Description: F:Book-LibraryENDQUEUELematha-Ekhtelaf-Wodhouimagesimage001.gif

Description: F:Book-LibraryENDQUEUELematha-Ekhtelaf-Wodhouimagesimage002.gif




دليل الكتاب

انقسام المسلمين إلى نهجين ..........................................  ٩

التعبد والمتعبدون ................................................  ١٤

الاجتهاد والمجتهدون .............................................  ١٦

المجتهدون في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .....................................  ٢١

المجتهدون بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .........................................  ٢٥

عثمان والاجتهاد ................................................  ٢٨

عثمان والوضوء .................................................  ٣٠

المخالفون لعثمان ................................................  ٣٧

من هو البادئُ بالخلاف ؟ .........................................  ٤٠

عثمان والإحداث ...............................................  ٥٣

لماذا الإحداث في الوضوء ؟ .......................................  ٥٩

علي عليه‌السلام والوضوء ..............................................  ٦٣


الأمويون والوضوء ...............................................  ٦٧

العباسيّون والوضوء ..............................................  ٧٦

المنصور والوضوء ................................................  ٧٧

المهدي والوضوء .................................................  ٧٩

الرشيد والوضوء .................................................  ٨١

نهاية المطاف ....................................................  ٨٥

خلاصة ما سبق .................................................  ٩١

فهرس المصادر ...................................................  ٩٣


بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسلام على محمّد وآله الطّيبين الطّاهرين.

وبعد ، فإنّ هذا الكتيّب الماثل بين يدك عزيزي القارئ هو الأوّل من سلسلة « بحوث في الوضوء النبوي » ، وهو خلاصةٌ لبحث ضخم تناول فيه مؤلفه العلاّمة المحقق السيّد علي الشهرستاني من الزاوية التاريخية وملابسات الأحداث ، سرّ الإختلاف الواقع بين المسلمين اليوم في الوضوء النبوي ، مع أنّ المفروض أن لا يقع مثل هذا الاختلاف في مفردة مثل الوضوء الذي نصّ عليه القرآن المجيد بقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (١) ، كما أنّ الرسول الأكرم محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بيّن أحكامه وفروضه وكيفيته ونواقضه وموجباته أحسن بيان ، ومارَسَ صلى‌الله‌عليه‌وآله فعله أمام أنظار المسلمين مدة مديدة من حياته الشريفة ، كما مارسه المسلمون بتعليمه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وخلال مراحل من البحث فقد عثر المؤلف على نصّين في أنّ الاختلاف في الوضوء وقع في عهد عثمان بن عفّان ، وأكّد بأنّ السبر التاريخي دلّ على عدم وجود اختلاف في الوضوء قبل هذا الزمان ، لا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا في عهد الشيخين.

بعد ذلك تبين له أنّ عثمان بن عفّان كان هو البادئ بالخلاف ، الطارح لفكرة الوضوء الجديد ، وذلك من خلال اختلافه مع كبار الصحابة في كثير من الأحكام الفقهية ، مضافاً إلى اختلافه معهم في الأحكام السياسية

______________________________

(١) المائدة : ٦.


والإدارية ، خصوصاً في الستّ الأواخر من سنيّ عهده ، ولذلك ترىٰ عثمان يتجاهل المخالفين لوضوئه مع أنّهم من المحدثين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك بقوله « يتحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأحاديث لا أدري ماهي إلاّ أني رأيت رسول الله توضّأ ... » ثمّ يسوق وضوءه الثلاثي الغسلي. وهو في كل ذلك يتصرف تصرَّف المتّهم الباحث عن الشهود ، فيستشهد على وضوئه جماعات من أصحابه ، ويذيّل وضوءاته بالضحك والتبسم ، ويدعو الناس إليه ، ويقعد في أماكن حساسة لنشره.

وقد أوقفتنا تلك البحوث على ماهية الناس المختلفين مع عثمان في وضوئه وفي باقي آرائه ، وعرفنا أنّهم من المحدّثين ومن عليّة الصحابة وكبارهم ، كما دلّت الحوادث على أن مقتل عثمان كان بسبب إحداثاته الدينية بالدرجة الأولى لا لسوء تصرفاته المالية والإدارية والسياسية.

وبما أنّ أصل هذا الكتاب لاقى ترحيباً وإقبالاً واسعاً من القراء الكرام ، فنفدت طبعاته الخمس في مدة خمس سنوات ، وطلب منّا بعض الأخوة الأفاضل والقراء الكرام تلخيصه وترتيبه وإعطاء لُبّ لبابه مختصرا ، تسهيلاً على المطالع ، وقمنا بتلخيصه وترتيبه خدمة للدين والعلم والفكر ، فإن أشكل أو غمض مطلب على القارئ كان بوسعه مراجعة أصل الكتاب للوقوف على صورة أوضح.

بعد هذا نرجو من الله تبارك وتعالى أن ينفعنا به وينفع الإسلام والمسلمين ، للتقدم إلى الأمام وعدم الجمود على قوالب صيغت في العصور المتقدمة تحت ظروف خاصة وملابسات كثيرة أرادت أن تميت الحقيقة النابضة الحية.

قيس العطار




المقدّمة

انقسم المسلمون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى نهجين ، لكلّ منهما منحاهُ ومبناه.

فالبعض من الصحابة كان يدعو إلى لزوم استقاء الأحكام من القرآن والسنة المطهرة ولا يرتضي الرأي والاجتهاد قباله ، والبعض الآخر كان يذهب إلى شرعية قول الرجال ، وصحة الاجتهاد قبال النص ، لأنّهم قد عرفوا ملاكات الأحكام وروح التشريع !

وقد انتهجت الطائفة الأولى منهاج الطاعة والامتثال لمطلق الأحكام الصادر عن الله ورسوله ، وهؤلاء كانوا لا يسمحون لأنفسهم ـ ولا لغيرهم ـ العمل في الأحكام الشرعية بآراء شخصية واجتهادات غير مأخوذة من النص.


أما الطائفة الثانية ـ فهي طائفة المجتهدين (١) ـ الذين كانوا يفتون بالرأي في محضره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويبتغون المصلحة مع وجود النص ، وهؤلاء وإن كانوا معتقدين برسالة الرسول لكنهم لم يعطوه تلك القدسية والمكانة التي منحها الله إياه ، فكانوا ـ في كثير من الأحيان ـ يتعاملون معه كأنه بشر غير كامل يخطئ ويصيب ، ويسبّ ويلعن ثم يطلب المغفرة للملعونين (٢).

وهذا الانقسام بين الصحابة كان من جملة الأسباب التي أدت لاختلاف المسلمين في الأحكام الشرعية بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد كان هذا الانقسام منطويا على علل أخرى كثيرة ستقف على بعضها في بحوثنا الآتية.

بلى ، إنّ دعاة الاجتهاد استدلوا على شرعية هذا الاختلاف بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( اختلاف أمتي رحمة ) (٣) ، لكن أحقاً أن ( اختلاف أمتي رحمة ) بالمعنى الذي

______________________________

(١) الاجتهاد الذي نهى عنه الله ورسوله وأئمّة أهل البيت هو بمعنى الإفتاء بالرأي ـ وبمثل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وما شابهها ـ مع ترك النصوص القرآنية والنبوية أو التلاعب بمفاهيمها.

(٢) انظر صحيح مسلم ٤ : ٢٠٠٨ / ٩٠ ، مسند أحمد ٢ : ٣١٦ ـ ٣١٧ ، ٤٤٩ ، ٣ : ٤٠٠.

(٣) شرح النووي على صحيح مسلم ١١ : ٩١ ، الجامع الصغير للسيوطي ١ : ٤٨. وقال المناوي في فيض القدير ١ : ٢٠٩ : لم أقف له على سندٍ صحيح. وفي كنز العمال ١٠ : ١٣٦ / ح ٢٨٦٨٦ ذكره ثم قال : « نصر المقدسي في الحجة ، و البيهقي في رسالة الأشعرية بغير سند ، وأورده الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ، ولَعَلَّهُ خُرِّج به في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا  » !!


أريد أن يفسَّر به ؟ أم أنّ له معنى آخر ؟ ولو صح ذلك فكيف نفسر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا تفترقوا فتهلكوا ) (١) ، وقوله : ( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار ) (٢) ؟

ولماذا يكون الاختلاف بين المسلمين إلى هذا الحد ، وكتابهم واحد ، ونبيّهم واحد ؟

فترى هذا يسدل يديه في الصلاة والآخر يقبضهما ، والثاني يُفرّج بين رجليه في الصلاة والآخر يجمع بينهما ، والثالث يغسل رجليه في الوضوء والآخر يمسحهما ، والرابع يجهر بالبسملة والآخر لا ينطق بها مجهورة ، وهذا يقول بالتأمين وذلك لا يقول به. والعجيب أنّهم جميعاً ينسبون أقوالهم

______________________________

وقد صحّ إسناد هذا الحديث عند أهل البيت وفسّره الإمام الصادق بأن المراد اختلافهم في البلدان بعد تفقّههم لينذروا الناس ويعلموهم الأحكام. انظر : علل الشرايع ١ : ٨٥ ، ومعاني الأخبار : ١٥٧ فانظر كيف يأخذون به مع عدم صحة اسناده عندهم.

(١) المصنف لابن أبي شيبة ٨ : ١٦١ / ح ٢٧.

(٢) انظر الحديث بألفاظ متقاربة ومعنى واحد في : تحفة الاحوذي ٧ : ٣٣٣ ، المعجم الكبير للطبراني ١٨ : ٥١ ، كنز العمال ١ : ٣٧٧ / ح ١٦٣٧ ، شواهد التنزيل ١ : ٢٧٠ ، تفسير القرطبي ٢ : ٩.

وفي مستدرك الحاكم النيسابوري ٣ : ٥٤٧ بسنده عن عوف بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ستفترق امتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسمون الأمور برأيهم ؛ فيحرمون الحلال ويحللون الحرام. وهو في المحلى لابن حزم ١ : ٦٢ ، والمستدرك للحاكم أيضاً ٤ : ٤٣٠ ، ومجمع الزوائد ١ : ١٧٩ ، والمعجم الكبير للطبراني ١٨ : ٥١ ، ومسند الشاميين ٢ : ١٤٣.


وأفعالهم ـ على ما فيها من تضارب ظاهر ـ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله !

أفيكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قالها جميعاً ، أو فعلها جميعاً ، وصحّ عنه النقلان ـ أو النقول كلّها ـ كما يقولون ؟! أم أنّ فعله كان واحداً في كلّ هذه الحالات ؟!

وإذا كان ذلك كذلك ، فمن أين جاء الاختلاف الذي يعسر دفعه وإنكاره ؟! أترانا مكلّفين في شريعة الله أن نقف على الرأي الواحد ، أم أنّا قد أُمرنا بالاختلاف ؟! بل بمَ يمكن تفسير ظاهرة اختلاف النقل عن الصحابي الواحد ؟!

ولِمَ ظهرت رؤيتان في الشريعة ، إحداهما تدعو إلى التعددية ، والأُخرى تنادي بالوحدوية ؟!

فلو كانت التعدديّة هي مطلوب الشارع ، فلِمَ حصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الفرقة الناجية من أُمته بواحدة من الثلاث والسبعين وقال في الباقي أنّها في النار ؟!!

ألم يُلزَمْ على التفسير السابق القول : الجميع ناجية وواحدة في النار ؟!! بل لا يبقى مجال لافتراض حتى فرقة واحدة في النار !!!

وإذا كانت الوحدوية هي مطلوب الشارع ، فلِمَ تصحَّح التعددية وتلتزم ؟! وهل يصح ما قيل في اختلاف الأمة باعتباره رحمة ؟ وما معنى تأكيده سبحانه على وحدة الكلمة إِذَن ؟!

ولو كانت الفُرقة هي مطلوب الشارع ، فماذا يعني قوله تعالى : ( وَلَوْ


كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (١) ، وكان قوله : ( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٢).

إن القول بالتعددية أو الايمان بالوحدوية يرجع ـ في نظرنا ـ إلى ما عزوناه من أسباب في انقسام المسلمين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهمها انقسامهم إلى نهجين رئيسيَّين :

١ ـ نهج التعبّد المحض = الوحدويّة.

٢ ـ نهج الاجتهاد والرأي = التعدّديّة.

وقد فصّلنا الحديث عن هذين النهجين في دراستنا لأسباب منع تدوين الحديث ، موضحين فيه جذور الرأي والاجتهاد عند العرب قبل الإسلام ، وتصوّراتهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكيفية تعاملهم معه كأنّه شخص عادي يخطئُ ويصيب ، ويقول في الغضب ما لا يقوله في الرضا ، بل وحسب فهم بعضهم ، ما هو إلاّ سلطانٌ جاهد فانتصر ، وإنّ تعاليمه ما هي إلاّ مقرّرات أصدرها من عند نفسه ولم يُنزل الله سبحانه فيها شيئاً.

والإسلام ـ ولكي يوحّد الأُمة ـ جاء بشهادة ( أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ) إذ أنّ الشهادة الاولى كانت تعني جمع العرب ـ ومن ثم العالم ـ على اعتقاد واحد ، بوحدانية المعبود وترك الآلهة والأصنام

______________________________

(١) النساء : ٨٢.

(٢) الأنعام : ١٥٣.


الموجودة عندهم ، والشهادة الثانية تعني إنهاء حالة التعددية القيادية والمناحرات القبلية ، والاجتماع على قائد واحد ، وهو رسول الإنسانية ، أي إنّ الإسلام أراد توحيدهم بالله سبحانه وتعالى اعتقادياً ، وبمحمد بن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائداً روحياً وسياسيّاً واجتماعيّاً ، لأنّ وحدة الفكر والقيادة من الأمور التي تقوّي الأمة وترفع شأنها ، بخلاف التعددية المؤدّية إلى الفرقة والاختلاف والضعف.

وإليك الآن بعض الشيء عن التعبّد والمتعبّدين والاجتهاد والمجتهدين ، ودور كل واحد منهما في الوضوء النبوي على سبيل الإجمال.

التعبد والمتعبدون

قثلنا لك بأنّ القرآن المجيد والسنة النبوية لم يقبلا بالتعددية بل جاءا ليحطّما الاعتقاد الجاهلي ـ المبتني على حبّ الذات والطمع في الرئاسة ـ إذ أكّد سبحانه في القرآن المجيد مراراً وبعدة أساليب على وجوب اتّباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأمّي ؛ بمثل قوله : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ) (١) ، وقوله : ( وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) (٢) ، وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ... ) (٣) ، وقوله : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ

______________________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) النور : ٥٢.

(٣) محمّد : ٣٣.


الْمُفْلِحُونَ ) (١) ، وقوله : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) (٢) ... إلى غيرها من الآيات الكريمة الآمرة باتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعته ، مقرونة في أكثرها بطاعة الله سبحانه وتعالى ، ممّا يعني أنّ أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أمر الله سبحانه وتعالى.

ناهيك عن الآيات المصرِّحة بعظمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه لا يتكلّم إلاّ عن الله ، كقوله تعالى ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٣) ، والآيات الكثيرة المادحة للمتعبّدين بما يقول الرسول تعبّداً محضاً ، كقوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) (٤).

وجاءت السنة النبوية الكريمة بالأوامر المتكررة ، بوجوب اتّباع أقوال وأفعال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه التعبّد والالتزام المطلق أيضاً ، ففي حديث الأريكة قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. يوشك الرجل متكئاً على أريكته يُحدَّثُ بحديث من حديثي فيقول : « بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه » ، ألا وإنّ ما حرّم

______________________________

(١) النور : ٥١.

(٢) الاحزاب : ٣٦.

(٣) النجم : ٣ و ٤.

(٤) النور : ٦٢.


رسول الله مثل ما حرّم الله (١) ، إلى غير ذلك.

هذا ، مضافاً إلى الأحاديث النبوية الشريفة المادحة للمتعبدين بأقوال وأفعال وتقارير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا معشر قريش ، لتنتهن أو ليبعثن عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ، قد امتحن الله قلبه للإيمان ، قالوا : من هو يا رسول الله ؟

وقال أبو بكر : من هو يا رسول الله ؟

وقال عمر : من هو يا رسول الله ؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو خاصف النعل. وكان قد أعطى عليّاً نعله يخصفها (٢).

وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عمار بن ياسر : إنّ عماراً مُلئ إيمانا إلى مشاشه. وقوله فيه أيضاً : من عادى عمّاراً عاداه الله ، ومن أبغض عمّاراً أبغضه الله (٣). وقوله في حنظلة حين خرج في أُحد ملبّياً نداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للحرب ، وكان قد أعرس بزوجته ، فخرج جُنُباً واستُشهد في أحد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ صاحبكم تغسله الملائكة ، فاسألوا صاحبته ، فقالت : خرج وهو جُنب لمّا سمع الهيعة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لذلك تغسّله الملائكة (٤).

______________________________

(١) مسند أحمد ٤ : ١٣٢ : سنن ابن ماجة ١ : ٦ / ١٢ : سنن أبي داود ٤ : ٢٠٠ / ٢٦٠٤ ، السنن الكبرى للبيهقي ٩ : ٣٣١ ، الاحكام لابن حزم ٢ : ١٦١ ، الكفاية للخطيب : ٩ ؛ المستدرك ١ : ١٠٨ ، الفقيه والمتفقه ١ : ٨٨.

(٢) كنز العمال ١ : ١٠٨ و ١٠٧ و ١١٥.

(٣) الاصابة ٢ : ٥١٢.

(٤) الاصابة ١ : ٣٦١.


الاجتهاد والمجتهدون

كان مسار التعبّد هو المسار الصحيح الذي أراده الله لعباده المؤمنين ، أن يؤمنوا بالله ورسوله ، ويتّبعوا خطوات الرسول وأوامره ، وينتهوا عن زواجره ونواهيه ، وأن ينقادوا له انقياد طاعة وامتثال دون إعمال للآراء الشخصية أو تأثّر بالآراء الموروثة ، لكنّ الواقع المحسوس آنذاك ظلّ ينبئ عن وجود صحابة كانوا يسمحون لأنفسهم بتخطئة الرسول والوقوف أمام أقواله وأفعاله ، ولم يكن ذلك بدعاً في الديانات ، لأنّ القرآن الكريم والسنة المباركة أخبرانا أنّ ذلك سنة التاريخ في الديانات السالفة ، فقد آمن الناس بأنبيائهم ، وكان منهم الخصيصون والمقربون والحواريون ، كما كان هناك المكذّبون بهم ، وكانت هناك طائفة أخرى من الّذين آمنوا بالأنبياء لكنّهم اختلفوا ولم يفهموا ما يأتيهم به أنبياؤهم على وجهه الصحيح أو فهموه لكن كانت لهم فيما فهموه أهواء ... تمّ آراء ... ثمّ أخطاء !

وكيفما كان ، فإنّ القرآن المجيد كشف لنا بلا ريب عن وجود صحابة أسلموا وآمنوا بالله والرسول ، لكنّهم ظلّوا على قسطٍ وافر من عدم التعبّد ، وعدم إدراكهم لقداسة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومدى دائرة وجوب إطاعته ، إذ كانوا يعاملونه في بعض الأحيان كأدون الناس شأناً ، وكانوا يعارضونه ويعترضون عليه ، ويرفَعون أصواتهم فوق صوته ، الى غير ذلك !

وقد وضّح القرآن وعالج الكثير من تلك الحالات غير المسؤولة ، فقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا


مُّبِينًا ) (١) وقال تعالى ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (٢) و قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) (٣) ، وفي هذه الآية تصريح بأنّ المخاطبين مؤمنون ينطقون الشهادتين ، وأنهم لم يأتوا بالزنا أو القتل أو غيرهما ، بل رفعوا أصواتهم على صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانوا ينادونه بما يكشف عن أنهم كانوا لا يلتزمون بما يقتضيه شأن النبوّة ، ولا يعتبرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ شخصاً عادّياً مثلهم ، فلا حاجة إذن ولا ضرورة للتعبد بما يقوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كنبي ، وهذا هو الذي أوجب التهديد لهم بالإحباط لأعمالهم.

ومثل ذلك قوله سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ) (٤) وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ ) (٥) ، وقوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ) (٦).

______________________________

(١) الاحزاب : ٣٦.

(٢) النساء : ٦٥.

(٣) الحجرات : ٢.

(٤) التوبة : ٣٨.

(٥) الاحزاب : ٥٧.

(٦) المجادلة : ٨.


بل نقل الطبرسي في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) أنّ ابن جنّي صرّح بأنّ معناه ؛ لا تفعلوا ما تؤثرونه وتتركوا ما أمركم الله ورسوله به ، وهذا معنى القراءة المشهورة ، أي لا تقدِّموا أمرا على ما أمركم الله به (١).

هذا ، إلى غيرها من الآيات الكريمة التي لوّحت أو صرحت بما لايقبل الشك بوجود هذه الفئة في المجتمع الإسلامي في صدر الرسالة الإسلامية ، وإذا لوحظت تلك الآيات وأسباب النزول عُلم أنّ تلك الفئة غير قليلة وذلك الاتجاه كان كبيراً كماً وكيفاً ، بحيث شغل حيزاً كبيراً من تفكير المسلمين.

ولم يقتصر الدلالات على القرآن الكريم فقط ، بل صرحت السنة النبوية المباركة قولاً وعملاً بوجود هذا الاتجاه وانتقدته وفندّته ـ أيّما انتقاد وتفنيد ـ لأنّ تلك الفئة لم تحدّد عملها واجتهادها في كلام النبي وإنّما راحت تتعداه إلى القرآن الكريم.

فلذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض أصحابه : ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض ؟! بهذا هلك مَن كان قبلكم (٢). وفي نص آخر أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أيُتلعّب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟! (٣) وفي نص ثالث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أبهذا أُمرتم أو لهذا خُلقتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضا ببعض ، انظروا ما أُمرتم به

______________________________

(١) مجمع البيان ٥ : ١٢٩.

(٢) كنزل العمال ١ : ١٩٣ / ح ٩٧٧.

(٣) كنز العمال ١ : ١٧٥ عن مسلم.


فاتبعوه ، وما نُهيتم عنه فانتهوا (١).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد حذّر أصحابه من هذا التهافت المقيت في تعاملهم مع النصوص القرآنية والنبوية ؛ إذ الإيمان بالله ورسوله يقتضي التسليم والانقياد لما يقوله الله ويأمر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعدم التسليم بقدسية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقواله وأفعاله يتقاطع مع الإيمان المطلق بالله والرسول.

لقد حذّر الله من عواقب هذا النوع من التفكير ، وأنبأَ أنّه سينجرّ إلى ( الفتنة ) ، فعن الزبير بن العوام ـ في تفسير قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ ... ـ إلى قوله ـ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ) (٢) ـ قال : لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما أرانا من أهلها ، فإذا تحن المعنيّون بها (٣).

وقال السدي : نزلت في أهل بدر خاصة ، فأصابتهم يوم الجمل (٤).

وبما أنّ ولادة مثل هذا الفكر في مجتمع حديث عهد بالإسلام أمرٌ يوافق سيرة التاريخ وإخبارات القرآن عن سنن الأمم الماضية ، راح الشارع

______________________________

(١) مسند أحمد ٢ : ١٩٦ ، ومسند أبي يعلى ٥ : ٤٢٩ / ح ٣١٢١ ، وكنز العمال ١ : ٣٨٣ / ح ١٦٦١. وفي سنن النسائي ٦ : ١٤٢ / ح ٣٤٠١ بسنده عن محمود بن لبيد ، قا : أُخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً ، فقام غضباناً ثمّ قال : أَيُلعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟! حتى قام رجل وقال : يا رسول الله ، ألا أقتله ؟!

(٢) الانفال : ٢٤ ـ ٢٥.

(٣) تفسير ابن كثير ٢ : ٤٨٨ ـ ٤٨٩.

(٤) تفسير ابن كثير ٢ : ٤٨٨ ـ ٤٨٩.


المقدس يوازن بين الفئتين ، ويبيّن الفرقة الحقّة ، والمسار الصحيح ، وأنّ التعبّد المحض هو سبيل النجاة ، وهو مراد الله سبحانه وتعالى لا الاجتهاد والرأي وتفسير الأمور وفق الأذواق والأهواء والأمزجة والعقائد الموروثة ، فقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) (١) ، فقد قرّر القرآن في هذه الآية الكريمة أنّ استئذان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يساوق الإيمان بالله ، وذلك لِما لهؤلاء المستأذنين من عقيدة راسخة وفهم صحيح لوجوب إطاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والالتزام بما يقوله ويفعله ، بخلاف الآخرين الذين لا يرون هذه الرؤية ويذهبون إلى خلافها ، أو أنّهم يفسّرونها طبق آرائهم واجتهاداتهم.

وغيرها من الآيات المباركة التي تتحدث بهذا الصدد.

المجتهدون في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

وقد كان للمجتهدين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أثر كبير ، بحيث سوّغوا لأنفسهم العمل بأعمال نهى عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لم يأمر بها ، وتعدّوا حدودهم فراحوا يعترضون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اعتراض ندٍّ قرين ، ويجتهدون أمام النص الصريح.

فمن ذلك ما فعله خالد بن الوليد من الوقيعة ببني جذيمة في السنة الثامنة للهجرة ، حيث بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله داعياً للإسلام ولم يبعثه مقاتلاً ،

______________________________

(١) النور : ٦٢.


فأمر خالد بني جذيمة بوضع السلاح ، فلمّا وضعوه غدر بهم وعرضهم على السيف لثأر كان بينه وبينهم في الجاهلية ، فلمّا انتهى الخبر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع يديه إلى السماء ثمّ قال : اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد ، ثمّ أرسل علياً ومعه مال فودى لهم الدماء والأموال ... (١).

ومن ذلك قتل أسامة بن زيد لمرداس بن نهيك ـ مع بداهة حرمة دم المسلم ـ بعد أن كبّر ونطق بالشهادتين ، فقتله أسامة وساق غنمه بدعوى أنه أسلم خوفاً من السيف ، فلمّا علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بفعله قال : قتلتموه إرادةَ ما معه ؟! ثمّ قرأ قوله تعالى : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (٢).

ومن ذلك قول رجل من الأنصار في قسمة كان قسمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : والله إنها لقسمة ما أُريد بها وجه الله ... فشق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتغيّر وجهه وغضب... ثمّ قال : قد أُوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر (٣).

ومن العجب أنّ هذا الاتجاه كان يمارس فكرته المغلوطة حتّى فيما رخّص به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رخّص في أمر فتنزّه عنه ناس ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فغضب ، ثمّ قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ! فوالله إني لأعلمهم وأشدهم خشية (٤).

______________________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، سيرة ابن هشام ٤ : ٧٠ ـ ٧٨.

(٢) اُنظر تفسير الفخرالرازي ١١ : ٣ ، والكشاف ١ : ٥٥٢ ، وتفسير ابن كثير ١ : ٨٥١ ـ ٨٥٢. والآية : ٩٤ من سورة النساء.

(٣) صحيح البخاري ٨ : ٣١ / كتاب الاداب ـ باب الصبر على الأذى.

(٤) صحيح البخاري ٨ : ٣١ / كتاب الاداب ـ باب من لم يواجه الناس بالعتاب.


والأنكى من ذلك أنّ بعض روّاد هذا الاتجاه راحوا يؤذون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في عرضه وأزواجه ، حتّى قال طلحة وصحابي آخر ـ وهو عثمان برواية السدي ـ : أينكح محمّد نساءنا إذا متنا ولا ننكح نساءه إذا مات ؟! لو مات لقد أجلنا على نسائه بالسهام (١) ، وقال طلحة في نص آخر : لئن عشت بعد محمد لأنكحن عائشة (٢).

وكان طلحة يريد عائشة ، وعثمان يريد أم سلمة ، فأنزل سبحانه قوله : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ) (٣). وقوله ( إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) (٤) وقوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ) (٥) وقوله ( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (٦).

______________________________

(١) تفسير القرطبي ١٤ : ٣٢٩ ، روح المعاني ٢٢ : ٧٤. وانظر كلام السدي في دلائل الصدق ٣ : ٣٣٧ ـ ٣٣٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٥ : ٢٢٥ ، تفسير القرطبي ١٤ : ٢٢٩ ، تفسير ابن كثير ٣ : ٥٠٦ ، الدر المنثور ٦ : ٦٢٩ ، تفسير البغوي ٣ : ٥٤١ ، معاني القرآن للنحاس ٥ : ٣٧٣ ، روح المعاني ٢٢ : ٧٣ ، غاية السول في سيرة الرسول : ٢٢٣ ، السيرة الحلبية ١ ٦ ٤٤٨ ، الطبقات الكبرى ٨ : ٢٠١ ، زاد المسير ٢ : ٧١٢.

(٣) الاحزاب : ٥٣ ، عن السدي في تفسير الآية الدر المنثور ٥ : ٢١٤ ، الطرائف ٢ : ٤٩٣.

(٤) الاحزاب : ٥٤.

(٥) الاحزاب : ٥٧.

(٦) الاحزاب : ٦.


واللافت للنظر أن أبا بكر وعمر لم يكونا بمنأىً عن الاجتهاد ، بل نرى لهما نصيباً من الاعتراض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم امتثال أوامره صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، وخصوصاً عمر بن الخطّاب الذي خالفه في مفردات كثيرة :

كاعتراضه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاته على المنافق (٢) ، واستيائه من قسمة قسمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) ، ومواجهته للنبي بلسان حادٍّ في صلح الحديبية (٤) ، ومطالبته النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستفيد من مكتوبات اليهود في الشريعة (٥) ، وقوله في أخريات ساعات حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه ليهجر (٦) أو غلبه الوجع.

وهكذا وهلمّ جرّاً في الاجتهادات التي خولف بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته ، غير ناسين أنّ المسلمين بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين دعا بالقلم والدواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبدا ، فمن قائل : أنفذوا ما

______________________________

(١) الاصابة ١ : ٤٨٤ ، حلية الأولياء ٣ : ٢٢٧ ، البداية والنهاية ٧ : ٢٩٨ ، مسند أحمد ٣ : ١٥.

(٢) تاريخ المدينة لابن شبة ١ : ٣٧٢ ، الدر المنثور ٣ : ٢٦٤ ، كنز العمال ٢ : ٤١٩ / ح ٤٣٩٣.

(٣) مسند أحمد ١ : ٢٠ عن الاعمش عن شقيق عن سلمان بن ربيعة ، ومسلم في الزكاة.

(٤) تاريخ عمر لابن الجوزي : ٥٨.

(٥) المصنف لعبدالرزاق ١٠ : ٣١٣ ، مجمع الزوائد ١ : ١٧٤.

(٦) صحيح البخاري ١ : ٣٩ كتاب العلم ، وكتاب المرضى ٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٧ ، ١٢٥٩.


قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقائل : القول ما قال عمر ، وهذا إن كشف عن شيءٍ فإنما يكشف النقاب عن وجود الاتجاهين حتّى آخر لحظة من حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ اتجاه الاجتهاد بالرأي كان قويّاً ومؤثرا في مسير تاريخ المسلمين وفقههم وحياتهم ، وذلك هو الذي شرّع التعدديّة وحجيّة الرأي بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولا يخفى عليك أنّ ما يهمّنا بحثه هنا هو معرفة ( وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من خلال بيان ملابسات التشريع الإسلامي على وجه العموم ، وما يتعلق بوضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  بوجه خاص.

المجتهدون بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

لقد علمنا بوجود تيارين في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : متعبّد ، ومجتهد ، وبقاءهما إلى آخر لحظة من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولظروف شتّى صار زمام الخلافة بيد رؤساء الاجتهاد والرأي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان من جملة ما اتخذوه من قرارات هو معارضتهم للتحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمور رأوها.

فجاء في تذكرة الحفاظ : أنّ الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيهم ، فقال : إنكم تحدّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافا ، فلا تحدّثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه (١).

______________________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ : ٢ ـ ٣ ، حجية السنة : ٣٩٤.


وعن عروة بن الزبير : أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ، ثمّ أصبح يوماً ، وقد عزم الله له فقال : إنّي كنت أردت أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً ، فأكبّوا عليها فتركوا كتاب الله تعالى ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيءٍ أبداً (١).

وروي عن يحيى بن جعدة : أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة ثمّ بدا له أن لا يكتبها ، ثمّ كتب في الأمصار : من كان عنده منها شيء فليمحه (٢).

وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّه قد ظهرت في أيدي الناس كتب ، فاستنكرها وكرهها ، وقال : أيّها الناس ! إنّه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ، فأحبُّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به ، فأرى فيه رأيي.

قال : فظنوا أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمرٍ لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار ، ثمّ قال : أمنيّة كأمنيّة أهل الكتاب (٣).

وفي الطبقات الكبرى ومسند أحمد ، قال محمود بن لبيد : سمعت عثمان

______________________________

(١) تقييد العلم : ٤٩ ، حجية السنة : ٣٩٥ عن البيهقي في المدخل ، وابن عبدالبر.

(٢) تقييد العلم : ٥٣ ، حجية السنة : ٣٩٥.

(٣) حجية السنة : ٣٩٥ ، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ١ ٦ ١٤٠ « مثناة كمثناة أهل الكتاب ».


على المنبر يقول : لا يحلّ لأحد أن يروي حديثا عن رسول الله لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر (١).

وعن معاوية أنّه قال : أيّها الناس ! أقلّوا الرواية عن رسول الله ، وإن كنتم تحدّثون ، فحدّثوا بما كان يُتَحدَّث به في عهد عمر (٢).

وهذه النصوص توضّح لنا انقسام المسلمين إلى اتجاهين :

١ ـ اتّجاه الشيخين ومن تبعهما من الخلفاء ، فإنّهم كانوا يكرهون التدوين ويحضرون على الصحابة التحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ اتّجاه جمعٍ آخر من الصحابة قد اتّخذوا التدوين مسلكاً ومنهجاً حتّى على عهد عمر بن الخطاب ، منهم علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأبوذر وغيرهم.

فترى هؤلاء يدوّنون ويحدّثون وإن وضعت الصمصامة على أعناقهم ، لقول الراوي : أتيت أباذر ـ وهو جالس عند الجمرة الوسطى ـ وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل (٣) فوقف عليه ثمّ قال : ألم تُنْهَ عن الفتيا ؟ (٤)

فرفع رأسه إليه فقال : أرقيب أنت عليَّ ؟ لو وضعتم الصمصامة على

______________________________

(١) الطبقات الكبرى ٢ : ٣٣٦ وعنه في السنة قبل التدوين : ٩٧.

(٢) كنز العمال ١ : ٢٩١.

(٣) هو فتى من قريش كما في تاريخ دمشق ٦٦ : ٩٤. وفي فتح الباري ١ : ١٤٨ « وبيّنّا أنّ الذي جابهه رجل من قريش ».

(٤) قال ابن حجر في فتح الباري ١ : ١٤٨ « إنّ الذي نهاه عن الفتيا عثمان ».


هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أنّي اُنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن تجيزوا (١) عليّ لأنفذتها ! (٢).

وترى الخلفاء وأتباعهم يمنعون التحديث والتدوين ويضربون ويهددون المحدثين.

ومن هنا حدث التخالف في الموقف بين النهجين ، هذا يحدّث ويدوّن ، وذاك يقول بالإقلال ومنع التحديث والتدوين ، وهذا يقول بلزوم عرض المنقول عن رسول الله على القرآن ، فإن وافقه يؤخذ به وإن خالفه يُضرب به عرض الجدار ، والآخر يقول بعدم ضرورة ذلك ويعتبره من عمل الزنادقة ، وبذلك ارتسمت الأصول الفكرية للطرفين تدريجيّاً.

عثمان والاجتهاد

وفي خضم هذه الأحداث وإمساك نهج الاجتهاد والرأي بزمام الأمور ، تسنّى لهم أن يجعلوا سيرة الشيخين قسيماً ثالثاً لكتاب الله وسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاشترطوا على من يلي الخلافة بعد عمر أن يذعن لهذه القاعدة النابعة من الاجتهاد ، فقبل عثمان بن عفّان ذلك ، وأبى الإمام عليٌّ أشدّ الإباء ، لأنّ قبول ذلك الشرط يعني التخلي عن مدرسة التعبد المحض ،

______________________________

(١) تجيزوا : أي تكملوا قتلي.

(٢) سنن الدارمي ١ : ١٣٦. ورواه الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ : ٦٤ ، وابن سعد في طبقاته ٢ : ٣٥٤. وروى هذا الحديث البخاري في صحيحه ٦ : ٢٥ لكنّه بتره ولم يذكر نهي عثمان ولا الفتى القرشي الرقيب الجاسوس ، بل اكتفى بذكر قول أبي ذر « لو وضعتم الصمصامة » ... الخ.


ويعني الانخراط في سلك الاجتهاد بالرأي ، وذلك ما لا يقرّه عليّ بن أبي طالب ـ تبعاً لرسول الله والقرآن المجيد كما بيّنّا ذلك ـ لأنّه يضفي الشرعية على تلك الفكرة المستحدثة.

ولا يخفى أنّ عبدالرحمن بن عوف كان يبغي من هذا الشرط إلزام عثمان بن عفّان بالعمل طبق اجتهادات الشيخين ، وحصر دائرة الشرعيّة بهما دون سواهما ، إلاّ أنّ الواقع الذي حصل من بَعْدُ كانَ خلاف ما أراد الشيخان وابن عوف ، لأنّ فكرة الاجتهاد فنسها تأبى هذا التأطير الذي لا يمتلك القوة الإقناعية لهذا الحصر المراد.

فإنّ تشريع سنّة الشيخين ـ طبق الاجتهاد ـ والارتقاء بها إلى صف السنة النبوية ، جاء لتطبيق ما سُنّ على عهدهما من آراء ، والذهاب إلى شرعيتها ، وعدم السماح للآخرين بمخالفتها ، وعثمان كان يعتقد بأنّه لايقلّ عن الشيخين بشيء ، فما هو المبرر لتمسّكه بسيرتهما دون أن يجعل لنفسه سيرة واجتهادات خاصة ؟!

لقد سار عثمان على سيرة الشيخين مدّة من الزمن ، حتّى إذا أراد الاستقلال بالرؤية وجعل نفسه ثالثةَ الأثافي في أعلام مدرسة الاجتهاد ، انتقضت عليه الأطراف وتعالت صرخات الاحتجاج ، لأنّ اجتهاداته وسّعت الدائرة الأولى فأخرجت عثمان عن العهد الذي التزم به وقطعه على نفسه ، كما أخرجت الاجتهاد عمّا أريد له من تأطير وحصر ، وبذلك اكتملت حلقات الاجتهاد والرأي عند الشيخين حتّى بلغت أوجها عند عثمان مما حدا بالصحابة أن يصفونه ويصمونه بتحريف الدين وتقويضه ، ثمّ


تشبيههم إيّاه بنعثل اليهودي (١) ، وغير ذلك.

ولذلك وجدنا كثرة الناقضين على عثمان آراءه ، ومعارضتهم لفقهه الجديد الذي أراد تطبيقه في كثير من المفردات الفقهية ، ومنها الوضوء كما رأيت وسترى.

عثمان والوضوء

لقد اتضحت عواقب الاجتهاد بجلاء في زمن عثمان ، حتّى أصبح المسلمون لا يطيقون تحمّلها ، فثارت ثائرتهم عليه ، وكان هذا التحوّل في مسار المشرَّعات وحياة المسلمين هو الذي حدا بابن عباس أن يُوقِفَ عمر بن الخطاب عليه ، حيث خلا عمر ذات يوم فجعل يحدّثُ نفسه ، فأرسل إلى ابن عباس فقال :

كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟

قال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ، إنا أُنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما نزل ، وإنه يكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن لا يعرفون فيمَ نزل ، فيكون لكل قوم رأي ، فإذا كان لكلّ قوم رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا ، فزبره عمر وانتهره ، وانصرف ابن عباس ، ثمّ دعاه بعد ، فعرف الذي قال ، ثم قال : إيهاً أَعِد (٢).

______________________________

(١) ستقف على مصادر بعض هذه النصوص في صفحة ٥٧ من هذا الكراس.

(٢) كنز العمال ٢ : ٣٣٣ / ح ٤١٦٧.


وهكذا حدث بالفعل ، فقد اختلف الصحابة فيما يعرفون وفيما لم يعرفوا ، وصارت الأعلبية الساحقة ضدّ عثمان ، والنزر القليل معه ، وبقي الاجتهاد والرأي هما الحاكمان لذهنية عثمان حتّى مقتله ، ذلك الاجتهاد الذي أثّر على جُلّ الفروع الفقهية إن لم نقل كلما ، حتّى انعكس على أمّهات المسائل وواضحاتها ، بل على أوضحها ، ألا وهو الوضوء.

وقد أخذنا هنا مفردة « وضوء النبي صلى الله عليه وآله » لنرى البعد الاجتهادي ومدى تأثيره على هذا الفرع الذي لا تُقبل الصلاة إلاّ به ، إذ كيف اختلف المسلمون فيه مع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يؤديّه بمرأىً منهم على مدى ثلاث وعشرين سنة ؟ ومتى وقع الاختلاف فيه ؟ ومن أوقعه ؟ وما هي دواعي الاختلاف فيه ؟

فممّا لا شك فيه أنّ المسلمين في العهد النبوي كانوا تبعاً للنبي في كيفية الوضوء ، وهو وضوء واحدٌ لا غير ؛ فكيف صار المسلمون بين ماسح مُثَنٍّ وبين غاسل مثلّثٍ ؟! ـ إذ لا يخرق إجماعهم المركّب قول قائل بالجمع احتياطاً ، أو بالتخيير لتكافؤ الأدلة عنده لأنّها أقوال شاذة ـ وكلٌّ منهم يدّعي أنّ ذلك فعلُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه الصواب وغيره الخطأ.

وعلى كلّ حال ، فإنَّ الوضوء في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا لم يكن ولم يصلنا فيه خلاف ، إذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأكرم ما زال بين أظهرهم.

وأمّا في زمن أبي بكر ـ على قصره ـ فلم نعهد فيه خلافاً وضوئياً ، ولو كان لبَان ، وذلك يدل على استقرار أمر الوضوء بين المسلمين في عهده ، وأنهم لم يزالوا متعبدين بوضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خصوصاً وأنّ نصّاً في الوضوء البياني لم يصلنا عن أبي بكر ، وهذا ممّا يؤكد عدم وجود خلاف فيه آنذاك.


وكذلك لم نعهد خلافاً مطروحاً في زمن عمر بن الخطّاب إلاّ في مسألة يسيرة ، هي مسألة جواز المسح على الخفّين وعدمه ، إذ تخالف عليٌّ وعمر فيها (١) ، وحدث بين سعد وعبدالله بن عمر أيضاً خلاف فيها بمحضر من عمر (١) ، ولم نجد أكثر من ذلك ، وهذا لا يشكّل خلافاً في أصل الوضوء

______________________________

(١) ففي تفسير العياشي ١ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ بسنده عن الصادق عليه‌السلام ، قال : إنّ عليّا عليه‌السلام خالَفَ القوم في المسح على الخفين على عهد عمر بن الخطاب ...

وفيه أيضا ١ : ٢٩٧ / ح ٤٦ بسنده عن زرارة بن أعين وأبي حنيفة ، عن أبي بكر بن حزم ، قال : توضّأ رجل فمسح على خُفّيه ، فدخل المسجد فصلّى ، فجاء عليٌّ فوطأ على رقبته ، فقال : ويلكَ ! تُصلّي على غير وضوء ؟!

فقال [ الرجل ] : أمرني عمر بن الخطاب.

فقال [ الراوي ] : فأخذه بيده ، فانتهى به إليه.

فقال [ علي ] : انظر ما يروي هذا عليك ـ ورفَعَ صوته ـ

فقال [ عمر ] : نعم ، أنا أمرتُهُ : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مَسَحَ.

قال [ علي ] : قبل المائدة أو بعدها ؟

قال [ عمر ] : لا أدري.

قال [ علي ] : فَلِمَ وأنت لا تدري ؟! سَبَقَ الكتابُ الخُفَّيْن. انتهى.

والمقصود أنّ سورة المائدة كانت من أواخر السّور التي نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد بُيِّنَ فيها الوضوء بقوله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) وهي تعني أنّ المسح على القدمين لا على الخُفّين.

(٢) ففي مسند أحمد ١ : ٣٦٦ بسند صحيح عن خصيف أنّ مقسما ـ مولى عبدالله بن الحارث بن نوفل ـ أخبره أنّ ابن عباس قال : انا عند عمر حين سأله سعد [ بن أبي وقاص ] وابن عمر المسح على الخفين ؟ [ إذ كان سعد يرى المسح على الخفين ، وكان عبدالله بن عمر لا يرى جوازه ] فقضى عمر لسعد. فقال ابن عباس : فقلت : يا سعد ، قد علمنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مَسَحَ على خُفّيه ، ولكن أَقَبْلَ المائدة أم


وماهيّته كما لا يخفى.

ثمّ إنّ عدم وجود وضوء بياني عن عمر بن الخطّاب ، يكشف عن عدم وجود اختلاف ظاهر في الوضوء في عهده ، خصوصاً إذا علمنا أنّ الفتوح توسّعت آنذاك وكان الداخلون الجدد في الإسلام بحاجة إلى تعلّم الوضوء.

فالحالة الطبيعية كانت تقتضي صدور نصوص عن عمر ـ أو في زمانه ـ لو كان ثمة اختلاف في ماهية الوضوء ، وحيث لم نجد أي شيء من ذلك ، عرفنا استقرار أمر الوضوء وعدم الخلاف فيه ، بل الذي وجدنا فيه هو نسبة المسح على القدمين إلى الخليفة عمر بن الخطّاب (١).

نعم ، إنّ الخلاف في الوضوء قد ظهر في زمن عثمان بن عفّان ، وذلك طبق الأدلة والمؤشرات التاريخية.

فقد روى المتقي الهندي ، عن أبي مالك الدمشقي قوله : حدّثت أن عثمان بن عفّان اختُلف في خلافته في الوضوء (٢).

وأخرج مسلم في صحيحه ، عن قتيبة بن سعيد ، وأحمد بن عبدة الضبي ، قالا : حدثنا عبدالعزيز ـ وهو الدراوردي ـ عن زيد بن أسلم ، عهن حمران مولى عثمان ،

______________________________

بعدها ؟ ... قال : لا يخبرك أحدٌ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مَسَحَ عليهما بعدما أُنزلت المائدة ، فسكت عمر.

(١) اُنظر : عمدة اقاري ٢ : ٢٤٠ وفيه : أخرجه ابن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ.

(٢) كنز العمال ٩ : ٤٤٣ / ح ٢٦٨٩٠.


قال : أتيت عثمان بن عفّان بوضوء ، فتوضّأ ثمّ قال : إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأحاديث لاأدري ما هي ، إلاّ أنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله توضّأ مثل وضوئي هذا. ثمّ قال : « من توضأ هكذا غُفِر له ما تقدم من ذنبه » (١).

وهذا النصّان يقرّران حدوث اختلاف في الوضوء بين عثمان ، وبين ناس متحدثين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا يؤكد تواصل النهجين في هذا العهد : نهج الاجتهاد والرأي والذي يتزعمه الخليفة ، ونهج التعبد المحض والذي يتزعمه ناس متحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وبمعنى آخر إنّ هناك وضوءين :

١ ـ وضوء عثمان بن عفّان.

٢ ـ وضوء ناس متحدثين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

هذا ، وإن عثمان حاول تجاهلهم بقوله « بأحاديث لا أدري ما هي » ؟! مع اعترافه بأنّهم يتحدّثون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دون اجتراءٍ منه على تكذيبهم أو اتّهامهم بالوضع.

وإذا أضفنا الملاحظات التالية إلى هذين النصين تبيّن لنا أنّ الخلاف وقع في زمان عثمان لا محالة ، وهي :

أ ـ عدم وجود وضوء بياني للشيخين كما قدمنا ، بل وجود نص عن الخليفة الثاني يدل على كونه من الماسحين على القدمين ، إذ أتى العيني باسمه

______________________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٠٧ / ح ٨ ، وعنه في كنز العمال ٩ : ٤٢٣ ح ٢٦٧٩٧.


في عمدة القاري ضمن الماسحين (١).

وهكذا جاء عن ابنه عبدالله خبر المسح ؛ لِما أخرجه الطحاوي بسنده عن نافع عن ابن عمر أنّه إذا توضأ ونعلاه في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه ويقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصنع هكذا (٢).

وقد جاء عن عائشة أنّها خالفت أخاها عبدالرحمن في وضوئه وقالت له : يا عبدالرحمن ، أسبغ الوضوء ؛ فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ويل للأعقاب من النار (٣).

فإنها أرادت الاستفادة من كلمة ( الإسباغ ) ( وويل للأعقاب ) للتدليل على لزوم القدمين ، وأنت تعلم بأنْ لا دلالة لهاتين الكلمتين على مطلوبها ، بل ترى في كلامها إشارة إلى ثبوت المسح عندها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنها في الوقت نفسه اعتقدت بشمول ودلالة جملة ( ويل للأعقاب ) للغسل اجتهادا من عندها !!

فلو كانت حقا قد رأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يغسل رجليه للزمها القول : يا عبدالرحمن اغسل رجليك ، فإني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يغسل رجليه ، لا أن تستدلّ بقوله ( ويل للاعقاب من النار ) ، حيث إنّها لم تر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يغسل رجليه فقد استدلت على وجوب الغسل ـ حسب اعتقادها ـ

______________________________

(١) عمدة القاري للعيني ٢ : ٢٤٠.

(٢) شرح معاني الآثار ١ : ٣٥ / ح ١٦٠.

(٣) صحيح مسلم ١ : ٢١٣ / ح ٢٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ١٥٤ / ح ٤٥٢ ، المصنف لعبدالرزاق ١ : ٢٣ / ٦٩ ، الموطأ ١ : ١٩ / ٥ ، مسند أحمد ٦ : ١١٢ ، شرح معاني الآثار ١ : ٣٨ / ١٨٨.


بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا بفعله ، على أنّه ـ وعلى حدّ الاحتمال ـ قد يكون هذا الخبر وأمثاله هو ممّا نسبه الأمويون إليها.

وبهذا فقد عرفت أنّ سيرة المسلمين كانت المسح ـ ومنذ عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى آخر عهد الشيخين ـ لعدم مجيء وضوء بياني عنهما ، ولعدم وجود الخلاف في عهدهما ، ولما رأيته من فعل أبنائهما (١) في الوضوء.

ب ـ عدم صدور الوضوءات البيانية عن الصحابة المكثرين ـ كأبي هريرة وعائشة وابن عمر ـ ولا عن عيونهم وكبارهم ـ كابن مسعود وعمار وأبي ذر وسلمان ـ ولا عن زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا عن مواليه ـ سوى أنس ، صاحب الوضوء المسحي المخالف لوضوء الحجاج بن يوسف الثقفي (٢) !! ـ مع أنّ الحالة الطبيعية كانت تقتضي أن تصدر النصوص عنهم ؟!

ج ـ إنّ عدد المرويات الوضوئية لعثمان هائل بالنسبة لباقي أحاديثه ؛ إذ أنها تقارب عشرين حديثاً أو أكثر ، من مجموع مائة واثنين وأربعين رواية عنه في شتّى الأبواب.

______________________________

(١) كـ ( عبدالله بن عمر ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي بكر ، وحتى عائشة بنت أبي بكر قبل وفاة سعد بن أبي وقاص ). إذ أنّ خلافها مع أخيها عبدالرحمن كان يوم توفّي سعد بن أبي وقاص كما في صحيح مسلم والسنن الكبرى للبيهقي ١ : ٢٣٠ ، وجامع البيان للطبري ٦ : ١٨٠ وغيرها. وسعدٌ توفّي سنة ٥٤ أو ٥٥ أو ٥٨ ه‍. انظر أسد الغابة ٢ : ٢٩٣.

(٢) انظر خبر ذلك في تفسير الطبري ٦ : ٨٢ وتفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ وتفسير القرطبي ٦ : ٩٢.


د ـ وجود ظواهر ومشتركات غريبة في روايات عثمان الوضوئية تفرّد بها عن روايات الآخرين (١) ، وفيها إشارة إلى كونه في موقف المتّهم ، وإلى وقوع الخلاف معه في الوضوء.

ه‍ ـ وضع بعض الأحاديث أريد من خلالها تحشيد رؤوس من المعارضين لعثمان فقها وسياسة ، وعدّهم في صفّ مؤيّديه في وضوئه (٢).

المخالفون لعثمان

بعد أن اهتدينا إلى معرفة تاريخ اختلاف المسلمين في الوضوء ، كان لابدّ لنا من الوقوف على « الناس المتحدثين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » لعدم تصريح عثمان بأسمائهم.

وكان السبيل للاقتراب من ذلك هو معرفة المخالفين المطّردين أو شبه المطردين لعثمان بن عفان في إحداثاته الأخرى ، كإتمام الصلاة بمنى (٣) ، وعفوه عن عبيد الله بن عمر (٤) ، وتعطيله للحدود ورده للشهود ـ كما في قضية

______________________________

(١) سيأتي بيانها تحت عنوان « من هو البادئ بالخلاف ».

(٢) اُنظر كنز العمال ٩ : ٤٤٧ / ح ٢٦٩٠٧ ، و ٩ : ٤٣٩ / ح ٢٦٨٧٦ ففيهما ادّعاء شهادة طلحة والزبير وعلي وسعد لعثمان على صحة وضوئه الغسلي ، مع أنهم من معارضيه فقهاً وفكراً وتطبيقاً.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٢٦٨ ، انساب الاشراف ٥ : ٣٩ ، سنن البيهقي ٣ : ١٤٤ ، كنز العمال ٨ : ٢٣٨ / ح ٢٢٧٢٠. صحيح البخاري ٢ : ٥٣ ، صحيح مسلم ١ : ٤٨١ / ح ١٥ و ٤٨٢ / ح ١٧ ، مسند أحمد ٣ : ١٥٩ ، ١٩٠ ، مجمع الزوائد ٢ : ١٥٥ ، الموطأ ١ : ٤٠٢ / ح ٢٠١.

(٤) سنن البيهقي ٨ : ٦١ ، طبقات ابن سعد ٥ : ١٥ ، تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٩ ، شرح النهج ٣ : ٦٠ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٣ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٧٥.


شرب الوليد بن عقبة الخمر (١) ـ وتقديمه الخطبة على الصلاة في العيدين (٢) ، والنداء الثالث يوم الجمعة (٣) وغيرها.

وحيث وقفنا في مدخل الدراسة على أسماء أولئك (٤) ، سعينا لانتقاء جملة من المخالفين المطردين أو شبه المطردين لعثمان في تلك الإحداثات ، فكانوا كالتالي :

١ ـ عليّ بن أبي طالب.

٢ ـ عبدالله بن عباس.

٣ ـ طلحة بن عبيدالله.

٤ ـ الزبير بن العوّام.

٥ ـ سعد بن أبي وقاص.

٦ ـ عبدالله بن عمر.

٧ ـ عائشة بنت أبي بكر.

______________________________

(١) طبقات ابن سعد ٥ : ١٧ ، تاريخ الطبري ٤ : ٢٧٤ ، انساب الاشراف ٥ : ٣٤ ، تاريخ الخلفاء : ١٥٤ ، الكامل في التاريخ ٣ : ١٠٦.

(٢) فتح البارى ٢ : ١٦١ ، صحيح البخاري ٢ : ٢٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٠٢ / ح ٢٠١ ، سنن ابن داود ١ : ٢٩٧ / ح ١١٤٢ ، سنن ابن ماجه ١ : ٤٠٦ / ح ١٢٧٣ ، سنن الترمذي ٢ : ٢١ / ح ٥٢٩ ، مسند أحمد ٢ : ٣٨.

(٣) انساب الاشراف للبلاذري ٥ : ٣٩ ، المنتظم ٥ : ٧ ، المصنف لأبي ابن شيبة ٢ : ٤٨ / ٣ و ٤ و ٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٢.

(٤) لا يفوتك أنّ المكتوب هنا إنّما هو خلاصة لمدخل الدراسة ، ولو أحببتَ المزيد فراجع البحث التاريخي للدراسة ( المدخل ) من ص ١١٥ ـ ١٢٧.


٨ ـ أنس بن مالك.

وإذا عرفنا أنّ عليّ بن أبي طالب وعبدالله بن عباس ، وأنس بن مالك ، من أصحاب الوضوء المسحي قطعاً وكونهم من المكثرين في الحديث ، تجلّى لنا أمر الناس المعنيين في كلام عثمان ، وتبيّن لنا أنّهم من علّيّة الصحابة وعيونهم ، لا كما أراد عثمان أن يصوّرهم من خلال تجاهله لهم.

أضف إلى ذلك أسماء الصحابة الذاهبين إلى المسح أو المنسوب إليهم ذلك مثل :

١ ـ عبّاد بن تميم بن عاصم المازني.

٢ ـ أوس بن أبي أوس الثقفي.

٣ ـ رفاعة بن رافع.

٤ ـ أبي مالك الأشعري.

٥ ـ عبد الله بن مسعود (١).

٦ ـ جابر بن عبد الله الانصاري (٢).

٧ ـ عمر بن الخطّاب (٣) وغيرهم.

وهنا نستطيع معرفة من كان يعينهم عثمان من معارضيه الوضوئيين ، ونعلم زيف الرواية التي تدّعي موافقة طلحة والزبير وعلي وسعد لعثمان في وضوئه ، إذ علمت أنهم من مخالفيه ، وأنّ طلحة والزبير كانا من أشدّ الناس

______________________________

(١) وذلك من خلال ادعائهم الرجوع إلى الغسل ، وهذا مما يعني أنه كان ذاهباً إلى المسح.

(٢) عدّه العيني ضمن الماسحين ، اُنظر عمدة القاري ٢ : ٢٤٠.

(٣) عمدة القاري ٢ : ٢٤٠.


تأليباً عليه ومن أوائل الداعين لقتله.

فمن مخالفة بعض الصحابة لعثمان في أغلب اجتهاداته ، وورود أسمائهم في قائمة الوضوء الثنائي المسحي ، وعدم ورودهم في قائمة الوضوء الغسلي ، اهتدينا إلى الناس المقصودين في عبارة عثمان ، والعبارات الأخرى الواردة في مثل هذا المقام المراد منها أمثال أولئك الرجال.

من هو البادئُ بالخلاف ؟

قبل أن نبين لك البادئ بالخلاف لا بدّ لنا من عرض بعض النصوص التي نقلت الوضوء العثماني ، لتقف من خلالها على الاستنتاج الصحيح في هذا المضمار :

١ ـ أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن حمران مولى عثمان ، قال : أتيت عثمان بن عفان بوضوء ، فتوضّأ ثم قال : إنّ ناساً يتحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأحاديث لا أدري ماهي ، إلاّ أني رأيت رسول الله توضّأ مثل وضوئي هذا (١). ثم قال : من توضّأ هكذا غُفِر له ما تقدم من ذنبه (٢).

______________________________

(١) كان عثمان يؤكد على هذا المعنى ـ وراويه في ذلك حمران = طويدا اليهوديّ مولاه ـ ففي سنن الدارمي ١ : ١٧٦ وسنن البيهقي ١ : ٥٣ و ٥٦ و ٥٨ « من توضّأ نحو وضوئي هذا » ، وفي البخاري ١ ٦ ٥١ « من يتوضّأ نحو وضوئي هذا » ، وفي سنن أبي داود ١ : ١٠٦ « من توضّأ مثل وضوئي هذا » ، وفي سنن الدارقطني ١ : ٨٣ / ح ١٤ « رايت رسول الله توضّأ نحو وضوئي هذا ». فهو في كل ذلك يدعو الناس إلى وضوئه ويُشبّه النبي بوضوئه ، ولا يُشبِّه وضوءَه بوضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٢٠٧ / ح ٨.


٢ ـ روى البيهقي بسنده عن محمد بن عبدالله بن أبي مريم ، قال : دخلت على ابن دارة [ مولى عثمان ] منزله ، فسمعني أتمضمض ، فقال : يا محمد ، قلت : لبَّيك ، قال : ألا أخبرك عن وضوء رسول الله ؟ قلت : بلى ، قال : رأيت عثمان بن عفان وهو بالمقاعد (١) ... ثم ساق الوضوء العثماني وفيه : ومسح برأسه ثلاثاً وغسل قدميه (٢).

وأخرج الدارقطني بسنده عن محمد بن أبي عبدالله بن أبي مريم ، عن ابن دارة ، قال : دخلت عليه ـ يعني عثمان ـ منزله فسمعني وأنا أتمضمض ، فقال : يا محمد ، قلت : لبيك ، قال : ألا أحدثك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قلت : بلى ، قال : رأيت رسول الله أتي بماء وهو عند المقاعد ... ثم ساق الوضوء العثماني وفيه : ومسح رأسه ثلاثاً ، وغسل قدميه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ قال : هكذا وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحببت أن أُريكموه (٣).

٣ ـ وأخرج الدارقطني بسنده عن عمر بن عبدالرحمن ، قال : حدثني جدي : أنّ عثمان بن عفان خرج في نفر من أصحابه حتى جلس على المقاعد ، فدعا بوضوء ... ثم قال : ... كنت على وضوء ولكن أحببت أن أريكم كيف توضّأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

______________________________

(١) المقاعد : قيل هي دكاكين عثمان ، وقيل : درج. وقيل : موضع بقرب المسجد اتخذه للقعود فيه لقضاء حوائج الناس والوضوء ونحو ذلك. فعثمان يقعد في الأماكن العامّة المزدحمة ليدعو إلى وضوئه الجديد.

(٢) سنن البيهقي ١ ٦٢ ـ ٦٣.

(٣) سنن الدارقطني ١: ٩١/ ح ٤.

(٤) سنن الدارقطني ١: ٩٣/ ح ٨.


٤ ـ وفي صحيح مسلم بسنده عن الزهري : ولكنّ عروة يحدّث عن حمران أنّه قال : ... والله لأحدّثنّكم حديثاً ، واللّه لولا آية من كتاب الله ما حدّثتكموه ... إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا يتوضّأ الرجل فيحسن وضوءه ثم يصلي إلاّ غُفِر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها. قال عروة : الآية ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ ) إلى قوله ( اللَّاعِنُونَ ) (١).

٥ ـ وعن حمران ، قال : أتيت عثمان بوضوء (٢) ، فتوضّأ للصلاة ، ثم قال : سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من توضّأ فأحسن الطهور كُفّر عنه ما تقدّم من ذنبه ، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : يا فلان ، أسمعتها من رسول الله ؟ ... حتى أنشد ثلاثة من أصحابه ، فكلّهم يقول : سمعناه ووعيناه (٣).

٦ ـ عن حمران [ مولى عثمان ] ، قال : دعا عثمان بماء فتوضّأ ، ثم ضحك ... فقال : ألا تسألوني مِمَّ أضحك ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ، ما أضحكك ؟! قال : رأيت رسول الله توضّأ كما توضأت ... (٤)

وعن حمران أيضاً : قال : رأيت عثمان دعا بماء ، [ ثم سرد وضوءه ] ، ثم ضحك ، فقال : ألا تسألوني ما أضحكني ؟ قلنا : ما أضحكك يا

______________________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٠٦ / ح ٦ ، والآية في سورة البقرة الآية ١٥٩.

(٢) اي بماءٍ للوضوء.

(٣) كنز العمال ٩ : ٤٢٤ / ح ٢٦٨٠٠.

(٤) كنز العمال ٩ : ٤٣٦ / ح ٢٦٨٦٣.


أميرالمؤمنين ؟ قال : أضحكني أنّ العبد إذا غسل وجهه حطّ الله عنه كلّ خطيئة أصابها بوجهه ... (١)

٧ ـ وعن عبد الرحمان البيلماني ، عن عثمان : أنّه توضّأ بالمقاعد فغسل كفّيه ثلاثاً ثلاثاً ... وغسل قدميه ثلاثاً ... وسلَّم عليه رجل و هو يتوضّأ فلم يردّ عليه حتى فرغ ، فلمّا فرغ كلّمه يعتذر ؛ وقال : لم يمنعني أن أردّ عليك إلاّ أني سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من توضّأ هكذا ولم يتكلّم ثم قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، غُفِر له ما بين الوضوءين (٢).

وعن البيلماني أيضاً : أنّه شهد عثمان يتوضّأ على المقاعد ، فسلّم عليه رجل فلم يردّ عليه ، حتّى إذا فرغ ردّ عليه ، وجعل يعتذر إليه ، ثمّ قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضّأ فسلّم عليه رجل فلم يردّ عليه (٣).

عرفنا سابقاً بعض الملامح الدالّة على البادئ بالخلاف ، إذ وضّحنا وجود مؤشرات كثيرة دالة على كون عثمان بن عفّان هو الذي بَدَأ الخلاف في الوضوء ، وأنّ المسلمين لم يأخذوا بقوله وفعله أيام حياته ؛ لما عرفت من اختلاف الناس معه ، لكنّ الحكّام ـ أمويين كانوا أم عباسيين ـ أكدوا على وضوء عثمان لمصالح ارتضوها في العصور اللاحقة.

وقد رأينا كيف أنّ عثمان بن عفّان ـ ونظرا لكثرة الناس الماسحين ،

______________________________

(١) كنز العمال ٩ : ٤٤٢ / ح ٢٦٨٨٦ ( حم والبزار حل ع و صحح ).

(٢) سنن الدارقطني ١ : ٩٦.

(٣) كنز العمال ٩ : ٤٤٣ / ح ٢٦٨٨٨ (البغوي فيه ، ص).


وتحديثهم عن رسول الله ، وقوّة استدلالهم ـ انحسر وراح يتخذ مواقفَ دالة على ضعفه أمامهم ، مشيراً إلى قوة الاتجاه المعارض له ، حيث :

١ ـ إنّ عثمان ولم يرم « الناس » بالكذب أو البدعة أو الإحداث ، بل وصفهم بالتحديث ، ولم يشكّك فيهم ، وهذا اعتراف منه بأنهم متحدّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غير كذّابين ولا مبتدعين ولا مُحْدِثين ، ولو كانوا كذلك لقال عنهم ما يجب القول فيهم من الكذب والبدعة وغير ذلك ، كما نسبوا هم إلى عثمان ذلك ، لا أن يتجاهل مروياتهم بقوله ( لا أدري ما هي ) ، وعثمان بقوله ذلك كشف لنا ماهيّة ومنزلة أولئك ( الناس ) إجمالاً.

٢ ـ لو كان ( الناس ) هم البادئون بالخلاف لاستعمل عثمان معهم أحد أساليب ثلاثة :

أ ـ أسلوب الردع الحاسم ، وهو ما فعله عمر بن الخطّاب مع ضبيع بن عُسل الحنظلي (١) ، وهو الأسلوب الذي استعمله عثمان على نطاق واسع مع الصحابة وفي أبسط جزئيات الأمور (٢).

______________________________

(١) وهو صحابي كان يسأل عن متشابه القرآن كالذاريات والمرسلات و النازعات ، فضربه عمر حتّى أدمى رأسه ، وضُرب مائتي سوط ، وحُمِل على قتيب ، ونفي إلى البصرة ، وحُرم عطاؤه ، ومنع الناس من مجالسته ، وصار وضيعاً بعد أن كان سيّداً. انظر : مسائل الإمام أحمد ١ : ٤٧٨ / ح ٨١ ، والإصابة ٢ : ١٩٨ ـ ١٩٩ ، وسنن الدارمي ١ : ٥٤ و ٥٥ ، ونصب الراية ٤ : ١١٨ ، والدر المنثور ٢ : ٧ ، وفتح القدير ١ : ٣١٩ ، وتاريخ دمشق ٢٣ : ٤١١.

(٢) انظر في ذلك تاريخ الطبري ٤ : ٢٥١ ، ٢٨٤ ، ٣٩٨ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٨٧ ، ١١٥ ، ١٣٧ ، ١٨١ ، المنتظم ٤ : ٣٦٠ ، البداية والنهاية ٧ : ١٧٣ ، ٢٢٤ ، انساب الاشراف ٥ : ٤٨ ، شرح النهج ٣ : ٤٧ ، ٤٩ ، ٥٠ ، ٥٤.


ب ـ طلب النصرة ، بأن يستنصر المسلمين لنفسه استنصارا عامّاً ليقضي على ما أدخله أولئك في الدين ، كما جاء في تعليل أبي بكر في قتاله لقبيلة مالك بن نويرة وغيرها بأنهم منعوا الزكاة !!

ج ـ المحاججة ، بأن يدعو عثمان « الناس المتحدثين » ويحاججهم بالدليل ، ليقف المسلمون على عوزهم العلمي ، ولعلّ منهم من يرجع عن موقفة ، وذلك هو ما فعله الإمام علي حين أرسل ابنَ عباس لمحاججة الخوارج ، فرجع منهم من رجع.

لكننا لم نر عثمان اتخذ أيّاً من هذه الأساليب معهم ، بل ظهر في موقع المدافع المتّهم المشار إليه ، مع أنّه استعمل العنف في حياته فسيّر المعترضين على سعيد بن العاص في الكوفة ، كما سيّر أباذر ، ومنع ابن مسعود من قراءته وكَسَرَ بعض أضلاعه ، وضرب عماراً وداسه حتّى أصابه الفتق ، وهدّد علياً لمشايعته لأبي‌ذر واعتراضه على محاولة تسيير عمار (١).

فالملاحظ هو أنّ عثمان بن عفّان رغم شدته كان يبدو وديعاً عند طرحه لاجتهاداته ، وعند اعتراض بعض المسلمين عليه فيها ، فلمّا اعتُرض عليه في إتمام الصلاة بمنى مازاد على قوله « رأيٌ رأيته » (٢) ، وحين خالفه الإمام علي في أكل صيد الحرم مازاد على أن نفض يديه وقام وقال :

______________________________

(١) انظر أنساب الأشراف ٥ : ٥٥.

(٢) انظر تفنيد الصحابة لدعاوى عثمان وذرائعه التي تذرع بها في إتمام الصلاة بمنى ، وقوله لهم في نهاية المطاف « هذا رأيٌ رأيته ». انظر ذلك في أنساب الأشراف ٥ : ٣٩ ، وتاريخ الطبري ٤ : ٢٦٨.


« مالك لا تدعنا ! (١) » ؟ مع أنّ الظروف الموضوعية والأهميّة الشرعية تقتضي استعمال القوة فيما لو كان هو صاحب الفكرة الحقة.

وهذه الوداعة نفسها أبداها عثمان في جميع وضوءاته وطروحاته فيه ، فراح يركّز الفكرة بالهدوء والاستفادة من مصطلح « أحسن الوضوء » ، ودعوته مواليه و ... كما علمت وستعلم.

كما أنّ عثمان لم يطلب النصرة من المسلمين ولا استصرخهم ، بل هم الذين استصرخ بعضُهم بعضا للقضاء على إحداثات عثمان حتّى قتلوه ، فلو أنّ « الناس المتحدثين » كانوا هم البادئين لاَندفع المسلمون ـ والرواة منهم بدافع الحرص على الدين ووضّحوا للناس الأمر ، وأسقطوا التكليف عن الخليفة وكفوه المواجهة ، كما رأينا ذلك في منع الزكاة وتصدّي الصحابة لنشر ما سمعوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مانعي الزكاة وعقوبتهم ووجوب أدائها.

هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نرى مؤشّرات معاكسة لهذا المفروض ، تدلّنا على أن الخليفة هو البادئ بالخلاف ، وتلك المؤشرات هي :

أ ـ إنّ عثمان لم يصرّح ولا باسمِ واحد من معارضيه ، ممّا يدل على تخوّفه من أمرٍ مّا.

ب ـ مرّ عليك سابقاً أنّه لم يرمهم بالكذب والابتداع ، بل اقتصر على وصفهم بأنّهم يتحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ تجاهلهم وتجاهل مرويّاتهم !!

______________________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ : ٤٦.


ج ـ إننا لم نجد حتّى لأصحاب عثمان المقربين منه ـ كمروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة وزيد بن ثابت ـ دفاعات عن وضوئه ، فإنّهم لم يَقْدموا على ذلك ، مع أنّ منهم من دافع عنه يوم الدار.

٣ ـ إنّ عثمان بن عفّان اتّخذ أساليب غير مألوفة في إعلانه عن وضوئه الجديد ، ممّا يؤكّد وقوفه في موقف المتّهم الذي يريد طرحَ شيءٍ جديد ، وذلك عبر النقاط التالية :

أ ـ إنّ عثمان راح يجنّد مواليه لنقل فكرته الوضوئية عنه ، كحمران وابن دارة ، مع أنّ حمران كان يهوديّاً من سَبْي عين التمر (١) وقد أسلم في السنة الثالثة من خلافة عثمان ، وهذا يدل على أنّ صدور نقله للوضوء عن عثمان جاء متأخراً عن هذا التاريخ ، وهو ممّا يؤكد صدور الوضوء من عثمان في الستّ الأواخر من حكمه ، شأنه شأن باقي آرائه واجتهاداته التي نقمها عليه المسلمون. وهو الذي جعل الإمامَ عليّاً يقول عنه ( حتّى أجهَزَ عليه عملُه ) (٢).

ب ـ ابتداء عثمان ـ ولأدنى الأسباب ـ بتعليم الوضوء تبرّعاً وبدون سؤال سائل ، كمسارعته لتعليم ابن دارة وضوءه الغسلي بمجرّد سماع

______________________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ٧ : ١٤٨ ، تهذيب الكمال ٧ : ٣٠٣ ، تاريخ الاسلام للذهبي : ٣٩٥ ، مختصر تاريخ دمشق ٧ : ٢٥٣ ، وفيات الاعيان ٤ : ١٨١ ، تاريخ بغداد ٥ : ٣٣٢ ، تاريخ الطبري ٣ : ٤١٥ ، الأخبار الطوال : ١١٢ ، معجم البلدان ٥ : ٣٠١ ، المعارف لابن قتيبة : ٢٤٨.

(٢) نهج البلاغة ١ : ٣٥ / الخطبة ٣.


مضمضته (١) ، وكجلوسه على المقاعد وطرحه لوضوئه الغسلي (٢).

كما أنّ هناك عبارة « أحببت أن أريكموه » (٣) ، وهي صريحة في التبرّع والمبادرة ، وقد استعملها معاوية أيضا في الوضوء الغسلي بزيادته مسحَ الرأس بغرفة من ماء حتّى يقطر الماء من رأسه أو كاد يقطر ، وأنّه أراهم وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) ! ونفس العبارة جاءت في وضوء نُسِبَ للبراء بن عازب (٥) ، هذا مع خلوّ أغلب روايات الوضوء المسحي عن هذا التبرّع الذي يكمن وراءه شيءٌ !

ج ـ محاولة عثمان استشهاد جماعة على صحّة وضوئه لاكتساب الشرعية واقتطاب أكبر عدد ممكن لتأكيد الوضوء الجديد ، فالرواية تقول أنّه كان يقول : أكذلك يا فلان ؟ قال : نعم ، ثمّ قال : أكذلك يا فلان ؟ قال : نعم ، حتّى استشهد ناساً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال : الحمد لله الذي وافقتموني على هذا (٦) ، حتّى ادّعي في بعضها ـ كما قلنا ـ أنّه استشهد

______________________________

(١) سنن البيهقي ١ : ٦٢ ـ ٦٣.

(٢) سنن الدارقطني ١ : ٩١ / ح ٤.

(٣) سنن الدراقطني ١ : ٩١ / ٤ ، و ١٢ / ٨.

(٤) اُنظر : مسند أحمد ٤ : ٩٤.

(٥) مسند أحمد ٤ : ٢٨٨. وفيه أن البراء قال لهم : اجتمعوا فلأريكم كيف كان رسول الله يتوضّأ ... فجمع بنيه وأهله ودعا بوضوء ...

(٦) كنز العمال ٩ : ٤١ / ٢٦٨٨٣ عن الدارقطني ١ : ٨٥ / ٩ ، واُنظر مسند أحمد ١ : ٥٧ و ١ : ٦٧ ـ ٦٨ ، وكنز العمال ٩ : ٤٤١ / ٢٦٨٨٣. وقد عرفت في الحديثين الواردين قبل قليل : الرقم (٣) و (٥) أنّ الذين شهدوا له هم أصحابه الباثّين لاجتهاداته لا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.


طلحة والزبير وعليّاً وسعداً فشهدوا له (١). هذا مع أنّ الصحابة لم يكونوا بحاجة لتعلّم الوضوء ، لوضوحه عندهم ، فضلاً عن أنّ المذكورين هم من المعارضين لعثمان في فقهه ـ وبعضهم في وضوئه وفقهه ـ فكيف شهدوا له ؟! فهذه الأحاديث تدل على قوة المعارضة المحدّثة ، وضعف موقف عثمان في وضوئه الجديد.

د ـ إنّ عثمان كان يذيّل وضوءاته الثلاثية الغسلية بجم ثابتة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لينتقل منها ـ طبق الرأي والاستحسان ـ إلى تقرير وضوئه الجديد ، أي أنّه كان ينتقل من معلوم إلى مجهول يراد إثباته ، فهو يذيّل وضوءه تارة بقوله : « من توضأ فأحسن الوضوء ثمّ صلّى ركعتين كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه » (٢) ، وأخرى بقوله : « من توضأ فأحسن الطهور كُفّر عنه ما تقدم من ذنبه » (٣).

ويذهلنا ثالثة حين يقول : والله لأحدِّثنكم حديثا ، والله لولا آية في كتاب الله ما حدّثتكموه ... إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « لا يتوضأ الرجل فيحسن وضوءه ثمّ يصلي إلاّ غُفر له ما بينه وبين الصلاة التي

______________________________

(١) اُنظر : كنز العمال ٩ : ٤٤٧ / ٢٦٩٠٧. وهذه الرواية رواها أبو النضر سالم بن أبي أمية ، وهو لم يسمع عن عثمان ولكنّه كان يُرسِلُ ، كما صرح بذلك ابن أبي حاتم والهيثمي والدارقطني. ( انظر : تهذيب التهذيب ٣ : ٤٣٢ ، ومجمع الزوائد ١ : ٢٢٩ ، وعلل الدارقطني ٣ : ١٧ ). فيبدو أنّ هذا الرجل وضع هذا الحديث خدمةً لعثمان والأمويين.

(٢) كنز العمال ٩ : ٤٤٧ / ح ٢٦٩٠٧.

(٣) كنز العمال ٩ : ٤٢٤ / ح ٢٦٨٠٠.


تليها » ، قال عروة : الآية ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ ) ... إلى قوله ( اللَّاعِنُونَ ) (١).

فهل إنّ الوضوء وإحسانه يستدعي كل هذا الخوف والإحجام لولا آية في كتاب الله ؟ مع أنّ عشرات الصحابة رووا هذا المضمون ـ أي استحباب إحسان الوضوء ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ! وسيتبين لك كيف أن الأمويين عبر أم المؤمنين عائشة وأبي هريرة استغلوا مفهوم إحسان الوضوء وربطوه بإسباغه وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ويل للأعقاب من النار ، ثمّ أرادوا له أن يفيد الغَسل لا غير ، حيث إنهم كانوا قد فسّروا الإسباغ بتثليث غسل الأعضاء ، كما فسروا جملة ( ويل للأعقاب من النار ) بغسل الأرجل.

ه‍ ـ ضحكات وتبسّمات عثمان عند الوضوء ، فإنّه كان يضحك عندما يأتونه بماء للوضوء ويقول : ألا تسألوني ممّ أضحك ؟ ثمّ يجيب معلِّلاً تارةً بأنّه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ وضوءه (٢) ، وأخرى بأنّه لغفران ذنوب

______________________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٠٦ / ح ٦. والآية : ١٥٩ من سورة البقرة.

ومثل ذلك ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده ١ : ٦٧ بسنده عن حمران [ مولى عثمان ] ، قال : كان عثمان يغتسل كل يوم مرّة منذ أسلم ، فوضعت وضوءاً له ذات يوم للصلاة فلمّا توضّأ قال : إنّي أردتُ أن أحدّثكم بحديث سمعته من رسول الله ثم بدا لي أن لا أحدّثكموه ، فقال له الحكم بن أبي العاص : يا أمير المؤمنين ، إن كان خيرا فنأخذ به أو شرّاً فنتّقيه ، قال : فقال : فإني محدّثكم به ؛ توضّأ رسول الله هذا الوضوء ثم قال : من توضّأ هذا الوضوء فأحسَنَ الوضوء ثم قام إلى الصلاة فأتِمّ ركوعها وسجودها كفّرت عنه ما بينها وبين الصلاة الأخرى ...

(٢) اُنظر : كنز العمال ٩ : ٤٣٦ / ٢٦٨٦٣.


وحطِّ خطايا المتوضي (١) ، وثالثة بأنه لغفران ذنوب من توضّأ وضوءه ثمّ دخل في صلاته (٢) ، ورابعة بأنّه ضحك وسأل أصحابه عن سرّ ضحكه لأنّه رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قريباً من مكانه ـ قد ضحك وسأل أصحابه عن سرّ ضحكه (٣) ، ثمّ علل سبب الضحك تارة بأنّ الوضوء الغسلي وحده ، وتارة بأنّه مع الصلاة ، سببٌ لحطِّ الذنوب.

وهذه العنايات كلّها تدل على أنّه كان يريد أن يضيف شيئاً إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بشتّى الحجج ، وإلاّ فلماذا لم تنقل تلك التبسمات والضحكات بهذه الكثرة عن غيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في نقلهم لوضوئه المسحي ؟! ولماذا لم يضحك لغير ذلك التعليم ؟!

و ـ إن جميع وضوءات عثمان البيانية هي ثلاثية الغسلات ، ولم يأت عنه خبر في باب الوضوء مرّة ومرتين ، مع ورود أخبار عن عمر وعلي وابن عباس وجابر وغيرهم فيه.

فهل كان عثمان يرى عدم إجزاء المرّة والمرتين ؟!

أم أنّ تثليثه كان يستبطن أمراً جديداً ؟! وهو التأكيد على الوضوء

______________________________

(١) اُنظر : كنز العمال ٩ : ٤٤٢ / ٢٦٨٨٦ ( حم والبزار حل ٤ وصحح ). ومسند أحمد ١ : ٥٨ و ٦١.

(٢) اُنظر : كنز العمال ٩ : ٤٣٩ / ٢٦٨٧٢ ( كر ).

(٣) فعن حمران ، قال : كنت عند عثمان ، فدعا بوضوء فتوضّأ ، فلمّا فرغ قال : توضّأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما توضّأتُ ، ثمّ تبسَّم وقال : أتدرون مِمَّ ضحكتَ ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : إن العبد المسلم ... كنز العمال ٩ : ٤٣٩ / ح ٢٦٨٧٢. وقد علمت أنّ عثمان اختلق هذا التبسّم ونسبه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليبرّر ضحكاته الوضوئية.


الثلاثي الجديد واعتباره هو الإسباغ فقط ـ والذي طوره عثمان من بعد حتّى صار يغسل رجليه ، وطوّره معاوية فغسل رأسه ـ وبذلك فلم يكن للمسح حكم في المذاهب الأربعة لا في الرأس ولا في القدمين لتجويزهم الغسل بدله فيها (١) !!

ويؤيد ما قلناه ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال ـ بعد أن توضأ الوضوء الثلاثي الغسلي ـ : فمن زاد على هذا أو نقص فلقد أساء وظلم (٢) ، فهل يُعقَل أن يكون من توضأ مرّة أو مرتين قد أساء وظلم ، مع ثبوت ذلك الوضوء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكبار الصحابة ؟!

يبدو أنّ عثمان ومتابعيه أرادوا التأكيد على الثلاثي فقط وفقط واعتباره هو الإسباغ المقصود دون غيره.

ز ـ إنّ وضوءات عثمان تحمل في طياتها إشارات تشير إلى إحداثه ، وتعدّيه في الوضوء.

منها : قوله : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ نحو أو مثل وضوئي هذا (٣) ، وقوله : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله توضأ وضوئي هذا (٤) ، ولا تراه يقول مثلاً :

______________________________

(١) اُنظر في ذلك الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري ١ : ٥٧ ـ ٦٢ مثلاً.

(٢) سنن أبي داود ١ : ٣٣ / ح ١٣٥. واُنظر : سنن البيهقي ١ : ٧٩ وسنن ابن ماجة ١ : ١٤٦ / ح ٤٢٢. واُنظر تعليق السيوطي على هذا الحديث في هامش النسائي ١ : ٨٨.

(٣) صحيح البخاري ١ : ٥١ ، سنن أبي داود ١ : ١٠٦ ، سنن البيهقي ١ : ٤٨ ، سنن النسائي ١ : ٦٤ و ٦٥ ، سنن الدارقطني ١ : ٨٣ / ١٤ ، صحيح مسلم ١ : ٢٠٥.

(٤) سنن النسائي ١ : ٦٥ ، سنن البيهقي ١ : ٤٨.


توضأت كما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ ، أو نحو أو مثل وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه الجمل لها دلالة نفسية على جعل وضوئه هو الميزان والقول الفصل.

ومنها : انحصار القبول وغفران الذنوب بالوضوء الثلاثي ـ خصوصاً مع عدم نقله للوضوء الثنائي والأحادي الغسلات ، رغم ورود ذلك عن جم غفير من الصحابة والتابعين ـ فهو يشير إلى تبنّي عثمان للوضوء الثلاثي الغسلي لا غير.

ومنها : وجود جملة « لا يحدّث نفسه بشيء » (١) في وضوءاته ، والتي احتملنا كونها جاءت لتزكية نفسه وإبعاد الشبهة عنه ، إمعاناً في إضفاء المشروعية على وضوئه.

ومنها : عدم تكلّم عثمان في أثناء وضوئه ، ليطبع عليه طابع الهالة والقدسية ، حتّى أنّه لم يكن يردّ سلام المسلِّم في أثناء وضوئه ، معلِّلاً ذلك بما رواه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّ من توضّأ وتشهّد ولم يتكلّم بينهما غفر له ما بين الوضوءَين ، مع أن ردّ السلام واجب وليس هو كسائر الكلام ـ على فرض صحة رواية عثمان (٢) ـ.

______________________________

(١) ففي سنن النسائي ( المجتبى ) ١ : ٦٥ ، وسنن البيهقي ١ : ٤٨. عن حمران أنّه رأى عثمان توضّأ وضوءه الجديد ثم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله توضّأ وضوئي هذا ، ثم قال [ عثمان ] : من توضّأ مثل وضوئي هذا ثم قام فصلّى ركعتين لا يحدّث نفسه بشيء غفر الله له ما تقدّم من ذنبه. وانظر قول عثمان هذا في سنن الدارمي ١ : ١٧٦.

(٢) اُنظر : كنز العمال ٩ : ٤٤٢ / ٢٦٨٨٧ و ٢٦٨٨٥ و ٢٦٨٨٨ ، وسنن الدارقطني


كل تلك الأدلة والقرائن والشواهد جعلتنا نطمئنّ إلى أن عثمان كان هو البادئ بالخلاف ، والآتي بالوضوء الثلاثي الغسلي الجديد.

عثمان والإحداث

بقي علينا أن نوضّح السبب ـ أو الاسباب ـ التي دعت عثمان إلى إحداث هذا الوضوء الثلاثي الجديد ، وللإجابة عن ذلك رأينا أوّلاً أن ننظر في سبب مقتله ، لأننا توصلنا إلى أنّ السبب الأكبر الذي دعا قاتليه إلى قتله هو إحداثاته في الدين ، لا مجرّد تصرّفاته وسوء سياسته المالية والإدارية ، وذلك من خلال ملاحظة القضايا الرئيسية التالية :

١ ـ إن طلحة والزبير كانا من أوائل المؤلّبين عليه والمفتين بقتله ، مع أنّ عثمان أغدق عليهما الأموال بشكل عجيب (١) ، وكذلك الأمر بالنسبة لعبدالرحمن بن عوف (٢) ، مضافا إلى وعد عثمان إياه بالخلافة (٣) ، وهكذا

______________________________

١ : ٩٢ / ح ٥.

(١) فقد وهب لطلحة خمسين الفاً كما في الطبري ٤ : ٤٠٥ ، ووصله بمائتي الف وكثرت مواشيه وعبيده ، وقد بلغت غلته من العراق وحدها الف دينار يومياً ، ولمّا مات كانت تركته ثلاثين مليوناً من الدراهم ، وكان النقد منها مليونين ومائتي الف درهم ومائتي الف دينار. وانظر في أموال الزبير وضخامتها كتاب : الفتنة الكبرى ١ : ١٤٧.

(٢) كانت أموال ابن عوف الف بعير ومائه فرس وعشرة آلاف شاة وأرضاً كانت تزرع على عشرين ناضحاً. انظر : مروج الذهب ٢ : ٣٣٣.

(٣) حيث قال له الإمام علي يوم السقيفة : والله ما فعلتها إلاّ لأنك رجوت منه ما


كان عثمان يغدق الأموال على باقي الصحابة ـ إلاّ نفراً يسيراً ـ فمن غير المنطقي أن يقتلوه لإيثاره أقرباءه فقط مع حصولهم على نصيب وافر من المال ، بل هناك أسباب دينية وابتداعات جعلتهم يقتلونه ـ ربّما يكون بعضها في الأشياء الكثيرة التي كره الطبري ذكرها (١) ، وربّما كانت من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله ، والتي ترك ابن الأثير ذِكرَ كثيرٍ منها (٢).

٢ ـ إنّ سياسة عثمان الماليّة الطبقية كانت تستوجب عزله لا قتله (٣) ، وبما أنّ الصحابة بين قاتل وخاذل له ـ حسب تعبير ابن عمر (٤) ـ كان لابدّ من وجود سبب مبيح لدمه ، ولعله الإحداث في الدين لا في التصرفات الخارجية حَسْبُ.

٣ ـ وجود مبتدعات دينية فقهية يقينية صدرت من عثمان بن عفان ،

______________________________

رجا صاحبكما [ يعني عمر ] من صاحبه [ يعني أبا بكر ] دق الله بينكما عطر منشم ، شرح نهج البلاغة ١ : ١٨٨.

(١) اُنظر تاريخ الطبري ٤ : ٥٥٧ ، حيث قال في سبب الخلاف بين عثمان وأبي‌ذر الغفاري وموته غريباً بالربذة : فإنّهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة ، وأموراً شنيعة كرهتُ ذكرها !!!

(٢) اُنظر : الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٧ ، حيث قال : قد ذكرنا سبب مسير الناس إلى قتل عثمان ، وقد تركنا كثيرا من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله لعلل دعت إلى ذلك !! ترى ماهي العلل التي كره ابن الأثير ذكرها ؟

(٣) الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٧.

(٤) اُنظر : شرح نهج البلاغة ٣ : ٨.


احتج عليها الصحابة كلٌّ بطريقته ، لكنّ عثمان لم يرتدع عنها ، كإتمام الصلاة بمنى (١) ، وكزيادته النداء الثالث في يوم الجمعة في السنة السابعة من عهده وقد كان « الناس » عابوا عليه ذلك وقالوا : بدعة (٢) ، وكتقديمه الخطبة على الصلاة في العيدين (٣) ، وغيرها ، مما يؤكد صدور الابتداع عن عثمان في بعض المسائل الفقهية ، فلا غرابة في أن يسرّي ذلك إلى مفردات ومسائل أخرى كالوضوء.

٤ ـ إنّ تصرفات عثمان وإحداثاته العملية كانت تستتبع إحداثات علمية ودينية ، يكمن وراءها الخطر على الإسلام وأحكامه ، فعدم إقامته الحدّ على الوليد بن عقبة يعني إبطال الحدود وتوعّد الشهود (٤).

ومثله تأييده لنظرة سعيد بن العاص في أن السواد بستان لقريش وبني أمية ، فإنّها تعني إبطال قانون توزيع الفيء الذي يفيئه الله على المسلمين بأسيافهم (٥).

وإعطاء فدك وخُمس أفريقية لمروان (٦) ، يعني سحق قانون الميراث إن كانت فدك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده لورثته ، أو تدمير قانون الفيء إن كانت فيئاً

______________________________

(١) اُنظر كلام ابن أبي الحديد في شرح النهج ١ : ١٩٩ ـ ٢٠٠.

(٢) أنساب الاشراف ٥ : ٣٩ ، المنتظم ٥ : ٧ ـ ٨.

(٣) فتح الباري ٢ : ٣٦١ ، نيل الأوطار ٣ : ٣٦٢ ، تاريخ الخلفاء : ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٤) اُنظر : أنساب الأشراف ٥ : ٣٤ ، الإمامة والسياسة ١ : ٣٧ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٣١ / ح ٣٨.

(٥) شرح النهج ٣ : ٢١ و ٣٥ ، الكامل في التاريخ ٣ : ١٣٧ ـ ١٤١ ، تاريخ الطبري ٤ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٦) اُنظر : المعارف : ١١٢ ، وأنساب الاشراف ٥ : ٢٥ ، والإمامة والسياسة ١ : ٣٥.


للمسلمين ، وهكذا باقي إحداثاته.

٥ ـ والّذي يؤكّد ذلك ، هو النصوص التي صدرت عن الصحابة المعاصرين لتلك الإحداثات والإبداعات ، والتي تدل على إحداثاته في الدين.

كقول طلحة لعثمان : إنك أحدثت أحداثاً لم يكن الناس يعهدونها (١) ، وقوله له أيضاً : إن الناس قد جمعوا لك ، وكرهوا البدع التي أحدثت (٢).

وكقول الزبير في حقّه : اقتلوه فقد بدّل دينكم (٣).

وكقول عبدالله بن مسعود : ما أرى صاحبكم إلاّ وقد غيّر وبدّل ، وفي آخر عنه : إنّ أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدث بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار (٤) ، وفي ثالث : إنّ دم عثمان حلال (٥).

وقول عمار في خطبة له بصفين : فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت دنياهم ولو درس هذا الدين : لِمَ قتلتموه ؟ فقلنا لإحداثه .. (٦).

وقوله لعمرو بن العاص : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه (٧).

______________________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٢٩.

(٢) الفتوح ١ : ٣٥.

(٣) شرح النهج ٩ : ٣٦.

(٤) حلية الأولياء ١ : ١٣٨ ، أنساب الأشراف ٥ : ٣٦ ، شرح النهج ٣ : ٤٢.

(٥) أنساب الأشراف ٥ : ٣٦.

(٦) صفين : ٣١٩.

(٧) صفين : ٣٣٨ ، شرح النهج ٨ : ٢٢.


وقول سعد بن أبي وقاص في قتل عثمان : وأمسكنا نحن ، ولو شئنا دفعناه عنه ، ولكن عثمان غيَّر وتغيَّر (١).

وقول هاشم المرقال : أحدث الأحداث وخالف حكم الكتاب (٢).

وقول الأشتر : إنّ عثمان قد غيّر وبدّل (٣).

وقول عائشة ، وقد أخرجت قميص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا قميصه وشعره لم يَبلَ وقد بَلِيَ دينهُ (٤) ! وقولها : هذا ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبل وعثمان قد أبلى سنته (٥) ! وقولها مشبّهة له برجل من اليهود : اقتلوا نعثلاً فقد كفر (٦).

وقول علي صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم الشورى : أما إنّي أعلم أنّهم سيولّون عثمان ، وليحدثنّ البدع والأحداث (٧).

بل كتَبَ أصحابُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعضهم إلى بعض أن أقدموا ، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد (٨). فَعَدُّوا قتال عثمان جهاداً ، ولا يستقيم ذلك إلاّ لحفظ الدين من التحريف والتلاعب.

وعرف المسلمون جميعاً ابتداعات عثمان ، الّتي أراد أن يتلافاها بمثل

______________________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٤٨.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٣.

(٣) انساب الأشراف ٥ : ٤٥ ، الإمامة والسياسة ١ : ٣٨.

(٤) المختصر في أخبار البشر ١ : ١٧٢.

(٥) شرح النهج ٣ : ٩.

(٦) الفتوح ١ : ٦٤.

(٧) تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٠.

(٨) تاريخ الطبري / حوادث سنة ٣٤ ه‍.


توسعته للمسجد الحرام ، فقالوا : يُوسِّع مسجدَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويغيّر سنّته (١).

بل منعوا من دفنه في مقابر المسلمين (٢) ، حتّى دُفن ليلاً في حشّ كوكب ـ وهي من مقابر اليهود (٣) ـ وتحت الخوف ، إذ حملوه على باب وإنّ رأسه على الباب ليقول « طق طق » (٤) ، وأراد الذين دفنوا عثمان أن يُصَلُّوا عليه فَمِنُعُوا (٥).

وهذا لا يكون من الصحابة والناس والمسلمين إلاّ بعد فراغهم عن انحرافات عثمان وابتداعاته الدينية لا مجرّد سوء تصرّفاته ، وتدهور الاقتصاد واختلال النظام الإداري.

فمن كل هذا نعلم أنّ عثمان كان ذا جنوح إلى الإحداث والتغيير ، فلا غرابة في أن يطرح رأياً وضوئياً جديداً كما طرح آراءً من قبل في منى وصلاة الجمعة وصلاة العيدين وغيرها ، مضافاً إلى أنّ هناك عوامل تربوية ونفسية وسياسية واجتماعية أخرى حَدَت به إلى الإبداع الوضوئي ، والنزوع إلى تثليث الغسلات ، وغسل الممسوحات من بعد ،

______________________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٣٨.

(٢) في تاريخ الطبري ٣ ٦ ٤٤٠ « فقالوا [ نفر من الأنصار ] : لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبداً. فدفنوه في حش كوكب ».

(٣) قال الطبري في تاريخه ٣ : ٤٣٨ هو حائط بالمدينة يقال له حش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم.

(٤) تهذيب الكمال ١٩ : ٤٥٧. وفي تاريخ المدينة لابن شبّة ١ : ١١٣ « وحملوه على باب أسمعُ قرع رأسه على الباب كأنّه دبّاءة ويقول : دبْ دبْ ».

(٥) تهذيب الكمال ١٩ : ٤٥٧.


منها :

لماذا الإحداث في الوضوء ؟

١ ـ إنّ عثمان كان يرى لنفسه أهليّة التشريع ، كما كانت من قبل للشيخين ، فإنّه ليس بأقل منهما شأناً ، فلماذا يجوز لهما الإفتاء بالرأي ولايجوز له ؟! مع أنّهم جميعاً من مدرسة واحدة هي مدرسة الاجتهاد ، وكلّ منهم خليفة !!

٢ ـ إنه كان من المتشدّدين بظواهر الدين تشدّدا منهيّاً عنه ، حتّى أنّه عند بناء مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه ، فإذا وضعها نفض كفيه ونظر إلى ثوبه ، فإذا أصابه شيء من التراب نفضه ، وذلك كلّه لأنّه كان رجلاً نظيفاً متنظّفاً (١) ، مع أنّ عماراً كان على ضُعفه يحمل لبنتين.

وكان عثمان يغتسل كل يوم مرة (٢) ، ولا يردّ سلام المؤمن إذا كان في

______________________________

(١) اُنظر : العقد الفريد ٥ : ٩٠ عن أمّ سلمة.

(٢) عن حمران [ مولى عثمان ] أنّه قال : كان عثمان يغتسل كل يوم مرة منذ أن أسلم ( مسند أحمد ١ : ٧٦ ، خصائص الصحابة لأحمد ١ : ٤٦٦ ).

وقال ابن حزم في المحلى ٢ ٦ ١٦ : فقد ثبت بأصح اسناد أن عثمان كان يغتسل كل يوم ، فيوم الجمعة يوم من الايام بلا شك.

وقد يستظهر من رواية مسلم ١ : ٢٠٧ ح ٢٣١ أنّه كان يغتسل كل يوم خمس مرات حيث جاء في أول الخبر : قال حمران : كنت أضع لعثمان طهوره ، فما اتى يوم إلا وهو يفيض عليه نطقه ...


حالة الوضوء (١) ، وقال هو عن نفسه بأنّه لم يمدّ يده اليُمنى إلى ذَكَره منذ بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، وغيرها من حالاته التي تنمّ عن نفسية مهيّأة للتزيّد والمبالغة في التنظف.

٣ ـ استفادة عثمان من كون الوضوء نظافة وطهارة ، فلذلك يكون عنده تثليث الغسلات وغسل الممسوحات أكثر نظافة وطهارة ، ولا غضاضة في ذلك من وجهة نظره وإن خالفت السنّة النبوية.

٤ ـ وجود أحاديث نبويّة أمكنه الاستفادة منها في طرح وضوئه الغَسلي ، كاستفادته من إحسان الوضوء ، لأنّه كان قد قال بعد وضوئه الغسلي : « والله لأحدثنكم حديثاً ، والله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ... إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه ، ثمّ يصلي إلاّ غُفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها » (٣). واستُفيد من بعده من

______________________________

وفسروها بأنه كان يغتسل كل يوم ، قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ٣ : ١١٥ « ومراده لم يكن يمر عليه يوم إلا اغتسل فيه ، وكانت ملازمته للاغتسال محافظة على تكثير الطهر » فلو كان معنى صدر الحديث الاغتسال فان ذيل الحديث يؤكد تطهره. واغتساله خمس مرات لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب الله عليه فيصلى هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارات بينها ، إذ انهم وتوحيدا لصدر الرواية مع ذيلها كان عليهم أن يقولوا باغتساله خمس مرات في اليوم لكنهم حملوا ذيل الخبر على الوضوء وصدره على الغسل.

(١) سنن الدارقطني ١ : ٩٦ ، كنز العمال ٩ : ٤٤٣ / ٢٦٨٨٨.

(٢) قال : ما مستُ ذَكَري بيميني مذ بايعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله !! سنن ابن ماجة ١ : ١١٣ ، المحلى ٢ : ٧٩ ، تاريخ دمشق ٣٩ : ٢٢٥.

(٣) صحيح مسلم ١ : ٢٠٦ / ح ٦.


« أسبغوا الوضوء » ومن « ويل للأعقاب من النار » للتدليل على الغسل.

٥ ـ إنّه حين الثورة عليه كان يحاول تكثيف هالة القدسية حول نفسه ليدفع الثوار عن قتله ، فكان يذكّرهم مواقفه وشراءه بئر رومة وغير ذلك (١) ؛ ليثبّت بقاءه على الإيمان ، فكان الوضوءُ الجديدُ خطوةً في هذا الدرب ، إرادةً منه معالجة الموقف ، لكنه عالج الداء بالداء لا بالدواء.

٦ ـ كان يحاول إشغال الناس بالخلافات الفقهية ، والمناقشات فيها ، لدفعهم عن قتله وعن الخوض في مساوئ سياسته المالية والإدارية ، وذلك ما حصل بالفعل في كثير من آرائه ، آرائه أنّ النتيجة لم تكن محمودة العاقبة بالنسبة له ، ولذا قال الإمام علي بأنّ عمله هو الذي أجهز عليه (٢).

٧ ـ ومن أهم دوافع إبداعاته هو التفاف الأمويين حوله ، محاولين بناء مجد فقهي سياسي جديد ، وهذا هو الذي أبعد بعض كبار الصحابة كابن مسعود وابن عباس و ... من التعاون معه ، مما خلق عنده فراغاً فقهيا ملأه الدهاء الأمويّ المتنفّد في عهده.

٨ ـ وجود حالة الاستسلام عند كثير من الصحابة ، والتي جعلت الخليفة لا يتورّع عن طرح ما يرتأبه ، لأنّ غاية معارضتهم أن تنتهي

______________________________

(١) اُنظر : تاريخ الطبري ٣ : ٤١٥ و ٤٣٤ ، والبداية والنهاية ٧ : ١٩٨ و ٢٠٠.

(٢) قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصف حكومة عثمان : إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيلة ومعتلفة ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ... نهج البلاغة ١ : ٣٥ / الخطبة ٣.


بمجرد قوله : « رأي رأيته » (١) ، أو بقولهم : « الخلاف شر » (٢) ، و « إنّ عثمان إمام فما أخالفه » (٣) ، ممّا يعني رسوخ ما يطرح الخليفة في نهاية المطاف.

٩ ـ تفشّي حالة الاجتهاد ، وتلقّيها بالقبول من قبل كثير من الصحابة ، مما أهّلهم لاستقبال ما يطرحه عثمان كرأي مقبول ، وقد تفشت هذه الحالة نتيجة اجتهادات وآراء عمر بن الخطّاب بشكل كبير جداً ، ومن قبله آراء أبي بكر.

فمن كل هذه الأمور ـ وأمور جزئية أخرى يتلمّسها الواقف على حياة عثمان بوضوح ـ وجدنا هذه المبررات هي التي دفعت عثمان لابتداع الوضوء الثلاثي الغسلي الجديد ، الذي يرتضه الصحابة المتعبدون !!

علي عليه‌السلام والوضوء

ولمّا تولّى الإمامُ عليّ الخلافة راح يبين الوضوء النبويّ للمسلمين ، ويعرِّض ويشير إلى إحداث عثمان في الوضوء النبوي ، ونستطيع أن ندرج خطواته في بيان الوضوء النبوي في المندرجات الآتية :

______________________________

(١) مرّ عليك أنّ الصحابة حينما ناقشوه في إبداعه إتمام الصلاة بمنى وسدّوا عليه أبواب الذرائع اكتفى بقوله لهم : « هذا رأي رأيته ».

(٢) قيل لعبدالله بن عمر بن الخطاب : عبتَ على عثمان [ صلاته أربعاً بمنى ] ثم صلَّيتَ أربعاً ؟! قال : الخلافُ شرّ !! سنن البيهقي ٣ : ١٤٤.

(٣) قيل لعبدالله بن مسعود : ألم تحدّثنا أنّ النبي صلى ركعتين ، وأبا بكر صلى ركعتين [ أي بمنى ] ؟ فقال : بلى ، وأنا أحدّثكموه الآن ، ولكن عثمان كان إماماً فما أخالفه ، والخلاف شرّ. سنن البيهقي ٣ : ١٤٤.


١ ـ إنّ الثابت المحفوظ عن الإمام عليّ في كتب الفقه (١) والتفسير (٢) والحديث (٣) هو الوضوء الثنائي المسحي ، يتبعه في ذلك صحابة كُثر على رأسهم ابن عباس والطالبيون وأنس بن مالك.

٢ ـ كان الإمام علي يشير إلى الإحداث الذي طال الوضوءَ ، بمثل قوله بعد الوضوء المسحي وشربه من فضلته : « إن أناسا يكرهون هذا ، وقد رأيت رسول الله عليه‌السلام يفعله ، وهذا وضوء من لم يحدث » (٤) ، وقوله : « وهذا وضوء من لم يُحْدِث » ، و « رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل هكذا » (٥) ، فهو يؤكّد وجود الُمحْدِثين في الوضوء ، ولم يكن قبله محدِثٌ في الوضوء إلاّ عثمان كما علمت.

٣ ـ قوله عليه‌السلام : قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ... مغيّرين لسنته ... أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى أن يقول : ورددت الوضوء

______________________________

(١) انظر : فتح الباري لابن حجر ١ : ٢١٣ ، المحلى لابن حزم ١ ـ ٢ : ٥٦ / المسألة ٢٠٠ ، نيل الأوطار للشوكاني ١ : ٢٠٩ ، المغني لابن قدامة ١ : ١٥١ / المسألة ١٧٥ ، عمدة القاري للعيني ٢ : ٢١.

(٢) انظر : الطبري في تفسيره ٦ : ٨٦ والجصاص في احكامه ٢ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧ و ابن كثير في تفسيره ٢ : ٤٥.

(٣) انظر : ما رواه عبد خير عنه في مسند الحميدي ١ : ٢٦ / ح ٤٧ ومسند احمد ١ : ٩٥ ، ١١٦ ، ١٢٤ ، ١٤٨ ومسند الدارمي ١ : ١٨١ ، وما رواه النزال بن سيرة عنه في مسند ابي داود الطياسي : ٢٢ / ح ١٤٨ وغيرها.

(٤) مسند أحمد ١ : ١٥٣ ، واُنظر : مسند أحمد ١ : ١٤٤ ، سنن البيهقي ١ : ٧٥.

(٥) مسند أحمد ١ : ١٢ ، ولا يخفى عليك أنّ المقصود بالإحداث هو الإحداث في الدين ؛ أي الإحداث في الوضوء النبوي.


والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها (١).

وهذا النص ـ بعد الفراغ عن عدم إبداع الشيخين في الوضوء ـ يكاد يكون صريحاً في إبداع عثمان للوضوء الثلاثي الغسلي ؛ لأنّه عليه‌السلام صرح بابتداع الولاة من قبله ، ولمّا كان الشيخان براء من بدعة الوضوء بقي عثمان هو المقصود في كلام الإمام لا محالة.

٤ ـ كتابة الإمام علي كيفية الوضوء لواليه محمد بن أبي بكر في جملة ما كتبه إليه ، وكان في كتابه عليه‌السلام « تمضمض ثلاث مرات ، واستنشق ثلاثاً ، واغسل وجهك ، ثمّ يدك اليمنى ، ثمّ اليسرى ، ثمّ امسح رأسك ورجليك... فإني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصنع ذلك » (٢).

______________________________

(١) الكافي ٨ : ٥٩ ـ ٦٢.

(٢) اُنظر : أمالي المفيد المطبوع في جملة مصنفاته ١٣ : ٢٦٧ ، أمالي الطوسي : ٢٩ بإسناد في ضمنه الثقفي صاحب الغارات ، وقد حُرف النص المتقدم في كتاب الغارات المطبوع ( ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٤ ) وقد بيناه في مدخل الدراسة. ومما يجب الاشارة إليه هو وجود نص يؤكد على تحريف معاوية للنصوص ، مذكور في آخر النص الانف : في الغارات « ان معاوية كان ينظر في هذا الكتاب ويعجبه ... فقال له الوليد : انه لا راى لك ، فامن الراى أن يعلم الناس أن احاديث ابي تراب عندك تتعلم منها وتقضى بقضاءه ؟ فعلام تقاتله ؟ ...

فقال معاوية : لولا أن أبا تراب قتل عثمان ثم افتانا لاخذنا عنه ثم سكت هنيه ثم نظر الى جلسائه فقال : إنا لا نقول ان هذه من كتب علي بن أبي طالب ولكنا نقول ان هذه من كتب ابي بكر الصديق كانت عند ابنه محمد فنحن نقضي بها ونفتي ».

وفي شرح النهج ٦ : ٧٣ وبحار الأنوار : فلما بلغ علي بن ابي طالب ان ذلك الكتاب صار إلى معاوية اشتد عليه حزنا وتمثل باشعار ...


٥ ـ تنبيه وإشارة الإمام علي ـ في جملة أحاديثه الوضوئية ـ إلى أن مبعث الإحداث في الوضوء هو الاجتهاد والرأي ، وأنّ الوضوء ـ بل الدِّين ـ لا يُدرك بالرأي ، فكان يقول : « لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أحقّ بالمسح من ظاهرها ، لكن رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح ظاهرها » (١) ، ويقول : « كنت أرى أنّ باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتّى رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح ظاهرهما » (٢).

فهو يقرر أنّ الدين ـ ومنه الوضوء ـ لا يدرك بالرأي كما يتصوره البعض ، وإلاّ لكان باطن أحقّ بالمسح ، فكيف يُعدَلُ عنه إلى غسل الظاهر والباطن بمحض الرأي والاجتهاد ؟!

٦ ـ كانت وضوءات الإمام عليّ البيانية ـ وكذلك ابن عباس وأنس بن مالك ـ تحمل في ثناياها أدلّة من الكتاب والسنة ، وليست ادعاءات محضة لرؤية الوضوء النبوي ، لأن قول علي : « لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أحق بالمسح من ظاهرها. لكن رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح على أعلى قدميه » (٣) ، وما شاكله يتضمّن دلالة الكتاب على المسح ؛ لأنّه أرسله إرسال المسلمات طبق أصل تشريعه وهو آية الوضوء الظاهرة في مسح القدمين ، ثمّ دَحضَ الرأي الذي لو سُلّم لكان الباطن أحق بالمسح ، وعلى التقديرين فالمسح هو المشروع ، وبعد كلّ ذلك أكّد الإمام علي بن أبي طالب رؤيته النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يمسح أعلى قدميه.

______________________________

(١) المصنف ١ : ٣٠ / ح ٦.

(٢) سنن أبي داود ٤٢ : ح ١٦٤.

(٣) تأويل مختلف الحديث ١ : ٥٦.


وكذلك ابن عباس كان يقول : « لا أجد في كتاب الله إلاّ غسلتين ومسحتين » (١).

وكان أنس بن مالك ـ خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يعارض رأي الحجاج الذاهب إلى غسل القدمين ـ بحجة أنّه أقرب شيء للخبث ـ بقوله : صدق الله وكذب الحجاج ، قال تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (٢).

والمقصود الأوّل هنا هو تدليلات الإمام علي بالكتاب والسنة ودحض الرأي ، وهذا بخلاف وضوءات عثمان المدعية لمحض الرؤية والمتشبّثة بما لا يمتّ إلى أصل أفعال الوضوء بصلة ، فكأنّ الإمام عليّاً أراد أن يشير إلى اجتهاد عثمان في الوضوء ودحضه.

٧ ـ وبعد هذا كله فإنّنا لا نرى في وضوءات الإمام علي ولا ابن عباس ولا أنس ولا غيرهم من الماسحين تلك الضحكات والتبسمات ، ولا إشهادات الخائف الطارح لفكر جديد ، ولا تبرّعات بالتعليم لمجرّد سماع مضمضة ، ولا غيرها مما ذكرناه في الوضوءات العثمانية ، بل نرى الحالة حالة طبيعية منسجمة مع سير الأمور في تعليم الوضوء النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله

______________________________

(١) السنن الكبرى ، للبيهقي ١ : ٧٢ ، مسند أحمد ٦ : ٣٥٨. وقال ابن عباس بسند صحيح على شرط البخاري : الوضوء غسلتان ومسحتان. انظره في مصنف عبدالرزاق ١ : ١٩ / ح ٥٥.

(٢) تفسير الطبري ٦ : ٨٢ ، تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ ، تفسير القرطبي ٦ : ٩٢. وكان أنس بن مالك يقول : نزل القرآنُ بالمسح. انظر ذلك في تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ ، والدر المنثور ٢ : ٢٦٢.


الصحيح ، ودحض الوضوء الجديد النابع من الرأي ؛ إذ كانت نصوصهم تحوي النفي والإثبات معاً.

الأمويون والوضوء

ولمّا استشهد الإمام علي وصالح الإمامُ الحسنُ معاويةَ ، تولّى الأخير السلطة ، فراح يترسّم خطى عثمان فقهياً ويدعمه عقائديّاً ، ويتبنّى آراء ابن عمه ، كما حدث ذلك عندما صلّى الظهر في مكّة ركعتين ، فنهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان وقالا له : ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ممّا عبته به.

فقال لهما : أنّه صلاهما مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر وعمر قَصْراً.

فقالا له : إنّ ابن عمك قد كان أتمّهما ، وإنّ خلافك إيّاه عيب ، فخرج معاوية إلى منى فصلاّها بنا أربعاً (١).

وكذلك تابع عثمانَ في تجويزه الجمع بين الأختين بمِلْك اليمين (٢) ، وكذلك ترك معاوية التكبير المسنون في الصلاة لترك عثمان إيّاه ، وترَكَه زيادُ بن أبيه لترك معاوية (٣).

ومثله فَعَل في تركه التلبية في الحج (٤) ؛ حيث نصّوا على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

______________________________

(١) اُنظر : مسند أحمد ٤ : ٩٤ ، فتح الباري ٢ : ٤٥٧ ، نيل الاوطار ٣ : ٢٥٩.

(٢) اُنظر : الدر المنثور ٢ : ١٣٧ ، والموطأ ٢ : ٥٣٨ / ح ٣٤.

(٣) اُنظر فتح الباري ٢ : ٢١٥.

(٤) سنن النسائي ( المجتبى ) ٥ : ٢٥٣ ، سنن البيهقي ٥ : ١١٣.


وأبا بكر وعمر أهلّوا ، ولم يذكروا عثمان (١) ، هذا إلى غيرها من المفردات الفقهية.

وكذلك كانت خطوات معاوية في تقرير قاعدة « من غلب » بعد أن كان يعتقدها عثمان (٢) ، مضافاً إلى مفاهيم عقائدية ركّزها معاوية يعود

______________________________

(١) اُنظر المحلى ٧ : ١٣٥ ـ ١٣٦ ، فتح الباري ٣ : ٤١٩ ـ ٤٢٠.

(٢) ففي الإمامة والسياسة : ٥٨ قول عبدالله بن عمر بن الخطاب لعثمان لمّا ألهب الثوار النار في باب عثمان : يا أمير المؤمنين ، مع من تأمرني أن أكون إن غَلَبَ هؤلاء القوم عليك ؟ قال : عليك بلزوم الجماعة ، قلت [ القائل ابن عمر ] : فإن كانت الجماعة هي التي تغلب عليك ؟ قال : عليك بلزوم الجماعة حيث كانت.

وسار معاوية على هذا النهج ، ففي تاريخ ابن خلدون ٢ : ١٧٠ إنّ عليّاً بعث رُسُلاً إلى معاوية فقال له أحدهم : فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله ، فأجابه معاوية وأقذع في سبه وقال : انصرفوا فليس بيني وبينكم إلاّ السيف ...

وفي مصنف ابن أبي شيبة ٧ : ٢٥١ ، وتاريخ دمشق ٥٩ : ١٥٠ ، والبداية والنهاية ٨ : ١٤٠ ، ومقاتل الطالبيين : ٤٥ ، وشرح النهج ١٦ : ٤٦ قول معاوية في خطبته بالنُخيلة يوم الجمعة : إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكّوا ـ إنكم لتفعلون ذلك ـ وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم.

وسار عبدالله بن عمر على هذه القاعدة ، قال القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية : ٧ ـ ٨ « في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك ، فيكون مع هذا قوم و مع هذا قوم ، تكون الجماعة مع مَن غلب ، واحتجّ بأنّ ابن عمر صلّى بأهل المدينة في زمن الحَرّة [ وهي التي انتهك فيها جيش يزيد مدينة الرسول وهتك الأعراض ] وقال : نحن مع مَن غلب. انتهى.

وقال ابن عمر : لا أقاتلُ في الفتنة ، وأصلّي وراء مَن غلب. طبقات ابن سعد ٤ : ١٤٩.


نفعها لتثبيت أركان الحكم الأموي وعلى رأسه أفكار عثمان ، والّذي يهمنا هو تبنّيه لفقه عثمان ، وتأثير ذلك على الوضوء.

لقد سار الفقه الأموي على خطى عثمان ، فراح يستفيد من « أسبغ الوضوء » و « ويل للأعقاب من النار » لترسيخ الوضوء العثماني.

١ ـ فقد دخل عبدالرحمن بن أبي بكر على عائشة يوم توفّي سعد بن أبي وقاص [ سنة ٥٥ ه‍ ] فتوضأ عندها ، فقالت له : يا عبد الرحمن ، أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ويل للأعقاب من النار (١).

فلاحظ كيف عدلت عائشة عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « أسبغوا الوضوء » ـ مع أنّ المقام يقتضي الاستدلال به (٢) إلى الاستدلال بـ « ويل للأعقاب من النار » ، وهذا العدول يكمن وراءه ادّعاء أم المؤمنين ـ ومن ورائها الأمويون ، وعثمان من قبل ـ دلالةَ « ويل للأعقاب » على الوضوء الغسلي ، كما ترسّخ ذلك الفهم حتّى اليوم عند أتباع مدرسة الاجتهاد والرأي.

ومحصّل الكلام أنّ هذا النصّ يوقفنا على الاختلاف بين وضوء عبدالرحمن والوضوء الذي أرادته أم المؤمنين عائشة ، وحيث عرفنا أن عائشة بقولها السابق أرادت التدليل على الغسل ، عرفنا من مفهوم المخالفة أن عبدالرحمن كان يذهب إلى المسح على القدمين.

وجاء أبو هريرة ليصنع نفس صنيع أمِّ المؤمنين ، وذلك أنّه رأى قوماً

______________________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢١٣ / ح ٢٥ ، الموطأ ١ : ١٩ / ح ٥ ، شرح معاني الآثار ١ : ٣٨ / ح ١٨٨.

(٢) لكونها قد قالت : يا عبدالرحمن أسبغِ الوضوء.


يتوضؤون من المطهرة ، فقال : أسبغوا الوضوء ، فإنّي سمعت أبالقاسم يقول : « ويل للعراقيب من النار » (١).

وقد مثّل غير واحد من العلماء (٢) للإدراج بحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار » لكونهما لم يصدرا على هذا النسق من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا يدلنا على أنّ أبا هريرة كان يريد الاستفادة ـ كعائشة ـ من « الويل للأعقاب » أو ( العراقيب ) للتدليل على الوضوء الغسلي العثماني.

ويتضح ذلك بجلاء فيما اخرجه عبدالرزاق ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : لِمَ لا أمسح بالقدمين كما أمسح بالرأس ، وقد قالهما جميعاً ؟ (٣)

قال : لا أراه إلاّ مسح الرأس وغسل القدمين ، إنّي سمعت أبا هريرة يقول : ويل للأعقاب من النار.

قال عطاء : وإنّ أناساً ليقولون هو المسح ، وأمّا أنا فأغسلهما (٤).

فها هو يستدل على الغسل بقول أبي هريرة « ويل للأعقاب » ، وهذا

______________________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢١٤ ـ ٢١٥ / ح ٢٩.

(٢) الحديث المُدْرَج هو ما كانت فيه زيادة ليست منه ، وهو نوعان : إدراج في الإسناد ، وإدراج في المتن ... وإدراج المتن يكون في أول الحديث مثل حديث أبي هريرة « أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار » ، فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقلهما معاً في آن واحد بهذا النسق ، بل كلٌّ منهما له مورده الخاص ، لكنّ أبا هريرة أدرج القسم الأوّل في الثاني. ولا يجوز تعمّد شيء من الإدراج. انظر مقدمة ابن الصلاح : ٧٦ ، وتديب الراوي : ٨٠ ، وأضواء على السنة المحمدية : ١٤٠.

(٣) يعني أن القرآن قالهما معاً.

(٤) المصنف لعبدالرزاق ١ : ٢٠ / ح ٥٨.


يبيّن لنا حلقات متواصلة في سبيل تثبيت الوضوء الغسلي ، فمن عدول عائشة ، وإدراج أبي هريرة ، واستدلال عطاء ، تتبيّن سلسلة التطورات التي استُفيد منها لتقرير وتدعيم الوضوء العثماني.

٢ ـ واستمر التدعيم الأمويّ للوضوء العثماني ، والإصرار من ( نهج التعبد المحض ) على بطلان ذلك ، لمخالفته للكتاب والسنة.

فقد أخرج ابن ماجة بسنده إلى الربيع بنت معوّذ أنّها قالت : أتاني ابن عباس فسألني عن هذا الحديث ـ تعني حديثها الذي ذركت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله توضأ وغسل رجليه ـ فقال ابن عباس : إنّ الناس أبوا إلاّ الغسل ! ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح (١).

وقال الحميدي : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، قال : أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت المعوذ بن عفراء ، أسألها عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان يتوضّأ عندها ، فأتيتها ، فأخرجَتْ إليّ إناءً ... فقالت : ... بهذا كنت أخرج لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيبدأ فيغسل يديه ثلاثاً ، قبل أن يدخلهما الإناء ، ثمّ يتمضمض ويستنثر ثلاثاً ثلاثاً ، ويغسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ يغسل يديه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ يمسح رأسه مقبلاً ومدبراً ، ويغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ، قالت : وقد جاءني ابن عمّ لك [ تعني ابن عباس ] فسألني عنه فأخبرته.

فقال : ما علمنا في كتاب الله إلاّ غسلتين ومسحتين ! (٢)

______________________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ١٥٦ / ح ٤٥٨.

(٢) مسند الحميدي ١ : ١٦٤ ، ومسند أحمد ٦ : ٣٥٨.


وهنا نقف على صراع وضوءيين كانا في العصر الأموي.

أ ـ بين الربيع بنت معوَّذ وبين ابن عباس.

ب ـ بين الربيع وبين الإمام السجاد وعبدالله بن محمد بن عقيل.

فالربيع ـ وعلى ضوء النصين الآنفين ـ كانت قد تبنّت الوضوء الغسلي وأصرت عليه ، مع معرفتها بأنّ عترة الرسول لا يقبلون بنقلها للوضوء الغَسلي ، إذ أن ابن عباس قد استدل على سقم رأيها بالقرآن الكريم ، وفي اعتراضه إشارة إلى عدم قبول نسبة الغسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ تراه رحمه الله ـ في نص آخر ـ يستدل على المسح بالرأي إلزاماً لهم بما ألزموا به أنفسهم ؛ لسقوط العضوين الممسوحين في التيمم (١).

وهذا يؤكد الدعم الأموي عبر أقطابه ومحدّثيه للوضوء العثماني الغسلي.

٣ ـ ووصل الأمر في الوضوء الغسلي إلى أن يتبناه الحجاج ـ وهو بعيد عن الدين بُعدَ الأرض عن السماء ـ ويعلن به من على المنبر.

فقد أخرج الطبري بسنده إلى حميد ، قال : قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أباحمزة ، إنّ الحجّاج خطبنا بالأهواز ونحن معه نذكر الطهور ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، وأنّه ليس من ابن آدم أقرب إلى خبث من قدميه ، فاغسلوا

______________________________

(١) ففي مصنف عبدالرزاق ١ : ١٩ / ح ٥٤ بإسناده عن ابن عباس ، قال : افترض الله غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمّم فجعل مكان الغسلتين مسحتين ، وتَرَكَ المسحتين.


بطونهما وظهورهما وعراقيبهما... فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (١).

وهذا ـ الإعلان و ـ الاستدلال من الحجّاج يدلّ على تبني الأمويين للوضوء العثماني من جهة ، كما يدلّ على تحكيم الاجتهاد والرأي في الوضوء في جهة مقابلة تماماً لوضوء النبي والإمام علي ، ففي حين يؤكد علي بن أبي طالب على أنّ الوضوء لو كان بالرأي لكان باطن القدمين أحقّ بالمسح من ظاهرهما ، لكنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مَسَحَ ظهورَهما ، يأتي الحجّاج فيعارضه ويعارض القرآن ، مصرّحاً بأنّه لابدّ من غسل باطنهما وظهورهما وعراقبيهما ، بحجّة كونهما أقرب للخبث !!

وبعد هذا لا يبقى مجال للشك في تبنّي الأمويين للوضوء العثماني ، وانتهاجهم نفس نهجه واستدلالهم بنفس استدلالاته ، مع تطويرها وإشاعتها بلآراء والتأويلات والاجتهادات والدلالات البعيدة ، وهذا ما يؤكّد عدم أصالة ذلك الوضوء وعدم تلقّيهم إياه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومبالغةً في تثبيت الوضوء المدّعى نسبوا إلى أعلام الماسحين كالإمام عليّ وابن عباس وأنس أنّهم كانوا يثلّثون الغسلات ، أو يغسلون الأرجل ، أو ... ليبعدوا عن أنفسهم شبهة الابتداع. وقاموا في هذا السبيل أيضاً بمنع التدوين ، حتّى جاء عمر بن عبدالعزيز ليأمر بتدوين تلك الاحاديث وليعمِّم كتاباً إلى الآفاق يأمرهم فيه بالأخذ عن ابن شهاب الزهري ؛ معلّلاً

______________________________

(١) تفسير الطبري ٦ : ٨٢. وانظر : تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٩٢ ، الدر المنثور ٢ : ٢٦٢ ، تفسير الخازن ١ : ٤٣٥.


ذلك بأنّهم لا يجدون أعلم منه (١) ، وقد سخّروا رجاء بن حيوة ـ المعدود من أفقه فقهاء الشام ـ ليرشد الناس ويفتيهم بآراء عبدالملك بن مروان (٢) ، ومثله جاء عن عبدالله بن عمر (٣) ودفعه الناس للأخذ عن عبد الملك.

وكان أبو هريرة من الداعين للسكوت عن ظلم الأمويين (٤) ، وكانت عائشة أفقه الناس وأحسنهم رأياً في العامّة (٥) ووو

كل هذا جاء لتضعيف معالم فقه التعبد المحض ، ولتحريف الوضوء النبوي ، من أجله رأينا ازدياد عدد المؤيّدين لوضوء الدولة في هذه الحقبة بعد أن كانت الكفّة في زمان عثمان وقبله راجحة للوضوء الثنائي المسحي ، ولكن بقي ـ رغم كل جهود الدولة الأموية ـ تابعون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلون بالوضوء المسحي ، من أمثال : عروة بن الزبير ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعكرمة ، وعلقمة بن قيس ، والإمام الباقر ،

______________________________

(١) ستقف في الاصدار الثاني من هذه السلسلة « وضوء عثمان بن عفان من النشأة الى الانتشار » على سبب ذلك.

(٢) اُنظر : تهذيب الكمال ٩ : ١٥٤. ففيه قول سعيد بن جبير : كان رجاء بن حيوة يُعَدّ من أفقه فقهاء الشام ، ولكن إذا حرّكته وجدته شاميّاً [ أي أمويّاً ] يقول : قضى عبدالملك بن مروان بكذا وكذا.

(٣) اُنظر : تهذيب التهذيب ٦ : ٤٢٢ ، تهذيب الكمال ١٨ : ٤١٠ ، تاريخ بغداد ١٠ : ٣٨٩ ، المنتظم ٦ : ٣٩. إذ قيل لعبدالله بن عمر : مَن نسأل بعدكم ؟ قال : إنّ لمروان ابناً فقيهاً فَسَلُوهُ.

(٤) اُنظر : كتاب الأموال : ٤١٢ ، والشعر والشعراء : ٣٩٢.

(٥) المستدرك على الصحيحين ٤ : ١٤ وقائل هذا القول هو عطاء بن أبي رباح ، الذي قطعت يده مع عبدالله بن الزبير ، وقد أمر بنو أميّة صائحاً يصيح : لا يفتي الناس إلاّ عطاء !! انظر : تهذيب التهذيب ٧ : ١٨١.


والإمام الصادق ، وغيرهم ممن يعلمهم المتتبع.

فالأمويون لم يتمكنوا من مجابهة الوضوء المسحي ـ وإن كانوا هم دعاة للوضوء الغسلي ـ ولا نرى التقية تعمل في الوضوء عند أئمة أهل البيت حتى أواخر عهد الأمويين ، ومن يراجع مرويات الإمام الباقر في الكتب الحديثية الأربعة عند الشيعة ، يجد الإمام يصف وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو غير مكترث بما قيل أو يقال.

ويبدو أن الأمويين كانوا يجاملون بعض الصحابة والتابعين كأنس بن مالك وابن عباس وعلي بن الحسين ومحمد بن علي الباقر وغيرهم في وضوئهم ، فلم يواجهوهم بالعنف ، وإن كانوا في ظروف أخرى يواجهون بعضاً آخر بالعنف ، كما في حديث أبي مالك الأشعري (١) ، وكيف كان خائفاً من بيان وضوء النبي أو صلاة النبيّ لقومه.

العباسيّون والوضوء

لقد قامت الدولة العباسية على أكتاف شعار « الرضا من آل محمد » ، وكان الناس قد التفّوا حولها وأيّدوها باعتبارها الدولة المنتصرة للحق ، وقد قضى أبو العباس السفاح فترة حكومته منشغلاً بتصفية الخصوم الأمويين وأذيالهم ، فكان في معزل عن الصراعات الفقهية وعن الكفة العلوية بالذات.

ولكن لما آل الأمر إلى أبي جعفر المنصور العباسي اختلفت الموازين ـ بعد أن ثبتت أركان الدولة ـ فقد راح يشتري الفقهاء بالصلات والهدايا

______________________________

(١) اُنظر : مسند أحمد ٥ : ٣٤٢.


والمناصب وكراسي القضاء ووو... ولكنه وأتباعه عجزوا عن أبي حنيفة ، فضايقوه ونكّلوا به بلا جدوى ، إلاّ أنهم أفلحوا من بعد في استدراج تلميذه القاضي أبي يوسف.

وقد بقي الإمام جعفر بن محمد الصادق رائد مدرسة التعبد المحض آنذاك ، وصاحب الوضوء الثنائي المسحي ، سداً منيعاً في طريق غايات المنصور والعباسيين ، فراح المنصور يتّخذ شتى الأساليب محاولاً إفحامه.

فدعا المنصور أبا حنيفة لإعجاز الإمام بمسائل عويصة ولكنّه لم يفلح ، بل أذعن أبوحنيفة بأن الصادق عليه‌السلام أعلم الناس (١).

فأخذ المنصور يدعو إلى الأخذ بمذهب مالك ، فدعاه وأمره بتدوين العلم وجعله علماً واحداً يحمل الناسَ عليه (٢) ، راسماً له المنهج في أن لايقلّد عليّاً وابن عباس ، وأن يأخذ بأقوال ابن عمر وإن خالف علياً وابن عباس (٣) ، علماً بأنّ مالكاً كان ينفرد بتفضيل الخلفاء الثلاثة ـ دون علي عليه‌السلام ـ على سائر الصحابة ، والحكومة لا تعدّ عليّاً إلاّ كسائر الناس (٤).

______________________________

(١) اُنظر : مناقب أبي حنيفة للموفق الخوارزمي ١ : ٧٣ ، جامع أسانيد أبي حنيفة ١ : ٢٢٢. تذكرة الحفّاظ ١ : ١٦٦. أسنى المطالب ٥٥.

(٢) ترتيب المدارك ١ : ١٩٢. وفيه أيضا أنّ الموطّأ كُتب تحت ظل الدولة العباسية ، حيث روى أبو مصعب : أنّ أبا جعفر المنصور قال لمالك : ضع للناس كتاباً أحملهم عليه ... فوضع الموطّأ ...

(٣) الطبقات الكبرى ٤ : ١٤٧ ، واُنظر : الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ١ : ٥٠٤.

(٤) موقف الخلفاء العباسيين : ١٧٠.


وهذا المخطط الفقهي العقائدي المحموم من المنصور ، طال الوضوءَ النبويَّ أيضاً ، فالتزم المنصور بالوضوء العثماني الغَسلي الثلاثي ، وترك الوضوء النبوي المسحي الثنائي ، الذي صار من جملة الفروع الفقهية التي يعرف بها الشيعة.

المنصور والوضوء

عن داود الرقي ، قال : دخلت على أبي عبدالله ـ أي الصادق عليه‌السلام ـ فقلت له : جُعلت فداك ، كم عِدّة الطهارة ؟

فقال : « ما أوجبه الله فواحدة ، وأضاف إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واحدة لضعف الناس ، ومن توضأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له ». [ قال ] : أنا معه في ذا حتّى جاءه داود بن زربي ، فسأله عن عدّة الطهارة ؟ فقال له : « ثلاثاً ثلاثاً ، من نقص عنه فلا صلاة له » !!.

قال : فارتعدت فرائصي ، وكاد أن يدخلني الشيطان ، فأبصر أبو عبدالله إليّ وقد تغيّر لوني ، فقال : « اسكن يا داود ، هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق ».

قال : فخرجنا من عنده ، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور ، وكان قد أُلقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي ، وأنّه رافضيّ يختلف إلى جعفر بن محمد.

فقال أبو جعفر المنصور : إنّي مطّلع إلى طهارته ، فإن هو توضّأ وضوء جعفر بن محمد ـ فإني لأعرف طهارته ـ حقّقتُ عليه القول وقتلته.

فاطّلع وداود يتهيّأ للصلاة من حيث لا يراه ، فأسبغ داود بن زربي


الوضوء ثلاثاً ثلاثاً كما أمره أبوعبدالله ، فما تمّ وضوءه حتّى بعث إليه أبوجعفر المنصور فدعاه.

قال : فقال داود [ بن زربي ] : فلمّا أن دخلت عليه رجّب بي ، وقال : يا داود ، قيل فيك شيء باطل ، وما أنت كذلك ، قد اطّلعت على طهارتك وليس طهارتك الرافضة ، فاجعلني في حلٍّ ، وأمر له بمائة ألف درهم.

قال : فقال داود الرقي : التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبد الله ، فقال له داود بن زربي : جعلت فداك ، حقنتَ دماءنا في دار الدنيا ، ونرجو أن تدخل بيُمنك وبركتك الجنة.

فقال أبوعبدالله : فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين ، فقال أبوعبدالله لداود بن زربي : حدِّث داود الرقي بما مرّ عليكم حتّى تسكن روعته.

فقال : فحدّثته بالأمر كلّه.

قال : فقال أبوعبدالله : « لهذا أفتيتُه ، لأنّه كان أشرَفَ على القتل من يد هذا العدو » ثمّ قال : يا داود بن زربي ، توضّأ مثنىً مثنىً ولا تزيدَنّ عليه ؛ فإنك إن زدت عليه فلا صلاة لك (١).

فالإمام الصادق عَلِم بالسياسة المنصورية التي تتحيّن الفرص ، وعلم أنّ داود زربي قد وُشِي به إلى السلطة عبر الوضوء الثنائي المسحي ،

______________________________

(١) رجال الكشي : ٣١٢ / الرقم ٥٦٤. وعنه في وسائل الشيعة ١ : ٤٤٣ / ح ١١٧٢.


فعالج الموقف علاجاً حكيماً يُنجي صاحبَه من القتل !

والذي يتضح هنا هو اتخاذ المنصور هذه المفردة الوضوئية كرقم يدل على متابعة مدرسة التعبد المحض والتحديث ، وهي مدرسة جعفر بن محمد الصادق ، وكان هذا الرقم كافياً كاف لقتل من يؤمن به.

المهدي والوضوء

وكان نفس هذا المسلك عند المهدي العباسي ، فإنه كان يريد معرفة المخترقين لجدار سلطته عبر الوضوء النبوي الصحيح ، وكان داود بن زربي أيضاً محطَّ النظر في قضية الوضوء ، ممّا يعني أنّ الجواسيس كانوا يؤكّدون على مفردة الوضوة الثنائي المسحي أيضاً في معرفة المخالفين للسلطة العباسية ولمدرسة الاجتهاد والرأي.

فعن داود بن زربي قال : سألت الصادق عن الوضوء ، فقال لي : « توضأ ثلاثاً ثلاثاً ».

ثمّ قال لي : أليس تشهد بغداد وعساكرهم ؟!

قلت : بلى.

قال داود : فكنت يوماً أتوضأ في دار المهدي ، فرآني بعضهم وأنا لا أعلم به ، فقال : كذب من زعم أنك راقضي وأنت تتوضأ هذا الوضوء.

قال : فقلت : لهذا والله أمرني (١).

وهذا النص يؤكد استمرار النزاع الوضوئي ، وتأكيد الحكّام على

______________________________

(١) التهذيب ١ : ٨٢ / ح ٢١٤ ، الاستبصار ١ : ٧١ / ٢١٩.


ضرورة التزام الوضوء العثماني وترك النبوي الثنائي المسحي.

ولا يخفى عليك أنّ المهدي العباسيّ كان يكره نهج الإمام علي في الفقه والإمامة ، إذ أنّ القاسم بن مجاشع التميمي عرض عليه وصيّته ، وكان فيها بعد الشهادة بالوحدانية ونبوة محمد « وأنّ علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووارث الإمامة من بعده » ، فلمّا بلغ المهدي إلى هذا الموضع رمى بالوصية ولم ينظر فيها (١).

وسأل المهدي شُرَيكا القاضي قائلاً : ما تقول في علي بن أبي طالب ؟

قال : ما قال فيه جدك العباس وعبدالله.

قال : وما قالا فيه ؟

قال : فأمّا العباس فمات وعليّ عنده أفضل الصحابة ، وكان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمّا ينزل من النوازل ، وما احتاج هو إلى أحد حتّى لحق بالله ، وأمّا عبدالله فإنّه كان يضرب بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه رأساً منيعاً وقائداً مطاعاً ، فلو كانت إمامته على جور ، كان أوّل من يقعد عنها أبوك ؛ لعلمه بدين الله وفقهه في أحكام اللّه. فسـكت المهدي ، ولم يمض بعد هذا المجلس إلاّ قليلاً حتّى عُـزل شُرَيك (٢).

وهذا ما يؤكد عداءهم لنهج عليٍّ وصيةً وخلافةً وفقهاً ، ومنه مفردة الوضوء كما عرفت.

______________________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٨٧٦ / حوادث سنة ١٦٩ ه‍.

(٢) تاريخ بغداد ٩ : ٢٩٢.


الرشيد والوضوء

ولما آل الأمر إلى هارون الرشيد ـ الذي تعدّ فترة حكمه أوج قوة العصر العباسي وعصرها الذهبي ـ نحا نفس منحى أسلافه في عدم قبول الإمام علي وابن عباس ، وإن كان الأخير جَدَّهم ـ ورفض منهج اهل البيت الفكري والفقهي ، فما أن دار الحوار السابق بين المهدي وشُرَيك ، حتّى قدم هارون الرشيد الكوفة يعزل شريكاً عن القضاء (١) ، وليس لنا حاجة هاهنا إلى شرح ظلم الرشيد للعلويين ، ولكنّ الذي نريد التأكيد عليه هو محاربته إياهم فقهيّاً إضافة إلى محاربتهم سياسياً وعسكريّاً.

فقد جاء رجل إلى الرشيد يخبره عن مكان يحيى بن عبدالله بن الحسن ، ووصف له شكله ولباسه وهيئته وجماعته ، فلم يطمئن الرشيد بل سأله : أوَ تعرف يحيى ؟

قال : قديماً ، وذاك الذي حقّق معرفتي بالأمس له.

قال : فصِفْه لي.

قال : مربوع ، أسمر حلو السمرة ، أجلح ، حسن العينين ، عظيم البطن.

قال : هو ذاك ، فما سمعته يقول ؟

قال : ما سمعته يقول شيئاً ، غير أنّي لمّا رأيته غلاماً له أعرفه ، لمّا حضر وقت صلاته فأتاه بثوب غسيل فألقاه في عنقه ونزع جبته الصوف ليغسلها ، فلمّا كان بعد الزوال صلّى صلاة ظننتها العصر ، أطال في الأولتين وحذف الأخيرتين.

______________________________

(١) تاريخ بغداد ٩ : ٢٩٢.


فقال له الرشيد : لله أبوك ، لجاد ما حفظت ، تلك صلاة العصر وذلك وقتها عند القوم (١).

فلم يطمئن الرشيد بكلّ ما وصفه له ذلك الرجل وكل ما قاله ، حتّى إذا وصف له صلاة العصر ووقتها ، والجمع بين الصلاتين عَلِمَ صدقه وتحقّق معرفته به ، وهذا يدل على بشاعة استغلال الحكام للفقه على الأصعدة كافّة.

وأمّا الوضوء ، فقد كان الرشيد اتخذه مفردة يعرف بها الشيعة ليوقع بهم ، ومن ذلك محاولته الإيقاع بعلي بن يقطين.

فعن محمد بن الفضل ، قال : اختلفت الرواية من بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء ، أهو من الأصابع إلى الكعبين أم من الكعبين إلى الأصابع ؟

فكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى بن جعفر : جعلت فداك ، إنّ أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين ، فإن رأيت أن تكتب إليَّ بخطّك ما يكون بحسبه ، فعلت إن شاء الله.

فكتب إليه أبو الحسن : « فهمت ما ذكرتَ من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثاً وتستنشق ثلاثاً ، وتغسل وجهك ثلاثاً ، وتخلل شعر لحيتك ، وتغسل يديك إلى المرفقين ثلاثاً ، وتمسح رأسك كلّه ، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً ولا تخالف ذلك إلى غيره ».

______________________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣١٠.


فلمّا وصل الكتاب إلى علي بن يقطين ، تعجّب ممّا رسم له ـ مما أجمعت العصابة على خلافه ـ ثمّ قال : مولاي أعلم بما قال ، وأنا ممتثل أمره. فكان يعمل في وضوئه على هذا الحدّ ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة ؛ امتثالاً لأمر أبي الحسن.

وسُعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد ، وقيل له : إنّه رافضي مخالف لك ، فقال الرشيد لبعض خاصته : قد كثر عندي القول في علي بن يقطين والقَزْف ـ أي الاتهام ـ له بخلافنا ، وميله إلى الرفض ، ولست أرى في خدمته لي تقصيراً ، وقد امتحنته مراراً ، فما ظهر منه عليَّ ما يقرف به ، وأحبّ أن أستبرئ أمره من حيث لا يشعر بذلك فيستحرز منّي.

فقيل له : إنّ الرافضة ـ يا أمير المؤمنين ـ تخالف الجماعة في الوضوء فتخفِّفه ، ولا ترى غسل الرجلين ، فامتَحِنْه من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه.

فقال : أجل ، إنّ هذا الوجه يظهر به أمره.

ثمّ تركه مدّة وناطه بشيء من الشغل في الدار ، حتّى دخل وقت الصلاة ، وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته ، فلمّا دخل وقت الصلاة وقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي ابن يقطين ولا يراه هو ، فدعا بالماء للوضوء ، فتمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً وغسل وجهه ، وخلل شعر لحيته وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ، ومسح رأسه وأذنيه ، وغسل رجليه ، والرشيد ينظر إليه ، فلمّا رآه الرشيد فعل ذلك لم يملك نفسه حتّى أشرف عليه بحيث يراه ، ثمّ ناداه : كذب ـ يا


علي ابن يقطين ـ من زعم أنّك من الرافضة. وصلحت حاله عنده.

وبعد ذلك ورد عليه كتاب من أبي الحسن : « ابتدئ من الآن يا علي بن يقطين ، توضّأ كما أمر الله ، اغسل وجهك مرّة فريضة وأخرى إسباغاً ، واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح بمقدّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كان يُخاف عليك ، والسلام » (١).

وفي هذا دلالة كافية على أنّ السلطة ـ ومَنْ حولها ـ قد اتخذت الوضوء الثنائي المسحي ، سبيلاً لكشف الشيعة في القصر الهاروني ؛ لأنّ الوضوء أمر عبادي يتكرّر فعله كلّ يوم قبل الصلاة ، فهو أوضح شاخص فقهي يُعرَف به « الرافضة » كما في تعبير هارون الرشيد.

وعلى كلّ حال ، فقد استمر الخلاف الوضوئي باحتدام وشدّة ، فكان المحدثون من أصحاب مدرسة التعبد المحض لا يرون إلاّ الوضوء النبوي الثنائي المسحي ، وكانت الدولة وأتباعها ـ من فقهاء منع التحديث ، ومن مدرسة الاجتهاد والرأي ـ لا ترى إلاّ الوضوء العثماني الثلاثي الغسلي.

وحين حصرت الدولة العباسية المذاهب الإسلامية بالمذاهب الأربعة ـ وهي جميعاً من مدرسة الاجتهاد والرأي ـ ودُوّنت آراؤهم الفقهية ، كان من ضمنها الوضوء العثماني ، الذي أكدوا عليه أيَّ تأكيد ، واختلفوا في فروضه وسننه وآدابه وكيفيته أشد الاختلاف مما يقف عليه المطالع في كتبهم الفقهية ، فاتّسعت الفجوة اتساعاً كبيراً بحيث تعسّر ويتعسر رأبها ،

______________________________

(١) الارشاد ٢ : ٢٢٧ ، مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٢٨٨ ، الخرائج والجرائح ١ : ٣٣٥ ، إعلام الورى : ٢٩٣.


فصار الوضوءان خطّين متوازين لا يلتقيان.

نهاية المطاف

من كل ما تقدم تتجلى حقيقة في غاية الأهمية والوضوح ، مفادها أن المعارضين للوضوء العثماني لم يكونوا قد بزغوا بزوغاً مفاجئاً فظهروا على الساحة الفقهية الإسلامية ظهوراً غير متوقع ، بل العكس هو الصحيح ، وذلك لتسلسل حلقات الاجتهادات في مقابل الكتاب والسنة من جانب ، وتسلسل حلقات المعارضة للتدوين والتحديث من جانب آخر من قِبَلِ الخلفاء ، وبقي إصرار جمّ غفير من عيون الصحابة على مواصلة التدوين والتحديث ، ومن ثمّ لجوء المانعين إلى فتح باب الاجتهاد والرأي ، وبقاء المتعبّدين على تعبّدهم المحض ومنعهم من العمل بالاجتهاد والرأي (١).

لأنّ فتح أبي بكر وعمر لباب الرأي والاجتهاد لأنفسهما هو الذي فتح من بعدهما لعامة الصحابة ذلك ، فكانت تلك نتيجة طبيعية لسدِّهما باب التدوين والتحديث والذهاب إلى شرعية التعددية وحجية الآراء.

وكان إعطاء عمر زمام اختيار الخليفة الثالث في الشورى بيد عبدالرحمن بن عوف للتأكيد على لابدِّيَّةِ الانصياع للجهة التي فيها ابن عوف مشروطاً ومقيداً بقيد اتّباع « سيرة الشيخين » (٢) ، وذلك ما أوقعه بالفعل عبدالرحمن بن عوف حين بايع عثمان على ذلك الشرط (٣) ، وأمّا

______________________________

(١) اُنظر تفصيل ذلك في كتابنا ( منع تدوين ح ، أسبابه ونتائجه ).

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ٥٨٦ ، البداية والنهاية ٧ : ١٤٦ ، سبل الهدى والرشاد ١١ : ٢٧٨.

(٣) المصدر نفسه.


علي بن أبي طالب فلم يرضَ بذلك الشرط الجديد الذي أُقحم في الشريعة ، والذي قرّروه دون نص من كتاب الله ولا برهان من سنة نبيّه ، وقد أيّدته جماعة كثيرة من كبار الصحابة فلم يرتضوا ذلك الشرط الجديد.

وذلك العهد الذي قطعة عثمان على نفسه بالتزامه بسيرة الشيخين أوقعه في محاذير ونزاعات وخصومات شديدة مع كبار الصحابة ، وفي مقدمتهم عبدالرحمن بن عوف ؛ لأنّ عبدالرحمن كان يرى الاقتصار على اجتهادات الشيخين دون غيرهما ، وعثمان كان يرى أنّ له حقَّ الاجتهاد كما كان للشيخين ، وأنّه ليس بأقل شأناً منهما ، وذلك ما دقّ بينهما عطرَ منشم ، فمات عبدالرحمن وهو لا يكلم عثمان.

وكان الصحابة ـ ومنهم علي بن أبي طالب ـ وطبقاً لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الزموهم بما الزموا به أنفسهم » ، قد طالبوا عثمان بالوفاء بما ألزم به نفسه في يوم الشورى ، إلاّ أنّه كان يرى أنّه مبسوط اليد ، مطلق العنان في اجتهاداته وتصرّفاته الفقهية والعملية ، مما أنشب الخلاف بينه وبين الصحابة على أوسع آفاقه ، حتّى أودى بحياته أخيراً.

وقد أثّرت قاعدة « سيرة الشيخين » حتّى على خلافة علي بن أبي طالب مع أنّه لم يُلْزِمْ نفسه بها ، ولا أعطى عهداً بالعمل وفقها ، بل رفضها رفضاً قاطعاً في يوم الشورى (١) ، وعندما أتاه الناس للمبايعة ، بايعهم بشرط أن يحملهم على كتاب الله وما يعلم من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوافقوا بذلك ثمّ نقضوه في أماكن عدّة مثل صلاة التراويح وفدك (٢) وما إليهما ، إذ

______________________________

(١) راجع اخبار الشورى في تاريخ الطبري وغيره.

(٢) ففي الكافي ٨ : ٥٨ / ح ٢١ بسنده عن سليم بن قيس في حديث طويل فيه :


عانى عليٌّ أشدَّ المعاناة من هذا النهج « نهج الاجتهاد والرأي » لما يستتبعه من تَوالٍ فاسدة على مرور الأيام.

فالمحصّل الذي طغى على الساحة الإسلامية هو استفحال نهج الاجتهاد والرأي نتيجةً لدعم القوة التنفيذية « الخلافة والحكومة » له ، وبقي خطّ التعبد في صدور ومدوّنات الصحابة المضطهدَين الّذين لا طاقة لهم بردِّ الناس إلى جادة الصواب ؛ لاستفحال التيار المقابل.

وهذا هو الذي سوّغ لعمر أن ينكّل ـ وبجرأة ـ بمن يتحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، وسهّل من بعده لعثمان أن يتجاهل الأحاديث الوضوئية

______________________________

انّ عليّا عليه‌السلام أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته ، فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيّرين لسنّته ، ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتفرّق عنّى جُندي ... أرايتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة ... والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة ، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل [ أي صلاة التراويح ] بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الإسلام غُيّرت سنة عمر !! ... ما لقيتُ من هذه الأمة من الفُرقة وطاعة أئمّة الصلالة والدعاة إلى النار.

(١) في مختصر تاريخ دمشق ١٧ : ١٠١ عن عبدالرحمن بن عوف ، قال : ما مات عمر بن الخطّاب حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجمعهم من الآفاق : عبدالله [ بن مسعود ] ، وحذيفة [ بن اليمان ] ، وأبو الدرداء ، وأبو ذر [ الغفاري ] ، و عقبة بن عامر [ ابو مسعود الأنصاري ] ، فقال : ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن


الصحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : « يتحدّثون بأحاديث لا أدري ما هي ! »

نعم ، أنكرها عثمان وكأنّه لم يسمعها من قبل ، ولا رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يحدّث بها ويفعلها طول عمره الرساليّ المبارك الشريف !!

وقد استمرّ عثمان أيضاً بالنهي عن التحديث والفتيا ، فصار أبوذر وابن مسعود وعمّار بن ياسر وأمثالهم في أشدِّ المضايقة ، وأقسى الضغوط ؛ لأنّهم لم يلتزموا بالمنع الحكومي ، حتّى وصل الأمر بالحجّاج بن يوسف الثقفي أن يختم في يد جابر بن عبدالله الأنصاري وفي عنق سهل بن سعد الساعدي [ الأنصاري ] وأنس بن مالك [ الأنصاري ] ، يريد إذلالهم ، وأن يتجنّبهم الناس ولا يسمعوا منهم (١). وفي كتاب ( المحن ) لأبي العرب التميمي : إن الحجّاج ختم يد الحسن البصري وأبن سيرين كذلك (٢).

إذن ، لم يكن التيار الفكريّ الفقهيّ المعارض لوضوء عثمان تياراً طارئاً ولا حدثاً عابراً ، بل كان امتداداً طبيعيّاً لخط التحديث ، المعارض للرأي والاجتهاد.

______________________________

رسول الله في الآفاق ؟! قالوا : تنهانا ؟ قال : لا ، أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عِشتُ ، فنحنُ اعلم نأخذ منكم ونردّ عليكم ، فما فارقوه حتى مات.

وفي شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي : ٢٠ بَعَثَ عمر بن الخطّاب إلى عبدالله بن مسعود ، وإلى أبي الدرداء ، وإلى أبي مسعود الأنصاري ، فقال لهم : ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله ؟! فحبسهم بالمدينة.

(١) أسد الغابة ، لابن الأثير ٢ : ٤٧٢ في ترجمة سهل بن سعد الساعدي.

(٢) كتاب المحن : ٤٢٨ ـ ٤٢٩ كما في الفكر الأصولي لعبد المجيد الصغير.


فـ « الناس » المقصودون في أحاديث عثمان الوضوئية هم الصحابة الكبار أو هم امتداد لهم ، وهؤلاء كانوا معارضين لمنع التحديث والتدوين ، وهم من الذين يرون أنّ الأحكام توقيفية لا يمكن تجاوزها بالزيادة والنقصان ، فلا مجال للاجتهاد والرأي فيها خصوصاً مع وجود النص القرآني والسنة النبوية المباركة.

علماً بأنّ أصحاب المدوّنات كانوا من أتباع وأنصار الوضوء الثنائي المسحي ، أو أنهم لم يكونوا من أنصار الوضوء الثلاثي الغسلي على الأقلّ ، وهذه مسألة تؤكّد الترابط بين المدونين ونهج التعبد في الوضوء من جهة ، وبين مانعي التدوين وخط الاجتهاد والرأي في الوضوء من جهة أخرى ، حتّى أن عبدالله بن عمر ـ وهو ممن خالف اجتهادات أبيه عمر (١) ـ كان لا يرى المسح على الخفّين ، لأنّه كان قد سمع الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أنّ المسح على الخفّين غير جائز ، وأنّ الوضوء لا يعدُّ وضوءاً مع المسح على الخفّين ، وأنّ سورة المائدة جاءت بالوضوء الذي يُمسح فيه على القدمين لا على الخفّين (٢) ، وهو وإن قيل عنه أنّه المهم هو ثبوت كونه من مانعي المسح على الخفّين في حياة أبيه ، فموقفه الوضوئي آنذاك لا يمكن التغاضي عنه مع ما صدر منه من مواقف في الدفاع عن كثير من الأحكام الثابتة ، ووقوفه ضدّ اجتهادات أبيه.

______________________________

(١) اُنظر منع تدوين الحديث ، لنا : ٢٥٦ ـ ٢٦٢.

(٢) مرّ عليك ذلك منقولاً عن مسند أحمد ١ : ٣٦٦.


وهنا نتأكّد أصالة النهج الوضوئي وأحقّيّته ، ولا يهمنا بعد ذلك أن يكون ابن عمر رجع وقال بالمسح على الخفين أم لم يرجع ، وإن ذلك ليرجع إلى الظروف التي كان يعيشها ؛ إذ عرف عنه عدم استقراره في مواقفه السياسية ، لأنّه قد صار في أواخر عمره تبعا للسلطات الأموية.

لكنّ الحقّ أنّ نهج التعبّد المحض والتحديث أخذ ينشط ويعمل بكلّ دأب وجدًّ في زمن خلافة علي بن أبي طالب ، لذلك نرى كتاب الإمام علي إلى محمد بن أبي بكر ـ واليه على مصر (١) ـ وسائر مواقفه الوضوئية والفقهية الأخرى ، تؤكّد على كثير من الأحكام الشرعية التي كانت من البداهة بمكان ، ومن جملتها الوضوء الثنائي المسحي ، والصلاة وغيرها من بديهيات الأحكام الشرعية ، وعليٌّ هو رائد مدرسة التعبّد والدعوة لفتح باب التدوين والتحديث.

نعم ، جَدّ الإمام عليّ ليمحو الآثار الّتي خلّفتها الحكومات التي سبقته ، بسبب اجتهاداتها المتكررة ، فراح يؤكّد على ضرورة اتّباع نهج التعبد ، واتّباع خطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أحكامه وأفعاله.

فالوضوء إذن ، لا يمكن تفكيكه عن مسألة التحديث والتدوين ، ولا مسألة الاجتهاد والتعبد بحالٍ من الأحوال ، لأنّ روّاد التعبد المحض هم رواد الوضوء الثنائي المسحي ، ورواد الاجتهاد ـ في زمن عثمان وما بعده ـ هم رواد الوضوء الثلاثي الغسلي ، ولا ننسى أنّ عثمان بن عفان كان قد صرّح بكون معارضيه في الوضوء هم من المحدّثين عن رسول الله ؛ لقوله : « إن ناساً يتحدثون عن رسول الله ! ... ».

______________________________

(١) انظر ذلك في الغارات للثقفي ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٤ ، وشرح نهج البلاغة ٦ : ٧٣.


خلاصة ما سبق :

١ ـ وحدة الوضوء في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك في زمن حكومة الشيخين.

٢ ـ ظهور الخلاف في زمن عثمان بن عفّان.

٣ ـ اختلاف عثمان مع « ناس » هم من أعاظم الصحابة.

٤ ـ إنّ البادئ بالخلاف ، والمحدث للوضوء الثلاثي الغسلي هو عثمان.

٥ ـ عدم ارتضاء الصحابة المتعبدين لآراء عثمان الاجتهادية عموماً والوضوئية خصوصاً.

٦ ـ مخالفة عثمان لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة الشيخين التي ألزم بها نَفْسَه شرطاً لقبول الخلافة عنهما.

٧ ـ إن مقتل عثمان كان بسبب إبداعاته الدينية مضافاً إلى سوء سيرته السياسية والمالية.

٨ ـ محاولة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام تصحيح ما حرَّفَه سابقوه ، ومنها تحريف عثمان للوضوء.

٩ ـ التلازم بين الوضوء الثنائي المسحي ونهج المتعبدين المدوّنين من جهة ، وبين الوضوء الثلاثي الغسلي ونهج المجتهدين المانعين للتحديث والتدوين.

١٠ ـ إن الحكومات الأموية والعباسية كانت تدعم الخط الاجتهادي صاحب الوضوء الثلاثي الغسلي ضدّ الخط التعبّدي ، وتتّخذ من مفردة الوضوء الثنائي المسحيّ سلاحاً تفتك عبره بأصحاب التعبّد.


فهرس المصادر

بعد القرآن الكريم

١ ـ اجتهاد الرسول : للدكتورة نادية ريف العمري ، ط ٤ ، مؤسسة الرسالة ، ١٤٠٨ ه‍ ـ ١٩٨٧ م ، الشركة المتحدة للتوزيع ، بيروت.

٢ ـ الاحكام في أصول الاحكام : لأبي محمد ، علي بن حزم الأندلسي الظاهري ( ت ٤٠٦ ه‍ ) ، تحقيق : أحمد شاكر ، نشر : زكريا علي يوسف ، مطبعة العاصمة بالقاهرة ، ١٣٤٥ ه‍.

٣ ـ الارشاد : لأبي عبدالله ، محمد بن محمد النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد ( ت ٤١٣ ه‍ ) ، تحقيق : مؤسسة آل البيت ، قم ـ ايران ، رجب ١٤١٣ ه‍.

٤ ـ اسد الغابة في معرفة الصحابة : لأبي الحسن ، علي بن محمد ، ابن الاثيري الجزري ( ت ٦٣٠ ه‍ ) ، طبع دار احياء التراث العربي ، بيروت.

٥ ـ الاصابة في تمييز الصحابة : لأبي الفضل ، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ( ت ٨٥٢ ه‍ ) ، مطبعة السعادة ، مصر ، ١٣٢٨ ه‍.

٦ ـ اعلام الورى باعلام الهدى : لأبي علي ، الفضل بن الحسن الطبرسي ( ت ٥٤٨ ه‍ ) ، قدم له : السيّد محمد مهدي السيّد حسن الخرسان ، ط ٣ ، دار الكتب الإسلامية.

٧ ـ الامالي : لأبي جعفر ، محمد بن الحسن الطوسي ( ت ٤٦٠ ه‍ ) ، قدم له : السيّد محمد صادق بحر العلوم ، ط ٢ ، مؤسسة الوفاء ، بيروت ،


١٤٠١ ه‍ ـ ١٩٨١ م.

٨ ـ الامالي : لأبي عبدالله ، محمد بن محمد بن النعمان العكبري المعروف بالشيخ المفيد ( ت ٤١٣ ه‍ ) ، ط ١ ، المطبوع ضمن مصنفات الشيخ المفيد ( في الجزء الثالث عشر منه ) الموتمر العالمي للالفيته ، ١٤١٣ ه‍ ، وطبعة مطبعة اخرى ( المطبعة الحيدرية ـ ط ٢ ).

٩ ـ الإمامة والسياسة : لعبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ( ت ٢٧٦ ه‍ ) ، ط ٢ ، دار المعرفة ، بيروت ، ١٣٩٣ ه‍ ـ ١٩٧٣ م.

١٠ ـ الاموال : لأبي عبيد ، القاسم بن سلاّم ( ت ٢٢٤ ه‍ ) ، تحقيق : محمد خليل هراس ( من علماء الازهر ) ، ط ١ ، دار الكتب العامة ، بيروت ، ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م.

١١ ـ انساب الاشراف : ( المجلد الخامس ـ رحلي ) : لاحمد بن يحيى بن جابر البلاذري ( ت ٢٧٩ ه‍ ) ، مكتبة المثنى ، بغداد ، اوفسيت عن طبعة سابقة.

١٢ ـ البداية والنهاية = تاريخ ابن كثير : لأبي الفداء ، اسماعيل بن كثير الدمشقي ( ت ٧٧٤ ه‍ ) ، حققه : جمع من الاساتذة ، ط ٣ ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ١٤٠٧ ه‍ ـ ١٩٨٧ م.

١٣ ـ تاريخ عمر بن الخطّاب = سيرة عمر : لأبي الفرج ، عبدالرحمن بن علي الشهير بابن الجوزي ( ت ٥٩٧ ه‍ ) ، طبع القاهره.

١٤ ـ تاريخ المدينة المنورة = اخبار المدينة : لأبي زيد ، عمر بن شبه النميري البصري ( ت ٢٦٢ ه‍ ) ، تحقيق : فهيم محمد شلتوت ، دار التراث ،


الدار الإسلامية ، بيروت ، ١٤١٠ ه‍ ـ ١٩٩٠ م.

١٥ ـ تاريخ الخلفاء : لجلال الدين ، عبدالرحمن بن ابي بكر السيوطي ( ت ٩١١ ه‍ ) ، تحقيق : محمد محي الدين عبدالحميد ، ط ١ ، مطبعة السعادة ، مصر ، ١٣٧١ ه‍ ـ ١٩٥٢ م.

١٦ ـ تاريخ الامم والملوك = تاريخ الطبري : لأبي جعفر ، محمد بن جرير الطبري ( ت ٣١٠ ه‍ ) ، تحقيق : محمد ابوالفضل ابراهيم ، دار التراث ، بيروت ـ لبنان.

١٧ ـ تاريخ بغداد أو مدينة السلام : لأبي بكر ، أحمد بن علي الخطيب البغدادي ( ت ٤٦٣ ه‍ ) ، المكتبة السلفية ـ المدينة المنورة.

١٨ ـ تأويل مختلف الحديث : لأبي محمد ، عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ( ت ٢٧٦ ه‍ ) ، صححه وضبطه : محمد زهري النجار ( من علماء الازهر ) ، دار الجيل ، بيروت.

١٩ ـ تذكرة الحفاظ : لأبي عبدالله ، محمد بن أحمد بن أحمد بن عثمان ، الذهبي ( ت ٧٤٨ ه‍ ) ، صحح عن النسخة القديمة المحفوظة في مكتبة الحرم المكي ، تحت رعاية وزارة المعارف الهندية ، أوفسيت دار احياء التراث العربي ، بيروت.

٢٠ ـ تفسير القرآن العظيم = تفسير ابن كثير : لابن كثير الدمشقي ( ت ٧٧٤ ه‍ ) ، ط ١ ، دار أحياء التراث العربي ، بيروت ، ١٤٠٥ ه‍ ـ ١٩٨٥ م.

٢١ ـ التفسير ، للعياشي : محمد بن مسعود بن عياش السلمي ( ت ٣٢٠ ه‍ ) ، تحقيق : السيّد هاشم الموسوي المحلاتي ، المكتبة العلمية


الاسلامية ، طهران.

٢٢ ـ التفسير الكبير = تفسير الفخرالرازي : لأبي عبدالله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين الشهير بالفخر الرازي ( ت ٦٠٦ ه‍ ) ، الطبعة الثالثة.

٢٣ ـ تفسير الطبري = جامع البيان في تفسير القرآن : لأبي جعفر ، محمد بن جرير الطبري ( ت ٣١٠ ه‍ ) ، دار المعرفة ، بيروت ، أوفسيت عن الطبعة الاولى المطبعة الكبرى الاميرية ببولاق ، مصر ، سنة ١٣٢٣ ه‍.

٢٤ ـ تقييد العلم : لأبي بكر ، أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي ( ت ٤٦٣ ه‍ ) ، تحقيق : يوسف العش ـ دار إحياء السنة النبوية ، ١٩٧٤ م.

٢٥ ـ تهذيب الكمال : لأبي الحجاج ، جمال الدين يوسف المزي ( ت ٧٤٢ ه‍ ) ، حققه وضبطه الدكتور بشار عواد معروف ، ط ١ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ١٤١٣ ه‍ ، ١٩٩٢ م.

٢٦ ـ تهذيب الاحكام : لأبي جعفر ، محمد بن الحسن الطوسي ( ت ٤٦٠ ه‍ ) ، تحقيق : السيّد حسن الموسوي الخرسان ، ط ٣ ، دار الكتب الاسلامية ، طهران ، ١٣٩٠ ه‍.

٢٧ ـ جامع المسانيد : مجموعة الأحاديث والآثار ، تضم ١٥ اسانيد الإمام أبي حنيفة ( ت ١٥٠ ه‍ ) ، تأليف ابي المؤيد ، محمد بن محمود الخوارزمي ( ت ٦٦٥ ه‍ ) ، طبع دار الكتب العلمية ، بيروت ـ لبنان.

٢٨ ـ الجامع لاحكام القرآن = تفسير القرطبي : لأبي عبدالله ، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( ت ٦٧١ ه‍ ) ، صححه : أحمد عبدالعليم البردوني


اعادت طبعة بالاوفسيت دار احياء التراث العربي ، بيروت.

٢٩ ـ حجية السنة : لعبد الغني عبد الخالق ، نشر : المعهد العالمي للفكر الإسلامي واشنطن ، دار القرآن الكريم ، بيروت ، ١٤٠٧ ه‍.

٣٠ ـ حلية الاولياء وطبقات الاصفياء : لأبي نعيم ، أحمد بن عبدالله الاصفهاني ( ت ٤٣٠ ه‍ ) ، دار الفكر ، بيروت.

٣١ ـ الخرائج والجرائح : لأبي الحسين ، سعيد بن هبة الله الشهير بالقطب الراوندي ( ت ٥٧٣ ه‍ ) ، تحقيق ونشر : مؤسسة الإمام المهدي ، قم ، المطبعة العلمية ، ١٤٠٩ ه‍.

٣٢ ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور : لجلال الدين ، عبدالرحمن السيوطي ( ت ٩٩١ ه‍ ) ، منشورات مكتبة آية الله المرعشي ، قم ، ١٤٠٤ ه‍.

٣٣ ـ رجال الكشي = اختيار معرفة الرجال : لأبي جعفر ، محمد بن الحسن الطوسي ( ت ٤٦٠ ه‍ ) ، صححه وعلق عليه : حسن المصطفوي ، طبعة كلية الالهيات في مشهد بمناسبة الذكرى الالفية للطوسي ، ١٣٤٨ ه‍.

٣٤ ـ السنن : لابن ماجة القزويني ، محمد بن يزيد ( ت ٢٧٥ ه‍ ) ، تحقيق : محمد فؤاد عبدالباقي.

٣٥ ـ السنن : لأبي داود ، سليمان بن الاشعث الازدي السجستاني ( ت ٢٧٥ ه‍ ) ، تحقيق : محمد بن محي الدين عبدالحميد ، دار الفكر ، بيروت.

٣٦ ـ السنن : لأبي محمد ، عبدالله بن عبدالرحمن التميمي الدارمي ( ت ٢٧٥ ه‍ ) ، دار الفكر ، القاهرة ، ١٣٩٨ ه‍ ـ ١٩٧٨ م.

٣٧ ـ السنن : لعلي بن عمر الدارقطني ( ت ٣٨٥ ه‍ ) ، تحقيق : السيد عبدالله هاشم اليماني المدني ، دار المحاسن للطباعة ، القاهرة ، ١٣٨٦ ه‍ ـ


١٩٦٦ م.

٣٨ ـ السنن : لأبي عبدالرحمن ، أحمد بن شعيب بن علي النسائي (ت ٣٠٣ هـ) ، ط ١ ، دار الفكر ، بيروت ، ١٣٤٨ هـ ـ ١٩٣٠ م.

٣٩ ـ السنن الكبرى = سنن البيهقي : لأحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت ٤٥٨ هـ) ، دار المعرفة ، بيروت.

٤١ ـ السنة قبل التدوين : للدكتور محمد عجاج الخطيب ، دار الفكر ، ط ٢ ، شبة ، ١٣٩١ هـ.

٤١ ـ السيرة النبوية = سيرة ابن هشام : لعبدالملك بن هشام الحميري (ت ٢١٣ هـ ـ ٢١٨ هـ) ، تحقيق : مصطفى السقاء وإبراهيم الايباري وعبدالحفيظ شلبي ، نشر : دار احياء التراث العربي ، بيروت ، سنة ١٩٨٥ م.

٤٢ ـ شرح نهج البلاغة : لأبي حامد ، عبدالحميد بن هبة الله المعتزلي الشهير بابن أبي الحديد (ت ٦٥٥ هـ) ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط ٢ ، دار احياء التراث العربي ، ١٩٦٥م.

٤٣ ـ شرح معاني الآثار : لأبي جعفر ، أحمد بن محمد بن سامة الطحاوي (ت ٣٢١ هـ) ، تحقيق : محمد زهري النجار ، محمد سيد جادالحق ، ط ١ ، عالم الكتب ، بيروت ، ١٤١٤ ه‍ ـ ١٩٩٤ م.

٤٤ ـ الشعر والشعراء = طبقات الشعراء : لأبي محمد ، عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ( ت ٢٧٦ ه‍ ) ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

٤٥ ـ صحيح البخاري : لأبي عبدالله ، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن


مغيرة الجعفي ( ت ٢٥٦ ه‍ ) ، دار الجيل ، بيروت ، أوفسيت عن طبعة سابقة.

٤٦ ـ صحيح مسلم : لأبي الحسين ، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ( ت ٢٦١ ه‍ ) ، تحقيق : محمد فؤاد عبدالباقي ، ط ٢ ، دار الفكر ، بيروت ، ١٣٩٨ ه‍ ـ ١٩٧٨ م.

٤٧ ـ صفين : لنصر بن مزاحم.

٤٨ ـ الطبقات الكبرى : لمحمد بن سعد كاتب الواقدي ( ت ٢٣٠ ه‍ ) ، قدم له : الدكتور احسان عباس ، دار صادر ، بيروت.

٤٩ ـ العقد الفريد : لأحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي ( ت ٣٢٨ ه‍ ) ، تحقيق : جماعة من الاساتذة ، ط ١ ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ١٤٠٤ ه‍ ـ ١٩٨٣ م.

٥٠ ـ عمدة القاري في شرح صحيح البخاري : لأبي محمد ، محمود بن أحمد ، بدر الدين العيني ( ت ٨٥٥ ه‍ ) ، دار الفكر ، بيروت.

٥١ ـ فتح الباري لشرح صحيح البخاري : لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ( ت ٨٥٢ ه‍ ) ، ط ٢ ، دار احياء التراث العربي ، بيروت ، ١٤٠٢ ه‍.

٥٢ ـ الفتوح : لأبي محمد ، أحمد بن اعثم الكوفي ( ت ٣١٤ ه‍ ) ، تحقيق : الدكتور سهيل زكار ، ط ١ ، دار الفكر ، ١٩٩٢ م.

٥٣ ـ الفقيه والمتفقه : لأبي بكر ، أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي ( ت ٤٦٢ ه‍ ) ، ط ٢ ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ١٤٠٠ ه‍ ـ ١٩٨٠ م.

٥٤ ـ الكافي : لأبي جعفر ، محمد بن يعقوب بن إسحاق الرازي الكليني


( ت ٣٢٨ ه‍ ) ، ط ٢ ، دار الكتب الإسلاميّة ، طهران ، ١٣٦٢ ه‍.

٥٥ ـ الكامل في التاريخ = تاريخ ابن الاثير : لأبي الحسن ، علي بن محمد بن الأثير ( ت ٦٣٠ ه‍ ) ، دار صادر ، بيروت ، ١٩٧٩ م.

٥٦ ـ الكفاية في علم الدراية : لأبي بكر ، أحمد بن علي الشهير بالخطيب البغدادي ( ت ٤٣٦ ه‍ ) ، تحقيق : أحمد عمر هاشم طبع ونشر ، دار الكتب العربي ، بيروت ، ط ١ ، ١٤٠٥ ه‍ ـ ١٩٨٥ م.

٥٧ ـ كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال : لعلي المتقي بن حسام الدين الهندي ( ت ٩٧٥ ه‍ ) ، ضبطه : الشيخ بكر حياني صححه : الشيخ صفوة السقا ، ط ٥ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ١٤٠٥ ه‍ ـ ١٩٨٥ م.

٥٨ ـ مجمع البيان = تفسير مجمع البيان : لأبي علي ، الفضل بن الحسن الطبرسي ( ت ٥٤٨ ه‍ ) ، تحقيق : لجنة من العلماء ، نشر : مؤسسة الاعلمي ، بيروت ، ط ١ ، ١٤١٥ ه‍.

٥٩ ـ لمحلى : لأبي محمد ، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي ( ت ٤٥٦ ه‍ ) ، صححه : الشيخ أحمد محمد شاكر ، دار الافاق الجديدة ، بيروت.

٦٠ ـ المختصر في اخبار البشر = تاريخ ابي الفداء : لاسماعيل بن علي بن محمد ( ت ٧٣٢ ه‍ ) ، دار المعرفة ، بيروت.

٦١ ـ المستدرك على الصحيحين : لمحمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري ( ت ٤٠٥ ه‍ ) ، دار الفكر ، بيروت ، ١٣٩٨ ه‍ ـ ١٩٧٨ م.

٦٢ ـ المسند : لعبدالله بن الزبير الحميدي ( ت ٢١٩ ه‍ ) ، تحقيق :


عبدالرحمن الأعظمي ، عالم الكتب ، بيروت.

٦٣ ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل : دار الفكر ، بيروت ، عن طبعة سابقة.

٦٤ ـ المصنف : لعبد الرزاق بن همام الصنعاني ( ت ٢١١ ه‍ ) ، تحقيق : عبدالرحمن الاعظمي ، منشورات المجلس العلمي الذي اسس في ( سملك ، سورت من الهند ) ، طبع في بيروت ٣ رمضان ١٣٩٠ ه‍ ـ ١٩٧٠ م.

٦٥ ـ المعارف : لأبي محمد ، عبدالله بن مسلم ، أبي قتيبة الدينوري ( ت ٢٧٦ ه‍ ) ، ط ١ ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ١٤٠٧ ه‍ ـ ١٩٨٧ م.

٦٦ ـ مقاتل الطالبيين : لأبي الفرج الاصفهاني ( ت ٣٥٦ ه‍ ) ، دار المعرفة ، بيروت.

٦٧ ـ مناقب آل أبي طالب = مناقب ابن شهرآشوب : لمحمد بن علي السروي المازندراني ( ت ٥٨٨ ه‍ ) ، عنى بتصحيحه والتعليق عليه : السيد قاسم الرسولي المحلاتي ، مؤسسة انتشارات علامة ، قم.

٦٨ ـ المناقب : للموفق بن أحمد الخوارزمي ( ت ٥٦٨ ه‍ ) ، تحقيق : الشيخ مالك المحمودي ، طبع ونشر مؤسسة النشر الاسلامي ، قم ، ط ٢ ، ١٤١١ ه‍.

٦٩ ـ المنتظم في تاريخ الملوك والأمم : لعبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي ( ت ٥٩٧ ه‍ ) ، تحقيق : محمد عبدالقادر عطا ، ومصطفى عبدالقادر عطا ، راجعة نعيم زر زور ، ط ١ ، الكتب العلمية ، بيروت ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م.

٧٠ ـ موطأ مالك : للإمام مالك بن انس ( ت ١٧٩ ه‍ ) ، تحقيق : محمد


فؤاد عبدالباقي ، دار احياء التراث العربي ، بيروت.

٧١ ـ موقف الخلفاء العباسيين من ائمة المذاهب الأربعة : لعبد الحسين علي بن أحمد ، نشر : دار قطرى بن الفجاءة ، الدوحة ، ط ١ ، ١٤٠٥ ه‍ ـ ١٩٨٥ م.

٧٢ ـ منع تدوين الحديث : لمؤلف هذا الكتاب ، ط ١ ، مؤسسة الأعلمي ، ١٤١٨ ه‍ ـ ١٩٩٧ م.

٧٣ ـ الناسخ والمنسوخ : لابن شاهين.

٧٤ ـ نيل الأوطار من أحاديث سيد الاخيار : لمحمد بن علي اليمني الصنعاني الشوكاني ( ت ١٢٥٥ ه‍ ) ، دار الجيل ، بيروت ، ١٩٧٣ م.

٧٥ ـ وسائل الشيعة : لمحمد بن الحسن الحر العاملي ( ت ١١٠٤ ه‍ ) ، تحقيق : مؤسسة آل البيت ٧ قم ـ ايران ، ١٤٠٩ ه‍.

لماذا الاختلاف في الوضوء

المؤلف: السيد علي الشهرستاني
الصفحات: 102
ISBN: 964-7635-77-x