما. وما ابتلى رجلان بعاهة أوداء أو محنة أو بلية ، إلا كان حظ المصلى منهما أقل ، وعاقبته أسلم.

وللصلاة تأثير عجيب : في دفع شرور الدنيا ، ولا سيما إذا أعطيت حقها : من التكميل ظاهرا وباطنا. فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة ، واستجلبت مصالحهما ـ بمثل الصلاة.

وسر ذلك : أن الصلاة صلة بالله عز وجل ، وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل ، تفتح عليه من الخيرات أبوابها ، وتقطع عنه من الشرور أسبابها ، وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل. والعافية والصحة ، والغنيمة والغنى ، والراحة والنعيم ، والافراح والمسرات ـ كلها محضرة لديه ، ومسارعة إليه.

٢ ـ ( صبر ). الصبر نصف الايمان : فإنه ماهية مركبة من صبر وشكر. كما قال

__________________

(١) راجع صفحة : ١٥٥ ـ ١٥٦ و ١٦٣ ـ ١٦٤.


بعض السلف : « الايمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر. قال تعالى : (إن في ذلك لايات لكل صبار شكور ».

والصبر من الايمان ، بمنزلة الرأس من الجسد. وهو ثلاثة أنواع : صبر على فرائض الله ، فلا يضيعها. وصبر عن محارمه ، فلا يرتكبها. وصبر على أقضيته وأقداره ، فلا يتسخطها. ومن استكمل هذه المراتب الثلاث : استكمل الصبر ولذة الدنيا والآخرة ونعيمهما (١) ، والفوز والظفر فيهما ـ فلا يصل إليه أحد إلا على جسر الصبر : كما لا يصل أحد إلى الجنة إلا على الصراط. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : « خير عيش أدركناه بالصبر ».

وإذا تأملت مراتب الكمال المكتسب في العالم : رأيتها كلها (منوطة بالصبر وإذا تأملت النقصان ـ الذي يذم صاحبه عليه ، ويدخل تحت قدرته ـ : رأيته كله) (٢) من عدم الصبر. فالشجاعة والعفة والجود والايثار ـ كله صبر ساعة :

فالصبر طلسم على كنز العلاء ،

من حل ذا الطلسم : فاز بكنزه

وأكثر أسقام البدن والقلب ، إنما تنشأ من عدم الصبر. فما حفظت صحة القلوب والابدان والأرواح ، بمثل الصبر. فهو : الفاروق الأكبر ، والترياق الأعظم. ولو لم يكن فيه إلا معية الله مع أهله : فإن الله مع الصابرين ، ومحبته لهم : فإن الله يحب الصابرين ، ونصره لأهله : « فإن النصر مع الصبر » (٣) ، وأنه خير لأهله : (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) (٤) ، وأنه سبب الفلاح : ( يا أيها الذين آمنوا ، اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (٥).

__________________

(١) بالأصل والزاد ١٧٢ : « ونعيمها ». والظاهر أن أصله ما أثبتناه ، وأن قوله : ولذة ، استئناف وابتداء لاعطف على « الصبر » ، وأن قوله : فلا يصل ، خبره لا تعليل له. وصح قرنه بالفاء ، لان مبتدأه عام أشبه الشرط. وقوله : إليه. أي إلى المذكور من اللذة وما عطف عليها. ولا يبعد أن يكون مصحفا عن « إليها ». كما لا يبعد أن يكون قوله : ولذة ، أصله : وبه لذة. فتأمل.

(٢) زيادة متعينة عن الزاد. فليس قوله الآتي : « عدم » زائدا كما ظنه ق ظنا ناشئا عن عدم البحث ، والتأثر بالظاهر.

(٣) بعض حديث مشهور اه‍ ق.

(٤) اقتباس من سورة النحل : (١٢٦) اقتباس من سورة النحل : (١٢٦).

(٥) اقتباس من سورة آل عمران : (٢٠٠) وجواب « لو » حذف للعلم به ، أي : لكان ذلك حاملا عليه.

(١٧ ـ الطب النبوي)


٣ ـ ( صبر ) (١). روى أبو داود في كتاب المراسيل ـ من حديث قيس بن رافع القيسي رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « ماذا في الامرين من الشفاء؟ : الصبر والثفاء ».

وفى السنن لأبي داود ـ من حديث أم سلمة ـ قالت : « دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين توفى أبو سلمة ـ وقد جعلت على صبرا ـ فقال : ماذا يا أم سلمة؟! فقلت : إنما هو صبر يا رسول الله ، ليس فيه طيب. قال : إنه يشب الوجه ، فلا تجعليه إلا بالليل. ونهى عنه بالنهار ».

الصبر كثير المنافع ـ لا سيما الهندي منه ـ : ينقى الفضول الصفراوية التي في الدماغ وأعصاب البصر ، وإذا طلى على الجبهة والصدغ بدهن الورد : نفع من الصداع. وينفع من قروح الانف والفم ، ويسهل السوداء والماليخوليا.

والصبر الفارسي : يذكى العقل ، ويشد (٢) الفؤاد ، وينقى الفضول الصفراوية والبلغمية من المعدة : إذا شرب منه ملعقتان بماء. ويرد الشهوة الباطلة والفاسدة. وإذا شرب في البرد : خيف أن يسهل دما.

٤ ـ ( صوم ). الصوم جنة من أدواء الروح والقلب والبدن ، منافعه تفوت الاحصاء. وله تأثير عجيب : في حفظ الصحة ، وإذابة الفضلات ، وحبس النفس عن تناول مؤذياتها ، ولا سيما : إذا كان باعتدال وقصد في أفضل أوقاته شرعا ، وحاجة البدن إليه طبعا. ثم إن فيه ـ : من إراحة القوى والأعضاء. ـ ما يحفظ عليها قواها. وفيه خاصية تقتضى إيثاره ، وهى : تفريحه للقلب عاجلا وآجلا. وهو أنفع شئ لأصحاب الأمزجة الباردة والرطبة ، وله تأثير عظيم : في حفظ صحتهم.

وهو يدخل في الأدوية الروحانية والطبيعية. وإذا راعى الصائم فيه ما ينبغي مراعاته

__________________

(١) يستعمل للان في العطارة وفى الأدوية الحديثة كمسهل ، في بعض حالات الامساك ، بمقادير معروفة

محددة اه‍ د.

(٢) أي : يقول. وفى الزاد : يمد. ولعله المراد منه التقوية أيضا.


طبعا وشرعا : عظم انتفاع قلبه وبدنه به ، وحبس عنه المواد الغريبة الفاسدة التي هو مستعد لها ، وأزال المواد الرديئة الحاصلة بحسب كماله ونقصانه. ويحفظ الصائم مما ينبغي أن يتحفظ منه ، و ( يعينه على ) (١) قيامه بمقصود الصوم وسره وعلته الغائية. فإن القصد منه أمر آخر وراء ترك الطعام والشراب. وباعتبار ذلك الامر ، اختص من بين الأعمال : بأنه لله سبحانه. ولما كان وقاية وجنة بين العبد وبين ما يؤذى قلبه وبدنه عاجلا وآجلا ، قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ، كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ). فأحد مقصودي الصيام : الجنة والوقاية ، وهى حمية عظيمة النفع. والمقصود الآخر : اجتماع القلب والهم على الله تعالى ، وتوفير قوى النفس على محابه وطاعته. وقد تقدم الكلام في بعض أسرار الصوم : عند ذكر هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه (٢).

حرف الضاد

١ ـ ( ضب ). وثبت في الصحيحين ـ من حديث ابن عباس ـ : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عنه ـ لما قدم إليه ، وامتنع من أكله ـ : أحرام ( هو ) (٣)؟ فقال : « لا ، ولكن لم يكن بأرض قومي ، فأجدني أعافه ». وأكل بين يديه وعلى مائدته : وهو ينظر. وفى الصحيحين ـ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « لا أحله ، ولا أحرمه ».

وهو حار يابس ، يقوى شهوة الجماع. وإذا دق ووضع على موضع الشوكة : اجتذبها.

٢ ـ ( ضفدع ). قال الإمام أحمد : « الضفدع لا يحل في الدواء ، نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتلها ». يريد الحديث الذي رواه في مسنده ـ من حديث عثمان بن عبد الرحمن

__________________

(١) زيادة ليست بالأصل ولا بالزاد ، ونحوها متعين لتصحيح الكلام وشرح المراد. وإلا كان بالكلام بعد ذلك نقص آخر ، فتأمل.

(٢) راجع : زاد المعاد ١ / ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٣) زيادة عن الزاد ١٧٣.


رضي الله عنه ـ : « أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء ، عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهاه عن قتلها ».

قال صاحب القانون : « من أكل من دم الضفدع أو جرمه : ورم بدنه ، وكمد لونه ، وقذف المنى حتى يموت. ولذلك ترك الأطباء استعماله : خوفا من ضرره ».

وهى نوعان : مائية وترابية. والترابية يقتل أكلها.

حرف الطاء

١ ـ ( طيب ). ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة ». وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يكثر التطيب ، وتشتد عليه الرائحة الكريهة ، وتشق عليه.

والطيب غذاء الروح التي هي مطية القوى. والقوى تتضاعف وتزيد بالطيب : كما تزيد بالغذاء والشراب ، والدعة والسرور ، ومعاشرة الأحبة ، وحدوث الأمور المحبوبة ، وغيبة من تسر غيبته ، ويثقل على الروح مشاهدته ، كالثقلاء والبغضاء : فإن معاشرتهم توهن القوى ، وتجلب الهم والغم ، وهى للروح بمنزلة الحمى للبدن ، وبمنزلة الرائحة الكريهة. ولهذا كان مما حبب الله سبحانه الصحابة نهيهم (١) ، عن التخلق بهذا الخلق في معاشرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لتأذيه بذلك. فقال : ( إذا دعيتم فأدخلوا ، فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث ، إن ذلكم كان يؤذى النبي فيستحيى منكم ، والله لا يستحيى من الحق ).

والمقصود : أن الطيب كان من أحب الأشياء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وله تأثير : في حفظ الصحة ، ودفع كثير من الآلام وأسبابها ، بسبب قوة الطبيعة به.

٢ ـ ( طين ). ورد في أحاديث موضوعة لا يصح منها شئ ، مثل حديث : « من أكل الطين فقد أعان على قتل نفسه ». ومثل حديث : « يا حميراء ، لا تأكلي الطين :

__________________

(١) بالأصل والزاد : بنهيهم. والظاهر أنه محرف عما أثبتنا ، فتأمل.


فإنه يعصم البطن ، ويصفر اللون ، ويذهب بهاء الوجه ».

وكل حديث في الطين فإنه لا يصح ، ولا أصل له عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إلا أنه ردئ مؤذ : يسد مجارى العروق. وهو بارد يابس ، قوى التجفيف. ويمنع استطلاق البطن ، ويوجب نفث الدم ، وقروح الفم.

٣ ـ ( طلح ). قال تعالى : ( وطلح منضود ). قال أكثر المفسرين : « هو الموز. و ( المنضود ) هو : الذي قد نضد بعضه على بعض كالمشط ». وقيل : « الطلح : الشجر ذو الشوك ، نضد مكان كل شوكة ثمرة. فثمره قد نضد بعضه إلى بعض ، فهو مثل الموز ». وهذا القول أصح. ويكون من ذكر الموز ـ : من السلف. ـ أراد التمثيل ، لا التخصيص. والله أعلم.

وهو حار رطب. أجوده : النضيج الحلو. ينفع من خشونة الصدر والرئة والسعال ، وقروح الكليتين والمثانة. ويدر البول ، ويزيد في المنى ، ويحرك شهوة الجماع ، ويلين البطن. ويؤكل قبل الطعام. ويضر المعدة ، ويزيد في الصفراء والبلغم. ودفع ضرره : بالسكر أو العسل.

٤ ـ ( طلع ) قال تعالى : ( والنخل باسقات لها طلع نضيد ). وقال تعالى : ( ونخل طلعها هضيم ) طلع النخل : ما يبدو من ثمرته في أول ظهوره. وقشره يسمى : الكفرى. و ( النضيد ) : المنضود الذي قد نضد بعضه على بعض. وإنما يقال له نضيد : ما دام في كفراه فإذا انفتح فليس بنضيد. وأما ( الهضيم ) فهو : المنضم بعضه إلى بعض. فهو كالنضيد أيضا. وذلك يكون قبل تشقق الكفرى عنه.

والطلع نوعان : ذكر وأنثى. و ( التلقيح ) هو : أن يؤخذ من الذكر ـ وهو مثل دقيق الحنطة ـ فيجعل في الأنثى ، وهو : التأبير. فيكون ذلك بمنزلة اللقاح بين الذكر والأنثى.

وقد روى مسلم في صحيحه ، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ، قال : « مررت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نخل ، فرأى قوما يلقحون ، فقال : ما يصنع هؤلاء؟ قالوا : يأخذون من


الذكر ، فيجعلونه في الأنثى. قال : ما أظن ذلك يغنى شيئا. فبلغهم فتركوه : فلم يصلح فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما هو ظن ، فإن كان يغنى شيئا فاصنعوه. فإنما أنا بشر مثلكم ، وإن الظن يخطئ ويصيب. ولكن : ما قلت لكم عن الله عز وجل ، فلن أكذب على الله » انتهى.

طلع النخل ينفع من الباه ، ويزيد في المباضعة. ودقيق طلعه إذا تحملت به المرأة قبل الجماع : أعان على الحبل إعانة بالغة. وهو في البرودة واليبوسة ، في الدرجة الثانية. يقوى المعدة ويجففها ، ويسكن ثائرة الدم مع غلظة وبطء (١) هضم.

ولا يحتمله إلا أصحاب الأمزجة الحارة. ومن أكثر منه فإنه ينبغي أن يأخذ عليه شيئا من الجوارشات الحارة. وهو يعقل الطبع ، ويقوى الأحشاء. والجمار يجرى مجراه ، وكذلك البلح والبسر. والاكثار منه يضر بالمعدة والصدر ، وربما أورث القولنج. وإصلاحه : بالسمن ، أو بما تقدم ذكره!.

حرف العين

١ ـ ( عنب ). في الغيلانيات ـ من حديث حبيب بن يسار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (٢) ـ قال : « رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكل العنب خرطا ».

قال أبو جعفر العقبلي : « لا أصل لهذا الحديث ». قلت : وفيه داود بن عبد الجبار أبو سليم الكوفي ، قال يحيى بن معين : كان يكذب.

ويذكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أنه كان يحب العنب والبطيخ ».

وقد ذكر الله سبحانه العنب ـ في ستة مواضع من كتابه ـ في جملة نعمه التي أنعم بها على عباده : في هذه الدار ، وفى الجنة. وهو من أفضل الفواكه وأكثرها منافع. وهو يؤكل رطبا ويابسا ، وأخضر ويانعا ، وهو فاكهة مع الفواكه ، وقوت مع الأقوات ،

__________________

(١) كذا بالزاد ١٧٤. وبالأصل : وبطوء. وهو تحريف عنه أو عن « بطاء ».

(٢) بالزاد : عنه.


وأدم مع الادام ، ودواء مع الأدوية ، وشراب مع الأشربة. وطبعه طبع الحبات (١) : الحرارة والرطوبة. وجيده : الكبار المائي. والأبيض أحمد من الأسود : إذا تساويا في الحلاوة. والمتروك بعد قطفه يومين أو ثلاثة ، أحمد من المقطوف في يومه : فإنه منفخ مطلق للبطن. والمعلق حتى يضمر قشره : جيد للغذاء ، مقو للبدن. وغذاؤه كغذاء التين والزبيب. وإذا ألقى عجم العنب : كان أكثر تليينا للطبيعة. والاكثار منه مصدع للرأس. ودفع. مضرته : بالرمان المز. ومنفعة العنب : يسهل (٢) الطبع ، ويسمن ويغذو جيده غذاء حسنا.

وهو أحد الفواكه الثلاث ـ التي هي ملوك الفواكه ـ هو والرطب والتين.

٢ ـ ( عسل ). قد تقدم ذكر منافعه (٣).

قال ابن جريج : قال الزهري : « عليك بالعسل ، فإنه جيد للحفظ ».

وأجوده أصفاه وأبيضه ، وألينه حدة ، وأصدقه حلاوة. وما يؤخذ من الجبال والشجر ، له فضل على ما يؤخذ من الخلايا. وهو بحسب مرعى نحله.

٣ ـ ( عجوة ) في الصحيحين ـ من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « من تصبح بسبع تمرات عجوة ، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر ».

وفى سنن النسائي وابن ماجة ـ من حديث جابر وأبى سعيد رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « العجوة من الجنة ، وهى شفاء من السم. والكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين » (٤).

وقد قيل : إن هذا في عجوة المدينة. وهى أحد أصناف التمر بها ، ومن أنفع تمر الحجازعلى الاطلاق. وهو صنف كريم ملزز (٥) ، متين الجسم والقوة (٦) ، من ألين التمر وأطيبه وألذه.

__________________

(١) كذا بالزاد. وبالأصل : الحياة. وهو تصحيف.

(٢) كذا بالزاد. وهو الملائم. وبالأصل : تسهيل.

(٣) راجع صفحة : ٢٥ ـ ٢٨. (٤) وأخرجه أيضا أحمد اه‍ ق.

(٥) بالأصل والزاد ١٧٥ : « ملذذ .. للجسم ». وهو تصحيف. انظر : أحكام الحموي ١ / ١٠٣ ، واللسان ٧ / ٢٧٢ ، والمختار ( لز ).

(٦) كذا بالزاد والاحكام ٢ / ١٢٥. وبالأصل : والعجوة. ولعله تصحيف.


وقد تقدم ذكر التمر وطبعه ومنافعه في حرف التاء ، والكلام على دفع العجوة للسم والسحر. فلا حاجة لإعادته (١).

٤ ـ ( عنبر ). تقدم (٢) في الصحيحين ، من حديث جابر ، في قصة أبى عبيدة وأكلهم من العنبر نصف شهر ، وأنهم تزودوا من لحمه وشائق إلى المدينة ، وأرسلوا منه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو أحد ما يدل : على أن إباحة ما في البحر لا يختص بالسمك ، وعلى أن ميتته حلال.

واعترض على ذلك : بأن البحر ألقاه حيا ، ثم جزر عنه الماء فمات. وهذا حلال : فإن موته بسبب مفارقته للماء.

وهذا لا يصح : فإنهم إنما وجدوه ميتا بالساحل ، ولم يشاهدوه قد خرج عنه حيا ، ثم جزر عنه الماء. (وأيضا) : فلو كان حيا لما ألقاه البحر إلى ساحله ، فإنه من المعلوم أن البحر إنما يقذف إلى ساحله الميت من حيواناته ، لا الحي منها.

( وأيضا ) : فلو (٣) قدر احتمال ما ذكروه ، لم يجز أن يكون شرطا في الإباحة : فإنه لا يباح الشئ مع الشك في سبب إباحته. ولهذا منع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أكل الصيد : إذا وجده الصائد غريقا في الماء ، للشك في سبب موته : هل هو الآلة؟ أم الماء؟.

وأما العنبر الذي هو أحد أنواع الطيب ، فهو من أفخر أنواعه بعد المسك. وأخطأ من قدمه على المسك ، وجعله سيد أنواع الطيب. وقد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال في المسك : « هو أطيب الطيب ». وسيأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ ذكر الخصائص والمنافع التي خص بها المسك ، حتى إنه طيب الجنة. والكثبان ـ التي هي مقاعد الصديقين هناك ـ من مسك لا من عنبر.

والذي غر هذا القائل : أنه لا يدخله التغير على طول الزمان ، فهو كالذهب. وهذا لا يدل

__________________

(١) راجع صفحة : ٧٦ ـ ٧٩ ، ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

(٢) ص ٢٥٢. وقال د : البحث الطبي لم يثبت أي فائدة علاجية له ، خلاف رأى العلامة من الناس. فإنهم لا يزالون يستعملونه كمقو للجماع وفى حالات الشلل. ويستعمل الآن طبيا في صناعة الأرواح العطرية فقط اه‍.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : لو.


على أنه أفضل من المسك : فإنه بهذه الخاصية الواحدة ، لا يقاوم ما في المسك من الخواص.

وبعد : فضروبه كثيرة ، وألوانه مختلفة. فمنه : الأبيض والأشهب ، والأحمر والأصفر ، والأخضر والأزرق ، والأسود وذو الألوان. وأجوده : الأشهب ، ثم الأزرق ، ثم الأصفر. وأردؤه : الأسود.

وقد اختلف الناس في عنصره ، فقالت طائفة : هو نبات ينبت في قعر البحر ، فيبتلعه بعض دوابه ، فإذا ثملت منه : قذفته رجيعا ، فيقذفه البحر إلى ساحله.

وقيل : طل ينزل من السماء في جزائر البحر ، فتلقيه الأمواج إلى الساحل. وقيل : روث دابة بحرية ، تشبه البقرة. وقيل : بل هو جفاء (١) من جفاء (١) البحر ، أي : زبد.

وقال صاحب القانون : « هو ـ فيما يظن ـ ينبع من عين في البحر. والذي يقال ـ : أنه زبد البحر ، أو روث دابة. ـ بعيد » انتهى.

ومزاجه حار يابس : مقو للقلب والدماغ والحواس وأعضاء البدن ، نافع من الفالج واللقوة ، والأمراض البلغمية ، وأوجاع المعدة الباردة ، والرياح الغليظة ، ومن السدد ، إذا شرب أو طلى به من خارج. وإذا تبخر به : نفع من الزكام والصداع ، والشقيقة الباردة.

٥ ـ ( عود ). العود الهندي نوعان : ( أحدهما ) يستعمل في الأدوية ، وهو : الكست. ويقال له (٢) : القسط. وسيأتى في حرف القاف. ( الثاني ) يستعمل في الطيب ويقال له : الألوة.

وقد روى مسلم في صحيحه ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما : « أنه كان يستجمر بالألوة غير مطراة وبكافور يطرح معها ، ويقول : هكذا كان يستجمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ». وثبت عنه في صفة نعيم أهل الجنة : « مجامرهم الألوة ».

و ( المجامر ) جمع « مجمر » ، وهو : ما يتجمر به من عود وغيره. وهو أنواع : أجودها

__________________

(١) بالأصل والزاد : جثاء. وهو تصحيف وإن ورد ـ في القاموس ٤ / ٣١١ ـ بمعنى الشخص. انظر : النهاية ١ / ١٦٦.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : إنه. وهو خطأ وتحريف.


الهندي ، ثم الصيني ، ثم القماري ، ثم المندلي. وأجوده : الأسود والأزرق الصلب الرزين الدسم. وأقله جودة : ما خف وطفا على الماء. ويقال : إنه شجر يقطع ويدفن في الأرض سنة ، فتأكل الأرض منه مالا ينفع ، ويبقى عود الطيب لا تعمل فيه الأرض شيئا ، ويتعفن منه قشره وما لا طيب فيه.

وهو حار يابس في الثالثة. يفتح السدد ويكسر (١) الرياح ، ويذهب بفضل الرطوبة ، ويقوى الأحشاء والقلب ويفرحه ، وينفع الدماغ ، ويقوى الحواس ، ويحبس البطن ، وينفع من سلس البول الحادث عن برد المثانة.

قال ابن سمجون (٢) : « العود ضروب كثيرة ، يجمعها اسم الألوة. ويستعمل من داخل وخارج ، ويتجمر به مفردا ومع غيره. وفى خلط (٣) الكافور به عند التجمير معنى طبي ، وهو : إصلاح كل منهما بالآخر. وفى التجمير (٤) مراعاة جوهر الهواء وإصلاحه : فإنه أحد الأشياء السنة الضرورية ، التي في صلاحها إصلاح الأبدان ».

٦ ـ ( عدس ). قد ورد فيه أحاديث كلها باطلة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يقل منها (٥) شيئا. كحديث : « إنه قدس فيه سبعون نبيا » ، وحديث : « إنه يرق القلب ، ويغزر الدمعة ، وإنه مأكول الصالحين ». وأرفع شئ جاء فيه وأصحه : « إنه شهوة اليهود التي قدموها على المن والسلوى ».

وهو قرين الثوم والبصل في الذكر. وطبعه طبع المؤنث : بارد يابس. وفيه قوتان متضادتان ، ( إحداهما ) : يعقل الطبيعة. ( والاخرى ) : يطلقها. وقشره حار يابس في الثالثة ، حريف مطلق للبطن. وترياقه في قشره. ولهذا كان صحاحه أنفع من مطحونه ، وأخف على المعدة ، وأقل ضررا. فإن لبه بطئ الهضم : لبرودته ويبوسته.

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد ١٧٦. ولعله مصحف عن « ويكثر ».

(٢) كذا بطبقات الأطباء ٢ / ٥١ و ٢١٢ ، وأحكام الحموي ٢ / ١٢٣. وصحف بالحاء في الأصل والزاد.

(٣) بالزاد : الخلط للكافور. وما في الأصل أظهر.

(٤) بالأصل والزاد : التجمر. وهو تحريف على ما في المصباح : (جمر).

(٥) بالزاد : شيئا منها.


وهو مولد للسوداء ، ويضر بالماليخوليا ضررا بينا ، ويضر بالأعصاب والبصر.

وهو غليظ الدم. وينبغي أن يتجنبه أصحاب السوداء وإكثارهم منه يولد لهم أدواء رديئة : كالوسواس ، والجذام ، وحمى الربع. ويقلل ضرره السلق والاسفاناخ ، وإكثار الدهن. وأردأ ما أكل بالمكسود. وليتجنب خلط الحلاوة به : فإنه يورث سددا كبدية. وإدمانه يظلم البصر : لشدة تجفيفه ، ويعسر البول ، ويوجب الأورام الباردة ، والرياح الغليظة. وأجوده : الأبيض السمين السريع النضاج.

وأما ما يظنه الجهال : أنه كان سماط الخليل الذي يقدمه لأضيافه ، فكذب مفترى. وإنما حكى الله عنه الضيافة بالشوى ، وهو : العجل الحنيذ.

وذكر البيهقي عن إسحاق ، قال : « سئل ابن المبارك عن الحديث الذي جاء في العدس : أنه قدس على لسان سبعين نبيا. فقال : ولا على لسان نبي واحد ، وإنه لمؤذ منفخ ، من حدثكم به؟ قالوا : سلم بن سالم. فقال : عمن؟ قالوا : عنك. قال : وعنى أيضا؟! ».

حرف الغين

١ ـ ( غيث ). مذكور في القرآن في عدة مواضع. وهو لذيذ الاسم على السمع ، والمسمى على الروح والبدن : تبتهج الاسماع بذكره ، والقلوب بوروده. وماؤه أفضل المياه وألطفها ، وأنفعها وأعظمها بركة ، ولا سيما : إذا كان من سحاب راعد ، واجتمع في مستنقعات الجبال.

وهو أرطب من سائر المياه : لأنه لم تطل مدته على الأرض. فيكتسب من يبوستها ، ولم يخالطه جوهر يابس. ولذلك يتغير ويتعفن سريعا : للطافته ، وسرعة انفعاله.

وهل الغيث الربيعي ألطف من الشتوي ، أو بالعكس؟ فيه قولان.

قال من رجح الغيث الشتوي : حرارة الشمس تكون حينئذ أقل ، فلا تجتذب (١)

__________________

(١) بالزاد : يجتذب. ولعله تصحيف.


من ماء البحر إلا ألطفه. والجو صاف ، وهو خال من الأبخرة الدخانية والغبار المخالط للماء. وكل هذا يوجب لطفه وصفاءه ، وخلوه من مخالط.

وقال من رجح الربيعي : الحرارة توجب تحلل الأبخرة الغليظة ، وتوجب رقة الهواء ولطافته. فيخف بذلك الماء وتقل أجزاؤه الأرضية ، وتصادف وقت حياة النبات والأشجار وطيب الهواء.

وذكر الشافعي ـ رحمه الله ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : « كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأصابنا مطر : فحسر ثوبه (١) منه ، وقال : إنه حديث عهد بربه ». وقد تقدم في هديه في الاستسقاء ، ذكر استمطاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبركه بماء الغيث عند أول مجيئه.

حرف الفاء

١ ـ ( فاتحة الكتاب ) ، وأم القرآن ، والسبع المثاني ، والشفاء التام ، والدواء النافع ، والرقية التامة ، ومفتاح الغنى والفلاح ، وحافظة القوة ، ودافعة الهم والغم والخوف والحزن ، لمن عرف مقدارها ، وأعطاها حقها ، وأحسن ترتيلها (٢) على دائه ، وعرف وجه الاستشفاء والتداوي بها ، والسر الذي لأجله كانت كذلك.

ولما وقع بعض الصحابة على ذلك : رقى بها اللديغ ، فبرأ لوقته. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « وما أدراك أنها رقية ».

ومن ساعده التوفيق ، وأعين بنور البصيرة ـ حتى وقف على أسرار هذه السورة ، وما اشتملت عليه : من التوحيد ، ومعرفة الذات والأسماء والصفات والافعال ، وإثبات الشرع والقدر والمعاد ، وتجريد توحيد الربوبية والإلهية ، وكمال التوكل والتفويض إلى من له

__________________

(١) حتى أصابه من المطر. وعبارة الأصل : فحسى ( شرب ) منه. والزاد : فحسر عنه. وهى محرفة. انظر : السنن الكبرى ٣ / ٣٥٩ ، والزاد ١ / ١٢٦ ، والام ١ / ٢٢٣.

(٢) بالزاد ١٧٧ : تنزيلها. ولعله تصحيف.


الامر كله ، وله الحمد كله ، وبيده الخير كله ، وإليه يرجع الامر كله ، والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين. وعلم ارتباط معانيها بجلب مصالحهما ، ودفع مفاسدهما ، وأن العافية (١) المطلقة التامة ، والنعمة الكاملة ، منوطة بها ، موقوفة على التحقق بها. ـ أغنته عن كثير من الأدوية والرقى ، واستفتح بها من الخير أبوابه ، ودفع بها من الشر أسبابه.

وهذا أمر يحتاج استحداث فطرة أخرى ، وعقل آخر ، وإيمان آخر. وتالله : لا تجد مقالة فاسدة ، ولا بدعة باطلة ، إلا وفاتحة الكتاب متضمنة لردها وإبطالها ، بأقرب طريق (٢) وأصحها وأوضحها. ولا تجد بابا من أبواب المعارف الإلهية وأعمال القلوب وأدويتها من عللها وأسقامها ، إلا وفى فاتحة الكتاب مفتاحه ، وموضع الدلالة عليه. ولا منزلا من منازل السائرين إلى رب العالمين ، إلا وبدايته ونهايته فيها.

ولعمر الله : إن شأنها لأعظم من ذلك ، وهى فوق ذلك. وما تحقق عبد بها ، واعتصم بها ، وعقل عمن تكلم بها ، وأنزلها شفاء تاما ، وعصمة بالغة ، ونورا مبينا : وفهمها وفهم لوازمها كما ينبغي ـ ووقع في بدعة (٣) ولا شرك ، ولا أصابه مرض من أمراض القلوب إلا إلماما غير مستقر.

هذا. وإنها المفتاح الأعظم لكنوز الأرض ، كما أنها المفتاح لكنوز الجنة. ولكن : ليس كل واحد يحسن الفتح بهذا المفتاح. ولو أن طلاب الكنوز وقفوا على سر هذه السورة ، وتحققوا بمعانيها ، وركبوا لهذا المفتاح أسنانا ، وأحسنوا الفتح به ـ : لو صلوا إلى تناول الكنوز من غير معاوق ، ولا ممانع.

ولم نقل هذا مجازفة ، ولا استعارة ، بل حقيقة. ولكن : لله تعالى حكمة بالغة في إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر العالمين ، كماله حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم

__________________

(١) بالزاد : العاقبة. وهو تصحيف.

(٢) بالزاد : طرق.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : بدعته. وهو تحريف.


والكنوز المحجوبة قد استخدم عليها أرواح خبيثة شيطانية : تحول بين الانس وبينها ، ولا تقهرها إلا أرواح علوية شريفة ، غالبة لها بحالها الايماني : معها منه أسلحة لا تقوم لها الشياطين.

وأكثر نفوس الناس ليست بهذه المثابة : فلا يقاوم تلك الأرواح ، ولا يقهرها ، ولا ينال من سلبها شيئا. فإن « من قتل قتيلا فله سلبه » (١).

٢ ـ ( فاغية ). هي : نور الحناء. وهى من أطيب الرياحين. وقد روى البيهقي في كتابه شعب الايمان ـ من حديث عبد الله بن بريدة ، عن أبيه رضي الله عنه ، يرفعه ـ : « سيد الرياحين ـ في الدنيا والآخرة ـ : الفاغية ». وروى فيه أيضا ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : « كان أحب الرياحين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفاغية ». والله أعلم بحال هذين الحديثين ، فلا نشهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لا نعلم صحته.

وهى معتدلة في الحر واليبس ، فيها بعض القبض. وإذا وضعت بين طي ثياب الصوف : حفظتها من السوس. وتدخل في مراهم الفالج والتمدد. ودهنها يحلل الأعضاء ، ويلين العصب.

٣ ـ ( فضة ). ثبت : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان خاتمه من فضة ، وفصه منه. وكانت قبيعة (٢) سيفه فضة ». ولم يصح عنه في المنع من لباس الفضة والتحلي بها شئ البتة ، كما صح عنه المنع من الشرب في آنيتها. وباب الآنية أضيق من باب اللباس والتحلي. ولهذا يباح للنساء لباسا وحلية ، ما يحرم عليهن استعماله آنية. فلا يلزم من تحريم الآنية ، تحريم اللباس والحلية. وفى السنن عنه : « وأما الفضة فالعبوا بها لعبا ». فالمنع يحتاج إلى دليل يثبته : إما نص أو إجماع. فإن ثبت أحدهما ، وإلا : ففي القلب من تحريم ذلك على الرجال شئ. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمسك بيده ذهبا وبالأخرى حريرا ، وقال : « هذان حرام على

__________________

(١) اقتباس لحديث مشهور ، مذكور في النهاية : ٢ / ٣٧٣.

(٢) كذا بالأصل والزاد ، والنهاية ٣ / ٢٢٤. وهى : التي تكون على رأس قائم السيف ، أو تحت شاربيه. ومن الغريب أن ق قد أصلحها بكلمة : « قبضة ». وهى جرأة خطيرة. وانظر : القاموس ٣ / ٦٥ ، والمختار واللسان (قبع).


ذكور أمتي ، وحل (١) لاناثهم ».

والفضة : سر من أسرار الله في الأرض ، وطلسم الحاجات ، وأحساب أهل الدنيا بينهم. وصاحبها مرموق بالعيون بينهم ، معظم في النفوس ، مصدر في المجالس : لا تغلق دونه الأبواب ، ولا تمل مجالسته ولا معاشرته ، ولا يستثقل مكانه ، تشير الأصابع إليه وتعقد العيون نطافها عليه ، إن قال سمع قوله ، وإن شفع قبلت شفاعته ، وإن شهد زكيت شهادته ، وإن خطب فكفء : لا يعاب ، وإن كان ذا شيبة بيضاء فهي أجمل عليه من حلية الشباب.

وهى من الأدوية المفرحة ، النافعة من الهم والغم والحزن ، وضعف القلب وخفقانه. وتدخل في المعاجين الكبار ، وتجتذب بخاصيتها ما يتولد في القلب : من الاخلاط الفاسدة ، خصوصا إذا أضيفت إلى العسل المصفى والزعفران.

ومزاجها إلى البرودة واليبوسة (٢). ويتولد عنها ، من الحرارة والرطوبة ، ما يتولد.

والجنان ـ التي أعدها الله عز وجل لأوليائه ، يوم يلقونه ـ أربع : جنتان من ذهب وجنتان من فضة ، آنيتهما ، وحليتهما (٣) ، وما فيهما.

وقد ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الصحيح ، أنه قال : « الذي يشرب في آنية الذهب والفضة ، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ». وصح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافهما (٤). فإنها لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة ».

فقيل : علة التحريم : تضييق النقود ، فإنها إذا اتخذت أواني فاتت الحكمة التي وضعت لأجلها : من قيام مصالح بني آدم. وقيل : العلة الفخر والخيلاء. وقيل : العلة كسر قلوب الفقراء والمساكين ، إذا رأوها وعاينوها.

وهذه العلل فيها ما فيها : فإن التعليل بتضييق النقود يمنع من التحلي بها ، وجعلها

__________________

(١) كذا بالزاد ٢٠ / ١٧٨. وهو المشهور. وفى الأصل : حرام.

(٢) بالزاد : اليبوسة والبرودة.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : وحليهما. ولعله تصحيف.

(٤) بالفتح الكبير ٣ / ٣٢٦ : صحافها. والحديث أخرجه الستة وأحمد.


سبائك ونحوها : مما ليس بآنية ولا نقد. والفخر والخيلاء حرام بأي شئ كان. وكسر قلوب المساكين لا ضابط له : فإن قلوبهم تنكسر بالدور الواسعة ، والحدائق المعجبة ، والمراكب ( الفارهة ، والملابس ) (١) الفاخرة ، والأطعمة اللذيذة ، وغير ذلك : من المباحات. وكل هذه علل منتقضة : إذ توجد العلة ويتخلف معلولها.

فالصواب أن العلة ـ والله أعلم ـ ما يكسب استعمالها القلب : من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاة ظاهرة. ولهذا علل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأنها للكفار في الدنيا : إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها (٢) في الآخرة. فلا يصلح استعمالها لعبيد الله في الدنيا ، وإنما يستعملها من خرج عن عبوديته ، ورضى بالدنيا وعاجلها من الآخرة. والله أعلم (٣).

حرف القاف

١ ـ ( قرآن ). قال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ). والصحيح أن « من » ههنا لبيان الجنس ، لا للتبعيض. وقال تعالى : ( يا أيها الناس ، قد جاءتكم موعظة من ربكم ، وشفاء لما في الصدور ).

فالقرآن هو : الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية ، وأدواء الدنيا والآخرة. وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به. وإذا أحسن العليل التداوي به ، ووضعه على دائه بصدق وإيمان ، وقبول تام ، واعتقاد جازم ، واستيفاء شروطه ـ : لم يقاومه الداء أبدا.

وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء : الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والابدان ، إلا وفى القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه ، لمن رزقه الله فهما في كتابه.

__________________

(١) زيادة عن الزاد ، لا يبعد سقوطها من الأصل.

(٢) كذا بالزاد. وفى الأصل : ينالونها. وهو خطأ وتحريف.

(٣) هذه الجملة ليست بالزاد.


وقد تقدم ـ في أول الكلام (١) على الطب ـ بيان إرشاد القرآن العظيم إلى أصوله ومجامعه التي هي : حفظ الصحة ، والحمية ، واستفراغ المؤذى. والاستدلال بذلك على سائر أفراد هذه الأنواع. وأما الأدوية القلبية ، فإنه يذكرها مفصلة ويذكر أسباب أدوائها وعلاجها. قال : ( أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم؟! ) فمن لم يشفه بالقرآن فلا شفاه الله ، ومن لم يكفه فلا كفاه الله.

٢ ـ ( قثاء ) (٢). في السنن ـ من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأكل القثاء بالرطب ». رواه الترمذي وغيره.

القثاء بارد رطب في الدرجة الثانية ، مطفئ لحرارة المعدة الملتهبة ، بطئ الفساد فيها ، نافع من وجع المثابة. ورائحته تنفع من الغشى. وبزره يدر البول. وورقه إذا اتخذ ضمادا : نفع من عضة الكلب.

وهو بطئ الانحدار عن المعدة ، برده مضر ببعضها : فينبغي أن يستعمل معه ما يصلحه ويكسر برودته ورطوبته. كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذ أكله بالرطب. فإذا أكل بتمر أو زبيب أو عسل ـ : عدله.

٣ ـ ( قسط ) و ( كست ) (٣) بمعنى واحد. وفى الصحيحين ـ من حديث أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « خير ما تداويتم به : الحجامة ، والقسط البحري ».

وفى المسند ـ من حديث أم قيس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « عليكم بهذا العود الهندي ، فإن فيه سبعة أشفية ، منها : ذات الجنب ».

القسط ضربان (٤) : ( أحدهما ) الأبيض الذي يقال له : البحري. ( والآخر ) : الهندي

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : الكتاب. ولعله تصحيف. وراجع صفحة ١ ـ ٧.

(٢) يستعمل كمسهل. ويجب استعماله بحذر اه‍ د. وانظر ما تقدم : (ص ٨٠ ـ ٨١).

(٣) هو على أنواع كثيرة تختلف في مفعولها. فمثلا : القسط الهندي يستعمل كمقو ومنبه. والعربي يستعمل نادرا كمدر للبلغم في حالات الربو ، وفى تحضير العطور. ويمنع العتة عن الملابس اه‍ د. وانظر. ما تقدم : (٦٤ ـ ٦٥ و٧٤ ـ ٧٥).

(٤) بالزاد ١٧٩ : نوعان.

(١٨ ـ الطب النبوي)


وهو أشدهما حرا ، والأبيض ألينهما. ومنافعهما كثيرة جدا.

وهما حاران يابسان في الثالثة : ينشفان البلغم ، قاطعان للزكام. وإذا شربا : نفعا من ضعف الكبد والمعدة ، ومن بردهما ، ومن حمى الدور والربع ، وقطعا وجع الجنب ، ونفعا من السموم. وإذا طلى به الوجه معجونا بالماء والعسل : قلع الكلف. وقال جالينوس : « ينفع من الكزاز ووجع الجنبين ، ويقتل حب القرع ».

وقد خفى على جهال الأطباء نفعه من وجع ذات الجنب ، فأنكروه. ولو ظفر هذا الجاهل بهذا النقل عن جالينوس ، نزله منزلة النص. كيف : وقد نص كثير من الأطباء المتقدمين ، على أن القسط يصلح للنوع البلغمي من ذات الجنب؟!. ذكره الخطابي عن محمد ابن الجهم.

وقد تقدم (١) : أن طب الأطباء بالنسبة إلى طب الأنبياء ، أقل من نسبة طب الطرقية والعجائز إلى طب الأطباء ، وأن بين ما يلقى بالوحي وبين ما يلقى بالتجربة والقياس ـ من الفرق ـ أعظم مما بين الفدم والقرم (٢).

ولو أن هؤلاء الجهال وجدوا دواء منصوصا عن بعض اليهود والنصارى والمشركين ـ من الأطباء ـ : لتلقوه بالقبول والتسليم ، ولم يتوقفوا عن (٣) تجربته.

نعم : نحن لا ننكر أن للعادة تأثيرا في الانتفاع بالدواء وعدمه ، فمن اعتاد دواء وغذاء : كان أنفع له وأوفق ممن لم يعتده ، بل ربما ( لم ) ينتفع به من لم يعتده.

وكلام فضلاء الأطباء ـ وإن كان مطلقا ـ فهو بحسب الأمزجة والأزمنة ، والأماكن والعوائد. وإذا كان التقييد بذلك لا يقدح في كلامهم ومعارفهم ، فكيف يقدح في كلام الصادق المصدوق؟! ولكن نفوس البشر مركبة على الجهل والظلم ، إلا من أمده (٤) الله بروح الايمان ، ونور بصيرته بنور الهدى.

__________________

(١) ص ٦ ـ ٧ وهامش صفحة ١.

(٢) كذا بالزاد. وهو الظاهر. أي بين العيى الثقيل والسيد الجليل. وبالأصل : القدم والفرق. ولعله تصحيف. (٣) بالأصل والزاد : على. والظاهر أنه مصحف عما أثبتنا.

(٤) بالزاد : أيده. والزيادة السابقة المتعينة عنه.


٤ ـ ( قصب السكر ). جاء في بعض ألفاظ السنة الصحيحة ( في ) (١) الحوض : « ماؤه أحلى من السكر ». ولا أعرف « السكر » في الحديث ، إلا في هذا الموضع.

والسكر حادث لم يتكلم فيه متقدمو الأطباء ، ولا كانوا يعرفونه ، ولا يصفونه في الأشربة. وإنما يعرفون العسل ، ويدخلونه في الأدوية.

وقصب السكر حار رطب : ينفع من السعال ، ويجلو الرطوبة والمثانة ، وقصبة الرئة. وهو أشد تليينا من السكر. وفيه معونة على القئ ، ويدر البول ، ويزيد في الباه. قال عفان بن مسلم الصفار : « من مص قصب السكر بعد طعامه ، لم يزل يومه أجمع في سرور » انتهى. وهو ينفع من خشونة الصدر والحلق : إذا شوى. ويولد رياحا دفعها : بأن يقشر ويغسل بماء حار.

والسكر حار رطب على الأصح. وقيل : بارد. وأجوده : الأبيض الشفاف (٢) الطبرزذ. وعتيقه ألطف من جديده. وإذا طبخ ونزعت رغوته : سكن العطش والسعال. وهو يضر المعدة التي تتولد فيها الصفراء : لاستحالته إليها. ودفع ضرره : بماء الليمون ، أو النارنج ، أو الرمان اللفاء (٣).

وبعض الناس يفضله على العسل : لقلة حرارته ولينه. وهذا تحامل منه على العسل : فإن منافع العسل أضعاف منافع السكر ، وقد جعله الله شفاء ودواء (٤) وإداما وحلاوة. وأين نفع السكر من منافع العسل : من (٥) تقوية المعدة ، وتليين الطبع ، وإحداد البصر ، وجلاء ظلمته ، ودفع الخوانيق بالغرغرة به ، وإبرائه من الفالج واللقوة ، ومن جميع العلل الباردة :

__________________

(١) أي : الواردة فيه. والزيادة عن الزاد.

(٢) كذا في القاموس ١ / ٣٥٥ ، والمختار. وبالأصل والزاد : الطبرزد. ولعله تصحيف أو مما ورد بالدال والذال كبغداد.

(٣) يعنى : المقشر ، أو الحقير الصغير. راجع القاموس والمختار : (لفأ). وبالأصل والزاد : اللفان. والظاهر أن أصله ما ذكرناه.

(٤) كذا بالزاد. وفى الأصل : ورواء. وهو تصحيف : لان « الرواء » بالضم : حسن المنظر. وبالكسر القوم الذين حصل لهم الري. وكل غير مراد.

(٥) بالزاد : أمن. وهو تحريف.


التي تحدث في جميع البدن من الرطوبات ، فيجذبها من قعر البدن ومن جميع البدن. وحفظ صحته وتسخينه ، والزيادة في الباه ، والتحليل والجلاء ، وفتح أفواه العروق ، وتنقية المعى (١) ، وإحدار الدود ، ومنع التخم وغيره من العفن ، والأدم النافع ، وموافقة من غلب عليه البلغم ، والمشايخ ، وأهل الأمزجة الباردة؟!. وبالجملة : فلا شئ أنفع منه للبدن وفى العلاج ، وعجن (٢) الأدوية وحفظ قواها ، وتقوية المعدة. إلى أضعاف هذه المنافع. فأين للسكر مثل هذه المنافع والخصائص ، أو قريب منها؟!.

حرف الكاف

١ ـ ( كتاب للحمى ). قال المروزي : بلغ أبا عبد الله أنى حممت ، فكتب لي من الحمى رقعة فيها : « بسم الله الرحمن الرحيم ، باسم الله ، وبالله ، ومحمد (٣) رسول الله ، ( قلنا : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، وأرادوا به كيدا ، فجعلناهم الأخسرين ). اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل : اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك جبروتك ، إله الخلق (٤). آمين ».

قال المروزي : « وقرئ (٥) على أبى عبد الله ـ وأنا أسمع ـ : حدثنا أبو المنذر عمرو بن مجمع : حدثنا يونس بن حبان ، قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي ، أن أعلق التعويذ ، قال : إن كان من كتاب الله أو كلام عن نبي الله ، فعلقه واستشف به ما استطعت. قلت : أكتب هذه من حمى الربع : باسم الله وبالله ومحمد رسول الله ( إلى آخره )؟ قال :؟ ى نعم ».

__________________

(١) واحد الأمعاء كما في المختار ، والنهاية ٤ / ١٠١. ورسم في الأصل والزاد بالألف.

(٢) بالزاد : وعجز. ولعله مصحف عما في الأصل.

(٣) كذا بالأصل ، وطب الذهبي (١٥٠ بهامش التسهيل) ، والاحكام النبوية للحموي ٢ / ٣٩. وبالزاد : محمد.

(٤) بالزاد وطب الذهبي : الحق. وفى الاحكام : يامن له الحلق.

(٥) بالزاد : وقرأ ... وأنا أسمع أبو المنذر.


وذكر الإمام أحمد ـ عن عائشة رضي الله عنها ، وغيرها ـ : أنهم سهلوا في ذلك. قال حرب : « ولم يشدد فيه أحمد بن حنبل ». قال أحمد : « وكان ابن مسعود يكرهه كراهة شديدة جدا ». وقال أحمد ـ وقد سئل ( عن ) (١) التمائم تعلق بعد نزول البلاء؟ قال : « أرجو أن لا يكون به بأس ». قال الخلال : وحدثنا عبد الله بن أحمد ، قال : « رأيت أبى يكتب التعويذ للذي يفزع ، وللحمى بعد وقوع البلاء ».

( كتاب لعسر الولادة ). قال الخلال : حدثني عبد الله بن أحمد ، قال : رأيت أبى يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها ـ في جام أبيض ، أو شئ نظيف ـ يكتب حديث ابن عباس رضي الله عنهما (٢) : « لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، ( الحمد لله رب العالمين ) ، (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) ، (كأنهم يوم يرون ما يوعدون ، لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ، بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) ».

قال الخلال : أنبأنا أبو بكر المروزي : « أن أبا عبد الله جاءه رجل ، فقال : يا أبا عبد الله ، تكتب لامرأة قد (٣) عسر عليها ولدها منذ يومين؟ فقال : قل له يجئ بجام واسع وزعفران. ورأيته يكتب لغير واحد ». ويذكر عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : « مر عيسى ـ صلى الله على نبينا وعليه وسلم ـ على بقرة : وقد (٤) اعترض ولدها في بطنها ، فقالت : يا كلمة الله ، ادع الله لي أن يخلصني مما أنا فيه. فقال : يا خالق النفس من النفس ، ويا مخلص النفس من النفس ، ويا مخرج النفس من النفس : خلصها. ( قال ) : فرمت بولدها ، فإذا هي قائمة تشمه. ( قال ) : فإذا عسر على المرأة ولدها ، فاكتبه لها ».

وكل ما (٥) تقدم من الرقي ، فإن كتابته نافعة. ورخص جماعة من السلف في كتابة

__________________

(١) زيادة عن الزاد. وراجع في هذا البحث : طب الذهبي ١٤٨.

(٢) بالزاد : « عنه ... كأنهم يوم يرون ما يوعدون ... بلاغ. كأنهم يوم يرونها ... أو ضحاها ». وانظر : أحكام الحموي ٢ / ٤١ ، وطب الذهبي ١٤٧.

(٣) كذا بأحكام الحموي ٤٢ ، ولفظها : ما تكتب إلخ. وفى الأصل والزاد : وقد. وهو تحريف.

(٤) كذا بالأصل وأحكام الحموي. وفى الزاد : قد. وكل صحيح.

(٥) بالأصل والزاد : وكلما. ولعله رسم قديم.


بعض القرآن وشربه ، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه.

( كتاب أحر لذلك ). يكتب في إناء نظيف : ( إذا السماء انشقت ، وأذنت لربها وحقت ، وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ) ، وتشرب منه الحامل ، ويرش على بطنها.

( كتاب للرعاف ) كان شيخ الاسلام ابن تيمية ـ قدس (١) الله روحه ـ يكتب على جبهته : ( وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ، ويا سماء اقلعي ، وغيض الماء ، وقضى الامر ). وسمعته يقول : « كتبتها لغير واحد ، فبرأ » ، فقال : « ولا يجوز كتابتها بدم الراعف ، كما يفعله الجهال. فإن الدم نجس : فلا يجوز أن يكتب به كلام الله تعالى ».

( كتاب آخر له ) : « خرج موسى عليه‌السلام برداء ، فوجد منبعا (٢) فسده بردائه. (يمحو الله ما يشاء ويثبت ، وعنده أم الكتاب) ».

( كتاب آخر للحزاز ). يكتب عليه : « ( فأصابها (٣) إعصار فيه نارفاحترقت ) بحول الله وقوته ».

( كتاب آخر له ). عند اصفرار الشمس ، يكتب عليه : ( يا أيها الذين آمنوا ، اتقوا الله وآمنوا برسوله : يؤتكم كفلين من رحمته ، ويجعل لكم (٤) نورا تمشون به ، ويغفر لكم. والله غفور رحيم ).

( كتاب آخر للحمى المثلثة ). يكتب على ثلاث ورقات لطاف : « باسم الله فرت ، باسم الله مرت ، باسم الله قلت » ، ويأخذ كل يوم ورقة ، ويجعلها في فمه ، ويبتلعها بماء.

( كتاب آخر لعرق النساء ) : « بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم رب كل شئ ، ومليك

__________________

(١) بالزاد : رحمه الله.

(٢) كذا بأحكام الحموي ٢ / ٤٣. وفى الأصل والزاد : « شعيبا فشده ». وهو تصحيف خطير اضطر ناشر مطبوعة حلب أن يثبت بآخر النص قوله : « هكذا في النسختين المطبوعة والمخطوطة ».

(٣) كذا بالزاد ١٨١ ، وأحكام الحموي ٤٢ ، وسورة البقرة : (٢٦٦) وصحف في الأصل بالواو.

(٤) كذا بالزاد والاحكام ٤٣ ، وسورة الحديد : (٢٨). وحرف في الأصل بلفظ : له.


كل شئ ، وخالق كل شئ ، أنت خلقتني ، وأنت خلقت (١) عرق النساء في ، فلا تسلطه علي بأذى ، ولا تسلطني عليه بقطع. واشفني شفاء لا يغادر سقما ، لا شافى إلا أنت ».

( كتاب للعرق الضارب ). روى الترمذي في جامعه ـ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ـ : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلمهم من الحمى ومن الأوجاع كلها ، أن يقولوا : باسم الله الكبير ، أعوذ بالله العظيم ، من شر عرق نعار ، ومن شر حر النار ».

( كتاب لوجع الضرس ). يكتب على الخد الذي يلي الوجع : « بسم الله الرحمن الرحيم ، ( قل : هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار ( والأفئدة ) (٢) ، قليلا ما تشكرون ) ». وإن شاء كتب : ( وله ما سكن في الليل والنهار ، وهو السميع العليم ).

( كتاب للخراج ). يكتب عليه : ( ويسألونك عن الجبال ، فقل : ينسفها ربى نسفا ، فيذرها قاعا صفصفا ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ).

٢ ـ ( كمأة ). ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين ». أخرجاه في الصحيحين.

قال ابن الاعرابى : « الكمأة جمع واحده : « كمء ». وهذا خلاف قياس العربية : فإن ما بينه وبين واحده التاء ، فالواحد منه بالتاء. وإذا حذفت كان للجمع. وهل هو جمع؟ أو اسم جمع؟ على قولين مشهورين. قالوا : ولم يخرج عن هذا إلا حرفان : كمأة وكمء ، وخبأة وخبء ». وقال غير ابن الاعرابى : « بل هي على القياس : الكمأة للواحد ، والكمء للكثير ». وقال غيرهما : « الكمأة تكون واحدا وجمعا ».

واحتج أصحاب القول الأول : « بأنهم قد جمعوا (كمأ) (٣) على (أكمؤ) ، قال الشاعر :

__________________

(١) بالزاد : خلقت النساء فلا. وانظر أحكام الحموي ٢ / ٤٠.

(٢) الزيادة عن الزاد ، وسورة الملك : (٢٣). وانظر الاحكام.

(٣) كذا بالأصل ، وهو المراد. والغرض إبطال أن الكمء جمع. لان « أكمؤا » جمع قلة. وفى الزاد : كمأة. وهو تحريف وخطأ لا يصح الاحتجاج به إلا لأصحاب المذهب الثالث. فتأمل ، وراجع : اللسان ١ / ١٤٣ ـ ١٤٤ ، والقاموس ١ / ٢٦ ـ ٢٧ ، وأحكام الحموي ١ / ٦٨.


ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

وهذا يدل على أن كمأ (١) مفرد ، وكمأة جمع.

والكمأة تكون في الأرض من غير أن تزرع. وسميت كمأة : لاستتارها. ومنه « كمأ الشهادة » : إذا سترها وأخفاها. والكمأة مختفية (٢) تحت الأرض ، لا ورق لها ولا ساق.

ومادتها من جوهر أرضى بخارى ، محتقن في الأرض نحو سطحها : يحتقن ببرد الشتاء ، وتنميه أمطار الربيع ، فيتولد ويندفع نحو سطح الأرض متجسدا. ولذلك يقال لها : جدري الأرض ، تشبيها بالجدري في صورته ومادته : لان مادته رطوبة (٣) دموية تندفع (٤) عند سن الترعرع في الغالب ، وفى ابتداء استيلاء الحرارة ونماء القوة.

وهى مما يوجد في الربيع ، ويؤكل نيئا ومطبوخا. وتسميها العرب : نبات الرعد ، لأنها تكثر بكثرته ، وتنفطر عنها الأرض. وهى من أطعمة أهل البوادي ، وتكثر بأرض العرب. وأجودها : ما كانت أرضها رملية قليلة الماء. وهى أصناف ، منها : صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة. يحدث لأجله الاختناق.

وهى باردة رطبة في الدرجة الثالثة ، رديئة للمعدة ، بطيئة الهضم. وإذا أدمنت أورثت القولنج والسكتة والفالج ، ووجع المعدة ، وعسر البول. والرطبة أقل ضررا من اليابسة.

ومن أكلها فليدفنها في الطين الرطب ، ويسلقها (٥) بالماء والملح والصعتر ، ويأكلها بالزيت والتوابل الحارة. لان جوهرها أرضى غليظ ، وغذاءها (٦) ردئ ، لكن فيها جوهر مائي لطيف يدل على خفتها. والاكتحال بها نافع من ظلمة البصر ، والرمد الحار.

__________________

(١) رسم بالأصل والزاد هكذا : كمء. ولعله على سبيل الحكاية.

(٢) بالزاد : مخفية.

(٣) كذا بالزاد وأحكام الحموي ١ / ٦٩. وفى الأصل : مادة رطوبته. وهو تحريف.

(٤) بالزاد : فتندفع.

(٥) بالأصل : ويصقلها. وبالزاد : ويصلقها. وكلاهما تصحيف على ما في المختار والمصباح. ولفظ الاحكام : وتسلق.

(٦) بالزاد والاحكام : وغذاؤها. وكل صحيح.


وقد اعترف فضلاء الأطباء : بأن ماءها يجلو العين. وممن ذكره المسيحي وصاحب القانون ، وغيرهما.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « الكمأة من المن » ، فيه قولان :

( أحدهما ) : أن المن الذي أنزل على بني إسرائيل لم يكن هذا الحلو فقط ، بل أشياء كثيرة من الله عليهم بها : من النبات الذي يوجد عفوا من غير صنعة ولا علاج ولا حرث. فإن « المن » مصدر بمعنى المفعول ، أي : ممنون به. فكل ما رزقه الله العبد عفوا بغير كسب منه ولا علاج ، فهو من من الله تعالى عليه : لأنه لم يشبه كسب العبد ، ولم يكدره تعب العمل. فهو من محض : وإن كانت سائر نعمه منا منه على عبده ، فخص منها مالا كسب له فيه ولا صنع ، باسم المن : فإنه ( من ) (١) بلا واسطة العبد. وجعل سبحانه قوتهم (٢) بالتيه : الكمأة ، وهى تقوم مقام الخبز. وجعل أدمهم : السلوى ، وهو يقوم (٣) مقام اللحم. وجعل حلواهم : الطل الذي ينزل على الأشجار ، ( وهو ) (٤) يقوم لهم مقام الحلوى. فكمل عيشهم. وتأمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل » ، فجعلها من جملته وفردا من أفراده. والترنجبين ـ الذي يسقط على الأشجار ـ نوع من المن ، ثم غلب استعمال المن عليه عرفا حادثا.

( والقول الثاني ) : أنه شبه الكمأة بالمن المنزل من السماء ، لأنه يجمع من غير تعب ولا كلفة. ولا زرع بزر (٥) ولا سقى.

فإن قلت : فإذا كان هذا شأن الكمأة ، فما بال هذا الضرر فيها؟ ومن أين أتاها ذلك.

فاعلم أن الله سبحانه أتقن كل شئ صنعه ، وأحسن كل شئ خلقه ، فهو ـ عند مبدأ

__________________

(١) زيادة عن الزاد ١٨٢.

(٢) بالأحكام ١ / ٧٠ : قولهم. وهو تصحيف.

(٣) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وفى الأصل : وهى تقوم. ولعله تصحيف. والسلوى : طائر يشبه الحمامة ، ويطلق على العسل أيضا كما في المصباح.

(٤) زيادة حسنة لم ترد في الزاد أيضا.

(٥) كذا بالزاد والاحكام. وفى الأصل : بذر.


خلقه ـ برئ من الآفات والعلل ، تام المنفعة لما هيئ وخلق. وإنما تعرض له الآفات ـ بعد ذلك ـ بأمور أخر : من مجاورة ، أو امتزاج واختلاط ، أو أسباب أخر تقتضى فساده. فلو ترك على خلقته الأصلية ، من غير تعلق أسباب الفساد به ، لم يفسد.

ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه ، يعرف أن جميع الفساد ـ في جوه ونباته وحيوانه ، وأحوال أهله ـ حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه. ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم ، من الفساد العام والخاص ، ما يجلب عليهم ـ : من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين ، والقحوط والجدوب ، وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها ، وسلب منافعها أو نقصانها. ـ أمورا متتابعة يتلو بعضها بعضا.

فإن لم يتسع علمك لهذا ، فاكتف بقوله تعالى : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) ، ونزل هذه الآية على أحوال العالم ، وطابق بين الواقع وبينها. وأنت ترى : كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان ، وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة ، بعضها آخذ برقاب بعض. وكلما أحدث الناس ظلما وفجورا ، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى ـ : من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم ، وأهويتهم ومياههم ، وأبدانهم وخلقهم ، وصورهم وأشكالهم. ـ وأخلفهم (١) من النقص والآفات ، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.

ولقد كانت الحبوب من الحنطة وغيرها أكبر مما هي اليوم ، كما كانت البركة فيها أعظم. وقد روى الإمام أحمد بإسناده : « أنه وجد في خزائن بعض بنى أمية ، صرة فيها حنطة أمثال نوى التمر ، مكتوب عليها : هذا كان ينبت أيام العدل ». وهذه القصة ذكرها في مسنده على أثر حديث رواه.

وأكثر هذه الأمراض والآفات العامة ، بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة ، ثم

__________________

(١) هذا عطف على « أحدث ». وفى الأصل : واخلافهم. والزاد : وأخلاقهم. والظاهر أن أصله ما ذكرناه ، فتأمل.


بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم : حكما قسطا ، وقضاء عدلا. وقد أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذا ، بقوله في الطاعون : « إنه بقية رجز ـ أو عذاب ـ أرسل على بني إسرائيل ».

وكذلك : سلط الله سبحانه وتعالى الريح على قوم عاد (١) سبع ليال وثمانية أيام ، ثم أبقى في العالم منها بقية في تلك الأيام ، أو في نظيرها ـ : عظة وعبرة.

وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم ، اقتضاء لا بد منه : فجعل منع الاحسان والزكاة والصدقة ، سببا لمنع الغيث من السماء والقحط والجدب. وجعل ظلم المساكين ، والبخس في المكاييل والموازين ، وتعدى القوى على الضعيف ـ سببا لجور الملوك والولاة : الذين لا يرحمون إن استرحموا ، ولا يعطفون إن استعطفوا ، وهم ـ في الحقيقة ـ أعمال الرعايا : ظهرت في صور ولاتهم. فإن الله سبحانه ، بحكمته وعدله ، يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبهم : فتارة بقحط وجدب ، وتارة بعدو. وتارة بولاة جائرين ، وتارة بأمراض عامة ، وتارة بهموم وآلام وغموم تحصرها (٢) نفوسهم لا ينفكون عنها ، وتارة بمنع بركات السماوات والأرض عنهم ، وتارة بتسليط الشياطين عليهم ، تؤزهم إلى أسباب العذاب أزا : لتحق عليهم الكلمة ، وليصير كل منهم إلى ما خلق له.

والعاقل يسير بصيرته بين أقطار العالم : فيشاهده ، وينظر مواقع عدل الله وحكمته. وحينئذ : يتبين ( له ) (٣) أن الرسل وأتباعهم خاصة على سبيل النجاة ، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون ، وإلى (٤) دار البوار صائرون. والله بالغ أمره ، لا معقب لحكمه (٥) ولا راد لامره. وبالله التوفيق.

__________________

(١) هذا ليس بالزاد.

(٢) أي : تضيق بها ، ولا تقدر على التخلص منها. على حد قوله تعالى ، (حصرت صدورهم : ٤ / ٩٠) انظر المختار. وفى الأصل والزاد : ١٨٣ تحضرها (بالمعجمة). وهو تصحيف.

(٣) زيادة عن الزاد ١٨٣.

(٤) بالزاد : إلى. وهو تحريف وإن كانت صحة الكلام لا تتوقف على زيادة الواو.

(٥) راجع : سورة الرعد (٤١) ، والطلاق (٣).


( فصل ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكمأة : « وماؤها شفاء للعين » ، فيه ثلاثة أقوال :

( أحدها ) (١) : أن ماءها يخلط في الأدوية التي يعالج بها العين ، لا أنه يستعمل وحده. ذكره أبو عبيد.

( الثاني ) : أنه يستعمل بحتا (٢) بعد شبها ، واستقطار مائها. لان النار تلطفه وتنضجه ، وتذيب فضلاته ورطوبته المؤذية ، ويبقى (٣) النافع.

( الثالث ) : أن المراد بمائها الماء الذي يحدث به : من المطر ، وهو أول قطر ينزل إلى الأرض. فتكون الإضافة إضافة اقتران ، لا إضافة جزء. ذكره ابن الجوزي. وهو أبعد الوجوه وأضعفها.

وقيل : إن استعمل ماؤها لتبريد ما في العين ، فماؤها مجردا شفاء. وإن كان لغير ذلك ، فمركب مع غيره.

وقال الغافقي : « ماء الكمأة أصلح الأدوية للعين : إذا عجن به الأثمد ، واكتحل به. ويقوى أجفانها ، ويزيد الروح الباصرة (٤) قوة وحدة ، ويدفع عنها نزول النوازل ».

٣ ـ ( كباث ). في الصحيحين ـ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ـ قال : « كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجنى الكباث ، فقال عليكم بالأسود منه ، فإنه أطيبه ».

الكباث ( بفتح الكاف والباء الموحدة المخففة ، والثاء المثلثة ) : ثمر الأراك. وهو بأرض الحجاز ، وطبعه حار يابس. ومنافعه كمنافع الأراك : يقوى المعدة ، ويجيد الهضم ، ويجلو البلغم ، وينفع من أوجاع الظهر ، وكثير من الأدواء. وقال ابن جلجل : « إذا شرب طبيخه (٥) : أدر البول ، ونقى المثانة ». وقال ابن رضوان : « يقوى المعدة ، ويمسك الطبيعة ».

__________________

(١) بالأصل : أحدهما. وهو تحريف.

(٢) أي : صرفا ليس معه غيره. وفى الاحكام : نحتا. وهو تصحيف.

(٣) بالزاد : وتبقى. وكل صحيح.

(٤) كذا بالزاد. وهو الملائم. وبالأصل والاحكام ٢ / ٨٣ : الباصر.

(٥) كذا بالأصل والاحكام ٢ / ٨٤. وفى الزاد : طحينه. ولعله تصحيف.


٤ ـ ( كتم ). روى البخاري في صحيحه ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال : « دخلنا على أم سلمة رضي الله عنها ، فأخرجت إلينا شعرا من شعر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا هو مخضوب بالحناء والكتم ». وفى السنن الأربعة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « إن أحسن ما غيرتم به الشيب ، الحناء والكتم ».

وفى الصحيحين ـ عن أنس رضي الله عنه ـ : « أن أبا بكر رضي الله عنه اختضب بالحناء والكتم ». وفى سنن أبي داود ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : « مر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل قد خضب بالحناء ، فقال : ما أحسن هذا! فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم ، فقال : هذا أحسن من هذا. فمر آخر قد خضب بالصفرة ، وقال : هذا أحسن من هذا كله ».

قال الغافقي : « الكتم نبت ينبت بالسهول ، ورقه قريب من ورق الزيتون ، يعلو فوق القامة. وله ثمر قدر حب الفلفل في داخله نوى : إذا رضخ اسود. وإذا استخرجت عصارة ورقه ، وشرب منها قدر أوقية : قيأ قيئا شديدا ، وينفع من عضة الكلب. وأصله إذا طبخ بالماء : كان منه مداد (١) يكتب به ». وقال الكندي : « بزر الكتم إذا اكتحل به : حلل الماء النازل في العين وأبرأها ».

وقد ظن بعض الناس : أن الكتم هو الوسمة ، وهى : ورق النيل. وهذا وهم : فإن الوسمة غير الكتم. قال صاحب الصحاح (٢) : « الكتم (بالتحريك) : نبت يخلط بالوسمة ، يختضب به ». قيل : والوسمة نبات له ورق طويل يضرب لونه إلى الزرقة ، أكبر من ورق الخلاف ، يشبه ورق اللوبيا. (٣) وأكبر منه ، يؤتى به من الحجاز واليمن.

فإن قيل : قد ثبت في الصحيح ، عن أنس رضي الله عنه ، أنه قال : « لم يختضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ».

__________________

(١) كذا بالأصل والاحكام ٢ / ٨٥. وفى الزاد : مدادا. وهو تحريف.

(٢) ٢ / ٣٢٨ (بولاق أولى). وذكر في الاحكام.

(٣) بالزاد : اللوبيا (بالقصر). وكل صحيح على ما في المصباح : ( لوب ).


قيل : قد أجاب الامام (١) أحمد بن حنبل عن هذا ، وقال : « قد شهد به غير أنس ـ رضي الله عنه ـ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه خضب. وليس من شهد ، بمنزلة من لم يشهد ». فأحمد أثبت خضاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومعه جماعة من المحدثين ـ ومالك أنكره.

فإن قيل : قد ثبت في صحيح مسلم النهى عن الخضاب بالسواد ، في شأن أبى قحافة ، لما أتى به : ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا ، فقال : غيروا هذا الشيب ، وجنبوه السواد ». والكتم يسود الشعر.

فالجواب من وجهين : ( أحدهما ) : أن النهى عن التسويد البحت ، فأما إذا أضيف إلى الحناء شئ آخر ـ كالكتم ونحوه ـ فلا بأس به. فإن الكتم والحناء يجعل الشعر بين الأحمر والأسود ، بخلاف الوسمة : فإنها تجعله أسود فاحما. وهذا أصح الجوابين.

( الجواب الثاني ) : أن الخضاب بالسواد المنهى عنه خضاب التدليس : كخضاب شعر الجارية والمرأة الكبيرة : تغر الزوج والسيد بذلك. وخضاب الشيخ يغر المرأة بذلك. فإنه من الغش والخداع. فأما إذا لم يتضمن تدليسا ولا خداعا ، فقد صح عن الحسن والحسين رضي الله عنهما : أنهما كانا يخضبان بالسواد. ذكر ذلك ابن جرير عنهما ، في كتاب تهذيب الآثار. وذكره عن عثمان بن عفان ، وعبد الله بن جعفر ، وسعد بن أبي وقاص ، وعقبة ابن عامر ، والمغيرة بن شعبة ، وجرير بن عبد الله ، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين. وحكاه عن جماعة من التابعين ، منهم : عمرو بن عثمان ، وعلي بن عبد الله بن عباس ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعبد الرحمن بن الأسود ، وموسى بن طلحة ، والزهري ، وأيوب ، وإسماعيل بن معد يكرب رضي الله عنهم أجمعين. وحكاه ابن الجوزي عن محارب بن دثار ، ويزيد ، وابن جريج ، وأبى يوسف ، وأبى إسحق ، وابن أبي ليلى ، وزياد بن علاقة ، وغيلان بن جامع ، ونافع بن جبير ، وعمرو بن علي المقدمي ، والقاسم بن سلام رضي الله عنهم أجمعين.

__________________

(١) هذا ليس بالزاد.


٥ ـ ( كرم ) : شجرة العنب ، وهى الحبلة. ويكره تسميتها كرما ، لما روى مسلم في صحيحه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « لا يقولن أحدكم للعنب الكرم ، الكرم : الرجل المسلم » ، وفى رواية : « إنما الكرم : قلب المؤمن « وفى أخرى. لا تقولوا الكرم ، وقولوا : العنب والحبلة ».

وفى هذا معنيان : ( أحدهما ) : أن العرب كانت تسمى شجرة العنب الكرم : لكثرة منافعها وخيرها. فكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسميتها باسم يهيج النفوس على محبتها ومحبة ما يتخذ منها : من المسكر ، وهو أم الخبائث. فكره أن يسمى أصله بأحسن الأسماء وأجمعها للخير.

( والثاني ) أنه من باب قوله : « ليس الشديد بالصرعة ، وليس المسكين بالطواف » ، أي : أنكم تسمون شجرة العنب كرما لكثرة منافعه ، وقلب المؤمن أو الرجل المسلم أولى بهذا الاسم منه : فإن المؤمن خير كله ونفع. فهو من باب التنبيه والتعريف لما في قلب المؤمن : من الخير والجود ، والايمان والنور ، والهدى والتقوى ، والصفات التي يستحق بها هذا الاسم أكثر من استحقاق الحبلة له.

وبعد : فقوة الحبلة باردة يابسة ، وورقها وعلائقها وعروشها (١) مبرود [ ة ] في آخر الدرجة الأولى. وإذا دقت وضمد بها من الصداع : سكنته ، ومن الأورام الحارة ، والتهاب المعدة.

وعصارة قضبانه إذا شربت : سكنت القئ ، وعقلت البطن. وكذلك : إذا مضغت قلوبها الرطبة. وعصارة ورقها تنفع من قروح الأمعاء ، ونفث الدم وقيئه ، ووجع المعدة. ودمعة (٢) شجره ـ الذي يحمل على القضبان ـ كالصمغ : إذا شربت أخرجت الحصاة وإذا لطخ بها : أبرأت القوب (٣) والجرب المتقرح وغيره. وينبغي غسل العضو ـ قبل

__________________

(١) جمع عرش. وهو ـ كالعريش ـ : ما يعمل مرتفعا يمتد عليه الكرم. وجمع الثاني : عرائش ، وعرش ( بضمتين ). انظر المختار والمصباح وبالأصل والزاد ١٨٤. وعرموشها. وهو محرف عما ذكرنا ، وجوزق أن يكون محرفا عن العرهوم : العرجون. ولفظ الاحكام ٢ / ٨٦ : وعساليجه. والزيادة عنها.

(٢) كذا بالأحكام. وفى الأصل والزاد : ودمع. وهو تحريف

(٣) جمع قوباء ، كما في المختار. وبالأصل والزاد : قوبى. وبالاحكام : القوابى. وكل تحريف. انظر هامش ما تقدم : ( ص ٢٥٢ ).


استعمالها ـ بالماء والنطرون. وإذا تمسح (١) بها مع الزيت : حلقت (٢) الشعر.

ورماد قضبانه إذا تضمد به مع الخل ودهن الورد والسذاب (٣) : نفع من الورم العارض في الطحال. وقوة دهن زهرة الكرم قابضة : شبيهة بقوة دهن الورد. ومنافعها كثيرة قريبة من منافع النخلة.

٦ ـ ( كرفس ) روى في حديث لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « من أكله ثم نام عليه ، نام : ونكهته طيبة ، وينام آمنا من وجع الأضراس والأسنان ».

وهذا باطل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن البستاني منه يطيب النكهة جدا. وإذا علق أصله في الرقبة : نفع من وجع الأسنان.

وهو حار يابس وقيل : رطب. مفنح لسدد الكبد والطحال. وورقه رطبا ينفع المعدة والكبد البارد ، ويدر البول والطمث ، ويفتت الحصاة وحبه أقوى في ذلك ، ويهيج الباه وينفع من البخر قال الرازي : « وينبغي أن يجتنب أكله : إذا خيف من لدغ العقارب ».

٧ ـ ( كراث ). فيه حديث لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بل هو باطل موضوع ـ : « من أكل الكراث ثم نام عليه : نام آمنا من ريح البواسير ، واعتزله الملك ـ لنتن نكهته ـ حتى يصبح ».

وهو نوعان : نبطي وشام. فالنبطي هو (٤) : البقل الذي يوضع على المائدة والشامي : الذي له رؤوس. وهو حار يابس مصدع. وإذا طبخ وأكل (٥) أو شرب ماؤه : نفع من البواسير الباردة وإن سحق بزره ، وعجن بقطران ، وبخرت به الأضراس التي فيها الدود ـ : نثرها وأخرجها ، ويسكن الوجع العارض فيها. وإذا دخنت المقعدة ببزره : جففت (٦) البواسير. هذا كله في الكراث النبطي.

__________________

(١) بالأحكام : مسح. وكل صحيح على ما في المصباح والمختار.

(٢) كذا بالزاد والاحكام. وفى الأصل : أخلفت. وعلله تحريف.

(٣) بالزاد : والسداب ( بالمهملة ). وهو تصحيف ، على ما في القاموس : ١ / ٨١.

(٤) هذا ليس بالزاد ١٨٥.

(٥) بالأصل بعد ذلك زيادة : « وشرب ». وهى من عبث الناسخ أو الطابع. وانظر : الاحكام ٢ / ٨٧.

(٦) بالزاد. خفت!. وبالاحكام ٢ / ٨٧ : جفف.


وفيه ـ مع ذلك ـ : فساد الأسنان واللثة ، ويصدع ويرى أحلاما رديئة ، ويظلم البصر ، وينتن النكهة. وفيه : إدرار للبول والطمث ، وتحريك للباه. وهو بطئ الهضم.

حرف اللام

١ ـ ( لحم ) قال الله تعالى : ( وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون ). وقال ( ولحم طير مما يشتهون ). وفى سنن ابن ماجة ـ من حديث أبي الدرداء ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة : اللحم » ، ومن حديث بريدة ( يرفعه ) (١) : « خير الادام في الدنيا والآخرة : اللحم ».

وفى الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « فضل عائشة على النساء ، كفضل الثريد على سائر الطعام ».

و ( الثريد ) : الخبز واللحم. قال الشاعر :

إذا ما الخبز تأدمه بلحم :

فذاك ـ أمانة الله ـ الثريد

وقال الزهري : « أكل اللحم يزيد سبعين قوة ». وقال محمد بن واسع : « اللحم يزيد في البصر ». ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : « كلوا اللحم : فإنه يصفى اللون ، ويخمص البطن ، ويحسن الخلق ». وقال نافع : « كان ابن عمر : إذا كان رمضان لم يفته اللحم ، وإذا سافر لم يفته اللحم ». ويذكر عن علي رضي الله عنه : « من تركه أربعين يوما (٢) ساء خلقه ».

وأما حديث عائشة رضي الله عنها ـ الذي رواه أبو داود مرفوعا ـ : « لا تقطعوا اللحم

__________________

(١) زيادة عن الزاد ، قد ورد ما يؤيدها في الاحكام ٢ / ٨٨.

(٢) كذا بالأصل والاحكام ٢ / ٩٤. وفى الزاد : ليلة.

(١٩ ـ الطب النبوي)


بالسكين : فإنه من صنع (١) الأعاجم ، وانهشوه نهشا : فإنه أهنأ وأمرأ (٢) » ، فرده الإمام أحمد بما صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : من قطعه بالسكين. ـ في حديثين. وقد تقدما (٣).

واللحم أجناس يختلف باختلاف أصوله وطبائعه. فنذكر حكم كل جنس وطبعه ، ومنفعته ومضرته.

( لحم الضأن ) : حار في الثانية ، رطب في الأولى. جيده الحولي : يولد الدم المحمود المقوى (٤) لمن جاد هضمه. يصلح لأصحاب الأمزجة الباردة والمعتدلة (٥) ، ولأهل الرياضات التامة ، في المواضع والفصول الباردة. نافع لأصحاب المرة السوداء يقوى الذهن والحفظ. ولحم الهرم والعجف (٦) ردئ ، وكذلك لحم النعاج.

وأجوده : لحم الذكر الأسود منه. فإنه أخف وألذ وأنفع. والخصي أنفع وأجود. والأحمر من الحيوان السمين أخف وأجود غذاء والجذع من المعز أقل تغذية ، ويطفو في المعدة.

وأفضل اللحم : عائذه بالعظم. والأيمن أخف وأجود من الأيسر ، والمقدم أفضل من المؤخر. وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقدمها. وكل ما علا منه ـ سوى الرأس ـ كان أخف وأجود مما سفل. وأعطى الفرزدق رجلا يشترى له لحما ، وقال له : « خذ المقدم ، وإياك والرأس والبطن : فإن الداء فيهما ».

__________________

(١) كذا بالأصل والاحكام ٩٣. وفى الزاد ، وسنن أبي داود ٣ / ٣٤٩ والفتح الكبير ٣ / ٣٣٣ : صنيع.

(٢) كذا بالسنن والفتح والاحكام. وفى الأصل والزاد : أهنى وأمري. ولعله من باب التسهيل. وانظر ما تقدم : (ص ١٧٩).

(٣) انظر صفحة : ٢٥٥.

(٤) كذا بالأحكام ٢ / ٨٨. وبالأصل والزاد : القوى. وهو تحريف.

(٥) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وبالأصل : المعتدلة.

(٦) هذا هو الظاهر الملائم ، والمذكور في اللسان ١١ / ١٣٨ وبالأصل والزاد والاحكام : والعجيف. وقال ق : هو الهزيل وزنا ومعنى!.


ولحم العنق جيد لذيذ ، سريع الهضم خفيف. ولحم الذراع أخف اللحم وألذه وألطفه وأبعده من الأذى ، وأسرعه انهضاما. وفى الصحيحين : « أنه كان يعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ».

ولحم الظهر كثير الغذاء ، يولد دما محمودا. وفى سنن ابن ماجة مرفوعا : « أطيب اللحم : لحم الظهر ».

( فصل ) لحم المعز : قليل الحرارة يابس. وخلطه المتولد منه ليس بفاضل ، وليس بجيد الهضم ، ولا محمود الغذاء ولحم التيس : ردئ مطلقا ، شديد اليبس ، عسر الانهضام ، مولد للخلط السوداوي.

قال الجاحظ (١) : قال لي فاضل من الأطباء : « يا أبا عثمان ، إياك ولحم المعز : فإنه يورث الغم ، ويحرك السواد ، ويورث النسيان ، ويفسد الدم. وهو ـ والله يخبل (٢) الأولاد ».

وقال بعض الأطباء : « إنما المذموم منه : المسن ولا سيما للمسنين. ولا رداءة فيه لمن اعتاده ». وجالينوس جعل الحولي منه ، من الأغذية المعتدلة المعدلة للكيموس المحمود. وإناثه أنفع من ذكوره. وقد روى النسائي في سننه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « أحسنوا لي الماعز ، وأميطوا عنها الأذى : فإنها من دواب الجنة ». وفى ثبوت هذا الحديث نظر.

وحكم الأطباء عليه بالمضرة : حكم جزئي ، ليس بكلى عام وهو بحسب المعدة الضعيفة ، والأمزجة الضعيفة التي لم تعتده واعتادت المأكولات اللطيفة. وهؤلاء : أهل الرفاهية من أهل المدن. وهم القليلون من الناس.

( لحم الجدي ) : قريب إلى الاعتدال ، خاصة ما دام رضيعا ولم يكن قريب العهد بالولادة. وهو أسرع هضما ، لما فيه : من قوة اللبن. ملين للطبع ، موافق لأكثر الناس في

__________________

(١) بالأحكام ٢ / ٩٠ : عثمان البقري. وهو تحريف عجيب. والنص في الحيوان : ٥ / ٤٦١ (ط الحلبي). واسم الطبيب : شمئون.

(٢) بالأحكام : يختل. وهو تصحيف.


أكثر الأحوال. وهو ألطف من لحم الجمل. والدم المتولد عن معتدل.

( لحم البقر ) : بارد يابس ، عسر الانهضام ، بطئ الانحدار ، يولد دما سوداويا ، لا يصلح إلا لأهل الكد والتعب الشديد. ويورث إدمانه الأمراض السوداوية : كالبهق والجرب ، والقوب (١) والجذام ، وداء الفيل والسرطان ، والوسواس ، وحمى الربع ، وكثير من الأورام. وهذا لمن لم يعتده ، أو لم يدفع ضرره بالفلفل والثوم والدار صيني والزنجبيل ونحوه. وذكره أقل برودة ، وأنثاه أقل يبسا.

ولحم العجل ـ ولا سيما السمين ـ : من أعدل الأغذية وأطيبها ، وألذها وأحمدها. وهو حار رطب. وإذ انهضم : غذى غذاء قويا.

( لحم الفرس ). ثبت في الصحيح ، عن أسماء رضي الله عنها ، قالت : « نحرنا فرسا فأكلناه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ». وثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أنه أذن في لحوم الخيل ، ونهى عن لحوم الحمر ». أخرجاه في الصحيحين.

ولا يثبت عنه حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه : « أنه نهى عنه ». قاله أبو داود وغيره من أهل الحديث. واقترانه بالبغال والحمير في القرآن : لا يدل على أن حكم لحمه حكم لحومها بوجه من الوجوه ، كما لا يدل على أن حكمها في السهم في الغنيمة حكم الفرس. والله سبحانه يقرن في الذكر بين المتماثلات تارة ، وبين المختلفات ، وبين المتضادات. وليس في قوله : ( لتركبوها ) ، ما يمنع من أكلها. كما ليس فيه ما يمنع من غير الركوب : من وجوه الانتفاع. وإنما نص على أجل منافعها ، وهو : الركوب. والحديثان في حلها صحيحان ، لا معارض لهما.

وبعد : فلحمها حار يابس ، غليظ سوداوي ، مضر لا يصلح للأبدان اللطيفة.

( لحم الجمل ) : فرق ما بين الرافضة وأهل السنة ، كما أنه أحد الفروق بين اليهود وأهل الاسلام. فاليهود والرافضة تذمه ولا تأكله. وقد (٢) علم ـ بالاضطرار من دين الاسلام ـ حله. وطالما أكله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه : حضرا وسفرا.

__________________

(١) بالأصل والزاد ١٨٦ : القوبي. وبالاحكام ٩١ : القوباء. وانظر ما تقدم : (ص ٢٨٧).

(٢) بالزاد ١٨٦ : قد. ولا يبعد تحريفه.


ولحم الفصيل منه : من ألذ اللحوم وأطيبها ، وأقواها غذاء. وهو لمن اعتاده بمنزلة لحم الضأن : لا يضرهم البتة ، ولا يولد لهم داء. وإنما ذمه بعض الأطباء بالنسبة إلى أهل الرفاهية : من أهل الحضر الذين لم يعتادوه. فإن فيه حرارة ويبسا ، وتوليدا للسوداء. وهو عسر الانهضام.

وفيه قوة غير محمودة ، لأجلها أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالوضوء من أكله ، في حديثين صحيحين : لا معارض لهما. ولا يصح تأويلهما بغسل اليد : لأنه خلاف المعهود من الوضوء في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لتفريقه بينه وبين لحم الغنم : فخير بين الوضوء وتركه منها ، وحتم الوضوء من لحوم الإبل. ولو حمل الوضوء على غسل اليد فقط ، لحمل على ذلك قوله : « من مس فرجه فليتوضأ ».

( وأيضا ) : فإن آكلها قد لا يباشر أكلها بيده : بأن يوضع في فمه. فإن كان وضوءه غسل يده ، فهو : عبث ، وحمل لكلام الشارع على غير معهوده وعرفه!!.

ولا يصح معارضته بحديث : « كان آخر الامرين من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ترك الوضوء مما مست النار » ، لعدة أوجه :

( أحدها ) : أن هذا عام ، والامر بالوضوء منها خاص.

( الثاني ) : أن الجهة مختلفة ، فالامر بالوضوء منها : بجهة كونها لحم إبل ، سواء كان نيئا ، أو مطبوخا ، أو قديدا. ولا تأثير للنار في الوضوء. أما ترك الوضوء مما مست النار ، ففيه بيان أن مس النار ليس بسبب للوضوء. فأين أحدهما من الاخر؟ هذا فيه إثبات سبب الوضوء ، وهو : كونه لحم الإبل. وهذا فيه نفى لسبب الوضوء ، وهو كونه ممسوس النار. فلا تعارض بينهما بوجه.

( الثالث ) : أن هذا ليس فيه حكاية لفظ عام عن صاحب الشرع ، وإنما هو إخبار عن واقعة فعل في أمرين : أحدهما متقدم على الاخر ، كما جاء ذلك مبينا في نفس الحديث : « أنهم قربوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحما ، فأكل. ثم حضرت الصلاة ، فتوضأ وصلى. ثم قربوه


إليه فأكل. ثم صلى ولم يتوضأ. فكان آخر الامرين منه ترك الوضوء مما مست النار ». هكذا جاء الحديث. فاختصره الراوي : لمكان الاستدلال. فأين في هذا ما يصلح لنسخ الامر بالوضوء منه؟ حتى لو كان لفظا عاما متأخرا مقاوما : لم يصلح للنسخ ، ووجب تقديم الخاص عليه. وهذا في غاية الظهور!!.

( لحم الضب ). تقدم الحديث في حله (١). ولحمه حار يابس ، يقوى شهوة الجماع.

( لحم الغزال ). الغزال : أصلح الصيد ، وأحمده لحما. وهو حار يابس. وقيل : معتدل جدا ، نافع للأبدان المعتدلة الصحيحة. وجيده : الخشف.

( لحم الضبي ) : حار يابس في الأولى ، مجفف للبدن ، صالح للأبدان الرطبة.

قال صاحب القانون : « وأفضل لحوم الوحش : لحم الظبي ، مع ميله إلى السوداوية ».

( لحم الأرنب ). ثبت في الصحيحين ، عن أنس بن مالك ، قال : « أنفجنا أرنبا ، فسعوا في طلبها ، فأخذوها فبعث أبو طلحة بوركها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقبله ».

لحم الأرنب : معتدل إلى الحرارة واليبوسة. وأطيبها ، وركها. وأحمد (٢) لحمها : ما أكل مشويا. وهو يعقل البطن ، ويدر البول ، ويفتت الحصى. وأكل رؤوسها. ينفع من الرعشة.

( لحم حار الوحش ). ثبت في الصحيحين ـ من حديث أبي قتادة رضي الله عنه ـ : « أنهم كانوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض عمرة ، وأنه صاد حمار وحش ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأكله : وكانوا محرمين ، ولم يكن أبو قتادة محرما ».

وفى سنن ابن ماجة ، عن جابر ، قال : « أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر (٣) الوحش ».

ولحمه (٤) : حار يابس ، كثير التغذية ، مولد دما غليظا سوداويا. إلا أن شحمه نافع ـ

__________________

(١) راجع صفحة : ١٧٠ و ٢٥٩.

(٢) بالزاد ١٨٧ : وأحمد ما أكل لحمها مشويا. وكل صحيح. وانظر : الاحكام ٢ / ٩٣.

(٣) كذا بالأصل والاحكام ، وسنن ابن ماجة ٢ / ١٤٩. وبالزاد. وحمير.

(٤) بالزاد : لحمه.


مع دهن القسط ـ لوجع الضرس (١) ، والريح الغليظة المرخية للكلي. وشحمه جيد للكلف طلاء. بالجملة : فلحوم الوحش كلها تولد دما غليظا سوداويا. وأحمده : الغزال ، وبعده الأرنب.

( لحوم الأجنة ) غير محمودة : لاحتقان الدم فيها. وليست بحرام لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ذكاة الجنين : ذكاة أمه ».

ومنع أهل العراق من أكله ، إلا أن يدركه حيا فيذكيه. وأولوا الحديث على أن المراد به : أن ذكاته كذكاة أمه. قالوا : فهو حجة على التحريم.

وهذا فاسد : فإن أول الحديث : « أنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، نذبح الشاة فنجد في بطنها جنينا ، أفنأكله؟ فقال : كلوه إن شئتم ، فإن ذكاته ذكاة أمه ».

( وأيضا ) : فالقياس يقتضى حله ، فإنه ما دام حملا ، فهو جزء من أجزاء الام : فذكاتها ذكاة لجميع أجزائها. وهذا هو الذي أشار إليه صاحب الشرع ، بقوله : « ذكاته ذكاة أمه » ، كما يكون ذكاتها ذكاة سائر أجزائها. فلو لم تأت السنة الصريحة بأكله. لكان القياس الصحيح يقتضى حله. وبالله التوفيق (٢).

( لحم القديد ). في السنن ـ من حديث بلال رضي الله عنه ـ قال : « ذبحت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة : ونحن مسافرون ، فقال : أصلح لحمها. فلم أزال أطعمه منه إلى المدينة ».

القديد أنفع من المكسود ، ويقوى الأبدان ، ويحدث حكة. ودفع ضرره : بالأبازير الباردة الرطبة. ويصلح الأمزجة الحارة. والمكسود حار يابس مجفف ، جيده من السمين الرطب ، يضر بالقولنج. ودفع مضرته : طبخه باللبن والدهن. ويصلح للمزاج الحار الرطب.

__________________

(١) في بعض النسخ : الظهر.

(٢) لم ترد هذه الجملة بالزاد.


فصل في لحوم الطير

قال الله تعالى : ( ولحم طير مما يشتهون ). في مسند البزار وغيره مرفوعا : « إنك لتنظر إلى الطير في الجنة ، فتشتهيه : فيخر مشويا بين يديك ».

ومنه حلال ، ومنه حرام. فالحرام : ذو المخلب كالصقر والبازي والشاهين ، وما يأكل الجيف : كالنسر والرخم ، واللقلق والعقعق ، والغراب الأبقع ، والأسود الكبير. وما نهى عن قتله : كالهدهد والصرد. وما أمر بقتله : كالحدأة والغراب.

والحلال أصناف كثيرة. فمنه : الدجاج. ففي الصحيحين ـ من حديث أبي موسى رضي الله عنه ـ : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكل لحم الدجاج ».

وهو حار رطب في الأولى ، خفيف على المعدة ، سريع الهضم ، جيد الخلط ، يزيد في الدماغ والمنى ، ويصفى الصوت ، ويحسن اللون ، ويقوى العقل ، ويولد دما جيدا. وهو مائل إلى الرطوبة. ويقال : إن مداومة أكله تورث النقرس ولا يثبت ذلك.

ولحم الديك : أسخن مزاجا ، وأقل رطوبة. والعتيق منه دواء ينفع القولنج والربو والرياح الغليظة : إذا طبخ بماء القرطم (والقرفة) والشبت وخصيها (١) محمودة (٢) الغذاء ، سريعة (٢) الانهضام. والفراريج سريعة الهضم ، ملينة للطبع. والدم المتولد منها : دم لطيف جيد.

( لحم الدراج ) : حار يابس في الثانية ، خفيف لطيف ، سريع الانهضام ، مولد للدم

المعتدل. والاكثار منه يحد البصر.

( لحم الحجل ( والقبج (٣) ) : يولد الدم الجيد ، سريع الانهضام.

( لحم الإوز ) : حار يابس ، ردئ الغذاء : إذا اعتيد. وليس بكثير الفضول.

( لحم البط ) : حار رطب ، كثير الفضول ، عسر الانهضام ، غير موافق للمعدة.

__________________

(١) كذا بالزاد ١٨٨. وفى الاحكام ٢ / ٩٥ : والخصي منها. والزيادة عنها. وبالأصل : وخصيتها. وهو تحريف.

(٢) بالزاد والاحكام : « محمود ... سريع ».

(٣) زيادة عن الزاد : مرادفة مفسرة. على ما في القاموس ١ / ٢٠٤.


( لحم الحبارى ). في السنن ـ من حديث برية (١) بن عمر بن سفينة ، عن أبيه ، عن جده رضي الله عنه قال : « أكلت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحم حبارى (٢) ».

وهو : حار يابس ، عسر الانهضام ، نافع لأصحاب الرياضة والتعب.

( لحم الكركي ) : يابس ، خفيف وفى حره وبرده خلاف. يولد دما سوداويا ، ويصلح لأصحاب الكد والتعب. وينبغي أن يترك بعد ذبحه يوما أو يومين ، ثم يؤكل.

( لحم العصافير والقنابر ). روى النسائي في سننه ـ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقه ، بغير حقه ـ إلا سأله عز وجل. قيل : يا رسول الله : وما حقه؟ قال : تذبحه فتأكله ، ولا تقطع رأسه وترمى به ».

وفي سننه أيضا ـ عن عمرو بن الشريد ، عن أبيه ـ قال : « سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : من قتل عصفورا عبثا ، عج إلى الله يقول : يا رب ، إن فلانا قتلني عبثا ، ولم يقتلني لمنفعة (٣) ».

ولحمه : حار يابس ، عاقل للطبيعة ، يزيد في الباه. ومرقه : يلين الطبع ، وينفع المفاصل. وإذا أكلت أدمغتها بالزنجبيل والبصل : هيجت شهوة الجماع. وخلطها غير محمود.

( لحم الحمام ) : حار رطب ، وخشيه أقل رطوبة ، وفراخه أرطب وخاصة (٤) ما ربى في الدور. وناهضه أخف لحما ، وأحمد غذاء. ولحم ذكورها شفاء من الاسترخاء والخدر ، والسكتة والرعشة. وكذلك : شم رائحة أنفاسها. وأكل فراخها معين على النساء. وهو جيد للكلي. يزيد في الدم.

وقد روى فيها حديث باطل لا أصل له ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « أن رجلا شكا إليه

__________________

(١) بالزاد : مويه. وبالاحكام ٢ / ٩٦ والأصل : توبة. وفيه وفى الخلاصة : ابن عمرو. والصواب ما أثبتناه. راجع : سنن أبي داود ٣ / ٣٥٤ ، والتهذيب ١ / ٤٣٤ و ٧ / ٤٥٥ والخلاصة ٤٦ و ١٤٠.

(٢) بالأحكام : الحبارى.

(٣) أي : دوائية أو غذائية. كما قال صاحب الاحكام.

(٤) كذا بالأحكام ٩٧. وبالأصل : خاصة. وبالزاد : خاصية وما. وأصلهما وما أثبتناه.


الوحدة ، فقال : اتخذ زوجا من الحمام ». وأجود من هذا الحديث : « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يتبع حمامة ، فقال : شيطان (١) يتبع شيطانة ».

وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه ـ في خطبته ـ يأمر بقتل الكلاب ، وذبح الحمام.

( لحم القطا ) : يابس يولد السوداء ، ويحبس الطبع. وهو من شر الغذاء ، إلا أنه ينفع من الاستسقاء.

( لحم السماني ) : حار يابس ، ينفع المفاصل ، ويضر بالكبد الحار ودفع مضرته : بالخل والكسبرة (٢). وينبغي أن يجتنب من لحوم الطير ، ما كان في الآجام والمواضع العفنة.

ولحوم الطير كلها أسرع انهضاما من المواشي. وأسرعها انهضاما أقلها غذاء ، وهى : الرقاب ولا جنحة. وأدمغتها أحمد من أدمغة المواشي.

( الجراد ). في الصحيحين ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، قال : « غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبع غزوات ، نأكل الجراد ». وفى المسند عنه : « أحلت لنا ميتتان ودمان : الحوت والجراد ، والكبد والطحال ». يروى مرفوعا ، وموقوفا على ابن عمر رضى اله عنه.

وهو حار يابس ، قليل الغذاء. وإدامة أكله تورث الهزال. وإذا تبخر به : نفع من تقطير البول وعسره ، وخصوصا للنساء. ويتبخر به للبواسير. وسمانه ( التي لا أجنحة لها ) تشوى ، وتؤكل (٣) للسع العقرب. وهو ضار لأصحاب الصرع ردئ الخلط.

وفى إباحة ميته (٤) بلا سبب ، قولان : فالجمهور (٥) على حله ، وحرمه مالك. ولا خلاف في إباحة ميته (٤) إذا مات بسبب : كالكبس والتحريق ونحوه.

__________________

(١) كذا بالأصل والفتح الكبير ٢ / ١٨٠. وبالزاد : شيطانا. ولعله تحريف.

(٢) هي نبات الجلجلان. و « الكزبرة » : من الأبازير والتوابل. كما في القاموس ٢ / ١٢٦ ـ ١٢٧. ولفظ الأصل والزاد : الكسفرة. ولعله لغة أخرى فيما أثبتناه.

(٣) كذا بالأحكام (٢ / ٩٨) والزيادة عنها. وبالأصل والزاد : يشوى ويؤكل. وهو تصحيف.

(٤) بالزاد ١٨٩ : ميتته. ولعله تحريف في الموضعين.

(٥) هذا إلى قوله : مالك ، قد ورد بالأصل والزاد بعد قوله : ونحوه. ونرجح أن تأخيره من عبث الناسخ. وراجع الاحكام.


( فصل ) وينبغي أن لا يداوم على أكل اللحم : فإنه يورث الأمراض الدموية والامتلائية ، والحميات الحادة (١). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : « إياكم واللحم : فإن له ضرواة كضراوة الخمر ، وإن الله يبغض أهل بيت اللحمين (٢) ». ذكره مالك في الموطأ عنه. وقال أبقراط (٣) : « لا تجعلوا أجوافكم مقبرة للحيوان ».

٢ ـ ( فصل ) ( لبن ). قال الله تعالى : ( وإن لكم في الانعام لعبرة ، نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ). وقال في الجنة : ( فيها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ).

وفى السنن مرفوعا : « من أطعمه الله طعاما ، فليقل : اللهم ، بارك لنا فيه ، وارزقنا خيرا منه. ومن سقاه الله لبنا ، فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا منه. فإني لا أعلم ما يجزى (٤) من الطعام والشراب ، إلا اللبن ».

اللبن وإن كان بسيطا في الحس ، إلا أنه مركب في أصل الخلقة تركيبا طبيعيا ، من جواهر ثلاثة : الجبنية ، والسمنية ـ ، والمائية. فالجبنية باردة رطبة ، مغذية للبدن. والسمنية معتدلة في (٥) الحرارة والرطوبة ، ملائمة للبدن الإنساني الصحيح ، كثيرة المنافع. والمائية حارة رطبة ، مطلقة للطبيعة ، مرطبة للبدن. واللبن ـ على الاطلاق ـ أبرد وأرطب من المعتدل. وقيل : قوته عند حلبه الحرارة والرطوبة. وقيل : معتدل في الحرارة والبرودة.

وأجود ما يكون اللبن : حين يحلب (٦). ثم لا يزال تنقص جودته على ممر الساعات ،

__________________

(١) كذا بالزاد. وصحف في الأصل بالراء.

(٢) كذا بالأحكام ٢ / ٩٤ ، والنهاية ٤ / ٥٢. وفى رواية بها : « اللحم وأهله ». ولفظ الأصل والزاد : « اللحمي ». وهو مع صحته محرف. وهذا الأثر لم يرد في بعض نسخ الموطأ ، وورد بدون الجملة الأخيرة موقوفا : في نسخة شرح الباجي ٧ / ٢٥٣ ، والزرقاني ٤ / ٣١٧. وانظر : شرح السيوطي ٣ / ١١٧. وورد بها مرفوعا في الاحكام. وانظر : النهاية ٣ / ١٨.

(٣) بالزاد : بقراط. والزيادة الآتية عنه. وبالاحكام : سقراط.

(٤) كذا بالأصل والزاد. وفى سنن أبي داود ٣ / ٣٣٩ : يجزئ. وانظر ما تقدم : (ص ١٨٣).

(٥) ورد بالأصل والاحكام ٢ / ٩٨ ، ولم يرد بالزاد.

(٦) بالأحكام ٩٩ زيادة : وهو حار.


فيكون حين يحلب أقل برودة ، وأكثر رطوبة. والحامض بالعكس. ويختار اللبن بعد الولادة بأربعين يوما. وأجوده : ما اشتد بياضه ، وطاب ريحه ، ولذ طعمه ، وكان فيه حلاوة يسيرة ، ودسومة معتدلة ، واعتدل قوامه في الرقة والغلظة ، وحلب من حيوان فتى صحيح : معتدل اللحم ، محمود المرعى (١) والمشرب. وهو محمود : يولد دما جيدا ، ويرطب البدن اليابس ، ويغذو غذاء حسنا ، وينفع من الوسواس والغم والأمراض السوداوية. وإذا شرب مع العسل : نقى القروح الباطنة ، من الاخلاط العفنة. وشربه مع السكر يحسن اللون جدا.

والحليب يتدارك ضرر الجماع ، ويوافق الصدر والرئة ، جيد لأصحاب السل ، ردئ للرأس والمعدة والكبد والطحال. والاكثار منه مضر بالأسنان واللثة. ولذلك ينبغي أن يتمضمض بعده بالماء. وفى الصحيحين : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرب لبنا ، ثم دعا بهاء فتمضمض ، وقال : إن له دسما ».

وهو ردئ للمحمومين وأصحاب الصداع ، مؤذ للدماغ والرأس الضعيف. والمداومة عليه تحدث ظلمة البصر والغشاء (٢) ، ووجع المفاصل ، وسدة الكبد ، والنفخ في المعدة والاحشاء. وإصلاحه : بالعسل والزنجبيل المربى ونحوه. وهذا كله لمن لم يعتده.

( لبن الضأن ) : أغلط الألبان وأرطبها ، وفيه ـ : من الدسومة والزهومة. ـ ما ليس في لبن الماعز والبقر. يولد فضولا بلغمية ، ويحدث في الجلد بياضا : إذا أدمن استعماله. ولذلك ينبغي أن يشرب (٣) هذا اللبن بالماء : ليكون ما نال البدن منه أقل. وتسكينه للعطش أسرع ، وتبريده ( للبدن ) أكثر.

( لبن المعز ) : لطيف معتدل ، مطلق للبطن ، مرطب للبدن اليابس ، نافع من قروح الحلق ، والسعال اليابس ، ونفث الدم.

__________________

(١) بالأحكام. الرعى والمورد.

(٢) كذا بالزاد. وبالأصل : والغشا. وبالاحكام : الغشاوة. وسدد

(٣) بالأحكام ٢ / ١٠٠. يشاب. والزيادة الآتية عنها.


واللبن المطلق أنفع المشروبات للبدن الإنساني : لما اجتمع فيه من التغذية والدموية ، ولاعتياده حال الطفولية ، وموافقته للفطرة الأصلية. وفى الصحيحين : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنى ليلة أسرى به ، بقدح من خمر ، وقدح من لبن. فنظر إليهما ، ثم أخذ اللبن. فقال جبرائيل عليه‌السلام : الحمد لله الذي هداك للفطرة ، لو أخذت الخمر : غوت أمتك ».

والحامض منه بطئ الاستمراء ، خام الخلط. والمعدة الحارة تهضمه ، وتنتفع به.

( لبن البقر ) : يغذو البدن ويخصبه ، ويطلق البطن باعتدال. وهو من أعدل الألبان وأفضلها ، بين لبن الضأن ، ولبن المعز : في الرقة والغلظ والدسم.

وفى السنن ـ من حديث عبد الله بن مسعود ، يرفعه ـ : « عليكم بألبان البقر ، فإنها ترتم (١) من كل الشجر ».

( لبن الإبل ). تقدم ذكره في أول الفصل (٢) ، وذكر منافعه. فلا حاجة لإعادته.

( لبان ) هو : الكندر (٣). قد ورد فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « بخروا بيوتكم باللبان والصعتر ». ولا يصح عنه.

ولكن : يروى عن علي ، أنه قال لرجل شكا إليه النسيان : « عليك باللبان ، فإنه يشجع القلب ، ويذهب بالنسيان ». ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما : « أن شربه مع السكر على الريق ، جيد للبول والنسيان ». ويذكر عن أنس رضي الله عنه : « أنه شكا إليه رجل النسيان ، فقال : عليك بالكندر ، وانقعه (٤) من الليل ، فإذا أصبحت

__________________

(١) كذا بالنهاية ٢ / ١٠٦. وفى رواية بها وبالاحكام ١٠١ ، والفتح الكبير ٢ / ٢٣٦ : ترم. وكلاهما بمعنى تأكل. ولفظ الأصل والزاد ١٩٠ : تقم. وهو مصحف عما أثبتناه. وقد ظنه ق صحيحا فقال : أي تجمع في غذائها من كل الشجر ، على تشبيه ذلك بالقم ـ وهو الكنس ـ واستعارته له. اه‍ وهو تكلف لا ضرورة له. وانظر : اللسان ١٥ / ١٤٥.

(٢) يعنى : عند كلامه على لبن الانعام (ص ٢٩٩) الذي يحمل عند الاطلاق على الإبل خاصة ، كما يؤخذ من المختار. وراجع الاحكام ٢ / ١٠١ ـ ١٠٢.

(٣) يعنى بالفارسية ، كما في الاحكام ٨٣ و ١٠٢.

(٤) بالأحكام ٨٤ : فانقعه. وانظر : آداب الشافعي ٣٥ و ٣٢٣.


فخذ منه شربة على الريق : فإنه جيد للنسيان ».

ولهذا سبب طبيعي ظاهر : فإن النسيان إذا كان لسوء مزاج بارد رطب ـ يغلب على الدماغ ، فلا يحفظ ما ينطبع فيه ـ : نفع منه اللبان. وأما إذا كان النسيان لغلبة (١) شئ عارض : أمكن زواله سريعا بالمرطبات. والفرق بينهما : أن اليبوسي يتبعه سهر وحفظ للأمور الماضية دون الحالية ، والرطوبي بالعكس.

وقد يحدث النسيان أشياء بالخاصية : كحجامة نقرة القفا ، وإدمان أكل الكسبرة (٢) الرطبة والتفاح الحامض ، وكثرة الهم والغم ، والنظر في الماء الواقف والبول فيه ، والنظر إلى المصلوب : والاكثار من قراءة ألواح القبور ، والمشي بين جملين مقطورين ، وإلقاء القمل في الحياض (٣) ، وأكل سؤر الفأر. وأكثر هذا معروف بالتجربة.

والمقصود : أن اللبان مسخن في الدرجة الثانية ، ومجفف في الأولى. وفيه قبض يسير. وهو كثير المنافع ، قليل المضار. فمن منافعه : أنه ينفع من قذف الدم ونزفه ، ووجع المعدة واستطلاق البطن ، ويهضم الطعام ، ويطرد الرياح ، ويجلو قروح العين ، وينبت اللحم في سائر القروح ، ويقوى المعدة الضعيفة ويسخنها ، ويجفف البلغم ، وينشف رطوبات (٤) الصدر ، ويجلو ظلمة البصر ، ويمنع القروح الخبيثة من الانتشار.

وإذا مضغ وحده أو مع الصعتر الفارسي : جلب البلغم ، ونفع من اعتقال اللسان ، ويزيد في الذهن ويذكيه. وإن بخر به : نفع من الوباء ، وطيب رائحة الهواء.

حرف الميم

١ ـ ( ماء ) : مادة الحياة ، وسيد الشراب ، وأحد أركان العالم ، بل ركنه

__________________

(١) بالأحكام : لغلبة اليبس عليه.

(٢) بالأصل والزاد ١٩٠ : الكسفرة. وانظر هامش ما تقدم : (ص ٢٩٨).

(٣) بالأصل والزاد : الحياة. وهو مصحف عنه كما جوزه ق.

(٤) بالزاد : رطوبة.


الأصلي : فإن السماوات خلقت من بخاره ، والأرض من زبده. وقد جعل الله منه كل شئ حي (١).

وقد احتلف فيه : هل يغذو؟ أو ينفذ الغذاء فقط؟ على قولين. وقد تقدما (٢) ، وذكرنا القول الراجح ودليله. وهو بارد رطب : يقمع الحرارة ، ويحفظ على البدن رطوباته ويرد عليه بدل ما تحلل منه ، ويرقق الغذاء وينفذه في العروق.

وتعتبر جودة الماء من عشرة طرق : ( أحدها ) من لونه : بأن يكون صافيا. ( الثاني ) من رائحته : بأن لا يكون له رائحة البتة. ( الثالث ) من طعمه : بأن يكون عذب الطعم حلوه ، كماء النيل والفرات. ( الرابع ) من وزنه : بأن يكون خفيفا رقيق القوام. ( الخامس ) من مجراه : بأن يكون طيب المجرى والمسلك. ( السادس ) : من منبعه : بأن يكون بعيد المنبع. ( السابع ) : من بروزه للشمس والريح : بأن لا يكون مختفيا تحت الأرض ، فلا تتمكن الشمس والريح من قصارته (٣). ( الثامن ) : من حركته : بأن يكون سريع الجري والحركة. ( التاسع ) : من كثرته : بأن يكون له كثرة تدفع (٤) الفضلات المخالطة له. (العاشر) : من مصبه : بأن يكون آخذا من الشمال إلى الجنوب ، أو من المغرب إلى المشرق.

وإذا اعتبرت هذه الأوصاف ، لم تجدها بكمالها إلا في الأنهار الأربعة : النيل ، والفرات ، وسيحون ، وجيحون. وفى الصحيحين ـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « سيحان وجيحان والنيل والفرات ، كلها من أنهار الجنة (٥) ».

وتعتبر خفة الماء من ثلاثة أوجه : ( أحدها ) : سرعة القبول (٦) للحر والبرد. قال أبقراط :

__________________

(١) كذا بالزاد وهو الصحيح الموافق لما تقدم : (ص ١٧٦). وبالأصل : حيا. وهو خطأ وتحريف.

(٢) ص ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٣) كذا بالأصل والزاد. أي : من أرضه. كما في القاموس ٢ / ١١٨. يعنى من الوصول إليه فيها. فلا معنى لقول ق : « لا معنى لها ».

(٤) بالزاد : يدفع. يعنى بسببها.

(٥) أي : مستمدة من أنهار الجنة الموجودة بالفعل. لا أنها من جنسها كما زعم ق. والحديث في الاحكام ٣ / ١٠٣ ، والفتح الكبير ٢ / ١٦٢ ببعض اختلاف.

(٦) بالزاد والاحكام : قبوله.


« الماء الذي يسخن سريعا ويبرد سريعا ، أخف المياه ».

( الثاني ) : بالميزان (١). ( الثالث ) : أن تبل قطنتان متساويتا الوزن بماءين مختلفين ، ثم يجففا بالغا ، ثم توزنا. فأيهما كانت أخف ، فماؤها كذلك.

والماء ـ وإن كان في الأصل باردا رطبا ـ فإن قوته تنتقل وتتغير لأسباب عارضة توجب انفعالها. فإن الماء المكشوف للشمال ، المستور عن الجهات الأخر ـ : يكون باردا ، وفيه يبس مكتسب من ريح الشمال. وكذلك الحكم على سائر الجهات الأخر. والماء الذي ينبع من المعادن : يكون على طبيعة ذلك المعدن ، ويؤثر في البدن تأثيره.

والماء العذب نافع للمرضى والأصحاء ، والبارد منه أنفع وألذ. ولا ينبغي شربه على الريق ، ولا عقيب الجماع ولا الانتباه من النوم ، ولا عقيب الحمام ، ولا عقيب أكل الفاكهة. وقد تقدم (٢). وأما على الطعام ، فلا بأس ( به ) (٣) إذا اضطر إليه ، بل يتعين. ولا يكثر منه ، بل يتمصصه مصا. فإنه لا يضره البتة ، بل يقوى المعدة ، وينهض الشهوة ، ويزيل العطش.

والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضد ما ذكرناه. وبائته أجود من طريه (٤). وقد تقدم. والبارد ينفع من داخل ، أكثر من نفعه من خارج. والحار بالعكس. وينفع البارد من عفونة الدم ، وصعود الأبخرة إلى الرأس. ويدفع العفونات ، ويوافق الأمزجة والأسنان ، والأزمان والأماكن الحارة. ويضر على كل حالة تحتاج إلى نضج وتحليل : كالزكام والأورام. والشديد البرودة منه يؤذى الأسنان. والادمان عليه يحدث انفجار الدم والنزلات ، وأوجاع الصدر.

والبارد والحار بإفراط ضاران (٥) للعصب ولاكثر الأعضاء : لان أحدهما محلل ، والآخر مكثف (٦). والماء الحار يسكن لذع الاخلاط الحارة ، ويحلل وينضج ، ويخرج الفضول ،

__________________

(١) بالأحكام : بالمكيال.

(٢) ص ١٧٤.

(٣) زيادة عن الزاد ١٩١. وانظر : الاحكام ٢ / ١٠٤.

(٤) كذا بالأصل والزاد. أي : فطيره ، على ما في المختار (فطر). وانظر ما تقدم : (ص ١٧٧).

(٥) كذا بالزاد والاحكام ١٠٥. وبالأصل : ضار. ولعله مع صحته محرف.

(٦) كذا بالأصل والزاد. أي : محدث غلظا. وبالاحكام : منشف. ولعل المراد منه ما ذكرنا.


ويرطب ويسخن ، ويفسد الهضم شربه ، ويطفو بالطعام إلى أعلى المعدة ويرخيها ، ولا يسرع في تسكين العطش ، ويذبل البدن ، ويؤدى إلى أمراض رديئة ، ويضر في أكثر الأمراض. على أنه صالح للشيوخ وأصحاب الصرع والصداع البارد والرمد. وأنفع ما استعمل من خارج (١).

ولا يصح في الماء المسخن بالشمس حديث ولا أثر ، ولا كرهه أحد من قدماء الأطباء ولا عابه (٢). والشديد السخونة يذيب شحم الكلى.

وقد تقدم الكلام على ماء الأمطار ، في حرف الغين (٣).

( ماء الثلج والبرد ). ثبت في الصحيحين ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان يدعو في الاستفتاح وغيره : « اللهم ، اغسلنى من خطاياي بماء الثلج والبرد ».

الثلج له في نفسه كيفية حادة دخانية ، فماؤه كذلك. وقد تقدم (٤) وجه الحكمة في طلب الغسل من الخطايا بمائه ، لما يحتاج إليه القلب : من التبريد والتصليب (٥) والتقوية. ويستفاد من هذا أصل طب الأبدان والقلوب ، ومعالجة أدوائها بضدها.

وماء البرد ألطف وألذ من ماء الثلج. وأما ماء الجمد ـ وهو : الجليد ـ فبحسب أصله.

والثلج يكتسب كيفية الجبال والأرض ـ التي يسقط عليها ـ : في الجودة والرداءة.

وينبغي تجنب شرب الماء المثلوج ، عقيب الحمام والجماع والرياضة والطعام الحار ، ولأصحاب السعال ووجع الصدر وضعف الكبد ، وأصحاب الأمزجة الباردة.

( ماء الآبار والقنى ) (٦). مياه الآبار قليلة اللطافة. وماء القنى (٦) المدفونة تحت الأرض

__________________

(١) زاد في الاحكام بعد ذلك : « فإن سخن بالشمس خيف منه البرص ». ثم ذكر حديثين في ذلك ، وعدم تصحيح بعض العلماء لهما ، وأنه مع ذلك لا بد أن يتوقى.

(٢) بالزاد : عابوه. وكل صحيح.

(٣) ص ٢٦٧. وانظر : الاحكام ١٠٦.

(٤) ص ٢٦٢.

(٥) كذا بالزاد. وهو الصحيح الملائم. وبالأصل : التصلب. وهو تحريف على ما في القاموس ١ / ٦٣.

(٦) كذا بالأصل والاحكام ٢ / ١٠٧. وبالزاد : القناة. وهو واحد القنى. انظر : القاموس ٤ / ٣٨٠ ، والمختار والمصباح.

(٢٠ ـ الطب النبوي)


ثقيل : لان أحدهما محتقن لا يخلو عن تعفن ، والآخر محجوب عن الهواء. وينبغي أن لا يشرب على الفور : حتى يصمد للهواء وتأتى عليه ليلة. وأردؤه : ما كانت مجاريه من رصاص ، أو كانت بئره معطلة ، ولا سيما إذا كانت تربتها رديئة ، فهذا الماء وبئ وخيم.

( ماء زمزم ) : سيد المياه وأشرفها وأجلها قدرا ، وأحبها إلى النفوس وأغلاها ثمنا ، وأنفسها عند الناس. وهو هزمة جبرائيل ، وسقيا (١) إسماعيل.

وثبت في الصحيحين ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال لأبي ذر ـ وقد أقام بين الكعبة وأستارها أربعين ما بين يوم وليلة : وليس له طعام غيره. ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إنها طعام طعم ». وزاد غير مسلم بإسناده : « وشفاء سقم ».

وفى سنن ابن ماجة ـ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « ماء زمزم لما شرب له ».

وقد ضعف هذا الحديث طائفة ، بعبد الله بن المؤمل (٢) : رواية عن محمد بن مسلم (٣) (المكي).

وقد روينا عن عبد الله بن المبارك ، « أنه لما حج : أتى زمزم ، فقال : اللهم ، إن ابن أبي الموالى (٤) حدثنا عن محمد بن المنكدر ، عن جابر رضي الله عنه ، عن نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : ماء زمزم لما شرب له. فإني أشرب لظمأ يوم القيامة ». وابن أبي الموالى ثقة. فالحديث إذا حسن. وقد صححه بعضهم ، وجعله بعضهم موضوعا. وكلا القولين فيه مجازفة.

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد ، والفتح الكبير ٣ / ٧٥. وبالاحكام : وسعى. والجملتان اقتباس من حديث مشهور.

(٢) كذا بالزاد وسنن ابن ماجة ٢ / ١٣٠. وبالأصل : ابن أبي الموالى. وهو تحريف.

(٣) أبى الزبير ، كما في سنن ابن ماجة. والزيادة للايضاح. وبالأصل والزاد : المنكدر. وهو تحريف خطير نشأ عن التأثر بالرواية الأخرى. وراجع الحديث في الفتح الكبير : ٣ / ٧٥.

(٤) كذا بالأصل والزاد هنا وفيما سيأتي. وهو عبد الرحمن بن زيد. كما في التهذيب ٦ / ٢٨٢. وراجع الكلام عن ابن المبارك وابن المؤمل وابن المنكدر وأبى الزبير : في التهذيب ٥ / ٣٨٢ و ٦ / ٤٦ و ٩ / ٣٧٣ و ٤٤٠.


وقد جربت أنا وغيري ـ من الاستسقاء بماء زمزم ـ أمورا عجيبة ، واستشفيت به من عدة أمراض (١) : فبرأت بإذن الله. وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد ـ قريبا من نصف الشهر أو أكثر ـ ولا يجد جوعا ، ويطوف مع الناس كأحدهم ، وأخبرني : أنه ربما بقى عليه أربعين يوما ، وكان له قوة : يجامع بها أهله ، ويصوم ، ويطوف مرارا.

( ماء النيل ) : أحد أنهار الجنة ، أصله من وراء جبال القمر ـ في أقصى بلاد الحبشة ـ من أمطار تجتمع هنا لك ، وسيول يمد (٢) بعضها بعضا ، فيسوقه الله تعالى إلى الأرض الجرز التي لا نبات لها ، فيخرج به زرعا تأكل منه الانعام والأنام.

ولما كانت الأرض التي يسوقه إليها إبليزا صلبة ـ إن أمطرت مطر العادة : لم ترو ، ولم تتهيأ للنبات. وإن أمطرت فوق العادة : ضرت المساكن والساكن ، وعطلت المعايش والمصالح ـ : فأمطر البلاد البعيدة ، ثم ساق تلك الأمطار إلى هذه الأرض في نهر عظيم ، وجعل سبحانه زيادته في أوقات معلومة ، على قدر رى البلاد وكفايتها. فإذا روى (٣) البلاد وعمها : أذن سبحانه بتناقصه وهبوطه. لتتم المصلحة بالتمكن من الزرع. واجتمع في هذا الماء الأمور العشرة التي تقدم ذكرها (٤) ، وكان من ألطف المياه وأخفها ، وأعذبها وأحلاها.

(ماء البحر). ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال في البحر : «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».

وقد جعله ( الله ) سبحانه ملحا أجاجا ، مرا زعاقا ، لتمام مصالح من هو على وجه الأرض : من الآدميين والبهائم. فإنه دائم راكد ، كثير الحيوان. وهو يموت فيه كثيرا ولا يقبر. فلو كان حلوا : لأنتن من إقامته وموت حيوانه فيه وأجاف ، وكان الهواء المحيط بالعالم يكتسب منه ذلك وينتن ويجيف ، فيفسد العالم. فاقتضت حكمة الرب سبحانه وتعالى أن جعله كالملاحة التي لو ألقى فيه جيف العالم كلها وأنتانه وأمواته : لم تغيره شيئا ، ولا يتغير على مكثه من حين خلق وإلى أن يطوى الله العالم. فهذا هو السبب الغائي الموجب لملوحته. وأما الفاعلي فكون (٥) أرضه سبخة مالحة.

__________________

(١) انظر ما تقدم : (ص ٢٢).

(٢) كذا بالزاد ١٩٢. وبالأصل : تمد. ولعله تصحيف.

(٣) كذا بالأصل. وبالزاد : أروى. وكل صحيح على ما في المصباح : ( روى ). وراجع كلام ابن سينا عنه : في الاحكام ٢ / ١٠٣.

(٤) ص ٣٠٣

(٥) كذا بالزاد. والزيادة السابقة عنه. وبالأصل : فيكون. وهو تحريف.


وبعد : فالاغتسال به نافع من آفات عديدة في ظاهر الجلد ، وشربه مضر بداخله وخارجه : فإنه يطلق البطن ويهزل ، ويحدث حكة وجربا ، ونفخا وعطشا.

ومن اضطر إلى شربه ، فله طرق من العلاج يدفع به مضرته. (منها) : أن يجعل في قدر ، ويجعل فوق القدر قصبات وعليها صوف جديد منفوش ، ويوقد تحت القدر حتى يرتفع بخارها إلى الصوف. فإذا كثر : عصره ، ولا يزال يفعل ذلك حتى يجتمع له ما يريد (١) فيحصل في الصوف من البخار ما عذب ، ويبقى في القدر الزعاق.

( ومنها ) : أن يحفر على شاطئه حفرة واسعة يرشح ماؤه إليها ، ثم إلى جانبها قريبا منها أخرى ترشح هي إليها ، ثم ثالثة إلى أن يعذب الماء.

وإذا ألجأته الضرورة إلى شرب الماء الكدر ، فعلاجه : أن يلقى فيه نوى المشمش ، أو قطعة من خشب الساج ، أو جمرا ملتهبا يطفأ فيه ، أو طينا أرمنيا ، أو سويق حنطة. فإن كدرته ترسب إلى أسفل.

٢ ـ ( مسك ). ثبت في صحيح مسلم ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « أطيب الطيب : المسك ».

وفى الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : « كنت أطيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبل أن يحرم ، ويوم النحر ، وقبل (٢) أن يطوف بالبيت ـ بطيب فيه مسك ».

المسك : ملك أنواع الطيب وأشرفها وأطيبها ، وهو الذي يضرب به الأمثال ، ويشبه به غيره ، ولا يشبه بغيره. وهو كثبان الجنة.

وهو حار يابس في الثانية : يسر النفس ويقويها ، ويقوى الأعضاء الباطنة جميعها : شربا وشما ، والظاهرة : إذا وضع عليها. نافع للمشايخ والمبرودين (المرطوبين) لا سيما زمن الشتاء ، جيد للغشى والخفقان وضعف القوة : بإنعاشه للحرارة الغريزية. ويجلوا بياض العين

__________________

(١) كذا بالزاد. وفى الأصل : تريد. وهو تصحيف.

(٢) كذا بالأصل والزاد : وبالاحكام ٢ / ٧٦ : قبل.


وينشف رطوبتها ، ويفش (١) الرياح منها ومن جميع الأعضاء ، ويبطل عمل السموم ، وينفع من نهش الأفاعي. ومنافعه كثيرة جدا. وهو أقوى المفرحات.

٣ ـ ( مرزنجوش ) (٢). ورد فيه حديث ـ لا نعلم صحته ـ : « عليكم بالمرزنجوش ، فإنه جيد للخشام ». و ( الخشام ) : الزكام.

وهو حار ( في الثالثة ) ، يابس في الثانية : ينفع شمه من الصداع البارد والكائن عن البلغم والسوداء والزكام والرياح الغليظة ، ويفتح السدد الحادثة في الرأس والمنخرين ، ويحلل أكثر الأورام الباردة. فينفع من أكثر الأورام والأوجاع الباردة الرطبة.

وإذا احتمل : أدر الطمث ، وأعان على الحبل. وإذا دق ورقه اليابس وكمد به : أذهب آثار الدم العارضة (٣) تحت العين. وإذا ضمد به مع الخل : نفع لسعة العقرب.

ودهنه نافع لوجع الظهر والركبتين ، ويذهب بالاعياء. ومن أدمن شمه : لم ينزل في عينيه الماء. وإذا استعط (٤) بمائه مع دهن اللوز المر : فتح سدد المنخرين ، ونفع من الريح العارضة فيها وفى الرأس.

٤ ـ ( ملح ). روى ابن ماجة في سننه ـ من حديث أنس ، يرفعه ـ : « سيد إدامكم : الملح ». وسيد الشئ هو : الذي يصلحه ويقوم عليه. وغالب الادام إنما يصلح بالملح.

وفى مسند البزار مرفوعا : « سيوشك أن تكونوا في الناس كالملح (٥) في الطعام ، ولا يصلح الطعام إلا بالملح ».

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد. أي : يخرج. كما في القاموس ٢ / ٢٨٣. وبالاحكام ـ والزيادة السابقة عنها ـ : ويغشى. وهو تصحيف.

(٢) كذا بالأصل والزاد ١٩٣ ، والاحكام ٢ / ١٠٨. والزيادة الآتية عنها. وراجع القاموس ٢ / ٢٨٧ للأهمية.

(٣) كذا بالأحكام ١٠٩ وبالأصل والزاد : الدم العارض. ولا يبعد تصحيفه عن « الدمع » ، فتأمل. على ما يظهر.

(٤) كذا بالأصل والاحكام. وبالزاد : سعط. وكل صحيح على ما في القاموس ٢ / ٣٦٤.

(٥) كذا بالأصل والاحكام. وفى الزاد : مثل الملح.


وذكر البغوي في تفسيره ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، مرفوعا (١) ـ : « إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد ، والنار ، والماء والملح ». والموقوف أشبه.

الملح يصلح أجسام الناس وأطعمتهم ، ويصلح كل شئ يخالطه حتى الذهب والفضة. وذلك : أن فيه قوة تزيد الذهب صفرة ، والفضة بياضا. وفيه جلاء وتحليل ، وإذهاب للرطوبات الغليظة وتنشيف لها ، وتقوية للأبدان ومنع من عفونتها وفسادها ، ونفع من الجرب المتقرح.

وإذا اكتحل به : قلع اللحم الزائد من العين ، ومحق الصفرة. والاندراني أبلغ في ذلك ، ويمنع القروح الخبيثة من الانتشار ، ويحدر البراز. وإذا دلك به بطون أصحاب الاستسقاء : نفعهم. وينقى الأسنان ، ويدفع عنها العفونة ، ويشد اللثة ويقويها. ومنافعه كثيرة ( جدا ) (٢).

حرف النون

١ ـ ( نخل ). مذكور في القرآن في غير موضع. وفى الصحيحين ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : « بينا نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ( جلوس ) : إذ أتى بجمار نخلة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن من الشجر (٣) شجرة مثلها مثل الرجل المسلم : لا يسقط ورقها ، أخبروني : ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي. فوقع في نفسي : أنها النخلة ، فأردت أن أقول : هي النخلة ، ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم سنا : فسكت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هي النخلة. فذكرت ذلك لعمر ، فقال : لان تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا ».

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد. وهو صحيح على ما في الاحكام ٢ / ١١٠ ، والفتح الكبير ١ / ٣٢٦. وإن كان يعكر عليه قوله الآتي : والموقوف. فتأمل. ولعله قد سقط شئ من الأصل.

(٢) زيادة عن الزاد.

(٣) كذا بالزاد ، والاحكام ٢ / ١١٢ ، والفتح الكبير ١ / ٤٠٨. وبالأصل : الشجرة. ولعله تحريف والزيادة. السابقة عن الاحكام.


( ففي هذا الحديث ) : إلقاء العالم المسائل على أصحابه وتمرينهم ، واختبار ما عندهم. ( وفيه ) : ضرب الأمثال والتشبيه. ( وفيه ) ما كان عليه الصحابة : من الحياء من أكابرهم وأجلائهم ، وإمساكهم عن الكلام بين أيديهم. ( وفيه ) : فرح الرجل بإصابة ولده وتوفيقه للصواب. ( وفيه ) : أنه لا يكره للولد أن يجيب بما عرف بحضرة أبيه ، وإن لم يعرفه (١) الأب. وليس في ذلك إساءة أدب عليه. ( وفيه ) ما تضمنه تشبيه المسلم بالنخلة : من (٢) كثرة خيرها ، ودوام ظلها ، وطيب ثمرها ، ووجوده على الدوام.

وثمرها يؤكل رطبا ويابسا وبلحا ويانعا. وهو غذاء ودواء ، وقوت وحلوى ، وشراب وفاكهة. وجذوعها للبناء والآلات والأواني. ويتخذ من خوصها : الحصر والمكاتل والأواني والمراوح ، وغير ذلك. ومن ليفها : الحبال والحشايا ، وغيرها. ثم آخر شئ (٣) : نواها علف للإبل ، ويدخل في الأدوية والاكحال. ثم جمال ثمرتها ونباتها ، وحسن هيأتها ، وبهجة منظرها ، وحسن نضد ثمرها وصنعته وبهجته ، ومسرة النفوس عند رؤيته. فرؤيتها مذكرة لفاطرها وخالقها وبديع صنعته ، وكمال قدرته ، وتمام حكمته. ولا شئ أشبه بها من الرجل المؤمن : إذ هو خير كله ، ونفع ظاهر وباطن.

وهى الشجرة التي حن جذعها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما فارقه : شوقا إلى قربه وسماع كلامه (٤). وهى التي نزلت تحتها مريم لما ولدت عيسى.

وقد ورد في حديث ـ في إسناده نظر ـ : « أكرموا عمتكم النخلة : فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم » (٥).

__________________

(١) كذا بالزاد. وهو الظاهر. وبالأصل : يعرف.

(٢) كذا بالأصل. وبالزاد : وكثرة. والظاهر أنه تحريف.

(٣) بالأحكام : « شئ منها نواها ، يستعمل في الأدوية والاكحال ... وينتفع به علفا ».

(٤) راجع في هذا المقام : آداب الشافعي (ص ٨٣ و ٣٣٠).

(٥) راجع : الاحكام ٢ / ١١١ ، والفتح الكبير ١ / ٢٢٧.


وقد اختلف الناس في تفضيلها على الحبلة أو بالعكس ، على قولين. وقد قرن الله بينهما في كتابه ، في غير موضع. وما أقرب أحدهما من صاحبه! وإن كان كل واحد منهما ـ في محل سلطانه ومنبته ، والأرض التي توافقه ـ أفضل وأنفع.

٢ ـ ( نرجس ). فيه حديث (١) لا يصح : « عليكم شم النرجس. فإن في القلب حبة الجنون والجذام والبرص ، لا يقطعها إلا شم النرجس ».

وهو حار يابس في الثانية. وأصله يدمل القروح الغائرة إلى العصب. وله قوة غسالة جالبة (٢) جابذة. وإذا طبخ وشرب ماؤه ، أو أكل مسلوقا : ـ هيج القئ ، وجذب الرطوبة من قعر المعدة ، وإذا طبخ مع الكرسنة والعسل : نقى أوساخ القروح ، وفجر الدبيلات العسرة النضج.

وزهره معتدل الحرارة لطيف : ينفع الزكام البارد. وفيه تحليل قوى ، ويفتح سدد الدماغ والمنخرين ، وينفع من الصداع الرطب والسوداوي ، ويصدع الرؤوس الحارة. والمحرق منه إذا شق بصله صليبا وغرس : صار مضاعفا. ومن أدمن (٣) شمه في الشتاء : أمن من البرسام في الصيف. وينفع من أوجاع الرأس الكائنة من البلغم والمرة السوداء. وفيه من العطرية (٤) : ما يقوى القلب والدماغ ، وينفع من كثير من أمراضها. وقال صاحب التيسير (٥) : « شمه يذهب بصرع الصبيان ».

٣ ـ ( نورة ). روى ابن ماجة ـ من حديث أم سلمة رضي الله عنها : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا طلى : بدأ بعورته فطلاها بالنورة ، وسائر جسده ». وقد ورد فيها عدة أحاديث هذا أمثلها.

__________________

(١) ذكره صاحب الوسيلة على ما في الاحكام ٢ / ١١٣.

(٢) بالأصل والزاد ١٩٤ : جالية. أي مذهبة على ما في المختار. ولعله مصحف عما أثبتناه. وبالاحكام : جالبة جاذبة. و « جابذة » مقلوبة جاذبة كما في المختار.

(٣) بالأحكام زيادة : على. ولعلها من الناسخ. انظر : المختار والمصباح (دمن).

(٤) كذا بالزاد والاحكام. وبالأصل العطر. وهو تحريف.

(٥) هو : ابن زهر. على ما في الاحكام. وذكر النص فيه بزيادة مفيدة.


وقد قيل (١) : إن أول من دخل الحمام ، وصنعت له النورة ـ : سليمان بن داود.

وأصلها : كلس جزآن ، وزرنيخ جزء ، يخلطان بالماء ، ويتركان في الشمس أو الحمام بقدر ما ينضج (٢) وتشتد زرقته. ثم يطلى به ، ويجلس ساعة ريثما يعمل ، ولا يمس بماء. ثم يغسل ، ويطلى مكانها بالحناء : لاذهاب ناريتها.

٤ ـ ( نبق ). ذكر أبو نعيم ـ في كتابه الطب النبوي ، مرفوعا ـ : « أن آدم لما هبط إلى الأرض ، كان أول شئ أكل من ثمارها النبق ».

وقد ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبق ـ في الحديث المتفق على صحته ـ : « أنه رأى سدرة المنتهى ليلة أسرى به : وإذا نبقها مثل قلال هجر ».

والنبق : ثمر شجر السدر ، يعقل الطبيعة ، وينفع من الاسهال ، ويدبغ المعدة ، ويسكن الصفراء ، ويغذو البدن ، ويشهى الطعام ، ويولد بلغما ، وينفع الذرب الصفراوي. وهو بطئ الهضم. وسويقه يقوى الحشا. وهو يصلح الأمزجة الصفراوية. وتدفع مضرته بالشهد.

واختلف فيه : هل هو رطب؟ أو يابس؟ على قولين. والصحيح : أن رطبه بارد رطب ، ويابسه بارد يابس (٣)

حرف الهاء

١ ـ ( هندبا ). ورد فيه ثلاثة أحاديث ـ لا تصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل هي مرفوعة ـ :

( أحدها ) : « كلوا الهندباء ، ولا تنفضوه (٤). فإنه ليس يوم من الأيام إلا وقطرات من الجنة تقطر عليه ».

__________________

(١) عن أبي موسى الأشعري مرفوعا ، كما في الاحكام ٢ / ٢٥ و ١١٤ والفتح الكبير ١ / ٤٧٠

(٢) بالأصل والزاد : تنضج. وبالاحكام : ينطبخ.

(٣) راجع : الاحكام ٢ / ١١١.

(٤) كذا بالأحكام ٢ / ٦٤. وبالأصل والزاد : تنقضوه (بالقاف). وهو تصحيف.


( الثاني ) : « من أكل الهندبا ، ثم نام عليه : لم يحل فيه سم ولا سحر ».

( الثالث ) : « ما من ورقة ـ من ورق الهندبا ـ إلا وعليها قطرة من الجنة ».

وبعد : فهي مستحيلة المزاج ، منقلبة بانقلاب فصول السنة : فهي في الشتاء باردة رطبة ، وفى الصيف حارة يابسة ، وفى الربيع والخريف معتدلة ، وفى غالب أحوالها تميل إلى البرودة واليبس. وهى قابضة مبردة ، جيدة للمعدة. وإذا طبخت وأكلت بخل : عقلت البطن وخاصة البرى منها. فهي أجود للمعدة وأشد قبضا ، وتنفع من ضعفها.

وإذا ضمد بها : سكنت الالتهاب العارض في المعدة ، وتنفع من النقرس ، ومن أورام العين الحارة. وإذا تضمد بورقها وأصولها : نفعت من لسع العقرب.

وهى تقوى المعدة ، وتفتح السدد العارضة في الكبد ، وتنفع من أوجاعها حارها وباردها ، وتفتح سدد الطحال والعروق والاحشاء ، وتنقى مجارى الكلى.

وأنفعها للكبد أمرها. وماؤها المعتصر ينفع من اليرقان السددي ، ولا سيما إذا خلط به ماء الرازيانج الرطب. وإذا دق ورقها ، ووضع على الأورام الحارة ـ : بردها وحللها ، ويجلو ما في الصدر ، ويطفئ حرارة الدم والصفراء.

وأصلح ما أكلت غير مغسولة ولا منفوضة (١) : لأنها متى غسلت أو نفضت (١) ، فارقتها قوتها. وفيها ـ مع ذلك ـ قوة ترياقية تنفع من جميع السموم.

وإذا اكتحل بمائها : نفع من الغشاء (٢). ويدخل ورقها في الترياق ، وينفع من لدغ العقرب ، ويقاوم أكثر السموم. وإذا اعتصر ماؤها ، وصب عليه الزيت ـ ، خلص من الأدوية القتالة كلها. وإذا اعتصر أصلها وشرب ماؤه : نفع من لسع الأفاعي ، ولسع العقرب ، ولسع الزنبور. ولبن أصلها يجلو بياض العين.

__________________

(١) كذا بالأحكام. وصحف في الأصل والزاد بالقاف.

(٢) بالأصل : الغشا. وبالزاد ١٩٥ : العشا. وأصله ما أثبتناه. وبالاحكام ٦٣ : الغشاوة. ومعناهما : الغطاء. كما في المصباح.


حرف الواو

١ ـ ( ورس ). ذكر الترمذي في جامعه ـ من حديث زيد بن أرقم ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « أنه كان ينعت الزيت والورس ، من ذات الجنب » ، قال قتادة : « يلد به ، ويلد من الجانب الذي يشتكيه ». وروى ابن ماجة في سننه ـ من حديث زيد بن أرقم أيضا ـ قال : « نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من ذات الجنب ، ورسا وقسطا وزيتا : يلد به ».

وصح عن أم سلمة رضي الله عنها ، قالت : « كانت النفساء تقعد بعد نفاسها أربعين يوما ، وكانت إحدانا تطلى الورس على وجهها من الكلف ».

قال أبو حنيفة اللغوي : « الورس يزرع زرعا ، وليس ببرى (١). ولست أعرفه بغير أرض العرب ، ولا من أرض بغير بلاد اليمن ».

وقوته في الحرارة واليبوسة : في أول الدرجة الثانية. وأجودها : الأحمر اللين في اليد (٢) ، القليل النخالة. ينفع من الكلف والحكة والبثور الكائنة في سطح البدن : إذا طلى به. وله قوة قابضة صابغة. وإذا شرب : نفع من الوضح. ومقدار الشربة منه : وزن درهم.

وهو ـ في مزاجه ومنافعه ـ قريب من منافع القسط البحري. وإذا لطخ به على البهق والحكة والبثور والسعفة : نفع منها. والثوب المصبوغ بالورس يقوى على الباه.

٢ ـ ( وسمة ). هي : ورق النيل. وهى تسود الشعر.

وقد تقدم قريبا (٣) ذكر الخلاف : في جواز الصبغ بالسواد ، ومن فعله.

حرف الياء

١ ـ ( يقطين ) وهو الدباء والقرع ، وإن كان اليقطين أعم. فإنه في اللغة : كل

__________________

(١) كذا بالزاد والاحكام ٢ / ٦٤. وبالأصل : يبرى. وهو تصحيف.

(٢) كذا بالأصل والاحكام ٦٥. وبالزاد : اللين القليل.

(٣) ص ٢٨٥ ـ ٢٨٦ وراجع في المقام كله : الاحكام ٢ / ٦٥ ـ ٦٧.


شجرة (١) لا تقوم على ساق ، كالبطيخ والقثاء والخيار. قال الله تعالى : ( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ).

فإن قيل : مالا يقوم على ساق يسمى نجما ، لا شجرا. والشجر : ماله ساق. قاله أهل اللغة. فكيف قال : (شجرة من يقطين)؟.

فالجواب : أن الشجر إذا أطلق : كان ماله ساق يقوم عليه ، وإذا قيد بشئ : تقيد به. فالفرق بين المطلق والمقيد في الأسماء باب مهم عظيم النفع في الفهم ومراتب اللغة. واليقطين المذكور في القرآن هو : نبات الدباء ، وثمره يسمى : الدباء والقرع وشجرة اليقطين.

وقد ثبت في الصحيحين ـ من حديث أنس بن مالك رضى (٢) الله عنه : « أن خياطا دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لطعام صنعه. (قال أنس) : فذهبت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرب إليه خبزا من شعير ، ومرقا فيه دباء وقديد (٣). (قال أنس) : فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتتبع الدباء من حوالي الصحفة ، فلم أزل أحب الدباء من ذلك اليوم ».

وقال أبو طالوت : « دخلت على أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ : وهو يأكل القرع ، ويقول : يا لك من شجرة ما أحبك إلي! لحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياك ».

وفى الغيلانيات ـ من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ـ قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « يا عائشة ، إذا طبختم قدرا : فأكثروا فيها من الدباء ، فإنها تشد قلب الحزين ».

اليقطين بارد رطب ، يغذو غذاء يسيرا. وهو سريع الانحدار. وإن لم يفسد قبل الهضم : تولد منه خلط محمود. ومن خاصيته : أنه يتولد منه خلط محمود مجانس لما يصحبه. فإن أكل بالخردل : تولد منه خلط حريف ، وبالملح خلط مالح ، ومع القابض قابض. وإن طبخ بالسفرجل : غذا البدن غذاء جيدا.

__________________

(١) كذا بالأصل والاحكام ٧٩. وبالزاد : شجر. ولعله تحريف.

(٢) جملة الدعاء لم ترد بالزاد هنا ، ووردت فيه بعد قوله الآتي : أنس.

(٣) كذا بالزاد. وبالأصل : وقديدا. ولعله محرف.


وهو لطيف مائي : يغذو غذاء رطبا بلغميا ، وينفع المحرورين ، ولا يلائم المبرودين ومن الغالب عليهم البلغم. وماؤه يقطع العطش ، ويذهب الصداع الحار : إذا شرب أو غسل به الرأس. وهو ملين للبطن كيف استعمل. ولا يتداوى المحرورون بمثله ولا أعجل منه نفعا.

ومن منافعه : أنه إذا لطخ بعجين ، وشوى في الفرن أو التنور ، واستخرج ماؤه ، وشرب ببعض الأشربة اللطيفة ـ : سكن حرارة الحمى الملتهبة ، وقطع العطش ، وغذا غذاء حسنا. وإذا شرب بترنجبين وسفرجل (١) مربى : أسهل صفراء محضة.

وإذا طبخ القرع ، وشرب ماؤه بشئ من عسل وشئ من نطرون ـ : أحدر بلغما ومرة معا. وإذا دق وعمل منه ضماد على اليافوخ : نفع من الأورام الحارة في الدماغ.

وإذا عصرت جرادته ، وخلط ماؤها بدهن الورد ، وقطر منها في الاذن ـ : نفعت من الأورام الحارة. وجرادته نافعة من أورام العين الحارة ، ومن النقرس الحار (٢).

وهو شديد النفع لأصحاب الأمزجة الحارة والمحمومين. ومتى صادف في المعدة خلطا رديئا : استحال إلى طبيعته وفسد ، وولد في البدن خلطا رديئا. ودفع مضرته : بالخل والمري.

وبالجملة : فهو من ألطف الأغذية وأسرعها انفعالا. ويذكر عن أنس رضي الله عنه : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكثر من أكله ».

( فصل ) وقد رأيت أن أختم الكلام في هذا الباب ، بفصل مختصر عظيم النفع في المحاذير (٣) والوصايا الكلية النافعة. لتتم منفعة الكتاب.

ورأيت لابن ماسويه فصلا في كتاب « المحاذير » نقلته بلفظه. قال (٤) : « من أكل البصل أربعين يوما ، وكلف ( وجهه ) ، فلا يلومن إلا نفسه. ومن افتصد فأكل

__________________

(١) كذا بالأصل والزاد : ١٩٦. وبالاحكام ٢ / ٨٠ : وبنفسج.

(٢) كذا بالزاد والاحكام. وبالأصل : الحارة. وهو تحريف.

(٣) بالزاد : « المحاذر ... ليتم » وهو تحريف.

(٤) كما في الاحكام ٢ / ١٤ ـ ١٥ : باختلاف ، أو نقص ، أو زيادة أثبتنا بعضها.


مالحا ، فأصابه بهق أو جرب ، فلا يلومن إلا نفسه. ومن جمع في معدته البيض والسمك ، فأصابه فالج أو لقوة ، فلا يلومن إلا نفسه. ومن دخل الحمام وهو ممتلئ فأصابه فالج ، فلا يلومن إلا نفسه. ومن جمع في معدته اللبن والسمك ، فأصابه جذام أو برص أو نقرس ، فلا يلومن إلا نفسه. ومن جمع في معدته اللبن والنبيذ ، فأصابه برص أو نقرس ، فلا يلومن إلا نفسه. ومن احتلم ، فلم يغتسل حتى وطئ أهله ـ فولدت مجنونا أو مخبلا ـ فلا يلومن إلا نفسه. ومن أكل بيضا مسلوقا (١) باردا ، وامتلا منه ـ فأصابه ربو ـ فلا يلومن إلا نفسه. ومن جامع ، فلم يصبر حتى يفرغ ـ فأصابه حصاة ـ فلا يلومن إلا نفسه. ومن نظر في المرآة ليلا ـ فأصابه لقوة ، أو أصابه داء ـ فلا يلومن إلا نفسه ».

( فصل ) وقال ابن بختيشوع (٢) : « احذر أن تجمع بين البيض والسمك : فإنهما يورثان القولنج و ( أرياح ) البواسير ، ووجع الأضراس. وإدامة أكل البيض تولد (٣) الكلف في الوجه. وأكل (٤) الملوحة والسمك المالح والافتصاد بعد الحمام ، يولد البهق والجرب. وإدامة أكل كلي الغنم يعقر المثانة. الاغتسال بالماء البارد ، بعد أكل السمك الطري ، يولد الفالج. وطئ (٥) المرأة الحائض ، يولد الجذام. الجماع من غير أن يهريق الماء عقيبه ، يولد الحصاة. طول المكث في المخرج ، يولد الداء الدوى ».

وقال (٦) أبقراط : « الاقلال من الضار ، خير من الاكثار من النافع ». وقال : « استديموا (٧) الصحة بترك التكاسل عن التعب ، وبترك الامتلاء من الطعام والشراب ».

__________________

(١) كذا بالأحكام. وبالأصل والزاد : مصلوقا. وانظر ما تقدم : (ص ٢٨٠).

(٢) كما في الاحكام ١٥ : باختلاف. والزيادة الآتية عنها.

(٣) بالزاد والاحكام : يولد. وكل صحيح.

(٤) بالزاد : أكل. وبالاحكام : أكل الملوخية. وبه تصحيف.

(٥) بالأحكام : لبن!.

(٦) بالزاد : قال. وهذا النص وما يليه : في طبقات الأطباء ١ / ٣٠ ، والاحكام ٢ / ١١ ـ ١٢.

(٧) كذا بالزاد. وبالأصل : استدعوا. وهو تصحيف. وعبارة الطبقات والاحكام : استدامة الصحة تكون.


وقال بعض الحكماء : « من أراد الصحة : فليجود الغذاء ، وليأكل على نقاء ، وليشرب على ظمإ (١) وليقلل من شرب الماء ، ويتمدد بعد الغداء ، ويتمش (٢) بعد العشاء ، ولا ينم (٣) حتى يعرض نفسه على الخلاء ، وليحذر دخول الحمام عقيب الامتلاء. ومرة في الصيف خير من عشر (٤) في الشتاء ، وأكل القديد اليابس بالليل معين على الفناء ، ومجامعة العجائز تهرم أعمار الاحياء ، وتسقم أبدان الأصحاء ». ويروى هذا عن علي كرم الله وجهه. ولا يصح عنه ، وإنما بعضه من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب ، وكلام غيره (٥).

وقال الحرث : « من سره البقاء ـ : ولا بقاء ـ فليباكر الغداء (٦) ، وليعجل (٧) العشاء ، وليخفف الرداء ، وليقل (٨) غشيان النساء ».

وقال الحرث : « أربعة أشياء تهدم البدن : الجماع (٩) على البطنة ، ودخول الحمام على الامتلاء ، وأكل القديد ، وجماع العجوز ».

ولما احتضر الحرث : اجتمع إليه الناس ، فقالوا : مرنا بأمر ننتهي إليه من بعدك. فقال : « لا تتزوجوا من النساء إلا شابة ، ولا تأكلوا من الفاكهة إلا في أوان نضجها ، ولا يتعالجن أحدكم ما احتمل بدنه الداء. وعليكم بتنظيف المعدة في كل شهر : فإنها مذيبة للبلغم ، مهلكة للمرة ، منبتة للحم. وإذا تغدى (١٠) أحدكم : فلينم على إثر غدائه (١٠) ساعة. وإذا تعشى : فليمش أربعين خطوة ».

__________________

(١) كذا بالزاد وطبقات الأطباء ١ / ١١٢. وبالأصل : ظماء. وهو محرف عنه أو عن « إظماء ». انظر : المصباح.

(٢) كذا بالزاد وهو الصواب. وبالأصل : « الغذاء ويتمشى ». وبالطبقات : « الغداء ويتمشى ».

(٣) بالطبقات : يبيت. وبالأصل والزاد : ينام. والملائم ما أثبتنا.

(٤) كذا بالزاد والطبقات. وبالأصل : عشرة : وهو تحريف.

(٥) راجع الطبقات.

(٦) كذا بالطبقات. وصحف في الأصل والزاد بالذال.

(٧) في رواية أخرى بالطبقات : « فليكر » ، أي فليؤخر. وما هنا أصح.

(٨) بالأصل زيادة « من ». وحذفها أولى على ما في القاموس : ٤ / ٤٠.

(٩) بالطبقات : الغشيان. والمعنى واحد.

(١٠) كذا بالزاد ١٩٧. وصحف في الأصل بالذال.


وقال بعض الملوك لطبيبه : لعلك لا تبقى لي ، فصف لي صفة آخذها عنك. فقال : « لا تنكح إلا شابة ، ولا تأكل من اللحم إلا فتيا ، ولا تشرب الدواء إلا من علة ، ولا تأكل الفاكهة إلا في نضجها. وأجد مضغ الطعام. وإذا أكلت نهارا : فلا بأس أن تنام. وإذا أكلت ليلا : فلا تنم حتى تمشى ولو خمسين خطوة. ولا تأكلن حتى تجوع ، ولا تتكارهن على الجماع ، ولا تحبس البول. وخذ من الحمام قبل أن يأخذ (١) منك. ولا تأكلن طعاما : وفى معدتك طعام. وإياك أن تأكل ما تعجز (٢) أسنانك عن مضغه ، فتعجز معدتك عن هضمه. وعليك في كل أسبوع بقيئة تنقى جسمك. ونعم الكنز الدم في جسدك ، فلا تخرجه إلا عند الحاجة إليه. وعليك بدخول الحمام : فإنه يخرج من الاطباق ما لا تصل الأدوية إلى إخراجه ».

وقال الشافعي رحمه الله تعالى (٣) : أربعة تقوى البدن : أكل اللحم ، وشم الطيب ، وكثر الغسل من غير جماع ، ولبس الكتان. وأربعة توهن البدن : كثرة الجماع ، وكثرة الهم ، وكثرة شرب الماء على الريق ، وكثرة أكل الحامض. وأربعة تقوى البصر : الجلوس تجاه الكعبة ، والكحل عند النوم ، والنظر إلى الخضرة ، وتنظيف المجلس. وأربعة توهن البصر : النظر إلى القذر ، وإلى المصلوب ، وإلى فرج المرأة ، والقعود مستدبر القبلة. وأربعة تزيد في الجماع : أكل العصافير ، والإطريفل (٤) ( الأكبر ) ، والفستق ، والخروب. وأربعة تزيد في العقل : ترك الفضول من الكلام ، والسواك ، ومجالسة الصالحين ، ومجالسة العلماء ».

وقال أفلاطون : « خمس يذبن البدن ـ وربما قتلن ـ : قصر ذات اليد ، وفراق الأحبة ، وتجرع المغايظ ، ورد النصح ، وضحك ذوي الجهل بالعقلاء ».

__________________

(١) كذا بالزاد. وبالأصل : تأخذ. وهو تصحيف.

(٢) بالأصل والزاد : يعجز!.

(٣) كما في حياة الحيوان ( ٢ / ١٤٥ : بولاق ) باختلاف وزيادة ذكرنا بعضها. وانظر : آداب الشافعنى ٣٢٣ ، والآداب الشرعية ٢ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

(٤) كذا بالأصل والزاد وحياة الحيوان ، وتاج العروس ٧ / ٤١٦. وهو الوارد بلفظ « طرفل » ( بفتح الطاء والفاء ، وسكون الراء ) : في اللسان ١٣ / ٤٢٥.


وقال طبيب المأمون : « عليك بخصال ـ من حفظها فهو جدير أن لا يعتل إلا علة الموت ـ : لا تأكل طعاما : وفى معدتك طعام. وإياك أن تأكل طعاما تتعب أضراسك في مضغه ، فتعجز معدتك عن هضمه. وإياك وكثرة الجماع : فإنه يقتبس نور الحياة. وإياك ومجامعة العجوز : فإنه يورث موت الفجأة. وإياك والفصد إلا عند الحاجة إليه. وعليك بالقئ في الصيف ».

ومن جوامع كلمات أبقراط ، قوله : « كل كثير فهو معاد للطبيعة ».

وقيل لجالينوس : مالك لا تمرض؟ فقال : « لانى لم أجمع بين طعامين رديئين ، ولم أدخل طعاما على طعام ، ولم أحبس في المعدة طعاما تأذيت به ».

( فصل ) وأربعة أشياء تمرض الجسم : الكلام الكثير ، والنوم الكثير ، والاكل الكثير ، والجماع الكثير. فالكلام الكثير : يقلل مخ الدماغ ويضعفه ، ويعجل الشيب. والنوم الكثير : يصفر الوجه ، ويعمى القلب ، ويهيج العين ، ويكسل عن العمل ، ويولد الرطوبات في البدن. والاكل الكثير : يفسد فم المعدة ، ويضعف الجسم ، ويولد الرياح الغليظة ، والأدواء العسرة. والجماع الكثير : يهد البدن ، ويضعف القوى ، ويجفف رطوبات البدن ، ويرخى العصب ، ويورث السدد ، ويعم ضرره جميع البدن ، ونخص (١) الدماغ لكثرة ما يتحلل منه : من الروح النفساني. وإضعافه أكثر من إضعاف جميع المستفرغات ، ويستفرغ من جوهر الروح شيئا كثيرا.

وأنفع ما يكون : إذا صادف شهوة صادقة من صورة جميلة حديثة السن حلالا ، مع سن الشبوبية ، وحرارة المزاج ورطوبته ، وبعد العهد به ، وخلاء (٢) القلب من الشواغل

__________________

(١) بالزاد : ويخص. ولعله تصحيف.

(٢) بالزاد : وجلاء. وهو تصحيف. انظر : القاموس ٤ / ٣٢٥.

(٢١ ـ الطب النبوي)


النفسانية ، ولم يفرط فيه ، ولم يقارنه ما ينبغي تركه معه : من امتلاء مفرط ، أو خواء واستفراغ ، أو رياضة تامة ، أو حر مفرط ، أو برد مفرط. فإذا راعى فيه هذه الأمور العشرة : انتفع به جدا. وأيها فقد : حصل له من الضرر بحسبه. وإن فقدت كلها أو أكثر : فهو الهلاك المعجل.

( فصل ) والحمية المفرطة في الصحة ، كالتخليط في المرض. والحمية المعتدلة نافعة.

وقال جالينوس لأصحابه : « اجتنبوا ثلاثا ، وعليكم بأربع. ولا حاجة لكم إلى طبيب. اجتنبوا الغبار والدخان والنتن. وعليكم بالدسم والطيب والحلوى والحمام. ولا تأكلوا فوق شبعكم ، ولا تتخللوا بالباذروج (١) والريحان ، ولا تأكلوا الجوز عند المساء. ولا ينم (٢) من به زكمة على قفاه ، ولا يأكل من به غم حامضا. ولا يسرع المشي من افتصد : فإنه يكون مخاطرة (٣) الموت. ولا يتقيأ من تؤلمه عينه. ولا تأكلوا في الصيف لحما كثيرا. ولا ينم صاحب الحمى الباردة في الشمس. ولا تقربوا الباذنجان العتيق المبزر. ومن شرب كل يوم في الشتاء ، قدحا من ماء حار ، أمن من الاعلال. ومن دلك جسمه في الحمام بقشور الرمان ، أمن من الجرب والحكة. ومن أكل خمس سوسنات ـ مع قليل من مصطكي رومي. وعود خام ، ومسك ـ بقى طول عمره لا تضعف معدته ولا تفسد. ومن أكل بزر البطيخ مع السكر ، نظف الحصى (٤) من معدته ، وزالت عنه حرقة البول.

( فصل ) أربعة تهدم البدن : الهم ، والحزن ، والجوع ، والسهر.

__________________

(١) بقلة تقوى القلب جدا وتقبض ، كما في القاموس : ١ / ١٧٨. ولفظ الأصل : بالبازروج. والزاد ١٩٨ : بالباذروج. وأصله ما ذكرنا.

(٢) هذا هو الملائم. وبالأصل والزاد : ينام.

(٣) كذا بالزاد. وفى الأصل : مخاطره. وهو تصحيف.

(٤) كذا بالزاد. وفى الأصل : الحصا. وهو مصحف عنه أو عن « الحصاة » : واحدته. على ما في المختار والمصباح.


وأربعة تفرح : النظر إلى الخضرة ، وإلى الماء الجاري ، والمحبوب ، والثمار.

وأربعة تظلم البصر : المشي حافيا ، والتصبح والامساء (١) بوجه البغيض والثقيل والعدو ، وكثرة البكاء ، وكثرة النظر في الخط الدقيق.

وأربعة تقوى الجسم : لبس الثوب الناعم ، ودخول الحمام المعتدل ، وأكل الطعام الحلو والدسم ، وشم الروائح الطيبة.

وأربعة تيبس الوجه ، وتذهب ماءه وبهجته وطلاقته ـ : الكذب ، والوقاحة ، وكثرة السؤال عن غير علم ، وكثرة الفجور.

وأربعة تزيد في ماء الوجه وبهجته : المروءة ، والوفاء ، والكرم ، والتقوى.

وأربعة تجلب البغضاء والمقت : الكبر ، والحسد ، والكذب ، والنميمة.

وأربعة تجلب الرزق : قيام الليل ، وكثرة الاستغفار بالاسحار ، وتعاهد الصدقة ، والذكر أول النهار وآخره.

وأربعة تمنع الرزق : نوم الصبحة (٢) ، وقلة الصلاة ، والكسل ، والخيانة.

وأربعة تضر بالفهم والذهن : إدمان أكل الحامض والفواكه ، والنوم على القفا ، والهم ، والغم.

وأربعة تزيد في الفهم : فراغ القلب ، وقلة (٣) التملي من الطعام والشراب ، وحسن تدبير الغذاء بالأشياء الحلوة والدسمة ، وإخراج الفضلات المثقلة للبدن.

ومما يضر بالعقل : إدمان أكل البصل والباقلا والزيتون والباذنجان ، وكثرة الجماع ، والوحدة ، والأفكار ، والسكر ، وكثرة الضحك ، والغم.

__________________

(١) أي : الدخول في المساء. وفى الأصل والزاد : المساء. والظاهر أنه محرف عما أثبتناه. انظر : المصباح والمختار ، والقاموس ٤ / ٣٩٠.

(٢) كذا بالأصل. أي : الضحى. وبالزاد : الصبيحة (أول اليوم). ولعله محرف. انظر : المصباح.

(٣) بالزاد : وقلت. وهو تصحيف.


وقال بعض أهل النظر : « قطعت في ثلاث مجالس ، فلم أجد لذلك علة : إلا أنى أكثرت من أكل الباذنجان في أحد تلك الأيام ، ومن الزيتون في الآخر ، ومن الباقلا في الثالث ».

( فصل ) قد أتينا على جمل نافعة من أجزاء الطب العلمي ، لعل الناظر فيها لا يظفر بكثير منها إلا في هذا الكتاب. وأريناك قرب ما بينها وبين الشريعة ، وأن الطب النبوي : نسبة طب الطبائعيين إليه ، أقل من نسبة طب العجائز إلى طبهم.

والامر فوق ما ذكرناه ، وأعظم مما وصفناه بكثير. ولكن : فيما ذكرناه تنبيه باليسير على ما وراءه. ومن لم يرزقه الله بصيرة على التفصيل ، فليعلم ما بين القوة المؤيدة بالوحي من عند الله ، والعلوم التي رزقها الله الأنبياء ، والعقول والبصائر التي منحهم الله إياها ، وبين ما عند غيرهم.

ولعل قائلا يقول : ما لهدى (١) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما لهذا (الباب) وذكر قوى الأدوية وقوانين العلاج ، وتدبير أمر الصحة؟!.

وهذا من تقصير هذا القائل ، في فهم ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن هذا وأضعافه ، وأضعاف أضعافه ـ : من فهم بعض ما جاء به ، وإرشاده إليه ، ودلالته عليه. وحسن الفهم عن الله ورسوله : من يمن الله به على من يشاء من عباده.

فقد أوجدناك أصول الطب الثلاثة في القرآن. وكيف تنكر أن تكون شريعة المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة ، مشتملة على صلاح الأبدان : كاشتمالها على صلاح القلوب ، وأنها مرشدة إلى حفظ صحتها ، ودفع آفاتها ، بطرق كلية : قدو كل تفصيلها إلى العقل الصحيح والفطرة

__________________

(١) بالزاد ـ والزيادة الآتية عنه ـ : لهذا. ولعله تصحيف.


السليمة ، بطريق القياس والتنبيه والايماء ، كما هو في كثير من مسائل فروع الفقه. ولا تكن ممن إذا جهل شيئا عاداه.

ولو رزق العبد تضلعا من كتاب الله وسنة رسوله ، وفهما تاما في النصوص ولوازمها ـ : لاستغني بذلك عن كل كلام سواه ، ولاستنبط جميع العلوم الصحيحة منه.

فمدار العلوم كلها على معرفة الله وأمره وخلقه. وذلك مسلم إلى الرسل صلوات الله عليهم وسلامه : فهم أعلم الخلق بالله وأمره وخلقه ، وحكمته في خلقه وأمره.

وطب أتباعهم أصح وأنفع من طب غيرهم. وطب أتباع خاتمهم وسيدهم وإمامهم ـ : محمد بن عبد الله ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم. ـ أكمل الطب وأصحه وأنفعه.

ولا يعرف هذا إلا من عرف طب الناس سواهم وطبهم ، ثم قارن (١) بينهما. فحينئذ : يظهر له التفاوت. وهم أصح الأمم عقولا وفطرا ، وأعظمهم علما ، وأقربهم في كل شئ إلى الحق. لانهم خيرة الله في الأمم ، كما رسولهم خيرته من الرسل. والعلم الذي وهبهم إياه ، والحلم والحكمة ـ أمر لا يدانيهم فيه غيرهم.

وقد روى الإمام أحمد في مسنده ـ من حديث بهز بن حكيم ، عن أبيه عن جده رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أنتم توفون (٢) سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله ».

فظهر أثر كرامتها على الله سبحانه : في علومهم وعقولهم ، وأحلامهم وفطرهم. وهم الذين عرضت عليهم علوم الأمم قبلهم وعقولهم ، وأعمالهم ودرجاتهم ـ فازدادوا بذلك علما وحلما وعقولا ، إلى ما أفاض الله سبحانه (وتعالى) (٣) عليهم : من علمه وحلمه.

ولذلك كانت الطبيعة الدموية لهم ، والصفراوية لليهود ، والبلغمية للنصارى.

__________________

(١) بالزاد ١٩٩ : وازن.

(٢) أي : تتمون. كما في الفتح الكبير. ١ / ٤٣١. وانظر : النهاية ٤ / ٢٢٣.

(٣) هذه الزيادة والزيادات الآتية ، كلها عن الزاد ١٩٩.


ولذلك غلب على النصارى : البلادة وقلة الفهم والفطنة ، وغلب على اليهود : الحزن ( والهم ) والغم والصغار ، وغلب على المسلمين : العقل والشجاعة ، والفهم (والنجدة) ، والفرح ( والسرور ).

وهذه أسرار وحقائق إنما يعرف مقدارها : من حسن فهمه ، ولطف ذهنه ، وغزر علمه ، وعرف ما عند الناس. وبالله التوفيق.

وبعد : فقد انتهى طبع هذا الكتاب الجليل ، في شهر ربيع الثاني من سنة ١٣٧٧ هجرية ، بمطبعة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة.

والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

في يوم الثلاثاء (٢٧ من ربيع الثاني سنة ١٣٧٧ ه‍ ، ١٩ من نوفمبر سنة ١٩٥٧ م

القاهرة ـ ميدان السيدة نفيسة ( رضي الله عنها )

أبو الحسن

عبد الغنى عبد الخالق


تصويبات واستدراكات

ص

س

الصواب

١٤ ، ٤٧

١٩ ، ١

النورة (بضم النون).

٢٨

٢

وتجارب (بضمة واحدة).

٧١

١٢

البحارين (بالتحريك وكسر الراء).

٧٤

٤ ، ٥

بفمه.

٨٠

١٦

لعل « الميخفتج » مصحف عن « الميبختج » الوارد في أحكام الحموي ١ / ١٠٧.

٨٣

٤

السلق (بكسر السين).

٩٥

١٦

الانتفاع (بالفاء).

١٠٨

١٢

قوله : « المتغافل » ، ورد هكذا في الأصل والزاد ، وبعض نسخ أحكام الحموي ١ / ١١. وفي نسخة أخرى منها : « المتعاقل ». وهو الصواب کما ف ديوان المتبني (٢ / ٩٣ : شرح العكبري. ط الشرفية).

١٠٩

٩

هل (بفتح اللام). وقوله : « بجائزة ... طينها » کما ف الأحكام ١ / ١٢.

ـ

١٣

وقيس (بفتح السين). والشطر من أرجوزة للعجاج ، على ما بهامش الأحكام.

١٤١

١٢

صحة الرقم : (٣).

١٤٤

٦

قوله : « حط » ، ورد كذلك بالأصل والزاد. والصواب : « نسل » کما ف اللسان ١٤ / ٢٠٤ ، أو « عرق » کما ف تاج العروس ٨ / ١٤٦ ، والأحكام ١ / ١٥٢. وقوله : « نحط » ، موافق لرواية ابن الاعرابي. وهناك رواية أخرى : « نخط ». وه الملائمة أو الصحيحة كما قال العسكري.

ـ

٩

قوله : « صلت » ، ورد في بعض نسخ الزاد بلفظ : « صلوا صلب جبر (أو خير) ». وف الأحكام ١ / ١٥٣ : « صلو صلت ». وانظر هامشها.

١٦٣

١٧

إشكم درد (بتسكين الشين والراء ، وفتح الكاف والدال).


ص

س

الصواب

١٨٠

٥ ـ ٦

قوله : « ومن فوائده ». يعني : من فوائده التنفس في الشرابوإلا كان مصحفاً عن « آفاته ». أ : آفات الشرب مهملة.

ـ

٢٣

والزاد ، والأحكام ١ / ١٠٩.

٢٠٠

١

قال : قال رسول الله.

٢٠١

١٦

امرأته.

٢٠٥

١٠

حلالا.

٢٠٦

١٩

يضرب على كلمة « قد ».

٢١٣

٥

ورواه.

٢١٦

٨

قوله : « سکة ». ورد في الأحكام (٢ / ١٥) ، بلفظ « سک » کما استظهرناه.

ـ

٩ ـ ١٠

رواية الأحكام (٢ / ١٥) ، وإن كان له طيب مسه.

٢١٨

١١

خشكريشة (بضم فسكون ففتح فكسر).

٢٢٤

١٤

رسول الله.

٢٢٩

١٥

الأنزروت. ورد هكذا في الأحكام ١ / ٢٣ ، وبلفظ « العنزروت » فيها أيضاً ص ٢٥.

٢٤٨

١٠

قد سقط بعد كلمة « ثقل » کلمة « وغشاء ». وقد وردت ف الأحكام (٢ / ١١٨) ، بلفظ « وغشى » کما رجحناه.

٢٤٩

٦

اللثة (وقد تكرر) : بكسر اللام.

٢٥٤

٦

ليرتو ... تسرو (بدون الف). وقد صحف اللفظ الأول بالقاف في الاحكام أيضاً : ٢ / ١٣٩.

٢٥٥

وقع خطأ في رقم هذه الصفحة.

ـ

٣

قوله : « ضفت » صحيح ، وليس محرفا عن « أضفت ».

٢٥٦

وقع خطأ في رقم هذه الصفحة.

٢٦٦

٢٠

ثوم (بالضم) كما في القاموس واللسان. وان ضبط بالفتح في المختار.

٢٦٨

٧

يضرب على كلمة « منه » أو تثبت بلفظ « عنه ».

٢٧١

٢١

بالزاد ١٧٨ .... حلال.


فهرِسُ الموضوُعَاتِ

الصفحة

الموضوع

الصفحة

الموضوع

١

تصدير الكتاب

٣٨

هدى النبي في العلاج بشرب العسل ، والحجامة ، والكي

١

افتتاحية الكتاب

٤٤

اختلاف الأطباء في الحجامة على نقرة القفا

١

تقسيم المرض إلى مرض القلوب ، ومرض الأبدان

٤٤

فوائد الحجامة

٢

تقسيم مرض القلوب إلى مرض شبهة ، وشهوة

٤٥

أوقات الحجامة

٤

تقسيم طب الأبدان

٤٧

جواز احتجام الصائم

٥

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التداوي ، والامر به

٤٩

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قطع العروق والكي

٨

الكلام على حديث (لكل داء دواء) والرد على من أنكر التداوي

٥١

هدى النبي في علاج الصرع

١٢

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الاحتماء من التخم

٥٤

بيان صرع الأخلاط

١٢

تقسيم الأمراض ، ومراتب الغذاء

٥٦

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج عرق النساء

١٧

أنواع علاج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمرض

٥٧

هدى النبي في علاج يبس الطبع

١٨

العلاج بالأدوية الطبيعية

٦٠

هدى النبي في علاج حكة الجسم وما يولد القمل

١٨

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الحمى

٦٢

تقسيم الملابس ، والكلام عن الحرير ومنافعه ، وحكم لبسه

٢٥

هدى النبي في استطلاق البطن

٦٤

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج ذات الجنب

٢٨

هدى النبي في الطاعون وعلاجه ، والاحتراز منه

٦٦

هدى النبي في علاج الصداع والشقيقة

٣٥

هدى النبي في داء الاستسقاء وعلاجه

٦٧

أسباب الصداع

٣٨

هدى النبي في علاج الجرح

٦٨

سبب صداع الشقيقة

٦٩

اختلاف علاج الصداع ، وفوائد الحناء


الصفحة

الموضوع

الصفحة

الموضوع

٧٠

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه

٩٦

هدى النبي في علاج السم الذي أصابه بخيبر

٧٤

هدى النبي في علاج العذرة ، والعلاج بالسعوط

٩٨

هدى النبي في علاج السحر الذي سحرته اليهودية

٧٥

هدى النبي في علاج المفؤود

١٠٠

بيان أن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية

٧٦

الكلام على التمر وفوائده وخصائصه

١٠١

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الاستفراغ بالقئ

٨٠

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دفع ضرر الأغذية والفاكهة

١٠٢

أسباب القئ

٨١

هدى النبي في الحمية

١٠٤

فوائد القئ

٨٣

بيان أن تناول العليل اليسير مما يشتهيه ، لا يضره

١٠٥

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الارشاد إلى معالجة أحذق الطبيبين

٨٤

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج الرمد

١٠٧

هدى النبي في تضمين من طب الناس وهو جاهل بالطب ، وبيان أقسام الأطباء

٨٧

هدى النبي في علاج الخدران الكلي

١١٢

الكلام عن الطبيب الحاذق

٨٨

هدى النبي في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب ، وإرشاده إلى دفع مضرات السموم بأضدادها

١١٦

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها وإرشاد الأصحاء إلى مجانبة أهلها والكلام عن الجذام

٨٩

هدى النبي في علاج البثرة

١٢١

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنع من التداوي بالمحرمات

٩٠

هدى النبي في علاج الأورام والخراجات التي تبرأ بالبط والبزل

١٢٤

هدى النبي في علاج قمل الرأس وإزالته

٩٢

هدى النبي في علاج المرضى بتطييب نفوسهم ، وتقوية قلوبهم

١٢٧

هدى النبي في العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية مفردة ومركبة

٩٣

هدى النبي في علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية والأغذية ، دون ما لم تعتده

١٢٧

هدى النبي في علاج المصاب بالعين

٩٤

هدى النبي في تغذية المريض بألطف ما اعتاده من الأغذية ، والكلام عن التلبين

١٣٢

بعض التعوذات والرقى النافعة

١٣٣

بيان ما يدفع به العائن شرعينه ، وما يدفع إصابة العين


الصفحة

الموضوع

الصفحة

الموضوع

١٣٦

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العلاج العام لكل شكوى ، بالرقية الإلهية

١٨١

الامر بتغطية الاناء ، وإيكاء السقاء

١٣٧

هدى النبي في رقية اللديغ بالفاتحة

١٨١

النهي عن الشرب من فم السقاء

١٤١

هدى النبي في علاج لدغة العقرب بالرقية

١٨٢

النهي عن الشرب من ثلمة القدح ، وعن النفخ في الشراب

١٤٣

هدى النبي في رقية النملة

١٨٣

شرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللبن خالصا ومشوبا

١٤٤

هدى النبي في رقية الحية

١٨٤

شرب النبي ما كان ينتبذ له

١٤٥

هدى النبي في رقية القرحة والجرح

١٨٤

تدبير النبي لأمر الملبس

١٤٦

هدى النبي في علاج الوجع بالرقية

١٨٥

تدبير النبي لأمر المسكن

١٤٧

هدى النبي في علاج حر المصيبة وحزنها

١٨٦

تدبير النبي لأمر النوم واليقظة

١٥٣

هدى النبي في علاج الكرب والهم والغم والحزن

١٨٦

الكلام عن حقيقة النوم وأنواعه ، وفوائده ومضاره

١٥٥

أنواع الأدوية المفيدة في ذلك

١٩١

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يقظته

١٥٦

بيان جهة تأثير هذه الأدوية في الأمراض

١٩١

تدبير الحركة والسكون (الرياضة وأنواعها)

١٦٥

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج داء الحريق وإطفائه

١٩٤

الجماع والباه ، وهدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه

١٦٦

هدى النبي في حفظ الصحة

١٩٧

أنفع الجماع

١٦٩

هدى النبي في المطعم والمشرب

١٩٨

أردأ أشكاله

١٧٢

هدى النبي في هيئة الجلوس للاكل ، وكيفية أكله ، وما كان يأكله

١٩٩

تحريم الوطء في الدبر

١٧٤

هدى النبي في الشراب

٢٠٥

الجماع الضار شرعا وطبعا

١٧٨

اختلاف الأئمة في حكم الشرب قائما

٢٠٦

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج العشق

١٧٩

تنفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشراب

٢٠٩

أنواع المحبة

١٨٠

آفة الشرب نهلة

٢١٣

الكلام عن حديث : (من عشق فعف ..)


الصفحة

الموضوع

الصفحة

الموضوع

٢١٥

هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حفظ الصحة بالطيب

٢٣١

حرير ، حرف

٢١٦

هدى النبي في حفظ صحة العين

٢٣٢

حلبة

٢١٨

فصل في ذكر شئ من الأدوية والأغذية المفردة ، التي جاءت على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مرتبة على حروف المعجم

٢٣٤

حرف الخاء

٢١٨

حرف الهمزة

٢٣٤

خبز

٢١٨

إتمد ، أترج

٢٣٥

خل

٢٢٠

أرز (بضم الراء) ، أرز (بالسكون)

٢٣٦

خلال

٢٢١

إذخر

٢٣٦

حرف الدال

٢٢١

حرف الباء

٢٣٦

دهن

٢٢١

بطيخ ، بلح

٢٣٨

حرف الذال

٢٢٢

بسر ، بيض

٢٣٨

ذريرة ، ذباب ، ذهب

٢٢٣

بصل

٢٤٠

حرف الراء

٢٢٤

باذنجان

٢٤٠

رطب

٢٢٤

حرف التاء

٢٤١

ريحان

٢٢٤

تمر

٢٤٣

رمان

٢٢٥

تين

٢٤٤

حرف الزاي

٢٢٦

تلبينة

٢٤٤

زيت

٢٢٦

حرف الثاء

٢٤٥

زبد ، زبيب

٢٢٦

ثلج ، ثوم

٢٤٦

زنجبيل

٢٢٧

ثريد

٢٤٧

حرف السين

٢٢٨

حرف الجيم

٢٤٧

سنا ، سفرجل

٢٢٨

جمار ، جبن

٢٤٨

سواك

٢٢٩

حرف الحاء

٢٥٠

سمن

٢٢٩

حناء ، حبة السوداء

٢٥١

سمك

٢٥٢

سلق

٢٥٣

حرف الشين

٢٥٣

شونيز ، شبرم

٢٥٤

شعير ، شوى

٢٥٥

شحم


الصفحة

الموضوع

الصفحة

الموضوع

٢٥٦

حرف الصاد

٢٧٩

كتاب للعرق الضارب ، ولوجع الضرس وللخراج

٢٥٦

صلاة ، صبر (بالسكون)

٢٧٩

كمأة

٢٥٨

صبر (بكسر الباء) ، صوم

٢٨٤

كباث

٢٥٩

حرف الضاد

٢٨٥

كتم

٢٥٩

ضب ، ضفدع

٢٨٧

كرم

٢٦٠

حرف الطاء

٢٨٨

كرفس ، كرات

٢٦٠

طيب ، طين

٢٨٩

حرف اللام

٢٦١

طلح ، طلع

٢٨٩

لحم

٢٦٢

حرف العين

٢٩٠

لحم الضأن

٢٦٢

عنب

٢٩١

لحم المعز ، والجدي

٢٦٣

عسل ، عجوة

٢٩٢

لحم البقر والعجل ، والفرس ، والجمل

٢٦٤

عنبر

٢٩٣

مشروعية الوضوء من أكل لحم الجمل

٢٦٥

عود

٢٩٤

لحم الضب ، والظبي ، والأرنب ، وحمار الوحش

٢٦٦

عدس

٢٩٥

لحوم الأجنة ، لحم القديد

٢٦٧

حرف الغين

٢٩٦

فصل في لحوم الطير

٢٦٧

غيث

٢٩٦

لحم الدراج ، والحجل ، والإوز ، والبط

٢٦٨

حرف الفاء

٢٩٧

لحم الحبارى ، والكركي ، والعصافير ، والحمام

٢٦٨

فاتحة الكتاب

٢٩٨

لحم القطا ، والسماني

٢٧٠

فاغية ، فضة

٢٩٨

الجراد ، وحكم أكل ميتته

٢٧٢

حرف القاف

٢٩٩

ضرر المداومة على أكل اللحم

٢٧٢

قرآن

٢٩٩

لبن

٢٧٣

قثاء ، قسط (كست)

٣٠٠

لبن الضأن ، والمعز

٢٧٥

قصب السكر

٢٧٦

حرف الكاف

٢٧٦

كتاب للحمى

٢٧٧

كتاب لعسر الولادة

٢٧٨

كتاب للرعاف ، وللحزاز ، وللحمي المثلثة ولعرق النساء


الصفحة

الموضوع

الصفحة

الموضوع

٣٠١

لبن البقر ، والإبل

٣١٥

حرف الياء

٣٠١

لبان (الكندر)

٣١٥

يقطين

٣٠٢

حرف الميم

٣١٧

فصل ختامي في المحاذير والوصايا الكلية النافعة

٣٠٢

ماء

٣١٧

كلام لابن ماسويه في كتاب المحاذير

٣٠٣

بم تعتبر جودة الماء ، وخفته؟

٣١٨

كلام لابن بختيشوع

٣٠٤

الماء العذب ، والفاتر ، والبارد ، والحار

٣١٨

كلام لأبقراط

٣٠٥

الماء المشمس

٣١٨

وصية بعض الحكماء لمن أراد الصحة

٣٠٥

ماء الثلج والبرد

٣١٨

وصيتان للحارث بن كلدة

٣٠٥

ماء الآبار والقنى

٣١٨

وصية ثالثة عند احتضاره

٣٠٦

ماء زمزم

٣٢٠

وصية طبيب لبعض الملوك

٣٠٧

ماء النيل ، ماء البحر

٣٢٠

وصية جامعة للشافعي رضي الله عنه

٣٠٨

مسك

٣٢٠

وصية لأفلاطون

٣٠٩

مرزنجوش

٣٢١

وصية لطبيب المأمون ، وغيره

٣٠٩

ملح

٣٢١

كلام جامع للمؤلف في بيان ما يمرض الجسم

٣١٠

حرف النون

٣٢٢

بيان ضرر الحمية المفرطة

٣١٠

نخل

٣٢٢

وصية جالينوس لأصحابه

٣١٢

نرجس

٣٢٢

كلام آخر للمؤلف تضمن فوائد جمة متنوعة

٣١٢

نورة

٣٢٤

كلمة ختامية في الإشارة إلى أن هذا الكتاب قد اشتمل على جملة نافعة من أجزاء الطب العلمي قل أن يظفر بمثلها ، وبيان فضل الطب النبوي وما إليه على ما عداه

٣١٣

نبق

٣٢٦

تاريخ طبع الكتاب

٣١٣

حرف الهاء

٣٢٧

تصويبات واستدراكات

٣١٣

هندبا

٣١٥

حرف الواو

٣١٥

ورس

٣١٥

وسمة

الطبّ النبوي

المؤلف:
الصفحات: 334