Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0001.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0003.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0004.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0005.png




وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *‏ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ

آل عمران ٣ : ١٦٩ ـ ١٧١




الإِهدٰاء

إلى الفاتح العظيم الذي احتلّ قلوب الناس وعواطفهم إلى اُنشودة الأحرار في كلّ زمان ومكان إلى أبيّ الضيم ، وسيّد الشهداء

الإِمٰامُ الحُسَيْنُ عليه‌السلام

أرفع بتواضع هـذه الدراسة عن حياة

العَبّٰاسُ بْنُ عَليّ عليهما‌السلام

الذي جسّد في سلوكه مع أخيه الحسين عليه‌السلام حقيق الاخوّة الصادقة ، ففداه بنفسه ، ووقاه بمهجته ، راجياً التفضّل علَيَّ بالقبول .

المؤلّف


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg


بين يديك يا قمر بني هاشم وفخر عدنان

أنت ـ يا قدوة الثوّار والأحرار ـ قد تألّقت في سماء هذا الشرف ، رمزاً للبطولات ، وعنواناً للتضحية والفداء ، فقد رأيت الحكم الأموي السحيق يسوس المجتمع نحو الدمار الشامل ، يسحقّ الكرامات ، ويقضي على الحرّيّات ، ويمتصّ الأقوات ، ويقود المجتمع إلى حياة بائسة لا ظلّ فيها للعدل السياسي والاجتماعي .

فرفعت راية التحرير مع أخيك أبي الأحرار وسيّد الشهداء عليه‌السلام الذي جسّد آمال الشعوب وطموحاتها ، وسعى لتحرير إرادتها ، وإعادة كرامتها .

لقد وقفت مع أخيك في خندق واحد فرفعتما كلمة الله الهادفة إلى كرامة الإنسان ، وبناء حياة آمنة مستقرّة لا ظلّ فيها للظلم والطغيان .

أمّا أنت ـ يا أبا الفضل ـ فكنت هبة من الله لهذه الاُمّة ، فقد فتحت لها آفاقاً مشرقة من الحريّة والكرامة ، وعلّمتها أنّ التضحية يجب أن تكون خالصة لله ، وبعيدة كلّ البعد عن الرغبات والعواطف وسائر الميول التي مآلها إلى التراب ، وبهذه الروح الإسلاميّة الأصيلة كانت تضحيتك ـ يا أبا الفضل ـ فقد اتّسمت بالدفاع عن الحقّ ، والذبّ عن القيم والمبادئ ، وهذا هو السرّ في خلود تضحيتك ، وتفاعلها مع عواطف الناس على امتداد التاريخ .


أمّا أنت ـ يا قمر بني هاشم ـ فقد أقمت صروح الحقّ في دنيا العرب والإسلام ، وشيّدت للمسلمين مجداً شامخاً بنصرتك لأخيك سيّد الشهداء ، الذي نافح من أجل أن تسود العدالة الاجتماعيّة في الأرض ، وتوزّع خيرات الله على المضطهدين والمحرومين ، وتحمّلت معه أعباء هذه الرسالة ، وبهذا كنت مع أخيك ، وسائر الشهداء الممجّدين من أهل البيت عليهم‌السلام وأنصارهم ، الطلائع المقدّسة لشهداء الحقّ في جميع أنحاء الأرض .

سَلَامُ اللهِ وَسَلَامُ مَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبينَ ، وَأَنْبِيائِهِ الْمُرْسَلينَ ، وَعِبادِهِ الصّالِحينَ ، وَجَميعِ الشُّهداءِ وَالصِّدِّيقينَ ، وَالزّاكِياتُ الطَّيِّباتُ فيما تَغْتَدي وَتَرُوحُ عَلَيْكَ يا بن أَميرِ الْمُؤْمِنِينَ


تقديمٌ

١ وبرز أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام على مسرح التاريخ الإسلامي كأعظم قائد فذّ لم تعرف له الإنسانيّة نظيراً في بطولاته النادرة ، بل ولا في سائر مُثله الاُخرى التي استوعبت بفخر جميع لغات الأرض .

لقد أبدى أبو الفضل يوم الطفّ من الصمود الهائل ، والإرادة الصلبة ما يفوق الوصف ، فكان برباطة جأشه ، وقوّة عزيمته جيشاً لا يُقهر ، فقد أرعب عسكر ابن زياد ، وهزمهم نفسيّاً ، كما هزمهم في ميادين الحرب .

إنّ بطولات أبي الفضل عليه‌السلام كانت ولا تزال حديث الناس في مختلف العصور ، فلم يشاهدوا رجلاً واحداً مثقلاً بالهموم والنكبات يحمل على جيش مكثّف مدعّم بجميع آلات الحرب ، قد ضمّ عشرات الآلاف من المشاة وغيرهم ، فيلحق بهم أفدح الخسائر من معدّاتهم وجنودهم .

ويقول المؤرّخون عن بسالته يوم الطفّ : إنّه كلّما حمل على كتيبة تفرّ منهزمة من بين يديه ، يسحق بعضها بعضاً ، قد خيّم عليها الموت ، واستولى عليها الفزع والذعر ، قد خُلعت منها الأفئدة والقلوب ، ولم تغن عنها كثرتها شيئاً .

إنّ شجاعة أبي الفضل وسائر مواهبه ومزاياه ممّا تدعو إلى الاعتزاز والفخر ، ليس له وللمسلمين فحسب ، وإنّما لكلّ إنسان يدين لإنسانيّته ، ويخضع لقيمها الكريمة .


٢ وبالإضافة إلى ما يتمتّع به أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام من البطولات الرائعة ، فإنّه كان مثالاً للصفات الشريفة ، والنزعات العظيمة ، فقد تجسّدت فيه الشهامة والنبل والوفاء والمواساة ، فقد واسى أخاه أبا الأحرار الإمام الحسين عليه‌السلام في أيام محنته الكبرى ، ففداه ووقاه بمهجته ، ومن المقطوع به أنّ تلك المواساة لا يقدر عليها إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان ، وزاده هدىً .

٣ ومثّل أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام في سلوكه مع أخيه الإمام الحسين عليه‌السلام حقيقة الاخوّة الإسلاميّة الصادقة ، وأبرز جميع قيمها ومُثلها ، فلم يبقَ لون من ألوان الأدب ، والبرّ والإحسان إلّا قدّمه له ، وكان من أروع ما قام به في ميادين المواساة له ، أنّه حينما استولى على الماء يوم الطفّ تناول منه غرفة ليشرب ، وكان قلبه الزاكي كصالية الغضا من شدّة الظمأ ، فتذكّر في تلك اللحظات الرهيبة عطش أخيه الإمام الحسين عليه‌السلام وعطش الصبية من أهل البيت عليهم‌السلام ، فدفعه شرف النفس ، وسموّ الذات إلى رمي الماء من يده ، ومواساتهم في هذه المحنة الحازبة .

تصفّحوا في تاريخ الاُمم والشعوب ، فهل تجدون مثل هذه الاخوّة الصادقة ؟!

انظروا في سجلّات نبلاء الدنيا ، فهل ترون مثل هذا النبل ، ومثل هذا الإيثار ؟!

الله أكبر ! أي رحمة مثل هذه الرحمة ، وأيّة مودّة مثل هذه المودّة !!

إنّ الإنسانيّة بجميع قيمها ومُثلها لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام أبي الفضل على ما أبداه من عظيم النبل لأخيه الإمام الحسين أبي الأحرار وسيّد الشهداء عليه‌السلام .

٤ والشيء الذي يدعو إلى الاعتزاز بتضحية أبي الفضل عليه‌السلام ونصرته لأخيه الإمام الحسين عليه‌السلام ، أنّها لم تكن بدافع الاخوّة والرحم الماسّة ، وغير ذلك من الاعتبارت السائدة بين الناس ، وإنّما كانت بدافع الإيمان الخالص لله ، ذلك الإيمان الذي تفاعل مع عواطف أبي الفضل ، وصار عنصراً من عناصره ، ومقوّماً


من مقوّماته ، وقد أدلى بذلك في رجزه حينما قطعت يمينه التي كانت تفيض برّاً وعطاءً للناس ، قائلاً :

وَاللهِ إنْ قَطَعتُمُ يَمِينِي

إِنِّي أُحَامِي أَبَداً عَنْ دِينِي

وَعَن إِمَامٍ صَادِقِ اليَقينِ

إنّ الرجز في تلك العصور كان يمثّل الأهداف والمبادئ والقيم التي من أجلها يقاتل الشخص ويستشهد في سبيلها ، ورجز سيّدنا العبّاس عليه‌السلام صريح واضح في أنّه إنّما يقاتل دفاعاً عن الدين ، ودفاعاً عن المبادئ الإسلاميّة الأصيلة التي تعرّضت إلى الخطر أيّام الحكم الأموي الأسود ، كما أنّه إنّما يقاتل دفاعاً عن إمام المسلمين ، سبط رسول الله وريحانته الإمام الحسين عليه‌السلام ، المدافع الأوّل عن كرامة الإسلام .

فهذه هي العوامل التي دفعته إلى التضحية ، وليس هناك أي دافع آخر ، وهذا السرّ في جلال تضحيته ، وخلودها عبر القرون والأجيال .

٥ لقد استشهد أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام من أجل المبادئ العليا التي رفع شعارها أبو الأحرار أخوه الإمام الحسين عليه‌السلام ، والتي كان من أهمّها أن يقيم في هذا المشرق حكم القرآن ، وينشر العدل بين الناس ، ويوزع عليهم خيرات الأرض ، فليست هي لقوم دون آخرين .

لقد استشهد أبو الفضل من أجل أن يعيد للإنسان المسلم حرّيّته وكرامته ، وينشر بين الناس رحمة الإسلام ، ونعمته الكبرى الهادفة لاستئصال الظلم والجور ، وبناء مجتمع لا ظلّ فيه لأيّ لون من ألوان الفزع والخوف .

لقد حمل أبو الفضل مشعل الحريّة والكرامة ، وقاد قوافل الشهداء إلى ساحات الشرف ، وميادين العزّة والنصر للاُمّة الإسلاميّة التي كانت ترزح تحت وطأة الظلم والجور .


لقد انطلق أبو الفضل إلى ميادين الجهاد من أجل أن ترتفع كلمة الله تعالى عالية في الأرض ، تلك الكلمة التي هي منهج كامل للحياة الكريمة بين الناس .

٦ وفجّر الإمام أبو الأحرار ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب ، وجعلها عبرة لاُولي الألباب ، فدكّ بها حصون الظلم وقلاع الجور .

ولم يفجّر الإمام الحسين عليه‌السلام ثورته الرائدة العملاقة أشراً ولا بطراً ، ولا ظالماً ولا مفسداً ـ حسب ما يقول ـ ، وإنّما أراد تغيير الواقع المرير الذي تعيشه الاُمّة من جرّاء الحكم الأموي المنحرف عن جميع الأعراف والقوانين ، ذلك النظام الذي أحال حياة الناس إلى جحيم لا يطاق ، فقد عجّت البلاد الإسلاميّة بجميع صنوف الجور والارهاب ، وكان من أعظمها محنة ، وأشدّها بلاءً ، البلاد الإسلاميّة الخاضعة لحكم زياد بن أبيه ، والي معاوية على العراق ، وأخيه اللّاشرعي ، الذي أجّج نار الفتنة ، وحكم بين الناس بغير ما أنزل الله ، فأخذ البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر ، وقتل على الظنّة والتهمة ، كما أعلن ذلك ، وطبّقه بالفعل على الحياة العامّة بين الناس .

٧ وإنّ سبط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمل الإسلام ، والمسؤول الأوّل عن رعاية المسلمين ، وصيانة حياتهم والواقع الاجتماعي الذي تعيشه الاُمّة ، والذي ينذر بخطر عظيم على حياتها العقائديّة ، والفكريّة والاجتماعيّة ، فقد تحكّم في مصيرها جبابرة الأمويّين ، وطغاة الرأسماليّة القرشيّة ، التي حملت معول الهدم على جميع ما أسّسه الإسلام من مجد أصيل وخلق رفيع للاُمّة .

بالإضافة إلى أنّها أخذت تستنزف الموارد الاقتصاديّة في العالم الإسلامي ، وتنفقها على شهواتها ورغباتها الخاصّة ، فهبّ أبو الأحرار لإنقاذ المسلمين ، وإعادة الحياة الكريمة لهم ، فما أعظم عائدته على الإسلام ، وما أكثر ألطافه وأياديه على المسلمين .


٨ إنّ ملحمة كربلاء من أهمّ الأحداث العالميّة ، بل ومن أهمّ ما حقّقته البشريّة من انجازات رائعة في ميادين الكفاح المسلّح ضدّ الظلم والطغيان ، فقد غيّرت مجرى تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، وفتحت لها آفاقاً مشرقة للتمرّد على الظلم والطغيان .

لقد ألهبت هذه الملحمة الخالدة عواطف الأحرار ، ودفعتهم إلى النضال المسلّح في سبيل تحرير المجتمع من نير العبوديّة والذلّ ، وإنقاذه من الحكم اللّاشرعي .

٩ لقد انتصر سيّد الشهداء في ثورته الخالدة ، وانتصرت أهدافه ومبادئه العظيمة ، وظلّ مثلاً خالداً للكفاح المقدّس يطارد الظالمين والطغاة في كلّ عصر وزمان ، ويمدّ الثوّار بروح التضحية والفداء .

إنّ من الانتصارات الرائعة التي حقّقها أبي الضيم في ثورته أنّه جرّد الحكم الأموي من الشرعيّة ، وأنّه لا يمثّل الإسلام ولا المسلمين بأي حال من الأحوال ، وإنّما هو حكم ديكتاتوري قائم على النطع والسيف لا على رضى الاُمّة واختيارها .

لقد وضع أبو الأحرار العبوات الناسفة في أروقة الحكم الأموي ففجّرتها ، ونسفت معالم زهوهم وفجورهم وطغيانهم ، وظلّوا مثلاً أسوداً لكلّ حكم منحرف عن سنن الحقّ والعدل .

١٠ لقد أيقظت ثورة أبي الأحرار الشعوب الإسلاميّة من خدرها وسباتها ، فانطلقت كالمارد الجبّار في ثورات متلاحقة ، وهي ترفع شعار التحرير ، وشعار الاستقلال ، وشعار الكرامة من أجل التخلّص من ذلك الحكم الأسود .

لقد قامت الشعوب الإسلاميّة في ثورات متلاحقة كانت امتداداً لثورة الحسين عليه‌السلام ، حتّى أطاحت بالحكم الأموي ، وأزالته من دنيا الوجود .

١١ ومن الجدير بالذكر أنّ كارثة كربلاء ، وما لحق بالإمام الحسين عليه‌السلام من التنكيل ، والاعتداء الصارخ ، لم يأتِ ذلك عفواً ، وإنّما كان من النتائج المباشرة


للانحرافات والسلوك في المنعطفات السياسيّة من جانب الحكّام والمسؤولين ، الذين كانوا ينظرون إلى السلطة بأنّها مغنم ، ووسيلة للظفر بالثراء العريض ، ولم يعوا أنّ الإسلام اعتبر السلطة أداة لخدمة المجتمع ، وتطوير حياته الفكريّة والاقتصاديّة ، وأنّها مسؤولة أمام الله عن اقتصاد الاُمّة ، فيجب عليها الاحتياط فيه أشدّ ما يكون الاحتياط ، فليس لرئيس الدولة ، ولا لغيره من أجهزة الحكم أن يصطفوا لأنفسهم وذويهم أي شيء من أموال الدولة .

وكان على رأس الحكّام المنحرفين ملوك بني اُميّة الذين اتّخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، فإنّهم عمدوا إلى ظلم العلويّين ، والإجهاز على شيعتهم .

وقد شاهد أبو الفضل عليه‌السلام المحن الشاقّة والعسيرة التي حلّت بأهل بيته ومحبّيهم ، وممّا لا ريب فيه أنّها تركت في أعماق نفسه أقسى ألوان المحن والآلام .

١٢ أمّا دور سيّدنا العبّاس عليه‌السلام في ملحمة كربلاء فإنّه يأتي في الأهميّة بعد أخيه أبي الأحرار الإمام الحسين عليه‌السلام ، صانع الملحمة الخالدة في دنيا الحقّ والعدل ، وقد فاق جميع أصحاب الإمام الحسين عليه‌السلام ، وأهل بيته المكرّمين ، وذلك بما قدّمه من عظيم الخدمات لأخيه .

وبالإضافة إلى مواقفه البطوليّة الرائعة ، وصموده الهائل أمام معسكر ابن زياد ، وقد أبدى من البسالة ما يذهل الأفكار ويحيّر الألباب ، وكان يشيع في نفوس أصحاب أخيه وأهل بيته العزم والتصميم على التضحية والجهاد بين يديه ، فقد استهان بالموت وسخر من الحياة ، وقد انطبعت هذه الظاهرة في نفوسهم ، فاعتنقوا الشهادة ، وانطلقوا إلى ميادين الجهاد ليرفعوا كلمة الله في الأرض .

١٣ وكان العبّاس عليه‌السلام أيّام المحنة الكبرى التي حلّت بأخيه ملازماً له لم يفارقه ، وقدّم له جميع ألوان البرّ والإحسان ، فكان يقيه بنفسه ، ويفيديه بمهجته ، فهو صاحب لوائه ، ومدير شؤونه ، والمتصدّي لخدماته .


ويقول الرواة : إنّه قد استوعب حبّه والإخلاص له قلب أخيه الإمام الحسين عليه‌السلام حتّى فداه بنفسه ، وكان عليه ضيفاً ، فلم يسمح له بالحرب حتّى بعد مقتل أصحابه وأهل بيته ، لأنّه كان يشعر بالقوّة والمنعة ما دام حيّاً إلى جانبه .

ولمّا استشهد العبّاس شعر الإمام الحسين بالوحدة والغربة والضياع بعده ، وفقدَ كلّ أمل له في الحياة ، وراح يبكي عليه أمرّ البكاء ، ويندبه بذوب روحه ، وسارع إلى ساحة الحرب ليلتقي به في جنان الخلد .

سلام الله عليك يا أبا الفضل ، ففي حياتك وشهادتك ملتقى أمين لجميع القيم الإنسانيّة ، وحسبك أنّك وحدك كنت اُنموذجاً رائعاً لشهداء الطفّ الذين احتلّوا قمّة الشرف والمجد في دنيا العرب والإسلام .

١٤ كان بودّي قبل حفنة من السنين أن أتشرّف بالبحث عن سيرة أبي الفضل العبّاس عليه‌السلام رائد الشرف والكرامة لهذه الاُمّة ، وقد دعاني إلى ذلك بإصرار بعض السادة من فضلاء الحوزة العلميّة في النجف الأشرف ، إلّا أنّ انشغالي بتأليف موسوعة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام قد شغلني عن ذلك ، وقد ألمّت كارثة من كوارث الزمن ببعض ولدي فتوسّلت ، وتوسّل ضارعاً إلى الله تعالى أن يكشف عنه ما هو فيه ، وينقذه وينجّيه ، فاستجاب الله دعائي ودعاءه ، فأنجاه ممّا هو فيه ، والحمد لله .

وقد طلب منّي أن أكتب رسالة عن حياة أبي الفضل وسيرته وشهادته ، فاستجبت له ، وجمّدت الموضوع الذي بيدي ، واتّجهت صوب أبي الفضل آملاً من الله تعالى أن أُوفّق إلى إعطاء صورة متميّزة وكاملة عن حياته ، وأن لا أكون قد جافيت الواقع أو ابتعدت عن القصد فيما كتبته عنه .

إنّه وليّ القصد والتوفيق

مَكتَبَةُ الإمٰامِ الحَسَن العَٰامّةَ

النَّجَفُ الأَشْرَفُ

بٰاقر شَريْف القَرَشي


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0019.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg




وقبل أن أتحدّث عن ولادة أبي الفضل العبّاس عليه‌السلام ونشأته أعرض بإيجاز إلى نسبه الوضّاح ، ذلك النسب الكريم الذي كان له الأثر التامّ في بناء شخصيّته العظيمة ، وتكوين سلوكه المشرّف القائم على الشرف والفضيلة ، وفيما يلي ذلك :

نسبه عليه‌السلام الوضّاح

ليس في دنيا الأنساب نسبٌ أسمى ، ولا أرفع من نسب أبي الفضل ، فهو من صميم الاُسرة العلويّة ، التي هي من أجلّ وأشرف الاُسر التي عرفتها الإنسانيّة في جميع أدوارها ، تلك الاُسرة العريقة في الشرف والمجد ، التي أمدّت العالم العربي والإسلامي بعناصر الفضيلة ، والتضحية في سبيل الخير ، وما ينفع الناس ، وأضاءت الحياة العامّة بروح التقوى والإيمان ، وهذا عرض موجز للاُصول الكريمة التي تفرّع قمر بني هاشم ، وفخر عدنان منها .

الأب

أمّا الأب الكريم لسيّدنا العبّاس عليه‌السلام فهو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وباب مدينة علمه ، وختنه على حبيبته ، وهو أوّل من آمن بالله ، وصدّق رسوله ، وكان منه بمنزلة هارون من موسى ، وهو بطل الإسلام ، والمنافح الأوّل عن كلمة التوحيد ، وقد قاتل الأقربين والأبعدين من أجل نشر رسالة الإسلام ، وإشاعة


أهدافه العظيمة بين الناس ، وقد تمثّلت بهذا الإمام العظيم جميع فضائل الدنيا ، فلا يدانيه أحد في فضله وعلمه ، وهو ـ بإجماع المسلمين ـ أثرى شخصيّة علميّة في مواهبه وعبقريّاته بعد الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو غنيّ عن البيان والتعريف ، فقد استوعبت فضائله ومناقبه جميع لغات الأرض . . ويكفي العبّاس شرفاً وفخراً أنّه فرع من دوحة الإمامة ، وأخ لسبطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الاُمّ

أمّا الاُمّ الجليلة المكرّمة لأبي الفضل العبّاس عليه‌السلام فهي السيّدة الزكيّة فاطمة بنت حزام بن خالد . . وأبوها حزام من أعمدة الشرف في العرب ، ومن الشخصيّات النابهة في السخاء والشجاعة وقري الأضياف .

وأمّا اُسرتها فهي من أجلّ الاُسر العربيّة ، وقد عُرفت بالنجدة والشهامة ، وقد اشتهر منها جماعة بالنبل والبسالة منهم :

١ ـ عامر بن الطفيل

وهو أخو عمرة الجدّة الاُولى لاُمّ البنين ، وكان من ألمع فرسان العرب في شدّة بأسه ، وقد ذاع اسمه في الأوساط العربيّة وغيرها ، وبلغ من عظيم شهرته أنّ قيصر إذا قدم عليه وافد من العرب ، فإن كان بينه وبين عامر نسب عظم عنده ، وبجّله وأكرمه ، وإلّا أعرض عنه .

٢ ـ عامر بن مالك

وهو الجدّ الثاني للسيّدة اُمّ البنين ، وكان من فرسان العرب وشجعانهم ، ولُقّب بملاعب الأسنّة لشجاعته الفائقة ، وفيه يقول الشاعر :

يُلاعِبُ أَطرافَ الأَسِنَّةِ عامِرٌ

فَراحَ لَهُ حَظُّ الكَتائِبِ أَجْمَعُ


وبالإضافة إلى شجاعته ، فقد كان من اُباة الضيم ، وحفظة الذمار ، ومراعاة العهد ، ونقل المؤرّخون عنه بوادر كثيرة تدلّل على ذلك .

٣ ـ الطفيل

وهو والد عمرة الجدّة الاُولى لاُمّ البنين ، كان من أشهر شجعان العرب ، وله أشقّاء من خيرة فرسان العرب ، منهم : ربيعة ، وعبيدة ، ومعاوية ، ويقال لاُمّهم ( اُمّ البنين ) ، وقد وفدوا على النعمان بن المنذر فرأوا عنده الربيع بن زياد العبسي ، وكان عدوّاً وخصماً لهم ، فاندفع لبيد بن ربيعة الشاعر المشهور وقد تميّز من الغيظ فخاطب النعمان :

يا واهِبَ الَخيرِ الجَزيل مِنْ سَعَة

نَحنُ بَنو اُمِّ البَنينِ الأَرْبَعَة

وَنَحنُ خَيرُ عامِرِ بْنِ صَعْصَعَة

المُطْعِمونَ الجَفنَةَ المُدَعْدَعَة

الضّارِبونَ الهامَ وَسطَ الحَيصَعَة

إِلَيكَ جاوَزْنا بِلاداً مُسْبِعَة

تُخْبَرُ عَنْ هٰذا خَبيراً فَاسْمَعَه

مَهْلاً أَبَيتَ اللَّعنَ لَا تَأْكُلْ مَعَه

فتأثّر النعمان للربيع ، وأقصاه عن مسامرته ، وقال له :

شَرِّدْ بِرَحلِكَ عَنّي حَيثُ شِئْتَ وَلا

تُكثِرْ عَلَيَّ وَدَعْ عَنْكَ الأَباطيلا

قَدْ قيلَ ذلِكَ إنْ حَقّاً وَإِنْ كَذِباً

فَما اعْتِذارُكَ في شَيْءٍ إِذا قِيلا (١)

ودلّ ذلك على عظيم مكانتهم ، وسموّ منزلتهم الاجتماعيّة عند النعمان ، فقد بادر إلى إقصاء سميره الربيع عن مسامرته .

٤ ـ عروة بن عتبة

وهو والد كبشة الجدّة الثانية لاُمّ البنين ، وكان من الشخصيّات البارزة في العالم

__________________________

(١) خزانة الأدب : ١٤ . معجم البلدان : ١٠ : ٣٨٦ .


العربي ، وكان يفد على ملوك عصره فيكرمونه ويجزلون له العطاء ، ويحسنون له الوفادة (١) .

هؤلاء بعض الأعلام من أجداد السيّدة الكريمة اُمّ البنين ، وقد عرفوا بالنزعات الكريمة ، والصفات الرفيعة ، وبحكم قانون الوراثة فقد انتقلت صفاتهم الشريفة إلى السيّدة اُمّ البنين ، ثمّ منها إلى أبنائها الممجّدين .

قِران الإمام عليه‌السلام باُمّ البنين

ولمّا ثكل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بوفاة بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها‌السلام ندب أخاه عقيلاً ، وكان عالماً بأنساب العرب أن يخطب له امرأة قد ولدتها الفحول ليتزوّجها لتلد غلاماً زكيّاً شجاعاً لينصر ولده أبا الشهداء في ميدان كربلاء (٢) ، فأشار عليه عقيل بالسيّدة اُمّ البنين الكلابيّة ، فإنّه ليس في العرب من هو أشجع من أهلها ، ولا أفرس ، وكان لبيد الشاعر يقول فيهم : « نحن خير عامر بن صعصعة » ، فلا ينكر عليه أحد من العرب ، ومن قومها ملاعب الأسنّة أبو براء الذي لم يعرف العرب مثله في الشجاعة (٣) .

فندبه الإمام في خطبتها ، وانبرى عقيل إلى أبيها فعرض عليه الأمر ، فأسرع فرحاً إليها فاستجابت باعتزاز وفخر ، وزفّت إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد رأى فيها العقل الراجح ، والإيمان الوثيق ، وسموّ الآداب ، ومحاسن الصفات ، فأعزّها وأخلص لها أعظم ما يكون الإخلاص .

__________________________

(١) قمر بني هاشم : ١ : ١١ ـ ١٣ .

ذكر المحقّق الشيخ عبد الواحد المظفر في كتابه ( بطل العلقمي ) عرضاً مفصّلاً لمآثر هذه الاُسرة الكريمة .

(٢) و (٣) تنقيح المقال ٢ : ١٢٨ .


رعايتها لسبطيّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

وقامت السيّدة اُمّ البنين برعاية سبطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتيه ، وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوّضهما من الخسارة الأليمة التي مُنيا بها بفقد اُمّهما سيّدة نساء العالمين ، فقد توفّيت ، وعمرها كعمر الزهور ، فقد ترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما .

لقد كانت السيّدة اُمّ البنين تكنّ في نفسها من المودّة والحبّ للحسن والحسين عليهما‌السلام ما لا تكنّه لأولادها الذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم .

لقد قدّمت اُمّ البنين أبناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أبنائها في الخدمة والرعاية ، ولم يعرف التاريخ أنّ ضرّة تخلص لأبناء ضرّتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السيّدة الزكيّة ، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً ، لأنّ الله أمر بمودّتهما في كتابه الكريم ، وهما وديعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتاه ، وقد عرفت اُمّ البنين ذلك فوفت بحقّهما ، وقامت بخدمتهما خير قيام .

مكانتها عند أهل البيت عليهم‌السلام

ولهذه السيّدة الزكيّة مكانة متميّزة عند أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد أكبروا إخلاصها وولاءها للإمام الحسين عليه‌السلام ، وأكبروا تضحيات أبنائها المكرّمين في سبيل سيّد الشهداء عليه‌السلام .

يقول الشهيد الأوّل ـ وهو من كبار فقهاء الإماميّة ـ : « كانت اُمّ البنين من النساء الفاضلات ، العارفات بحقّ أهل البيت عليهم‌السلام ، مخلصة في ولائهم ، ممحضة في مودّتهم ، ولها عندهم الجاه الوجيه ، والمحلّ الرفيع ، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الأربعة ، كما كانت تعزّيها أيّام العيد » (١) .

__________________________

(١) العباس / المقرّم : ٧٢ و ٧٣ نقلاً عن مجموعة الشهيد الأوّل .


إنّ زيارة حفيدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وشريكة الإمام الحسين عليه‌السلام في نهضته زينب الكبرى عليها‌السلام لاُمّ البنين ، ومواساتها لها بمصابها الأليم بفقد السادة الطيّبين من أبنائها ، ممّا يدلّ على أهميّة اُمّ البنين وسموّ مكانتها عند أهل البيت عليهم‌السلام .

مكانتها عند المسلمين

وتحتلّ هذه السيّدة الجليلة مكانة مرموقة في نفوس المسلمين ، ويذهب الكثيرون إلى أنّ لها منزلة عظيمة عند الله ، وأنّه ما التجأ إليها مكروب ، وجعلها واسطة إلى الله تعالى إلّا كشف عنه ما ألمّ به من المحن والخطوب ، وهم يفزعون إليها إن ألمّت بهم كارثة من كوارث الزمن ، أو محنة من محن الأيّام .

ومن الطبيعي أن تكون لها هذه المنزلة الكريمة عند الله ، فقد قدّمت في سبيله أفلاذ أكبادها ، وجعلتهم قرابين لدينه .

الوليد العظيم

وكان أوّل مولود زكيّ للسيّدة اُمّ البنين هو سيّدنا المعظّم أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام ، وقد ازدهرت يثرب ، وأشرقت الدنيا بولادته ، وسرت موجات من الفرح والسرور بين أفراد الاُسرة العلويّة ، فقد ولد قمرهم المشرق الذي أضاء سماء الدنيا بفضائله ومآثره ، وأضاف إلى الهاشميّين مجداً خالداً ، وذكراً نديّاً عاطراً .

وحينما بُشّر الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذا المولود المبارك سارع إلى الدار فتناوله ، وأوسعه تقبيلاً ، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعيّة ، فأذّن في أُذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى .

لقد كان أوّل صوت قد اخترق سمعه صوت أبيه رائد الإيمان والتقوى في الأرض ، واُنشودة ذلك الصوت : الله أكبر . . لا إلٰه إلّا الله .

وارتسمت هذه الكلمات العظيمة التي هي رسالة الأنبياء ، واُنشودة المتّقين


في أعماق أبي الفضل ، وانطبعت في دخائل ذاته ، حتّى صارت من أبرز عناصره ، فتبنّى الدعوة إليها في مستقبل حياته ، وتقطّعت أوصاله في سبيلها .

وفي اليوم السابع من ولادة أبي الفضل عليه‌السلام ، قام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بحلق شعره ، والتصدّق بزنته ذهباً أو فضّة على المساكين ، وعقّ عنه بكبش ، كما فعل ذلك مع الحسن والحسين عليهما‌السلام عملاً بالسنّة الإسلامية .

سنة ولادته عليه‌السلام

أفاد بعض المحقّقين أنّ أبا الفضل العبّاس عليه‌السلام وُلد سنة ٢٦ هـ في اليوم الرابع من شهر شعبان (١) .

تسميته عليه‌السلام

سمّى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وليده المبارك بـ ( العبّاس ) وقد استشفّ من وراء الغيب أنّه سيكون بطلاً من أبطال الإسلام ، وسيكون عبوساً في وجه المنكر والباطل ، ومنطلق البسمات في وجه الخير ، وكان كما تنبّأ ، فقد كان عبوساً في ميادين الحروب التي أثارتها القوى المعادية لأهل البيت عليهم‌السلام ، فقد دمّر كتائبها ، وجندل أبطالها ، وخيّم الموت على جميع قطعات الجيش في يوم كربلاء ، ويقول الشاعر فيه :

عَبَسَتْ وُجوهُ القَومِ خَوفَ الْمَوتِ

وَالعَبّاسُ فيهِمْ ضاحِكٌ مُتَبَسِّمُ

كنيته عليه‌السلام

وكُنّي سيّدنا العبّاس عليه‌السلام بما يلي :

__________________________

(١) قمر بني هاشم : ٢ : ٥ .


١ ـ أبو الفضل

كُنّي بذلك لأنّ له ولداً اسمه الفضل ، ويقول في ذلك بعض من رثاه :

أَبا الفَضْلِ يا مَنْ أسَّسَ الفَضْلَ وَالْإِبا

أَبى الفَضْلُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ أَبا

وطابقت هذه الكنية حقيقة ذاته العظيمة ، فلو لم يكن له ولد يُسمّى بهذا الاسم ، فهو حقّاً أبو الفضل ، ومصدره الفيّاض ، فقد أفاض في حياته ببرّه وعطائه على القاصدين لنبله وجوده ، وبعد شهادته كان موئلاً وملجأً لكلّ ملهوف ، فما استجار به أحد بنيّة صادقة إلّا كشف الله ما ألمّ به من المحن والبلوى .

٢ ـ أبو القاسم

كُنّي بذلك ، لأنّ له ولداً اسمه ( القاسم ) ، وذكر بعض المؤرّخين أنّه استشهد معه يوم الطفّ ، وقدّمه قرباناً لدين الله ، وفداءً لريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ألقابه عليه‌السلام

اُمّا الألقاب التي تُضفى على الشخص فهي تحكي صفاته النفسيّة حسنة كانت أو سيّئة ، وقد اُضيفت على أبي الفضل عليه‌السلام عدّة ألقاب رفيعة تنمّ عن نزعاته النفسيّة الطيّبة ، وما اتّصف به من مكارم الأخلاق ، وهي :

١ ـ قمر بني هاشم

كان العبّاس عليه‌السلام في روعة بهائه ، وجميل صورته ، آية من آيات الجمال ، ولذلك لقّب بقمر بني هاشم .

وكما كان قمراً لاُسرته العلويّة الكريمة ، فقد كان قمراً في دنيا الإسلام ، فقد أضاء طريق الشهادة ، وأثار مقاصدها لجميع المسلمين .


٢ ـ السقّاء

وهو من أجلّ ألقابه ، وأحبّها إليه ، أمّا السبب في إضفاء هذا اللقب الكريم عليه ، لقيامه بسقاية عطاشى أهل البيت عليهم‌السلام حينما فرض الارهابي المجرم ابن مرجانة الحصار على الماء ، وأقام جيوشه على الفرات لتموت ذرّيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عطشاً .

وقد قام بطل الإسلام أبو الفضل باقتحام الفرات عدّة مرّات ، وسقى عطاشى أهل البيت عليهم‌السلام ، ومن كان معهم من الأنصار ، وسنذكر تفصيل ذلك عند التعرّض لشهادته .

٣ ـ بطل العلقمي

أمّا العلقمي فهو اسم للنهر الذي استشهد على ضفافه أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام ، وكان محاطاً بقوى مكثّفة من قِبل ابن مرجانة لمنع ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيّد شباب أهل الجنّة ، ومن كان معه من نساء وأطفال من شرب الماء .

وقد استطاع أبو الفضل بعزمه الجبّار ، وبطولته النادرة أن يجندل الأبطال ، ويهزم أقزام ذلك الجيش المنحطّ ، ويحتلّ ذلك النهر ، وقد قام بذلك عدّة مرّات ، وفي المرّة الأخيرة استشهد على ضفافه ومن ثمّ لُقّب ببطل العلقمي .

٤ ـ حامل اللواء

ومن ألقابه المشهورة ( حامل اللواء ) وهو أشرف لواء ، إنّه لواء أبي الأحرار الإمام الحسين عليه‌السلام ، وقد خصّه به دون أهل بيته وأصحابه ، وذلك لما تتوفّر فيه من القابليّات العسكريّة ، ويعتبر منح اللواء في ذلك العصر من أهمّ المناصب الحسّاسة في الجيش ، وقد كان اللواء الذي تقلّده أبو الفضل يرفرف على رأس الإمام الحسين عليه‌السلام منذ أن خرج من يثرب حتّى انتهى إلى كربلاء ، وقد قبضه بيد من


حديد ، فلم يسقط منه حتّى قطعت يداه ، وهوى صريعاً بجنب العلقمي .

٥ ـ كبش الكتيبة

وهو من الألقاب الكريمة التي تمنح الى القائد الأعلى في الجيش ، الذي يقوم بحماية كتائب جيشه بحسن تدبير ، وقوّة بأس ، وقد اُضفي هذا الوسام الرفيع على سيّدنا أبي الفضل ، وذلك لما أبداه يوم الطفّ من الشجاعة والبسالة في الذبّ والدفاع عن معسكر الإمام الحسين عليه‌السلام ، فقد كان قوّة ضاربة في معسكر أخيه ، وصاعقة مرعبة ومدمّرة لجيوش الباطل .

٦ ـ العميد

وهو من الألقاب الجليلة في الجيش التي تُمنح لأبرز الأعضاء في القيادة العسكريّة ، وقد قُلّد أبو الفضل عليه‌السلام بهذا الوسام لأنّه كان عميد جيش أخيه أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقائد قوّاته المسلّحة في يوم الطفّ .

٧ ـ حامي الظعينة

ومن الألقاب المشهورة لأبي الفضل عليه‌السلام : ( حامي الظعينة ) .

يقول السيّد جعفر الحلّي في قصيدته العصماء التي رثاه بها :

حامي الظَّعينَةِ أَينَ مِنهُ رَبيعَةٌ

أَمْ أَينَ مِنْ عَلْيا أَبيهِ مُكَرَّمُ

وإنّما اُضفي عليه هذا اللقب الكريم لقيامه بدور مشرّف في رعاية مخدّرات النبوّة وعقائل الوحي ، فقد بذل قصارى جهوده في حمايتهنّ وحراستهنّ وخدمتهنّ ، فكان هو الذي يقوم بترحيلهنّ ، وإنزالهنّ من المحامل طيلة انتقالهنّ من يثرب إلى كربلاء .

ومن الجدير بالذكر أنّ هذا اللقب اُطلق على بطل من شجعان العرب وفرسانهم ،


وهو ربيعة بن مكرم ، فقد قام بحماية ظعنه ، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً (١) .

__________________________

(١) جاء في العقد الفريد ٣ / ٣٣١ : « أنّ دريد بن الصمّة خرج ومعه جماعة من فرسان بني جشم حتّى إذا كانوا في وادٍ لبني كنانة يقال له الأخرم ، وهم يريدون الغارة على بني كنانة ، فرأوا رجلاً معه ظعينة في ناحية الوادي ، فقال دريد لفارس من أصحابه : امض واستول على الظعينة ، وانتهى الفارس إلى الرجل فصاح به : خلّ عن الظعينة وانج بنفسك ، فألقى زمام الناقة ، وقال للظعينة :

سِيري عَلىٰ رِسْلِكِ سَيرَ الآمِنِ

سَيرَ دَراجٍ ذاتَ جأْشٍ طامِنِ

إِنَّ التَّأَنّي دونَ قَرْني شائِني

اُبْلى بَلائي فَاخْبِري وَعايِني

ثمّ حمل على الرجل فصرعه ، وأخذ فرسه وأعطاها للظعينة ، وبعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع صاحبه فلمّا انتهى إليه رآه صريعاً ، فصاح بالرجل فألقى زمام الظعينة ، فلمّا انتهى إليه حمل عليه وهو يقول :

خَلَّ سَبيلَ الحُرَّةِ المَنيعَة

إِنَّكَ لاقٍ دونَها رَبيعَة

في كَفِّهِ خَطِّيَّةٌ مَنيعَة

أَوْ لا فَخُذْها طَعْنَةً سَريعَة

وحمل عليه فصرعه ، ولمّا أبطأ بعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع الرجلان ، ولمّا انتهى إليهما وجدهما صريعين ، والرجل يجرّ رمحه ، فلمّا نظر إليه قال للظعينة : اقصدي قصد البيوت ، ثمّ أقبل عليه وقال :

ماذا ترىٰ مِنْ شَيْئَمٍ عابِسٍ

أَما تَرى الفارِسَ بَعدَ الفارِسِ

أَرْداهُما عامِلُ رُمْحٍ يابِسٍ

ثمّ حمل عليه فصرعه ، وانكسر رمحه .

وارتاب دريد في أمر جماعته وظنّ أنّهم أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل فلحقهم ، وقد دنا ربيعة من الحيّ ، فوجدهم دريد قد قتلوا جميعاً ، فقال لربيعة : إنّ مثلك لا يقتل ، ولا أرى معك رمحك ، والخيل ثائرة بأصحابها ، فدونك هذا الرمح ، فإنّي منصرف عنك إلى أصحابي ، ومثبّطهم عنك .

فانصرف إلى أصحابه وقال لهم : إنّ فارس الظعينة قد حماها ، وقتل أصحابكم ، وانتزع رمحي ، فلا مطمع لكم فيه ، فانصرف القوم .

=


٨ ـ باب الحوائج

وهذا من أكثر ألقابه شيوعاً وانتشاراً بين الناس ، فقد آمنوا وأيقنوا أنّه ما قصده ذو حاجة بنيّة خالصة إلّا قضى الله حاجته ، وما قصده مكروب إلّا كشف الله ما ألمّ به من محن الأيّام ، وكوارث الزمان ، وكان ولدي محمّد الحسين ممّن التجأ إليه حينما دهمته كارثة ففرّج الله عنه .

إنّ أبا الفضل نفحة من رحمات الله ، وباب من أبوابه ، ووسيلة من وسائله ، وله عنده الجاه العظيم ، وذلك لجهاده المقدّس في نصرة الإسلام ، والذبّ عن أهدافه ومبادئه ، وقيامه بنصرة ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى استشهد في سبيله .

هذه بعض ألقاب أبي الفضل ، وهي تحكي بعض معالم شخصيّته العظيمة ، وما انطوت عليه من محاسن الصفات ومكارم الأخلاق (١) .

ملامحه عليه‌السلام

أمّا ملامحه فقد كان صورة بارعة من صور الجمال ، وقد لقّب بقمر بني هاشم لروعة بهائه ، وجمال طلعته ، وكان متكامل الجسم قد بدت عليه آثار البطولة والشجاعة ، ووصفه الرواة بأنّه كان وسيماً جميلاً ، يركب الفرس المطهّم (٢) ورجلاه

__________________________

= فقال دريد في ذلك :

ما أَنْ رَأَيتُ وَلا سَمِعتُ بِمِثلِهِ

حامي الظَّعينَةِ فارِساً لَمْ يُقْتَلِ

أَرْدىٰ فَوارِسَ لَمْ يَكونوا نُهْزَةً

ثُمَّ اسْتَمَـرَّ كَأَنَّهُ لَمْ يَفْعلِ

فَتَهَلَّلَتْ تَبْدو أَسِرَّةُ وَجْهِهِ

مِثْلُ الحُسامِ جَلَتْهُ كَفُّ الصَّيْقَلِ

يُزْجي ظَعينَتَهُ وَيَسحَبُ رُمْحَهُ

مِثلَ البُغاثِ خَشينَ وَقْعَ الجَنْدَلِ

(١) جاء في تنقيح المقال ٢ / ١٢٨ : « أنّه تحدث للعباس ستّة عشر لقباً » .

(٢) الفرس المطهم : هو السمين الفاحش في السمن ، كما في القاموس .

=


يخطّان في الأرض (١) .

تعويذ اُمّ البنين له عليه‌السلام

واستوعب حبّ العبّاس قلب اُمّه الزكّية ، فكان عندها أعزّ من الحياة ، وكانت تخاف عليه ، وتخشى من أعين الحسّاد من أن تصيبه بأذى أو مكروه ، وكانت تعوّذه بالله ، وتقول هذه الأبيات :

اُعيـذُهُ بِالواحِدِ

مِنْ عَينِ كُلِّ حاسِدِ

قائِمِهِمْ وَالقاعِدِ

مُسلِمِهِمْ وَالجاحِدِ

صادِرِهِمْ وَالْوارِدِ

مُوَلِّدِهِمْ وَالوالِدِ (٢)

مع أبيه عليه‌السلام

كان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يرعى ولده أبا الفضل في طفولته ، ويعنى به أشدّ ما تكون العناية فأفاض عليه مكوّنات نفسه العظيمة العامرة بالإيمان والمثل العليا ، وقد توسّم فيه أنّه سيكون بطلاً من أبطال الإسلام ، وسيسجّل للمسلمين صفحات مشرقة من العزّة والكرامة .

كان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يوسع العبّاس تقبيلاً ، وقد احتلّ عواطفه وقلبه ، ويقول المؤرّخون : إنّه أجلسه في حجره ، فشمّر العبّاس عن ساعديه ، فجعل الإمام يقبّلهما ، وهو غارق في البكاء ، فبهرت اُمّ البنين وراحت تقول للإمام عليه‌السلام : ما يبكيك ؟

__________________________

= وفي المنجد إنّه التامّ الحسن .

(١) مقاتل الطالبيّين : ٥٦ .

(٢) المنمّق في أخبار قريش : ٤٣٧ .


فأجابها الإمام بصوت خافت حزين النبرات : نَظَرْتُ إِلىٰ هٰذيْنِ الْكَفَّيْنِ ، وَتَذَكَّرْتُ ما يَجْري عَلَيْهِما .

وسارعت اُمّ البنين بلهفة قائلة : ماذا يجري عليهما ؟

فأجابها الإمام بنبرات مليئة بالأسى والحزن قائلاً : إِنَّهُما يُقْطَعانِ مِنَ الزَّنْدِ .

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على اُمّ البنين ، فقد ذاب قلبها ، وسارعت وهي مذهولة قائلة : لماذا يقطعان ؟

وأخبرها الإمام عليه‌السلام بأنّهما إنّما يقطعان في نصرة الإسلام ، والذبّ عن أخيه حامي شريعة الله ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأجهشت اُمّ البنين بالبكاء ، وشاركنها مَن كان معها من النساء لوعتها وحزنها (١) .

وخلدت اُمّ البنين إلى الصبر ، وحمدت الله تعالى في أن يكون ولدها فداءً لسبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته .

نشأته عليه‌السلام

نشأ أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام نشأة صالحة كريمة ، قلّما يظفر بها إنسان ، فقد نشأ في ظلال أبيه رائد العدالة الاجتماعيّة في الأرض ، فغذّاه بعلومه وتقواه ، وأشاع في نفسه النزعات الشريفة ، والعادات الطيّبة ليكون مثالاً عنه ، واُنموذجاً لمثله ، كما غرست اُمّه السيّدة فاطمة في نفسه جميع صفات الفضيلة والكمال ، وغذّته بحبّ الخالق العظيم ، فجعلته في أيّام طفولته يتطلّع إلى مرضاته وطاعته ، وظلّ ذلك ملازماً له طوال حياته .

ولازم أبو الفضل أخويه السبطين ريحانتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الحسن والحسين عليهما‌السلام سيّدي شباب أهل الجنّة ، فكان يتلقّى منهما قواعد الفضيلة ، واُسس الآداب

__________________________

(١) قمر بني هاشم ١ : ١٩ .


الرفيعة ، وقد لازم بصورة خاصّة أخاه أبا الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام ، فكان لا يفارقه في حلّه وترحاله ، وقد تأثّر بسلوكه ، وانطبعت في قرارة نفسه مُثله الكريمة ، وسجاياه الحميدة ، حتّى صار صورة صادقة عنه يحكيه في مُثله واتّجاهاته .

وقد أخلص له الإمام الحسين عليه‌السلام كأعظم ما يكون الإخلاص ، وقدّمه على جميع أهل بيته لما رأى منه من الودّ الصادق له حتّى فداه بنفسه .

إنّ المكوّنات التربويّة الصالحة التي ظفر بها سيّدنا أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام قد رفعته إلى مستوى العظماء والمصلحين الذين غيّروا مجرى تاريخ البشريّة بما قدّموه لها من التضحيات الهائلة في سبيل قضاياها المصيريّة ، وإنقاذها من ظلمات الذلّ والعبوديّة .

لقد نشأ أبو الفضل على التضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الحقّ ، ورفع رسالة الإسلام الهادفة إلى تحرير إرادة الإنسان ، وبناء مجتمع أفضل تسوده العدالة والمحبّة والإيثار ، وقد تأثر العبّاس بهذه المبادئ العظيمة ، وناضل في سبيلها كأشدّ ما يكون النضال ، فقد غرسها في أعماق نفسه ، ودخائل ذاته ، أبوه أمير المؤمنين ، وأخواه الحسن والحسين عليهم‌السلام .

هؤلاء العظام الذين حملوا مشعل الحريّة والكرامة ، وفتحوا الآفاق المشرقة لجميع شعوب العالم واُمم الأرض من أجل كرامتهم وحرّيّتهم ، ومن أجل أن تسود العدالة والقيم الكريمة بين الناس .


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0037.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg




واحتلّ أبو الفضل عليه‌السلام قلوب العظماء ومشاعرهم ، وصار اُنشودة الأحرار في كلّ زمان ومكان ، وذلك لمّا قام به من عظيم التضحية تجاه أخيه سيّد الشهداء عليه‌السلام ، الذي ثار في وجه الظلم والطغيان ، وبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً خالداً .

وفيما يلي بعض الكلمات القيّمة التي أدلى بها بعض الشخصيّات الرفيعة في حقّ أبي الفضل عليه‌السلام :

أوّلاً : الإمام السجّاد عليه‌السلام

أمّا الإمام زين العابدين عليه‌السلام فهو من المؤسّسين للتقوى والفضيلة في الإسلام ، وكان هذا الإمام العظيم يترحّم دوماً على عمّه العبّاس ، ويذكر بمزيد من الإجلال والإكبار تضحياته الهائلة لأخيه الحسين ، وكان ممّا قاله في حقّه هذه الكلمات القيّمة :

« رَحِمَ اللهُ عَمِّيَ الْعَبّاسَ ، فَلَقَدْ آثَرَ وَأَبْلىٰ ، وَفَدىٰ أَخاهُ بِنَفْسِهِ حَتّىٰ قُطِعَتْ يَداهُ ، فَأَبْدَلَهُ اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ بِهِما جِناحَيْنِ يَطيرُ بِهِما مَعَ الْمَلائِكَةِ في الْجَنَّةِ كَما جَعَلَ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبي طالِبٍ ، وَإِنَّ لِلْعَبّاسِ عِنْدَ اللهِ تَبارَكَ وَتَعالىٰ مَنْزِلَةً يَغْبِطُهُ بِها جَميعُ الشُّهَداءِ يَوْمَ الْقِيامَةِ » (١) .

__________________________

(١) الخصال : ٦٨ ، الحديث ١٠١ . أمالي الصدوق : ٥٤٨ ، الحديث ٧٣١ . بحار الأنوار : ٢٢ : ٢٧٤ ، الحديث ٢١ . العوالم : ٢٤٩ .


وألمّت هذه الكلمات بأبرز ما قام به أبو الفضل من التضحيات تجاه أخيه أبي الأحرار الإمام الحسين عليه‌السلام ، فقد أبدى في سبيله من ضروب الإيثار وصنوف التضحية ما يفوق حدّ الوصف ، وما كان به مضرب المثل على امتداد التاريخ ، فقد قطعت يداه الكريمتان يوم الطفّ في سبيله ، وظلّ يقاوم عنه حتّى هوى إلى الأرض صريعاً ، وإنّ لهذه التضحيات الهائلة عند الله منزلة كريمة ، فقد منحه من الثواب العظيم ، والأجر الجزيل ما يغبطه عليه جميع شهداء الحقّ والفضيلة في دنيا الإسلام وغيره .

ثانياً : الإمام الصادق عليه‌السلام

أمّا الإمام الصادق عليه‌السلام فهو العقل المبدع والمفكّر في الإسلام ، فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العبّاس ، ويثني ثناءً عاطراً ونديّاً على مواقفه البطوليّة يوم الطفّ ، وكان ممّا قاله في حقّه :

« كانَ عَمِّيَ الْعَبّاسُ بْنُ عَلِيٍّ عليه‌السلام نافِذَ الْبَصيرَةِ ، صُلْبَ الْإِيمانِ ، جاهَدَ مَعَ أَخيهِ الْحُسَيْنِ ، وَأَبْلىٰ بَلاءً حَسَناً ، وَمَضىٰ شَهيداً » (١) .

وتحدّث الإمام الصادق عليه‌السلام عن أنبل الصفات الماثلة عند عمّه العبّاس ، والتي كانت موضع إعجابه وهي :

١ ـ نفاذ البصيرة

أمّا نفاذ البصيرة ، فإنّها منبعثة من سداد الرأي ، وأصالة الفكر ، ولا يتّصف بها إلّا من صفت ذاته ، وخلصت سريرته ، ولم يكن لدواعي الهوى والغرور أي سلطان عليه ، وكانت هذه الصفة الكريمة من أبرز صفات أبي الفضل ، فقد كان من نفاذ

__________________________

(١) ذخيرة الدارين : ١٢٣ . معالي السبطين : ١ : ٤٣٤ .


بصيرته ، وعمق تفكيره مناصرته ومتابعته لإمام الهدى وسيّد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام ، وقد ارتقى بذلك إلى قمّة الشرف والمجد ، وخلدت نفسه العظيمة على امتداد التاريخ ، فما دامت القيم الإنسانيّة يخضع لها الإنسان ويمجّدها ، فأبو الفضل قد بلغ قمّتها وذروتها .

٢ ـ الصلابة في الإيمان

والظاهرة الاُخرى من صفات أبي الفضل عليه‌السلام هي الصلابة في الإيمان ، وكان من صلابة إيمانه انطلاقه في ساحات الجهاد بين يدي ريحانة رسول الله مبتغياً في ذلك الأجر عند الله ، ولم يندفع إلى تضحيته بأي دافع من الدوافع الماديّة ، كما أعلن ذلك في رجزه يوم الطفّ ، وكان ذلك من أوثق الأدلّة على إيمانه .

٣ ـ الجهاد مع الحسين عليه‌السلام

وثمّة مكرمة وفضيلة اُخرى لبطل كربلاء العبّاس عليه‌السلام أشاد بها الإمام الصادق عليه‌السلام وهي جهاده المشرق بين يدي سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، ويعتبر الجهاد في سبيله من أسمى مراتب الفضيلة التي انتهى إليها أبو الفضل ، وقد أبلى بلاءً حسناً يوم الطفّ لم يشاهد مثله في دنيا البطولات .

٤ ـ زيارة الإمام الصادق عليه‌السلام

وزار الإمام الصادق عليه‌السلام أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وبعدما انتهى من زيارة الإمام الحسين وأهل بيته والمجتبين من أصحابه ، انطلق بشوق إلى زيارة قبر عمّه العبّاس ، ووقف على المرقد المعظّم ، وزاره بالزيارة التالية التي تنمّ عن سموّ منزلة العبّاس ، وعظيم مكانته ، وقد استهلّ زيارته بقوله :

سَلَامُ اللهِ وَسَلَامُ مَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبينَ ، وَأَنبِيائِهِ الْمُرْسَلينَ ،


وَعِبادِهِ الصّالِحينَ ، وَجَميعِ الشُّهداءِ وَالصِّدّيقينَ ، وَالزّاكِياتُ الطَّيِّباتُ فيما تَغْتَدي وَتَرُوحُ ، عَلَيْكَ يا بن أَميرِ الْمُؤْمِنيِنَ .

لقد استقبل الإمام الصادق عليه‌السلام عمّه العبّاس بهذه الكلمات الحافلة بجميع معاني الإجلال والتعظيم ، فقد رفع له تحيّات من الله وسلام ملائكته ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، والشهداء ، والصدّيقين ، وهي أندى وأزكى تحيّة رفعت له ، ويمضي سليل النبوّة الإمام الصادق عليه‌السلام في زيارته قائلاً :

أَشْهَدُ لَكَ بِالتَّسْليمِ وَالتَّصْديقِ وَالْوَفاءِ وَالنَّصيحَةِ لِخَلَفِ النَّبِيِّ الْمُرْسَلِ ، وَالسِّبْطِ الْمُنْتَجَبِ ، وَالدَّليلِ الْعالِمِ ، وَالْوَصِيِّ الْمُبَلِّغِ ، وَالْمَظْلُومِ الْمُهْتَضَمِ .

وأضفى الإمام الصادق عليه‌السلام بهذا المقطع أوسمة رفيعة على عمّه العبّاس هي من أجلّ وأسمى الأوسمة التي تضفى على الشهداء العظام ، وهي :

» التسليم

وسلّم العباس عليه‌السلام لأخيه سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام جميع اُموره ، وتابعه في جميع قضاياه حتّى استشهد في سبيله ، وذلك لعلمه بإمامته القائمة على الإيمان الوثيق بالله تعالى ، وعلى أصالة الرأي ، وسلامة القصد ، والإخلاص في النيّة .

» التصديق

وصدّق العبّاس عليه‌السلام أخاه ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع اتّجاهاته ، ولم يخامره شكّ في عدالة قضيّته ، وأنّه على الحقّ ، وأنّ من نصب له العداوة وناجزه الحرب كان على ضلال مبين .


» الوفاء

من الصفات الكريمة التي أضافها الإمام الصادق عليه‌السلام على عمّه أبي الفضل عليه‌السلام : الوفاء ، فقد وفى ما عاهد عليه الله من نصرة إمام الحقّ أخيه أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، فقد وقف إلى جانبه في أحلك الظروف وأشدّها محنة وقسوة ، ولم يفارقه حتّى قطعت يداه ، واستشهد في سبيله .

لقد كان الوفاء الذي هو من أميز الصفات الرفيعة عنصراً من عناصر أبي الفضل وذاتياً من ذاتيّاته ، فقد خُلِق للوفاء والبرّ للقريب والبعيد .

» النصيحة

وشهد الإمام الصادق عليه‌السلام بنصيحة عمّه العبّاس لأخيه سيّد الشهداء عليه‌السلام ، فقد أخلص له في النصيحة على مقارعة الباطل ، ومناجزة أئمّة الكفر والضلال ، وشاركه في تضحياته الهائلة التي لم يشاهد العالم مثلها نظيراً في جميع فترات التاريخ . . ولننظر إلى بند آخر من بنود هذه الزيارة الكريمة ، يقول عليه‌السلام :

فَجَزاكَ اللهُ عَنْ رَسُولِهِ ، وَعَنْ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ ، أَفْضَلَ الْجَزاءِ ، بِما صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ وَأَعَنْتَ ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ .

وحوى هذا المقطع على إكبار الإمام الصادق عليه‌السلام لعمّه العبّاس وذلك لما قدّمه من الخدمات العظيمة ، والتضحيات الهائلة لسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الحسين عليه‌السلام ، فقد فداه بروحه ، ووقاه بمهجته ، وصبر على ما لاقاه في سبيله من المحن والشدائد مبتغياً في ذلك الأجر عند الله ، فجزاه الله عن نبيّه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن باب مدينته الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ،


وعن الحسن والحسين عليه‌السلام أفضل الجزاء على عظيم تضحياته .

ويستمرّ مجدّد الإسلام الإمام الصادق عليه‌السلام في زيارته لعمّه العبّاس ، فيذكر صفاته الكريمة ، وما له من المنزلة العظيمة عند الله تعالى ، فيقول بعد السلام عليه :

لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَكَ ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ جَهِلَ حَقَّكَ ، وَاسْتَخَفَّ بِحُرْمَتِكَ ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ حالَ بَیْنَكَ وَبَیْنَ مَاءِ الْفُرَاتِ .

‏أَشْهَدُ أَنَّكَ قُتِلْتَ مَظْلُوماً ، وَأَنَّ اللهَ مُنْجِزٌ لَکُمْ مَا وَعَدَکُمْ .‏

جِئْتُكَ یَابْنَ أَمیرِ الْمُؤْمِنینَ وافِداً إِلَیْکُمْ ، وَقَلْبي مُسَلِّمٌ لَکُمْ وَتَابِعٌ ، وَأَنَا لَکُمْ تَابعٌ ، وَنُصْرَتي لَکُمْ مُعَدَّةٌ ، حَتّىٰ یَحْکُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاکِمینَ‏ .

‏فَمَعَکُمْ مَعَکُمْ لَا مَعَ عَدُوِّکُمْ ، إِنّي بِکُمْ وَبِإِیابِکُمْ مِنَ الْمُؤْمِنینَ ‏، وَبِمَنْ خَالَفَکُمْ وَقَتَلَکُمْ مِنَ الْکَافِرینَ .

قَتَلَ اللهُ اُمَّةً قَتَلَتْکُمْ بِالْأَیْدي وَالْأَلْسُنِ .‏

السَّلَامُ عَلَیْكَ أَیُّهَا الْعَبْدُ الصّالِحُ ، ‏الْمُطِیعُ للهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَلأمِیرِ الْمُؤْمِنینَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَیْنِ ، صَلَّى اللهُ عَلَیْهِمْ وَسَلَّمَ . ‏السَّلَامُ عَلَیْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَکاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوانُهُ ، وَعَلىٰ رُوحِكَ وَبَدَنِكَ .‏

أَشْهَدُ وَاُشْهِدُ اللهَ أَنَّكَ مَضَیْتَ عَلىٰ ما مَضىٰ عَلَيْهِ الْبَدْرِیُّونَ ، وَالْمُجَاهِدُونَ في سَبیلِ اللهِ‏ ، الْمُناصِحُونَ لَهُ في


جِهادِ أَعْدَائِهِ ، الْمُبالِغُونَ في نُصْرَةِ أَوْلِیائِهِ ، الذّابُّونَ عَنْ أَحِبّائِهِ .‏

فَجَزاكَ اللهُ أَفْضَلَ الْجَزاءِ ، وَأَکْثَرَ الْجَزاءِ ، وَأَوْفَرَ الْجَزاءِ ، وَأَوْفىٰ جَزاءِ أَحَدٍ مِمَّنْ وَفَىٰ بِبَیْعَتِهِ ، وَاسْتَجابَ لَهُ دَعْوَتَهُ ، وَأَطاعَ وُلَاةَ أَمْرِهِ .‏

لقد شهد الإمام الصادق عليه‌السلام العقل المفكّر والمبدع في الإسلام ، وأشهد الله تعالى على ما يقول من أنّ عمّه أبا الفضل العبّاس عليه‌السلام قد مضى في جهاده مع أخيه أبي الأحرار الإمام الحسين عليه‌السلام ، على الخطّ الذي مضى عليه شهداء بدر الذين هم من أكرم الشهداء عند الله ، فهم الذين كتبوا النصر للإسلام ، وبدمائهم الزكيّة ارتفعت كلمة الله عالية في الأرض ، وقد استشهدوا وهم على بصيرة من أمرهم ، ويقين من عدالة قضيّتهم .

وكذلك سار أبو الفضل العبّاس على هذا الخطّ المشرق ، فقد استشهد لإنقاذ الإسلام من محنته الحازبة ، فقد حاول صعلوك بني اُميّة حفيد أبي سفيان أن يمحو كلمة الله ، ويلفّ لواء الإسلام ، ويعيد الناس لجاهليّتهم الاُولى ، فثار أبو الفضل بقيادة أخيه أبي الأحرار في وجه الطاغية السفّاك ، وتحقّقت بثورتهم كلمة الله العليا في نصر الإسلام وإنزال الهزيمة الساحقة بأعدائه وخصومه .

ويستمرّ الإمام الصادق عليه‌السلام في زيارته لعمّه العبّاس فيسجّل ما يحمله من إكبار وتعظيم ، فيقول عليه‌السلام :

وَأَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَالَغْتَ في النَّصیحَةِ ، وَأَعطَیْتَ غَایَةَ الْمَجْهُودِ ، فَبَعَثَكَ اللهُ في الشُّهَداءِ ، وَجَعَلَ رُوحَكَ مَعَ أَرْواحِ


السُّعَداءِ ، وَأَعْطاكَ مِنْ جِنانِهِ أَفْسَحَها مَنْزِلاً ، وَأَفْضَلَها غُرَفاً ، وَرَفَعَ ذِکْرَكَ في عِلِّیّینَ ، وَحَشَرَكَ مَعَ النَّبِیّینَ وَالصِّدّیقینَ ، وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحینَ ، وَحَسُنَ اُولٰئِكَ رَفیقاً .

أَشْهَدُ أَنَّکَ لَمْ تَهِنْ وَلَمْ تَنْکُلْ ، وَأَنَّكَ مَضَیْتَ عَلىٰ بَصیرَةٍ مِنْ أَمْرِكَ ، مُقْتَدِیاً بِالصّالِحینَ ، وَمُتَّبِعاً لِلْنَّبِیّینَ‏ .

فَجَمَعَ اللهُ بَیْنَنا وَبَیْنَكَ وَبَیْنَ رَسُولِهِ وَأَوْلِیائِهِ في مَنازِلِ الْمُخْبِتینَ ، فَإِنَّهُ أَرْحَمُ الرّاحِمینَ‏ (١) .

ويلمس في هذه البنود الأخيرة من الزيارة مدى أهميّة العبّاس ، وسموّ مكانته عند إمام الهدى الإمام الصادق عليه‌السلام ، وذلك لما قام به هذا البطل العظيم من خالص النصيحة ، وعظيم التضحيه لريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الحسين عليه‌السلام ، كما دعا الإمام له ببلوغ المنزلة السامية عند الله التي لا ينالها إلّا الأنبياء وأوصيائهم عليهم‌السلام ، ومن امتحن الله قلبه للإيمان .

ثالثاً : الإمام الحجّة عليه‌السلام

وأدلى الإمام المصلح العظيم بقيّة الله في الأرض قائم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بكلمة رائعة في حقّ عمّه العبّاس عليه‌السلام جاء فيها :

__________________________

(١) كامل الزيارات : ٤٤٠ ، باب ٨٥ ، الحديث ١ . تهذيب الأحكام : ٦ : ٦٥ ـ ٧٠ . مصباح المتهجّد : ٧٢٤ ـ ٧٢٦ . المزار الكبير : ٣٨٨ ـ ٣٩٢ . مصباح الزائر : ٢١٥ . مزار الشهيد : ١٣١ ـ ١٣٤ و ١٦٥ . بحار الأنوار : ٩٨ : ٢١٧ و : ٢٧٧ ، الحديث ١ و : ٢٧٨ ، الحديث ٢ .


السَّلَامُ عَلَى أَبي الْفَضْلِ الْعَبّاسِ ابْنِ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ ، الْمُواسي أَخاهُ بِنَفْسِهِ ، الْآخِذِ لِغَدِهِ مِنْ أَمْسِهِ ، الْفادي لَهُ ، الْواقي ، السّاعي إِلَيْهِ بِمائِهِ ، الْمَقْطوعَةِ يَداهُ . لَعَنَ اللهُ قَاتِلَيْهِ يَزيدَ (١) بْنَ الرّقادِ (٢) الْجنبي وَحُكَيْمَ بْنَ الطُّفَيْلِ الطّائي (٣) .

وأشاد بقيّة الله في الأرض بالصفات الكريمة الماثلة في عمّه قمر بني هاشم وفخر عدنان ، وهي :

١ ـ مواساته لأخيه سيّد الشهداء عليه‌السلام ، فقد واساه في أحلك الظروف ، وأشدّها محنة وقسوة ، وظلّت مواساته له مضرب المثل على امتداد التاريخ .

٢ ـ تقديمه أفضل الزاد لآخرته ، وذلك بتقواه ، وشدّة تحرّجه في الدين ، ونصرته لإمام الهدى .

٣ ـ تقديم نفسه وإخوته وولده فداءً لسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين عليه‌السلام .

٤ ـ وقايته لأخيه المظلوم بمهجته .

٥ ـ سعيه لأخيه وأهل بيته بالماء حينما فرضت سلطات البغي والجور الحصار على ماء الفرات من أن تصل قطرة منه لآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

رابعاً : الشعراء

وهام الأحرار من شعراء أهل البيت عليهم‌السلام بشخصيّة أبي الفضل التي بلغت قمّة

__________________________

(١) كذا ، وفي كتب السير : « زيد » .

(٢) كذا في المصادر ، وفي بحار الأنوار : « وقاد » .

(٣) إقبال الأعمال : ٣ : ٧٣ . مصباح الزائر : ٤٢٥ . المزار الكبير : ٤٨٥ . بحار الأنوار : ٤٥ : ٦٤ .


الشرف والمجد ، وسجّلت صفحات من النور في تاريخ الاُمّة الإسلاميّة ، وقد نظموا في حقّه روائع الشعر العربي إكباراً وإعجاباً بمثله الكريمة ، فيما يلي بعضهم :

١ ـ الكميت

أمّا شاعر الإسلام الأكبر الكميت الأسدي فقد انطبع حبّ أبي الفضل في أعماق نفسه ، وقد تعرّض لمدحه في إحدى هاشميّاته الخالدة قال :

وَأَبو الفَضْلِ إِنَّ ذِكْرَهُمُ الحُلْوَ

شِفاءُ النُّفوسِ مِنْ أَسْقامِ (١)

إنّ ذكر أبي الفضل العبّاس عليه‌السلام ، وسائر أهل البيت عليهم‌السلام حلو عند كلّ شريف لأنّه ذكر للفضيلة والكمال المطلق ، كما إنّه شفاء للنفوس من أسقام الجهل والغرور ، وسائر الأمراض النفسيّة .

٢ ـ الفضل بن محمّد

من الشعراء الملهمين الذين هاموا بشخصيّة أبي الفضل عليه‌السلام هو حفيده الشاعر الكبير الفضل بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله (٢)بن العبّاس فقد قال :

إِنّي لَأَذْكُرُ لِلعَبّاسِ مَوْقِفَهُ

بِكَرْبلاءَ وَهامُ القُومِ يُخْتَطَفُ

يَحمي الحُسَينَ وَيَحميهِ عَلىٰ ظَمَأٍ

وَلَا يُوَلّي وَلا يَثْني فَيَختَلِفُ

وَلا أَرىٰ مَشْهَداً يَوْماً كَمَشْهَدِهِ

مَعَ الْحُسَينِ عَلَيهِ الفَضلُ وَالشَّرَفُ

__________________________

(١) الهاشميّات : ٢٥ ، ومن الغريب أنّ الشارح لهذا الديوان قال : « إنّ المراد بأبي الفضل هو العبّاس بن عبد المطّلب » .

(٢) هو أبو العبّاس بن محمّد ، كان يوصف بالكمال والمروّة والجمال ، والورع والشجاعة ، أمير المدينة أيّام بني العبّاس ، مات وله ٥٥ سنة . سرّ السلسلة العلوية : ٨٩ ، المجدي في أنساب الطالبيّين : ٢٣١ ، لباب الأنساب ١ : ٣٥٧ ، الشجرة المباركة : ١٨٤ .


أَكْرِمْ بِهِ مَشْهَداً بانَتْ فَضيلَتُهُ

وَما أَضاعَ لَهُ أَفْعالَهُ خَلَفُ (١)

وصوّرت هذه الأبيات شجاعة أبي الفضل عليه‌السلام ، وما مقام به من دور مشرق يدعو إلى الاعتزاز والفخر في حماية أخيه أبي الأحرار ، ووقايته له بمهجته ، وسقايته له ولأفراد عائلته وأطفاله بالماء ، فلم يكن هناك مشهد أفضل ولا أسمى من هذا الموقف الرائع الذي وقفه أبو الفضل مع أخيه أبي عبد الله عليه‌السلام . . . وقد استولت مواقف أبي الفضل على حفيده الفضل فهام بها ورثاه بذوب روحه ، وكان من رثائه له هذه الأبيات الرقيقة :

أَحَقُّ النّاسِ أَنْ يُبْكىٰ عَلَيهِ

فَتىً أَبْكى الحُسَينَ بِكَربلاءِ

أَخوهُ وَابْنُ والدِهِ عَلِيٍّ

أَبو الفَضْلِ المُضَرَّجِ بِالدِّماءِ

وَمَنْ واساهُ لَا يَثْنيهِ شَيْءٌ

وَجادَ لَهُ عَلىٰ عَطَشٍ بِماءِ (٢)

نعم إنّ أحقّ الناس أن يمجّد ويبكى على ما حلّ به من رزء قاصم هو أبو الفضل رمز الإباء والفضيلة ، فقد رزئ الإمام الحسين عليه‌السلام بمصرعه ، وبكاه أمرّ البكاء لأنّه فقد بمصرعه أبرّ الإخوان ، وأعطفهم عليه .

٣ ـ السيّد راضي القزويني

وهام الشاعر العلوي السيّد راضي القزويني بشخصيّة أبي الفضل عليه‌السلام قال :

أَبا الفَضلِ يا مَنْ أَسَّسَ الفَضْلَ وَالإِبا

أَبى الفَضْلُ إِلّا أَنْ تَكونَ لَهُ أَبا

__________________________

(١) المجدي في أنساب الطالبيّين : ٢٣٢ .

(٢) هذه الأبيات للفضل بن محمّد بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس بن عليّ عليهما‌السلام . انظر : مقاتل الطالبيّين : ٨٤ . شرح الأخبار : ٣ : ١٩٣ . اللهوف : ٧٠ . لواعج الأشجان : ١٨٠ . الغدير ٣ :٥ .


تَطَلَّبُ أَسبابَ العُلىٰ فَبَلَغْتَها

وَما كانَ ساعٍ بالِغٌ ما تَطَلَّبا

وَدونَ احتِمالِ الضَّيمِ عِزٌّ وَمَنعَةٌ

تَخَيَّرتَ أَطْرافَ الأَسِنَّةِ مَركَبا (١)

إنّ أبا الفضل من المؤسّسين للفضل والإباء في دنيا العرب والإسلام ، فقد سما إلى طرق المجد ، وأسباب العلى ، فبلغ قمّتها ، وقد تخيّر أطراف الأسنّة والرماح حتّى لا يناله ذلّ ولا ضيم .

٤ ـ محمّد رضا الأزري

وأشاد الشاعر الكبير الحاجّ محمّد رضا الأزري في رائعته بالمثل الكريمة التي تحلّى بها قمر بني هاشم ، والتي احتلّت عواطف الأحرار ومشاعرهم يقول :

فَانْهَضْ إِلى الذِّكْرِ الجَميلِ مُشَمِّراً

فَالذِّكْرُ أَبْقى ما اقْتَنَتهُ كِرامُها

أَوَ ما أَتاكَ حَديثُ وَقْعَةِ كَربَلا

أَنّىٰ وَقَدْ بَلَغَ السَّماءَ قَتامُها

يَومٌ أَبو الفَضلِ اسْتَجارَ بِهِ الهُدىٰ

وَالشَّمْسُ مِنْ كَدَرِ العَجاجِ لِثامُها

ودعا الأزري بالبيت الأوّل من رائعته إلى اقتناء الذكر الجميل الذي هو من أفضل المكاسب التي يظفر بها الإنسان ، فإنّه أبقى وأخلد له ، ودعا بالبيت الثاني إلى التأمّل والاستفادة من واقعة كربلاء التي تفجّرت من بركان هائل من الفضائل والمآثر لآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعرج بالبيت الثالث على أبي الفضل العبّاس عليه‌السلام الذي استجار به سبط النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته ، ولنستمع إلى ما قام به العبّاس من النصر والحماية لأخيه ، يقول الأزري :

فَحَمىٰ عَرينَتَهُ وَدَمدَمَ دونَها

وَيَذُبُّ مِنْ دونِ الشَّرىٰ ضِرغامُها

__________________________

(١) أعيان الشيعة : ٦ : ٤٤٣ .


وَالبِيضُ فَوقَ البِيضِ تَحسَبُ وَقعَها

زَجَلُ الرُّعودِ إِذا اكْفَهَرَّ غِمامُها

مِنْ باسِلٍ يَلقى الكَتيبَةَ باسِماً

وَالشّوسُ يَرشَحُ بِالمَنيَّةِ هامُها

وَأَشَمَّ لَا يَحتَلُّ دارَ هَضيمَةٍ

أَوْ يَستَقِلَّ عَلى النُّجومِ رَغامُها

أوَ لَمْ تَكُنْ تَدْري قُرَيشٌ أَنَّهُ

طَلّاعُ كُلَّ ثَنِيَّةٍ مِقْدامُها (١)

وهذه الأبيات منسجمة كلّ الانسجام مع بطولات أبي الفضل ، فقد صوّرت بسالته ، وما قام به من دور مشرّف في حماية أخيه أبي الأحرار ، فقد انبرى كالأسد يذبّ عن أخيه في معركة الشرف والكرامة ، غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة التي ملأت البيداء دفاعاً عن ذئاب البشريّة ، وقد انطلق أبو الفضل باسماً في ميادين الحرب وهو يحطّم اُنوف اُولئك الأوغاد ويجرّعهم غصص الموت في سبيل كرامته وعزّة أخيه ، وقد استبان للقبائل القرشيّة في هذه المعركة أنّ أبا الفضل طلّاع كل ثنية ، وأنّه ابن من أرغمها على الإسلام ، وحطّم جاهليّتها وأوثانها .

٥ ـ إبراهيم حسين الطباطبائي

هو السيّد إبراهيم ابن السيّد حسين ابن السيّد رضا ابن السيّد مهدي بحر العلوم (٢) ( المتوّلد سنة ١٢٤٨ هـ ، والمتوفّي سنة ١٣١٩ هـ ) .

قِفْ بِالطُّفوفِ وَسَلْ بِها أَفْواجَها

وَأَثِرْ أَبا الفَضلِ المُثيرَ عَجاجَها

إِنْ اُرتِجَتْ بابٌ تَلاحَكَ بِالقَنا

بِالسَّيفِ دونَ أَخيهِ فَكَّ رِتاجَها

جَلّىٰ لَها قَمَراً لِهاشِمَ سافِراً

رَدَّ الْكَتائِبَ كاشِفاً أَرْهاجَها

__________________________

(١) رياض المدح والرثاء : ٨٢ .

(٢) بحر العلوم : لقب السيّد مهدي جدّ الاُسرة المعروفة اليوم في النجف بـ ( آل بحر العلوم ) وهي الاُسرة العلمية الشهيرة خرج منها العدد الكبير من العلماء وأعيان الفضلاء والشعراء .


وَمَشىٰ لَها مَشْيَ السَّبَنْتَىٰ (١) مُخْدِداً

قَدْ هاجَ مِنْ بَعدِ الطَّوىٰ فَأَهاجَها

أَبْكيكَ مُنْجَدِلاً بِأَرضٍ قَفْرَةٍ

بِكَ قَدْ رَفَعتَ عَلى السَّماءِ فِجاجَها

أَبْكيكَ مَبْكى الفاقِداتِ جَنينَها

ذَكَرَتْ فَهاجَ رَنينَها مَنْ هاجَها

أَبْكيكَ مَقطوعَ اليَدَيْنِ بِعَلْقَمٍ

أَجْرَتْ يَداكَ بِعَذْبِهِ أَمْواجَها

وَبِرَغْمِ أَنفِ الدِّين مِنكَ بِمَوكبٍ

تَقْضي سُيوفُ بَني اُمَيَّةَ حاجَها

إِنْ زِغْتَ يا عَصَبَ الضَّلالِ فَإِنَّما

أَطْفَأْتَ مِنْ سُرُجِ الهُدىٰ وَهّاجَها

بَهجَتْ بِكَ الدُّنْيا وعادَكَ عيدُها

وَبِوُدِّها لَوْ أَنْ تُعِدْ إِبْهاجَها

قَدْ كُنتَ دُرَّتَها عَلى إِكْليلِها

قَدْ زَيَّنَتْ بِكَ في المفارِقِ تاجَها (٢)

__________________________

(١) السّبنتي ـ جمعه سبانت وسباتٍ ـ : الجريء المُقدِم ، ويطلق على النمر لجرأته . المنجمد في اللّغة .

(٢) ديوان الشاعر : ٥٧ .


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0053.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg




كان سيّدنا العباس عليه‌السلام دنيا من الفضائل والمآثر ، فما من صفة كريمة أو نزعة رفيعة إلّا وهي من عناصره وذاتيّاته ، وحسبه فخراً أنّه نجل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي حوى جميع فضائل الدنيا ، وقد ورث أبو الفضل فضائل أبيه وخصائصه ، حتّى صار عند المسلمين رمزاً لكلّ فضيلة ، وعنواناً لجميع القيم الرفيعة ، ونلمح بإيجاز لبعض صفاته :

١ ـ الشجاعة

أمّا الشجاعة فهي من أسمى صفات الرجولة لأنّها تنمّ عن قوّة الشخصيّة وصلابتها ، وتماسكها أمام الأحداث ، وقد ورث أبو الفضل هذه الصفة الكريمة من أبيه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي هو أشجع إنسان في دنيا الوجود ، كما ورث هذه الصفة من أخواله الذين تميّزوا بهذه الظاهرة ، وعرفوا بها من بين سائر الأحياء العربيّة .

لقد كان أبو الفضل دنيا في البطولات ، فلم يخالج قلبه خوف ولا رعب في الحروب التي خاضها مع أبيه ، كما يقول بعض المؤرّخين ، وقد أبدى من الشجاعة يوم الطفّ ما صار مضرب المثل على امتداد التأريخ ، فقد كان ذلك اليوم من أعظم الملاحم التي جرت في الإسلام ، وقد برز فيه أبو الفضل أمام تلك القوى التي ملأت البيداء ، فجبّن الشجعان ، وأرعب قلوب عامّة الجيش ، فزلزلت الأرض تحت


أقدامهم وخيّم عليهم الموت ، وراحوا يمنّونه بإعطاء القيادة العامّة إن تخلّى عن مساندة أخيه ، فهزأ منهم العبّاس ، وزاده ذلك تصلّباً في الدفاع عن عقيدته ومبادئه .

إنّ شجاعة أبي الفضل عليه‌السلام ، وما أبداه من البسالة يوم الطفّ لم تكن من أجل مغنم ماديّ من هذه الحياة ، وإنّما كانت دفاعاً عن أقدس المبادئ الماثلة في نهضة أخيه سيّد الشهداء المدافع الأوّل عن حقوق المظلومين والمضطهدين .

مع الشعراء

وبهر شعراء الإسلام بشجاعة أبي الفضل ، وقوّة بأسه ، وما ألحقه بالجيش الأموي من الهزيمة الساحقة ، وفيما يلي بعض الشعراء الذين هاموا بشخصيّته :

١ ـ السيّد جعفر الحلّي

ووصف الشاعر العلوي السيّد جعفر الحلّي في رائعته ما مُني به الجيش الأموي من الرعب والفزع من أبي الفضل عليه‌السلام يقول :

وَقَعَ العَذابُ عَلىٰ جُيوشِ اُمَيَّةٍ

مِنْ باسِلٍ هُوَ في الوَقائِعِ مُعْلِمُ

ما راعَهُمْ إِلّا تَقَحُّمُ ضَيغَمٍ

غَيرانَ يُعجِمُ لَفظَهُ وَيُدَمْدِمُ

عَبَسَتْ وجوهُ القَومِ خَوفَ المَوتِ

وَالعَبّاسُ فيهِمْ ضاحِكُ مُتَبَسِّمُ

قَلَبَ اليمينَ عَلى الشِّمالِ وَغاصَ في

الأَوْساطِ يَحصِدُ للرُّؤوسِ وَيَحْطِمُ

ما كَرَّ ذو بَأسٍ لَهُ مُتَقَدِّماً

إِلّا وَفَرَّ وَرَأْسُهُ المُتَقَدِّمُ

صَبَغَ الخُيولَ بِرُمْحِهِ حَتّىٰ غَدا

سَيّانَ أَشقَرُ لَونِها وَالأَدْهَمُ

ما شَدَّ غَضْباناً عَلىٰ مَلْمومَةٍ

إِلّا وَحَلَّ بِها البَـلاءُ المُبرَمُ

وَلَهُ إِلى الإِقْدامِ سرعَةُ هارِبٍ

فَكَأَنَّما هُوَ بِالتَّقَدُّمِ يَسلَمُ

بَطَلٌ تَوَرَّثَ مِنْ أَبيهِ شَجاعَةً

فيها اُنوفُ بَني الضَّلالَةِ تُرغَمُ


أرأيتم هذا الوصف الرائع لبسالة أبي الفضل وقوة بأسه وشجاعته النادرة !

أرأيتم كيف وصف الحلّي ما حلّ بالجيش الأموي من الجبن الشامل ، والهزيمة الساحقة حينما برز إليهم قمر بني هاشم وبطل الإسلام ، فأنزل بهم العذاب الأليم ، وترك صفوفهم تموج من الخوف والرعب ، وكان العبّاس متبسّماً مثلوج الفؤاد ممّا ينزل بهم من الخسائر الفادحة ، فقد ملأ ساحة المعركة بجثث قتلاهم ، وصبغ خيولهم بدمائهم ، وفيما أحسب أنّه لم توصف البسالة والشجاعة بمثل هذا الوصف الرائع الدقيق ، والذي لا مبالغة فيه حسبما تحدّث الرواة عمّا أنزله العبّاس عليه‌السلام بأهل الكوفة من الخسائر الجسيمة .

ويستمرّ السيّد الحلّي في وصف شجاعة أبي الفضل ، فيقول :

بَطَلٌ إِذا رَكِبَ المُطَهَّمَ خِلْتَهُ

جَبَلاً أَشَمَّ يَخفُّ فيهِ مُطَهَّمُ

قَسَماً بِصارِمِهِ الصَّقيلِ وَإِنَّني

في غَيرِ صاعِقَةِ السَّماء لَا اُقْسِمُ

لَوْلا القَضا لَمَحا الوجودَ بِسَيفِهِ

وَاللهُ يَقْضي ما يَشاءُ وَيَحكُمُ (١)

لقد كان سيف أبي الفضل صاعقة مدمّرة قد حلّت بأهل الكوفة ، ولولا قضاء الله لأتى العبّاس على الجيش ، ومحاهم من ساحة الوجود .

٢ ـ الإمام كاشف الغطاء

وبهر الإمام محمّد الحسين كاشف الغطاء رحمه‌الله بشجاعة أبي الفضل ، فقال في قصيدته العصماء :

وَتَعْبسُ مِنْ خَوفٍ وُجوهُ اُمَيَّةٍ

إِذا كَرَّ عَبّاسُ الوَغىٰ يَتَبَسَّمُ

__________________________

(١) سحر بابل وسجع البلابل / السيّد جعفر الحلّي : ٤٣٠ و ٤٣١ ، تحقيق : الإمام الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء .


عَليمٌ بِتَأويلِ المَنيَّةِ سَيفُهُ

تَزولُ عَلىٰ مَنْ بِالكَريهَةِ مُعلِمُ

لقد عبست وجوه الجيش الأموي رعباً وخوفاً من أبي الفضل الذي حصد رؤوس أبطالهم ، وحطّم معنويّاتهم ، وأذاقهم وابلاً من العذاب الأليم .

٣ ـ الفرطوسي

وعرض شاعر أهل البيت عليهم‌السلام الشيخ عبد المنعم الفرطوسي نضّر الله مثواه في ملحمته الخالدة إلى شجاعة أبي الفضل وبسالته في ميدان الحرب قال :

عَلَمٌ لِلجِهادِ في كُلِّ زَحفٍ

عَلَمٌ في الثَّباتِ عِندَ اللِّقاءِ

قَدْ نَما فيهِ كُلُّ بَأْسٍ وَعِزٍّ

مِنْ عَلِيٍّ بِنَجْدَةٍ وَإِباءِ

هُوَ ثَبتُ الجَنانِ في كُلِّ رَوْعٍ

وَهوَ رَوعُ الْجِنانِ مِنْ كُلِّ راءِ

وأضاف الفرطوسي مصوّراً ما أنزله أبو الفضل من الخسائر الفادحة في جيوش الأمويّين قال :

فارْتَقىٰ صَهوَةَ الجَوادِ مُطِلّاً

عَلَماً فَوقَ قَلعَةٍ شَمّاءِ

وَتَجَلّىٰ وَالْحَربُ لَيلٌ قَثامٌ

قَمَراً في غَياهِبِ الظَّلْماءِ

فَاسْتَطارَتْ مِنَ الكُماةِ قُلوبٌ

اُفْرِغَتْ مِنْ ضُلوعِها كَالهَواءِ

وَهوَ يَرمي الكَتائِبَ السُّودَ رَجْماً

بِالْمَنايا مِنَ اليَدِ الْبَيْضاءِ (١)

٤ ـ ابن نما الحلّي

حَقيقاً بالبكاءِ عَليهِ حُزناً

أبو الفضلِ الذي ولسي أخاهُ

__________________________

(١) ملحمة أهل البيت : ٣ : ٣٢٩ و ٣٣٠ .


وجاهدَ كُلَّ كَفّارٍ ظَلومٍ

وقابَلَ مِن ضَلالِهِمْ هُداهُ

فَداهُ بنفسِهِ للهِ حَتّى

تَفَرَّقَ من شَجاعَتِهِ عِداهُ

وجادَ لَهُ عَلىٰ ظَمَأٍ بماءٍ

وكان رِضا أخيهِ مُبْتَغاهُ (١)

إنّ شجاعة أبي الفضل قد أدهشت أفذاذ الشعراء ، وصارت مضرب المثل على امتداد التأريخ ، وممّا زاد في أهمّيتها أنّها كانت لنصرة الحقّ والذبّ عن المثل والمبادئ التي جاء بها الإسلام ، وأنّها لم تكن بأيّ حال من أجل مغنم ماديّ دنيوي .

٢ ـ الإيمان بالله تعالى

أمّا قوّة الإيمان بالله ، وصلابته فإنّها من أبرز العناصر في شخصيّة أبي الفضل عليه‌السلام ، ومن أوّليّات صفاته ، فقد تربّى في حجور الإيمان ، ومراكز العلم (٢) والتقوى ، ومعاهد الطاعة والعبادة لله تعالى ، فقد غذّاه أبوه زعيم الموحّدين ، وسيّد المتّقين بجوهر الإيمان ، وواقع التوحيد ، لقد غذّاه بالإيمان الناشىٔ عن الوعي ، والتدبّر في حقائق الكون ، وأسرار الطبيعة ، ذلك الإيمان الذي أعلنه الإمام عليه‌السلام بقوله : « لَوْ كُشِفَ الغِطاءُ ما ازْدَدْتَ يَقيناً » (٣) .

وقد تفاعل هذا الإيمان العميق في أعماق قلب أبي الفضل وفي دخائل ذاته حتّى صار من عمالقة المتّقين والموحّدين ، وكان من عظيم إيمانه الذي لا يحدّ أنّه قدّم نفسه وإخوته وبعض أبنائه قرابين خالصة لوجه الله تعالى .

__________________________

(١) مثير الأحزان : ٥٤ .

(٢) وعدّه العلّامة المامقاني من فقهاء الهاشميّين قائلاً : « وقد كان من فقهاء أولاد الأئمّة عليهم‌السلام ، وكان عدلاً ثقةً تقيّاً نقيّاً » : ٢ : ١٢٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٠ : ١٥٣ ، باب ٩٣ ـ علمه ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله علّمه ألف باب ، وأنّه كان محدثاً ، الحديث ٥٤ . غرر الحكم : ١١٩ ، الباب الخامس في الإمامة ، الفصل الثاني في عليّ عليه‌السلام ، فضائله ، الحديث ٢٠٨٦ .


لقد جاهد العبّاس ببسالة دفاعاً عن الدين ، وحماية لمبادئ الإسلام التي تعرّضت للخطر الماحق أيّام الحكم الأموي ، ولم يبغ بذلك إلّا وجه الله والدار الآخرة .

٣ ـ الإباء

وصفة اُخرى من أسمى صفات أبي الفضل عليه‌السلام ، وهي الإباء وعزّة النفس ، فقد أبي أن يعيش ذليلاً في ظلّ الحكم الأموي الذي اتّخذ مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، فاندفع إلى ساحات الجهاد كما اندفع أخوه أبو الأحرار الذي رفع شعار العزّة والكرامة ، وأعلن أنّ الموت تحت ظلال الأسنّة سعادة ، والحياة مع الظالمين برماً .

لقد مثّل أبو الفضل عليه‌السلام يوم الطفّ الإباء بجميع رحابه ومفاهيمه ، فقد منّاه الأمويّون بإمارة الجيش ، وإسناد القيادة العامّة له إن تخلّى عن أخيه سيّد شباب أهل الجنّة ، فهزأ منهم ، وجعل إمارة جيشهم تحت قدمه ، واندفع بشوق وإخلاص إلى ميادين الحرب يجندل الأبطال ، ويحصد الرؤوس دفاعاً عن حرّيّته ودينه وكرامته .

٤ ـ الصبر

ومن خصائص أبي الفضل عليه‌السلام ومميّزاته : الصبر على محن الزمان ، ونوائب الدهر ، فقد ألمّت به يوم الطفّ من المصائب والمحن التي تذوب من هولها الجبال ، فلم يجزع ، ولم يفه بأيّ كلمة تدلّ على سخطه ، وعدم رضاه بما جرى عليه وعلى أهل بيته ، وإنّما سلّم أمره إلى الخالق العظيم ، مقتدياً بأخيه سيّد الشهداء عليه‌السلام الذي لو وزن صبره بالجبال الرواسي لرجح عليها .

لقد رأى أبو الفضل الكواكب المشرقة ، والممجّدين الأوفياء من أصحابه وهم مجّزرون كالأضاحي في رمضاء كربلاء تصهرهم الشمس ، وسمع عويل الأطفال ، وهم ينادون العطش العطش ، وسمع صراخ عقائل الوحي وهنّ يندبن الشهداء ، ورأى وحدة أخيه الحسين عليه‌السلام ، وقد أحاط به أنذال أهل الكوفة يبغون قتله تقرّباً


لسيّدهم ابن مرجانة ، رأى أبو الفضل كلّ هذه الشدائد الجسام فلم يجزع وسلّم أمره إلى الله تعالى ، مبتغياً الأجر من عنده .

٥ ـ الوفاء

ومن خصائص أبي الفضل عليه‌السلام الوفاء الذي هو من أنبل الصفات وأميزها ، فقد ضرب الرقم القياسي في هذه الصفة الكريمة ، وبلغ أسمى حدّ لها ، وكان من سمات وفائه ما يلي :

الوفاء لدينه عليه‌السلام

وكان أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام من أوفى الناس لدينه ، ومن أشدّهم دفاعاً عنه ، فحينما تعرّض الإسلام للخطر الماحق من قِبل الطغمة الأمويّة الذين تنكّروا أشدّ ما يكون التنكّر للإسلام ، وحاربوه في غلس الليل وفي وضح النهار . فانطلق أبو الفضل إلى ساحات الوغى فجاهد في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين لترتفع كلمة الله عالية في الأرض ، وقد قطعت يداه ، وهوى إلى الأرض صريعاً في سبيل مبادئه الدينية .

الوفاء لاُمّته عليه‌السلام

رأى سيّدنا العبّاس عليه‌السلام الاُمّة الإسلاميّة ترزح تحت كابوس مظلم من الذلّ والعبوديّة ، قد تحكّمت في مصيرها عصابة مجرمة من الأمويّين ، فنهبت ثرواتها ، وتلاعبت في مقدّراتها ، وكان أحد أعمدتهم السياسيّة يعلن بلا حياء ولا خجل قائلاً : « إنّما السواد بستان قريش » ، فأي استهانة بالاُمّة مثل هذه الاستهانة ، ورأى أبو الفضل عليه‌السلام أنّ من الوفاء لاُمّته أن يهبّ لتحريرها وإنقاذها من واقعها المرير ، فانبرى مع أخيه أبي الأحرار والكوكبة المشرقة من فتيان أهل البيت عليهم‌السلام ، ومعهم الأحرار


الممجّدون من أصحابهم ، فرفعوا شعار التحرير ، وأعلنوا الجهاد المقدّس من أجل إنقاذ المسلمين من الذلّ والعبوديّة ، وإعادة الحياة الحرّة الكريمة لها ، حتّى استشهدوا من أجل هذا الهدف السامي ، فأي وفاء للاُمّة يضارع مثل هذا الوفاء ؟

الوفاء لوطنه عليه‌السلام

وغمرت الوطن الإسلامي محن شاقّة وعسيرة أيّام الحكم الأموي ، فقد فقدَ استقلاله وكرامته ، وصار بستاناً للأمويّين وسائر القوى الرأسماليّة من القرشيّين وغيرهم من العملاء ، وقد شاع البؤس والحرمان وذلّ فيه المصلحون والأحرار ، ولم يكن فيه أي ظلّ لحريّة الفكر والرأي ، فهبّ العبّاس تحت قيادة أخيه سيّد الشهداء عليه‌السلام إلى مقاومة ذلك الحكم الأسود ، وتحطيم أروقته وعروشه ، وقد تمّ ذلك بعد حين بفضل تضحياتهم ، فكان حقّاً هذا هو الوفاء للوطن الإسلامي .

الوفاء لأخيه عليه‌السلام

ووفى أبو الفضل عليه‌السلام ما عاهد الله عليه من البيعة لأخيه ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمنافح الأوّل عن حقوق المظلومين والمضطهدين .

ولم يرَ الناس على امتداد التاريخ وفاءً مثل وفاء أبي الفضل لأخيه الإمام الحسين عليه‌السلام ، ومن المقطوع به أنّه ليس في سجلّ الوفاء الإنساني أجمل ولا أنضر من ذلك الوفاء الذي أصبح قطباً جاذباً لكلّ إنسان حرّ شريف .

٦ ـ قوّة الإرادة

أمّا قوّة الإرادة فإنّها من أميز صفات العظماء الخالدين الذين كتب لهم النجاح في أعمالهم ، إذ يستحيل أن يحقّق من كان خائر الإرادة وضعيف الهمّة أي هدف اجتماعي ، أو يقوم بأي عمل سياسي .


لقد كان أبو الفضل عليه‌السلام من الطراز الأوّل في قوّة بأسه ، وصلابة إرادته ، فانضمّ إلى معسكر الحقّ ، ولم يهن ولم ينكُل ، وبرز على مسرح التاريخ كأعظم قائد فذّ ، ولو لم يتّصف بهذه الظاهرة لما كتب له الفخر والخلود على امتداد الأيّام .

٧ ـ الرأفة والرحمة

وأترعت نفس أبي الفضل بالرأفة والرحمة على المحرومين والمضطهدين ، وقد تجلّت هذه الظاهرة بأروع صورها في كربلاء حينما احتلّت جيوش الأمويّين حوض الفرات لحرمان أهل البيت عليهم‌السلام من الماء حتّى يموتوا أو يستسلموا لهم ، ولمّا رأى العباس عليه‌السلام أطفال أخيه ، وسائر الصبية من أبناء إخوته ، وقد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم من شدّة الظمأ ذاب قلبه حناناً وعطفاً عليهم ، فاقتحم الفرات ، وحمل الماء إليهم وسقاهم ، وفي اليوم العاشر من المحرّم سمع الأطفال ينادون العطش العطش ، فتفتّت كبده رحمة ورأفة عليهم ، فأخذ القربة ، والتحم مع أعداء الله حتّى كشفهم عن نهر الفرات ، فغرف منه غرفة ليروي ظمأه ، فأبت رحمته أن يشرب قبل أخيه وأطفاله ، فرمى الماء من يده .

فتّشوا في تاريخ الاُمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الرأفة والرحمة ، التي تحلّى بها قمر بني هاشم وفخر عدنان .

هذه بعض عناصر أبي الفضل وصفاته ، وقد ارتقى بها إلى قمّة المجد التي ارتقى إليها أبوه .


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0065.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg




ورافق أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام منذ نعومة أظفاره كثيراً من الأحداث الجسام التي لم تكن ساذجة ، ولا سطحيّة ، وإنّما كانت عميقة أشدّ ما يكون العمق ، فقد أحدثت اضطراباً شاملاً في الحياة الفكريّة والعقائديّة بين المسلمين ، كما استهدفت بصورة دقيقة إبعاد أهل البيت عليهم‌السلام عن المراكز السياسيّة في البلاد ، وإخضاعهم لرغبات السلطة ، وما تعمله على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي ، من أعمال لا تتّفق في كثير من بنودها مع التشريع الإسلامي ، وقد تجلّى ذلك بوضوح أيّام حكومة عثمان وما سلكته من التصرّفات في المجالات الإداريّة .

فقد عمدت إلى منح مناصب الدولة ، وسائر الوظائف العامّة إلى بني اُميّة وآل أبي معيط ، وحرمان بني هاشم ومن يتّصل بهم من أبناء الصحابة من أي منصب من المناصب العامّة ، وقد استولى الأمويّون على جميع أجهزة الدولة ، وراحوا يعملون ـ عامدين أو غير عامدين ـ إلى خلق الأزمات الحادّة بين المسلمين .

ومن المقطوع به أنّه لم تكن لأكثرهم أيّة نزعة إسلاميّة ، كما لم تكن لهم أيّة دراية بأحكام القانون الإسلامي ، وما تتطلّب إليه الشريعة الإسلاميّة من إيجاد مجتمع إسلامي متطوّر قائم على المودّة والتعاون ، وبعيد كلّ البعد عن التأخّر .

لقد أشاعت حكومة عثمان الرأسماليّة في البلاد ، فقد منحت الأمويّين وبعض أبناء القرشيّين الامتيازات الخاصّة ، وفتحت لهم الطريق لكسب الأموال وتكديسها بغير وجه مشروع ، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى خلق اضطراب شامل


لا في الحياة الاقتصاديّة فحسب ، وإنّما في جميع مناحي الحياة ، وأشاعت القلق والتذمّر في جميع الأوساط الإسلاميّة .

فاتّجهت قطعات من الجيوش المرابطة في العراق ومصر إلى يثرب ، وطالبت عثمان بالاستقامة في سياسته ، وإبعاد الأمويّين عن جهاز الدولة ، كما طالبوه بصورة خاصّة بإبعاد مستشاره ووزيره مروان بن الحكم الذي كان يعمل بصورة مكشوفة لتأجيج نار الفتنة في البلاد .

ولم يستجب عثمان لمطالب الثوّار ، ولم يخضع لرأي الناصحين له والمشفقين عليه ، وظلّ متمسّكاً باُسرته ، ومحتضناً لبطانته ، تتوافد عليه الأخبار بانحرافهم عن الطريق القويم ، واقترافهم لما حرّمه الله ، فلم يعن بذلك ، وراح يسدّدهم ويلتمس لهم المعاذير ، ويتّهم الناصحين بالعداء لاُسرته .

وبعدما أخفقت جميع الوسائل الهادفة لاستقامة عثمان لم يجد الثوّار بُدّاً من قتله ، فقُتل شرّ قتلة ، ويقول المؤرّخون : إنّه تولّى قتله خيار أبناء الصحابة ، كمحمّد بن أبي بكر ، كما أقرّ قتله كبار الصحابة وعظماؤهم ، وفي طليعتهم الصحابي الجليل صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخليله عمّار بن ياسر .

وانتهت بذلك حكومة عثمان ، وهي من أهمّ الأحداث الجسام التي جرت في عصر أبي الفضل عليه‌السلام وبمرأى ومسمع منه ، فقد كان في شرخ الشباب وعنفوانه ، وقد رأى كيف تذرّع الانتهازيّون من الأمويّين بمقتل عثمان فطبّلوا له ، ورفعوا قميصه الملطّخ بدمائه فجعلوه شعاراً لتمرّدهم على حكم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ذلك الحكم القائم على الحقّ والعدل .

إنّ أسوأ ما تركت حكومة عثمان أنّها ألقت الفتنة بين المسلمين ، وحصرت الثروة عند الأمويّين وآل أبي معيط ، وعملائهم من القرشيّين الحاقدين على العدل الاجتماعي ، وبذلك استطاعوا القيام بعصيان مسلّح ضدّ حكومة الإمام أمير


المؤمنين عليه‌السلام التي كانت امتداداً ذاتيّاً لحكومة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أي حال ، فلنترك حديث عثمان ، ونتوجّه إلى ذكر بقيّة الأحداث التي جرت في عصر أبي الفضل عليه‌السلام .

حكومة الإمام عليّ عليه‌السلام

والشيء المؤكّد الذي لا خلاف فيه أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قد انتخب انتخاباً شاملاً من جميع قطعات الشعب ، فقد سارعت القوّات المسلّحة التي أطاحت بحكومة عثمان إلى مبايعته ، كما بايعته الجماهير العامّة في مختلف الأقاليم الإسلاميّة سوى الشام ، ونفر قليل في يثرب كان من بينهم سعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر ، وبعض الأمويّين الذين أيقنوا أنّ الإمام عليه‌السلام يبسط العدالة الاجتماعيّة في الأرض ، ويحقّق المساواة الكاملة بين المسلمين ، فلا امتياز لأحد على أحد ، وبذلك تفوت مصالحهم ، فلم يبايعوه .

ولم يقف الإمام عليه‌السلام معهم موقفاً معادياً ، فلم يوعز إلى السلطات القضائيّة والتنفيذيّة باتّخاذ الإجراءات الحاسمة ضدّهم ، وذلك عملاً بما منحه الإسلام من الحرّيات العامّة لجميع الناس ، سواء كانوا من المؤيّدين للدولة أو المعارضين لها بشرط أن لا يحدثوا فساداً في الأرض ، أو يقوموا بعصيان مسلّح ضدّ الدولة فإنّها تكون مضطرّة إلى اتّخاذ الإجراءات القانونيّة ضدّهم .

وعلى أيّ حال ، فقد بويع الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بيعة عامّة عن رضى واختيار من جميع أبناء الشعوب الإسلاميّة ، وأظهروا في بيعته جميع مباهج الفرح والسرور ، ولم يظفر بمثل هذه البيعة أحد من الخلفاء الذين سبقوه أو تأخّروا عنه .

وفور تقلّد الإمام عليه‌السلام للخلافة تبنّى بصورة إيجابيّة وشاملة العدل الخالص ، والحقّ المحض ، وتنكّر لكلّ مصلحة شخصيّة تعود بالنفع عليه أو على ذويه ، وقدّم مصالح


الفقراء والمحرومين على جميع المصالح الاُخرى .

يقول عليه‌السلام : أَيُّها النّاسُ ، إِنِّي رَجُلٌ مِنْكُمْ ، لي ما لَكُمْ ، وَعَلَيَّ ما عَلَيْكُمْ ، وَإِنِّي حامِلُكُمْ عَلَى مَنْهَجِ نَبِيِّكُمْ ، وَمُنَفِّذٌ فِيكُمْ ما أَمَرَ بِهِ ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ قَطِيعَةٍ أَقْطَعَها عُثْمانُ ، وكُلَّ مالٍ أَعْطاهُ مِنْ مالِ اللهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ في بَيْتِ الْمالِ ، فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ ، وَلَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّساءُ ، وَمُلِكَ بِهِ الْإِماءُ ، وَفُرِّقَ في البُلْدانِ لَرَدَدْتُهُ ؛ فَإِنَّ في الْعَدْلِ سَعَةً ، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ .

كانت سعادته عليه‌السلام أن يرى الأوساط الشعبيّة تنعم بالخير والسعادة ، ولا مكان للحاجة والاعواز عندها ، ولم يعرف في تاريخ هذا الشرق حاكم مثله في عطفه وحنانه على البؤساء والمحرومين .

ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للحديث عن بعض شؤون الحكم عند الإمام عليه‌السلام ، فإن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسيرة ولده أبي الفضل عليه‌السلام فإنّه يكشف عن روعة التربية الكريمة التي تربّى عليها في عهد أبيه رائد العدالة الاجتماعيّة في الأرض ، والتي تركت في نفسه حبّ التضحية والفداء في سبيل الله ، كما يكشف عن الأسباب الوثيقة التي دعت القوى الطامعة والمنحرفة إلى الوقوف في وجه حكومة الإمام عليه‌السلام ، ومناهضتهم لأبنائه من بعده ، وفيما يلي ذلك :

منهج حكم الإمام عليه‌السلام

أمّا منهج الحكم وفلسفته عند الإمام عليه‌السلام فقد كان مشرقاً وحافلاً بمقوّمات الارتقاء والنهوض للشعوب الإسلاميّة ، وفيما أعتقد أنّه لم تعرف الإنسانيّة في جميع أدوارها نظاماً سياسيّاً تبنّى العدل السياسي والاقتصادي والاجتماعي مثل ما تبّناه الإمام عليه‌السلام ، وما سنّه من المناهج الرائعة في هذه الحقول ، ونشير إلى بعضها :


أوّلاً : بسط الحريّات

وآمن الإمام عليه‌السلام بضرورة منح الحريّات العامّة لجميع أبناء الاُمّة ، وأنّ ذلك من أولويّات حقوقها ، والدولة مسؤولة عن توفيرها لكلّ فرد من أبناء الشعب ، وأنّ حرمانهم منها يخلق في نفوسهم العقد النفسيّة ، ويمنع من التقدّم الفكري ، والتطوّر الاجتماعي عند أبنائها ، ويخلد لهم الخنوع والخمول ، ويعود عليهم بالأضرار البالغة ، أمّا مدى هذه الحرّية وسعتها فهي :

١ ـ الحريّة الدينيّة

يرى الإمام عليه‌السلام أنّ الناس أحرار فيما يعتقدون وما يذهبون إليه من أفكار دينيّة ، وليس للدولة أن تحول بينهم وبين عقائدهم ، كما أنّه ليس لها أن تحول بينهم وبين طقوسهم الدينيّة ، وأنّهم غير ملزمين بمسايرة المسلمين في الأحوال الشخصيّة ، وإنّما يتّبعون ما قنّن من تشريع عند فقائهم .

٢ ـ الحريّة السياسيّة

ونعني بها منح الناس الحريّة التامّة في اعتناق المذاهب السياسيّة التي تتّفق مع رغباتهم وميولهم ، وليس للدولة أن تفرض عليهم رأياً سياسيّاً مخالفاً لما يذهبون إليه ، كما أنّه ليس لها أن تفرض عليهم الاقلاع عن آرائهم السياسيّة الخاصّة ، وإنّما عليها أن تقيم لهم الأدلّة والحجج الحاسمة على فساد ذلك المذهب وعدم صحّته ، فإن رجعوا إلى الرشاد فذاك ، وإلّا فتتركهم وشأنهم ما لم يحدثوا فساداً في الأرض ، أو يخلّوا بالأمن العامّ ، كما وقع ذلك من الخوارج الذين فقدوا جميع المقوّمات الفكريّة والركائز العلميّة ، وراحوا يتمادون في جهلهم وغيّهم ويعرّضون الناس للقتل والارهاب ، فاضطرّ الإمام عليه‌السلام إلى مقاومتهم بعد أن اُعذر فيهم .

ومن الجدير بالذكر إنّ ممّا يتفرّع على الحريّة السياسيّة حريّة النقد لرئيس الدولة


وجميع أعضائها ، فالناس أحرار فيما يتولّون ، وينقدون ، وقد كان الخوراج يقطعون على الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام خطابه ، ويخدشون عواطفه بنقدهم الذي لم يكن واقعيّاً ، وإنّما كان مبنيّاً على الجهل والمغالطة ، فلم يتّخذ الإمام أي إجراء ضدّهم ، ولم يسقهم إلى المحاكم والقضاء لينالوا جزاءهم ، وبذلك فقد عهد الامام إلى نشر الوعي العامّ ، وبناء الشخصيّة المزدهرة للإنسان المسلم .

هذه بعض صور الحريّة التي طبّقت أيّام حكم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهي تمثّل مدى أصالة منهجه السياسي الذي يساير التطوّر والابداع .

ثانياً : نشر الوعي الديني

واهتمّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بصورة إيجابيّة بنشر الوعي الديني ، وإشاعة المُثل الإسلاميّة بين المسلمين ، باعتبارها الركيزة الاُولى لإصلاح المجتمع وتهذيبه .

إنّ من اُولى معطيات الوعي الديني إقصاء الجريمة ، ونفي الشذوذ والانحراف عن المجتمع ، وإذا لم يتلوّث بذلك ، فقد بلغ غاية الازدهار والتقدّم .

ومن المقطوع به أنّا لم نجد أحداً من خلفاء المسلمين وملوكهم قد عنى بالتربية الدينيّة كما عني الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقد حفل نهج البلاغة بالكثير من خطبه التي تهزّ أعماق النفوس ، وتدفعها إلى سلوك المناهج الخيّرة ، واعتناق الفضائل ، وإبعادها عن اقتراف الجرائم ، وقد أثمرت خطبه في إيجاد طبقة من خيار المسلمين وصلحائهم ، قاوموا الانهيار الأخلاقي ، وناهضوا التفسّخ والتحلّل الذي شاع أيّام حكم الأمويّين ، وكان من بين هؤلاء رشيد الهجري ، وميثم التمّار ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وغيرهم من بناة الفكر الإسلامي .

ثالثاً : نشر الوعي السياسي

أمّا نشر الوعي السياسي في أوساط المجتمع الإسلامي فهو من أهمّ الأهداف


السياسيّة التي تبنّاها الإمام عليه‌السلام في أيّام حكومته .

ونعني بالوعي السياسي هو تغذية المجتمع وإفهامه بجميع الطرق والوسائل بالمسؤوليّة أمام الله تعالى ، على مراقبة الأوضاع العامّة في الدولة ، وغيرها من سائر الشؤون الاجتماعيّة للمسلمين ، حتّى لا يقع أي تمزّق في صفوفهم ، أو أي تأخّر أو ضعف في حياتهم الفرديّة والاجتماعيّة ، وقد ألزم الإسلام بذلك . قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كُلُّكُمْ راعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ » (١) .

ألقى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المسؤوليّة على جميع المسلمين في رعاية شؤونهم ، والعمل على حفظ مصالحهم ، ودرء الفساد عنهم .

ومن بين الأحداث المهمّة الداعية إلى مقاومة أئمّة الظلم والجور هذا الحديث النبوي الذي ألقاه أبو الأحرار على جلاوزة ابن مرجانة وعبيدة ، قال :

« أَیُّها النّاسُ ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله قالَ : مَنْ رَأىٰ سُلْطاناً جائِراً مُسْتَحِلّاً لِحُرمِ اللهِ ، ناکِثاً لِعَهْدِ اللهِ ، مُخالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، یَعمَلُ فِي عِبادِ اللهِ بِالْإِثمِ وَالْعُدوَانِ ، فَلَم یُغَیِّرْ عَلَیهِ بِفِعْلٍ ، وَلَا قَوْلٍ کانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ یُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ . . » (٢) .

وكان هذا الحديث الشريف من المحفّزات لسيّد الشهداء عليه‌السلام على إعلان الجهاد المقدّس ضدّ الحكم الأموي الجائر الذي استحلّ ما حرّم الله ، ونكث عهده ، وخالف سنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعمل في عباد الله بالإثم والعدوان .

إنّ الوعي السياسي الذي أشاعه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بين المسلمين أيّام حكمه قد خلق شعوراً ثوريّاً ضدّ الظالمين والمستبدّين ، فقد انبرى المجاهدون

__________________________

(١) الجامع الصغير بشرح السيوطي : ٢ : ١٥٨ . صحيح البخاري : ١ : ٢١٥ ، باب الجمعة في القرى والمدن .

(٢) بحار الأنوار : ٤٤ : ٣٨٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٤ . الكامل في التاريخ : ٤ : ٤٨ .


الأبطال ممّن غذّاهم الإمام بهذه الروح إلى مقارعة الطغاة ، وكان على رأسهم أبو الأحرار سيّد الشهداء ، وأخوه البطل الفذّ أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام ، والكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهم‌السلام وأصحابهم المجاهدين .

فقد هبّوا جميعاً في وجه الطاغية يزيد لتحرير المسلمين من الذلّ والعبوديّة ، وإعادة الحياة الحرّة الكريمة بين المسلمين .

وقد سبق هؤلاء العظماء المصلح الكبير حجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ورُشيد الهجري ، وميثم التمّار ، وغيرهم من أعلام الحريّة ودعاة الاصلاح الاجتماعي ، فقد ثاروا بوجه الطاغية معاوية بن أبي سفيان ممثّل القوى الجاهليّة ، ورأس العناصر المعادية للإسلام .

وعلى أي حال ، فقد غرس الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام روح الثورة على الظلم والطغيان في نفوس المسلمين ، وأهاب بهم أن لا يقارّوا على كظّة ظالم أو سغب مظلوم .

رابعاً : إلغاء المحسوبيّات

وكان ممّا عني به الإمام عليه‌السلام في أيّام حكومته إلغاء المحسوبيّات إلغاءً مطلقاً ، فالقريب والبعيد عنده سواء ، فليس للقريب امتياز خاصّ ، وإنّما شأنه شأن غيره في جميع الحقوق والواجبات ، كما سوّى بصورة موضوعيّة بين العرب والموالي ممّا جعل الموالي يدينون له بالولاء ، ويؤمنون بإمامته .

لقد ألغى الإمام جميع صنوف المحسوبيّات ، وصور العنصريّات ، وساوى بين المسلمين على اختلاف قوميّاتهم مساواة عادلة لم يعهد لها نظير في تاريخ الاُمم والشعوب ، فقد حملت مساواته روح الإسلام وجوهره وحقيقته النازلة من ربّ العالمين ، فهي التي تجمع ولا تفرّق ، ولا تجعل في صفوف المسلمين أي ثغرة


يسلك فيها أعداء الإسلام لتشتيت شملهم ، وتصديع وحدتهم .

قال عليه‌السلام : « الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّىٰ آخُذَ الْحَقَّ لَهُ ، وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّىٰ آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ . رَضِينا عَنِ اللهِ قَضاءَهُ ، وَسَلَّمْنا لِلَّهِ أَمْرَهُ . . . » .

خامساً : القضاء على الفقر

أمّا فلسفة الإمام عليه‌السلام في الحكم فتبتني على محاربة الفقر ولزوم إقصاء شبحه البغيض عن الناس ، لأنّه كارثة مدمّرة للمواهب والأخلاق ، ولا يمكّن الاُمّة أن تحقّق أي هدف من أهدافها الثقافيّة والصحيّة وهي فقيرة بائسة .

إنّ الفقير يقف سدّاً حائلاً بين الاُمّة وبين ما تصبو إليه من التطوّر والتقدّم والرخاء بين أبنائها .

قال عليه‌السلام : « وَانْظُرْ إِلَىٰ ما اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ مالِ اللهِ فَاصْرِفْهُ إِلَىٰ مَنْ قِبَلَكَ مِنْ ذَوِي الْعِيالِ وَالْمَجاعَةِ ، مُصِيباً بِهِ مَواضِعَ الْفاقَةِ والْخَلَّاتِ وَما فَضَلَ عَنْ ذٰلِكَ فَاحْمِلْهُ إِلَيْنا لِنَقْسِمَهُ فِيمَنْ قِبَلَنا » (١) .

ومن الجدير بالذكر أنّ من بين المخطّطات التي تزيل شبح الفقر ، وتوجب نشر الرخاء بين الناس ، والتي عني بها الإسلام بصورة موضوعيّة هي :

١ ـ توفير المسكن .

٢ ـ إقامة الضمان الاجتماعي .

٣ ـ توفير العمل .

٤ ـ سدّ أبواب المرابين .

٥ ـ القضاء على الاحتكار .

__________________________

(١) نهج البلاغة : ٢ : ١٢٨ ، كتابه عليه‌السلام لابن عبّاس وهو عامله على مكّة .


هذه بعض الوسائل التي عني بها الإسلام في اقتصاده ، وقد تبنّاها الإمام عليه‌السلام في أيّام حكومته ، وقد ناهضتها القوى الرأسماليّة القرشيّة ، ودفعت بجميع إمكانيّاتها للإجهاز على حكم الإمام ، الذي قضى على مصالحهم الضيّقة .

وبهذا نطوي الحديث عن منهج الإمام وفلسفته في الحكم .

القوى المعارضة للإمام عليه‌السلام

ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للتعرّف على القوى المعارضة لحكومة الإمام ، التي لم تكن لها أيّة أهداف نبيلة ، وإنّما كانت تبغي الاستيلاء على الحكم للظفر بخيرات البلاد ، والتحكّم في رقاب المسلمين بغير حقّ ، وفيما يلي ذلك :

السيّدة عائشة

وانطوت نفس السيّدة عائشة ـ مع الأسف ـ على بغض عارم وكراهية شديدة للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولعلّ السبب في ذلك ـ فيما نحسب ـ يعود إلى ميل زوجها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وإلى بضعته وحبيبته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وإلى سبطيه وريحانتيه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وإشادته دوماً بفضلهم ، وسموّ منزلتهم عند الله ، وفرض مودّتهم على عموم المسلمين ، كما أعلن الذكر الحكيم ذلك ، قال تعالى : ( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١) .

وفي نفس الوقت كانت عائشة تعامل معاملة عادية ، وفي كثير من الأحيان كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يشير إلى أفعالها ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لنسائه : أَيَّتُكُنَّ تَنْبَحُها كِلابُ الْحَوْأَبِ فَتَكونَ ناكِبَةً عَنِ الصِّراطِ .

__________________________

(١) الشورى ٤٢ : ٢٣ .


وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : مِنْ ها هُنا يَتَوَلَّدُ الشَّرُّ وأشار إلى بيتها ، وغير ذلك ممّا أثار عواطفها .

وثمّة سبب في كراهية عائشة للإمام ، وهو موقفه الصارم الذي وقفه تجاه بيعة أبيها أبي بكر ، ومقاطعته لانتخابه ، وشجبه لبيعته وبعد سقوط حكومة عثمان كانت تروم إرجاع الخلافة إلى قبيلتها تيم لتكون سياسة الدولة بجميع أجهزتها خاضعة لرغباتها وميولها ، وهي على يقين أنّ الخلافة إذا رجعت للإمام عليه‌السلام فإنّها سوف تعامل كغيرها من عامة النّاس ، ولا تحظى بأية ميزة ، فإنّ جميع الشؤون السياسيّة والاقتصاديّة عند الإمام عليه‌السلام لا بدّ أن تسير على وفق الكتاب والسنّة ، ولا مجال عنده للأهواء والعواطف ، وكانت عائشة تعرف ذلك جيّداً ، ولذا أعلنت العصيان والتمرّد على حكومته ، وقد انضمّ إليها كلّ من الزبير وطلحة والأمويّين وذوي الأطماع والمنحرفين عن الحقّ من القبائل القرشيّة الذين ناهضوا الدعوة الإسلاميّة من حين بزوغ نورها .

وعلى أي حال ، فقد كانت عائشة من أوثق الأسباب في الاطاحة بحكومة عثمان ، وقد أفتت بوجوب قتله ، ولمّا أيقنت بهلاكه خرجت إلى مكّة وهي تتطلّع إلى الأخبار ، فلمّا وافاها النبأ بقتله أعلنت فرحتها الكبرى ، ولكنّها لمّا فوجئت بالبيعة للإمام عليه‌السلام انقلب وضعها رأساً على عقب ، وراحت تقول بحرارة : « قتل عثمان مظلوماً ، لأطلبنّ بدمه . . . » .

وأخذت تندب عثمان رياءً لا حقيقة ، وقد رفعت قميصه الملطّخ بدمه ، وجعلته شعاراً لتمرّدها على السلطة الشرعيّة التي أعلنت حقوق الإنسان ، وتبنّتْ مصالح المحرومين والمضطهدين ، والتي كانت امتداداً لحكومة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعقدت عائشة في مكّة الندوات مع أعضاء حزبها البارزين ، كطلحة والزبير ، وسائر الأمويّين ، وأخذت تتداول معهم الآراء أيّ بلد يغزونه ليشكّلوا فيه حكومة لهم ، وبعد التأمّل والنظر الدقيق في أحوال المناطق الإسلاميّة أجمع رأيهم على


احتلال البصرة لأنّ لهم بها شيعة وأنصاراً ، وأعلنوا بعد ذلك العصيان المسلّح وزحفوا نحو البصرة ، وقد التحق بهم بهائم البشر ، وحثالات الشعوب من الذين ليس لهم فكر ولا وعي ، وساروا لا يلوون على شيء حتّى انتهوا إلى البصرة ، وبعد مقاومة عنيفة بينهم وبين الحكومة المركزيّة فيها استطاعوا احتلالها ، وألقوا القبض على حاكمها عثمان بن حنيف وجيء به مخفوراً إلى عائشة ، فأمرت بنتف لحيته ، فنتفتها جلاوزتها وعاد ابن حنيف بعد لحيته العريضة شابّاً أمرداً .

ولمّا وافت الأنباء الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام بتمرّد عائشة ، واحتلالها لمدينة البصرة ، سارع بجيوشه للقضاء على هذا الجيب المتمرّد ، خوفاً من أن تسري نار الفتنة إلى بقيّة الأمصار الإسلاميّة ، وقد ضمّ جيشه القوى الواعية في الإسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر ، ومالك الأشتر ، وحجر بن عدي ، وابن التيهان ، وغيرهم ممّن ساهموا في بناء الإسلام ، وإقامة ركائزه في الأرض .

وسارت جيوش الإمام حتّى انتهت إلى البصرة فوجدوها محتلّة بجنود مكثّفة ، وهم يعلنون الطاعة والولاء لاُمّهم عائشة ، فأرسل الإمام رسله إلى أعضاء القيادة العسكريّة في جيش عائشة ، كطلحة والزبير ، فعرضوا عليهم السلم والدخول في مفاوضات بينهم وبين الإمام حقناً لدماء المسلمين ، فأبوا وأصرّوا على التمرّد والعصيان مطالبين بوقاحة بدم عثمان ، وهم الذين أطاحوا بحكومته وأجهزوا عليه .

ولمّا نفدت جميع الوسائل التي اتّخذها الإمام عليه‌السلام للسلم اضطّر إلى إعلان الحرب عليهم ، وجرت بين الفريقين معركة رهيبة سقط فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل ، وأخيراً نصر الله الإمام على أعدائه ، فقد قُتل طلحة والزبير والكثيرون من أنصارهم ، وملئت ساحة المعركة بجثث قتلاهم ، وقذف الله الرعب في قلوب الأحياء منهم ، فولّوا منهزمين قابعين بالذلّ والعار .

واستولى جيش الإمام على عائشة القائدة العامّة للمتمرّدين ، وحملت بحفاوة


إلى بعض بيوت البصرة ، ولم يتّخذ الإمام معها الاجراءات الصارمة ، وعاملها معاملة المحسن الكريم ، وسارع الإمام فسرّحها تسريحاً جميلاً إلى يثرب ، لتقرّ في بيتها الذي أمرها الله ورسوله أن تسكن فيه ، ولا تتدخّل بمثل هذه الاُمور التي ليست هي مسؤولة عنها .

وانتهت هذه الفتنة التي أسماها المؤرّخون ( بحرب الجمل ) ، وقد أشاعت في ربوع المسلمين الثكل والحزن والحِداد ، ومزّقت صفوفهم ، وألقتهم في شرّ عظيم .

ومن المؤكّد أنّ دوافع هذه الحرب لم تكن سليمة ، ولم تكن حجّة عائشة وحزبها منطقيّة ، وإنّما كانت من أجل المطامع والكراهية الشديدة لحكم الإمام الذي فقدوا في ظلاله جميع الامتيازات الخاصّة ، وعاملهم الإمام كما يعامل سائر المسلمين .

لقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام هذه الحرب الدامية ، ووقف على أهدافها الرامية للقضاء على حكم أبيه رائد العدالة الاجتماعيّة في الأرض ، وقد استبان له أحقاد القبائل القرشيّة له ، واستبان له أنّ الدين لم ينفذ إلى أعماق قلوبهم ، وإنّما كانوا يلوكونه بألسنتهم حفظاً لدمائهم ومصالحهم .

معاوية وبنو اُميّة

وفي طليعة القوى المعارضة لحكومة الإمام والمعادية له ، معاوية بن أبي سفيان ، وبنو اُميّة ، فقد نزع الله الإيمان من قلوبهم ، وأركسهم في الفتنة ركساً ، فكانوا من ألدّ أعداء الإمام ، كما كانوا من قبل من أعداء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهم الذين ناهضوا دعوته ، وكفروا برسالته ، وكادوا له في غلس الليل وفي وضح النهار ، حتّى أعزّه الله وأذلّهم ، ونصره وقهرهم ، وقد دخلوا في الإسلام مكرهين لا مؤمنين به ، ولولا سماحة خلق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعظيم رأفته ورحمته ، لما أبقى لهم ظلّاً على الأرض ، إلّا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله منحهم العفو كما منح غيرهم من أعدائه .

ولم يكن للأمويّين أي شأن يذكر أيّام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد قبعوا بالذلّ والهوان ينظر


إليهم المسلمون بنظرة العداء والخصوم ، ويذكرون ما قاموا به في محاربة دينهم ، والتنكيل بنبيّهم .

ومن المؤسف أنّه لمّا فجع المسلمون بفقد نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله وآل الأمر إلى الخلفاء علا نجم الأمويّين ، وذلك لأسباب سياسيّة خاصّة ، فقد عيّن أبو بكر يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق ، وخرج بنفسه لتوديعه إلى خارج يثرب تعظيماً له ، وإشادة بمكانة اُسرته ، ولم يفعل مثل ذلك مع بقيّة عمّاله وولاته كما يقول المؤرّخون .

ولمّا هلك يزيد اُسندت ولاية دمشق إلى أخيه معاوية ، وكان أثيراً عند عمر تتوافد عليه الأخبار بأنّه يشذّ في سلوكه ، وينحرف في تصرّفاته عن سنن الشرع وأحكام الإسلام ، فقد أخبروه بأنّه يلبس الحرير والديباج ، ويأكل في أواني الذهب والفضّة ، وكلّ ذلك محرّم في الإسلام ، فيقول معتذراً عنه ، ومسدّداً له : « ذاك كسرى العرب » ، ومتى كان ابن هند الصعلوك النذل كسرى العرب !!

ولو فرضنا أنّه كان كذلك ، فهل يباح له في شريعة الله أن يقترف الحرام ولا يُحاسب عليه ، إنّ الله تعالى ليست بينه وبين أحد نسب ولا قرابة ، فكلّ من شذّ عن سنّته ، وخالف أحكامه فإنّه يعاقبه على ذلك . يقول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لَوْ عَصَيْتُ لَهَوَيْتُ » .

ويقول الإمام زين العابدين عليه‌السلام : « خُلِقَتِ الْجَنَّةُ لِمَنْ أَطاعَ اللهَ ، وَلَوْ كانَ عَبْداً حَبَشِيّاً ، وَخُلِقَتِ النّارُ لِمَنْ عَصاهُ وَلَوْ كانَ حُرّاً قُرَشِيّاً ، وَقالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ائْتوني بِأَعْمالِكُمْ لَا بِأَنْسابِكُمْ » (١) .

وعلى أيّ حال ، فإنّ عمر قد أغدق ألطافه ونعمه على معاوية ، وزاد في رقعة سلطانه ، ونفخ فيه روح الطموح ، وقد ظلّ يعمل في ولايته على الشام عمل من يريد الملك والسلطان ، فكان يقرّب الوجوه والزعماء ، ويغدق عليهم بالهبات

__________________________

(١) روضات الجنّات : ٣ : ٢٩ .


والأموال ، ويشتري الذمم والعواطف ، ويركّز ولاءه في قلوب الغوغاء .

ومهّدت عائشة في ثورتها على حكم الإمام الطريق لمعاوية لإعلانه العصيان المسلّح على حكومة الإمام التي هي أشرف حكومة ظهرت في الشرق العربي على امتداد التاريخ ، وقد تذرّع بها معاوية الذئب الجاهلي لحرب الإمام ، واتّخذ من دم عثمان وسيلة لإغراء الغوغاء واتّهم الإمام بأنّه المسؤول عن المطالبة بدمه ، وفي نفس الوقت أوعز إلى أجهزة الإعلام أن تندب عثمان ، وتظهر براءته ممّا اقترفه في تصرّفاته الاقتصاديّة والسياسيّة التي تتجافى مع أحكام الإسلام .

وتسلّح معاوية بكبار الدبلوماسيّين ، ومهرة السياسة في العالم العربي ، أمثال المغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، وأمثالهما ممّن كانت لهم الدراية الوثيقة في أحوال المجتمع ، فكانوا يضعون له المخطّطات الرهيبة للتغلّب على الأحداث .

إعلان الحرب

ورفض معاوية رسميّاً بيعة الإمام ، وأعلن عليه الحرب ، وهو يعلم أنّه إنّما يحارب أخا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووصيّه ، وباب مدينة علمه ، ومَن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، لقد أعلن عليه الحرب كما أعلن أبوه أبو سفيان الحرب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وتشكّل الجيش الذي زحف به معاوية لمحاربة الإمام عليه‌السلام من العناصر التالية :

١ ـ الغوغاء

أمّا الغوغاء فهم جهلة الشعوب ، وهم كالأنعام ، بل هم أضلّ سبيلاً ، وتستخدمهم السلطة في كلّ زمان لنيل أهدافها ، ولتبني عروشها على جماجمهم ، وكانت الأكثريّة الساحقة من جيش معاوية من هؤلاء الغوغاء المغرّر بهم الذين لا يميّزون بين الحقّ والباطل ، والذين تلوّنهم الدعاية كيفما شاءت ، وقد جعلهم معاوية جسراً فعبر


عليهم لنيل مقاصده الشريرة .

٢ ـ المنافقون

أمّا المنافقون فهم الذين أظهروا الإسلام في ألسنتهم ، وأضمروا الكفر والعداء له في ضمائرهم وقلوبهم ، وكانوا يبغون له الغوائل ، ويكيدون له في وضح النهار وفي غلس الليل ، وقد ابتلي بهم الإسلام أشدّ ما يكون البلاء وامتحن بهم المسلمون أشدّ ما يكون الامتحان لأنّهم مصدر الخطر عليهم ، وقد ضمّ جيش معاوية رؤوس المنافقين وضروسهم ، أمثال المغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وغيرهم من الزمرة الباغية الذين وجدوا الفرصة لهم مواتية لضرب الإسلام وقلع جذوره ، وقد تسلّحوا بمعاوية ابن أبي سفيان العدوّ الأوّل للإسلام فناصروه وساروا في جيشه لمحاربة أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيّه ، والمنافح الأوّل عن الإسلام .

إنّ جميع مَن حارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المنافقين قد انضمّوا إلى معاوية وصاروا من حزبه وأعوانه في محاربة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام .

٣ ـ النفعيّون

ونعني بهم الجماعة التي فقدت امتيازاتها ومنافعها اللّامشروعة في ظلّ حكم الإمام رائد العدالة الاجتماعيّة في الأرض ، وفي طليعة هؤلاء ، العمّال والولاة ، وسائر الموظّفين في حكومة عثمان ، فقد فقدوا منافعهم وخافوا على مصادرة ما عندهم من الأموال التي اختلسوها من الشعب أيّام عثمان ، كما تمّ عزلهم عن مناصبهم فور تقلّد الإمام للحكم .

هذه بعض العناصر التي تشكّل منها جيش معاوية ، وقد زحف بهم إلى محاربة قائد الإسلام ، ورائد العدالة الإنسانيّة .


احتلال الفرات

واتّجهت جيوش معاوية صوب العراق ، فعسكرت في منطقة صفّين ، واختارتها مركزاً للحرب ، وأوعزت القيادة العامّة إلى قطعات الجيش باحتلال الفرات ، ووضع المفارز على حوض الفرات لمنع جيش الإمام من الشرب ليموتوا عطشاً ، وقد اعتبر معاوية ذلك أوّل النصر والفتح ، ونمّ ذلك عن خبث طبيعته ، ولؤم عنصره ، فإنّ لكلّ إنسان ، بل ولكلّ حيوان ، حقّاً طبيعيّاً في الماء عند كافّة الاُمم والشعوب ، ولكنّ معاوية وبني اُميّة قد تخلّوا عن جميع الأعراف ، فاستعملوا منع الماء كسلاح في معاركهم ، فقد منعوا الماء يوم الطفّ عن ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته حتّى أشرفوا على الموت من شدّة الظمأ .

ولمّا علم الإمام عليه‌السلام بزحف معاوية لحربه اتّجه بجيوشه نحو صفّين ، فلمّا انتهوا إليها وجدوا حوض الفرات قد احتلّ من قِبل معسكر معاوية ، ومنعوهم من تناول قطرة من الماء ، وألحّ العطش بجيش الإمام فانبرت إليه قادة جيشه ، وطلبوا منه الإذن في مقارعة القوم ، فرغب الإمام قبل أن يبدأهم بالحرب أن يطلبوا منهم السماح في تناول الماء ، إذ ليس لهم من سبيل أن يتّخذوه وسيلة لكسب المعركة ، لأنّ الماء مباح لكلّ إنسان وحيوان عند جميع الشرائع والأديان ، وعرض عليهم أصحاب الإمام ذلك ، إلّا أنّهم أبوا وأصرّوا على غيّهم وعدوانهم ، فاضطرّ الإمام بعد ذلك إلى أن يسمح لقوّاته المسلّحة بفتح نار الحرب عليهم ، فحملوا عليهم حملة واحدة ، ففرّوا منهزمين شرّ هزيمة ، وتركوا مواقعهم فاحتلّتها جيوش الإمام ، وأصبح نهر الفرات بأيديهم ، انطلق فريق من قادة الجيش نحو الإمام فطلبوا منه أن يسمح لهم في منع الماء عن أصحاب معاوية كما منعوهم عنه .

فأبى الإمام أن يقابلهم بالمثل ، فأباح لهم الماء كما هو مباح للجميع في شريعة الله ، ولم يشكر الأمويّون الأوغاد هذه اليد البيضاء التي أسداها عليهم الإمام ،


فقد قابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عن أبنائه في كربلاء حتّى صرعهم الظمأ ، وأذاب العطش قلوبهم .

دعوة الإمام عليه‌السلام إلى السلم

وكره الإمام أشدّ الكره الحرب وإراقة الدماء ، فدعا إلى السلم والوئام ، فقد أرسل عدّة وفود إلى ابن هند يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون ، وأن يجنّبهم من الحرب ، فأبى ولم يستجب لهذه الدعوة الكريمة ، وأصرّ على الغيّ والعدوان ، وتذرّع كذباً بالمطالبة بدم عثمان الذي ما اُريق إلّا بسبب تصرّفاته السيّاسيّة والإداريّة .

الحرب

ولمّا فشلت جميع الجهود التي بذلها الإمام من أجل السلم وحقن الدماء اضطّر إلى أن يفتح مع عدوّه باب الحرب ، وقد خاض معه حرباً مدمّرة سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى ، فضلاً عن المعوّقين من كلا الجانبين ، واستمرّت الحرب أكثر من سنتين كانت تشتدّ حيناً ، وتفتر حيناً آخر ، وفي المرحلة الأخيرة من الحرب كاد الإمام أن يكسب المعركة وتحسم صالحه ، فقد بان الانكسار في جيش معاوية ، وتفلّلت جميع قواعد عسكره ، وعزم معاوية على الهزيمة لولا أن تذكّر قول ابن الاطنابة :

أَبَتْ لِي عِفّتي وَحَياءُ نَفْسي

وإقدامي عَلى البطلِ المُشيحِ

وإِعطائي عَلى المَكْروهِ مالي

وَأَخْذي الحَمدَ بالثَّمَنِ الرَّبيحِ

وقَولي كُلَّما جَشَأَتْ وَجاشَتْ

مَكانَكِ تُحمَدِي أَوْ تَسْتَريحي (١)

__________________________

(١) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ١٧ . الكامل في التاريخ : ١ : ٦٦٨ .


فردّه هذا الشعر إلى الصبر والثبات ، كما كان يتحدّث بذلك أيّام العافية ، وفيما أحسب أنّ هذا الشعر ليس هو الذي ردّه إلى الثبات وعدم الهزيمة ، إذ ليس لابن هند أيّة عفّة أو حياء نفس ، ولا غير ذلك ممّا حوته هذه الأبيات ، وإنّما ردّه إلى الصبر هو ما دبّره من المكيدة والخديعة التي مزّقت الجيش العراقي ، وهو ما سنتحدّث عنه .

الخديعة الكبرى

وآن النصر المحتّم لجيش الإمام عليه‌السلام ، فقد أشرف على الفتح ، ولم يبق إلّا مقدار حلبة شاة من الوقت حتّى يؤسر معاوية أو يقتل ، كما أعلن ذلك قائد القوّات المسلّحة في جيش الإمام الزعيم مالك الأشتر ، ومن المؤسّف جدّاً أنّه في تلك اللحظات الحاسمة مُني الإمام بانقلاب عسكري في جيشه ، فقد رفع عسكر معاوية المصاحف على أطراف الرماح ، وهم ينادون بالدعوة إلى تحكيم القرآن ، وإنهاء الحرب حقناً لدماء المسلمين ، واستجابت قطعات من جيش الإمام لهذا النداء الذي يحمل التدمير الشامل لحكومة الإمام واُفول دولة القرآن .

يا للعجب ! لقد نادى جيش معاوية بالرجوع إلى تحكيم القرآن ، ومعاوية وأبوه هما في طليعة من حارب القرآن .

أصحيح أنّ ابن هند يؤمن بالقرآن ، ويحرص على دماء المسلمين ، وهو الذي أراق أنهاراً من دمائهم إرضاءً لجاهليّته ، وانتقاماً من الإسلام .

وكان أوّل من استجاب لهذا النداء المزيّف العميل الأموي الأشعث بن قيس ، فقد جاء يشتدّ كالكلب نحو الإمام ، وقد رفع صوته ليسمعه الجيش قائلاً : « ما أرى الناس إلّا قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد » .

وامتنع الإمام من إجابة هذا العميل المنافق الذي طعن الإسلام في صميمه ،


والتفّ حول الأشعث جماعة من الخونة فأحاطوا بالإمام ، وهم ينادون : أجب الأشعث ، ولم يجد الإمام بُدّاً من إجابته ، فانطلق الخائن صوب معاوية ، فقال له : لأيّ شيء رفعتم هذه المصاحف ؟

فأجابه معاوية مخادعاً : لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عزّ وجلّ في كتابه تبعثون منكم رجلاً ترضون به ، ونبعث منّا رجلاً ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثمّ نتّبع ما اتّفقنا عليه .

ورفع الأشعث عقيرته قائلاً : هذا هو الحقّ .

وخرج الأشعث من معاوية وهو ينادي بضرورة إيقاف الحرب ، والرجوع إلى كتاب الله العظيم ، ومن المؤكّد أنّ هذه الحركة الانقلابيّة التي تزعّمها هذا المنافق العميل لم تكن وليدة رفع المصاحف ، وإنّما كانت قبل زمن ليس بالقليل ، فقد كانت هناك اتّصالات سرّيّة بين الأشعث وبين معاوية ووزيره والفكر المدبّر لخدعه وأباطيله عمرو بن العاص ، وممّا يدلّ على ذلك أنّه لم تكن هناك رقابة ولا مباحث في جيش الإمام على مَن يتّصل بمعسكر معاوية ، فقد كان الطريق مفتوحاً ، وجرت اتّصالات مكثّفة بين معاوية والأشعث وغيره من قادة الجيش العراقي ، وقدّم لهم معاوية الرشوات ، ومنّاهم بالمراتب العالية ، وبالمزيد من الأموال إن استجابوا لدعوته .

وعلى أي حال ، فقد اُرغم الإمام على قبول التحكيم ، فقد أحاطت به قطعات من جيشه ، وقد شهرت عليه السيوف والرماح وهي تنادي : « لا حكم إلّا لله » ، واتّخذوا هذا النداء شعاراً لتمرّدهم ، ووقوفهم ضدّ الإمام ، وسرعان ما أصبحوا حركة ثوريّة ، ومصدر قلق مثير للفتن والاضطراب .

وعلى أي حال ، فقد جهد الإمام بنفسه ورسله على إقناعهم وإرجاعهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يتمكّن ، ورأى أنّهم جادّون على مناجزته والإطاحة


بحكومته ، فاستجاب لهم ، وأوعز إلى قائد قوّاته العسكريّة الزعيم مالك الأشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب ، وإيقاف العمليّات العسكريّة ، وكان قد أشرف على الفتح ، فلم يبق بينه وبين الاستيلاء على معاوية سوى مقدار حلبة شاة ، ورفض مالك الاستجابة وأصرّ على مزاولة الحرب ، إلّا أنّه اُخبر بأنّ الإمام في خطر ، وأنّ المتمرّدين قد أحاطوا به ، فاضطرّ إلى إيقاف الحرب ، وبذلك فقد تمّ ما أراده معاوية من الإطاحة بحكومة الإمام ، وكتب له في تلك اللحظات النصر على الإمام ، وقد انتصرت معه الوثنيّة القرشيّة ، كما يقول بعض الكتّاب والمحدّثين .

التحكيم

وتوالت المحن والأزمات على الإمام يتبع بعضها بعضاً ، وانكشفت خفايا هؤلاء العملاء المتمرّدين ، فقد أصرّوا على انتخاب أبي موسى الأشعري ليكون ممثّلاً عن العراق ، والأشعري خبيث دنس ، كان حقوداً على الإمام ، ومن ألدّ أعدائه وخصومه ، وفي نفس الوقت لم يملك وعياً ولا فهماً للأحداث ، وكان بليداً ومنافقاً ، واتّخذه المنافقون والمتمرّدون في جيش الإمام جسراً فعبروا عليه لنيل مقاصدهم الخبيثة لعزل الإمام عن الحكم ، وتثبيت معاوية في مركزه .

ولم يستطع الإمام إيقاف هذا المدّ التآمري في جيشه ، فقد أصبح قادة جيشه يتلقّون الأوامر والتوجيهات من قِبل معاوية ووزيره ابن العاص ، وصار الإمام بمعزل تامّ عن الحياة السياسيّة ، فقد أصبح يأمر جيشه فلا يطيع ، ويدعوه فلا يستجيب له ، وصارت دفّة الحكم كلّها بيد معاوية .

لقد حكم الأشعري بعزل الإمام ، وحكم ابن العاص بإبقاء معاوية ، وبذلك فقد انتهت مهزلة التحكيم إلى عزل الإمام عن منصب الحكم ، وتقليده لمعاوية ، وانطوت بذلك أقدس حكومة إسلاميّة ظهرت في الشرق كان يرجى منها أن تقوم ببسط العدل السياسي والاجتماعي بين الناس ، فلم تدعها هذه الوحوش الكاسرة


من ذئاب الأمويّين ، وسائر القبائل القرشيّة من تحقيق أهدافها ومثلها العليا .

لقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام وهو في دور الشباب فصول هذه المأساة الكبرى فكوت قلبه ، وهزّت عواطفه ، فقد جرّت لأهل بيته المصائب ، وأخلدت لهم المحن والخطوب .

تمرّد الخوارج

ومن بين المحن الشاقّة التي امتحن بها الإمام امتحاناً عسيراً هي ثورة الخوارج ، فقد كان معظمهم من بهائم البشر ، فقد امتطاهم معاوية ، وجعلهم جسراً لنيل أطماعه وأهدافه من حيث لا يشعرون ، فهم الذين أرغموا الإمام على قبول التحكيم ، وإيقاف عمليّات الحرب ، وهم الذين أصرّوا على انتخاب المنافق أبي موسى الأشعري ، ولمّا عقد التحكيم وأعلن أبو موسى عزل الإمام عن منصبه ، وأعلن ابن العاص إقامة سيّده معاوية في مركزه أسفوا على ما فرّطوا في أمر المجتمع الإسلامي ، واستبانت لهم المكيدة التي دبّرها ابن العاص في رفع المصاحف ، وعابوا على الإمام وكفّروه لاستجابته لهم ، وفي الحقيقة هم الذين يتحمّلون جميع المسؤوليّات الناجمة عن ذلك .

ولمّا نزح جيش الإمام من صفّين إلى الكوفة لم يدخلوا معه إليها ، وإنّما انحازوا إلى حروراء فنسبوا إليها ، وكان عددهم فيما يقول المؤرّخون اثني عشر ألفاً ، وأذّن مؤذّنهم أنّ أمير القتال المنافق شبث بن ربعي الذي كان من قادة الجيش الذي حارب ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الحسين عليه‌السلام .

كما نصبوا عبد الله بن الكوّاء إماماً للصلاة ، وجعلوا الأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عزّ وجلّ ، وجعلوا من أهمّ الأحكام التي يقاتلون من أجلها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا شعارهم : « لا حكم إلّا لله » ، ولكنّهم سرعان ما تنكّروا لهذا الشعار ، فجعلوا الحكم للسيف وذلك بما أراقوه من دماء الأبرياء ،


وما نشروه من الذعر والخوف بين المسلمين .

وبعث الإمام إليهم بعض رسله يعذلهم عن فكرتهم ، ويرشدهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يجد ذلك معهم شيئاً ، فانطلق عليه‌السلام بنفسه إليهم ، ومعه أعلام أصحابه ، فجعل يناظرهم ، ويقيم الأدلّة الوثيقة على فساد رأيهم ، وضلالة قصدهم ، فاستجاب له قوم ، وأبى قوم آخرون ، وجعل الأمر يمعن في الفساد بين الإمام وبينهم ، وأخذوا ينشرون الارهاب ، وأعمال التخريب ، ويعيثون في الأرض فساداً ، وقد رحلوا عن الكوفة ، وعسكروا في النهروان ، واجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن خبّاب ابن الأرت ، وهو من أعلام أصحاب الإمام ، فدارت بينه وبينهم أحاديث ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وقتلوا معه السيّدة زوجته ، ولم يقف شرّهم عند هذا الحدّ ، وإنّما أخذوا يذيعون الذعر والخوف بين المسلمين .

وبعث الإمام إليهم الحارث بن مرّة العبدي ليسألهم عمّا أحدثوه من الفساد ، فلمّا انتهى إليهم أجهزوا عليه وقتلوه ، ورأى الإمام بعد هذا أنّهم يشكّلون خطراً كبيراً على دولته ، وأنّهم مصدر فتنة وتخريب بين المسلمين ، وأنّ الواجب يقضي بحربهم فزحف إليهم بجيشه ، ودارت بينه وبينهم معركة رهيبة ، فقتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم إلّا تسعة (١) .

وانتهت بذلك حرب النهروان ، وقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام هذه الحرب ووقف على دوافعها التي كان منها كراهة هؤلاء القوم لعدل الإمام ، وتفانيه في إقامة الحقّ بين الناس .

ومن الجدير بالذكر أنّ أبا الفضل العبّاس عليه‌السلام لم يشترك في حرب النهروان ولا في

__________________________

(١) الملل والنحل / الشهرستاني : ١ : ١٥٩ ، وجاء فيه : أنّه انهزم منهم اثنان إلى عمان ، واثنان إلى كرمان ، واثنان إلى سجستان ، واثنان إلى الجزيرة ، وواحد إلى تل موزون ، وأخذ هؤلاء يبثّون فكرتهم في هذه المواضع حتى ظهرت بدعة الخوارج .


حرب صفّين ، فقد منعه الإمام ، كما منع بعض أبنائه ، وأعلام أصحابه من الدخول في الحرب ضنّاً بهم على الموت ، وممّا يدلّ على ذلك أنّ الذين كتبوا عن واقعة صفّين والنهروان لم يذكروا أيّ دور لسيّدنا العبّاس فيهما .

النتائج الفظيعة

وأعقبت حرب الجمل وصفّين أسوأ الأحداث وأقساها وأشقّها محنة على الإمام عليه‌السلام ومن بينها :

١ ـ التمرّد الكامل في جيش الإمام ، فقد أصبحت جميع قطعاته غير مطيعة لأوامر الإمام .

لقد شاعت الهزيمة النفسيّة في جيش الإمام ، وفقدت قطعاته الروح المعنويّة ، وتخاذلت تخاذلاً مطلقاً أمام الأحداث التي مُني بها .

٢ ـ عمد معاوية بعد معركة صفّين إلى تعزيز جيشه وتماسكه ، وقد بثّ فيه روح العزم والإخلاص ، وقد وثق بالنصر والفتح والتغلّب على جيش الإمام .

٣ ـ تعرّضت البلاد الإسلاميّة الخاضعة لحكم الإمام لحملات إرهابّية عنيفة كانت تشنّها العصابات المجرمة التي يبعثها معاوية لإشاعة الخوف والذعر فيها ، وقد تعرّضت المناطق القريبة من عاصمة الإمام لهجمات الارهابيّين من كلاب معاوية ، والإمام لم يتمكّن من حمايتها وحفظ الأمن والاستقرار فيها ، فكان يدعو بحرارة جأشه للذبّ عن حياض الوطن ، وحمايته من الاعتداء فلم يستجب له أحد منهم .

٤ ـ احتلّت جيوش معاوية مصر احتلالاً عسكريّاً ، وبذلك خرجت عن حكم الإمام ، وقد اُصيبت حكومة الإمام بنكسه كبيرة ، ولم تعد بعد هذه الأحداث إلّا شكلاً خاوياً في ميدان الحكم .


مصرع الإمام عليه‌السلام

بقي الإمام الممتحن في أرباض الكوفة قد أحاطت به المحن والأزمات يتبع بعضها بعضاً ، يرى باطل معاوية قد استحكم ، وشرّه قد استفحل ، وهو لا يتمكّن أن يقوم بأي عمل لتغيير الأوضاع الاجتماعيّة المتدهورة المنذرة باُفول دولة الحقّ ، وإقامة حكومة الظلم والجور .

لقد استوعبت المحن الشاقّة التي أحاطت بالإمام نفسه الشريفة ، فراح يدعو الله ، ويتوسّل إليه بحرارة أن ينقله إلى جواره ، ويريحه من هذا العالم المليء بالفتن والأباطيل ، واستجاب الله دعاء الإمام فقد عقدت عصابة مجرمة من الخوارج مؤتمراً في مكّة ، وأخذوا يذكرون بمزيد من الأسى والحزن قتلاهم الذين حصدت رؤوسهم سيوف الحق في النهروان ، وعرضوا ما مني به العالم الإسلامي من الفتن والانشقاق ، وألقوا تبعة ذلك حسب زعمهم على الإمام أمير المؤمنين ومعاوية وعمرو بن العاص ، فقرّروا القيام باغتيالهم ، وعيّنوا لذلك وقتاً خاصّاً .

ومن الجدير بالذكر أنّ مؤتمرهم كان بمرأى ومسمع من السلطة المحليّة بمكّة ، وأكبر الظنّ أنّها كانت على اتّصال معهم ، وأنّ القوى المنحرفة عن الإمام قد أمدّت ابن ملجم بالمال ليقوم باغتيال الإمام .

وعلى أي حال ، فقد قفل ابن ملجم راجعاً إلى الكوفة وهو يحمل شرّ أهل الأرض ، ويحمل الكوارث المدمّرة للمسلمين ، وفور وصوله إلى الكوفة اتّصل بعميل الأمويّين المنافق الأشعث بن قيس ، وأخبره بمهمّته ، فشجّعه على اقتراف الجريمة ، وأبدى له تقديم جميع ألوان المساعدات لتنفيذها .

وفي ليلة التاسع عشر من رمضان شهر الله المبارك اتّجه زعيم الموحّدين وسيّد المتّقين نحو مسجد الكوفة ليؤدّي صلاة الصبح ، فأقبل نحو الله فشرع في صلاته ، ولمّا رفع رأسه من السجود علاه ابن اليهوديّة بالسيف ، فشقّ رأسه الشريف الذي كان


كنزاً من كنوز العلم والحكمة والإيمان ، والذي ما فكّر إلّا بتوزيع خيرات الله على البؤساء والمحرومين ، وإشاعة الحقّ والعدل بين الناس .

ولمّا أحسّ الإمام بلذع السيف علت على شفتيه ابتسامة الرضا والظفر ، وراح يقول : « فزت وربّ الكعبة » .

لقد فزت يا إمام المصلحين ، فقد وهبت حياتك لله ، وجاهدت في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين .

لقد فزت يا إمام المتّقين لأنّك في طيلة حياتك لم توارب ولم تخادع ولم تداهن ، ومضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بسيّد المرسلين ابن عمّك صلّى الله عليه وعليك ، فكان ذلك حقّاً هو الفوز العظيم .

لقد فزت أيّها الإمام الحكيم لأنّك خبرت الدنيا ، وعرفتها دار فناء وزوال فطلّقتها ثلاثاً ، وأعرضت عن زينتها ومباهجها ، واتّجهت صوب الله فعملت كلّ ما يرضيه ، وما يقرّبك إليه زلفى .

وحُمل الإمام إلى منزله ، وقد فاضت عيون الناس بالدموع ، وتقطّعت النفوس ألماً وحزناً ، وكان الإمام هادئ النفس ، قرير العين ، قد تعلّق قلبه بالله ، وهام في مناجاته ، وقد سأله مرافقة الأنبياء والأوصياء ، وأخذ يلقي نظراته على أولاده ، وخصّ ولده أبا الفضل بالعطف والحنان ، واستشفّ من وراء الغيب أنّه ممّن يرفع رايه القرآن ، ويقوم بنصرة أخيه ريحانة رسول الله المنافح الأوّل عن رسالة الإسلام .

وصاياه عليه‌السلام الخالدة

ولمّا شعر الإمام العظيم بدنوّ أجله المحتوم أخذ يوصي أولاده بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، وأمرهم أن يجسّدوا الإسلام في سلوكهم واتّجاهاتهم ، وفيما يلي بعض بنود وصيّته :


١ ـ التحلّي بتقوى الله التي هي الأساس في بناء الشخصيّة الإسلاميّة على أساس متكامل من الوعي والازدهار .

٢ ـ الالتزام بالحقّ قولاً وعملاً ، وبه تصان الحقوق وتسود العدالة الاجتماعيّة بين الناس .

٣ ـ مناجزة الظالم والوقوف في وجهه ، ومناصرة المظلوم ومساعدته ، وفي ذلك إقامة للعدل الذي هو من أهمّ الأهداف الأصليّة التي ينشدها الإسلام .

٤ ـ السعي في إصلاح ذات البين ، وإزالة البغضاء والكراهية بين المتخاصمين ، وهو من أفضل الأعمال وأهمّها في الإسلام ، لأنّ فيه إقامة لمجتمع متطوّر قائم على المحبّة والمودّة .

٥‍ ـ مراعاة الأيتام ، والقيام بصلتهم ، ورفع الحاجة عنهم ، وهذا من جملة بنود التكافل الإسلامي الذي هو من أبدع ما شرّعه الإسلام في نظامه الاقتصادي .

٦ ـ الإحسان إلى الجيران ، والاغداق عليهم بالبرّ والمعروف لأنّ فيه إشاعة للمحبّة بين المسلمين ، كما أنّه في نفس الوقت من أهمّ الوسائل في تماسك المجتمع الإسلامي ووحدته .

٧ ـ العمل بما في القرآن الكريم من أحكام وسنن وآداب ، فإنّه خير ضمان لصيانة سلوك الإنسان المسلم وتهذيبه ، ورفع مستواه .

٨ ـ إقامة الصلاة في أوقاتها وأدائها على أحسن وجه فإنّها عمود الدين ومعراج المؤمن ، وهي ترفع الإنسان إلى مستوى عظيم ، إذ تشرّفه بالاتّصال بخالق الكون وواهب الحياة .

٩ ـ إحياء المساجد بذكر الله من العبادة والعلم ، وتعتبر المساجد من أهمّ المراكز في إشاعة الآداب والفضائل بين المسلمين .

١٠ ـ الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال لإقامة معالم الدين وإحياء السنّة


وإماتة البدعة .

١١ ـ إشاعة المحبّة والمودّة بين المسلمين ، وذلك بالتواصل والتوادد ، وترك التدابر والتقاطع ، وغير ذلك ممّا يؤدّي إلى فصم عرى الوحدة بينهم .

١٢ ـ إقامة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لأنّه مما يؤدّي إلى إقامة مجتمع سليم تسوده العدالة ، أمّا ترك ذلك فإنّ له من المضاعفات السيّئة التي توجب ارتطام المجتمع بالفتن والبلاء ، كتولية الفسّاق والأشرار لشؤونه ، وعدم استجابة الدعاء من أفراده .

هذه بعض الوصايا الخالدة التي أدلى بها الإمام العظيم ، وهو على فراش الموت (١) .

إلى جنّة المأوى

وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمام عليه‌السلام من جرّاء الضربة الغادرة التي عمّمه فيها ابن اليهوديّة عبد الرحمن بن ملجم ، وأخذ الموت يدنوا إليه سريعاً سريعاً ، وقد استقبل إمام المتّقين الموت بثغر باسم ، ونفس آمنة مطمئنّة متعطّشة إلى لقاء الله راضية بقضائه وقدره ، وكان لا يفتر لحظة واحدة عن ذكر الله ، وقراءة كتابه ، وقد حفّ به أبناؤه وهم يذرفون أحرّ الدموع ، قد مزّق المصاب قلوبهم ، وقد استقبل القبلة حامداً لله حتّى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن ، وأرواح الأنبياء والأوصياء ، وقد ازدهرت به جنان الخلد .

لقد توفّي عملاق الفكر الإنساني ، ورائد العدالة الاجتماعيّة في الأرض ، لقد عاش هذا الإمام العظيم غريباً في مجتمع لم يعرف مكانته ، ولم يع قيمه وأهدافه التي كان منها أن ينفي البؤس والشقاء من الأرض ، وينفي الحاجة والحرمان عن

__________________________

(١) يلاحظ نهج البلاغة ، فقد حفل بهذه الوصايا القيّمة .


بني الإنسان ، فيوزّع عليهم خيرات الله ، فثارت في وجهه العصابة المجرمة من الرأسماليّة القرشيّة ، وأوغاد الأمويّين الذين اتّخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وقد صمد الإمام في وجوههم ، ولم ينثن عن عزمه الجبّار حتّى استشهد مناضلاً عن قيمه وأهدافه .

تجهيزه عليه‌السلام

وانبرى الإمام الحسن عليه‌السلام ومعه السادة الكرام من إخوانه ، ومن بينهم أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام ، إلى تجهيز الجثمان العظيم ، فغسّلوا الجسد الطاهر ، ثمّ أدرجوه في أكفانه ، وهم يذرفون أحرّ الدموع ، وبعد ذلك حملوه إلى مقرّه الأخير ، فدفنوه في مرقده المطهّر في النجف الأشرف ، وقد أعزّه الله ورفع من شأنه فجعله كعبةً للوافدين ، ولم يحظ مرقد من مراقد أولياء الله كما حظي مرقده الشريف ، فقد اُحيط بهالة من التعظيم والتقديس عند كافّة المسلمين .

لقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام خلافة أبيه ، وما رافقها من الأحداث الجسام ، وما قاساه أبوه من المصاعب والمشاكل في سبيل تطبيق العدالة الاجتماعيّة على واقع الحياة العامّة بين المسلمين ، وقد تنكّرت له وحاربته القوى الباغية على الإسلام ، والحاقدة على الاصلاح الاجتماعي .

لقد وعى العبّاس الأهداف المشرقة التي كان ينشدها أبوه ، فآمن بها ، وجاهد في سبيلها ، وقد انطلق مع أخيه سيّد الشهداء إلى ساحات الشرف والجهاد من أجل أن يعيدا للمسلمين سيرة أبيهما الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ومنهجه المشرق في عالم السياسة والحكم .

خلافة الإمام الحسن عليه‌السلام

وتسلّم الإمام الحسن عليه‌السلام قيادة الدولة الإسلاميّة بعد وفاة أبيه ، وكانت الأوضاع


السياسيّة الاجتماعيّة كلّها في غير صالحه ، فالأكثريّة الساحقة من الرؤساء والقادة العسكريّين كانت اتّجاهاتهم وميولهم سرّاً وعلانية مع معاوية ، فقد غزاهم بذهبه ، واسترقّهم بأمواله .

كما انتشرت بين كتائب جيشه فكرة الخوارج التي كانت سوسة تنخر في معسكره ، وتعلن عدم شرعيّة خلافته ، وخلافة أبيه من قبل ، ومن ثمّ كان إقبال الجماهير على مبايعته فاتراً جدّاً ، وكذلك لم تندفع القوّات المسلّحة بحماس إلى بيعته ، وإنّما كانت مرغمة على ذلك ، الأمر الذي أوجب تريّب الإمام الحسن عليه‌السلام منهم .

ويرى المراقبون للأوضاع السياسيّة في جيش الإمام أنّه قد ماج في الفتنة وارتطم في الشقاء ، وأنّ خطره على الإمام كان أعظم من خطر معاوية ، وأنّه لا يصلح بأيّ حال من الأحوال لأن يخوض الإمام به أي معركة في أي ميدان من ميادين الحرب .

وعلى أي حال ، فإنّ الإمام قد تسلّم قيادة الدولة ، وقد منيت بالانحلال والضعف ، وشيوع الفتن والاضطراب فيها ، وإنّ من العسير جدّاً السيطرة على الأوضاع الاجتماعيّة ، وإخضاع البلاد إلى عسكره ، اللّهمّ إلّا بسلوك أمرين :

الأوّل : إشاعة الأحكام العرفيّة في البلاد ، ومصادرة الحريّات العامّة ، ونشر الخوف والارهاب ، وأخذ الناس بالظنّة والتهمة ، وهذا ما يسلكه عشّاق الملك والسلطان حينما يمنون بمثل هذه الأزمات في شعوبهم .

أمّا أئمّه أهل البيت عليهم‌السلام ، فإنّهم لا يرون مشروعيّة هذه السياسة وإن أدّت إلى الانتصار ، ويرون ضرورة توفير الحياة الحرّة الكريمة للشعب ، وإقصاء الوسائل الملتوية عنه .

الثاني : تقديم الطبقة الرأسماليّة وذوي النفوذ على فئات الشعب ، ومنحهم الأموال والامتيازات الخاصّة ، والوظائف المهمّة ولو فعل ذلك الإمام الحسن عليه‌السلام


لاستقرّت له الاُمور ، وما مُني بالتمرّد والانحلال ، إلّا أنّه ابتعد عن ذلك ابتعاداً مطلقاً لأنّه لا تبيحه شريعة الله .

لقد كان منهج الإمام الحسن عليه‌السلام في سياسته واضحاً لا لبس فيه ولا غموض ، وهو التمسّك بالحقّ ، وعدم السلوك في المنعطفات ، واجتناب الطرق الملتوية ، وان أدّت إلى الظفر والنصر .

إعلان معاوية للحرب

وبادر معاوية إلى إعلان الحرب على سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّه على علم بما مُني به جيش الإمام من الانحلال والخيانة ، فأغلب قادة الفرق ، وضبّاط الجيش ، وسائر المراتب قد رشاهم معاوية بذهبه وأمواله ، ومنّاهم بالوظائف العالية ، كما كاتب بعضهم بأن يزوّجه بإحدى بناته ، فقد استعمل الرشوة معهم على نطاق واسع ، وقد استجابوا له ، وضمنوا له تسليم الإمام أسيراً متى شاء وأراد ، أو اغتياله ، وقد حفّزته هذه العوامل لاستعجال الحرب وحسم الموقف لصالحه .

وزحف معاوية بجيوشه المتماسكة والمطيعة صوب العراق ، ولمّا علم الإمام الحسن عليه‌السلام بذلك جمع قوّاته وأعلمهم بالأمر ، ودعاهم إلى الجهاد وردّ العدوان ، فوجموا وساد عليهم الذعر والخوف ، فلم يجبه أحد منهم ، فقد آثروا العافية ، وسئموا من الحرب .

ولمّا رأى تخاذلهم الزعيم الكبير عديّ بن حاتم تميّز غيظاً وغضباً ، واندفع بحماس بالغ نحوهم فجعل يؤنّبهم على هذا التخاذل ، وأعلن استجابته المطلقة لدعوة الإمام ، ودعم موقفه كلّ من الزعيم الشريف قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي ، وزياد بن صعصعة التميمي ، فأخذوا يلومونهم على هذا الموقف الذي ليس فيه شرف ولا إنصاف ، ويبعثونهم إلى ساحات الجهاد .

وخرج الإمام الحسن عليه‌السلام من فوره لمقابلة معاوية ، وسار معه أخلاط من الناس ،


حتّى انتهى إلى النخيلة فأتقام فيها حتّى التحمت به فصائل من جيشه المتخاذل ، ثمّ ارتحل حتّى إنتهى إلى دير عبد الرحمن ، فأقام به ثلاثة أيّام ، ثمّ واصل سيره لا يلوي على شيء .

في المدائن

وانتهى الإمام ، ومعه بعض الفرق من جيشه إلى المدائن ، فأقام بها ، وقد أحاطت به المصاعب والأزمات ، فقد عانى من جيشه الممزّق والخائن ألواناً شاقّة وعسيرة من المحن والمشاكل ، وابتلي بما لم يبتل به أحد من قادة المسلمين وخلفائهم ، وكان من بين ما امتحن به :

١ ـ خيانة القائد العامّ

وكان من أقسى ما ابتلي به الإمام في تلك المرحلة الحسّاسة خيانة ابن عمّه عبيد الله بن العبّاس القائد العامّ لقوّاته المسلّحة ، فقد أرشاه معاوية بما يقارب المليون درهم ، فولّى الخائن الجبان منهزماً تحت جنح الليل البهيم يصحب معه العار والخزي ، فالتحق بمعسكر معاوية ، ولمّا علم الجيش بذلك اضطرب اضطراباً هائلاً ، وماج في الفتنة والشقاء ، ودبّت روح الخيانة في جميع قطعات الجيش ، كما خان جماعة من ذوي الرتب العليا في الجيش ، فالتحقوا بمعسكر معاوية بعد أن أرشاهم بأمواله .

إنّ خيانة عبيد الله من أقسى الضربات التي حلّت بجيش الإمام ، فقد فتحت أبواب الخيانة على مصراعيها لذوي الضمائر القلقة لبيع ضمائرهم على معاوية ، كما أدّت إلى انهيار معنويات جيش الإمام ، وفي نفس الوقت كانت من أقسى الصدمات التي واجهها الإمام في تلك الفترة العصيبة ، فقد ألقت له الأضواء على نفوس أغلب قادة جيشه ، وأنّهم مجموعة من الخونة الذين لا يملكون أي رصيد


ديني أو وطني .

٢ ـ محاولات لاغتيال الإمام عليه‌السلام

ولم تقتصر محنة الإمام وبلواه من جيشه إلى هذا الحدّ ، وإنّما امتدّت إلى ما هو أعظم من ذلك ، فقد قام بعض عملاء الأمويّين وبهائم الخوراج بعدّة عمليات لاغتيال الإمام ، وقد فشلت جميعها وهي :

ـ رمي الإمام بسهم وهو في أثناء الصلاة ، ولم يؤثّر فيه شيئاً .

ـ طعنه بخنجر في أثناء الصلاة .

ـ طعنه في فخذه .

وضاقت الدنيا على ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطافت به المحن والأزمات ، وأيقن أنّه لا محالة إمّا أن يُغتال ويضيع دمه هدراً ، أو يلقى عليه القبض ويبعث أسيراً إلى معاوية ، وأجال النظر في هذه الاُمور فأفزعته إلى حدّ بعيد .

٣ ـ الحكم عليه بالكفر

وتمادى الخونة والعملاء في جيش الإمام في الجريمة والشرّ ، فقد قابلوا الإمام بكلمات كانت أشدّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح ، فقد أقبل عليه الجرّاح ابن سنان يشتدّ كأنّه الكلب وهو رافع عقيرته قائلاً : لقد أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل .

ولم ينبر أحد من جيش الإمام إلى معاقبة هذا الأثيم ، لقد انحرف هؤلاء الخونة عن الحقّ ، ومالوا عن الطريق القويم ، فقد حكموا على ابن بنت نبيّهم وابن وصيّه بالكفر والمروق من الدين ، فأيّ ضلال مثل هذا الضلال ؟


٤ ـ نهب أمتعة الإمام عليه‌السلام

وعمد اُولئك الأجلاف إلى نهب أمتعة الإمام ، فنزعوا منه بساطاً كان جالساً عليه ، وسلبوا منه رداءه ، ولم تكن هناك أيّة حماية للإمام من جيشه ، فقد جرت هذه العمليّة بمرأى ومسمع منهم .

هذه بعض الأحداث المروّعة التي عاناها الإمام عليه‌السلام في المدائن ، وهي تلزمه بالصلح والتخلّي عن ذلك المجتمع المصاب بأخلاقه وعقيدته .

ضرورة الصلح

أمّا صلح الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية ، فقد كان ضروريّاً حسب الأعراف السياسيّة ، كما كان واجباً شرعيّاً مسؤول عن تنفيذه أمام الله والاُمّة ، فإنّه لو فتح باب الحرب بجيشه المنهزم نفسيّاً لتغلّب عليه معاوية بأوّل حملة ، ولما أمكنه أن يحقّق أي نصر ، وفي تلك الحالة لا يخلو أمره من إحدى حالتين : إمّا القتل أو الأسر ، فإن قتل فلا تستفيد منه القضيّة الإسلاميّة لأنّ معاوية بما يملك من دبلوماسيّة مبطّنة بالخداع والمكر والنفاق ، سوف يلقي التبعة على الإمام في قتله ، ويبرّئ نفسه من أيّة مسؤوليّة ، وأمّا إذا لم يُقتل الإمام ، وحمل إلى معاوية أسيراً ، فإنّه من دون شكّ سوف يعفو عنه ، وبذلك يسجّل له يداً بيضاء على الاُسرة النبويّة ، ويمحو عنه وعن اُسرته وصمة الطليق التي وصمهم بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أي حال ، فإنّ الإمام الحسن عليه‌السلام قد اضطرّ إلى الصلح واُرغم عليه ، ولم تكن هناك أيّة مندوحة للعدول عنه ، وقد جرى الصلح حسب شروط ذكرناها بالتفصيل مع تحليلها في كتابنا ( حياة الإمام الحسن عليه‌السلام ) .

وممّا لا شكّ فيه حسب المقاييس العلميّة والسياسيّة أنّ الإمام أبا محمّد قد انتصر في هذا الصلح ، فقد أبرز حقيقة معاوية الجاهليّة ، وقد ظهرت خفايا نفسه ،


وما يكنّه من حقد وعداء للإسلام وللمسلمين ، فإنّه حينما استتبّ له الأمر عمد بشكل سافر إلى محاربة الإسلام والانتقام من أعلامه أمثال الصحابي العظيم حجر بن عديّ ، وأخلد بجرائمه للمسلمين المصاعب والكوارث ، وألقاهم في شرّ عظيم ، وسوف نتحدّث عن ذلك في البحوث الآتية .

وبعدما انتهى الإمام أبو محمّد من الصلح غادر الكوفة التي غدرت به وبأبيه لتستقبل جور معاوية وظلمه ، وكان معه أهل بيته واخوته ، ومن بينهم أخوه وعضده أبو الفضل العبّاس ، وأخذوا يجدّون السير لا يلوون على شيء حتّى انتهوا إلى يثرب ، وقد استقبلتهم بحفاوة بالغة البقيّة الباقية من الصحابة وأبنائهم ، واستقرّ الإمام في يثرب ، وقد التفّ حوله الفقهاء والعلماء ، فأخذ يغذّيهم بعلومه ومعارفه ، ويغدق على البؤساء والمحرومين من فيض جوده وكرمه ، وقد استعادت يثرب بوجوده ما فقدته من القيادة الروحيّة للمسلمين حينما غادرها وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام .

وعلى أيّ حال فقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام ما جرى على أخيه الزكيّ أبو محمّد عليه‌السلام من المحن الشاقّة والعسيرة ، ورأى غدر أهل الكوفة وخيانتهم له ، ونكثهم لبيعتهم له ، وقد عرّفته هذه الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّه حقيقة المجتمع ، وأنّ الغالبية الساحقة منه ينسابون وراء مصالحهم وليس للقيم الدينيّة أي أثر في نفوسهم .

وبهذا نطوي الحديث عن بعض الأحداث المروّعة التي شاهدها أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام .


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0103.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg




وتسلّم معاوية قيادة الدولة الإسلاميّة بعد صلحه مع الإمام الحسن عليه‌السلام ، وقد تحقّقت آماله الشريرة في القضاء على الدولة العلويّة التي هي دولة المحرومين والمضطهدين ، والتي كانت امتداداً ذاتيّاً لحكومة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتجسيداً حيّاً لأهدافه ومتطلّباته الرامية لرفع مستوى الإنسان وتطوير حياته ، وقد انهارت هذه القيم حينما سقطت الدولة الإسلاميّة صريعة بيده ، فقد تبدّلت المبادئ والقيم والأخلاق التي ينشدها الإسلام إلى عكسها ، وخرج العالم الإسلامي من عالم الدعة والرخاء والاستقرار إلى كابوس مرعب تحفّه المحن والكوارث ، وتخيّم عليه العبوديّة والذلّ .

لقد تنكّر معاوية لجميع القيم والأعراف ، وساس المسلمين سياسة لم يألفوها من قبل ، ويرى المراقبون لسياسته أنّ انتصاره إنّما هو انتصار الوثنيّة بجميع مساوئها .

يقول السيّد مير عليّ الهندي : « ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم الثوليغارشيّة الوثنيّة السابقة ، فاحتلّ موقع ديمقراطيّة الإسلام ، وانتعشت الوثنيّة بكل ما يرافقها من خلاعات ، وكأنّها بعثت من جديد ، كما وجدت الرذيلة والتبذّل الخُلقي لنفسها متّسعاً في كلّ مكان ارتادته رايات حكّام الأمويّين من قادة جند الشام » (١) .

لقد تعرّض المسلمون في ذلك العهد الأسود إلى أزمات شاقّة وعسيرة وامتحنوا

__________________________

(١) روح الاسلام : ٢٩٦ .


أشدّ ما يكون الامتحان ، ونعرض بإيجاز إلى بعض ما عانوه من الكوارث .

إبادة القوى الواعية

وعمد ابن هند إلى إبادة القوى الواعية في الإسلام ، وتصفيتها جسديّاً ، فقد ساق كوكبة منهم إلى ساحات الإعدام ، وفيما يلي بعضهم :

١ ـ حجر بن عدي

حجر بن عدي الكندي علم من أعلام الإسلام ، وبطل من أبطال الجهاد ، ومن أبرز طلائع المجد والفخر للاُمّة العربيّة والإسلاميّة ، ومن النماذج المشرقة الذين تخرّجوا من مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ووعوا قيمه وأهدافه ، وقد وهب هذا العملاق العظيم حياته لله ، فثار في وجه الارهابي المجرم زياد بن أبيه حينما أعلن رسميّاً سبّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام مفجّر الفكر والنور في دنيا الإسلام ، والمؤسّس الثاني في بناء العقيدة الإسلاميّة بعد ابن عمّه وسيّده الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

لقد استحلّ الطاغية المجرم زياد دم المجاهد الكبير حجر بن عدي حينما جابهه بالانكار على سبّه للإمام ، فألقى عليه القبض ، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من أعلام المجاهدين في الإسلام إلى أخيه في الجريمة معاوية بن هند ، فصدرت الأوامر منه بإعدامهم في ( مرج عذراء ) ونفّذ الجلّادون فيهم حكم الإعدام فخرّت جثثهم الزواكي على الأرض وهي معطّرة بدم الشهادة والكرامة ، تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة حرّة كريمة لا سيادة فيها للظالمين والمستبدّين .

٢ ـ عمرو بن الحمق

ومن شهداء الإسلام الخالدين عمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي الجليل ،


كان أثيراً عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد دعا له بأن يمتّعه الله بشبابه ، فاستجاب الله دعاءه ، فقد أخذ عمرو بعنق الثمانين عاماً ولم ترَ في كريمته شعرة بيضاء (١) .

وقد وعى عمرو القيم الإسلاميّة وآمن بها إيماناً عميقاً ، وجاهد في سبيلها أعظم ما يكون الجهاد ، ولمّا ولي الجلّاد زياد بن أبيه على الكوفة من قِبل أخيه اللّاشرعي معاوية أوعز إلى مباحثه وجلاوزته بملاحقة عمرو ومطاردته لأنّه من أعلام شيعة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وفرّ عمرو مع زميله رفاعة بن شدّاد إلى الموصل ، وقبل أن ينتهيا إليها كمنا في جبل ليستجمّا فيه ، فشعرت بهما الشرطة المقيمة هناك ، فارتابت منهما ، فألقت القبض على عمرو وفرّ صاحبه ، وجاءت الشرطة بعمرو مخفوراً إلى عبد الرحمن الثقفي حاكم الموصل ، فرفع أمره إلى معاوية ، فأمر بطعنه تسع طعنات بمشاقص (٢) ، فبادرت الجلاوزة إلى طعنه ، فمات في الطعنة الاُولى ، واحتزّوا رأسه ، فأمر أن يطاف به في دمشق ، وهو أوّل رأس طيف به في الإسلام .

ثمّ أمر به ابن هند أن يحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد ، وكانت في سجنه ، فلم تشعر إلّا ورأس زوجها في حجرها فذعرت وكادت أن تموت ، ثمّ حملت إلى معاوية ، وجرت بينها وبينه محاورة شديدة دلّت على مسخ معاوية وتجرّده من جميع القيم الإنسانيّة ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا ( حياة الإمام الحسن عليه‌السلام ) .

٣ ـ رُشيد الهجري

رُشيد الهجري علم من أعلام الإسلام ، وقطب من أقطاب الإيمان ، وقد أخلص أشدّ ما يكون الإخلاص إلى وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وباب مدينة علمه الإمام أمير

__________________________

(١) الإصابة ٢ : ٥٢٦ .

(٢) المشاقص ـ جمع مفرده مشقص ـ : النصل العريفي أو سهم فيه نصل عريض .


المؤمنين عليه‌السلام ، وقد اعتقلته جلاوزة ابن زياد ، وجاءت به مخفوراً إليه ، فلمّا مثل عنده صاح به الباغي الأثيم : ما قال لك خليلك ـ يعني الإمام عليّاً ـ إنّا فاعلون بك ؟

فأجابه بصدق وإيمان غير حافل به : تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني .

فأراد الخبيث الدنس أن يكذّب الإمام ، فقال : أما والله لاُكذّبنّ حديثه ، خلّوا سبيله .

فخلّت الجلاوزة سبيله ، لكنّه لم يلبث إلّا قليلاً حتّى ندم على ذلك ، فأمر ، بإحضاره ، فلمّا مثل عنده صاح به : لا نجد شيئاً أصلح ممّا قال صاحبك ، إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه .

وبادرت الجلاوزة فقطعت يديه ورجليه ، ولم يحفل هذا العملاق العظيم بما كان يعانيه من الآلام ، وراح يذكر مساوئ بني اُميّة وجورهم ، ويحفّز الجماهير على الثورة عليهم ، وأسرعت الجلاوزة إلى زياد فأخبروه بالأمر ، فأمر بقطع لسانه ، فقطع وتوفّي في الحال هذا المجاهد العظيم (١) الذي نافح عن عقيدته وولائه لأهل البيت حتّى النفس الأخير من حياته .

هؤلاء بعض أعلام الإسلام الذين صفّاهم ابن هند جسديّاً لأنّهم كانوا ينشرون القيم الإسلاميّة ، ويذيعون بين الناس فضائل أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم مصدر الوعي والفكر في الإسلام .

مناهضة أهل البيت عليهم‌السلام

ولمّا استتبّ الأمر إلى معاوية سخّر جميع أجهزة دولته ووسائل إعلامه لمناهضة أهل البيت الذين هم وديعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في اُمّته ، والعصب الحسّاس في هذه

__________________________

(١) سفينة البحار : ١ : ٥٢٢ .


الاُمّة ، وقد استخدم هذا الذئب الجاهلي أخطر الوسائل في مناهضتهم ، ومن بين ما قام به :

١ ـ افتعال الأخبار ضدّهم

وأقام معاوية شبكة من عملائه لوضع الأخبار وافتعالها على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للحطّ من شأن أهل بيته ، والتقليل من أهمّيتهم ، وقد عمد الوضّاعون لافتعال الأخبار تارة في فضل الصحابة ، لجعلهم قبال العترة الطاهرة ، وقد عدّ الإمام الأعظم محمّد الباقر عليه‌السلام أكثر من مائة حديث افتعلت لهذا الغرض ، كما افتعلوا طائفة من الأخبار في ذمّ أهل البيت عليهم‌السلام ، كما وضعوا أحاديث اُخرى في مدح الأمويّين ، وخلق الفضائل لهم ، وهم الذين ناجزوا الإسلام في جميع مراحل تاريخهم .

ولم تقتصر الشبكة التخريبيّة على ذلك ، وإنّما عمدت لافتعال الأخبار فيما يتعلّق بأحكام الشريعة الإسلاميّة ، ومن المؤسف جدّاً أنّها دوّنت في الصحاح والسنن ، وجعلت جزءاً من الشريعة الإسلاميّة ، ولم يلتفت المؤلّفون إلى وضعها .

وقد تصدّى بعض المحقّقين إلى تأليف بعض الكتب ، ذكروا فيها بعض الأخبار الموضوعة ، فقد ألّف المحقّق السيوطي كتابه الشهير ( اللئالي المصنوعة في الأخبار الموضوعة ) ذكر فيه طائفة كبيرة من تلك الموضوعات .

وقد سجّل المحقّق الأميني في ( الغدير ) أرقاماً لبعض الأخبار الموضوعة بلغت زهاء نصف مليون حديث .

وعلى أي حال فإنّ من أعظم ما مُني به الإسلام من الكوارث هي الأخبار الموضوعة التي شوّهت الواقع المشرق للإسلام ، وألقت المسلمين في شرّ عظيم ، فقد حجبتهم عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وما اُثر عنهم من الأخبار الصحيحة التي هي من ذخائر الإسلام .


٢ ـ سبّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام

وأعلن معاوية رسميّاً سبّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأوعز إلى ولاته وعمّاله أن يذيعوا ذلك بين المسلمين ، واعتبره عنصراً أساسيّاً في بناء دولته ، وإقامة حكومته ، وأخذ الأذناب والعملاء ووعّاظ السلاطين يصعّدون سبّ الإمام وينتقصونه لا في نواديهم الخاصّة والعامّة فحسب ، وإنّما في خطب صلاة الجمعة وسائر المناسبات الدينيّة ، معتقدين أنّ ذلك ممّا يوجب القضاء على شخصيّة الإمام ، واندثار ذكره ، وقد خابت ظنونهم ، وتبّت أيديهم .

فقد عادت اللعنات عليهم وعلى من ولّاهم ومكّنهم من رقاب المسلمين ، فقد برز الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام على مسرح التاريخ البشري كألمع قائد إنساني أسّس معالم العدالة الاجتماعيّة ، وأقام أركان الحقّ في الأرض .

لقد عاد الإمام في جميع الأعراف الدوليّة والسياسيّة أعظم حاكم ظهر في الشرق ، وأوّل حاكم قد تبنّى حقوق المظلومين والمضطهدين ، وأعلن حقوق الإنسان ، وأمّا خصومه الحقراء فهم أقزام البشريّة ، وأشرار خلق الله ، فقد جنوا على الإنسانيّة جناية لا تعدلها أيّة جناية ، فقد حجبوا هذا العملاق العظيم أن يقوم بدوره في بناء الحضارة الإنسانيّة ، وتطوير الحياة العامّة في جميع مجالاتها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة .

٣ ـ استخدام معاهد التعليم

واستخدم معاوية معاهد التعليم وأجهزة الكتاتيب لتغذية النشء ببغض أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم المركز الحسّاس في الإسلام ، وغذّت هذه الأجهزة الناشئة المسلمة ببغض عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وذرّيّته ، ولم يكن ذلك إلّا إجراء مؤقّتاً ، فقد عكس الله إرادته ، وخيّب آماله ، فها هو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ملء فم الدنيا ،


قد استوعب ذكره المعطّر جميع لغات الأرض ، وهو اُنشودة الأحرار في كلّ زمان ومكان ، والكوكب اللامع في سماء الشرق يهتدي بضوئه المصلحون ، ويسير على منهجه المتّقون ، وها هو معاوية وبنو اُميّة قد صاروا جرثومة الفساد في الأرض ، ولا يذكرون إلّا مع الخسران وسوء المصير .

لقد هزم معاوية في الميدان السياسي والاجتماعي ، وأبرزت مخطّطاته السياسيّة المناهضة لأهل البيت عليهم‌السلام واقعه السياسي الملوّث بالجرائم والآثام ، واستبان للجميع أنّه أحطّ حاكم ظهر في الشرق العربي والإسلامي .

إشاعة الظلم

وأشاع معاوية الظلم والجور في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، فقد سلّط على المسلمين ولاة إرهابيّين ، قد نزعت الرحمة من قلوبهم ، فأسرفوا باقتراف الجرائم والإساءة إلى الناس ، وكان من أشدّهم قسوة ، وأكثرهم جرماً الارهابي زياد بن أبيه ، فقد صبّ على العراق وابلاً من العذاب الأليم ، فكان يسوق المتّهمين إلى ساحات الموت والإعدام من دون إجراء أي تحقيق معهم .

فقد كان يحكم بالظنّة والتهمة ، كما أعلن ذلك في بعض خطبه ، ولم يتحرّج من سفك الدماء بغير حقّ ، ولم يتأثّم في نشر الرعب والخوف بين الناس ، فكان كأخيه اللّاشرعي معاوية قد انتهك جميع حرمات الله .

لقد عجّت البلاد الإسلاميّة من الظلم والجور ، حتّى قال القائل : إن نجا سعد فقد هلك سعيد ، وكان من أشدّ الناس بلاءً وأعظمهم محنة شيعة أهل البيت عليهم‌السلام فقد أمعنت السلطة في ظلمهم ، والاعتداء عليهم ، فزجّت الكثير منهم في ظلمات السجون وزنزانات التعذيب ، وسملت منهم الأعين ، وأذاقتهم جميع صنوف التعذيب ، لا لذنب اقترفوه وإنّما لولائهم لأهل البيت عليهم‌السلام .

وقد شاهد أبو الفضل عليه‌السلام الصور المفجعة من الاضطهاد والتنكيل التي حلّت


بشيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، ممّا زاده ذلك إيماناً بضرورة الجهاد ، والقيام بثورة ضدّ السلطة الأمويّة ، لإنقاذ الاُمّة من محنتها ، وإعادة الحياة الإسلاميّة بين المسلمين .

منح الخلافة ليزيد

واقترف معاوية أخطر جريمة في الإسلام ، فقد منح الخلافة الإسلاميّة إلى ولده يزيد الذي كان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ مجرّداً من جميع القيم الإنسانيّة ، وغارقاً في الآثام والجرائم ، وكان جاهليّاً بما تحمل هذه الكلمة من معنى ، فلم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، كما أعلن ذلك فيما اُثر عنه من شعر ، فقد قال حينما أشرفت سبايا آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على دمشق :

لَسْتُ مِن خِندِفَ إِنْ لَمْ أَنتَقِمْ

مِنْ بَنِي أَحْمَدَ مَا كَانَ فَعَلْ (١)

هذا هو يزيد في إلحاده ومروقه من الدين وقد سلّطه معاوية على رقاب المسلمين ، فأمعن في إعادة الحياة الجاهليّة ، وإزالة الإسلام فكراً وعقيدة من الصعيد الاجتماعي ، كما أخلد للمسلمين المحن والكوارث ، وذلك بإبادته لعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسبيه لذراريه .

اغتيال الشخصيّات الإسلاميّة

وأقدم معاوية على اغتيال الشخصيّات الإسلاميّة التي لها مكانة مرموقة في العالم الإسلامي ، والتي تحظى باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، حتّى لا يزاحم أحد منهم ولده يزيد ، ولا تتّجه إليهم الأنظار ، وفعلاً قام باغتيال هؤلاء وهم :

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ١٢٩ . مقاتل الطالبيين : ١١٩ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٥٩ . البداية والنهاية : ٨ : ١٩٤ ، ٢٠٦ ، ٢٢٧ . شذرات الذهب : ١ : ٦٩ .


١ ـ سعد بن أبي وقّاص

أمّا سعد بن أبي وقّاص فهو فاتح العراق ، وأحد أعضاء الشورى الذين رشّحهم عمر إلى الخلافة الإسلاميّة ، وقد ثقل وجوده على معاوية فدسّ إليه سمّاً فقتله (١) .

٢ ـ عبد الرحمن بن خالد

أمّا عبد الرحمن بن خالد ، فكان له رصيد شعبي في أوساط أهل الشام ، وقد استشارهم معاوية فيمن يعقد له البيعة بعد وفاته ، فأشاروا عليه بعبد الرحمن ، فأسرّها معاوية في نفسه ، وأضمر له السوء ، ومرض عبد الرحمن فأوعز معاوية إلى طبيب يهودي أن يعالجه ويسقيه سمّاً فسقاه السمّ ، فمات على أثر ذلك (٢) .

٣ ـ عبد الرحمن بن أبي بكر

كان عبد الرحمن بن أبي بكر من أبرز العناصر المعارضة لمعاوية في أخذه البيعة ليزيد ، وقد أعلن معارضته له ، واُشيع ذلك في يثرب ودمشق ، وقدّم له معاوية رشوة لينال رضاه ، وكانت مائة ألف درهم ، فأبى أن يقبلها ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي ، وتعزو بعض المصادر أنّ معاوية دسّ له سمّاً فقتله (٣) .

__________________________

(١) مقاتل الطالبيّين : ٢٩ .

(٢) الاستيعاب : ٢ : ٨٣٠ . المنتظم : ٥ ٢١٧ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٢٥ . الأغاني : ١٦ : ٤١٧ ـ ٤١٨ ، وفيه : أنّ خالد بن المهاجر ابن أخي عبد الرحمن قد قتل الطبيب ، فأُخذ وأُتي به معاوية .

فقال له : لا جزاك الله من زائر خيراً ، قتلت طبيبي .

قال : قتلت المأمور وبقي الآمر .

(٣) الاستيعاب : ٢ : ٨٢٥ و ٨٢٦ .


٤ ـ الإمام الحسن عليه‌السلام

وأقضّ الإمام الحسن عليه‌السلام مضجع ابن هند ، وراح يطيل التفكير للتخلّص منه ، لأنّه قد شرط عليه في بنود الصلح أن ترجع إليه الخلافة بعد هلاكه ، واستعرض معاوية حاشية الإمام وخاصّته ليشتري ضمائرهم بأمواله لاغتيال الإمام ، فلم يقع نظره على أحد سوى الخائنة جعدة بنت الأشعث زوجة الإمام ، فهي من اُسرة لم تنجب شريفاً قطّ ، ولم يؤمن أي فرد منها بالقيم الإنسانيّة ، وأوعز معاوية إلى مروان بن الحكم عامله على يثرب فاتّصل بها ، وقدّم لها الأموال ، ومنّاها بزواج يزيد ، فاستجابت نفسها الخبيثة لاقتراف الجريمة ، فناولها سمّاً فاتكاً ، فأخذته ودسّته للإمام ، وكان صائماً ، ولمّا وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، فالتفت إلى الخبيثة ، فقال لها : قَتَلْتيني قَتَلَكِ اللهُ ، وَاللهِ لَا تُصِيبينَ مِنّي خَلَفاً ، لَقَدْ غَرَّكَ ـ يعني معاوية ـ وَسَخِرَ مِنْكِ ، يُخْزيكِ اللهُ وَيُخْزيهِ » .

وأخذ سبط النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته يعاني آلاماً قاسية من شدّة السمّ ، فقد تفاعل مع أجزاء بدنه ، وقد ذبلت نضارته ، واصفّر لونه ، وكان يلهج بذكر الله وتلاوة كتابه ، حتّى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن وأرواح الأنبياء .

لقد وافاه الأجل المحتوم ، ونفسه العظيمة مترعة بالمصائب من ابن هند الذي جهد في ظلمه ، وصبّ عليه ألواناً قاسية من المحن والكوارث ، فسلب منه الخلافة ، وتتبّع شيعة أبيه قتلاً وسجناً ، وأسمعه سبّه وسبّ أبيه ، وأخيراً سقاه السمّ فقطّع أحشاءه .

تجهيزه عليه‌السلام

وقام سيّد الشهداء عليه‌السلام بتجهيز جثمان أخيه فغسّل جسده الطاهر ، وحمله المشيّعون ، وفي طليعتهم العلويّون ، وهم يذرفون أحرّ الدموع على فقيدهم


العظيم ، وجاءوا به إلى المرقد النبويّ ليواروه بجواره .

فتنة الأمويّين

ولمّا جيء بالجثمان المقدّس إلى قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ليوارى إلى جنبه ثار الأمويّون وعلى رأسهم الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم ، فرفعوا أصواتهم أمام المشيّعين : « أيدفن الحسن بجوار جدّه ، ويدفن عثمان بأقصى المدينة ، لا كان ذلك أبداً » .

واشتدّوا كالكلاب نحو السيّدة عائشة ، وقد عرفوا انحرافها عن أهل البيت ، فأثاروا حفيظتها قائلين : « لئن دفن الحسن بجوار جدّه ليذهبنّ فخر أبيك وصاحبه » .

فوثبت وهي مغيظة محنقة تشقّ الجماهير ، وقد رفعت عقيرتها قائلة : « لئن دفن الحسن بجوار جدّه لتجز هذه ـ وأومأت إلى ناصيتها ـ » .

والتفتت إلى المشيّعين قائلة : لا تدخلوا بيتي مَن لا اُحبّ .

وقد أعربت بذلك عن كوامن حقدها على آل البيت عليهم‌السلام ، ويتساءل السائلون من أين جاء لها البيت ، ألم يروِ أبوها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة » ، فبيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حسب هذه الرواية ـ كبيت من بيوت الله لا يملكه أحد ، وإنّما هو لجميع المسلمين ، وعلى هذا فكيف سمحت لأبيها وصاحبه أن يدفنا فيه ، وإذا لم تعمل عائشة بهذه الرواية ، وأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كبقيّة الأنبياء يرثه ذرّيّته ، فالإمام الحسن عليه‌السلام هو الذي يرثه لأنّه سبطه ، أمّا أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يرثن من البيت ، وإنّما يرثن من البناء حسبما ذكر الفقهاء .

وعلى أيّ حال فقد تمادى الأمويّون بالشرّ ، وظهرت خفايا نفوسهم المنطوية على الحقد والعداء لآل البيت ، فقد أوعزوا إلى عملائهم برمي جنازة الإمام ، فرموها بقسيّهم وسهامهم ، وكادت الحرب أن تقع بين الهاشميّين والأمويّين ، فقد أسرع أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام إلى مناجزة الأمويّين وتمزيقهم ، فمنعه أخوه الإمام


الحسين عليه‌السلام من القيام بأي عمل امتثالاً لوصيّة أخيه ، فقد أوصاه بأن لا يهراق في أمره ملء محجمة من دم .

وجيء بالجثمان الطاهر إلى بقيع الغرقد ، فواروه فيه ، وقد واروا معه الحلم والشرف والفضيلة ، وقد انطوت بذلك أروع صفحة مشرقة من صفحات النبوّة والإمامة .

لقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام الأحداث المروّعة التي حلّت بأخيه الإمام أبي محمّد عليه‌السلام ، فزهّدته في الحياة ، وكرهت له العيش ، وحبّبت له الثورة والجهاد في سبيل الله .

معارضة الإمام الحسين عليه‌السلام لمعاوية

ولمّا تمادى معاوية في سياسته الملتوية المناهضة لمصالح المسلمين والمعادية لأهدافهم ، قام أبو الأحرار الإمام الحسين عليه‌السلام بالإنكار على معاوية ، وأخذ يعمل بشكل مكثّف إلى فضح معاوية ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة والثورة على حكومته ، ونقلت أجهزة الأمن والمباحث في يثرب إلى معاوية هذه النشاطات السياسيّة المناهضة لحكومته ، ففزع من ذلك أشدّ الفزع ، ورفع إليه مذكّرة شديدة اللهجة يطلب فيها الكفّ عن معارضته ، وهدّده باتّخاذ الاجراءات القاسية ضدّه إن لم يستجب له .

فأجابه أبو الأحرار بجواب شديد اللهجة وضعه فيه على طاولة التشريح ، ونعى عليه سياسته الظالمة التي تفجّرت بكلّ ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه ، وندّد بما اقترفه من ظلم تجاه الأحرار والمصلحين ، أمثال حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ورُشيد الهجري ، وغيرهم من أعلام الفكر في الوطن الإسلامي .

إنّ جواب الإمام أبي الشهداء من ألمع الوثائق السياسيّة ، فقد وضع الإمام فيها النقاط على الحروف ، وعرض بصورة مفصّلة الأحداث الرهيبة التي جرت أيّام


حكومة معاوية ، كما حدّد فيها موقفه المتّسم بالثورة على حكومة معاوية (١) .

مؤتمر الإمام الحسين عليه‌السلام

وعقد الإمام أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام مؤتمراً سياسيّاً في مكّة المكرّمة حضره جمهور غفير من المهاجرين والأنصار والتابعين ممّن شهدوا موسم الحجّ ، فقام فيهم خطيباً ، وتحدّث ببليغ بيانه عمّا ألمّ بهم وبشيعتهم من ضروب المحن والبلاء في عهد الطاغية معاوية ، وقد روى سليم بن قيس قطعة من خطابه ، جاء فيه بعد حمد الله والثناء عليه :

« أَمّا بَعْدُ ، فَإِنَّ هٰذَا الطّاغِيَةَ ـ يعني معاوية ـ قَدْ فَعَلَ بِنا وَبِشِيعَتِنا ما عَلِمْتُم وَرَأَيْتُمْ وَشَهِدْتُمْ ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسأَلَكُمْ عَن شَيْءٍ فَإِنْ صَدَقتُ فَصَدِّقُونِي ، وَإنْ كَذِبتُ فَكَذِّبوُنِي ، وَاسمَعُوا مَقالَتي ، وَاكْتُبُوا قَوْلي ، ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَى أَمْصارِكُمْ وَقَبائِلِكُمْ ، وَمَن ائْتَمَنْتُمُوهُ مِنَ النّاسِ وَوَثِقْتُمْ بِهِ فَادْعُوهُ إِلىٰ ما تَعْلَمُونَ مِن حَقِّنا ، فَإِنّا نَخافُ أَنْ يُدْرَسَ هٰذَا الْحَقُّ ، وَيَذْهَبَ وَيُغْلَبَ ، وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ » .

ويقول سُليم بن قيس : وما ترك الحسين شيئاً ممّا أنزله الله فيهم من القرآن إلّا تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أبيه وأخيه وفي نفسه وأهل بيته إلّا رواه ، وفي كلّ ذلك يقول أصحابه : اللّهمّ نعم قد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي : اللّهمّ قد حدّثني به من اُصدقه ، وائتمنه من الصحابة .

فقال عليه‌السلام : « أُنْشِدُكُمُ اللهَ إِلَّا حَدَّثْتُمْ بِهِ مَنْ تَثِقُونِ بِهِ وَبِدِينِهِ » (٢) .

وكان هذا أوّل مؤتمر سياسي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، فقد شجب فيه

__________________________

(١) نصّ الرسالة ذكرها ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ١ : ١٨٩ .

(٢) كتاب سُليم بن قيس : ٣٢٠ . الاحتجاج : ٢ : ٨٧ و ٨٨ .


الإمام سياسة معاوية الهادفة إلى حجب المسلمين عن أهل البيت عليهم‌السلام وستر فضائلهم ، وقد دعا الإمام حضّار ذلك المؤتمر إلى إشاعة مآثرهم ، وإذاعة مناقبهم ، وما ورد في حقّهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليعرف المسلمون النوايا الشريرة التي يبيّتها معاوية ضدّ أهل البيت الذين هم العصب في جسم الاُمّة الإسلاميّة .

هلاك معاوية

واستقبل معاوية الموت ، ونفسه قلقة ومضطربة ممّا اقترفه من الأحداث الجسام التي باعدت بينه وبين الله ، فكان يقول متبرّماً : « ويلي من ابن الأدبر ـ يعني حجر بن عدي ـ إنّ يومي منه لطويل » .

نعم ، إنّ يومه لطويل ، وإنّ حسابه لعسير أمام الله لا في حجر فقط ، وإنّما لدماء المسلمين التي سفكها بغير حقّ ، فقد قتل عشرات الآلاف من المسلمين ، وأشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحِداد ، وهو الذي حارب دولة الإسلام ، وأقام الدولة الأمويّة التي اتّخذت مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وهو الذي سلّط على المسلمين عصابة من أشرار خلق الله ، أمثال زياد بن أبيه الذي أمعن في إذلال المسلمين ، وظلمهم بغير حقّ ، وهو الذي استخلف من بعده ولده يزيد صاحب الأحداث والموبقات في الإسلام ، وشبيه جدّه أبي سفيان في اتّجاهاته وميوله المعادية لله ولرسوله ، وهو الذي دسّ السمّ إلى ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسبطه الإمام الزكيّ أبي محمّد عليه‌السلام ، وهو الذي أعلن سبّ أهل البيت عليهم‌السلام على المنابر ، وجعل ذلك جزءاً من حياة المسلمين العقائديّة ، إلى غير ذلك من الموبقات التي اقترفها والتي تجعل حسابه شاقّاً وعسيراً أمام الله .

وعلى أي حال ، فقد هلك معاوية فأهون به هالكاً ومفقوداً ، فقد انكسر باب الجور ، وتضعضعت أركان الظلم ، كما أبّنه بذلك الزعيم العراقي الكبير يزيد بن مسعود النهشلي ، أمّا خليفته ووليّ عهده يزيد فلم يكن حاضراً عند وفاته ، وإنّما كان


مشغولاً برحلات الصيد وعربدات السكر ونغمة العيدان .

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية التي هي أثقل كابوس مرّ على العالم الإسلامي في ذلك العصر ، وقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباس عليه‌السلام المآسي الرهيبة التي دهمت المسلمين في ظلال هذا الحكم .


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0121.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg




ورافق أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام الثورة الإسلاميّة الكبرى التي فجّرها أخوه أبو الأحرار وسيّد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام ، تلك الثورة العملاقة التي كانت من أهمّ الثورات العالميّة ، ومن أكثرها عطاءً لشعوب الأرض ، فقد غيّرت مجرى التاريخ وهزّت العالم بأسره ، وحرّرت الإنسان المسلم ، ودفعت القطعات الشعبيّة من المسلمين إلى التمرّد على الظلم ، ومناهضة الجور والطغيان .

وقد ساهم قمر بني هاشم وفخر عدنان في هذه الثورة المباركة مساهمة إيجابيّة وفعّالة ، وشارك أخاه الحسين في جميع فصولها ، وقد وعى جميع أهدافها وما تنشده من خير ورحمة للشعوب المحرومة والمضطهدة ، فآمن بها إيماناً مطلقاً .

لقد كان العبّاس أهمّ عضو بارز في هذه الثورة المشرقة ، وقد لازم أخاه ممتثلاً لأمره ، منفّذاً لرغباته ، شادّاً لعضده ، مؤمناً بقوله ، مصدّقاً لمبادئه ، لم يفارقه في مسيرته الخالدة من يثرب إلى مكّة ، ثمّ إلى أرض الكرامة والشهادة ، ففي كلّ موقف من ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام ، كان العبّاس معه وشريكاً له .

ونتحدّث عن بعض الفصول التاريخيّة لهذه الثورة العظمى التي كان العبّاس العلم البارز فيها .

رفض الإمام الحسين عليه‌السلام لبيعة يزيد

وأعلن الإمام الحسين عليه‌السلام رسميّاً رفضه الكامل لبيعة يزيد ، وذلك حينما استدعاه


حاكم المدينة الوليد بن عقبة في غلس الليل ، وقد فهم الإمام ما أراد منه ، فاستدعى عضده وأخاه أبا الفضل العبّاس وسائر الفتية من أهل بيته ليقوموا بحمايته ، وأمرهم بالجلوس خارج الدار ، فإذا سمعوا صوته قد علا فعليهم أن يقتحموا الدار لإنقاذه ، ودخل الإمام على الوليد فاستقبله بحفاوة وتكريم ، ثمّ نعى إليه هلاك معاوية ، وما أمره به يزيد من أخذ البيعة من أهل المدينة عامّة ، ومن الحسين خاصّة ، فاستمهله الإمام حتّى الصبح ، ليجتمع الناس ، وقد أراد أن يعلن أمامهم رفضه الكامل لبيعة يزيد ، ويدعوهم إلى التمرّد على حكومته ، وكان مروان بن الحكم الذي هو من رؤوس المنافقين ، ومن أعمدة الباطل حاضراً ، فاندفع لاشعال نار الفتنة ، فصاح بالوليد : لئن فارقك الساعة ، ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبسه فإن بايع ، وإلّا ضربت عنقه .

ووثب أبيّ الضيم في وجه مروان ، فقال محتقراً له : « يا بن الزَّرْقاءِ ، أَأَنْتَ تَقْتُلَنِي أَمْ هُوَ ؟ كَذِبْتَ وَاللهِ وَلَؤُمْتَ » (١) .

ثمّ التفت أبو الأحرار إلى الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه في رفضه لبيعة يزيد قائلاً :

« أَیُّهَا الْأَمِیرُ ، إِنّا أَهْلُ بَیْتِ النُّبُوَّةِ ، وَمَعْدِنُ الرِّسالَةِ ، وَمُخْتَلَفُ المَلَائِکَةِ ، وَمَحَلُّ الرَّحْمَةِ ، وَبِنا فَتَحَ اللهُ وَبِنَا خَتَمَ ، وَیَزِیدُ رَجُلٌ فاسِقٌ فاجِرٌ ، شَارِبُ خَمْرٍ ، قاتِلُ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ ، مُعْلِنٌ بِالْفِسْقِ ، وَمِثْلِي لَا یُبایعُ مِثْلَهُ ، وَلَکِنْ نُصْبِحُ وَتُصْبِحُونَ ، وَنَنْظُرُ وَتَنْظُرُونَ أَیُّنا أَحَقُّ بِالخِلَافَةِ وَالْبَیْعَةِ » (٢) .

__________________________

(١) الإرشاد / المفيد :٢: ٣٣ . وقعة الطفّ / أبو مِخنف : ٨١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٢٥١ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٦٤ .

(٢) اللهوف : ١٠ . مثير الأحزان : ٢٣ و ٢٤ . عوالم العلوم : ١٧ : ١٧٤ . الفتوح : ٥ : ١٤ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ١ : ١٨٤ .


لقد أعلن الإمام رفضه لبيعة يزيد في بيت الإمارة ورواق السلطة ، وهو غير حافل بالحكم القائم ، فقد وطّن نفسه على التضحية والفداء لينقذ المسلمين من حكم ارهابي عنيف يستهدف إذلالهم وإرغامهم على ما يكرهون .

لقد كان أبو الأحرار عالماً بفسق يزيد وفجوره ومروقه من الدين ، ولو أقرّ لحكومته لساق المسلمين إلى الذلّ والعبوديّة ، وعصف بالعقيدة الإسلاميّة في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة ، ولكنّه سلام الله عليه صمد في وجه الأعاصير هازئاً من الحياة ، ساخراً من الموت ، فبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً رفعياً ، ورفع كلمة الإسلام عالية في الأرض .

إلى مكّة المكرّمة

وصمّم أبو الأحرار على مغادرة يثرب والتوجه إلى مكّة المكرّمة ليتّخذ منها مقرّاً لبثّ دعوته ، ونشر أهداف ثورته ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة على الحكم الأموي الذي يمثّل الجاهليّة بجميع أبعادها الشريرة ، وقبل أن يتوجّه إلى مكّة خفّ إلى قبر جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ، حزين قد أحاطت به الأزمات ، فشكا إليه ما ألمّ به من المحن والبلوى .

ثم توجّه إلى قبر سيّدة النساء اُمّه الزكيّة ، فألقى عليها نظرات الوداع الأخير ، وزار بعد ذلك قبر أخيه الزكيّ أبي محمّد عليه‌السلام .

ثمّ توجّه مع جميع أفراد عائلته إلى مكّة التي هي حرم الله ليعوذ ببيتها الحرام الذي فرض الله فيه الأمن لجميع عباده ، وكان أخوه أبو الفضل إلى جانبه قد نشر رايته ترفرف على رأسه ، وقد تولّى جميع شؤونه وشؤون عائلته ، وقام خير قيام بما يحتاجون إليه .

وسلك أبو الأحرار في مسيره الطريق العامّ ، فأشار عليه بعض مَن كان معه بأن يحيد عنه ـ كما فعل ابن الزبير ـ مخافة أن يدركه الطلب من السلطة ، فأجابه بكلّ


شجاعة وثقة في النفس : « لَا وَاللهِ ، لَا فارَقْتُ هَذا الطَّرِيقَ أَبَداً ، أَوْ أَنْظُرُ إِلَى أَبْياتِ مَكَّةَ أَوْ يَقْضِيَ اللهُ فِي ذَلِكَ ما يُحِبُّ وَ يَرْضَى » (١) .

وانتهى ركب الإمام إلى مكّة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان ، وحطّ في دار العبّاس بن عبد المطّلب ، وقد احتفى به المكّيّون خير احتفاء ، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشيّة ، وهم يسألونه عن أحكام دينهم ، وأحاديث نبيّهم .

كما توافد لزيارته القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجّاج والمعتمرين من سائر الآفاق ، ولم يترك الإمام عليه‌السلام لحظة تمرّ من دون أن يبثّ الوعي السياسي والديني في نفوس زائريه من المكّيّين وغيرهم ، ويدعوهم إلى التمرّد على الحكم الأموي الذي عمد على إذلالهم وعبوديّتهم .

فزع السلطة بمكّة

وفزعت السلطة المحلّيّة بمكّة من قدوم الإمام إليها ، واتّخاذها مقرّاً لدعوته ، ومركزاً لإعلان ثورته ، وكان حاكم مكّة الطاغية عمرو بن سعيد الأشدق ، فقد رأى بنفسه تزاحم المسلمين على الإمام ، وسمع ما يقولونه إنّ الإمام أوْلى بالخلافة الإسلاميّة ، وأحقّ بها من آل أبي سفيان ، الذين لا يرجون لله وقاراً ، فخفّ مسرعاً نحو الإمام فقال له بغيظ : ما أقدمك إلى البيت الحرام ؟ وكأنّ بيت الله العظيم ملك لبني اُميّة ، وليس هو لجميع المسلمين .

فأجابه الإمام بثقة وهدوء : « عائِذاً بِاللهِ ، وَبِهٰذَا الْبَيْتِ » (٢) .

ورفع الطاغية بالوقت رسالة إلى سيّده يزيد بن معاوية أحاطه بها علماً بمجيء الإمام إلى مكّة ، واختلاف الناس إليه ، والتفافهم حوله ، وأنّ ذلك يشكّل خطراً على

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ٢٢ . المنتظم : ٥ : ٣٢٧ . ينابيع المودّة : ٣ : ٥٥ .

(٢) تذكرة الخواص : ٢١٤ .


‌حكومته ، ففزع يزيد كأشدّ ما يكون الفزع حينما قرأ رسالة الأشدق ، فرفع في الوقت مذكّرة إلى ابن عبّاس يتهدّد فيها الحسين عليه‌السلام على تحرّكه ، ويطلب منه التدخّل فوراً لإصلاح الأمر وحجب الحسين عليه‌السلام عن مناهضته .

فأجابه ابن عبّاس برسالة ، نصحه فيها بعدم التعرّض للحسين عليه‌السلام ، وأنّه إنّما هاجر إلى مكّة فراراً من السلطة المحلّيّة في يثرب التي لم ترع مكانته ، ومقامه .

ومكث الإمام عليه‌السلام في مكّة والناس تختلف إليه ، وتدعوه إلى إعلان الثورة على الأمويّين ، وكانت مباحث الأمن تراقبه أشدّ ما تكون المراقبة ، وتسجّل جميع تحرّكاته ونشاطاته السياسيّة ، وما يدور بينه وبين الوافدين عليه ، وتبعث بجميع ذلك إلى دمشق لاطلاع يزيد عليه .

تحرّك الشيعة في الكوفة

وحينما اُشيع هلاك معاوية في الكوفة أعلنت الشيعة أفراحها بموته ، وعقدوا مؤتمراً شعبيّاً في بيت أكبر زعمائهم ، وهو سليمان بن صرد الخزاعي ، واندفعوا إلى إعلان الخطب الحماسيّة فيها ، وقد عرضوا بصورة شاملة إلى ما عانوه من الاضطهاد والتنكيل في أيّام معاوية ، وأجمعوا على بيعة الإمام الحسين ، ورفض بيعة يزيد ، وأرسلوا في نفس الوقت وفداً منهم ليحثّ الإمام على القدوم إلى مصرهم لتشكيل حكومته ليعيد لهم الحياة الكريمة التي فقدوها في ظلال الحكم الأموي ، ويبسط في بلادهم الأمن والرخاء ، وترجع بلدهم عاصمة للدولة الإسلاميّة كما كانت أيّام أبيه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام .

وكان من بين ذلك الوفد عبد الله البجلي ، وأخذ الوفد يسرع في سيره حتّى انتهى إلى مكّة ، فعرض على الإمام مطاليب أهل الكوفة ، وألحّوا عليه بالاسراع إلى القدوم إليهم .


رسائل الكوفة

ولم يكتف الكوفيّون بالوفد الذي بعثوه إلى الإمام ، وإنّما عمدوا إلى إرسال آلاف الرسائل إليه أعربوا فيها عن عزمهم الجادّ على نصرته ، والوقوف إلى جانبه ، وأنّهم يفدونه بأرواحهم وأموالهم ، ويطلبون منه الاسراع إلى مصرهم ليشكّل فيه دولة القرآن والإسلام التي هي غاية آمالهم ، وحمّلوا الإمام المسؤوليّة أمام الله والتاريخ إن لم يستجب لدعوتهم .

ورأى الإمام عليه‌السلام أنّه قد قامت عليه الحجّة الشرعيّة ، وأنّ الواجب يحتّم عليه إجابتهم .

إيفاد مسلم إلى الكوفة

ولمّا تتابعت الوفود والرسائل من أهل الكوفة على الإمام ، وهي تحثّه على القدوم إليهم ، لم يجد بدّاً من إجابتهم ، فأوفد إليهم ثقته وكبير أهل بيته ، والمبرّز من بينهم بالفضيلة وتقوى الله ابن عمّه مسلم بن عقيل ، وكانت مهمّته خاصّة ومحدودة ، وهي الوقوف على واقع الكوفيّين ، ومعرفة أمرهم ، فإن صدقوا فيما قالوا توجّه الإمام إليهم وأقام في مصرهم دولة القرآن .

ومضى مسلم يجدّ في السير لا يلوي على شيء ، حتّى انتهى إلى الكوفة ، فنزل في بيت زعيم من زعماء الشيعة ، وسيف من سيوفهم ، وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، الذي كان يتمتّع بخبرة سياسيّة واسعة ، وشجاعة فائقة ، ودراية تامّة بالشؤون النفسيّة والاجتماعيّة ، وقد فتح المختار أبواب داره إلى مسلم ، وصار بيته مركزاً للسفارة الحسينيّة .

ولمّا علمت الشيعه بقدوم مسلم سارعوا إليه مرحّبين به ، ومقدّمين له جميع ألوان الحفاوة والدعم ، والتفّوا حوله طالبين منه أن يأخذ منهم البيعة للإمام


الحسين عليه‌السلام ، واستجاب لهم مسلم ، ففتح سجلّاً للمبايعين ، وقد أحصي عددهم في الأيّام القليلة بما يزيد على ثمانية عشر ألفاً ، وفي كلّ يوم يزداد عدد المبايعين منهم ، وألحّوا عليه أن يراسل الإمام بالإسراع إلى القدوم إليهم ليتولّى قيادة الاُمّة .

ومن الجدير بالذكر أنّ السلطة المحلّيّة في الكوفة كانت على علم بمجريات الثورة ، وقد وقفت منها موقف الصمت ، فلم تتّخذ أي إجراءات ضدّها ، ويعود السبب في ذلك إلى أنّ حاكم الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري كان من المنحرفين عن يزيد بسبب مواقفه المعادية للأنصار ، ومضافاً إلى ذلك فإنّ ابنته كانت زوجة المختار الذي استضاف مسلماً ووقف إلى جانبه .

ومن الطبيعي أنّه لم يرق لعملاء الأمويّين وأذنابهم موقف النعمان المتّسم بالليونة وعدم المبالاة بالثورة ، فبادروا إلى الاتّصال بدمشق ، وعرّفوا يزيد بموقف النعمان ، وطلبوا المبادرة بإقصائه ، وتعيين حاكمٍ حازمٍ يستطيع القضاء على الثورة ، وإخضاع الجماهير إلى حكمه ، وفزع يزيد من الأمر ، فأرسل إلى مستشاره الخاصّ سرجون ، وكان دبلوماسيّاً محنّكاً ، فعرض عليه ما ألمّ به وطلب منه أن يرشده إلى حاكم يتمكّن من السيطرة على الأوضاع المتفجّرة في الكوفة ، فأشار عليه بتوليه الارهابي عبيد الله بن زياد ، فإنّه شبيه بأبيه في التجرّد من كلّ نزعة إنسانيّة ، وعدم المبالاة في اقتراف أبشع الجرائم ، فاستجاب يزيد لرأيه ، وكتب لابن زياد مرسوماً بولايته على الكوفة بعد أن كان والياً على البصرة فقط ، وبذلك فقد أصبح العراق كلّه خاضعاً لسيطرته ، وأصدر إليه الأوامر المشدّدة بالإسراع إلى الكوفة لاستئصال الثورة والقضاء على مسلم .

ابن زياد إلى الكوفة

وحينما تسلّم ابن زياد المرسوم في ولايته على الكوفة توجّه إليها فوراً ، وأخذ يجدّ في السير لا يلوي على شيء مخافة أن يسبقه إليها الإمام الحسين عليه‌السلام ، وحينما


أشرف على الكوفة غيّر ملابسه ، ولبس ثياباً يمانيّة ، وعمامة سوداء ليوهم على الكوفيّين أنّه الإمام الحسين عليه‌السلام ، وقد اعتقدوا بذلك ، فأحاطوا به مرحّبين بقدومه ، وهاتفين بحياته ، فاستاء ابن زياد من ذلك أشدّ ما يكون الاستياء ، وأسرع في سيره مخافة أن ينكشف أمره فيُقتل .

ولمّا انتهى إلى قصر الإمارة ، وجد الباب مغلقاً فطرقه ، فأشرف عليه النعمان ، وقد توهّم أنّه الإمام الحسين عليه‌السلام ، فانبرى يخاطبه بلطف هاتفاً : « ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يا بن رسول الله ، وما لي في قتالك من إرب » .

فصاح به ابن مرجانة : افتح لا فتحت ، فقد طال ليلك .

وعرّفه بعض مَن كان خلفه فصاح بالجماهير : إنّه ابن مرجانة ، وربّ الكعبة .

وكان ذلك الصاعقة على رؤوسهم ، فولّوا منهزمين إلى دورهم ، وقد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً ، وبادر الطاغية نحو القصر فاستولى على المال والسلاح ، وأحاط به عملاء الأمويّين أمثال عمر بن سعد ، وشمر بن ذي الجوشن ، ومحمّد بن الأشعث ، وغيرهم من وجوه الكوفة فجعلوا يحدّثونه عن الثورة ، ويعرّفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخطّطات الرهيبة للقضاء عليها .

ولمّا أصبح الصبح جمع ابن مرجانة الناس في المسجد الأعظم ، فأعلمهم بولايته على مصرهم ، ومنّى أهل الطاعة بالصلة ، وأهل المعصية بالعقاب الصارم ، ثمّ عمد إلى نشر الخوف والارهاب بين الناس ، وقد أمسك جماعة لم يجر معهم أي تحقيق فأمر بإعدامهم ، وملأ السجون بالمعتقلين ، واتّخذ من ذلك وسيلة للسيطرة على البلاد .

ولمّا علم مسلم بقدوم ابن مرجانة ، وما قام به من الأعمال الارهابيّة تحوّل من دار المختار إلى دار الزعيم الكبير هانئ بن عروة ، وهو سيّد الكوفة ، وزعيمها المطاع ، وقد عرف بالولاء والمودّة لأهل البيت عليهم‌السلام ، وقد استقبله هانئ بحفاوة وتكريم ،


ورحّب به أعظم ما يكون الترحيب ، وفتح داره على مصراعيها لشيعة مسلم ، واتّخاذ القرارات لدعم الثورة ، ومناهضة خصومها .

المخطّطات الرهيبة

واتّخذ ابن مرجانة سلسلة من المخطّطات أدّت إلى نجاحه في الميادين السياسيّة والتغلّب على الأحداث ، فبعد أن كانت الكوفة تحت قبضة مسلم انقلبت رأساً على عقب ، وصارت مع ابن زياد ، ومن بين تلك المخطّطات التي تمّ تنفيذها ما يلي :

التجسّس على مسلم عليه‌السلام

وأوّل بادرة سلكها ابن مرجانة هي التجسّس على مسلم ، ومعرفة نشاطاته السياسيّة ، والإحاطة بنقاط الضعف والقوّة عنده ، والوقوف على جميع ما يجري عنده من الأحداث .

وقد اختار للقيام بهذه المهمّة مولاه معقلاً ، وكان فطناً ذكيّاً ، ذا معرفة بالسياسة الماكرة ، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وأمره بالاتّصال بأعضاء الثورة ، وإعلامهم بأنّه من الموالي الذين عرف أكثرهم بالولاء لأهل البيت عليهم‌السلام ، وإنّه قد جاء إلى مصرهم حينما بلغه أنّ داعية الإمام الحسين عليه‌السلام قدم إليهم ليأخذ البيعة منهم له ، وإنّ عنده مالاً ليوصله له ليستعين به على حرب عدوّه .

ومضى معقل في مهمّته ، وجعل يفتّش عمّن له معرفة بسفير الحسين ، فاُرشد إلى مسلم بن عوسجة وهو من أعلام الشيعة ، وأحد القادة الطليعيّين في الثورة ، فاتّصل به ، وأظهر له الولاء المزيّف لأهل البيت عليهم‌السلام ، والتعطّش الكاذب لرؤية سفيرهم مسلم ، فانخدع ابن عوسجة بكلامه ، وغرّه تلهّفه المصطنع لرؤية داعية الحسين عليه‌السلام ، فأدخله على مسلم فبايعه ، وأخذ المال منه ، وجعل يتردّد عليه في كلّ يوم ، فكان ـ فيما يقول المؤرّخون ـ أوّل داخل عليه ، وآخر خارج عنه ،


وقد وقف على جميع شؤون الثورة ، وعرف أعضاءها ، والمتحمّسين لها ، وما يستجدّ فيها من شؤون ، وكان ينقل ذلك حرفيّاً إلى سيّده ابن مرجانة ، وبذلك فقد أحاط بجميع مجريات الأحداث ، ولم يخف عليه أي شيء منها .

اعتقال هانئ

وقدم ابن زياد على أخطر عملية كُتب له فيها النجاح لتنفيذ مخطّطاته ، فقد قام باعتقال هانئ بن عروة سيّد الكوفة ، والزعيم الأوحد لقبائل مذحج التي كانت تشكّل الأكثريّة الساحقة من سكّان الكوفة ، وقد أشاع بذلك موجة من الخوف والارهاب عند جميع الكوفيّين ، كما وجّه ضربة قاسية ومدمّرة للثورة ، فقد استولى الرعب والفزع على أنصار مسلم ، ومنوا بهزيمة نفسيّة ساحقة .

وعلى أي حال ، فإنّ هانئ حينما مثل أمام الطاغية استقبله بشراسة وعنف ، وطلب منه بالفور تسليم ضيفه الكبير مسلم ، فأنكر هانئ أن يكون عنده ، لأنّه أحاط أمره بكثير من السريّة والكتمان ، فأمر ابن زياد بإحضار الجاسوس معقل .

فلمّا حضر سقط ما في يد هانئ ، وأطرق برأسه إلى الأرض ، ولكن سرعان ما سيطرت شجاعته على الموقف ، فانتفض كالأسد ساخراً من ابن زياد ، ومتمرّداً على سلطته ، فامتنع أشدّ ما يكون الامتناع من تسليم ضيفه إليه ، لأنّه بذلك يسجّل عاراً وخزياً عليه ، فثار الطاغية في وجهه ، وثمّ أمر غلامه مهران أن يدنيه منه ، فأدناه ، فاستعرض وجهه المكرّم بالقضيب ، وضربه ضرباً عنيفاً حتّى كسر أنفه ، ونثر لحم خدّيه وجنبيه على لحيته ، حتّى تحطّم القضيب ، وسالت الدماء على ثيابه ، ثمّ أمر باعتقاله في أحد بيوت القصر .

انتفاضة مذحج

ولمّا شاع اعتقال هانئ اندفعت قبائل مذحج نحو قصر الإمارة ، وقد قاد جموعها


الانتهازي القذر عمرو بن الحجّاج ، وهو من أذناب السلطة ومن أحقر عملائها ، وقد رفع عقيرته ليسمعه ابن زياد قائلاً : أنا عمرو بن الحجّاج ، وهذه فرسان مذحج ، ووجوهها لم نخلع طاعة ، ولم نفارق جماعة .

وحفل كلامه بالخنوع والمسالمة للسلطة ، وليس فيه أي اندفاع لإنقاذ هانئ ، وإنّما فيه التأييد والدعم لابن زياد ، ولذا لم يكترث به ، وأوعز إلى شريح القاضي ، وهو من وعّاظ السلاطين ، ومن دعائم الحكم الأموي ، فأمره أن يدخل على هانئ ويخرج لهم ، ويخبرهم بأنّه حيّ سالم ، وأنّه يأمرهم بالانصراف إلى منازلهم ، ودخل على هانئ ، فلمّا بصر به صاح مستجيراً : يا للمسلمين أهلكت عشيرتي ! أين أهل الدين ؟ أين أهل المصر أيخلّوني وعدوّهم ؟

والتفت إلى شريح وقد سمع أصوات اُسرته قائلاً : يا شريح ، إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، إنّه إن دخل علَيَّ عشرة نفر أنقذوني .

وخرج شريح الذي باع آخرته وضميره على ابن مرجانة ، فقال لمذحج : نظرت إلى صاحبكم ، إنّه حيّ لم يقتل .

وبادر ابن الحجّاج عميل الأمويّين وخادمهم فرفع صوته لتسمعه مذحج قائلاً : إذا لم يقتل فالحمد لله .

وولّت قبائل مذحج منهزمة كأنّما اُتيح لها الخلاص من سجن ، وقد صحبت معها الخيانة والخزي ، ومن المؤكّد أنّ هزيمة مذحج بهذه السرعة كانت نتيجة اتّفاق سرّي بين زعمائها وبين ابن مرجانة للقضاء على هانئ ، ولولا ذلك لهجمت على السجن وأخرجته .

لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير الذي كان محسناً إليها ، فلم تف بحقوقه ، وتركته أسيراً بيد الارهابي ابن مرجانة ، وهو يمعن في إذلاله وقهره ، في حين أنّ مذحج كانت لهم السيادة على الكوفة .


ثورة مسلم عليه‌السلام

ولمّا علم مسلم ما جرى على هانئ العضو البارز في الثورة من الاعتداء والاعتقال ، بادر إلى إعلان الثورة على ابن زياد ، فأوعز إلى أحد قاده جيشه عبد الله ابن حازم أن ينادي في أصحابه ، وقد ملأ بهم الدور ، فاجتمع إليه زهاء أربعة آلاف مقاتل أو أربعون ألفاً ـ كما في رواية اُخرى ـ وتعالت أصواتهم بشعار المسلمين يوم بدر « يا منصور أمت » .

وقام مسلم بتنظيم جيشه ، فأسند القيادات العامّة إلى مَن عُرفوا بالولاء والإخلاص لأهل البيت عليهم‌السلام ، وزحف بجيشه نحو قصر الإمارة ، وكان ابن زياد قد خرج إلى الجامع ، وقد ألقى خطاباً على الجماهير تهدّد فيه على كلّ من يخلع يد الطاعة ، ويناهض الدولة ، وحينما أنهى خطابه سمع الضجّة وأصوات الثوّار وهتافاتهم بسقوطه ، فهاله ذلك ، وسأل عن السبب فاُخبر أنّ مسلم بن عقيل قد أقبل في جمهور من شيعته لحربه ، ففزع الجبان ، واختطف الرعب لونه ، وأسرع نحو القصر يلهث كالكلب من شدّة الفزع والخوف ، وضاقت عليه الدنيا ، إذ لم تكن عنده قوّة عسكريّة تحميه سوى ثلاثين شرطيّاً وعشرين رجلاً من أشراف الكوفة الذين عرفوا بالعمالة للأمويّين .

وتضاعف جيش مسلم ، وقد نشروا الأعلام والسيوف ، ودقّت طبول الحرب ، وأيقن الطاغية بالهلاك ، إذ لم يكن يأوي إلى ركن شديد .

حرب الأعصاب

وأمعن الطاغية في أقرب الوسائل وأكثرها ضماناً لإنقاذه ، فرأى أن لا طريق له سوى حرب الأعصاب ، ونشر الدعايات الكاذبة ، وكان عالماً بتأثيرها على نفوس الكوفيّين ، فأوعز إلى عملائه من أشراف الكوفة ووجوهها أن يندسّوا بين صفوف


جيش مسلم ، فيذيعون الارهاب ، وينشرون الخوف ، وانطلق العملاء بين قطعات جيش مسلم ، فأخذوا يبثّون الأراجيف والكذب ، وتناولت دعاياتهم ما يلي :

١ ـ تهديد أصحاب مسلم بجيوش أهل الشام ، وأنّها سوف تنكّل بهم إن بقوا مصرّين على متابعة مسلم .

٢ ـ إنّ الحكومة سوف تقطع مرتّباتهم ، وتحرمهم من جميع مواردهم الاقتصاديّة .

٣ ـ إنّ الدولة ستزجّ بهم في مغازي أهل الشام .

٤ ـ إنّ الحكومة ستعلن فيهم الأحكام العرفيّة ، وتسوسهم بسياسة زياد بن أبيه التي تحمل إشارات الموت والدمار .

وكانت هذه الاشاعات كالقنابل على رؤوسهم ، فقد انهارت أعصابهم ، واضطربت قلوبهم ، وجبنوا أبشع ما يكون الجبن ، وولّوا منهزمين على أعقابهم وهم يقولون : ما لنا والدخول بين السلاطين .

ولم يمض قليل من الوقت حتّى فرّ معظمهم ، وبقي ابن عقيل مع جماعة قليلة ، وقصد بهم نحو الجامع الأعظم ليؤدّي صلاة العشائين ، ففرّوا منهزمين في أثناء الصلاة ، فقد قذف في قلوبهم الرعب ، وسرت فيهم أوبئة الخوف ، وما أنهى ابن عقيل صلاته حتّى انهزموا جميعاً ، ولم يبق معه إنسان يدلّه على الطريق أو يأويه ، وقد لبس الكوفيّون بذلك ثياب العار والخزي ، وأثبتوا أنّ ولاءهم لأهل البيت عليهم‌السلام كان عاطفيّاً ، وغير مستقرّ في دخائل قلوبهم ، وأعماق نفوسهم ، وأنّهم لا ذمّة ولا وفاء لهم .

وسار مسلم فخر بني هاشم متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وشوارعها يلتمس فيها داراً لينفق فيه بقيّة الليل ، فلم يظفر بذلك ، فقد خلت المدينة من المارّة ، كأنّما اُعلن فيها منع التجوّل ، فقد أغلق الكوفيّون عليهم الأبواب مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن ، وعيون ابن زياد بأنّهم كانوا مع ابن عقيل فتلقي عليهم القبض ، وتعرّضهم


للتنكيل وسوء العذاب .

في ضيافة طوعة

وبقي ابن عقيل حائراً لا يدري إلى أين مأواه وملجأه ، فقد أحاطت به تيّارات من الهموم ، وكاد قلبه أن ينفجر من شدّة الألم العاصف ، واستبان له أنّه ليس في المصر رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته ، ومضى متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وانتهى به السير إلى سيّدة كريمة يقال لها طوعة هي سيّدة من في المصر بما تملكه من إنسانيّة وشرف ونبل ، وكانت واقفة على باب دارها تنتظر قدوم ابنها ، وهي فزعة عليه ، من الأحداث الرهيبة التي مُني بها المصر ، ولما رآها مسلم بادر نحوها فسلّم عليها ، فردّت عليه‌ السلام ، ووقف مسلم ، فأسرعت قائلة : ما حاجتك ؟

ـ اسقيني ماءاً .

وبادرت السيّدة فجاءته بالماء فشرب منه ، ثمّ جلس فارتابت منه ، فقالت له : ألم تشرب الماء ؟

ـ بلى .

ـ اذهب إلى أهلك إنّ مجلسك مجلس ريبة .

وسكت مسلم ، فأعادت عليه القول ، وطلبت منه الانصراف من باب دارها ، ومسلم ساكت ، فذعرت منه وصاحت به : سبحان الله ! إنّي لا اُحلّ لك الجلوس على بابي .

ولمّا حرّمت عليه الجلوس نهض ، وقال لها بصوت خافت حزين النبرات : ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك إلى أجر ومعروف أن تقومي بضيافتي في هذه الليلة ، ولعلّي اُكافئك بعد هذا اليوم .

وشعرت المرأة بأنّ الرجل غريب ، وأنّه ذو شأن كبير ، ومكانة عظمى ،


وأنّه سيقوم بمكافأتها إن أسدت عليه إحساناً ومعروفاً ، فبادرته قائلة : ما ذاك يا عبد الله ؟!

فقال لها وعيناه تفيضان دموعاً : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني القوم وغرّوني .

فذهلت السيّدة ، وقالت في دهشة وإكبار : أنت مسلم بن عقيل ؟

ـ نعم .

وسمحت السيّدة بخضوع وإكبار لضيفها الكبير بتشريف منزلها ، وقد حازت المجد والشرف بذلك ، فقد آوت سليل هاشم ، وسفير ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحمّلت المسؤوليّة من السلطة بضيافتها له .

وأدخلت السيّدة ضيفها العظيم في بيت غير البيت الذي كانت تأوي إليه ، وجاءته بالضياء والطعام ، فأبى أن يأكل ، فقد مزّق الأسى قلبه الشريف ، وأيقن بالرزء القاصم ، وتمثّلت أمامه الأحداث التي سيواجهها ، وقد شغل فكره الإمام الحسين عليه‌السلام الذي كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة وأنّه سيلاقي ما لاقاه .

ولم يمض قليل من الوقت حتّى قدم بلال ابن السيّدة طوعة ، فرأى اُمّه تكثر من الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم لتقوم بخدماته ورعايته ، فأنكر عليها ذلك ، وسألها عن السبب ، فأبت أن تخبره ، فألحّ عليها ، فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه الأيمان والمواثيق بالكتمان .

وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً ، وأنفق ليله ساهراً يترقّب بفارغ الصبر انبثاق نور الفجر ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ليتزلّف بذلك إليها ، وينال الجائزة منها ، وقد تنكّر هذا الوغد لجميع الأعراف ، والأخلاق العربيّة التي تلزم بقِرى الضيف ، وحمايته من كلّ مكروه ، وكانت هذه الظاهرة سائدة حتّى في العصر الجاهلي ، وقد دلّ ما فعله هذا الجلف على انهيار القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة ليس عنده فحسب ، وإنّما في أغلبيّة ذلك المجتمع الذي فقدَ جميع ما يسمو به


الإنسان من القيم الكريمة .

وعلى أي حال ، فقد قضى سليل هاشم ليله حزيناً قلقاً مضطرباً ، وقد خلص في معظم الليل إلى العبادة ما بين الصلاة وقراءة القرآن ، فقد أيقن أنّ تلك الليلة هي آخر أيّام حياته ، وقد خفق في بعض الليل فرأى عمّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في منامه ، فأخبره بسرعة اللحاق به ، فعند ذلك أيقن بدنوّ الأجل المحتوم منه .

الإفشاء بمسلم عليه‌السلام

ولمّا انبثق نور الصبح بادر بلال إلى قصر الإمارة ليخبر السلطة بمكان مسلم عنده ، وكان الخبيث بحالة من الدهشة تلفت النظر ، فقصد عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث ، وهو من الاُسرة الانتهازيّة الخبيثة التي طلّقت الشرف والمعروف ثلاثاً ، فأسرّه بالأمر ، فأمره بالسكوت لئلّا يسمعه غيره فيخبر ابن زياد فينال منه الجائزة ، وأسرع عبد الرحمن إلى أبيه محمّد فأخبره بالأمر الخطير ، وبدت سحنات الفرح والسرور على وجهه ، وفطن ابن مرجانة إلى أنّ هناك أمراً عظيماً يخصّ السلطة فبادر قائلاً : ما قال لك عبد الرحمن ؟

فقال ـ وقد ملأ الفرح إهابه ـ : أصلح الله الأمير ، البشارة العظمى .

ـ ما ذاك ؟ مثلك من بشّر بخير .

ـ إنّ ابني هذا يخبرني أنّ مسلماً في دار طوعة .

وطار ابن زياد من الفرح والسرور ، فقد تمّت بوارق آماله وأحلامه ، فقد ظفر بسليل هاشم ليقدّمه قرباناً لأمويّته اللصيقة ، وأخذ يمنّي ابن الأشعث بالمال والجاه المزيّف ، قائلاً له : قم فأتني به ، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الأوفى .

وسال لعاب ابن الأشعث فاندفع وراء أطماعه الدنيئة لإلقاء القبض على مسلم .


الهجوم على مسلم عليه‌السلام

وندب ابن مرجانة لحرب مسلم عليه‌السلام ، محمّد بن الأشعث وعمرو بن حريث المخزومي ، وضمّ إليهما ثلثمائة رجل من فرسان الكوفة ، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة التي لا عهد لها بالشرف والمروءة إلى حرب مسلم الذي أراد أن يحرّرهم من الذلّ والعبوديّة ، وينقذهم من ظلم الأمويّين وجورهم .

ولمّا قربت الجيوش من دار طوعة علم مسلم عليه‌السلام أنّها قد أتت لحربه ، فسارع إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، ولبس درعه ، وتقلّد سيفه ، والتفت إلى السيّدة الكريمة طوعة ، فشكرها على حسن ضيافتها ، وأخبرها أنّه إنّما اُتي إليه من قِبل ابنها الباغي اللئيم .

واقتحم الجيش الدار على مسلم عليه‌السلام فشدّ عليهم كالليث يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين من بين يديه يطاردهم الرعب والخوف ، وبعد فترة عادوا إليه ، فحمل عليهم وأخرجهم من الدار ، وانطلق نحوهم فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه ، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التاريخ ، فقد قتل منهم ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ واحداً وأربعين (١) ، عدا الجرحى ، وكان من قوّته النادرة ، وعظيم بأسه أن يأخذ الرجل منهم بيده ويرمي به فوق البيت كأنّه حجر (٢) .

ومن المؤكّد أنّه ليس في تاريخ الإنسانيّة مثل هذه البطولة ، ولا مثل هذه القوّة ، وليس ذلك غريباً عليه ، فعمّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أشجع الناس ، وأقواهم بأساً ، وأشدّهم عزيمة .

وجعل أنذال أهل الكوفة يرمون مسلماً بالحجارة وقذائف النار من فوق سطوح

__________________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ٢ : ٢١٢ .

(٢) الدرّ النضيد : ١٦٤ . نفس المهموم : ٥٧ .


بيوتهم ، وممّا لا ريب فيه أنّ الحرب لو كانت في البيداء لأتى عليهم مسلم ، ولكنّها كانت في الأزقّة والشوارع ، ومع ذلك فقد فشلت جيوش أنذال أهل الكوفة ، وعجزت عن مقاومة البطل العظيم ، فقد أشاع فيه القتل والدمار ، وأسرع ابن الأشعث بالطلب إلى سيّده ابن مرجانة ليمدّه بالخيل والرجال ، لأنّه لا يقوى على مقاومة هذا البطل العظيم ، وبهر الطاغية ، وأخذ يندّد بقيادة ابن الأشعث قائلاً : سبحان الله ! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به ، فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة .

وثقل على ابن الأشعث هذا التقريع ، فراح يشيد ببطولات ابن عقيل قائلاً :

أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة ، وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الأنام .

وأمدّه ابن زياد بقوّة مكثّفة من الجيش ، فجعل بطل الإسلام وفخر عدنان يقاتلهم أشدّ القتال وأعنفه وهو يرتجز :

أَقْسَمْتُ لا أُقْتَلُ إلَّا حُرَّا

وَإِنْ رَأَيْتُ المَوتَ شَيئاً نُكْرَا

كُلُّ امرِئٍ يَومَاً مُلَاقٍ شَرَّا

أَو يُخلَطُ البَارِدُ سُخْنَاً مُرّا

رُدَّ شِعاعُ الشَّمسِ فاستَقَرّا

أَخافُ أَنْ أُكذَبَ أَوْ أُغَرَّا (١)

أمّا أنت يا بن عقيل فكنت سيّد الاُباة والأحرار ، فقد رفعت لواء العزّة والكرامة ، ورفعت شعار الحريّة ، وأمّا خصومك فهم العبيد الذي رضوا بالذلّ والهوان ، وخضعوا للعبوديّة والذلّ ، لقد أردت أن تحرّرهم ، وتعيد لهم الحياة الحرّة الكريمة ، فأبوا ذلك ، وعدوا عليك يقاتلونك ، وقد فقدوا بذلك إنسانيّتهم ، ومقوّمات حياتهم .

ولمّا سمع ابن الأشعث رجز مسلم الذي أقسم فيه على أن يموت ميتة الأحرار

__________________________

(١) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٢٨٠ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٣ .


والأشراف انبرى إليه ليخدعه قائلاً : إنّك لا تكذب ، ولا تنخدع ، إنّ القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ، ولا ضارّيك (١) .

فلم يحفل مسلم بأكاذيب ابن الأشعث ، وراح يقاتلهم أعنف القتال وأشدّه ، ففرّوا منهزمين من بين يديه ، وهو يحصد رؤوسهم ، وجعلوا يرمونه بالحجارة ، فأنكر عليهم مسلم ذلك وصاح بهم : ويلكم ! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفّار وأنا من أهل بيت الأبرار ، ويلكم ! أما ترعون حقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذرّيّته .

إنّ هؤلاء الأجلاف قد فقدوا جميع القيم والأعراف ، فلم يرعوا أيّة حرمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حرّرهم من حياة التيه في الصحراء ، وأقام لهم حضارة لم تعهدها الاُمم والشعوب ، فكان جزاؤه منهم أن عدوا على أبنائه وذرّيّته فأوسعوهم قتلاً وتنكيلاً .

وعلى أي حال ، فإنّ جيوش ابن زياد لم تستطع مقاومة البطل العظيم وبان عليهم الانكسار ، وضاق بابن الأشعث أمره ، فدنا من مسلم ورفع عقيرته قائلاً : يا بن عقيل ، لا تقتل نفسك ، أنت آمن ، ودمك في عنقي .

ولم يعن مسلم بأمان ابن الأشعث لعلمه أنّه من اُسرة خبيثة لا تعرف أي معنى من معاني النبل والوفاء ، فردّ عليه قائلاً : يا بن الأشعث ، لا اُعطي بيدي أبداً ، وأنا أقدر على القتال ، والله لا كان ذلك أبداً .

وحمل عليه مسلم ففرّ الجبان منهزماً يلهث كالكلب ، وأخذ العطش القاسي من مسلم مأخذاً عظيماً ، فجعل يقول : اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي .

وتكاثرت الجنود على مسلم ، وقد استولى عليهم الرعب والخوف ، وصاح بهم ابن الأشعث : إنّ هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع ، احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة .

__________________________

(١) الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٣ .


فحمل الأوغاد اللئام على مسلم ، وجعلوا يطعنونه برماحهم ، ويضربونه بسيوفهم ، وقد ضربه الوغد بكير بن حمران الأحمري ضربة منكرة على شفته العليا ، وأسرع السيف إلى السفلى ، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض .

أسره عليه‌السلام

وأعيى مسلماً نزيف الدم ، وقد اُثخن بالجراح ، فانهارت قواه ، ولم يتمكّن على المقاومة ، فوقع أسيراً بأيدي أُولئك الأقزام ، وتسابقوا إلى ابن مرجانة يحملون له البشرى بأسرهم للقائد العظيم الذي جاء ليقيم في بلادهم حكم القرآن ، ويحرّرهم من جور الأمويّين وظلمهم ، وطار ابن مرجانة فرحاً ، فقد ظفر بخصمه ، وتمّ له القضاء على الثورة ، وحُمل مسلم أسيراً إلى عبد الأمويّين وعميلهم ، وقد ازدحمت الجماهير التي بايعته وأعطته العهود والمواثيق ببيعته ، إلّا أنّهم خانوا بذلك ، وراحوا يقاتلونه .

وانتهي بمسلم إلى قصر الإمارة ، وقد أخذ العطش منه مأخذاً عظيماً ، فرأى جرّة فيها ماء بارد ، فالتفت إلى من حوله ، فقال لهم : اسقوني من هذا الماء .

فانبرى له اللئيم الدنس عميل الأمويّين مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له : أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم .

ودلّت هذه البادرة وغيرها ممّا صدر من هؤلاء الممسوخين على تجرّدهم من جميع القيم الإنسانيّة .

ومن المؤكّد أنّ هذا هو السمت البارز من أخلاق السفلة الساقطين من قتلة الأنبياء والمصلحين ، وبهر مسلم من هذا الإنسان الممسوخ ، فقال له : مَن أنت ؟

فأجابه الباهلي بأنّه من خدّام السلطة وأذنابها قائلاً : أنا من عرف الحقّ إذ تركته ، ونصح الاُمّة والإمام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي .


أي حقّ عرفه هذا الجلف الجافي ، وهو والأكثريّة الساحقة من المجتمع الذي عاش فيه قد غرقوا في الباطل والمنكر .

إنّ غاية ما يفخر به الوغد تماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو أقذر مخلوق عرفه التاريخ البشري ، وردّ عليه مسلم بمنطقه الفيّاض قائلاً : لاُمّك الثكل ، ما أجفاك وأفظّك ، وأقسى قلبك ، أنت يا بن باهلة أوْلى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي .

وكان عمارة بن عقبة حاضراً فاستحيا من جفوة الباهلي ولؤمه ، فدعا بماء بارد فصبّه في قدح ، وناوله إلى مسلم ، وكلّما أراد أن يشرب امتلأ القدح دماً ، وفعل ذلك ثلاثاً ، فقال : لو كان لي الرزق المقسوم لشربته (١) .

مع ابن مرجانة

وادخل قمر عدنان على ابن مرجانة ، فسلّم على الحاضرين ولم يسلّم عليه ، فأنكر عليه بعض صعاليك الكوفة قائلاً : هل تسلّم على الأمير ؟

فصاح به البطل العظيم محتقراً له ولأميره قائلاً : اسكت لا اُمّ لك ، والله ليس لي بأمير فاُسلّم عليه .

وتميّز الطاغية غيظاً فراح يقول : لا عليك ، سلّمت أم لم تسلّم فإنّك مقتول .

إنّ بضاعة هذا الطاغية هي القتل والدمار ، وهي محالاً تخيف الأحرار أمثال مسلم ممّن صنعوا تاريخ هذه الاُمّة ، وأقاموا كيانها الحضاري والفكري ، وجرت بين مسلم وبين ابن مرجانة كثير من المحاورات أثبت فيها مسلم صلابته وقوّة عزيمته ، وعدم انهياره أمام الطاغية ، وأثبت بشجاعته أنّه من أفذاذ التاريخ .

__________________________

(١) الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٣ .


إلى الرفيق الأعلى

والتفت العتُلّ الزنيم ابن مرجانة إلى بكير بن حمران الذي ضربه مسلم ، فقال له : خذ مسلماً ، واصعد به إلى أعلى القصر ، واضرب عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك ، واستقبل مسلم الموت بثغر باسم ، فقد بقي رابط الجأش ، قويّ العزيمة ، مطمئنّ النفس ، فصعد به إلى أعلى القصر ، وهو يسبّح الله ويقدّسه ، ويدعو على السفكة المجرمين وأشرف به الجلّاد على موضع الحذّائين فضرب عنقه ، ورمى بجسده ورأسه إلى الأرض ، وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي استشهد دفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ودفاعاً عن كرامة الإنسان وقضاياه المصيريّة ، وهو أوّل شهيد من الاُسره النبويّة يقتل علناً أمام المسلمين ، ولم يهبّوا لانقاذه والدفاع عنه .

إعدام هانئ رضي‌الله‌عنه

وأمر سليل الغدر والخيانة بعد قتل مسلم ، بإعدام الزعيم الكبير ، والعضو البارز في الثورة هانئ بن عروة ، فاُخرج من السجن وهو يصيح أمام اُسرته التي هي كالحشرات قائلاً : وا مذحجاه . . وا عشيرتاه .

ولو كان عند اُسرته صبابة من الغيرة والحميّة لهبّت لإنقاذ زعيمها العظيم الذي كان لها كالأب ، والذي قدّم لها جميع الخدمات ، ولكنّها كبقيّة قبائل الكوفة قد طلّقت المعروف ثلاثاً ، ولا عهد لها بالشرف والكرامة .

وجيء بهانئ إلى ساحة يباع فيها الأغنام ، فنفّذ الجلّادون فيه حكم الإعدام ، فهوى إلى الأرض يتخبّط بدم الشهادة . . لقد استشهد هانئ دون مبادئه وعقيدته ، وقد انطوت بشهادته أروع صفحة من صفحات البطولة والجهاد في الإسلام .


السحل في الشوارع

وقام عملاء ابن زياد وعبيدة من الانتهازيّين والغوغاء فسحلوا جثّة مسلم وهانئ في الشوارع والأزقّة ، وذلك لإخافة العامّة وشيوع الارهاب بين الناس ، والاستهانة بشيعة مسلم وأنصاره ، وقد انتهت بذلك الثورة العملاقة التي كانت تهدف إلى إشاعة العدل والأمن والرخاء بين الناس ، وقد خلد الكوفيّون بعد فشل الثورة إلى الذلّ والعبوديّة ، وأمعن الطاغية في ظلمهم فأعلن الأحكام العرفيّة في بلادهم ، وأخذ يقتل على الظنّة والتهمة ، ويأخذ البريء بالمذنب ، كما فعل أبوه زياد من قبل ، وقد ساقهم كالأغنام لأفظع جريمة عرفها التاريخ البشري وهي حربهم لحفيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الحسين عليه‌السلام .


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0147.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg




وغادر الإمام الحسين عليه‌السلام مكّة ولم يمكث فيها ، فقد علم أنّ الطاغية يزيد قد دسّ عصابة من الارهابيّين لاغتياله ، وإن كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فخاف أن يراق دمه في البيت الحرام ، وفي الشهر الحرام .

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ سفيره مسلم بن عقيل قد كتب إليه يحثّه على القدوم إلى الكوفة ، وأنّ أهلها يترقّبون قدومه ، ويفدونه بأرواحهم ودمائهم ، ويقدّمون له الدعم الكامل لتشكيل حكومة علويّة في بلادهم .

وسار الإمام مع عائلته تحفّ بها الكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهم‌السلام الذين يمثّلون القوّة والعزم والإباء ، وعلى رأسهم سيّدنا أبو الفضل عليه‌السلام ، فكانت رايته ترفرف على رأس أخيه أبي الأحرار من مكّة المكرّمة إلى أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وكان يراقب بدقّة حركة القافلة وسيرها خوفاً على عيال أخيه وأطفاله من أن يصيبهم عناء أو أذى من وعورة الطريق ، وقد تكفّل جميع شؤونهم وما يحتاجون إليه ، وقد وجدوا في رعايته وحنانه من البرّ ما يفوق حدّ الوصف .

وواصل الإمام سيرته الخالدة ، وقد طافت به هواجس مريرة ، فقد أيقن أنّه سيلاقي مصرعه ، ومصارع أهل بيته على أيدي هؤلاء الذين كاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، وقد تشرّف بمقابلته في الطريق الشاعر الكبير الفرزدق همام بن غالب ، فسلّم عليه وحيّاه ، وقال له : بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أعجلك عن الحجّ ؟


فأحاطه الإمام علماً بما عزمت عليه السلطة من اغتياله قائلاً : لَوْ لَمْ أَعْجَلْ لَأُخِذْتُ (١) .

وسارع الإمام قائلاً : مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يا أَبا فِرَاسٍ ؟

ـ من الكوفة .

أَخْبِرْنِي عَنِ النَّاسِ خَلْفَكَ ؟

كشف الفرزدق للإمام بوعي وصدق الحالة الراهنة في الكوفة ، وأنّها لا تبشّر بخير ، ولا تدعو إلى التفاؤل قائلاً : على الخبير سقطت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني اُميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء . . وربّنا كلّ يوم هو في شأن .

واستصوب الإمام حديث الفرزدق ، وأخبره عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وأنّه ماضٍ قدماً في جهاده ، وذبّه عن حرمة الإسلام ، فإن نال ما يرومه فذاك ، وإلّا فالشهادة في سبيل الله قائلاً له :

« صَدَقْتَ ، لِلهِ الْأَمرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ، يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ، وكُلُّ يَوْمٍ رَبُّنا فِي شَأْنٍ ، إِنْ نَزَلَ القَضاءُ بِما نُحِبُّ فَنَحْمَدُ اللهَ عَلَىٰ نَعْمائِهِ ، وَهُوَ الْمُستَعانُ عَلَىٰ أَدَاءِ الشُّكْرِ ، وَإنْ حالَ القَضاءُ دُونَ الرَّجاءِ فَلَمْ يَتَعَدَّ مَنْ كانَ الْحَقُّ نِيَّتَهُ وَالتَّقْوَىٰ سَرِيرَتَهُ » (٢) .

وأنشأ الإمام هذه الأبيات :

لَئِنْ كانَتِ الدُّنْيا تُعَدُّ نَفِيسَةً

فَإِنَّ ثَوَابَ اللهِ أَعْلَىٰ وأنبَلُ

وَإِنْ كانَتْ الأَبْدانُ لِلمَوْتِ أُنشِئَتْ

فَقَتلُ امرئٍ بِالسَّيفِ فِي اللهِ أَفضَلُ

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٦٧ . البداية والنهاية : ٨ : ١٦٩ .

(٢) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٢٩٠ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٦ . البداية والنهاية : ٨ : ١٦٨ . الصواعق المحرقة : ١٩٦ .


وَإِنْ كانَتِ الأَرزَاقُ قِسْماً مُقَدَّراً

فَقِلَّةُ حِرصِ المَرءِ فِي الرِّزْقِ أَجْمَلُ

وَإِنْ كانَتِ الأَموالُ لِلتَّركِ جَمْعُها

فَما بالُ مَترُوكٍ بِهِ المَرءُ يَبخَلُ (١)

ودلّ هذا الشعر على زهده في الدنيا ، ورغبته الملحّة في لقاء الله تعالى ، وأنّه مصمّم أشدّ ما يكون التصميم على الجهاد والشهادة في سبيل الله .

إنّ التقاء الإمام مع الفرزدق كشف عن خنوع الناس ، وعدم اندفاعهم لنصرة الحقّ ، فالفرزدق الذي كان يملك وعياً اجتماعيّاً ، ووعياً ثقافيّاً متميّزاً رأى ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ماضٍ في طريقه إلى الشهادة ، قد تظافرت قوى الباطل على حربه ، فلم يندفع إلى نصرته والالتحاق بموكبه ، واختار الحياة على الشهادة ، فإذا كان هذا حال الفرزدق فكيف بغيره من جهّال الناس وسوادهم .

وصول النبأ بمقتل مسلم عليه‌السلام

وسارت قافلة أبي الأحرار تطوي البيداء لا تلوي على شيء حتّى انتهت إلى ( زرود ) (٢) ، وإذا برجل قد أقبل من جهة الكوفة ، فلمّا رأى الإمام الحسين عليه‌السلام عدل عن الطريق وقد وقف الإمام يريد مسألته ، فلمّا رآه قد مال عنه واصل سيره ، وكان مع الإمام عبد الله بن سليمان ، والمنذر بن المشمعل الأسديّان ، فسارعا نحو الرجل حينما عرفا رغبة الإمام في سؤاله ، فأدركاه وسألاه عن خبر الكوفة ، فقال لهما : إنّه لم يخرج حتّى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ورآهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق ، فودّعاه وأقبلا مسرعين حتّى التحقا بالإمام ، فلمّا نزل

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ٧٢ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي :١ : ٢٢٣ . وسيلة المآل : ١٨٨ . الصراط السوي في مناقب آل النبيّ : ٨٦ .

(٢) زَرُودُ : لعلها سميت بذلك لابتلاعها المياه التي تمطرها السحاب ؛ لأنّها رمال بين الثعلبية والخُزَيمية بطريق الحاج من الكوفة . معجم البلدان : ٣ : ١٥٦ .


الثعلبيّة (١) قالا له : رحمك الله ، إنّ عندنا أخباراً ان شئت حدّثناك بها علانية ، وإن شئت سرّاً .

ونظر الإمام إلى أصحابه الممجّدين ، فقال : ما دُونَ هَؤُلَاءِ سِرٌّ .

ـ أرأيت الراكب الذي استقبلته عشاء أمس ؟

ـ نَعَم ، وقَدْ أَرَدْتُ مَسأَلَتَهُ .

ـ قد والله استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي ، وصدق وعقل ، وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم ، وهانئ ورآهما يُجرّان في السوق بأرجلهما (٢) .

وتصدّعت قلوب العلويّين وشيعتهم من هذا النبأ المفجع ، وانفجروا بالبكاء واللوعة ، حتّى ارتجّ الموضع بالبكاء ، وسالت الدموع كالسيل (٣) ، وشاركت السيّدات من أهل البيت بالبكاء ، وقد استبان لهم غدر أهل الكوفة ونكثهم لبيعة الإمام ، وأنّهم سيلاقون المصير الذي لاقاه مسلم ، والتفت إلى بني عقيل ، فقال لهم : ما تَرَوْنَ ، فَقَدْ قُتِلَ مُسْلِمٌ ؟

ووثبت الفتية ، وهي تعلن استهانتها بالموت ، وسخريّتها من الحياة ، مصمّمة على المنهج الذي سار عليه مسلم قائلين : لا والله لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم .

وراح أبو الأحرار يقول بمقالتهم : لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هٰؤُلاءِ (٤) .

__________________________

(١) الثعلبية : من منازل طريق مكّة من الكوفة بعد الشقوق وقبل الخزيمية ، وهي ثلثا الطريق . معجم البلدان : ٢ : ٩١ .

(٢) الإرشاد : ٢ : ٧٤ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ .

(٣) الدرّ المسلوك : ١ : ١١١ .

(٤) الإرشاد : ٢ : ٧٥ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٠ .


وقال متمثّلاً :

سَأَمْضِي وَمَا بِالمَوتِ عَارٌ عَلَى الفَتَى

إذَا مَا نَوَىٰ حَقّاً وَجَاهَدَ مُسْلِمَا

وَآسىٰ الرِّجالَ الصّالِحينَ بِنَفْسِهِ

وَفارَقَ مَثبُوراً وَخالَفَ مُجْرِما

فَإِنْ عِشْتُ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ مُتُّ لَمْ أُلَمْ

كَفَىٰ بِكَ عَاراً أَنْ تَذِلَّ وتُرْغَمَا (١)

لقد مضيت يا أبا الأحرار قدماً إلى الموت بعزم وتصميم ، وأنت مرفوع الرأس ، ناصع الجبين في سبيل كرامتك ، ولم تخضع ولم تلن لاُولئك الأقزام الذين غرقوا في الرذائل والموبقات .

النبأ المفجع بشهادة عبد الله

وسار موكب الإمام لا يلوي على شيء حتّى انتهى إلى ( زبالة ) (٢) ، فوافاه النبأ الفظيع بشهادة عبد الله بن يقطر ، الذي أوفده للقيا مسلم بن عقيل ، فقد ألقت الشرطة القبض عليه ، وبعثته مخفوراً إلى ابن مرجانة .

فلمّا مثل عنده صاح به الخبيث الدنس : اصعد المنبر ، والعن الكذّاب ـ يعني الإمام الحسين عليه‌السلام ـ ابن الكذّاب ، حتّى أرى رأيي فيك (٣) .

وظنّ ابن مرجانة أنّه على غرار شرطته ، ومن سنخ جلّاديه الذين باعوا ضمائرهم عليه ، وما درى أنّه من أفذاذ الأحرار الذين تربّوا في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، وسجّلوا الفخر والشرف لهذه الاُمّة .

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٨٠ ـ ٨١ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٢ و ٣٨٣ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٥ . الفتوح : ٥ : ٧٩ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٠ و ٢٨١ . الدرّ النظيم : ٥٤٩ .

(٢) زُباله ـ بضمّ أوّله ـ : وهو منزل معروف بطريق مكة من الكوفة ، وهي قرية عامرة لها أسواق بين واقصة والثعلبية . معجم البلدان : ٣ : ١٤٥ .

(٣) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٣ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٨ .


واعتلى البطل العظيم أعواد المنبر ، ورفع صوته صوت الحقّ الهادر قائلاً : أيّها الناس أنا رسول الحسين بن فاطمة ، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعي .

واسترسل في خطابه الثوري ، وقد دعا فيه إلى نصرة ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والذبّ عنه ، ومناهضة الحكم الأموي الذي عمد إلى إذلال الإنسان المسلم ، وسلب حريّته وإرادته ، وانتفخت أوداج ابن مرجانة ، وورم أنفه ، فأمر بإلقاء هذا العملاق من أعلى القصر ، فأخذته الشرطة ورمته من أعلى القصر فتكسّرت عظامه ، وبقي به رمق من الحياة ، فأسرع إليه الخبيث عبد الملك اللخمي فذبحه ليتقرّب إلى سيّده ابن مرجانة (١) .

ولمّا علم أبو الأحرار بمصرع عبد الله شقّ عليه ذلك ، ويئس من الحياة ، وعلم أنّه يسير نحو الموت ، وأمر بجمع أصحابه ، والذين اتّبعوه طلباً للعافية لا للحقّ ، ليعلمهم بما آل إليه أمره من تخاذل الناس عنه ، وانصرافهم إلى بني اُميّة قائلاً :

بِسْمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيمِ

« أَمّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ قَدْ أَتَانَا خَبَرٌ فَظِيعٌ قُتِلَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ ، وَهَانِئُ بْنُ عُرْوَةَ ، وَعَبدُ اللهِ بْنُ يَقْطُرٍ ، وَقَدْ خَذَلَنا شِيعَتُنا ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ الْإِنْصِرَافَ فَلْيَنْصَرِفْ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ عَلَيْهِ وَلَا ذِمامٌ » (٢) .

وتفرّق ذوو الأطماع الذين اتّبعوه من أجل الغنيمة والظفر ببعض مناصب الدولة ، وخلص إليه الصفوة الكريمة من أصحابه الممجّدين الذين اتّبعوه على بصيرة من أمرهم وليست عندهم أيّة أطماع .

لقد صارح الإمام أصحابه بالواقع في تلك المرحلة الحاسمة ، فأعلمهم أنّه ماضٍ

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٧١ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٧٩ . تاريخ الاُمم والملوك ٤ : ٣٠١ .

(٢) الإرشاد : ٢ : ٧٥ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠١ .


إلى الشهادة لا إلى الملك والسلطان ، وأنّ من يلتحق به سيفوز برضا الله ، ولو كان الإمام من عشّاق السلطة لما أدلى بذلك ، وكتم الأمر لأنّه في أمسّ الحاجة إلى الناصر والمحامي عنه .

لقد كان الإمام عليه‌السلام ينصح أصحابه وأهل بيته بالتخلّي عنه في كلّ موقف ، والسبب في ذلك أن يكونوا على بصيرة من أمرهم ، ولا يدّعي أحد منهم أنّه كان على غير علم بالأمر .

الالتقاء بالحرّ

وسار موكب الإمام يطوي البيداء حتّى انتهى إلى ( شراف ) (١) وفيها عين ماء ، فأمر الإمام فتيانه بالاستقاء والاكثار منها ، ففعلوا ذلك ، وسارت القافلة ، فانبرى بعض أصحاب الإمام بالتكبير ، فاستغرب الإمام منه ، وقال له : اللهُ أَكْبَرُ ، لِمَ كَبَّرْتَ ؟!

ـ رأيت النخل .

وأنكر عليه رجل من أصحاب الإمام ممّن عرف الطريق ، فقال له : ليس هاهنا نخل ، ولكنّها أسنة الرماح ، وآذان الخيل .

وتأملها الإمام فطفق يقول : وَأَنا أَرَىٰ ذَلِكَ ، أي أسنّة الرماح وآذان الخيل ، وعرف الإمام أنّها طلائع الجيش الأموي جاءت لحربه ، فقال لأصحابه : أَما لَنا مَلْجَأٌ نَلْجَأُ إِلَيْهِ فَنَجْعَلُهُ فِي ظُهُورِنا ، ونَستَقْبِلُ القَوْمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ؟

وكان بعض أصحابه عارفاً بسنن الطريق ، فقال له : بلى هذا ( ذو حُسَم ) (٢) إلى

__________________________

(١) شَرَاف ـ بفتح أوّله ـ : ماء بنجد بين واقصة والقرعاء . معجم البلدان : ٣ : ٣٧٥ .

(٢) حُسَم ـ بضمّ الحاء وفتح السين ـ : اسم موضع ، وقد ذكره لبيد في شعره :

لِيَبْكِ عَلَى النُّعْمَانِ شَرْبٌ وَقَينَةٌ

وَمُخْبِطَاتٌ كَالسَّعَالِي أَرَامِلُ

بِذِي حُسَمٍ قَدْ عُرِّيَتْ وَيَزِينُها

دِمَاثُ فُلَيجٍ رَهْوها وَالمَحَافِلُ

=


جنبك ، تميل إليه عن يسارك ، فان سبقت إليه فهو كما تريد (١) .

ومال موكب الإمام إليه ، فلم يبعد كثيراً حتّى أدركه جيش مكثّف بقيادة الحرّ ابن يزيد الرياحي ، قد عهد إليه ابن مرجانة أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الإمام وإلقاء القبض عليه ، وكان عدد ذلك الجيش فيما يقول المؤرّخون زهاء ألف فارس ، ووقفوا قبال الإمام في وقت الظهر ، وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة الظمأ ، فرقّ عليهم الإمام ، فأمر أصحابه أن يسقوهم الماء ، ويرشفوا خيولهم ، وسارع أصحابه فسقوا الجيش المعادي لهم عن آخره ، ثمّ انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملأون القصاص والطساس ، فإذا عبّ الفرس فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت ، وسقى الآخر حتّى سقوها عن آخرها (٢) .

لقد تكرّم الإمام عليه‌السلام على أُولئك الوحوش الأنذال الذين جاءوا لحربه فأنقذهم من الظمأ القاتل ، ولم تهزّهم هذه الأريحيّة وهذا النبل ، فقابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عنه ، وعن أطفاله ، حتى تفتّت قلوبهم من الظمأ .

خطاب الامام عليه‌السلام في الجيش

وخطب الإمام عليه‌السلام خطاباً بليغاً في قطعات ذلك الجيش ، فأوضح لهم أنّه لم يأتهم محارباً ، وإنّما جاءهم محرّراً ومنقذاً لهم من جور الأمويّين وظلمهم ، وقد توافدت عليه وفودهم وكتبهم تحثّه بالقدوم لمصرهم ليقيم دولة القرآن والإسلام ، وهذه فقرات من خطابه الشريف :

__________________________

= معجم البلدان : ٢ : ٢٥٨ . وفي بعض المصادر : ( ذو جشم ) ، ( ذو حُسمَىٰ ) .

(١) الإرشاد : ٢ : ٧٦ و ٧٧ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٠ .

(٢) الإرشاد : ٢ : ٧٧ و ٧٨ . الأخبار الطوال : ٢٤٨ ـ ٢٤٩ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٣ . الخطط المقريزية : ١ : ٤٢٩ .


أَيُّها النّاسُ ، إِنَّها مَعْذِرَةٌ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَيْكُمْ ، إِنِّي لَمْ آتِكُمْ حَتَّى أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ ، وَقَدِمَتْ بِها عَلَيَّ رُسُلُكُمْ أَنْ أقْدِمْ عَلَيْنا فَإِنَّهُ لَيْسَ لَنَا إِمَامٌ ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْمَعَنا بِكَ عَلَى الهُدَىٰ ، فَإِنْ كُنْتُمْ عَلَىٰ ذَلِكَ فَقَدْ جِئْتُكُمْ ، فَإِنْ تُعْطُونِي مَا أَطْمَئِنَّ بِهِ مِنْ عُهُودِكُمْ وِمِواثِيقِكُمْ أَقْدِمُ مِصْرَكُمْ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وكُنْتُمْ لِمَقْدَمِي كارِهِينَ انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ إِلَى الْمَكانِ الَّذِي أَقْبَلْتُ مِنْهُ إِلَيكُمْ .

وأحجموا عن الجواب لأنّ أكثرهم ممّن كاتبوه وبايعوه على يد سفيره العظيم مسلم بن عقيل .

وحضر وقت صلاة الظهر ، فأمر الإمام مؤذّنه الحجّاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم للصلاة ، وبعد فراغه منها التفت الإمام إلى الحرّ ، فقال له : أَتُرِيدُ أَنْ تُصَلِّيَ بِأَصْحابِكَ ؟

فقال الحرّ بأدب : « بلى نصلّي بصلاتك .

وائتمّ الجيش بريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعد الفراغ من الصلاة انصرفوا إلى أخبيتهم ، ولمّا حضر وقت صلاة العصر جاء الحرّ مع قومه فاقتدوا بالإمام في الصلاة ، وبعد الانتهاء منها خطب الإمام الحسين عليه‌السلام خطاباً رائعاً ، فقد قال ـ بعد حمد الله والثناء عليه ـ :

أَمّا بَعْدُ أَيُّها النَاسُ ، إِنَّكُمْ إِنْ تَتَّقُوا اللهَ ، وَتَعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ يَكُنْ أَرْضَىٰ للهِ عَنْكُمْ ، ونَحنُ أَهْلُ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَأَوْلىٰ بِوِلَايَةِ هٰذَا الْأَمْرِ عَلَيْكُمْ مِنْ هٰؤُلَاءِ الْمُدَّعينَ ما لَيْسَ لَهُمْ ، وَالسّائِرينَ فِيكُمْ بِالْجَوْرِ وَالْعُدْوانِ ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا كَراهِيَةً لَنا ، وَالْجَهْلَ بِحَقِّنا ، فَكانَ رَأْيُكُمُ الْآنَ عَلَىٰ غَيرِ ما أَتَتْنِي بِهِ كُتُبُكُمْ ، وَقَدِمَتْ بِهِ عَلَىَّ رُسُلُكُمُ انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ (١) .

لقد دعاهم إلى تقوى الله ، ومعرفة أهل الحقّ ، ودعاة العدل فإنّ في ذلك رضاً لله

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٧٩ و ٨٠ . اللهوف : ٤٧ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٤ . الفتوح : ٥ : ٧٨ .


ونجاة لأنفسهم ، كما دعاهم إلى مناصرة أهل البيت عليهم‌السلام روّاد الشرف والفضيلة ، ودعاة العدل الاجتماعي في الإسلام ، وهم أوْلى وأحقّ بولاية اُمور المسلمين من بني اُميّة الذين حكموا فيهم بغير ما أنزل الله ، وإذا لم يستجيبوا لذلك ، وتبدّلت نيّاتهم ، فإنّه ينصرف عنهم إلى المكان الذي جاء منه .

وانبرى إليه الحرّ ، وكان لا يعلم بشأن الكتب التي بعثتها جماهير أهل الكوفة إلى الإمام ، فقال له : ما هذه الكتب التي تذكرها ؟

فأمر الإمام عقبة بن سمعان بإحضارها ، فأخرج خرجين مملوئين صحفاً ، فنشرها بين يدي الحرّ ، فبهر منها ، وجعل يتأمّل فيها ، وقال للإمام : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك .

ورام الإمام أن ينصرف إلى المكان الذي جاء منه ، فمنعه الحرّ ، وقال له : إنّي لا اُفارقك إذا لقيتك حتّى اُقدمك الكوفة على ابن زياد .

ولذعت الإمام هذه الكلمات القاسية ، فثار في وجه الحرّ ، وصاح به : الْمَوْتُ أَدْنَى إِلَيْكَ مِن ذَلِكَ .

وأمر الإمام أصحابه بالركوب ، فلمّا استووا على رواحلهم أمرهم بالتوجّه إلى يثرب ، فحال الحرّ بينهم وبين ذلك ، فصاح به الحسين : ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ ما تُرِيدُ ؟

وأطرق الحرّ برأسه إلى الأرض وتأمّل ، ثمّ رفع رأسه إلى الامام وقال له بأدب : ولكن والله ما لي إلى ذكر اُمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يقدر عليه .

وسكن غضب الإمام ، وأعاد عليه القول : ما تُرِيدُ مِنَّا ؟

ـ اُريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد .

ـ وَاللهِ لَا أَتَّبِعُكَ .

ـ إذن والله لا أدعك .


إنّي لم اُؤمر بقتالك ، وإنّما اُمرت أن لا اُفارقك حتّى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ، ولا يردّك إلى المدينة حتّى أكتب إلى ابن زياد ، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بأمرك (١) .

واتّفقا على هذا الأمر ، فتياسر الإمام عن طريق العذيب والقادسيّة ، وأخذت قافلة الإمام تطوي البيداء ، وكان الحرّ مع جيشه يتابع الإمام عن كثب ويراقبه أشدّ ما تكون المراقبة .

خطاب الإمام عليه‌السلام

وانتهى موكب الإمام إلى ( البيضة ) (٢) فألقى الإمام خطاباً رائعاً على الحرّ وأصحابه أعلن فيه عن دوافع ثورته ودعاهم إلى مناصرته ، وكان من بنود هذا الخطاب هذه الفقرات :

أَيُّها النَاسُ ، إِنَّ رَسولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله قالَ : مَنْ رَأَىٰ سُلْطاناً جَائِراً مُسْتَحِلّاً لِحُرَمِ اللهِ ، ناكِثاً لعَهْدِ اللهِ ، مُخالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ كانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ .

أَلَا وَإِنَّ هٰؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طاعَةَ الشَّيْطانِ وتَرَكُوا طاعَةَ الرَّحْمٰنِ ، وَأَظْهَرُوا الْفَسادَ ، وعَطَّلُوا الْحُدُودَ ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ ، وَأَحَلُّوا حَرامَ اللهِ ، وحَرَّمُوا حَلَالَهُ ، وَأَنا أَحَقُّ مِمَّنْ غَيَّرَ (٣) ، وَقَدْ أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ ، وَقَدِمَتْ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ أَنَّكُمْ لَا تُسْلِمُونِي ،

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٨٠ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٠ و ٣٨١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٤ . الفتوح : ٥ : ٧٨ ـ ٧٩ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٠ و ٢٨١ .

(٢) البيضة : ـ بكسر الباء ـ : موضع بين العذيب وواقصة في أرض الحزن من ديار بني يربوع ابن حنظلة . معجم البلدان : ١ : ٦٣١ ـ ٦٣٢ .

(٣) وفي الفتوح : ٥ : ٨١ : « وَأَنَا أَحَقُّ مِن غَيْرِي بِهٰذَا الْأَمْرِ ؛ لِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله » .


وَلَا تَخْذُلُونِي ، فَإِنْ أَقَمْتُمْ عَلَىٰ بَيْعَتِكُمْ تُصيبُوا رُشْدَكُمْ وَأَنا الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نَفْسِي مَعَ أَنْفُسِكُمْ وَأَهْلِي مَعَ أَهْلِيكُمْ ، فَلَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ ، وَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا ، وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي ، فَلَعَمْرِي ما هِيَ لَكُمْ بِنُكْرٍ ، لَقَدْ فَعَلْتُمُوها بِأَبِي وَأَخِي وَابْنِ عَمِّي مُسْلِمٍ ، فَالْمَغْرُورُ مَن اغْتَرَّ بِكُمْ ، فَحَظُّكُمْ أَخْطَأْتُمْ ، وَنَصِيبُكُمْ ضَيَّعْتُمْ ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ، وَسَيُغْنِي اللهُ عَنْكُمْ ، وَالسَّلامُ (١) .

وأعلن أبو الأحرار في هذا الخطاب الرائع دوافع ثورته المقدّسة على حكومة يزيد ، وأنّها لم تكن من أجل المطامع والأغراض الشخصيّة الخاصّة ، وإنّما كانت استجابة للواجب الديني الذي لا يقرّ بأي حال من الأحوال حكومة السلطان الجائر الذي يستحلّ حرمات الله ، وينكث عهده ، ويخالف سنّة رسوله ، وإنّ من لم يندفع إلى ساحات الجهاد لمناهضته فإنّه يكون شريكاً له في ظلمه وجوره .

كما ندّد عليه‌السلام بالأمويّين وقد نعتهم بأنّهم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، واستأثروا بالفيء ، وعطّلوا حدود الله ، والإمام عليه‌السلام أحقّ وأوْلى من غيره بتغيير الأوضاع الراهنة وإعادة الحياة الإسلاميّة المشرقة إلى مجراها الطبيعي بين المسلمين .

وأعرب لهم أنّه إذا تقلّد شؤون الحكم فسيجعل نفسه مع أنفسهم ، وأهله مع أهليهم من دون أن يكون له أي امتياز عليهم ، وقد وضع الإمام بهذا الخطاب النقاط على الحروف ، وفتح لهم منافذ النور لو كانوا يبصرون .

ولمّا أنهى الإمام خطابه قام إليه الحرّ ، فقال له : إنّي اُذكّرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ .

وردّ عليه أبو الشهداء قائلاً : أَفَبِالْمَوتِ تُخَوِّفُنِي ؟! وَهَلْ يَعدُو بِكُمُ الْخَطْبُ أَنْ

__________________________

(١) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٤ و ٣٠٥ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٠ .


تَقْتُلُونِي وَسَأَقُولُ كَما قالَ أَخُو الْأَوْسِ لِابْنِ عَمِّهِ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْرَةَ رَسُولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فَخَوَّفَهُ ابْنُ عَمِّهِ وَقالَ : أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ فَإِنَّكَ مَقْتُولٌ ، فَقَالَ :

سَأَمْضِي وَمَا بِالمَوتِ عَارٌ عَلَى الفَتَى

إذَا مَا نَوَىٰ حَقّاً وَجَاهَدَ مُسْلِمَا

وَآسىٰ الرِّجالَ الصَّالِحينَ بِنَفْسِهِ

وَفارَقَ مَثبُوراً وَخالَفَ مُجْرِما

فَإِنْ عِشْتُ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ مُتُّ لَمْ أُلَمْ

كَفَىٰ بِكَ ذُلّاً أَنْ تَعِيشَ وتُرْغَمَا (١)

ولمّا سمع الحرّ ذلك تنحّى عنه ، وعرف أنّه مصمّم على الموت والتضحية لإنقاذ المسلمين من ويلات الأمويّين وجورهم .

رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ

وتابعت قافلة الإمام سيرها في البيداء ، وهي تارة تتيامن ، واُخرى تتياسر ، وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية ، ويدفعونه تجاه الكوفة ، والركب يمتنع عليهم ، وبينما هم كذلك وإذا براكب يجدّ في سيره ، فلبثوا هنيهة ينتظرونه فإذا به رسول من ابن زياد إلى الحرّ ، فسلّم الخبيث على الحرّ ولم يسلّم على ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها :

أمّا بعد : فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلّا بالعراء في غير حصن ولا على غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام .

وأعرض ابن مرجانة عمّا عهد به إلى الحرّ من إلقاء القبض على الإمام ، وإرساله مخفوراً إلى الكوفة ، ومن المحتمل أنّه خاف من تطوّر الأحداث ، وانقلاب الأوضاع عليه إن وصل الإمام إلى الكوفة ، فرأى التحجير في الصحراء بعيداً عن المدن أوْلى

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٨٠ و ٨١ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٢ و ٣٨٣ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٥ . الفتوح : ٥ : ٧٩ . الكامل في التاريخ :٣ : ٢٨٠ و ٢٨١ .


بالوصول إلى أهدافه .

وقرأ الحرّ كتاب ابن مرجانة على الإمام ، وكان يريد أن يستأنف سيره ليحطّ رحله صوب قرية أو ماء ، فامتنع عليه الحرّ لأنّ نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد كانت تتابعه ، وكان يسجّل عليه كلّ بادرة يخالف أوامر سيّده ابن مرجانة ، وأشار زهير بن القين ـ وهو من أعلام أنصار الإمام ، ومن خلّص أصحابه ـ عليه أن يبادر إلى قتال الحرّ ، فامتنع عليه الإمام ، وقال : ما كُنْتُ لِأَبْدَأَهُمْ بِقِتالٍ .

في كربلاء

وكان ركب الإمام في كربلاء ، فأصرّ عليه الحرّ أن ينزل فيها ، ولم يجد الإمام بُدّاً من النزول ، فالتفت إلى أصحابه قائلاً : ما اسْمُ هٰذَا الْمَكانِ ؟

ـ كربلاء .

وفاضت عيناه بالدموع ، وراح يقول : اللّٰهُمَّ إِنَّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَرْبِ وَالْبَلَاءِ (١) .

وأيقن الإمام بنزول الرزء القاصم ، فالتفت إلى أصحابه ينعى إليهم نفسه ونفوسهم

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ٨١ .

وفي تذكرة الخواص : ٢٢٥ : « أنّه لمَا قيل للحسين عليه‌السلام : هذه أرض كربلاء أخذ ترابها فشمّها ، وقال : هَذِهِ وَاللهِ هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا جَبْرَئِيلُ رَسُولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وَإِنَّنِي أُقْتَلُ فِيهَا » .

وجاء في حياة الحيوان / الدميري : ١ : ٨٧ : « أنّ الحسين سأل عن اسم المكان فقيل له : كربلاء ، فقال : ذَاتُ كَرْبٍ وَبَلاءٍ ، لَقَدْ مَرَّ أَبِي بِهٰذَا الْمَكَانِ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَىٰ صِفِّينَ وَأَنَا مَعَهُ ، فَوَقَفَ وَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ بِاسْمِهِ ، فَقَالَ : هَاهُنَا مَحَطُّ رِحَالِهِمْ ، وَهَاهُنَا مُهرَاقُ دِمَائِهِمْ .

فَسُئِلَ عَنْ ذلِكَ .

فَقَالَ : نَفَرٌ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ يَنْزِلُونَ هَاهُنَا » ، ثمّ أمر بأثقاله فحطّت في ذلك المكان . وكذلك جاء في مختصر صفوة الصفوة : ٢٦٢ .


قائلاً : هَذَا مَوْضِعُ كَرْبٍ وَبَلاءٍ ، انْزِلُوا هاهُنا مُناخُ رِكابِنا ، وَمَحَطُّ رِحالِنا ، وَسَفْكُ دِمائِنا (١) .

وسارع أبو الفضل العبّاس مع الفتية من أهل البيت عليهم‌السلام ، وسائر الأصحاب الممجّدين إلى نصب الخيام لعقائل الوحي ، ومخدّرات النبوّة ، وقد خيّم عليهنّ الرعب ، وأيقنّ بمواجهة الأحداث الرهيبة على صعيد هذه الأرض .

ورفع الإمام الممتحن يديه بالدعاء إلى الله شاكياً إليه ما ألمّ به من عظيم المحن والخطوب قائلاً :

« اللّٰهُمَّ إِنَّا عِتْرَةُ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله قَد أُخْرِجْنا وَأُزعِجْنا وَطُرِدْنا عَنْ حَرَمِ جَدِّنا ، وتَعَدَّتْ بَنُو أُمَيَّةَ عَلَيْنا ، اللَّهُمَّ فَخُذْ لَنا بِحَقِّنا وَانْصُرْنا عَلَى القَوْمِ الظَّالِمِينَ .

وأقبل الإمام على أهل بيته وأصحابه ، فقال لهم : النَّاسُ عَبِيْدُ الدُّنيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلىٰ أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ ما دَرَّتْ مَعايِشُهُمْ ، فَإِذا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَانُونَ (٢) .

يا لها من كلمات ذهبيّة حكت واقع الناس واتّجاهاتهم في جميع مراحل التاريخ ، فهم عبيد الدنيا وعبيد السلطة ، وأمّا الدين والمُثل العليا فلا ظلّ لها في أعماق نفوسهم ، فإذا دهمتهم عاصفة أو بلاء هربوا من الدين ، ولم يثبت عليه إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان أمثال الصفوة العظيمة من أهل بيت الحسين وأصحابه .

ثمّ حمد الإمام عليه‌السلام الله وأثنى عليه ، والتفت إلى أصحابه قائلاً :

أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ نَزَلَ بِنَا ما قَدْ تَرَوْنَ ، وَإنَّ الدُّنْيا قَدْ تَغَيَّرَتْ ، وَتَنَكَّرَتْ وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُها ،

__________________________

(١) اللهوف : ٤٩ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ١ : ٢٣٧ . ينابيع المودة : ٣ : ٦٣ .

(٢) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ١ : ٢٣٧ . الفتوح : ٥ : ٩٧ .

وضبط أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري في كتابه ( الصناعين ) كلام الإمام الحسين بهذه الصورة : « النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنيَا ، وَالدِّينُ لَغْوٌ عَلَىٰ أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ بِهِ مَعَايِشُهُمْ ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيانُونَ » .


وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صَبابَةٌ كَصَبابَةِ الْإِناءِ ، وَخَسِيسُ عَيْشٍ كَالْمَرْعَى الْوَبيلِ (١) ، أَلَا تَرَوْنَ إِلى الْحَقِّ لَا يُعْمَلُ بِهِ ، وَإِلَى الْباطِلِ لَا يُتَناهَىٰ عَنْهُ ، لِيَرْغَبَ الْمُؤْمِنُ فِي لِقاءِ اللهِ ، فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلّا سَعادةً وَالْحَياةَ مَعَ الظّالِمِينَ إِلّا بَرَماً (٢) .

لقد أعلن أبو الأحرار بهذا الخطاب عمّا حلّ به من المحن والبلوى ، وأعلم أهل بيته وأصحابه عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة في مقارعة الباطل ، وإقامة الحقّ الذي آمن به في جميع أدوار حياته .

وقد وجّه إليهم هذا الخطاب ليكونوا على بيّنة من أمرهم ، ويشاركوه في تحمّل المسؤوليّة ، وقد هبّوا جميعاً وهم يسجّلون في تاريخ البشريّة أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة دولة الإسلام .

وكان أوّل من تكلّم منهم زهير بن القين ، وهو من أفذاذ الأحرار ، فقال له : سمعنا ـ يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها (٣) .

ومثّلت هذه الكلمات شرف الإنسان الذي لا يضاهيه شرف ، وقد حكى ما في نفوس أصحابه الأحرار من الولاء لريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتفاني في سبيله .

وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام وهو برير (٤) الذي وهب حياته لله ، فقال له :

__________________________

(١) المرعى الوبيل : هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله ، أي سوء عاقبته . لسان العرب : ١٥ : ٢٠٢ ـ وبل .

(٢) المعجم الكبير / الطبراني : ٣ : ١١٤ ـ ١١٥ ، الحديث ٢٨٤٢ . حلية الأولياء : ٢ : ٣٩ . تاريخ مدينة دمشق : ١٤ : ٢١٧ ـ ٢١٨ . تاريخ الإسلام ـ حوادث ٦١ ـ ٨٠ : ١٢ .

(٣) اللهوف : ٤٨ . بحار الأنوار : ٤٤: ٣٨١ . عوالم العلوم : ١٧ : ٢٣٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٥ و ٣٠٦ ، وفيه : « قد سمعنا . . . مخلدين إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا . . . » .

(٤) وفي تاج العروس أثبته يزيد بن خضير ، والأصحّ برير ، كما عليه الأكثر . راجع =


« يا بن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، وتقطّع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة » (١) .

ولا يوجد في البشريّة مثل هذا الإيمان الخالص ، لقد أيقن أن نصرته لابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فضل ومنّة من الله عليه ليفوز بشفاعة جدّه الأعظم يوم يلقى الله .

وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام ، وهو نافع (٢) فأعلن نفس المصير الذي اختاره الأبطال من أصحابه ، فقال : « أنت تعلم أنّ جدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقدر أن يشرب الناس محبته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحب ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلىٰ من العسل ويخلفونه بأمرّ من الحنظل ، حتّىٰ قبضه الله إليه ، وإنّ أباك عليّاً كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا علىٰ نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين حتّىٰ أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه ، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته فلن يضرّ إلّا نفسه ، والله مغنٍ عنه ، فسر بنا راشداً معافىً مشرِّقاً إن شئت وإن شئت مغرِّباً ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربنا ، وإنّا علىٰ نيّاتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك » (٣) .

__________________________

= تاج العروس : ٣ : ١٨٣ .

ذكر علماء السير : أنّ الرجل كان شجاعاً تابعيّاً ناسكاً قارئاً للقرآن ، من شيوخ القرّاء ، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيّين ، وله كتاب القضايا والأحكام يرويه عن أمير المؤمنين وعن الحسن عليهما‌السلام ، وكتابه من الاُصول المعتبرة عند الأصحاب . تنقيح المقال / المامقاني : ١ : ١٦٧ .

(١) اللهوف : ٤٨ . بحار الأنوار : ٤٤: ٣٨١ : ٣٨٣ . عوالم العلوم : ١٧ : ٢٣٢ .

(٢) وهو نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة المذحجي الجملي . إبصار العين : ١١٤ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٤ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ . عوالم العلوم : ١٧ : ٢٣٣ .


دلّ هذا الخطاب الرائع على وعي نافع ، وإدراكه العميق للأحداث ، ودراسته لأبعادها ، فقد أعرب أنّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بما يملك من طاقات روحيّة لم يستطع أن يجمع الناس على محبّته ، ويخضعهم إلى الإيمان برسالته ، فقد كان هناك طائفة من المنافقين انتشروا في صفوف المسلمين ، وهم يضمرون الكفر في دخائل نفوسهم ، ويظهرون الإسلام على ألسنتهم ، وكانوا يبغون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الغوائل ، ويكيدون له في غلس الليل وفي وضح النهار ، فقد ابتلي بمثل ما ابتلي به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد آمن به قوم وحاربه قوم آخرون ، وحال الإمام الحسين عليه‌السلام كحال أبيه جدّه صلوات الله عليهم ، فقد آمنت به قلّة مؤمنة من أصحابه ، وزحفت لحربه الجموع الهائلة من الذين نزع الله الإيمان من قلوبهم .

وعلى أي حال فقد تكلّم أكثر أصحاب الإمام بمثل كلام نافع ، وهم يعلنون له الإخلاص والتفاني ، وقد شكرهم الإمام ، وأثنى عليهم ، ودعا لهم بالمغفرة والرضوان .

خروج الجيوش لحرب الحسين عليه‌السلام

وتمّت أحلام ابن مرجانة ، وتحقّقت آماله حينما استولت طليعة جيوشه على ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذ يطيل النظر فيمن ينتدبه لحربه ، ويرشّحه لقيادة قوّاته المسلّحة ، وتصفّح الأرجاس من أذنابه وعملائه ، فلم يرَ رجساً مثل عمر بن سعد يقدم على اقتراف هذه الجريمة ، فقد درس نفسيّته ، ووقف على ميوله واتّجاهاته التي منها الخنوع والمروق من الدين ، وعدم المبالاة بارتكاب الآثام والجرائم ، والتهالك على المادّة ، وغير ذلك من نزعاته الشريرة .

وعرض ابن مرجانة سليل الأدعياء على ابن سعد القيام بحرب سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فامتنع عن إجابته ، فهدّده بعزله عن ولاية الريّ ، فلم يطق صبراً عنها ، فقد سال لها لعابه ، فأجابه إلى ذلك وزحف إلى كربلاء ومعه أربعة آلاف فارس ،


وهو يعلم أنّه خرج لقتال ذرّيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين هم خيرة مَن في الأرض ، وانتهى الجيش إلى كربلاء فانضمّ إلى الجيش الرابض هناك بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي .

خطبة ابن زياد

وأمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الأعظم ، فهرعوا كالأغنام خوفاً من ابن مرجانة ، وقد امتلأ الجامع منهم ، فقام خطيباً ، فقال : أيّها الناس ، إنّكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد ، قد عرفتموه حَسَن السيرة محمود الطريقة محسناً إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السبل علىٰ عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد من بعده يكرم العباد ، ويغنيهم بالأموال ويكرمهم ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أُوفرها عليكم ، وأُخرجكم إلى حرب عدوه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا (١) .

لقد خاطبهم باللغة التي يفهمونها ويتهالكون عليها ، ويقدّمون أرواحهم بسخاء في سبيلها ، وهي المادّة التي هاموا بحبّها ، وقد أجابوه إلى ما أراد فزجّهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشريّة .

وأسند القيادة في بعض قطعات جيشه إلى كلّ من الحصين بن نمير ، وحجّار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وغيرهم ، وقد زحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد .

احتلال الفرات

وقامت العصابة المجرمة التي تحمل شرور أهل الأرض وخبثهم باحتلال الفرات ، ولم تبق شريعة أو منفذ إلّا وقد وضع عليها الحرس ، وقد صدرت إليهم

__________________________

(١) بحار الأنوار : ٤٤ : ٣٨٥ . الفتوح : ٥ : ٨٩ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٦ و ٣٨٧ .


الأوامر المشدّدة من قِبل القيادة العامّة بالحذر واليقظة كي لا تصل قطرة من الماء إلى عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين هم من خيرة ما خلق الله .

ويقول المؤرّخون : حيل بين الحسين والماء قبل قتله بثلاثة أيّام (١) ، وكان ذلك من أعظم ما عاناه الإمام من المحن والخطوب ، فكان يسمع صراخ أطفاله وهم ينادون : العطش . . العطش ، وذاب قلب الإمام حناناً ورحمة لذلك المشهد الرهيب ، فقد ذبلت شفاه أطفاله ، وذَوِيَ عودهم ، وجفّ لبن المراضع .

وصوّر أنور الجندي هذا المنظر المفجع بقوله :

وَذِئابُ الشُّرُورِ تَنْعَمُ بِالماءِ

وَأَهْـلُ النَّبيِّ مِنْ غَيْرِ ماءِ

يا لِظُلْمِ الأَقْدَارِ يَظْمَأُ قَلْبُ اللَّيْثِ

وَاللَّيْثُ مُوثَّقُ الأَعْضاءِ

وَصِغارُ الحُسَيْنِ يَبكُونَ فِي الصَّحْراءِ

يا رَبِّ أَيْنَ غَوْثُ القَضاءِ

لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم ، فتنكّروا لإنسانيّتهم ، وتنكّروا لجميع القيم والأعراف ، فإنّ جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن النساء والأطفال ، فالناس فيه جميعاً شركاء ، وقد أكّدت ذلك الشريعة الإسلاميّة ، واعتبرته حقّاً طبيعيّاً لكلّ إنسان ، ولكنّ الجيش الأموي لم يحفل بذلك ، فحرم الماء على آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان بعض الممسوخين يتباهى ويفخر لحرمانهم الحسين من الماء ، فقد انبرى الوغد اللئيم المهاجر بن أوس صوب الإمام رافعاً صوته قائلاً : يا حسين ، ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيّات ، والله لا تذوقه أو تموت دونه .

واشتدّ عمرو بن الحجّاج نحو الحسين ، وهو فرح كأنّما ظفر بمكسب أو مغنم قائلاً : يا حسين ، إنّ هذا الفرات تلغ فيه الكلاب ، وتشرب فيه الحمير والخنازير ،

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٨٦ و ٨٧ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٩ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٦١٣ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٣ . مرآة الزمان في تاريخ الأعيان : ٨٩ .


والله لا تذوق منه جرعة حتىٰ تذوق الحميم في نار جهنم (١) .

وكان هذا الوغد الأثيم ممّن كاتب الإمام الحسين عليه‌السلام بالقدوم إلى الكوفة .

وانبرى جلف آخر من أوغاد أهل الكوفة وهو عبد الله بن الحصين الأزدي فنادى بأعلى صوته لتسمعه مخابرات ابن مرجانة فينال منه جوائزه وهباته ، قائلاً : يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء ، والله لا تذوق منه قطر حتّى تموت عطشاً .

فرفع الإمام يديه بالدعاء عليه قائلاً : اللَّهُمَّ اقْتُلْهُ عَطَشَاً ، وَلَا تَغْفِرْ لَهُ أَبَداً (٢) .

لقد تمادى هؤلاء الممسوخون بالشرّ ، وسقطوا في هوّة سحيقة من الجرائم والآثام ما لها من قرار .

سقاية العبّاس عليه‌السلام لأهل البيت عليهم‌السلام

والتاع أبو الفضل أشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة حينما رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل ، فانبرى الشهم النبيل لتحصيل الماء وأخذه بالقوّة ، وقد صحب معه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ، وحملوا معهم عشرين قربة ، وهجموا بأجمعهم على نهر الفرات ، وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي ، وهو من أفذاذ أصحاب الإمام الحسين ، فاستقبله عمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وهو من مجرمي حرب كربلاء ، وقد عهد إليه حراسة الفرات ، فقال لنافع : ما جاء بك ؟

ـ جئنا لنشرب الماء الذي حلّأتمونا عنه .

ـ اشرب هنيئاً .

__________________________

(١) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٠ .

(٢) تاريخ الاُمم والملوك :٤ : ٣١٢ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٣ . الصراط السوي في مناقب آل النبيّ : ٨٦ . وفي أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٩ : « ابن حصن » .


ـ أفأشرب والحسين عطشان ، ومن ترى من أصحابه ؟

ـ لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، إنّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء .

ولم يعن به الأبطال من أصحاب الإمام ، وسخروا من كلامه ، فاقتحموا الفرات ليملأوا قربهم منه ، فثار في وجوههم عمرو بن الحجّاج ومعه مفرزة من جنوده ، والتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل ، ونافع بن هلال ، ودارت بينهم معركة إلّا أنّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين ، وعاد أصحاب الإمام بقيادة أبي الفضل ، وقد ملأوا قربهم من الماء .

لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت عليهم‌السلام ، وأنقذهم من الظمأ ، وقد منح منذ ذلك اليوم لقب ( السقّاء ) وهو من أشهر ألقابه ، وأكثرها ذيوعاً بين الناس ، كما أنّه من أحبّ الألقاب وأعزّها عنده (١) .

أمان الشمر للعبّاس عليه‌السلام وإخوته

وبادر الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن إلى سيّده ابن مرجانة ، فأخذ منه أماناً لأبي الفضل وإخوته الممجّدين ، وقد ظنّ أنّه سيخدعهم ويفردهم عن أخيهم أبي الأحرار ، وبذلك يضعف جيش الإمام ، لأنّه يخسر هؤلاء الأبطال الذين هم من أشجع فرسان العرب ، وجاء الخبيث يشتدّ كالكلب وقد وقف أمام جيش الحسين ، وهتف منادياً : أين بنو اُختنا العبّاس وإخوته ؟

وهبّت الفتية كالاُسود ، فقالوا له : ما تريد يا بن ذي الجوشن ؟

فانبرى مستبشراً يبدي لهم الحنان المزيّف قائلاً : لكم الأمان .

وصاحوا به ، وهم يتميّزون من الغيظ ، فقد لذعهم قوله : لعنك الله ، ولعن أمانك ،

__________________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ١٨١ .


أتؤمننا وابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا أمان له (١) .

وولّى الخبيث خائباً ، فقد ظنّ أنّ السادة الأماجد إخوة الإمام من طراز أصحابه الممسوخين الذين باعوا ضمائرهم على ابن مرجانة ووهبوا حياتهم للشيطان ، ولم يعلم أنّ إخوة الحسين عليه‌السلام من أفذاذ الدنيا الذين صاغوا الكرامة الإنسانيّة ، وصنعوا الفخر والمجد للإنسان .

زحف الجيوش لحرب الحسين عليه‌السلام

وزحفت طلائع الشرك والكفر لحرب ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصر الخميس لتسع خلون من شهر محرّم ، بعد أن صدرت إليهم الأوامر المشدّدة من ابن مرجانة بتعجيل القتال وحسم الموقف خوفاً من تبلور رأي الجيش وحدوث انقسام في صفوفه ، وكان الإمام محتبياً بسيفه أمام بيته ، إذ خفق برأسه ، فسمعت شقيقته عقيلة بني هاشم السيّدة زينب أصوات الرجال ، وتدافعهم نحو أخيها ، فانبرت إليه فزعة مرعوبه ، فأيقظته ، فرفع الإمام رأسه فرأى اُخته مذهولة ، فقال لها بعزم وثبات : إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي الْمَنامِ ، فَقالَ : إِنَّكَ تَرُوحُ إِلَيْنا .

وذابت نفس العقيلة أسى وحسرات ، وانهارت قواها ، ولم تملك نفسها أن لطمت وجهها ، وراحت تقول : يا ويلتاه .

والتفت أبو الفضل إلى أخيه فقال له : يا أخي أتاك القوم .

وطلب الإمام منه أن يتعرّف على خبرهم قائلاً : ارْكَبْ بِنَفْسِي أَنْتَ يا أَخِي حَتَّىٰ تَلْقاهُم ، وَتَقُولَ لَهُمْ : ما لَكُمْ وَما بَدا لَكُمْ ، وَتَسْأَلَهُمْ عَمّا جاءَ بِهِمْ ؟ (٢) .

__________________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ١٨٤ .

(٢) الإرشاد : ٢ : ٩٠ . روضة الواعظين : ١٨٣ . بحار الأنوار : ٤٤ : ٣٩١ . الفتوح : ٥: ٩٧ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤: ٣١٥ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٤ و ٢٨٥ . البداية والنهاية : ٨ : ١٧٨ .


لقد فدى الإمام عليه‌السلام أخاه بنفسه ، وهو ممّا يدلّ على سموّ مكانته ، وعظيم منزلته ، وأنّه قد بلغ قمّة الإيمان ، وأعلى مراتب المتّقين . . وأسرع أبو الفضل نحو الجيش ، ومعه عشرون فارساً من أصحابه ، ومن بينهم زهير بن القين ، وحبيب بن مظاهر ، وسألهم أبو الفضل عن سبب زحفهم ، فقالوا له : جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه ، أو نناجزكم (١) .

وقفل العباس إلى أخيه ، فأخبره بمقالتهم ، وراح حبيب بن مظاهر يعظهم ويحذّرهم من عقاب الله قائلاً : « أما والله بئس القوم يقدمون غداً على الله عزّ وجلّ ، وعلىٰ رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد قتلوا ذريته وأهل بيته المتهجدين بالأسحار ، الذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار ، وشيعته الأتقياء الأبرار » .

وردّ عليه بوقاحة عَزرَة بن قيس ، فقال له : يا بن مظاهر ، إنّك لتزكّي نفسك !

وانبرى إليه زهير بن القين قائلاً : اتقِ الله يا بن قيس ، ولا تكن من الذين يعينون على الضلال ويقتلون النفس الزكية الطاهرة عترة خيرة الأنبياء (٢) .

فأجابه عزرة : كنت عندنا عثمانياً فما بالك ؟

فردّ عليه زهير بمنطق الشرف والإيمان : « والله ما كتبت إلى الحسين ، ولا أرسلت إليه رسولاً ، ولكن الطريق جمعني وإياه ، فلمّا رأيته ذكرت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرفت ما تقدمون من غدركم ونكثكم ، وسبيلكم إلى الدنيا فرأيت أن أنصره ، وأكون في حزبه حفظاً لما ضيّعتم من حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣) .

لقد كان كلام زهير حافلاً بالصدق بجميع رحابه ، فقد بيّن أنّه لم يكتب إلى الإمام بالقدوم إلى الكوفة ، لأنّه كان عثماني الهوى ، ولكنّه حينما التقى بالإمام في الطريق

__________________________

(١) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٥ . البداية والنهاية : ٨ :١٧٨ .

(٢) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٥ و ٣١٦ . الفتوح : ٥ : ٩٨ .

(٣) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٦ .


ووقف على واقع الحال من غدر أهل الكوفة به ، ونكثهم لبيعته انقلب رأساً على عقب ، وصار من أنصار الإمام ، ومن أكثرهم مودّة وحباً له ، لأنّ الإمام من ألصق الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أي حال ، فقد عرض أبو الفضل مقالة القوم على أخيه ، فقال له : اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُؤَخِّرَهُمْ إِلَى الْغَدْوَةِ وَتَدفَعَهُمْ عَنّا الْعَشِيَّةِ لَعلَّنا نُصَلِّي لِرَبِّنا هٰذِهِ اللَّيْلَةَ ، وَنَدْعُوهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ ، وَتِلَاوَةَ كِتابِهِ وَكَثْرَةَ الدُّعاءِ وَالْإِسْتِغْفارِ (١) .

لقد أراد ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يودّع الحياة الدنيا بأثمن ما فيها ، وهي الصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم ، وأن يواجه الله تعالى وقد تزوّد منها .

ورجع أبو الفضل عليه‌السلام إلى معسكر ابن مرجانة فأخبرهم بمقالة أخيه ، فعرض ابن سعد ذلك على الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن خوفاً من وشايته إذا استجاب لطلب الإمام ، فقد كان شمر المنافس الوحيد لابن سعد على إمارة الجيش ، كما كان عيناً عليه ، كما أراد أن يكون شريكاً له في المسؤوليّة فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب .

ولم يبد الشمر أي رأي له في الموضوع ، وإنّما أحاله لابن سعد ليكون هو المسؤول عنه ، وانبرى عمرو بن الحجّاج الزبيدي فأنكر عليهم هذا التردّد والاحجام عن إجابة الإمام قائلاً : سبحان الله ! والله لو كان من الديلم ثمّ سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه (٢) .

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٩٠ و ٩١ . اللهوف : ٥٤ .

(٢) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٦ . المنتظم : ٥ : ٣٣٧ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٥٨ .


ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك ، فلم يقل لهم : إنّه ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّهم هم الذين غرّوه وكاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، لم يقل ذلك خوفاً من أن تنقل الاستخبارات العسكريّة إلى ابن زياد ذلك فينال العقاب والحرمان ، وأيّد ابن الأشعث مقالته ، فاستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب ، وأوعز إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك ، فدنا من معسكر الإمام ورفع صوته قائلاً : يا شيعة الحسين ابن عليّ ، قد أجّلناكم يومكم هذا إلىٰ غدٍ ، فإن استسلمتم ونزلتم علىٰ حكم الأمير وجّهنا بكم إليه وإن أبيتم ناجزناكم (١) .

واُرجئ القتال إلى صبيحة اليوم العاشر من المحرّم ، وظلّ جيش ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الإمام أو يرفض ما دعوه إليه .

الإمام عليه‌السلام يأذن لأصحابه بمفارقته

وجمع ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرّم ، وعرض عليهم ما يلاقيه من الشهادة ، وطلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الأرض ويتركوه وحده ليقلى مصيره المحتوم ، وقد أراد بذلك أن يكونوا على بيّنة من أمرهم فقال عليه‌السلام لهم :

أُثْنِي عَلَى اللهِ أَحْسَنَ الثَّناءِ ، وَأَحْمَدُهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَحْمَدُكَ عَلَى أَنْ أَكْرَمْتَنا بِالنُّبُوَّةِ وَعَلَّمْتَنا الْقُرْآنَ ، وَفهَّمْتَنا فِي الدِّينِ ، وَجَعَلْتَ لَنا أَسْماعاً وَأَبْصارَاً وَأَفئِدَةً ، وَلَمْ تَجْعَلْنا مِنَ المُشْرِكِينَ .

أَمّا بَعْدُ ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَصْحَابَاً أَوْفَىٰ وَلَا خَيْراً مِن أَصْحابِي ، وَلَا أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَلَا أَوْصَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَجَزَاكُمُ اللهُ جَمِيعَاً عَنِّي خَيْراً ، أَلَا وَإِنِّي لَأَظُنُّ يَومَنَا مِنْ

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ٩٩ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٧ .


هٰؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ غَداً ، وَإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ جَمِيعَاً ، فَانْطَلِقُوا فِي حِلٍّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنِّي ذِمَامٌ ، وَهٰذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذِوهُ جَمَلاً ، وَلْيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُم بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَجَزَاكُمُ اللهُ جَميعَاً خيراً ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فِي سَوَادِكُمْ وَمَدائِنِكُمْ حَتَّىٰ يُفَرِّجَ اللهُ ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّما يَطْلُبُونَنَي ، وَلَوْ أَصابُونِي لَهَوْا عَنْ طَلَبِ غَيْرِي (١) .

وتمثّلت روعة الإيمان ، وسرّ الإمامة بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانباً كبيراً عن نفسيّة أبي الأحرار ، فقد تجنّب في هذا الموقف الدقيق الحاسم جميع ألوان المنعطفات ، ووضع أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع ، فقد حدّد لهم النتيجة التي لا مفرّ منها وهي القتل والتضحية ، وليس هناك أي شيء آخر من متع الدنيا ، وقد طلب منهم أن يخلّوه وينصرفوا تحت جنح الظلام ، فيتّخذونه ستراً دون كلّ عين ، فلعلّهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في وضع النهار ، فقد جعلهم في حلّ

__________________________

(١) المنتظم : ٥ : ٣٣٧ و ٣٣٨ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٥ . الإرشاد : ٢ : ٩١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٧ .

وروي كلامه بصورة اُخرى ، فقد جاء في تفسير العسكري عليه‌السلام : ١٧٨ ـ ١٧٩ ، أنّه عليه‌السلام قال : أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ بَيْعَتِي ، فَالْحَقُوا بِعَشائِرِكُمْ وَمَوَالِيكُمْ ، وقال لأهل بيته : قَدْ جَعَلْتُكُمْ في حِلٍّ مِنْ مُفارَقَتِي ، فَإِنَّكُم لَا تُطِيقُوهُم ، لِتَضَاعُفِ أَعْدَادِهِمْ وَقُوَاهُمْ وَمَا الْمَقصُودُ غَيْرِي ، فَدَعُونِي وَالْقَوْمَ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعينُنِي وَلَا يُخَلِّينِي مِنْ حُسْنِ نَظَرِهِ كَعَادَتِهِ مَعَ أَسْلَافِنا الطَّيِّبِينَ ، ففارقه جماعة من معسكره .

فقال له أهله : لا نفارقك ويحزننا ما يحزنك ، ويصيبنا ما يصيبك ، وإنّا أقرب ما نكون إلى الله إذا كنّا معك ، فقال لهم : إِنْ كُنْتُمْ وَطَّنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَلَىٰ ما وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَيْهِ ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ إِنَّما يَهَبُ الْمَنازِلَ الشَّرِيفَةَ لِعِبادِهِ ؛ لِاحْتِمالِ الْمَكارِهِ ، وَأَنَّ اللهَ كانَ خَصَّنِي مَعَ مَنْ مَضَىٰ مِنْ أَهْليَ الَّذِينَ أَنا آخِرُهُمْ بَقاءً في الدَّنْيا مِنَ الْكَرَاماتِ بِما يُسَهِّلُ عَلَيَّ مَعَها احْتِمالُ الْمَكرُوهاتِ ، فَإِنَّ لَكُمْ شَطْراً مِنْ كَرَامَاتِ اللهِ ، وَاعْلَمُوا أنَّ الدُّنْيا حُلْوَها وَمُرَّها حُلمٌ ، وَالْإِنتِباهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَالْفائِزُ مَنْ فازَ فِيها ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِيها .


من التزاماتهم تجاهه ، وقد عرّفهم أنّه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة المتعطّشة إلى سفك دمه ، فإذا ظفروا به فلا إرب لهم في طلب غيره .

جواب أهل البيت عليهم‌السلام

ولم يكد يفرغ الإمام من خطابه حتّى هبّت الصفوة من أهل البيت عليهم‌السلام ، وعيونهم تفيض دموعاً ، وهم يعلنون ولاءهم له ، وتضحيتهم في سبيله ، وقد مثّلهم أبو الفضل العباس عليه‌السلام فخاطب الإمام قائلاً : لِمَ نفعل ذلك ؟! لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك أبداً .

والتفت الإمام إلى السادة من أبناء عمّه من بني عقيل ، فقال لهم : حَسْبُكُمْ مِنَ القَتْلِ بِمُسْلِمٍ ، اذْهَبُوا فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ .

وهبّت فتية آل عقيل كالاُسود تتعالى أصواتهم ، قائلين : إذن ما يقول الناس ؟ وما نقول ؟ إنّا تركنا شيخنا وسيدنا ، وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرمِ معهم بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا ؟ لا واللهِ لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا نقاتل معك ، حتىٰ نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك (١) .

لقد صمّموا على حماية الإمام العظيم ، والدفاع عن أهدافه ومبادئه ، واختاروا الموت تحت ظلال الأسنّة على الحياة التي لا هدف فيها .

جواب أصحابه عليه‌السلام

أمّا أصحاب الإمام عليه‌السلام فهم أحرار هذه الدنيا ، وقد اندفعوا يعلنون للإمام عليه‌السلام الفداء والتضحية دفاعاً عن المبادئ المقدّسة التي ناضل من أجلها الإمام ، وقد انبرى مسلم بن عوسجة فخاطب الإمام قائلاً : « أنحن نُخلّي عنك ؟! وبماذا نعتذر إلى الله سبحانه في أداء حقّك ، أما واللهِ لا اُفارقك حتىٰ أطعن في صدورهم برمحي ،

__________________________

(١) الإرشاد : ٩١ : ٩٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٨ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٥ .


وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم لقذفتهم بالحجارة ، والله لا نخلّيك حتىٰ يعلم الله أن قد حفظنا غيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . . . » (١) .

لقد عبّرت هذه الكلمات عن عميق إيمانه بريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه سيذبّ عنه حتّى النفس الأخير من حياته .

وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام ، وهو سعيد بن عبد الله الحنفي ، فخاطب الإمام قائلاً : « والله لا نخلّيك حتىٰ يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيك ، والله لو علمتُ أنّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق ، ثمّ أُذرّ ، يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقىٰ حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا ؟! » (٢) .

وليس في قاموس الوفاء أصدق ، ولا أنبل من هذا الوفاء ، فهو يتمنّى من صميم قلبه أن تجري عليه عمليّة القتل سبعين مرّة ليفدي الإمام عليه‌السلام ، ليحفظ بذلك غيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيف لا يستطيب الموت في سبيله وإنّما هو مرّة واحدة ، ثمّ هي الكرامة الأبديّة التي لا انقضاء لها .

وانبرى زهير بن القين فأعلن نفس الاتّجاه الذي أعلنه المجاهدون من إخوانه قائلاً : « والله ، لوددت أنّي قتلت ثمّ نشرت ، ثمّ قتلت حتى أُقتل هكذا ألف مرّة ، وأنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك » (٣) .

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٩٢ . اللهوف : ٥٦ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٣ . تاريخ الاُمم والملوك : : ٤ : ٣١٨ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٥ .

(٢) اللهوف : ٥٦ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٨ . البداية والنهاية : ٨ : ١٧٨ و ١٧٩ .

وفي أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٣ ذكر أنّه تكلم ، ولم يذكر نصّ كلامه .

(٣) الإرشاد : ٢ : ٩٢ . اللهوف : ٥٦ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٨ .


أرأيتم وفاء هؤلاء الأبطال ، فهل تجدون لهم مثيلاً في تأريخ هذه الدنيا ، لقد ارتفعوا إلى مستوى من النبل والشهامة لم يبلغه أي إنسان ، وقد أعطوا بذلك الدروس المشرقة في الدفاع عن الحقّ .

وأعلن بقيّة أصحاب الإمام عليه‌السلام الترحيب بالشهادة في سبيل إمامهم ، فجزاهم خيراً ، وأكّد لهم جميعاً أنّهم سينعمون في الفردوس الأعلى ، ويحشرون مع النبيّين والصدّيقين ، وهتفوا جميعاً : الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك ، وشرّفنا بالقتل معك ، أوَلا ترضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله ؟ (١) .

لقد أُترعت نفوس هؤلاء الأبطال بالإيمان العميق ، فتحرّروا من جميع ملاذّ الحياة ولهوها ، واتّجهوا صوب الله ، فرفعوا راية الإسلام عالية خفّاقة في رحاب هذا الكون .

إحياء الليل بالعبادة

وأقبل الإمام عليه‌السلام مع الصفوة الطيّبة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه نحو الله يناجونه بقلوبهم وعواطفهم ، وهم يسألونه العفو والغفران ولم يذق أحد منهم طعم الرقاد ، فقد كانوا ما بين راكع وساجد وقارئ للقرآن ، وكان لهم دويّ كدويّ النحل .

وكانوا ينتظرون انبثاق نور الصبح بفارغ الصبر لينالوا الشهادة بين يدي ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأما معسكر ابن زياد فقد باتوا وهم في شوق لطلوع الصبح ليريقوا دماء أهل البيت عليهم‌السلام ليقترّبوا بها إلى سيّدهم ابن مرجانة .

يوم عاشوراء

وليس مثل يوم العاشر من المحرّم في مآسيه وكآبته وكوارثه ، فلم تبق محنة

__________________________

(١) نفس المهموم : ٢٠٨ . مقتل الحسين عليه‌السلام : المقرّم : ٢٦١ .


من محن الدنيا ، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلّا جرت على ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يوم مثل ذلك اليوم الخالد في دنيا الأحزان .

دعاء الإمام عليه‌السلام

وخرج أبو الأحرار من خبائه فرأى البيداء قد ملئت خيلاً ورجالاً ، وقد شهر اُولئك البغاة اللئام سيوفهم لإراقة دمه ، ودماء الصفوة البررة من أهل بيته وأصحابه لينالوا الأجر الزهيد من الارهابي المجرم ابن مرجانة ، ودعا الإمام بمصحف فنشره على رأسه ، ورفع يديه بالدعاء إلى الله قائلاً :

اللّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ ، وَرَجائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ . كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضعُفُ فِيْهِ الفُؤادُ ، وَتَقِلُّ فِيْهِ الْحِيلَةُ ، وَيَخْذُلُ فِيْهِ الصَّدِيقُ ، وَيَشْمَتُ فِيْهِ العَدُوُّ ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ وَشَكَوْتُهُ إِلَيْكَ رَغْبَةً مِنِّي إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفْتَهُ ، فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ وَصاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ وَمُنْتَهَىٰ كُلِّ رَغْبَةٍ (١) .

لقد أناب الإمام إلى الله تعالى ، وأخلص له ، فهو وليّه ، والملجأ الذي يلجأ إليه في كلّ نائبة نزلت به .

خطبة الإمام عليه‌السلام

ودعا الإمام الحسين عليه‌السلام براحلته فركبها ، واتّجه نحو معسكر ابن سعد ، وهو بتلك الهيبة التي تحكي هيبة جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخطب فيهم خطابه التاريخي الذي هو من أبلغ وأروع ما أُثر في الكلام العربي ، وقد نادى بصوت عالٍ يسمعه جلّهم :

« أَيُّها النّاسُ ، اسْمَعُوا قَوْلِي وَلَا تَعْجَلُوا حَتّىٰ أَعِظَكُمْ بِما يَحِقُّ لَكُمْ عَلَيَّ ، وَحَتّىٰ

__________________________

(١) الإرشاد : ٢: ٩٦ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢١ . تاريخ مدينة دمشق : ١٤ : ٢١٧ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٦ و ٢٨٧ . البداية والنهاية : ٨ : ١٧١ .


أَعْتَذِرَ إِلَيْكُمْ مِنْ مَقْدَمِي عَلَيْكُمْ ، فَإِنْ قَبِلْتُمْ عُذْرِي ، وَصَدَّقْتُمْ قَوْلِي ، وَأَعْطَيتُمُونِيَ النَّصَفَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَيَّ سَبِيلٌ ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوا مِنِّيَ الْعُذْرَ وَلَمْ تُعْطُوا النَّصَفَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ) (١) ، ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) (٢) » .

وحمل الأثير هذه الكلمات إلى السيّدات من عقائل النبوّة ، ومخدّرات الرسالة ، فتصارخن بالبكاء ، فبعث إليهنّ أخاه العبّاس وابنه عليّاً ، وقال لهما : « سَكِّتاهُنَّ فَلَعَمْرِي لَيَكْثُرُ بُكاؤُهُنَّ » (٣) .

ولمّا سكتن استرسل في خطابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الملائكة والأنبياء ، وقال في ذلك ما لا يحصى ذكره ، ولم يسمع لا قبله ولا بعده أبلغ منه في منطقه .

وكان ممّا قاله : الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ الدُّنْيا فَجَعَلَها دَارَ فَناءٍ وَزَوَالٍ ، مُتَصَرِّفَةً بِأَهْلِها حالاً بَعْدَ حالٍ ، فَالْمَغرُورُ مَنْ غَرَّتْهُ ، وَالشَّقِيُّ مَنْ فَتَنَتْهُ ، فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ هٰذِهِ الدُّنْيا فَإِنَّها تَقْطَعُ رَجَاءَ مَنْ رَكَنَ إِلَيها ، وَتُخيِّبُ طَمَعَ مَن طَمِعَ فِيْها ، وَأَرَاكُمُ قَدْ اجْتَمَعْتُم عَلَىٰ أَمْرٍ قَدِ أَسْخَطْتُمُ اللهَ فِيْهِ عَلَيْكُمْ ، وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ عَنْكُمْ ، وَأَحَلَّ بِكُمْ نِقْمَتَهُ ، فَنِعْمَ الرَّبُّ رَبُّنا ، وَبِئْسَ الْعَبِيدُ أَنْتُم ، أَقْرَرْتُمْ بِالطَّاعَةِ ، وَآمَنْتُمْ بِالرَّسُولِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثُمَّ إِنَّكُمْ زَحَفْتُمْ إِلَىٰ ذُرِيَّتِهِ وَعِتْرَتِهِ تُرِيدُونَ قَتْلَهُمْ .

لَقَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْكُمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساكُمْ ذِكْرَ اللهِ العَظِيمِ ، فَتَبّاً لَكُمْ وَلِمَا تُرِيدُونَ ، إِنّا للهِ

__________________________

(١) يونس عليه‌السلام ١٠ : ٧١ .

(٢) الأعراف ٧ : ١٩٦ .

(٣) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢٢ . الإرشاد : ٢ : ٩٧ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٧ .


وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، هَؤُلَاءِ قَومٌ كَفَرُوا بَعْدَ إِيْمانِهِمْ فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِيْنَ » (١) .

لقد وعظ الإمام عليه‌السلام أعداءه بهذه الكلمات التي تمثّل هدي الأنبياء ومحنتهم في اُممهم ، لقد حذّرهم من فتنة الدنيا وغرورها ، وأهاب بهم من التورّط في قتل عترة نبيّهم وذرّيّته ، وأنّهم بذلك يستوجبون العذاب الأليم ، والسخط الدائم .

ثمّ استرسل الإمام الممتحن في خطابه فقال :

فَانْسِبُونِي فَانْظُرُوا مَنْ أَنا ؟ ثُمَّ ارْجِعُوا إِلىٰ أَنْفُسِكُمْ وَعاتِبوها ، فَانْظُروا هَلْ يَحِلُّ لَكُمْ قَتْلِي وَانْتِهاكُ حُرْمَتِي ؟!

أَلَسْتُ ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ ، وَابْنَ وَصِيِّهِ ، وَابْنِ عَمِّه ، وَأَوَّلِ الْمُؤْمِنِينَ باللهِ وَالمُصَدِّقِ لِرَسُولِهِ بِما جاءَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ ؟

أَوَلَيْسَ حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمَّ أَبِي ؟!

أَوَلَيْسَ جَعْفَرُ الطَيَّارُ عَمِّي ؟!

أَوَلَمْ يَبْلُغْكُمْ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله لِي وَلأَخِي : هَذَانِ سَيِّدَا شَبابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَإِنْ صَدَّقْتُمُونِي بِما أَقُولُ وَهُوَ الْحَقُّ ، وَاللهِ ما تَعَمَّدْتُ الْكَذِبَ مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ اللهَ يَمْقُتُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ ، وَيَضُرُّ بِهِ مَنِ اخْتَلَقَهُ .

وَإِنْ كَذَّبْتُمُونُي فَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ إنْ سَأَلْتُمُوهُ أَخْبَرَكُمْ ، سَلُوا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصارِيَّ ، وَأبا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ، وسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ، وَأَنَسَ بْنَ مالِكٍ ، يُخبِرُوكُمْ أَنَّهُمْ سَمِعُوا هَذِهِ الْمَقالَةَ مِنْ رَسُولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لِي وَلِأَخِي أَما فِي هَذَا حاجِزٌ لَكُمْ عَنْ سَفْكِ دَمِي ؟ (٢) .

__________________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٠ . بحار الأنوار : ٤٥ : ٥ و ٦ . مقتل الحسين عليه‌السلام / المقرّم : ٢٧٨ و ٢٧٩ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ١ : ٢٥٢ و ٢٥٣ .

(٢) الإرشاد : ٢ : ٩٧ و ٩٨ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢٢ و ٣٢٣ . مقتل الحسين عليه‌السلام : =


وكان خليقاً بهذا الخطاب المشرق أن يرجع لهم حوازب عقولهم ، ويردّهم عن طغيانهم ، فقد وضع الإمام النقاط على الحروف ، ودعاهم إلى التأمّل ولو قليلاً ليمعنوا في شأنه ، أليس هو حفيد نبيّهم وابن وصيّه ، وهو سيّد شباب أهل الجنّة كما أعلن ذلك جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي ذلك حصانة له من سفك دمه وانتهاك حرمته ، ولكن الجيش الأموي لم يع هذا المنطق ، فقد خلد إلى الجريمة ، واسودّت ضمائرهم ، وحيل بينهم وبين ذكر الله .

وتصدّى لجواب الإمام شمر بن ذي الجوشن ، وهو من الممسوخين ، فقال له : هو يعبد الله علىٰ حرف إن كان يدري ما تقول ؟!

وحقّاً إنّه لم يع ما يقول الإمام ، فقد ران على قلبه الباطل ، وغرق في الإثم ، وقد أجابه حبيب بن مظاهر وهو من أعلام الهدى والصلاح ، فقال له : والله إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك .

والتفت الإمام إلى قطعات الجيش فخاطبهم :

فَإِنْ كُنْتُم فِي شَكٍّ مِنْ هٰذَا الْقَوْلِ ، أَفَتَشُكُّونَ أَنِّي ابْنُ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ ؟! فَوَاللهِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ابْنُ بِنْتِ نَبِيٍّ غَيْرِي فِيكُمْ وَلَا فِي غَيْرِكُمْ ، وَيْحَكُمْ أَتَطْلُبُونَنِي بِقَتِيلٍ مِنْكُمْ قَتَلْتُهُ ، أَوْ مالٍ لَكُمُ اسْتَهْلَكْتُهُ أَوْ بِقَصاصِ جِرَاحَةٍ .

وغدوا حيارى لا يملكون جواباً لردّه ، ثمّ التفت الإمام إلى قادة الجيش الذين دعوه بالقدوم إلى مصرهم ، فقال لهم : يا شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ ، وَيا حَجّارَ بْنَ أَبْجُرَ ، وَيا قَيْسَ بْنَ الْأَشْعَثِ ، وَيا يَزِيدَ ابْنَ الْحارِثِ ، أَلَمْ تَكْتُبُوا إِلَيَّ : أَنْ قَدْ أَيْنَعَتِ الثِّمارُ وَاخْضَرَّ الْجَنابُ وَطُمَّتْ الْجِمامُ ، وَإِنَّما تَقْدِمُ عَلَىٰ جُنْدٍ لَكَ مُجَنَّدٍ ، فَأَقْبِلْ ؟!

__________________________

= الخوارزمي : ١ : ٢٥٣ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٧ . ينابيع المودّة : ٣ : ٦٥ .


وأنكر اُولئك الخونة كتبهم ، وما عاهدوا عليه الله من نصرهم للإمام ، فقالوا له : لم نفعل ذلك .

وتعجّب الإمام من ذلك وراح يقول : سُبْحانَ اللهِ ! بَلَىٰ وَاللهِ لَقَدْ فَعَلْتُمْ .

وأعرض الإمام عنهم ، ووجّه خطابه إلى جميع قطعات الجيش قائلاً : أَيُّها النّاسُ ، إِذا كَرِهْتُمُونِي فَدَعُونِي أَنْصَرِفْ عَنْكُمْ إِلىٰ مَأْمَنِي مِنَ الْأَرْضِ .

وتصدّى لجوابه قيس بن الأشعث ، وهو من رؤوس المنافقين ، وقد خلع كلّ شرف وحياء فقال له : أوَلا تنزل علىٰ حكم بني عمّك ؟ فإنّهم لن يروك إلّا ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه .

فردّ عليه الإمام قائلاً : أَنْتَ أَخُو أَخِيكَ ، أَتُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَكَ بَنُو هاشِمٍ بِأَكْثَرَ مِنْ دَمِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ ؟! لَا وَاللهِ لَا أُعْطِيهِمْ بِيَدِي إِعْطاءَ الذَّلِيلِ وَلَا أَفِرُّ فِرارَ الْعَبيدِ .

عِبادَ اللهِ ، إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ، أَعوُذُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكبّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (١) .

ومثّلت هذه الكلمات عزّة الأحرار وشرف الاُباة ، ولم تنفذ إلى قلوب أُولئك الجفاة الذين غرقوا في الجهل والآثام .

وتكلّم أصحاب الإمام مع معسكر ابن زياد ، وأقاموا عليهم الحجّة ، وذكّروهم بجور الأمويّين ، وما أنزلوه بهم من الجور والاستبداد ، ولم تُجدِ معهم النصائح شيئاً ، وراحوا يفخرون بنصرتهم لابن مرجانة وقتالهم لريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٩٧ و ٩٨ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢٣ و ٣٢٤ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ١ : ٢٥٣ و ٢٥٤ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٧ و ٢٨٨ . البداية والنهاية : ٨ : ١٨٠ و ١٨١ .


خطاب آخر للامام الحسين عليه‌السلام

وانبرى سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة اُخرى إلى إسداء النصحية إلى الجيش الأموي مخافة أن يدّعي أحد منهم أنّه غير عارف بالأمر ، فانطلق عليه‌السلام نحوهم ، وقد نشر كتاب الله العظيم على رأسه ، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقلّد لامة حربه ، وكان على هيبة تحكي هيبة الأنبياء والأوصياء ، فقد علت أسارير النور على وجهه الكريم فقال عليه‌السلام :

تَبَّاً لَكُمْ أَيَّتُها الْجَماعَةُ وَتَرَحاً ، أَحِينَ إِسْتَصْرَختُمُونا وَالِهينَ فَأَصْرَخْناكُمْ مُوجِفِينَ (١) ، سَلَلْتُمْ عَلَيْنا سَيْفاً فِي أَيْمانِكُمْ ، وَحَشَشْتُم (٢) عَلَيْنا ناراً اقْتَدَحْناها عَلىٰ عَدُوِّنا وَعَدُوِّكُمْ فَأصْبَحْتُمْ إِلْباً (٣) لِأَعْدائِكُمْ عَلىٰ أَوْلِيائِكُمْ بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فِيكُمْ ، وَلَا أَمَلٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فِيهِمْ ؟! فَهَلَّا لَكُمُ الْوَيْلاتُ تَرَكْتُمونا وَالسَّيْفُ مَشِيمٌ (٤) وَالْجَأْشُ طَامِنٌ ، وَالرَّأْيُ لَمّا يُسْتَحْصَفُ ، وَلَكِنَّكُمْ أَسْرَعْتُمْ إِلَيْها كَطَيْرَةِ الدَّبا (٥) ، وَتَدَاعَيْتُمْ عَلَيْها كَتَهافُتِ الْفَراشِ (٦) ثُمَّ نَقَضْتُمُوها سَفَهاً وَضِلَّةً ، فَبُعْداً وسُحْقاً لَكُمْ يا عَبِيْدَ الْأُمَّةِ ، وَشُذّاذَ الْأَحْزابِ ، وَنَبَذَةَ الْكِتابِ ، وَمُحَرِّفِي الْكَلِمِ ، وَعُصْبَةَ الْآثامِ ، وَنَفْثَةَ الشَّيْطانِ ، وَمُطْفِئِي

__________________________

(١) موجفين : أي مسرعين في السير إليكم . لسان العرب : ١٥ : ٢٢٣ ـ وجف .

(٢) حششتم : جمعتم الحطب للنار . لسان العرب ٣ : ١٨٨ ـ حشش .

(٣) إلباً : أي مجتمعين . لسان العرب : ١ : ١٧٧ ـ ألب .

(٤) السيف مشيم : مغمد . لسان العرب : ٧ : ٢٦٢ ـ شيم .

(٥) الدِّبا : ـ بفتح الدال وتخفيف الباء ـ : الجراد قبل أن يطير . لسان العرب : ٤ : ٢٨٨ ـ دبا .

(٦) الفراش ـ بالفتح وتخفيف الراء ـ : جمع فراشة ، وهي صغار البقّ تتهافت في النار ؛ لضعف بصرها . لسان العرب : ١٠ : ٢٣٧ ـ فرش .

يقول الغزالي : ولعلّك تظن أنّ هذا لنقصان فهمها وجهلها . إنّ جهل الإنسان أعظم من جهلها لانكبابه على الشهوات والمعاصي إلى أن يغمس في النار ويهلك هلاكاً مؤبّداً .


السُّنَنِ ، وَيْحَكُمْ أَهٰؤُلَاءِ تَعْضِدُونَ ، وَعَنّا تَتَخاذَلُونَ ؟! أَجَلْ وَاللهِ لَغَدْرٌ فِيكُمْ قَدِيمٌ وَشَجَتْ عَلَيْهِ أُصُولُكُمْ ، وَتَأْزَّرَتْ عَلَيْهِ فُرُوعُكُمْ (١) ، فَكُنْتُمْ أَخْبَثَ ثَمَرٍ ؛ شَجَنٌ (٢) لِلنّاظِرِ وَأُكْلَةٌ لِلْغاصِبِ .

أَلَا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ بَيْنَ السِّلَّةِ (٣) وَالذِّلَّةِ وَهَيْهاتَ مِنّا الذِّلَّةُ ، يَأْبَى اللهُ لَنا ذلِكَ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَحُجُورٌ طابَتْ وَطَهُرَتْ ، وَأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ ، وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ مِنْ أَنْ تُؤَثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلَىٰ مَصارِعِ الْكِرَامِ . أَلَا وَإِنِّي زَاحِفٌ بِهٰذِهِ الْأُسْرَةِ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَخُذْلَانِ النّاصِرِ .

ثمّ واصل كلامه عليه‌السلام بأبيات فروة بن مُسَيك المرادي :

فَـإِنْ نَهْـزِمْ فَهَزَّامُونَ قِدْمَاً

وَإِنْ نُهْزَمْ فَغَيْرُ مُهَزَّمِينَا

وَما إِنْ طِبُّنا جُبْنٌ وَلَكِنْ

مَنايانـا وَدَوْلَةُ آخَرِينا

فَأَفنِىٰ ذلِكُمْ سَرَوَاتَ قَوْمِي

كَما أَفنَـى القُـرُونَ الأَوَّلِينا

فَلَوْ خَلَدَ الْمُلُوكُ إِذاً خَلَدْنا

وَلَوْ بَقِـيَ الكِـرَامُ إِذاً بَقِينا

فَقُلْ لِلشّامِتِينَ بِنا أَفِيقُوا

سَيَلقَىٰ الشامِتُونَ كَما لَقِينا

إِذا ما المَوْتُ رَفَّعَ عَنْ أُناسٍ

كَلَاكِلَـهُ أَنـاخَ بِآخَرِينا

ثمّ قال : ثُمَّ أَيْمُ اللهِ لَا تَلبَثُونَ بَعْدَها إِلّا كَرَيْثَما يُرْكَبُ الْفَرَسُ حَتّىٰ تَدُورَ بِكُمْ دَوْرَ الرَّحَىٰ ، وَتَقْلَقَ بِكُمْ قَلَقَ الْمِحْوَرِ ، عَهْدٌ عَهِدَهُ إِلَيَّ أَبِي عَنْ جَدِّي ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ

__________________________

(١) تأزّرت : أي نبتت عليه فروعكم وقويت به . لسان العرب : ١ : ١٣١ ـ أزر .

(٢) الشَّجَنُ : الغُصْن المشتبك . القاموس المحيط : ١٥٥٩ ـ شَجَنَ . لسان العرب : ٧ : ٣٩ ـ شَجَنَ . وفي أكثر المصادر يوجد تصحيف للكلمة .

(٣) السلّة : استلال السيوف عند القتال . لسان العرب : ٦ : ٣٤١ ـ سَلَلَ .


وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ) (١) ، ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٢) . (٣)

اللّهُمَّ احْبِسْ عَنْهُمْ قَطْرَ السَّماءِ ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلَامَ ثَقِيفٍ يَسْقِيهِمْ كَأْساً مُصَبَّرَةً ، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُونَا وَخَذَلُونَا ، وَأَنْتَ رَبُّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) .

ومثّل هذا الخطاب الثوري صلابة الإمام ، وقوّة عزيمته ، وشدّة بأسه ، فقد استهان باُولئك الأقزام الذين كتبوا إليه يستنجدون به ، ويستغيثون لينقذهم من جور الأمويّين وظلمهم ، فلمّا أقبل إليهم انقلبوا عليه رأساً على عقب ، فسلّوا عليه سيوفهم ، وشهروا عليه رماحهم ، تقرّباً للطغاة والظالمين لهم ، والمستبدّين بشؤونهم ، في حين أنّه لم يبدو من اُولئك الحكّام أيّة بارقة من العدل فيهم .

كما أعلن الإمام عن رفضه الكامل لدعوة ابن مرجانة من الاستسلام له ، فقد أراد له الذلّ والهوان ، وهيهات أن يرضخ لذلك وهو سبط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والممثّل الأعلى للكرامة الإنسانيّة ، فقد صمّم على الحرب باُسرته التي مثّلت البطولات ليحفظ بذلك كرامته وكرامة الاُمّة .

وقد أخبرهم الإمام عن مصيرهم بعد قتلهم له أنّهم لا ينعمون بالحياة ، وأنّ الله

__________________________

(١) يونس ١٠ : ٧١ .

(٢) هود ١١ : ٥٦ .

(٣) تحف العقول : ٢٤٠ ـ ٢٤٢ . الاحتجاج : ٢ : ٩٧ ـ ١٠٠ . مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١١٠ . اللهوف : ٤٠ ـ ٤٢ . بحار الأنوار ٤٥ : ٨ ـ ١٠ ، الحديث ٨٣ . تاريخ مدينة دمشق : ١٤ : ٢١٨ و ٢١٩ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٦ ـ ٨ .

(٤) اللهوف : ٦٠ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٧ و ٨ .


يسلّط عليهم مَن يسقيهم كأساً مصبّرة ، ويجرّعهم الغصص ، وينزل بهم العذاب الأليم .

وقد تحقّق ذلك فلم يمض قليل من الوقت بعد اقترافهم لقتل الإمام حتّى ثار عليهم البطل العظيم ، والثائر المجاهد ، ناصر الإسلام ، الزعيم الكبير ، المختار بن أبي عبيد الثقفي ، فقد ملأ قلوبهم رعباً وفزعاً ، ونكّل بهم تنكيلاً فظيعاً ، وأخذت شرطته تلاحقهم في كلّ مكان ، فمن ظفرت به قتلته أشرّ قتلة ، ولم يفلت منهم إلّا القليل .

وقد وجم جيش ابن سعد بعد هذا الخطاب التاريخي الخالد ، وودّ الكثيرون منهم أن تسيخ بهم الأرض .

استجابة الحرّ

واستيقظ ضمير الحرّ ، وثابت نفسه إلى الحقّ بعدما سمع خطاب الإمام ، وجعل يتأمّل ويفكّر في تلك اللحظات الحاسمة من حياته ، فهل يلتحق بالحسين ، ويحفظ بذلك آخرته ، وينقذ نفسه من عذاب الله وسخطه ، أو أنّه يبقى على منصبه كقائد فرقة في الجيش الأموي ، وينعم بصلات ابن مرجانة ؟

واختار الحرّ نداء ضميره الحيّ ، وتغلّب على هواه ، فصمّم على الالتحاق بالإمام الحسين عليه‌السلام ، وقبل أن يتوجّه إليه أسرع نحو ابن سعد القائد العامّ للقوّات المسلّحة ، فقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟

ولم يلتفت ابن سعد إلى انقلاب الحرّ ، فقد أسرع قائلاً بلا تردّد : إي والله ، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي .

لقد أعلن ذلك أمام قادة الفرق ليظهر إخلاصه لابن مرجانة ، فقال له الحرّ : أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضاً ؟


واندفع ابن سعد قائلاً : لو كان الأمر لي لفعلت ، ولكن أميرك أبىٰ ذلك .

ولمّا أيقن أنّ القوم مصمّمون على حرب الإمام عزم على الالتحاق بمعسكر الإمام ، وقد سرت الرعدة بأوصاله ، فأنكر عليه ذلك زميله المهاجر بن أوس ، فقال له : والله ، إنّ أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل ما أراه الآن ، ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة ؟ لما عدوتك .

وأعرب له الحرّ عمّا صمّم عليه قائلاً : إنّي والله أُخيّر نفسي بين الجنة والنار ، ولا أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعت وأُحرقت .

وألوىٰ عنان فرسه نحو الإمام ، وكان مطرقاً برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما صدر منه تجاه الإمام ، ولمّا دنا منه رفع صوته ودموعه تتبلور على خدّيه قائلاً : اللّهمّ إليك أُنيب ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك ، يا أبا عبد الله إنّي تائب فهل لي من توبة ؟

ونزل عن فرسه وأقبل يتضرّع ويتوسّل إلى الإمام ليمنحه التوبة قائلاً : جعلني الله فداك يا بن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجَعْجَعْتُ بك في هذا المكان ، ووالله الذي لا إله إلّا هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً ، فقلت في نفسي : لا أُبالي أن أُطيع القوم في بعض أمرهم ، ولا يرون أنّي خرجت من طاعتهم ، وأمّا هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلون منك ما ركبتها منك ، وأنّي قد جئتك تائباً ممّا كان مني إلىٰ ربّي مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترىٰ لي توبة ؟

واستبشر به الإمام ، ومنحه الرضا والعفو ، وقال له : نَعَمْ ، يَتُوبُ اللهُ عَلَيكَ وَيَغْفِرُ لَكَ .

وملأ الفرح قلب الحرّ حينما فاز برضاء ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستأذنه أن ينصح


أهل الكوفة لعلّ بعضهم أن يرجع إلى الحقّ ، ويثوب إلى الرشاد ، فأذن له الإمام في ذلك .

فانبرى الحرّ إليهم رافعاً صوته : « يا أهل الكوفة ، لأُمّكم الهَبَل (١) والعَبَر (٢) ، أدعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه ؟

أمسكتم بنفسه ، وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب ، ومنعتموه من التوجّه في بلاد الله العريضة حتىٰ يأمن ويأمن أهل بيته ، فأصبح كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا يدفع عنها ضرّاً ، وَحَلّأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ، ويتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هم أُولاء قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمداً في ذريته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه » (٣) .

وودّ الكثير منهم أن تسيخ بهم الأرض ، فهم على يقين بضلالة حربهم ، إلّا أنّهم استجابوا لرغباتهم النفسيّة في حبّ البقاء ، وتوقّح بعضهم فرموا الحرّ بالنبل وكان ذلك ما يملكونه من حجّة في الميدان .

السَّلَامُ عَلَى الْحُرِّ بْنِ يَزيدَ الرِّياحِيَّ

__________________________

(١) الهبل : الثكل والفقد . لسان العرب : ١٥ : ٢٠ ـ هبل .

(٢) العبر : البكاء وجريان الدمع . لسان العرب : ٩ : ١٨ ـ عبر .

(٣) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢٦ . الإرشاد : ٢ : ١٠٠ و ١٠١ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٨ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٩ .


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0191.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg




وارتبك ابن سعد حينما علم أنّ الحرّ قد التحق بمعسكر الإمام ، وهو من كبار قادة الفِرق في جيشه ، وخاف أن يلحتق غيره بالإمام ، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الإمام ، وأخذ سهماً كأنّه كان نابتاً في قلبه ، فأطلقه صوب الإمام ، وهو يصيح : اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى (١) .

واتّخذ بذلك وسيلة لفتح باب الحرب ، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة أنّه أوّل من رمى ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون أميره على ثقة من إخلاصه ، ووفائه للأمويّين ، وأن ينفي عنه كلّ شبهة من أنّه غير جادّ في حربه للحسين عليه‌السلام .

وتتابعت السهام كأنّها المطر على أصحاب الإمام ، فلم يبق أحد منهم إلّا أصابه سهم منها ، والتفت الإمام إلى أصحابه ، فأذن لهم في الحرب قائلاً : قُومُوا يا كِرَامُ ، فَهٰذه رُسُلُ الْقَوْمِ إِلَيْكُمْ (٢) .

وتقدّمت طلائع الشرف والمجد من أصحاب الإمام إلى ساحة الحرب لتحامي عن دين الله ، وتذبّ عن ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم على يقين لا يخامرهم أدنى شكّ أنّهم على الحقّ ، وأنّ الجيش الأموي على ضلال ، قد سخط الله عليه

__________________________

(١) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٨ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢٦ . الفتوح : ٥ : ١٠٠ .

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٠ . اللهوف : ٦٠ .


وأحلّ به نقمته .

لقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً ، وأربعون راجلاً من أصحاب الإمام عليه‌السلام مع عشرات الآلاف من الجيش الأموي ، وكانت تلك القلّة المؤمنة كفؤاً لتلك الكثرة التي تملك أضخم العتاد والسلاح ، فقد أبدت تلك القلّة من صنوف البسالة والشجاعة ما يبهر العقول ويحيّر الألباب .

الحملة الاُولى

وشنّت قوّات ابن سعد هجوماً عامّاً واسع النطاق على أصحاب الإمام عليه‌السلام وخاضوا معهم معركة ضارية ، وقد اشترك فيها المعسكر الأموي بكامل قطعاته ، وقد انبرى إليهم أصحاب الإمام بعزم وإخلاص لم يشهد له نظير في جميع الحروب التي جرت في الأرض ، فقد كانوا يخترقون جيش ابن سعد بقلوب أقوى من الصخر ، وقد أنزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات .

وقد استشهد نصف أصحاب الإمام عليه‌السلام في هذه الحملة (١) .

المبارزة بين المعسكرين

ولمّا سقطت الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمام عليه‌السلام صرعى على أرض الشهادة والكرامة ، هبّ من بقي منهم إلى المبارزة ، وقد ذعر المعسكر بأسره من بطولاتهم النادرة ، فكانوا يستقبلون الموت بسرور بالغ ، وقد ضجّ الجيش من الخسائر الفادحة التي مُني بها ، وقد بادر عمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وهو من الأعضاء البارزين في قيادة جيش ابن سعد فهتف في الجيش ينهاهم عن المبارزة قائلاً : يا حمقى ! أتدرون مَن تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان أهل المصر وقوماً مستميتين مستقلين ، فلا يبرزنّ لهم

__________________________

(١) مع الحسين في نهضته : ٢٢٠ .


منكم أحد فإنّهم قليل وقلّما يبقون ، والله لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم (١) .

وحكت هذه الكلمات ما اتّصف به السادة أصحاب الإمام الحسين عليه‌السلام من الصفات البارزة ، فهم فرسان أهل المصر ، وذلك بما يملكونه من الشجاعة ، وقوّة الإرادة ، وأنّهم أهل البصائر ، فلم يندفعوا إلى نصرة الإمام عليه‌السلام ، إلّا على بصيرة من أمرهم ، وليسوا كخصومهم الذين تردّوا في الغواية ، وماجوا في الباطل والضلال ، كما أنّهم قوم مستميتون ولا أمل لهم في الحياة .

لقد توفّرت في أصحاب الإمام جميع النزعات الخيّرة ، والصفات الكريمة من الإيمان والوعي والشجاعة وشرف النفس ، ويقول المؤرخّون : إنّ ابن سعد استصوب رأي ابن الحجّاج ، فأوعز إلى قوّاته بترك المبارزة معهم (٢) .

وشنّ عمرو بن الحجّاج هجوماً عامّاً على من تبقّى من أصحاب الإمام ، والتحموا معهم التحاماً رهيباً ، واشتدّ القتال أشدّ ما يكون القتال عنفاً .

وقد استنجد عزرة بن قيس بابن سعد ليمدّه بالرماة والرجال قائلاً : ألا ترىٰ ما تلقىٰ خيلي هذا اليوم من هذه العدّة اليسيرة ؟! ابعث إليهم الرجال والرماة .

وطلب ابن سعد من المنافق شبث بن ربعي القيام بنجدته ، فأبى ، وقال : سبحان الله ، شيخ مضر وأهل المصر عامّة تبعثه في الرماة ، لم تجد لهذا غيري ؟!

ولمّا سمع ذلك ابن سعد منه دعا الحصين بن نمير ، فبعث معه المجفّفة وخمسمائة من الرماة ، فسدّدوا لأصحاب الحسين عليه‌السلام السهام ، فأصابوا خيولهم فعقروها ، فصاروا كأنّهم رجّالة ، ولم تزدهم هذه الخسارة إلّا استبسالاً في القتال ،

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ١٠٣ . أنساب الأشراف : ٣ : ٤٠٠ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢١ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ١٥ . المنتظم : ٥ : ٣٣٩ .‌

(٢) الإرشاد : ٢ : ١٠٣ . أنساب الأشراف : ٣ : ٤٠٠ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٣١ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩٠ .


واستهانة بالموت ، فثبتوا كالجبال الشامخات ، ولم يتراجعوا خطوة واحدة ، وقد قاتل معهم الحرّ بن يزيد الرياحي راجلاً ، واستمرّ القتال كأعنف وأشدّ ما يكون ضراوة ، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه أشدّ قتال حدث في التاريخ ، وقد استمرّ حتّى انتصف النهار (١) .

أداء فريضة الظهر

وانتصف النهار وحان ميقات صلاة الظهر ، فوقف المؤمن المجاهد أبو ثمامة الصائدي ، فجعل يقلّب وجهه في السماء كأنّه ينتظر أعزّ شيء عنده ، وهي أداء صلاة الظهر ، فلمّا رأى الشمس قد زالت التفت إلى الإمام قائلاً : نفسي لنفسك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، والله لا تقتل حتّى اُقتل دونك ، واُحبّ أن ألقى ربّي ، وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها .

لقد كان الموت منه كقاب قوسين أو أدنى ، وهو لم يغفل عن ذكر ربّه ، ولا عن أداء فرائضه ، وجميع أصحاب الإمام عليه‌السلام كانوا على هذا السمت إيماناً بالله ، وإخلاصاً في أداء فرائضه .

ورفع الإمام رأسه ، فجعل يتأمّل في الوقت فرأى أن قد حلّ وقت أداء الفريضة ، فقال له : ذَكَرْتَ الصَّلَاةَ ، جَعَلَكَ اللهُ مِنَ المُصَلِّينَ الذَّاكِرِينَ . نَعَمْ هَذَا أَوَّلُ وَقْتِها .

وأمر الإمام عليه‌السلام أصحابه أن يطلبوا من معسكر ابن زياد أن يكفّوا عنهم القتال ليصلّوا لربّهم ، فسألوهم ذلك ، فانبرى الرجس الخبيث الحصين ابن نمير قائلاً : إنّها لا تُقبل .

فقال له حبيب بن مظاهر بسخرية : زعمت أنّها لا تقبل الصلاة من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________________

(١) أنساب الأشراف : ٣ : ٤٠١ و ٤٠٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٣١ و ٣٣٢ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩١ .


وتقبل منك يا حمار .

وحمل عليه الحصين ، فسارع إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فشبّت به الفرس فسقط عنها ، وبادر إليه أصحابه فاستنقذوه (١) .

واستجاب أعداء الله ـ مكيدة ـ لطلب الإمام فسمحوا له أن يؤدّي فريضة الصلاة ، وانبرى الإمام للصلاة ، وتقدّم أمامه سعيد بن عبد الله الحنفي يقيه بنفسه السهام والرماح واغتنم أعداء الله انشغال الإمام وأصحابه بالصلاة ، فراحوا يرشقونهم بسهامهم وكان سعيد الحنفي يبادر نحو السهام فيتّقيها بصدره ونحره ، ووقف ثابتاً كالجبل لم تزحزحه السهام ، ولا الرماح والحجارة التي اتّخدته هدفاً لها ، ولم يكد يفرغ الإمام من صلاته حتّى اُثخن سعيد بالجراح ، فهوى إلى الأرض يتخبّط بدمه ، وهو يقول : « اللّهمّ العنهم لعن عاد وثمود ، وأبلغ نبيك مني السلام ، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح فإنّي أردت بذلك ثوابك ونصرة ذريّة نبيّك » .

والتفت إلى الإمام قائلاً له بصدق وإخلاص : أوفيت يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فأجابه عليه‌السلام شاكراً له : نَعَمْ ، أَنْتَ أَمامِي فِي الْجَنَّةِ .

وملئت نفسه فرحاً حينما سمع قول الإمام ، ثمّ فاضت نفسه العظيمة إلى بارئها ، فقد اُصيب بثلاثة عشر سهماً عدا الضرب والطعن (٢) .

وكان هذا منتهى ما وصل إليه الوفاء والإيمان والولاء للحقّ .

__________________________

(١) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٣٥ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩١ .

(٢) اللهوف : ٦٦ . إبصار العين : ١٦٥ ـ ١٦٧ . أنساب الأشراف : ٣ : ٤٠٣ .

وفي تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٣٧ . ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ١٧ : « أنّه أبو ثمانة الصائدي » .


مصرع بقيّة الأنصار

وتسابقت البقيّة الباقية من أصحاب الإمام من شيوخ وشباب وأطفال إلى ساحات المعركة ، وقد أبلوا بلاءً حسناً يقصر عنه كلّ وصف وإطراء ، وقد جاهدوا جهاداً لم يعرف التاريخ له نظيراً في جميع عمليّات الحروب التي جرت في الأرض ، فقد قابلوا على قلّة عددهم الجيوش المكثّفة ، وأنزلوا بها أفدح الخسائر ، ولم تضعف لأي رجل منهم عزيمة ، ولم تلن لهم قناة ، وقد خضّبوا جميعاً بالدماء ، وهم يشعرون الغبطة بالفخار .

وقد وقف الإمام العظيم على مصارعهم ، فكان يتأمّل بوجهه الوديع فيهم ، فيراهم مضمّخين بدم الشهادة ، فكان يقول : قَتْلَانا قَتْلَى النَّبِيِّينَ وَآلِ النَّبِيِّينَ (١) .

لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى ، وقد حازوا الفخر الذي لا فخر مثله ، فقد سجّلوا شرفاً لهذه الاُمّة لا يساويه شرف ، وأعطوا للإنسانيّة أفضل ما قُدّم لها من عطاء على امتداد التاريخ .

وعلى أي حال ، فقد شارك أبو الفضل العبّاس الأنصار الممجّدين في جهادهم ، وخاض معهم غمار الحرب ، وكانوا يستمدّون منه البسالة ، وقوّة الإرادة ، والعزم على التضحية ، وقد أنقذ بعضهم حينما وقع عليه التفاف من بعض قطعات الجيش الأموي .

مصارع آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

وبعدما سقطت الصفوة الطيّبة من أصحاب الإمام عليه‌السلام صرعى وهي معطّرة بدم الشهادة والكرامة ، هبّ أبناء الاُسرة النبويّة كالاُسود الضارية للدفاع عن ريحانة

__________________________

(١) بحار الأنوار : ٤٥ : ٨٠ . عوالم العلوم : ١٧ : ٣٤٧ .


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذبّ عن عقائل النبوّة ومخدّرات الرسالة .

وأوّل مَن تقدّم إلى البراز منهم شبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خَلقاً وخُلقاً ، عليّ الأكبر عليه‌السلام ، فقد آثر الموت وسخر من الحياة في سبيل كرامته ، ولا يخضع لحكم الدعيّ بن الدعيّ ، ولما رآه الإمام أخذ يطيل النظر إليه ، وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات ، وأشرف على الاحتضار ، فرفع شيبته الكريمة نحو السماء ، وراح يقول بحرارة وألم ممض :

اللّٰهُمَّ اشْهَدْ عَلَىٰ هٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَقَدْ بَرَزَ إِلَيْهِمْ غُلَامٌ أَشْبَهُ النّاسِ بِرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله خَلْقاً وَخُلُقاً وَمَنْطِقاً ، وَكُنّا إِذا اشْتَقْنَا إِلىٰ رُؤْيَةِ نَبِيِّكِ نَظَرْنَا إِلَيْهِ . اللّٰهُمَّ امْنَعْهُمْ بَرَكاتِ الْأَرْضَ ، وَفَرِّقْهُمْ تَفْرِيقاً ، وَمَزِّقْهُمْ تَمْزِيقاً ، وَاجْعَلْهُمْ طَرائِقَ قِدَداً ، ولَا تُرْضِي الْوُلَاةَ عَنْهُمْ أَبَداً ، فَإِنَّهُمْ دَعَوْنا لِيَنْصِرُونا ، ثُمَّ عَدوا عَلَيْنا يُقاتِلُونَنا .

لقد تجسّدت صفات الرسول الأعظم النفسيّة والخُلقيّة بحفيده عليّ الأكبر عليه‌السلام ، وأعظِم بهذه الثروة التي ملكها سليل هاشم وفخر عدنان ، وقد تقطّع قلب الإمام عليه‌السلام على ولده ، فصاح بابن سعد :

ما لَكَ ؟! قَطَعَ اللهُ رَحِمَكَ ، وَلَا بارَكَ لَكَ فِي أَمْرِكَ ، وَسَلَّطَ عَلَيْكَ مَنْ يَذْبَحُكَ بَعْدِي عَلَىٰ فِراشِكَ ، كَما قَطَعْتَ رَحِمِي وَلَمْ تَحْفَظْ قَرابَتِي مِنْ رَسُولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثُمَّ تلا قوله تعالىٰ : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *‏ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) . (٢)

وشيّع الإمام عليه‌السلام فلذة كبده وهو غارق بالأسى والحسرات ، وخلفه عقائل النبوّة ،

__________________________

(١) آل عمران ٣ : ٣٣ و ٣٤ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٥ : ٤٢ ـ ٤٣ . الفتوح : ٥ : ١١٤ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣٠ .


وقد علا منهنّ الصراخ والعويل على شبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي ستتناهب جسمه السيوف والرماح .

وبرز الفتى مزهوّاً إلى حومة الحرب ، لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وهو يحمل هيبة جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشجاعة جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبأس حمزة عمّ أبيه ، وإباء الحسين ، وتوسّط حراب الأعداء ، وهو يرتجز بفخر وعزّة قائلاً :

أَنا عَلِيُّ بْنُ الحُسَينِ بْنِ عَلِي

نَحْنُ وَرَبِّ البَيْتِ أَولىٰ بِالنَّبِي

تاللهِ لا يَحْكُمُ فِينا ابنُ الدَعِي (١)

أجل يا بن الحسين فخر هذه الاُمّة ، ورائد نهضتها وكرامتها ، أنت وأبوك أحقّ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوْلى بمركزه ومقامه من هؤلاء الأدعياء الذين حوّلوا حياة المسلمين إلى جحيم لا يطاق .

وأعلن عليّ بن الحسين عليه‌السلام في رجزه عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وأنّه يؤثر الموت على الذلّ والخنوع للدعي بن الدعيّ ، وقد ورث هذه الظاهرة من أبيه سيّد الاُباة في الأرض ، والتحم فخر هاشم مع أعداء الله ، وقد ملأ قلوبهم رعباً وفزعاً ، وقد أبدى من الشجاعة والبسالة ما يقصر عنه الوصف ، ويقول المؤرّخون : إنّه ذكّرهم ببطولات جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي هو أشجع إنسان خلقه الله ، فقد قتل فيما يقول المؤرّخون مائة وعشرين فارساً (٢) سوى المجروحين ، وألحّ عليه العطش ، وأضرّ به الظمأ ، فقفل راجعاً إلى أبيه يطلب منه جرعة من الماء ، ويودّعه

__________________________

(١) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٤٠ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩٣ . الإرشاد : ٢ : ١٠٦ . مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٩ . الفتوح : ٥ : ١١٤ و ١١٥ ، وفي الجميع اختلاف بالأُرجوزة وعدد الأبيات .

(٢) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣٠ .


الوداع الأخير ، واستقبله أبوه بأسى ، فبادر عليّ قائلاً : « يا أبةِ ، العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل إلىٰ شربة ماء من سبيل أتقوّىٰ بها على الأعداء ؟ » (١) .

والتاع الإمام أشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة ، فقال له بصوت خافت وعيناه تفيضان دموعاً : وَا غَوْثاهُ ، ما أَسْرَعَ الْمُلْتَقَىٰ بِجَدِّكَ ، فَيَسْقِيكَ بِكَأْسِهِ شَرْبَةً لَا تَظْمَأُ بَعْدَها أَبَداً (٢) .

وأخذ لسانه فمصّه ليريه ظمأه ، فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش ، ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه (٣) .

لقد كان هذا المنظر الرهيب من أقسى ما فجع به ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد رأى فلذة كبده وهو في ريعان الشباب وغضارة العمر كالبدر في بهائه ، قد استوعبت الجراحات جسمه الشريف ، وقد أشرف على الموت من شدّة العطش ، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء .

يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق :

يَشْكُو لِخَيرِ أَبٍ ظَمَاهُ وَمَا اشْتَكَىٰ

ظَمَأَ الحَشَا إِلَّا إلَى الظَّامِي الصَّدِي

كُلٌّ حُشَاشَتُهُ كَصَالِيةِ الغَضَا

وَلِسَانُهُ ظَمِئٌ كَشِقَّةِ مِبْرَدِ (٤)

فَانْصَاعَ يُؤْثِرُهُ عَلَيهِ بِرِيقِهِ

لَو كَانَ ثَمَّةَ رِيقُهُ لَمْ يَجْمُدِ (٥)

__________________________

(١) بحار الأنوار : ٤٥ : ٤٣ . الدمعة الساكبة : ٤ : ٣٣٠ . الفتوح : ٥ : ١١٤ و ١١٥ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .

(٢) اللهوف : ٦٧ .

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .

(٤) الحشاشة : رُوح القلب ورمق الحياة . لسان العرب : ٣ : ١٨٨ ـ حشش .

(٥) رياض المدح والرثاء : ١٢٢ . مقتل الحسين عليه‌السلام / المقرّم : ٣٢٣ .


وقفل فخر هاشم إلى ساحة الحرب ، قد فتكت الجروح بجسمه الشريف ، وفتّت العطش قلبه ، وهو لم يحفل بما هو فيه من آلام لا تُطاق ، وإنّما استوعبت مشاعره وعواطفه وحدة أبيه يراه وقد اُحيط به من كلّ جانب ومكان ، وجميع قطعات الجيش متعطّشة إلى سفك دمه لتتقرّب به إلى ابن مرجانة ، وجعل عليّ بن الحسين يرتجز أمام الأعداء :

الحَرْبُ قَدْ بَانَتْ لَهَا حَقَائِقْ

وَظَهَرَتْ مِن بَعْدِهَا مَصَادِقْ

وَاللهِ ربِّ العَرشِ لَا نُفَارِقْ

جُمُوعَكُم أَوْ تُغْمَدُ البَوارِقْ (١)

لقد تجلّت حقائق الحرب ، وبرزت معالمها وأهدافها بين الفريقين ، فالإمام الحسين عليه‌السلام إنّما يناضل من أجل رفع الغبن الاجتماعي ، وضمان حقوق المظلومين والمضطهدين ، وتوفير الحياة الكريمة لهم ، والجيش الأموي إنّما يقاتل من أجل استعباد الناس وجعل المجتمع بستاناً للأمويّين ، يستغلّون جهودهم ، ويرغمونهم على ما يكرهون ، وأعلن عليّ بن الحسين عليه‌السلام في رجزه أنّه سيبقى يناضل عن الأهداف النبيلة والمبادئ العليا حتّى تغمد البوارق .

وجعل نجل الحسين عليه‌السلام يقاتل أشدّ القتال وأعنفه حتّى قتل تمام المائتين (٢) .

وقد ضجّ العسكر من شدّة الخسائر الفادحة التي مُني بها ، فقال الرجس الخبيث مرّة بن منقذ العبدي علَيَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه (٣) .

وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فطعنه بالرمح في ظهره ، وضربة ضربة غادرة بالسيف على رأسه ، ففلق هامته ، فاعتنق الفتى فرسه ظنّاً منه أنّه

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ١١٥ .

(٢) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام / المقرّم : ٣٢٣ . مقاتل الطالبيّين : ١١٥ .


سيرجعه إلى أبيه ليودّعه الوداع الأخير إلّا أنّ الفرس حمله إلى معسكر الأعداء ، فأحاطوا به من كلّ جانب ، فقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً تشفّياً منه لما ألحقه بهم من الخسائر الفادحة ، ورفع الفتى صوته : « عليك منّي السلام أبا عبد الله ، هذا جدّي رسول الله قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها ، وهو يقول : إنّ لك كأساً مذخورة » (١) .

وحمل الأثير هذه الكلمات إلى أبيه فقطّعت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، ففزع إليه وهو خائر القوى ، مهندّ الركن ، قد أشرف على الموت ، فوضع خدّه على خدّ ولده ، وهو جثّة هامدة ، قد قطعت جسمه السيوف ، فأخذ يذرف أحرّ الدموع ، وهو يقول بصوت خافت قد حمل شظايا قلبه الممزق : قَتَلَ اللهُ قَوْماً قَتَلُوكَ ، يا بُنَي ، ما أَجْرَأَهُمْ عَلَى اللهِ ، وَعَلَى انْتِهاكِ حُرْمَةِ الرَّسُولِ ، عَلَى الدُّنْيا بَعْدَكَ الْعَفا (٢) .

وكان العباس عليه‌السلام إلى جانب أخيه ، وقد ذاب قلبه ، وذهبت نفسه حزناً وأسى على ما حلّ بهم من عظيم الكارثة ، وأليم المصاب ، لقد قتل ابن أخيه الذي كان ملء فم الدنيا في فضائله ومآثره ، فما أعظم الرزيّة ، وما أجلّ مصابه !!

وهرعت الطاهرة حفيدة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله زينب عليها‌السلام إلى جثمان ابن أخيها فانكبّت عليه تضمّخه بدموعها ، وهي صارخة معولة تندبه بأشجى ما تكون الندبة قائلة : وا ابن أخاه . . وا ثمرة فؤاداه .

وأثّر منظرها الحزين في نفس الإمام ، فجعل يعزّيها بمصابها الأليم وهو بحالة المحتضر ، ويردّد بأسى : عَلَى الدُّنيا بَعْدَكَ العَفا .

لك الله يا أبا عبد الله على هذه الكوارث التي تميد بالصبر ، وتهتزّ من هولها الجبال ، لقد تجرّعتها في سبيل هذا الدين الذي عبثت به العصابة المجرمة من

__________________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .

(٢) نسب قريش : ٥٧ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٤٠ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩٣ .


الأمويّين وعملائهم .

مصارع آل عقيل

وهبّت الفتية الأماجد من آل عقيل إلى الجهاد لتفدي إمام المسلمين وريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي ساخرة من الحياة ، ومستهينة بالموت ، وقد نظر الإمام عليه‌السلام إلى بسالتهم واندفاعهم بشوق إلى الذبّ عنه ، فقال : اللّهُمَّ اقْتُلْ قاتِلَ آلِ عَقِيلٍ .

وكان يقول : صَبْراً آلَ عَقِيلٍ إِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ (١) .

وقد ألحقوا بالعدوّ خسائر فادحة ، فقد قاتلوا كالاُسود الضارية ، وعلوا بإرادتهم وعزمهم الجبّار على جميع فصائل ذلك الجيش ، وقد استشهد منهم تسعة من أطايب الشباب ، ومن مفاخر أبناء الاُسرة النبويّة ، وفيهم يقول الشاعر :

عَينُ جُودِي بِعَبرَةٍ وَعَوِيلِ

وَانْدُبِي إِنْ نَدَبْتِ آلَ الرَّسُولِ

تِسْعَةً كُلَّهُم لِصُلْبِ عَليٍّ

قَد أُصيبُوا وَسَبْعَةً لِعَقِيلِ (٢)

__________________________

(١) بطل العلقمي : ١ : ٢٢٧ . ينابيع المودة : ٣ : ٧٣ .

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : ١٥ : ٢٣٦ .

وفي بحار الأنوار : ٤٥ : ٢٩١ ، وعوالم العلوم : ١٧ : ٥٨٨ ، هكذا :

وَاندُبِي تِسْعَةً لِصُلْبِ عَلِيٍّ

قَدْ أُصِيبُوا وَخَمْسَةً لِعَقيلِ

وهو الموافق لما ذكره الطبري . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٦٦٢ .

وفي أنساب الأشراف : ٣ : ٤٢٢ ، هكذا :

خَمْسَةً مِنْهُمُ لِصُلْبِ عَلِيٍّ

قَد أُصيبُوا وَسَبْعَةً لِعَقِيلِ

وفي النزاع والتخاصم : ٢٩ ، هكذا :

تِسْعَةً مِنْهُمُ لِصُلْبِ عَلِيٍّ

قَد أُصِيبُوا وَتِسْعَةً لِعَقِيلِ

وفي المعارف : ٢٠٤ ، هكذا :

سَبْعَةً كُلَّهُم لِصُلبِ عَلِيٍّ

قَدْ أُصِيبُوا وَتِسْعَةً لِعَقِيلِ


وقد صعدت أرواحهم الطاهرة إلى الفردوس الأعلى حيث مقرّ النبيّين والصدّيقين والصالحين وحسن اُولئك رفيقاً .

مصارع أبناء الحسن عليه‌السلام

وسارعت الفتية من أبناء الإمام الزكيّ أبي محمّد عليه‌السلام إلى نصرة عمّهم والذبّ عنه ، وقلوبهم تنزف دماً على ما حلّ به من عظيم الكوارث والخطوب ، وكان من بينهم القاسم ، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه كالقمر في جمال طلعته وبهائه ، وقد غذّاه عمّه بمواهبه ، وأفرغ عليه أشعّة من روحه حتّى صار من أمثلة الكمال والآداب .

وكان القاسم وبقيّة إخوانه يتطلّعون إلى محنة عمّهم ، ويودّون أن يردّوا عنه عوادي الأعداء بدمائهم وأرواحهم ، وكان القاسم يقول : « لا يقتل عمّي وأنا أحمل السيف » (١) .

وانبرى القاسم يطلب الإذن من عمّه ليجاهد بين يديه ، فاعتنقه الإمام وعيناه تفيضان دموعاً ، وأبى أن يأذن له ، إلّا أنّ الفتى ألحّ عليه ، وأخذ يقبّل يديه ورجليه ليسمح له بالجهاد ، فأذن له .

وانطلق رائد الفتوّة الإسلاميّة إلى ساحة الحرب ، ولم يضف على جسده الشريف لامة حرب ، محتقراً لاُولئك الوحوش ، وقد التحم معهم يحصد رؤوسهم ، ويجندل أبطالهم ، كأنّ المنايا كانت طوع إرادته ، وبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله الذي هو أشرف من ذلك الجيش ، وأنف سليل النبوّة والإمامة أن تكون إحدى رجليه بلا نعل ، فوقف يشدّه متحدّياً لهم ، واغتنم هذه الفرصة كلب من كلاب ذلك الجيش ، وهو عمرو بن سعد الأزدي ، فقال : والله لأشدّنَّ عليه .

فأنكر عليه ذلك حميد بن مسلم ، وقال له : سبحان الله ! وما تريد بذلك ؟ يكفيك

__________________________

(١) البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان : ٢٥ .


هؤلاء القوم الذين ما يبقون علىٰ أحد منهم .

فلم يعنَ الخبيث به ، وشدّ عليه فضربه بالسيف على رأسه الشريف ، فهوى إلى الأرض كما تهوي النجوم صريعاً يتخبّط بدمه القاني ، ونادى بأعلى صوته : « يا عمّاه » .

وكان الموت أهون على الإمام من هذا النداء ، فقد تقطّع قلبه ، وفاضت نفسه أسىً وحسرات ، وسارع نحو ابن أخيه ، فعمد إلى قاتله فضربه بالسيف ، فاتّقاها بساعده فقطعها من المرفق ، وطرحه أرضاً ، وحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلّا أنّ الأثيم هلك تحت حوافر الخيل ، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يوسعه تقبيلاً والفتى يفحص بيديه ورجليه كالطير المذبوح ، وجعل الإمام يخاطبه بذوب روحه :

بُعْداً لِقَومٍ قَتَلوكَ ، وَمَنْ خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيْكَ جَدُّكَ . عَزَّ وَاللهِ عَلَىٰ عَمِّكَ أَنْ تَدْعُوَهُ فَلَا يُجِيبُكَ ، أَوْ يُجِيبَكَ فَلَا يَنفَعُكَ ، صَوتٌ وَاللهِ كَثُرَ وَاتِرُهُ ، وَقَلَّ ناصِرُهُ (١) .

وحمل الإمام ابن أخيه بين ذراعيه ، وهو يفحص بيديه ورجليه (٢) حتّى فاضت نفسه الزكيّة بين يديه .

وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر ، وسائر القتلى الممجّدين من أهل بيته ، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدّع قلبه ، وأخذ يدعو على السفكة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرّيّة نبيّه ، قائلاً :

اللّٰهُمَ احْصِهِمْ عَدَداً ، وَلَا تُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ، وَلَا تَغْفِرْ لَهُمْ أَبَداً ، صَبْراً يا بَنِي عُمُومَتِي ، صَبْراً يا أَهْلَ بَيْتِي ، لَا رَأَيْتُمْ هَواناً بَعْدَ هٰذَا الْيَومِ أبَداً (٣) .

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ١٠٨ . تاريخ الاُمم الملوك : ٤ : ٤٣١ و ٣٤٢ . البداية والنهاية : ٨ : ١٨٨ .

(٢) البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان : ٢٥ .

(٣) الدر النظيم : ٢٧١ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٢٨ .


وبرز من بعده عون بن عبد الله بن جعفر ، ومحمّد بن عبد الله بن جعفر ، واُمّهما العقيلة الطاهرة حفيدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله زينب الكبرى عليها‌السلام وقد نالا شرف الشهادة مع حفيد النبيّ وريحانته .

ولم يبق بعد هؤلاء الصفوة من أهل البيت عليهم‌السلام ، إلّا اخوة الإمام الحسين عليه‌السلام ، وفي طليعتهم أخوه أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام ، وكان إلى جانب أخيه كقوّة ضاربة يحميه من أي اعتداء عليه ، وقد شاركه في جميع آلامه وأحزانه .


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0209.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg




وذاب قلب أبي الفضل أسىً وحزناً ، وودّ أنّ المنيّة قد اختطفته ولا يشاهد تلك الكوارث والخطوب التي تذهل كلّ كائن حيّ ، وتميد بالصبر ، ولا يقوى على تحمّلها أي إنسان إلّا اُولي العزم من أنبياء الله الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان واصطفاهم على عباده .

ومن بين تلك الكوارث المذهلة التي عاناها أبو الفضل عليه‌السلام أنّه كان يستقبل في كلّ لحظة شابّاً أو غلاماً لم يراهق الحلم من أهل بيته ، قد مزّقت أجسامهم سيوف الأمويّين وحرابهم ، ويسمع صراخ بنات الرسالة وعقائل النبوّة وهنّ يلطمن وجوههنّ ، ويندبن بأشجى ما تكون الندبة اُولئك البدور الذين تضمّخوا بدم الشهادة دفاعاً عن ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن بين المحن الشاقّة التي عاناها أبو الفضل عليه‌السلام أنّه يرى أخاه ، وشقيق روحه الإمام الحسين عليه‌السلام قد أحاطت به أوغاد أهل الكوفة لتتقرّب بقتله إلى سليل الأدعياء ابن مرجانة ، وقد زادته هذه المحن إيماناً وتصميماً على مناجزة أعداء الله ، وبذله حياته فداءً لسبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ونعرض يإيجاز إلى شهادته ، وما رافق ذلك من أحداث .

العبّاس عليه‌السلام مع اخوته

وانبرى بطل كربلاء إلى أشقّائه بعد شهادة الفتية من أهل البيت عليهم‌السلام ، فقال لهم :


« تقدّموا يا بني أُمّي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله فإنّه لا ولد لكم » (١) .

لقد طلب من إخوانه الممجّدين أن يقدّموا نفوسهم قرابين لدين الله ، وأن ينصحوا في جهادهم لله ورسوله ، ولم يلحظ في تضحيتهم أي اعتبار آخر من النسب وغيره .

والتفت أبو الفضل إلى أخيه عبد الله ، فقال له : تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً ، وأحتسبك (٢) .

واستجابت الفتية إلى نداء الحقّ فهبّوا للدفاع عن سيّد العترة وإمام الهدى الحسين عليه‌السلام .

قول رخيص

ومن أهزل الأقوال ، وأبعدها عن الحقّ ما ذكره ابن الأثير أنّ العبّاس عليه‌السلام قال لاخوته : « تقدّموا حتّى أرثكم » ، فقال ما نصّه : « وقال العبّاس بن عليّ لاخوته من اُمّه : عبد الله وجعفر وعثمان ، تقدّموا حتّى أرثكم ، فإنّه لا ولد لكم ، ففعلوا ، فقتلوا » (٣) .

لقد قالوا بذلك ، ليقلّلوا من أهميّة هذا العملاق العظيم الذي هو من ذخائر الإسلام ، ومن مفاخر المسلمين ، وهل من الممكن أن يفكّر فخر هاشم في الناحية الماديّة في تلك الساعة الرهيبة التي كان الموت المحتّم منه كقاب قوسين أو أدنى .

مضافاً إلى الكوارث التي أحاطت به ، فهو يرى أخاه قد أحاطت به جيوش الأمويّين ، وهو يستغيث فلا يُغاث ، ويسمع صراخ عقائل النبوّة ومخدّرات الرسالة ،

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ١٠٩ .

(٢) مقاتل الطالبيّين : ٨٨ .

(٣) الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩٤ .


فقد كان همّه الوحيد الرحيل من الدنيا ، واللحوق بأهل بيته الذين حصدتهم سيوف الأمويّين .

وبالإضافة لهذا كلّه فإنّ السيّدة اُمّ البنين اُمّ السادة الأماجد كانت حيّة ، فهي التي تحوز ميراث أبنائها لأنّها من الطبقة الاُولى لو كان لأبنائها أموال ، فإنّ أباهم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قد انتقل من هذه الدنيا ولم يخلّف صفراء ولا بيضاء ، فمن أين جاءت أبناءه الأموال .

ومن المحتمل قويّاً أن يكون الوارد في كلام سيّدنا أبي الفضل عليه‌السلام : « حتّى أثأركم . . . » أي أطلب بثاركم فحرّف كلامه .

مصارع اخوة العبّاس عليه‌السلام

واستجاب السادة اخوة العبّاس إلى نداء أخيهم فهبّوا للجهاد ، ووطّنوا نفوسهم على الموت دفاعاً عن أخيهم ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد برز عبد الله ابن أمير المؤمنين عليه‌السلام والتحم مع جيوش الأمويّين ، وهو يرتجز :

شَيخِي عَلِيٌّ ذُو الفَخَارِ الأَطْوَلِ

مِن هَاشِمِ الخَيْرِ الكَرِيمِ المُفْضِلِ

هَذَا حُسَينُ ابْـنُ النَبِيِّ المُرْسَلِ

عَنْهُ نُحَامِي بِالحُسَامِ المُصْقَلِ

تَفدِيهِ نَفْسِي مِن أَخٍ مُبَجَّلِ

يَا رَبِّ فَامْنَحنِي ثَوابَ المَنزِلِ (١)

لقد أعرب بهذا الرجز عن اعتزازه وافتخاره بأبيه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، باب مدينة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووصيّه ، كما اعتزّ بأخيه سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين عليه‌السلام ، وقد أعلن أنّه إنّما يدافع عنه لأنّه ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويلتمس بذلك أن يمنحه الله الدرجات الرفيعة .

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ١١٢ .


ولم يزل الفتى يقاتل أعنف القتال وأشدّه حتّى شدّ عليه رجس من أرجاس أهل الكوفة ، وهو هاني بن ثبيت الحضرمي فقتله (١) .

وبرز من بعده أخوه جعفر ، وكان له من العمر تسع عشرة سنة ، فجعل يقاتل قتال الأبطال ، فبرز إليه قاتل أخيه فقتله (٢) .

وبرز من بعده أخوه عثمان ، وهو ابن إحدى وعشرين سنة ، فرماه خولي بسهم فأضعفه ، وشدّ عليه رجس من بني دارم وأخذ رأسه ليتقرّب به إلى ابن الأمة الفاجرة عبيد الله بن مرجانة (٣) .

لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى ، وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله ، وأشدّ ما تكون إيماناً بعدالة تضحيتهم التي هي من أنبل التضحيات

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ١٠٩ .

وفي الفتوح : ٥ : ١١٢ : « إنّ الذي قتله زحر بن بدر النخعي » .

وفي مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٧ : « بعد شهادة جعفر برز أخوه عبد الله قائلاً :

أَنَا ابْنُ ذِي النَّجْدَةِ وَالْإِفْضَالِ

ذَاكَ عَلِيُّ الخَيْرِ ذُو الفِعَالِ

سَيْفُ رَسُولِ اللهِ ذِي النَّكَالِ

فِي كُلِّ يَوْمٍ ظَاهرِ الأَهوَالِ

فقتله هانئ بن شبيب الحضرمي لعنه الله » . بحار الأنوار : ٤٥ : ٣٨ . مقتل الحسين عليه‌السلام : الخوارزمي : ٢ : ٢٩ .

(٢) مقاتل الطالبيّين : ٨٣ .

وذكر ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٧ : « ثمّ برز أخوه جعفر منشأً يقول :

إِنِّي أَنَا جَعفَرُ ذُو المَعَالِي

ابنُ عَلِيِّ الخَيْرِ ذِي النَّوالِ

ذَاكَ الوَصِيُّ ذُو السَّنَا وَالوَالِي

حَسْبِي بِعَمِّي شَرَفاً وَالخَالِ

فرماه خولي الأصبحي فأصاب شقيقته أو عينيه » .

(٣) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٧ . مقاتل الطالبيّين : ٨٩ .


في العالم .

مصرع أبي الفضل عليه‌السلام

ولمّا رأى أبو الفضل عليه‌السلام وحدة أخيه ، وقتل أصحابه وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله ، انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق ، فلم يسمح له الإمام ، وقال له بصوت حزين النبرات : أَنْتَ صاحِبُ لِوَائِي .

لقد كان الإمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل ، فهو كقوّة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه ، ويردّ عنه كيد المعتدين .

وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً : « لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، وأُريد أن آخذ ثأري منهم » (١) .

لقد ضاق صدره ، وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من إخوته وأبناء عمومته صرعى مجزّرين على رمضاء كربلاء ، فتحرّق شوقاً للأخذ بثأرهم والالتحاق بهم . وطلب الإمام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش ، فانبرى الشهم النبيل نحو اُولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة ، فجعل يعظهم ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته .

ووجّه خطابه بعد ذلك إلى ابن سعد : « يا بن سعد ، هذا الحسين ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد أحرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول : دعوني أذهب إلى الروم أو الهند واخلي لكم الحجاز والعراق » .

وساد صمت رهيب على قوّات ابن سعد ، ووجم الكثيرون ، وودّوا أنّ الأرض تسيخ بهم ، فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً :

__________________________

(١) بحار الأنوار : ٤٥ : ٤١ .


يابن أبي تراب ، لو كان وجه الأرض كلّه ماءً وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلّا أن تدخلوا في بيعة يزيد .

لقد بلغت الخسّة ، ولؤم العنصر ، وخبث السريرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار .

وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وطغيانهم ، وسمع فخر عدنان صراخ الأطفال وهم يستغيثون وينادون : العطش . . العطش (١) .

ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم ، وأشرفوا على الهلاك من شدّة العطش ، وفزع أبو الفضل ، وسرى الألم العاصف في محيّاه ، واندفع ببسالة لاغاثتهم ، فركب فرسه وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات ، فانهزم الجيش من بين يديه ، واستطاع أن يفكّ الحصار الذي فرض على الماء ، فاحتلّه ، وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدّة العطش ، فاغترف من الماء غرفة ليشرب منه ، إلّا أنّه تذكّر عطش أخيه ، ومن معه من النساء والأطفال ، فرمى الماء من يده ، وامتنع أن يروي غليله ، وقال :

يَا نَفْسُ مِن بَعْدِ الحُسِينِ هُونِي

وَبَعْدَهُ لا كُنْتِ أن تَكُونِي

هَذا الحُسَينُ وَارِدَ المَنُونِ

وَتَشْرَبِينَ بَارِدَ المَعِينِ

تَاللهِ مَا هَذَا فِعَالُ دِينِي

وَلَا فِعَالُ صَادِقِ اليَقِينِ (٢)

إنّ الإنسانية بكل إجلال وإكبار لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الفضيلة والإسلام ، وهي تلقي على الأجيال أروع الدروس عن الكرامة الإنسانية .

إنّ هذا الايثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان كان من أبرز الذاتيّات في خُلق

__________________________

(١) معالي السبطين : ١ : ٤٤٤ و ٤٤٥ .

(٢) مقتل الحسين عليه‌السلام / أبو مخنف : ٦١ . مقتل الحسين عليه‌السلام / المقرّم : ٣٣٦ .


سيّدنا أبي الفضل ، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله ، فأيّ إيثار أنبل أو أصدق من هذا الايثار ؟

واتّجه فخر هاشم مزهوّاً نحو المخيّم بعدما ملأ القربة ، وهي عنده أثمن من حياته ، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشريّة التحاماً رهيباً ، فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز :

لَا أَرْهَـبُ المَوْتَ إِذَا المَـوتُ زَقا

حَتَّى أُوارَىٰ فِي المَصالِيتِ لِقا

نَفْسِي لِنَفْسِ المُصطَفَى الطُّهرِ وِقا

إنِّي أَنا العَبّاسُ أَغْـدُو بِالسِّقا

وَلَا أَخَافُ الشَّرَ يَومَ المُلتَقَىٰ (١)

لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة ، وأنّه لا يخشى الموت ، وإنّما يستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحقّ ، وفداءً لأخيه سبط النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه لفخور أن يغدو بالسقاء مملوءً من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت .

وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب ، فقد ذكّرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ، ومحطّم فلول الشرك ، إلّا أنّ وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة ، ولم يستقبله بوجهه ، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها .

لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء ، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ولم يعن بها بطل كربلاء وراح يرتجز :

وَاللهِ إِنْ قَطَعْتُـمُ يَمِينِي

إِنِّي أُحَامِي أَبَداً عَنْ دِينِي

__________________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٨ . إبصار العين : ٤٤ .


وَعَنْ إِمامٍ صادِقِ اليَقِينِ

نَجْلِ النَّبِيِّ الطّاهِرِ الأَمِينِ (١)

ودلّل بهذا الرجز على الأهداف العظيمة ، والمُثل العليا التي يناضل من أجلها فهو إنّما يناضل دفاعاً عن الإسلام ، ودفاعاً عن إمام المسلمين ، وسيّد شباب أهل الجنّة .

ولم يبعد العبّاس قليلاً حتّى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرّية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها ، وحمل القربة بأسنانه ـ حسبما تقول بعض المصادر ـ وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت عليهم‌السلام وهو غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء ، وألم الجراح ، وشدّة العطش (٢) ، وكان ذلك حقّاً هو منتهى ما وصلت إليه الإنسانيّة من الشرف والوفاء والرحمة .

وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فاُريق ماؤها ، ووقف البطل حزيناً ، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه ، وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته ، وهوى على الأرض وهو يؤدّي تحيّته ووداعه الأخير إلى أخيه قائلاً : « عليك منّي السلام أبا عبد الله » (٣) .

وحمل الأثير محنته إلى أخيه ، فمزّقت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل ، واقتحم جيوش الأعداء فوقف على جثمان أخيه ، فألقى بنفسه عليه ، وجعل يضمّخه بدموع عينيه وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً : الْآن انْكَسَرَ ظَهْرِي ، وَقَلَّتْ حِيلَتِي ، وَشَمِتَ

__________________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٨ . ينابيع المودّة : ٣ : ٦٨ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٥ : ٤١ و ٤٢ .

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام / المقرّم : ٣٣٨ . ينابيع المودّة : ٣ : ٦٨ .


بي عَدُوّي (١) .

وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه ، وقد انهارت قواه ، وانهدّ ركنه ، وتبدّدت جميع آماله ، وودّ أنّ الموت قد وافاه قبله .

وقد وصف السيّد جعفر الحلّي حالته بقوله :

فَمَشىٰ لِمَصرَعِهِ الْحُسَيْنُ وَطَرفُهُ

بَينَ الْخِيامِ وَبَينَهُ مُتَقَسِّمُ

أَلْفـاهُ مَحْجوبَ الجَمالِ كَأَنَّهُ

بَدرٌ بِمُنحَطمِ الوَشيجِ مُلَثَّمُ

فَأَكَبَّ مُنحَنِياً عَلَيهِ وَدَمعُهُ

صَبَغَ البَسيطَ كَأَنَّما هُوَ عَنْدَمُ

قَدْ رامَ يَلثِمُهُ فَلَمْ يَرَ مَوضِعاً

لَمْ يُدْمِهِ عَـضُّ السِّلاحِ فَيُلثَمُ

نادىٰ وَقَدْ مَلَأَ البَوادِيَ صَيحَةً

صُمُّ الصُّخورِ لِهَولِها تَتَأَلَّمُ

أَأُخَي يُهنيكَ النَّعيمُ وَلَمْ أَخَلْ

تَرضىٰ بِأَنْ اُرْزىٰ وَأَنْتَ مُنَعَّمُ

أَأُخَي مَنْ يَحْمي بَناتَ مُحَمَّدٍ

إذْ صِرنَ يَسْتَرْحِمْنَ مَنْ لَا يَرحَمُ

ما خِلْتُ بَعدَكَ أَنْ تُشَلَّ سَواعِدي

وَتَكُفَّ باصِرَتي وَظَهرِيَ يُقصَمُ

لِسِواكَ يُلطَمُ بِالْأَكُفِّ وَهٰذِهِ

بيضُ الضُّبا لَكَ في جَبينِيَ تَلطُمُ

ما بَينَ مَصرَعِكَ الفَظيعِ وَمَصرَعي

إِلَّا كَما أَدعوكَ قَبلُ وَتَنعَمُ

هٰذا حُسامُكَ مَنْ يُذِلُّ بِهِ العِدا

وَلِواكَ هٰذا مَنْ بِهِ يَتَقَدَّمُ

هَوَّنتَ يا بن أَبي مَصارعَ فِتْيَتي

وَالْجُرحُ يُسْكِنُهُ الَّذي هُوَ آلَمُ (٢)

وهو وصف دقيق للحالة الراهنة التي حلّت بسيّد الشهداء بعد فقده لأخيه .

ووصف شاعر آخر وهو الحاجّ محمّد رضا الاُزري وضع الإمام عليه‌السلام بقوله :

__________________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣٠ . بجار الأنوار : ٤٥ : ٤٢ . العوالم : ٢٨٥ .

(٢) الدرّ النضيد : ٣١١ .


وَهَوىٰ عَلَيهِ ما هُنالِكَ قائِلاً

اليَومَ بانَ عَنِ اليَمينِ حُسامُها

اليَومَ سارَ عَنِ الكَتائِبِ كَبشُها

اليَومَ بانَ عَنِ الهُداةِ إِمامُها

اليَومَ آلَ إِلى التَّفَرُّقِ جَمعُنا

اليَومَ حُلَّ عَنِ البُنودِ نِظامُها

اليَومَ نامَتْ أَعيْنٌ بِكَ لَمْ تَنَمْ

وَتَسَهَّدَتْ أُخْرىٰ فَعَزَّ مَنامُها

أَشَقيقُ روحِيَ هَلْ تَراكَ عَلِمْتَ أَنْ

غودِرتَ وَانْثالَتْ عَلَيكَ لِئامُها

قَدْ خِلْتُ أَطْبَقَتِ السَّماءُ عَلَى الثَّرىٰ

أَوْ دُكْدِكَتْ فَـوقَ الرُّبى أَعْلامُها

لكِنْ أَهانَ الخَطبُ عِندِيَ أَنَّني

بِكَ لاحِقٌ أَمْراً قَضىٰ عَلّامُها (١)

ومهما قال الشعراء والكتّاب فإنّهم لا يستطيعون أن يصفوا ما ألمّ بالإمام من فادح الحزن ، وعظيم المصاب .

ووصفه أرباب المقاتل بأنّه قام من أخيه وهو لا يتمكّن أن ينقل قدميه ، وقد بان عليه الانكسار ، وهو الصبور ، واتّجه صوب المخيّم وهو يكفكف دموعه ، فاستقبلته سكينة قائلة : أين عمّي أبو الفضل ؟

فغرق بالبكاء ، وأخبرها بنبرات متقطّعة من شدّة البكاء بشهادته (٢) ، وذعرت سكينة وعلا صراخها ، ولمّا سمعت بطلة كربلاء حفيدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بشهادة أخيها الذي ما ترك لوناً من ألوان البرّ والمعروف إلّا قدّمه لها ، أخذت تعاني آلام الاحتضار ، ووضعت يدها على قلبها المذاب ، وهي تصيح : وا أخاه . . وا عبّاساه . . وا ضعيتنا بعدك .

يا لهول الفاجعة . .

يا لهول الكارثة . .

__________________________

(١) الدرّ النضيد : ٢٩٦ .

(٢) قمر بني هاشم / المقرّم : ١١٢ .


لقد ضجّت البقعة من كثرة الصراخ والبكاء ، وأخذت عقائل النبوّة يلطمن الوجوه وقد أيقنّ بالضياع بعده ، وشاركهنّ الثاكل الحزين أبو الشهداء في محنتهنّ ومصابهنّ ، وقد علا صوته قائلاً : واضَيْعَتَنا بَعْدَكَ يا أَبا الفَضْلِ (١) .

لقد شعر أبو عبد الله عليه‌السلام بالضيعة والغربة بعد فقده لأخيه الذي ليس مثله أخ في برّه ووفائه ومواساته ، فكانت فاجعته به أقسى ما مُني به من المصائب والكوارث .

وداعاً يا قمر بني هاشم

وداعاً يا فجر كلّ ليل

وداعاً يا رمز المواساة والوفاء

سلام عليك يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تبعث حيّاً

اَلحَمْدُللهِ رَبِّ العَالَمين وَصَلَّى اللهُ عَلَىٰ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىٰ آلِهِ الطَّاهِرينَ

__________________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام / المقرّم : ٣٣٩ .


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg




المصادر

القرآن الكريم

إبصار العين ................................  الشيخ محمّد السماوي

الاحتجاج ...........................................  الشيخ الطبرسي

الأخبار الطوال ....................................  ابن قتيبة الدينوري

الإرشاد ......................................  الشيخ المفيد

الاستيعاب ........................................  القرطبي

الإصابة ...........................................  ابن حجر العسقلاني

أعيان الشيعة ........................  السيّد محسن الأمين العاملي

الأغاني ........................................  أبو الفرج الأصفهاني

إقبال الأعمال ......................................  السيّد ابن طاووس

الأمالي .......................................  الشيخ الصدوق

الإمامة والسياسة .................................  ابن قتيبة الدينوري

أنساب الأشراف .....................................  البلاذري


بحار الأنوار ........................................  العلّامة المجلسي

البداية والنهاية .....................................  ابن كثير الدمشقي

البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان .............  عماد الدين الأصفهاني

بطل العلقمي .................................  الشيخ عبد الواحد المظفّر

........................................................

تاج العروس ...........................................  الزبيدي الحنفي

تاريخ الإسلام ...........................................  الذهبي

تاريخ الاُمم والملوك = تاريخ الطبري ........................  الطبري

تاريخ مدينة دمشق ....................................  ابن عساكر

تحف العقول ....................................  ابن شعبة الحرّاني

تذكرة الخواص .................................  سبط ابن الجوزي

تفسير العسكري .......................  المنسوب للإمام العسكري عليه‌السلام

تنقيح المقال ................................  الشيخ المامقاني

تهذيب الأحكام ....................................  الشيخ الطوسي

..............................................................

الجامع الصغير بشرح السيوطي ......................  جلال الدين السيوطي

..............................................................

حلية الأولياء ....................................  أبو نعيم الأصفهاني

حياة الحيوان ..........................................  الدميري

............................................................

خزانة الأدب ............................  عبد القادر بن عمر البغدادي

الخصال ........................................  الشيخ الصدوق

الخطط المقريزيّة ....................................  المقريزي


الدرّ المسلوك ...................................  الشيخ الحرّ العاملي

الدرّ النضيد ..................................  أحمد بن يحيى الهروي

ديوان إبراهيم حسين الطباطبائي ................  إبراهيم حسن الطباطبائي

...............................................................

ذخيرة الدارين ...................................  السيّد مجيد الحائري

...............................................................

روح الإسلام ..................................  السيّد مير علي الهندي

روضات الجنات ................................  الموسوي الخوانساري

الروضة المختارة ( شرح القصائد الهاشميّات والعلويّات للكميت بن زياد )

روضة الواعظين .........................................  النيسابوري

رياض المدح والرثاء .......................................  البحراني

..............................................................

سحر بابل وسجع البلابل ...........................  السيّد جعفر الحلّي

سرّ السلسلة العلويّة ..................................  ابن نصر البخاري

سفينة البحار ................................  الشيخ عبّاس القمّي

..........................................................

الشجرة المباركة ........................................  الفخر الرازي

شذرات الذهب ....................................  ابن عماد الحنبلي

شرح الأخبار ....................................  التميمي المغربي

.............................................................

صحيح البخاري ..............................  محمّد بن إسماعيل البخاري

الصراط السوي ............................  محمود الشيخاني القادري

صفة الصفوة ........................................  ابن الجوزي


الصواعق المحرقة .................................  ابن حجر الهيتمي

عوالم العلوم ................................  الشيخ عبد الله البحراني

الغدير .............................................  العلّامة الأميني

..............................................................

الفتوح .........................................  ابن أعثم الكوفي

.................................................................

القاموس المحيط .......................................  الفيروزآبادي

قمر بني هاشم ....................................  عبد الرزّاق المقرّم

...............................................................

كتاب سليم بن قيس ....................................  سليم بن قيس

كامل الزيارات .......................................  ابن قولوية

الكامل في التاريخ ........................................  ابن الأثير

.............................................................

لباب الأنساب ...................................  أبو الحسن البيهقي

لسان العرب .............................................  ابن منظور

لواعج الأشجان ...........................  السيّد محسن الأمين العاملي

اللهوف ........................................  ابن طاووس

.........................................................

مثير الأحزان ..........................................  ابن نما الحلّي

المجدي في أنساب الطالبيّين .........................  أبو الحسن العمري

مجموعة الشهيد الأوّل .................................  الشهيد الأوّل

مرآة الزمان في تاريخ الأعيان ...........................  سبط ابن الجوزي

المزار ..............................................  الشهيد الأوّل


المزار الكبير ........................................  المشهدي

مصباح الزائر .....................................  الشيخ الطوسي

مصباح المتهجّد .........................................  الكفعمي

المعارف ..........................................  ابن قتيبة الدينوري

مع الحسين في نهضتة ..................................  أسد حيدر

معالي السبطين .............................  محمّد مهدي الحائري

معجم البلدان ...................................  ياقوت الحموي

معجم الكبير ..............................................  الطبراني

مقاتل الطالبيّين ................................  أبو الفرج الأصفهاني

مقتل الحسين ................................................  المقرّم

مقتل الحسين .........................................  الخوارزمي

ملحمة أهل البيت .......................................  الشيخ الفرطوسي

الملل والنحل .........................................  الشهرستاني

مناقب آل ابي طالب ................................  ابن شهرآشوب

المنتظم ..............................................  ابن الجوزي

المنجد في اللغة ........................................  لويس معلوف

المنمّق في أخبار قريش .......................  محمّد بن حبيب البغدادي

................................................................

النزاع والتخاصم ..........................................  المقريزي

نفس المهموم ...................................  الشيخ عبّاس القمّي

نهج البلاغة .......................  الإمام عليّ عليه‌السلام شرح : محمّد عبده

...........................................................

وسيلة المآل ..........................  شهاب الدين أحمد بن الفضل


وقعة الطفّ ..........................................  أبو مخنف

.............................................................

ينابيع المودّة ............................................  القندوزي




المحتويات

الإهداء .....................................................  ٧

بين يديك يا قمر بني هاشم وفخر عدنان ...............................  ٩

تقديم ...............................................  ١١

وِلٰادَتَهُ وَنَشْأتُه عليه‌السلام

١٩ ـ ٣٥

نسبه عليه‌السلام الوضّاح ............................................  ٢١

الأب ....................................................  ٢١

الاُمّ .......................................................  ٢٢

١ ـ عامر بن الطفيل ....................................................  ٢٢

٢ ـ عامر بن مالك ....................................................  ٢٢

٣ ـ الطفيل ...........................................................  ٢٣

٤ ـ عروة بن عتبة .....................................................  ٢٣

قِران الإمام عليه‌السلام باُمّ البنين ........................................  ٢٤

رعايتها لسبطيّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .........................................  ٢٥

مكانتها عند أهل البيت عليهم‌السلام ..................................  ٢٥

مكانتها عند المسلمين .......................................  ٢٦


الوليد العظيم ....................................................  ٢٦

سنة ولادته عليه‌السلام ...............................................  ٢٧

تسميته عليه‌السلام .................................................  ٢٧

كنيته عليه‌السلام ...............................................  ٢٧

١ ـ أبو الفضل ...........................................  ٢٨

٢ ـ أبو القاسم .........................................  ٢٨

ألقابه عليه‌السلام ..............................................  ٢٨

١ ـ قمر بني هاشم ............................................  ٢٨

٢ ـ السقّاء ..................................................  ٢٩

٣ ـ بطل العلقمي .............................................  ٢٩

٤ ـ حامل اللواء.................................................. ٢٩

٥ ـ كبش الكتيبة ............................................  ٣٠

٦ ـ العميد ..................................................  ٣٠

٧ ـ حامي الظعينة .............................................  ٣٠

٨ ـ باب الحوائج ...........................................  ٣٢

ملامحه عليه‌السلام ...................................................  ٣٢

تعويذ اُمّ البنين له عليه‌السلام ........................................... ٣٣

مع أبيه عليه‌السلام .................................................  ٣٣

نشأته عليه‌السلام ...................................................  ٣٤

إنطِبٰاعَاتٌ عَن شَخْصِيَتِهِ عليه‌السلام

٣٧ ـ ٥٢

أوَلاً : الإمام السجّاد عليه‌السلام .........................................  ٣٩


ثانياً : الإمام الصادق عليه‌السلام ....................................  ٤٠

١ ـ نفاذ البصيرة ............................................  ٤٠

٢ ـ الصلابة في الإيمان ...........................................  ٤١

٣ ـ الجهاد مع الحسين عليه‌السلام .....................................  ٤١

٤ ـ زيارة الإمام الصادق عليه‌السلام ....................................  ٤١

» التسليم ............................................................  ٤٢

» التصديق ..............................................................  ٤٢

» الوفاء ...............................................................  ٤٣

» النصيحة .......................................................  ٤٣

ثالثاً : الإمام الحجّة عليه‌السلام .....................................  ٤٦

رابعاً : الشعراء ...........................................  ٤٧

١ ـ الكميت ...............................................  ٤٨

٢ ـ الفضل بن محمّد .......................................  ٤٨

٣ ـ السيّد راضي القزويني ..................................  ٤٩

٤ ـ محمّد رضا الأزري ......................................  ٥٠

٥ ـ إبراهيم حسين الطباطبائي ....................................  ٥١

عَنَاصِرُهُ النَّفْسِيَّةُ

٥٣ ـ ٦٣

١ ـ الشجاعة ......................................................  ٥٥

مع الشعراء ................................................  ٥٦

١ ـ السيّد جعفر الحلّي .............................................  ٥٦

٢ ـ الإمام كاشف الغطاء .................................................  ٥٧


٣ ـ الفرطوسي ...........................................................  ٥٨

٤ ـ ابن نما الحلّي ........................................................  ٥٨

٢ ـ الإيمان بالله تعالى ........................................  ٥٩

٣ ـ الإباء ................................................  ٦٠

٤ ـ الصبر ..............................................  ٦٠

٥ ـ الوفاء .........................................  ٦١

الوفاء لدينه عليه‌السلام ...........................................  ٦١

الوفاء لاُمّته عليه‌السلام ..........................................  ٦١

الوفاء لوطنه عليه‌السلام ...........................................  ٦٢

الوفاء لأخيه عليه‌السلام ...........................................  ٦٢

٦ ـ قوّة الإرادة ................................................  ٦٢

٧ ـ الرأفة والرحمة .............................................  ٦٣

مَعَ الأَحْدَاثِ

٦٥ ـ ١٠١

حكومة الإمام عليّ عليه‌السلام ......................................  ٦٩

منهج حكم الإمام عليه‌السلام .......................................  ٧٠

أوّلاً : بسط الحرّيات ......................................  ٧١

١ ـ الحريّة الدينيّة ..................................................  ٧١

٢ ـ الحريّة السياسيّة ..............................................  ٧١

ثانياً : نشر الوعي الديني ...................................  ٧٢

ثالثاً : نشر الوعي السياسي ......................................  ٧٢

رابعاً : إلغاء المحسوبيّات .......................................  ٧٤


خامساً ـ القضاء على الفقر ..................................  ٧٥

القوى المعارضة للإمام عليه‌السلام ..................................  ٧٦

السيّدة عائشة ........................................  ٧٦

معاوية وبنو اُميّة ..........................................  ٧٩

إعلان الحرب .................................................  ٨١

١ ـ الغوغاء ..............................................  ٨١

٢ ـ المنافقون .............................................  ٨٢

٣ ـ النفعيّون .............................................  ٨٢

احتلال الفرات .................................................  ٨٣

دعوة الإمام عليه‌السلام إلى السلم .....................................  ٨٤

الحرب .......................................................  ٨٤

الخديعة الكبرى ........................................  ٨٥

التحكيم ....................................................  ٨٧

تمرّد الخوارج ................................................  ٨٨

النتائج الفظيعة ..............................................  ٩٠

مصرع الإمام عليه‌السلام ..............................................  ٩١

وصاياه عليه‌السلام خالدة ...........................................  ٩٢

إلى جنّة المأوى ............................................  ٩٤

تجهيزه عليه‌السلام .................................................  ٩٥

خلافة الإمام الحسن عليه‌السلام .......................................  ٩٥

إعلان معاوية للحرب ............................................  ٩٧

في المدائن ...................................................  ٩٨

١ ـ خيانة القائد العامّ ............................................  ٩٨


٢ ـ محاولات لاغتيال الإمام عليه‌السلام ...................................  ٩٩

٣ ـ الحكم عليه بالكفر .....................................  ٩٩

٤ ـ نهب أمتعة الإمام عليه‌السلام ...................................  ١٠٠

ضرورة الصلح .................................................  ١٠٠

كَابُوسٌ رَهيبٌ

١٠٣ ـ ١١٩

إبادة القوى الواعية .........................................  ١٠٦

١ ـ حجر بن عدي ..........................................  ١٠٦

٢ ـ عمرو بن الحمق ........................................  ١٠٦

٣ ـ رُشيد الهجري ...........................................  ١٠٧

مناهضة أهل البيت عليهم‌السلام ......................................  ١٠٩

١ ـ افتعال الأخبار ضدّهم ....................................  ١٠٩

٢ ـ سبّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ............................  ١١٠

٣ ـ استخدام معاهد التعليم ....................................  ١١٠

إشاعة الظلم ...................................................  ١١١

منح الخلافة ليزيد ...........................................  ١١٢

اغتيال الشخصيّات الإسلاميّة .................................  ١١٢

١ ـ سعد بن أبي وقّاص ...................................  ١١٣

٢ ـ عبد الرحمن بن خالد .................................  ١١٣

٣ ـ عبد الرحمن بن أبي بكر ..................................  ١١٣

٤ ـ الإمام الحسن عليه‌السلام .....................................  ١١٤

تجهيزه عليه‌السلام ........................................................  ١١٤


فتنة الأمويّين ........................................................  ١١٥

معارضة الامام الحسين عليه‌السلام لمعاوية ...........................  ١١٦

مؤتمر الإمام الحسين عليه‌السلام ....................................  ١١٧

هلاك معاوية ...............................................  ١١٨

مَعَ الثَورَةِ الحُسَيْنِيةِ

١٢١ ـ ١٤٥

رفض الحسين عليه‌السلام لبيعة يزيد ..................................  ١٢٣

إلى مكّة المكرّمة ......................................  ١٢٥

فزع السلطة بمكّة ......................................  ١٢٦

تحرّك الشيعة في الكوفة ........................................  ١٢٧

رسائل الكوفة ...................................................  ١٢٨

إيفاد مسلم إلى الكوفة ..........................................  ١٢٨

ابن زياد في الكوفة ...............................................  ١٢٩

المخطّطات الرهيبة .............................................  ١٣١

التجسّس على مسلم عليه‌السلام ......................................  ١٣١

اعتقال هانئ ..................................................  ١٣٢

انتفاضة مذحج ...............................................  ١٣٢

ثورة مسلم عليه‌السلام .........................................  ١٣٤

حرب الأعصاب ................................................  ١٣٤

في ضيافة طوعة................................................. ١٣٦

الإفشاء بمسلم عليه‌السلام .........................................  ١٣٨

الهجوم على مسلم عليه‌السلام ......................................  ١٣٩


أسره عليه‌السلام ....................................................  ١٤٢

مع ابن مرجانة .................................................  ١٤٣

إلى الرفيق الأعلى ............................................  ١٤٤

إعدام هانئ رضي‌الله‌عنه ........................................  ١٤٤

السحل في الشوارع ...............................  ١٤٥

إلَى أَرْضِ الشَهَادَةِ

١٤٧ ـ ١٨٩

وصول النبأ بمقتل مسلم عليه‌السلام ...................................  ١٥١

النبأ المفجع بشهادة عبد الله .................................  ١٥٣

الالتقاء بالحرّ ...............................................  ١٥٥

خطاب الامام عليه‌السلام في الجيش .................................  ١٥٦

خطاب الإمام عليه‌السلام ...........................................  ١٥٩

رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ .....................................  ١٦١

في كربلاء ...................................................  ١٦٢

خروج الجيوش لحرب الحسين عليه‌السلام .............................  ١٦٦

خطبة ابن زياد ..............................................  ١٦٧

احتلال الفرات ..............................................  ١٦٧

سقاية العبّاس عليه‌السلام لأهل البيت عليهم‌السلام ..............................  ١٦٩

أمان الشمر للعبّاس عليه‌السلام وإخوته ...............................  ١٧٠

زحف الجيوش لحرب الإمام الحسين عليه‌السلام ........................  ١٧١

الإمام عليه‌السلام يأذن لأصحابه بمفارقته ..............................  ١٧٤

جواب أهل البيت عليهم‌السلام ....................................  ١٧٦


جواب أصحابه عليه‌السلام .........................................  ١٧٦

إحياء الليل بالعبادة ..............................................  ١٧٨

يوم عاشوراء .....................................................  ١٧٨

دعاء الإمام عليه‌السلام ............................................  ١٧٩

خطبة الإمام عليه‌السلام ...........................................  ١٧٩

خطاب آخر الإمام الحسين عليه‌السلام .............................  ١٨٤

استجابة الحرّ ................................................  ١٨٧

الحَرْبُ

١٩١ ـ ٢٠٧

حملة الاُولى .................................................  ١٩٤

المبارزة بين المعسكرين .......................................  ١٩٤

أداء فريضة الظهر ........................................  ١٩٦

مصرع بقيّة الأنصار ....................................  ١٩٨

مصارع آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .....................................  ١٩٨

مصارع آل عقيل .........................................  ٢٠٤

مصارع أبناء الحسن عليه‌السلام ...................................  ٢٠٥

عَلَىٰ ضِفَافِ العَلْقمي

٢٠٩ ـ ٢٢١

العبّاس عليه‌السلام مع اخوته .....................................  ٢١١

قول رخيص ...................................................  ٢١٢

مصارع اخوة العبّاس عليه‌السلام ......................................  ٢١٣


مصرع أبي الفضل عليه‌السلام ....................................  ٢١٥

مصادر الكتاب .........................................  ٢٢٣

محتويات الكتاب ............................................  ٢٢٩

موسوعة سيرة أهل البيت عليهم السلام - ٣٧

المؤلف: باقر شريف القرشي
الصفحات: 238
ISBN: 978-964-8275-79-7