


مقدمة التحقيق
بسم
الله الرحمن الرحيم
اللهمّ لك
الحمدُ مجيبَ الدعواتِ ، رفيعَ الدرجات ، منزلَ الآيات من فوق سبع سماوات ،
ومُخرجَ النور من الظلمات ، مبدِّلَ السيّئات حسنات ، وجاعلَ الحسنات دَرجات ،
وصلواتُ الله وصلواتُ ملائكتِهِ وأنبيائه ورسلِهِ وجميعِ خلقِهِ على محمّدٍ وآل
محمّدٍ ، والسلامُ عليه وعليهم ورحمةُ الله وبركاتُهُ ..
أمّا
بعدُ :
فإنّ من دواعي
الفخر والاعتزاز هو إحياء آثار أعلامنا الأماجد ، الذين بذلوا وسعهم وهجروا
أوطانهم وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل تحصيل علوم آل البيت عليهمالسلام ونشرها ، وإرشاد المؤمنين ، وتعليمهم أحكام الشريعة
الغرّاء ، كما بذلوا جهوداً مخلصة في التأليف والتصنيف في علوم آل البيت عليهمالسلام حتى يحفظوا لنا التراث الخالد والمعين الصافي ليكون
للأجيال المتعاقبة مشعلاً وهادياً إلى الصراط المستقيم ، ومنهلاً عذباً يتزوّد منه
طلّاب العلم وذوي المعرفة.
ومن هذا
المنطلق نرى لزاماً علينا قربةً لله تعالى ووفاءً لأولئك الأعلام القيامَ بإحياء
آثارهم التي حرّروها ، وبذلَ قصارى جهدنا في إبرازها بصورة مناسبة ..
وإنّ تراث
منطقتنا القطيف لم يحظ بالعناية اللائقة به في ما مضى ، فإنّ فيه تراثاً
علميّاً غزيراً يعكس التطوّر العلميّ والمستوى الرفيع لهذه المنطقة المعطاء
، ولكنّا مع هذا لا نجد لهذه المؤلّفات أثراً ، كما لا نجد كتاباً جامعاً للتعريف
بأعلام المنطقة ومؤلَّفاتهم ، فإنّ الخمول واللامبالاة حالا دون ذلك ، ونذكر في
هذا المجال ما قاله العلّامة الجليل الشيخ فرج آل عمران القطيفي ( ت ١٣٩٨ هـ ) في
كتابه ( الأزهار الأَرجيّة ) بعنوان : دمعة على الوطن ، قال رحمهالله : ( ممّا يؤسفني جدّاً أن لا أرى كتاباً مدوّناً في
تاريخ الوطن المحبوب ( القطيف ) وأن لا أرى مؤلّفاً جامعاً لتراجم العباقرة من
علمائه الأعلام وشعرائه الكرام وأدبائه الفخام عدا ما تفضّل به العلّامة الشيخ علي
ابن الشيخ حسن آل الشيخ سليمان البحراني ، أعني كتابه : ( أنوار البدرين ) ، فله
اليد البيضاء على عامّة الوطن مع أنّه أعلى الله مقامه لم يذكر فيه إلّا القليل
ممّن عاصرهم أو سمع بهم أو وقف عليهم في خلال المصادر والموسوعات كـ ( لؤلؤة
البحرين ) و ( سلافة العصر ) و ( روضات الجنّات ) ، وغير ذلك من المؤلّفات.
كيف وقد سمعتُ
منه قدسسره أنّه كان في آل عمران أربعون عالماً في عصر واحد ، وهم
لم يذكر منهم إلّا ستّة أو سبعة ، فما ظنّك بباقي أُسر الوطن. فيحقّ لي أنْ أتأسّف
وأريق دمعتي الحارّة على وطني الخامل وعلمائه المجهولين ، التي أصبحت شماطيط
مبعثرة ، وذهبت إدراج الرياح ) .
وقال في موردٍ
آخر لمناسبة ذكر صاحب ( أنوار البدرين ) ـ : ( فله أي : لصاحب ( أنوار البدرين )
اليد البيضاء على وطننا الخامل ؛ إذ ليس لنا شبه تاريخ سواه ) .
بل إنّ الخطيب
المعروف العلّامة الجليل السيّد جواد شبّر قال في موسوعته ( أدب الطف ) :
( ترجمتُ في
هذه الموسوعة بأجزائها الثمانية لمجموعة كبيرة من أدباء البحرين والأحساء والقطيف
ممّن كانوا في زوايا النسيان ؛ ذلك لأنّ بلاد البحرين من أقدم بلاد الله في العلم
والأدب والتشيّع لأهل البيت وعريقة في الشعر. وأمامنا ردمٌ من القصائد لم نقف بعدُ
على ترجمة أربابها ، وكم كتبنا واستنجدنا بعلمائها وأدبائها ليزودونا بمعلومات
__________________
عن تراثهم وحياة أسلافهم ، ولكن لا حياة لمن تنادي! ) .
وقد آن الأوان
في عصرنا الحاضر الذي توفّرت فيه الإمكانيات المختلفة إلى تظافر الجهود المخلصة ،
وتكاتف الأيدي الأمينة لإبراز ذلك التراث العظيم.
ونحنُ لا ننكر
الجهود الفرديّة المشكورة التي قام بها بعض فضلائنا الأعزاء في هذا المضمار أمثال
العلّامة الشيخ فرج العمران قدسسره والعلّامة الشيخ علي المرهون والعلّامة الشيخ عبد الله
الخنيزي حفظهما الله وغيرهم من المعاصرين ، إلّا إنّ الجهود الفرديّة لا تفي
بالحاجة ، ولا يكتمل بها العمل المطلوب ، إذ لا تستطيع تلك الجهود إخراج تراثنا
الغزير بصورته اللائقة به ، فإنّ تحصيل مخطوطات أعلام المنطقة أمرٌ شاقّ ولا
يتيسّر للأفراد ، فإنّها مبعثرة في المكتبات الخاصّة والعامّة في بلاد مختلفة ،
فيحتاج تحصيلها إلى مصاعب كثيرة وأسفاراً متعدّدة ، كما أنّ تحقيقها ونشرها أشقّ
وأصعب كما لا يخفى على ذوي الاختصاص ..
ومن هنا تمّ
إنشاءُ هذه المؤسّسة المباركة ( دار المصطفى «ص» لإحياء التراث ) لتُعنى بتحقيق
ونشر ذلك التراث المنسيّ ، وقد قطعت المؤسّسةُ بحمد الله تعالى شوطاً كبيراً في
جمع عدد من مصوّرات المخطوطات التي ألّفها أعلام المنطقة من عدد من مكتبات العراق
والجمهوريّة الإسلاميّة والبحرين والقطيف والأحساء ، وسوف ننشر فهرس المصوّرات في
مجلّتنا ( التراث ) إن شاء الله تعالى. وما زال البحث مستمرّاً والعملُ قائماً على
تحصيل جميع ما يخصّ المنطقة من تراث.
ومن جملة ما
وفّقنا للحصول عليه هو مجموعة كبيرة من مؤلّفات العلّامة المحقّق آية الله العظمى
الشيخ أحمد بن الشيخ صالح آل طعّان البحراني رحمهالله ( ت ١٣١٥ هـ ) ، فآثرت مؤسّستنا تحقيقها ونشرها لما فيها من ثروة علميّة
متميّزة.
بين
يدي الكتاب :
يشتمل كتابنا (
الرسائل الأحمديّة ) على مجموعة من مؤلّفات أحد أعلامنا
__________________
المعروفين ، وهو العلّامة المحقّق الشيخ أحمد آل طعّان ، الذي كان عالم
القطيف في وقته والمرجع الشرعيّ فيها ، وقد كتب هذه الرسائل والمؤلَّفات في فترات زمنيّة
مختلفة ، فأقدمها بتاريخ الخامس من شعبان سنة ١٢٧٠ هـ ، وآخرها بتاريخ الحادي
والعشرين من شهر صفر سنة ١٣١٣ هـ.
ونلاحظ أنّه رحمهالله كتب أقدمها وعمره لا يتجاوز عشرين عاما ، حيث كانت
ولادته رحمهالله تعالى سنة ١٢٥٠ هـ ، وهذا يدلّنا على تضلّعه في العلوم
منذ صغره ، وعلى نبوغه المبكّر ..
ويشتمل الكتاب
على مواضيع مختلفة ، ولذا قمنا بتقسيمه حسب العلوم ، مبتدئين بأشرفها ، فصار
ترتيبه كالآتي :
علم الكلام ،
علم الفقه ، علم أصول الفقه ، الدعاء والزيارة.
وأدرجنا
في علم الكلام الرسائل الآتية :
الرسالةُ
الاولى : العقل
وأقسامه.
وهي جواب مسألة
، نصّها : ( إنّ المتعيّن في نوع الإنسان ، هل هو مطلقاً دوام وجوده في كلّ إنسان
كان من المؤمنين والكفّار والفجّار مدّة الأعمار؟ ثمّ إن كان كذلك ، فما ثمرة عقول
أُولئك الكفّار والفجّار هنالك ، حيث إنّ العقل ما عُبِدَ به الرحمن وعُصي به
الشيطان ، وأفعالهم كلّها عكس ذلك؟.
وإن كانوا
سُلبت منهم عقولُهم حين تغلّبت عليها شهواتُ أنفسهم ، فما تكليفهم حينئذٍ وهم لا
عقلَ لهم؟ وإنْ كانت عقولُهم لم تزل فيهم إلّا إنّها مغلوبة مقهورة لدى شهوات
أنفسهم ، لا مدخليّة لها في شيء من أفعالهم ، فما الفائدة في وجود شيء لا نفع
فيه؟ وهل يسمّى صاحبه عاقلاً أم جاهلاً؟.
ثم ما منشأ
دهاء الدهاة مثل معاوية وعمرو بن العاص وأشياخهم وأمثالهم الأرجاس بإصابة الرأي
المطابق للأمر الواقع قبل وقوعه ، هل هي بلاسة شيطانية
__________________
محضيّة لا سبيل للعقل فيها بالكلّيّة ، أم للعقل في ذلك مدخليّة؟.
وهل إنّ عقلَ
ذوي الإيمان على مراتبهم في الإيمان؟ وهل يقتضي الزيادة والنقصان ، أم هو والإيمان
سيّان في كلّ إنسان؟ ).
وقد أجاب شيخنا
المؤلّف عن هذه المسألة ببيان معنى العقل لغة واصطلاحاً ، ثمّ أوضح ثمرة عقول
الكفّار والفجّار ومنشأ دهاء الدهاة ، ومراتب عقل المؤمن والزيادة والنقصان في
العقل.
الرسالة
الثانية : مسألة في
إبطال الدور المتوهّم في إثبات الإمامة من الكتاب. ونصّها : ( كان ممّا شاع وذاع
وملأ الأسماع وعليه الإجماع أن في القرآن من النصوص الجليّة على إمامة الأئمّة
أكثر من أن تحصى ، فيكون حينئذٍ مُثبِتاً لإمامتهم ، وقد كان مثله أيضاً أنّه لا
يعرف إلّا من جهتهم كما تقدّم ، فكأنّه مُثْبِتٌ مُثْبَتٌ وهم كذلك ، فما المفرّ
من الدور؟! ).
وقد أجاب الشيخ
المؤلّف عن ذلك بأنّه ليس من الدور في شيء ، إذ غاية ما فيه من الإشكال كون الشيء
مُثْبِتاً مُثْبَتاً ، ولا ضير فيه إذا كان من جهتين.
الرسالة
الثالثة : جواب مسألة في
الشفاعة ، وإنّها لِمَنْ إذا كانت ذنوب تاركي الكبائر مكفّرة ومرتكب الكبائر غير
مرتضىً؟ وهي من أجوبة مسائل الشيخ محمد البحراني ، وقد أجاب عنها شيخنا المؤلّف ،
فأورد عليه السائل إيرادين قام المصنّف بردّهما وتوضيح حال المسألة.
وفي
علم الفقه الرسائل الآتية :
الرسالة
الرابعة : هداية البريّة
إلى أحكام اللمعة الدمشقيّة.
وهي شرح على
مقدّمة ( اللمعة الدمشقيّة ) ، اشتمل على مباحث مفيدة في شرح البسملة والحمد
والشكر ومراتب العلم ، مع بحث حول النبوّة والصلاة على محمّد وآل محمَّد صلىاللهعليهوآله.
الرسالة
الخامسة : جواب مسألة عن
حكم الماء المتقاطر من السقف حال نزول المطر ، يطهّر الأرض إذا كانت نجسة ، أم لا؟
وأجاب الشيخ عن
ذلك بأنّه متى اتصل المتقاطر بالمادّة السماويّة بحيث يصدق عليه المطر عرفاً ،
واستوعب موضع النجاسة وأزال عينها ، فالظاهر أنّه لا خلاف في طهارة الأرض بهذه
الشروط.
الرسالة
السادسة : جواب مسألة
فيما لو ماتت الامّ وقد خرج نصف الولد ، أيُخرَج بجرٍّ ونحوه أم يترك؟ ومع الترك
يكفي غسل الأمّ ، أم يغسّل النصف على حدة؟ ومع خروجه والأُمّ ميّتة لو خرج دم بعد
الخروج أو قبل الخروج أو معه ، هل هو دم نفاس ، أم لا؟ وعلى الأوّل تتداخل الأغسال
الواجبة ، أم لا؟
الرسالة
السابعة : قرّة العين في
حكم الجهر بالبسملة في ما عدا الأوليين.
وهي رسالة
مفصّلة تشتمل على فهرس تفصيلي للمباحث ، رتّبها على مقدّمتين ومقامين وخاتمة ،
تشتمل المقدّمة الأُولى على البحث في تأسيس الأصل في الصلوات ، هل هو الجهر أو
الإخفات ، أو أن كلّاً من الجهر والإخفات أصل برأسه؟
أمّا المقدّمة
الثانية فهي في تحرير محلِّ النزاع ، وقد بحث ذلك من خلال خمس عشرة مسألة.
أما المقام
الأوّل فهو في استعراض الأقوال في ذلك ، وذكر فيها ستة أقوال. وفي المقام الثاني
ذكر الاستدلال على تلك الأقوال الستّة.
أما الخاتمة
فقد اشتملت على تنبيهين فيهما فوائد كثيرة.
الرسالة
الثامنة : نقض رسالة
الشيخ علي الستري ( ت ١٣١٩ هـ ) ، في تعيين الإخفات بالبسملة في الأخيرتين.
الرسالة
التاسعة : حكم الجهر
بالبسملة في الأخيرتين.
وهي رسالة
مكمّلة لرسالة قرّة العين ، حيث لم يذكر هناك بصورة مفصّلة أدلّة القولين الأخيرين
في المسألة عند استعراض الأقوال وأدلّتها ، فذكرها هنا بصورة مفصّلة. وهي بمجموعها
تعتبر اختصاراً لرسالة قرّة العين.
الرسالة
العاشرة : أجوبة مسائل
الشيخ جعفر العوّامي ، وهي :
فيما لو اجتمعت
العيد والجمعة وصلّيت العيد على جهة الوجوب ، فهل يجب
على مَنْ حضرها ما عدا الإمام الحضور للجمعة ، أم لا؟ وعلى كلا التقديرين :
لو حضر العدد المعتبر في وجوبها به ، وكان ممّن صلّى العيد ، فهل تبقى واجبةً ، أم
لا؟ وهل تسقط الظهر ، أم لا؟
الرسالة
الحادية عشرة : منهاج السلامة في حكم الخارج عن بلد الإقامة.
وهي جواب سؤال
ورد عليه من جناب الحاج علي آل الشيخ علي القطيفي التوبي ( ت ١٣٠٨ هـ ) ، يسأله
فيه عن حكم المسافر الذي أقام في غير بلد استيطانه عشرة أيّام ، فلمّا انقضت عزم
بعدها على السفر ، ولكنّه يريد الخروج لسائر القرى الخارجة عن مكان إقامته ، لقضاء
بعض الوطر ، من غير عزم على الإقامة في مكان إقامته ، ولا غيره ممّا يريد عليه
الممر.
الرسالة
الثانية عشرة : حاشية على مباحث الخلل من كتاب ( شرائع الإسلام ).
الرسالة
الثالثة عشرة : شرح مبحث زكاة السخال من كتاب ( الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية ).
الرسالة
الرابعة عشرة : الرسالة العاشورية ، في تحقيق صوم يوم عاشوراء.
الرسالة
الخامسة عشرة : جواب مسألة : لو حجّ المخالف ثمّ استبصر ، هل يحرم عليه النكاح لإخلاله
بطواف النساء ، أم لا؟
الرسالة
السادسة عشرة : جواب مسألة : لو قضى رجل أعمال عمرة التمتّع ، وبعد ذلك زال عقله بسبب
حمًّى أصابته ، ولا يُرجى برؤه بحيث يحرم للحجّ ويدرك الوقوفين ، فما تكليف مَنْ
معه من إخوانه؟ وما تكليفه بنفسه إن برئ بعد أيّام الحجّ وهو في مكّة؟.
الرسالة
السابعة عشرة : جواب مسألة : عن رجل مات في مكّة بعد الفراغ من أعمال عمرة التمتّع وقبل
أن يحرم للحجّ : فهل يسقط عنه الحجّ ، أم تلزم الاستنابة عنه ، أم لا؟
الرسالة
الثامنة عشرة : جواب مسألة : لو أنّ رجلاً باع شيئاً على رجلين صفقة واحدة ، وَقبلَ واحدٌ
منهما عن نفسه وعن الآخر ، ثمّ بعد ذلك فسخ البائع لواحد منهما ، فهل ينفسخ البيع
عن ذاته عن الكلّ ، أم لا؟
الرسالة
التاسعة عشرة : جواب مسألة عن الصلح عمّا يستحقّ مشاعاً ، مجهول الكمّ ، من شيء معيّن
بكميّة معلومة مشاعة فيه أيضاً ، كما لو تردّد المستحقّ بين نصف الشيء أو ربعه ،
فصولح عنه بثلثه أو سدسه.
الرسالة
العشرون : في بطلان
الوكالة بفعل متعلّقها أو منافيها ، وبيان اختلاف الأعلام في بعض الصور الجزئيّة في
هذه القاعدة.
الرسالة
الحادية والعشرون : في الوصيّة ، وهي من أجوبة مسائل الشيخ محمّد البحراني ، ونصّ السؤال : (
.. فالمعروض على جنابكم المحفوظ أنّ العبد كان على سيرة مسلّمة عنده ، فناقشه بعض
إخوانه في الدين وأجلّ خلّانه على اليقين ، مزرياً عليه ذلك العمل ، فجرى بينه
وبينه ما جرى ، فاخترمه الأجل قبل إحكام ما فيه دخل ، ولم يكن لي بسواه أنسٌ سواكم
، فما برحت أُقدّم رجلاً في سؤالكم وأؤخّر اخرى ، ثمّ رأيت أن القدوم أحرى.
والسيرة المشار
إليها : رجلٌ حرٌّ بالغ رشيد أوصى بفاضل ثلثه لذكور أولاده لصلبه ، متفاوتين فيه
أو متساوين ، على أنّ مَنْ مات منهم قبل أن يعقب رجع حقّه من الثلث لمَنْ بقي منهم
، فإن انقرضوا من غير عقب رجع فاضل الثلث جميعه لجهةٍ أيّ جهة من الجهات التي
يتقرّب بها العقلاء ، فأبطل ذلك الفاضل المقدّس ذلك موجّهاً :
أنّ ذلك الموصى
إليه بعد ملكه إليه لا سبيل للموصي عليه.
فأجبته : إنّ
الموصى إليه ملك مشروطاً ، والوفاء بالشرط غير المخالف للكتاب والسنّة لا خلاف في
وجوب الوفاء به.
وافترقنا على
المراجعة ، وحال القضاء والقدر عن الاجتماع ، فاختار الله به دار بقائه ، وأسأل
الله أن يحشره في زمرة أوليائه ، إلّا إنّه قدسسره أوقع الإشكال ، فالرجاء كشف قناع ذلك الإعضال ).
الرسالة
الثانية والعشرون : جواب مسألة في رجل طلّق زوجته في طهر غير طهر المواقعة ، وأشهد على طلاقها
عدلين ، ثمّ راجعها في العدّة قبل انقضاء المدّة ، وأشهد على رجعتها ، ولم يبلغها
حتّى خرجت من العدّة ، فأقام البيّنة ، فهل له سبيل عليها ، أم
لا؟ استكتم الشهود أم لا ، حاضراً كان أو غائباً ، تزوّجت بآخر أم لا؟ وهي
من أجوبة مسائل الشيخ محمّد البحراني.
الرسالة
الثالثة والعشرون : جواب مسألة في الطلاق ، وهي : رجل طلّق امرأة لكونها حبلى ، واعترفت
بالحمل ، وبعد الطلاق تبيّن فساد الحمل ، ما يكون الطلاق ، يفسدُ بفساد الشرط أم
لا؟ وسواءً كان الطلاق رجعيّاً أم بائناً؟
الرسالة
الرابعة والعشرون : إقامة البرهان في حلِّ الإربيان ، كتبها ردّاً على بعض محشّي ( اللمعة )
حيث ذهب فيها إلى تحريم الإربيان زاعماً أنّه ( الرَّبِيثا ) المنهيّ عنه في
الروايات.
الرسالة
الخامسة والعشرون : في ميراث المُعْتِق إذا مات عتيقه.
الرسالة
السادسة والعشرون : جواب مسألة حول إرث الجدّة مع الأخت ، ونصّها : هل تعطى الجدّة مع الأخت
من الأب والأبوين السدس أم الثلث على اختيار الشيخ محمّد طه نجف؟.
الرسالة
السابعة والعشرون : جواب مسألة : رجل عنده زوجتان كلّ زوجه له منها بنت ، فغرق مع إحدى
الزوجتين وبنتها منه ، وللبنت التي غرقت جدٌّ لأمّ وجدّةٌ لأمّ ، والمال كلّه
للرجل ، وليس للزوجة والبنت مال ، فما كيفيّة الميراث؟
الرسالة
الثامنة والعشرون : في الحبوة ، وقد لاحظ المصنّف رحمهالله أنّ الأصحاب اقتصروا في ما يحبى به أكبر الأولاد على
الأربعة المشهورة من : السيف ، وثياب البدن ، والخاتم ، والمصحف ، دون الكتاب مع
وروده في النصوص الواردة عن الأئمّة عليهمالسلام ؛ فلذا أفرد رسالةً في هذه المسألة.
وأدرجنا
في علم أصول الفقه :
الرسالة
التاسعة والعشرون : الدرر الغرويّة في تحقيق الأُصول الفقهيّة.
وهو كتابٌ في
أصول الفقه لكنّه كتب مقداراً يسيراً فقط من الباب الأوّل ، تعرّض فيه إلى تعريف
الفقه في اللغة وعُرف المتشرّعة ، مع إشكالات ودفعها.
الرسالة
الثلاثون : الدرر الفكريّة في أجوبة المسائل الشبّريّة. وهي أجوبة لمسائل
العلّامة السيّد شبّر بن السيّد علي بن السيّد مشعل البحراني قدسسره ، أرسلها إلى والد المؤلِّف ليجيب عنها ، فأجابه شيخنا
المؤلِّف عن والده ، وكان عمره آن ذاك عشرين عاما.
واشتمل ما
أوردناه من هذه المسائل على :
١ ـ جواز الأخذ
بالكتاب وإن لم يكن مفسّراً من المعصوم عليهالسلام وعدمه. وقد اختار رحمهالله في هذه المسألة رأياً وسطاً ، وهو : ( إنّ قسماً من
القرآن يَعرفُ المرادَ منه سائرُ الناس ، وقسماً يُعلم بالتعلّم .. وإنّ البيّن
كآيات الوعد والوعيد والزجر والتهديد وما شابهها من الآيات الظاهرة لا تتوقف على
الأثر من الآيات الباهرة. وإنّ المُجْمل منه كالآيات الدالّة على إقامة الصلوات
وإيتاء الزكوات لا بدّ فيه من تفسيرهم لإعداد الركعات في الصلوات ، ومقادير النصاب
في الزكاة. وإنّ المحتَمِل لأمرين أو أُمور ؛ فإن لم يكن الجميع مراداً ، بل دلّ
الدليل على أنّ المراد واحد لا غير ، يحمل على الوجه الموافق للدليل. وإنّ احتمل
إرادة منها فلا يجوز القطعُ بإرادة معنىً إلّا بقول المعصوم عليهالسلام ، ولا يؤخذ بقول أحد إلّا إذا أجمع عليه فيؤخذ به ؛
لمكان الإجماع لكشفه عن قول المعصوم عليهالسلام ).
٢ ـ بيان
اختلاف الفقهاء في الفتاوى ، وقد أرجع فيها منشأ اختلاف الأصوليّين والأخباريّين
إلى أمور متعدّدة :
أ ـ اختلاف
الأخبار الواردة عن الأئمّة عليهمالسلام لأمور : التقيّة ، واختلاف لفظ الروايات الناشئ من
الرواة ، والنسخ.
ب ـ اختلافهم
في القواعد الأصوليّة التي وضعها المتأخّرون ليبنوا عليها الفروع الفقهيّة.
ج ـ اختلافهم
في الأنظار والفهم والاعتبار.
ثمّ نقل رحمهالله أمراً رابعاً عن العلّامة الشيخ سليمان بن عبد الله
الماحوزي رحمهالله ( ت ١١٢١ هـ ) ، وهو : أكثر الخلاف الواقع في الشريعة إنّما نشأ من أمرين :
أحدهما :
الاختلاف في الأُصول والقواعد التي تبنى عليها فروع الفقه وعدم
التفطّن لها.
والثاني :
تكلّم مَنْ ليس له قدمٌ في هذه الصناعة ، ولا حظّ وافر من هذه البضاعة ، كما أشار
إليه أمير المؤمنين عليهالسلام بقوله العلمُ نقطة كثّرها الجاهلون .
وقد حاول رحمهالله جاهداً في هذه المسألة أن يوفّق بين الأصوليّين
والأخباريّين ويسدّ باب التشنيع ، وبيّن أنّ ما يقع من التهكّم من البعض فهو من
الغفلات التي تعرض للأريب من غير إصرار.
٣ ـ بيان معنى
الإجماع بجميع شقوقه ، وقد تعرّض في هذه المسألة إلى مقامين :
أ ـ تعريفه
وبيان ما اشتقّ منه ، وإمكان وقوعه وإمكان العلم به وحجّيته ، ووجه حجّيته.
ب ـ في أقسامه
السبعة المشهورة.
٤ ـ جواب مسألة
حول الاجتهاد والتقليد ، وهي : ( إنّه لا بدّ من التقليد ولو مطلقاً ، ولا ريب في
أنّ كلّ مجتهد جائز الخطأ ، فكيف يجوز تقليد جائز الخطأ سيّما في المسائل العارية
من النصوص؟ فلا مناص من توهّم الإغراء بالجهل ). وقد أجاب عن هذه المسألة بجواب
تفصيلي ، واشتمل جوابه على فوائد كثيرة.
الرسالة
الحادية والثلاثون : جواب مسألة حول جواز الأخذ من المجتهدين والمقلّدين وتقليد كلّ منهما من
آحاد الفريقين ، وهي من أجوبة مسائل الشيخ محمّد البحراني.
وقد أجاب
المؤلّف رحمهالله عن هذه المسألة جواباً وافياً شافياً ، ونقل كلمات
الإطراء الصادرة من بعض المجتهدين في بعض الأخباريّين وبالعكس ، ونقل في المقام ما
سمعه من أستاذه المحقّق الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري رحمهالله ( ت ١٢٨١ هـ ) ، في مسألة البحث عن المخصّص : ( إنّ الفقيه إذا تتبّع (
الحدائق ) أو ( الوسائل ) ، ولم يجد المخصّص ، جاز له العمل بالعامّ ). ثم عقّب
المصنّف بقوله : وهذا لا يتمّ إلّا بإحراز وثاقتهما وكمال عدالتهما ، كما لا يخفى
على أولي الأفهام.
ومع أنّ
المؤلّف اعترف باختلاف المسلكين إلّا إنّه ذكر أنّ ذلك لا يوجب تباين
__________________
المذهبين ، ولا خروج إحدى الفرقتين عن طريق النجاة ومذهب الأئمّة الهداة عليهمالسلام ، لأنّ الخلاف في الأصوليّة والأخباريّة كالاختلاف
الواقع بين المجتهدين في المسائل الأصوليّة التي تُبنى عليها الفروع الفقهيّة.
الرسالة
الثانية والثلاثون : العُمدة نظم الزبدة.
وهو نظم لكتاب (
الزبدة في أُصول الفقه ) للشيخ البهائي ( ت ١٠٣١ هـ ).
وقد
أدرجنا في الدعاء والزيارة :
الرسالة
الثالثة والثلاثون : جواب سؤال حول شرح فقرة «
فهبني .. » من دعاء كميل ، وقد أوجز المؤلّف السؤال في ثلاث مسائل :
الأولى : معنى «هبني».
الثانية : في
الإعراب.
الثالثة :
إعراب ( إنّ ) في قوله مثلاً ـ : ( لأكرمن زيداً وإن أهانني ).
فأجاب عنها
بأجوبة كافية ، وذكر تتميماً بعد المسألة الثالثة ذكر فيه معنى استغفار الأئمّة من
الذنوب.
ثمّ ذكر
المؤلّف ردّ السائل على الجواب وقام بنقضه ، فأورد السائل إيرادات على النقض ،
فقام المؤلّف بردّها ونقضها.
وفي هذه
الرسالة مباحث مهمّة تكشف مدى تضلّع شيخنا المؤلّف في علوم العربيّة.
الرسالة
الرابعة والثلاثون : مسألة عن معنى ما ورد في زيارة الإمام الحسين عليهالسلام
وفي قلوب مَنْ
والاه قبره.
هذه مجموعة
الرسائل والمؤلّفات التي عثرنا عليها للمؤلّف رحمهالله ، وقد طُبع له سابقاً :
١ ـ ديوان «
المراثي الأحمديّة ».
طبع في الهند ،
ولكنّه لم يستوعب جميع شعره ، وقد استدرك في ( أنوار البدرين ) بعض ما لم ينشر في
الديوان.
٢ ـ وفاة
الإمام الرضا عليهالسلام.
طبعت في النجف
الأشرف ، وقم المقدّسة ، وقد صنّفها في ( جدّة ) عند رجوعه من الحجّ ، ولم يكن
عنده آن ذاك كتب ليرجع إليها ، فصنّف هذا الكتاب في يوم وليلة ، وذكر فيها
الروايات المتضمّنة لمناقب الإمام ووفاته وأحواله بالمعنى من حفظه ، ومزجها بما
يناسبها من الإشعار الجيّدة ، ولمّا وصل بلاده كتب الروايات بلفظها.
٣ ـ زاد
المجتهدين في شرح بُلْغة المحدّثين.
وهو شرح على
كتاب ( بُلغة المحدّثين ) للشيخ سليمان الماحوزي ( ت ١١٢١ هـ ) ، وهو كتاب مختصر
تعرّض فيه مؤلّفه للرجال الذين اتّضحت لديه وثاقتهم على نحو الإجمال ، فشرح
المصنّف ذلك ، وفصّل أحوال رجاله المذكورين ، ولكن لم يتيسّر له رحمهالله إكمال العمل ، فلم يتجاوز حرف الهمزة ، ولكن ما جاد به
قلمه فيه الخير الكثير.
طبع في مجلّدين
سنة ١٤١٤ هـ ، تحقيق ونشر : الشيخ ضياء بدر سنبل.
٤ ـ علّامة
العلماء ، الشيخ الأنصاري قدسسره.
وهي ترجمة
موجزة جدّاً ، وقد تضمّنت ذكر قصيدتين في رثاء أستاذه الشيخ الأعظم رحمهالله. طبعت بتحقيق : الشيخ ضياء بدر سنبل ، ونشر : المؤتمر
العالمي بمناسبة الذكرى المئويّة الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري ( مؤسّسة الهادي
قم ١٤١٥ هـ ).
٥ ـ الصحيفة
الصادقية والدعواتُ الجعفريّة.
جمع فيه
الأدعية الواردة عن الإمام الصادق عليهالسلام ، وقد بلغ مجموع ما أورده تسعمائة وتسعة وستّين دعاءً ،
ويمتاز الكتاب بحسن ترتيبه وشموليّته وعنايته بالمصادر المأخوذة عنها وغير ذلك من
الميزات والفوائد.
طبع بتحقيق
ونشر مؤسّستنا ( دار المصطفى « ص » لإحياء التراث ) ، ويقع في ١٠٣٣ صفحة ( وزيري ،
ملوّن ).
النسخ
الخطيّة المعتمدة :
اعتمدنا في
تحقيق هذه الرسائل على نسخ من المخطوطات الموجودة في بعض المكتبات الأهليّة في
القطيف ، بعضها على شكل مجموع يحتوي على عدّة رسائل ،
وبعضها الآخر بصورة رسائل مستقلّة ، وهي كالآتي :
أوّلاً : مجموع
عليه تملّك الشيخ علي البلادي البحراني ، وتملّك ابنه الشيخ حسين القديحي رحمهماالله تعالى ، يشتمل هذا المجموع على ٣٠٦ صفحات من الحجم
المتوسط ، يحتوي على الرسائل التالية :
١ ـ قرّة العين
في حكم الجهر بالبسملة في ما عدا الأُوليين.
فرغ من تأليفها
باليوم الثاني عشر من شهر رجب سنة ١٢٧٤ هـ ، وتمّ نسخها بعصر الأربعاء خامس عشر
جمادى الثانية سنة ١٢٧٨.
٢ ـ نقض رسالة
الشيخ علي الستري ( ت ١٣١٩ هـ ).
فرغ مصنّف المتن
من تأليفها باليوم السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة ١٢٧٤ هـ ، وتمّ تحرير
النقض بليلة الجمعة المباركة وهي الليلة السابعة والعشرون من شهر ربيع المولود سنة
١٢٧٥ هـ ، وتمّ نسخها بضحى الثلاثاء سادس شهر رجب سنة ١٢٨٨ هـ.
٣ ـ مسألة في
بطلان الوكالة بفعل متعلّقها أو منافيها.
فرغ من تأليفها
آخر يوم الجمعة الخامس عشر من شهر جمادى الثانية من سنة ١٢٧٧ هـ ، وتمّ نسخها بعصر
الثلاثاء سادس شهر رجب سنة ١٢٨٨ هـ.
٤ ـ مسألة في
مَنْ زال عقله بعد عمرة التمتّع.
جواب عن سؤال
بعض الأفاضل غير مصرّح باسمه ، فرغ من تحريره باليوم السابع من شهر ذي الحجّة
الحرام سنة ١٢٧٦ هـ ، في مكّة المكرّمة يوم ورود السؤال عليه ، وتمّ نسخها بجزيرة
أوال بعصر الثلاثاء سادس شهر رجب سنة ١٢٨٨ هـ.
٥ ـ مسألة في
مَنْ مات في عمرة التمتّع قبل أن يحرم للحجّ.
جواب عن سؤال
بعض الأفاضل غير مصرّح باسمه ، تمّ تحريره بليلة الجمعة السابعة والعشرين من شهر
ربيع المولود سنة ١٢٧٥ هـ ، وتمّ نسخها بضحى الثلاثاء سادس شهر رجب سنة ١٢٨٨ هـ.
٦ ـ شرح فقرة «
فهبني » من دعاء كميل.
جواب عن سؤال
للشيخ حسن بن علي آل عصفور ، فرغ من تحريره بالليلة التاسعة والعشرين من شهر ربيع
الثاني سنة ١٢٧٨ هـ ، وتمّ نسخها بضحى الثلاثاء ثاني عشر شهر رمضان سنة ١٢٧٨ هـ.
وناسخ هذا
المجموع هو المرحوم محمّد بن عبد الله بن محمّد بن عبد النبي بن مال الله آل مستور
الماحوزي.
ثانياً : مجموع
يحتوي على الرسائل التالية :
١ ـ رسالة
مختصرة في حكم الجهر بالبسملة في الأخيرتين.
فرغ من تأليفها
باليوم السابع والعشرين من شهر جمادى الأُولى سنة ١٢٨٢ هـ.
٢ ـ هداية
البريّة إلى أحكام اللمعة الدمشقيّة.
يحتوي المخطوط
الذي بين أيدينا على شرح خطبة الكتاب فقط.
٣ ـ حاشية على
مباحث الخلل من كتاب شرائع الإسلام.
لم تعنون بهذا
العنوان ، غير أنّا ارتأينا ذلك ، حيث وردت مع هداية البريّة السابقة واضطررنا
لعنونتها لاختلاف المتن المشروح مع ( اللمعة ) ومطابقته لما في ( شرائع الإسلام )
، وهي غير مكتملة المطالب ، بدأ فيها من الجلد المأخوذ من يد المسلم وانتهى إلى
تنقيح المقام في تعيّن الفاتحة في صلاة الاحتياط.
وهذه الحاشية
لم يُشر لها بعنوانها في كتب التراجم ، لكن العلّامة القديحي رحمهالله ذكر أنّ له حواشٍ على كثير من الكتب ، وهي بخطّه رحمهالله ، لذا أثبتناها في مؤلّفاته.
٤ ـ شرح فقهرة
« فهبني » من دعاء كميل.
نسخة ثانية
للرسالة المتقدّمة في المجموع الأوّل. وهذه النسخة هي المعتمدة في تحقيق هذه
الرسالة. فرغ من تحريرها بالليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان سنة ١٢٧٨ هـ.
٥ ـ شرح مبحث
زكاة السخال من كتاب ( الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ).
فرغ من تحريرها
في الليلة الخامسة والعشرين من شهر شعبان من سنة ١٢٧٨ هـ.
٦ ـ الدرر
الغرويّة في تحرير الأُصول الفقهيّة.
غير مكتملة
المطالب ، وصل فيها إلى المراد من اسم العين والمعنى.
ثالثاً : مجموع
عليه تملّك الشيخ علي البلادي البحراني ، وتملّك ابنه الشيخ حسين القديحي رحمهماالله تعالى ، يحتوي هذا المجموع على الرسائل التالية :
١ ـ الدرر
الفكريّة في أجوبة المسائل الشبّريّة.
أجوبة لمسائل
وردت من السيّد شبّر السيّد علي بن مشعل البحراني ( ت حدود سنة ١٣٠٠ هـ ) ، من
ضمنها سؤال أفردناه في رسالة مستقلّة هي الثالثة بحسب ترتيب الكتاب.
فرغ من تأليفها
باليوم الخامس من الأُسبوع الأوّل من الشهر الثامن من العشرة السابعة من المائة
الثالثة من الألف الثانية من الهجرة النبويّة ( ٥ / شعبان / ١٢٧٠ هـ ) ، وتمّ
نسخها بيد مؤلِّفها باليوم العاشر من شهر رمضان المبارك سنة ١٢٧٠ هـ.
٢ ـ العمدة نظم
الزبدة.
وهي نظم لكتاب (
الزبدة في أُصول الفقه ) للشيخ البهائي قدسسره ( ت ١٠٣١ هـ ). فرغ من نظمها سنة ١٣١٠ هـ ، وتمّ نسخها سنة ١٣٢٢ هـ.
٣ ـ رسالة في
صوم عاشوراء.
فرغ من تحريرها
بالليلة السادسة من شهر محرّم الحرام سنة ١٢٨٧ هـ ، وتمّ نسخها سنة ١٣٢٨ هـ.
٤ ـ رسالة في
العقل وأقسامه.
جواب عن سؤال
بعض الأفاضل غير مصرّح باسمه ، فرغ من تأليفها في اليوم السادس من شهر جمادى
الثانية سنة ١٣١٠ هـ ، وتمّ نسخها سنة ١٣٢١ هـ.
والرسائل
الثلاثة الأخيرة نُسخت بيد المغفور له الشيخ حسن بن علي بن حسن آل سليمان
البحراني.
رابعاً : رسالة
مستقلّة بعنوان : منهاج السلامة في حكم الخارج عن بلد الإقامة.
جواب لرسالة
الحاجّ علي ابن الحاجّ عبد علي آل شيخ علي القطيفي.
خامساً : رسالة
مستقلّة في أحكام الحبوة.
فرغ من تأليفها
سنة ١٢٧٥ هـ ، وتمّ نسخها سنة ١٣٧٠ هـ بيد المغفور له الشيخ حسن بن الشيخ علي بن
حسن آل سليمان البحراني.
سادساً : مجموع
يحتوي على الرسائل التالية :
١ ـ نسخة ثانية
من رسالة قرّة العين في حكم الجهر بالبسملة في ما عدا الأُوليين.
٢ ـ أجوبة
مسائل الشيخ جعفر البحراني.
فرغ من تحريرها
في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر جمادى الأُولى سنة ١٣٠٧ هـ.
٣ ـ نسخة ثانية
من رسالة في العقل وأقسامه.
٤ ـ رسالة
بعنوان : إقامة البرهان في حِلِّ الإربيان.
فرغ من تحريرها
باليوم الثاني والعشرين من شهر شوّال سنة ١٣٠٩ هـ.
٥ ـ مسألة في
رجل عنده زوجتان ..
فرغ من تحريرها
في شهر رمضان المبارك سنة ١٣١٠ هـ.
٦ ـ ميراث
المُعتِق إذا مات عتيقه.
٧ ـ ميراث الجدّة
مع الأُخت.
٨ ـ حكم الماء
المتقاطر من السقف حال نزول المطر.
وهذه الثلاثة
الأخيرة أجوبة لثلاث مسائل وردت من بعض الفضلاء لم يصرّح باسمه ، تمّ تحرير
إجاباتها في عدّة أوقات متفرّقة ، آخرها اليوم الثامن عشر من شهر ذي القعدة الحرام
سنة ١٣١١ هـ.
٩ ـ مسألة فيما
لو ماتت الامّ وقد خرج نصف الولد.
١٠ ـ مسألة
فيما لو طلِّقت امرأة لكونها حبلى ثمّ تبيّن فساد الحمل.
وهاتان
المسألتان لبعض الأفاضل غير مصرّح باسمه ، فرغ من تحرير إجابتهما في اليوم الثالث
والعشرين من ذي القعدة سنة ١٣١٠ هـ.
١١ ـ مسألة
فيما لو باع واحدٌ شيئاً على رجلين ..
فرغ من تحريرها
في ثامن ذي الحجّة الحرام سنة ١٣١١ هـ.
١٢ ـ مسألة
الشيخ حسن علي في الصلح.
تمّ تحرير
إجابتها باليوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام سنة ١٣١٢ هـ.
١٣ ـ استبصار
المخالف بعد الحجّ.
فرغ من تحريرها
في الحادي والعشرين من شهر صفر سنة ١٣١٣ هـ.
١٤ ـ مسألة في
الوصيّة.
١٥ ـ مسألة في
مَنْ رجع ولم يخبر الزوجة بالرجوع حتى تزوّجت.
١٦ ـ مسألة في
جواز الأخذ من المجتهدين والمحدّثين وتقليد كلّ منهما من آحاد الفريقين.
وهذه المسائل
الأربعة مرسلة من قبل الشيخ محمّد البحراني ، فرغ من تحرير إجاباتها في صبيحة
الجمعة السادس عشر من شوّال سنة ١٣١٢ هـ.
١٧ ـ مسألة في
الشفاعة.
١٨ ـ مسألة عن
معنى «وفي قلوب
من والاهُ قبره».
حرّرها بالليلة
الثالثة من شهر ربيع الأوّل سنة ١٢٩٨ هـ ، ونسخها ابنه الشيخ محمّد صالح رحمهالله تعالى في ربيع الأوّل سنة ١٣١٨ هـ.
منهج
التحقيق :
اعتمدنا في
تحقيق الكتاب على منهج التحقيق الجماعي ، لذا توزّعت لجان العمل كالآتي :
١ ـ لجنة الصفّ
والإخراج الفني ، وقد تألّفت من الأخوة : بهاء الكوفي ، مصطفى علي الحاج ، أبي
حسين البصري ، حامد عباس الربيعي.
٢ ـ لجنة
المقابلة ، وقد تألّفت من الأخوة : السيّد حبيب الموسوي ، السيّد علي عمّار
الغريفي ، مسلم النجفي ، حسام الدين النايف.
٣ ـ لجنة تخريج
المصادر ، وقد تألّفت من الأُخوة : علي مهدي الحسيناوي ، محمّد عدنان السرّاجي ،
أبي حسن الساعدي.
٤ ـ لجنة تقويم
النصّ ، وقد تألّفت من الأخوة : عبد الستار عبد الحسن فرج الله ، عبد اللطيف تألى
الحلفي ، علاء حسن الناصري ، رياض عبد الصمد القطراني.
٥ ـ متابعة
التحقيق والمراجعة النهائيّة.
وقد جعلنا في
آخر الكتاب فهارس عامّة تسهيلاً على القارئ المحترم ، وهي :
١ ـ فهرس
الآيات.
٢ ـ فهرس
الأحاديث والروايات.
٣ ـ فهرس المعصومين
عليهمالسلام.
٤ ـ فهرس
الأعلام.
٥ ـ فهرس الفرق
والمذاهب.
٦ ـ فهرس
الأماكن.
وفي
الختام : نسأله تعالى
أن يوفّقنا لإحياء المزيد من آثار أعلامنا ، راجين منه عزوجل العون والتسديد ، إنّه خير موفّق ومعين.
|
دار
المصطفى لإحياء التراث
٢١
/ ١١ / ١٤١٩ هـ
|




الحقّ الواضح
في أحوال العبد الصالح
الشيخ علي
البلادي
بسم
الله الرحمن الرحيم
وبه نستَعين
مقدّمة المؤلّف
الحمد لله الذي
خلقَ الموتَ والحياةَ ؛ ليبلوَ عبادَه أيُّهم أحسنُ عملاً ، وجعلَ
الدنيا مضماراً لاستباق خلقه فيها إلى الدرجات العُلى ، والصلاةُ والسلامُ على
أفضل خليقته وأكمل بريّته محمَّدٍ المصطفى وآلِه الطاهرين ساداتِ الملا ، أوّل
صادرٍ من المبدإ الأَعلى ، وأَوّل سابق في جواب ( أَلَسْتُ )؟ بـ ( بَلى ) ، ورضيَ اللهُ عن علمائهم ، ومربِّي أيتامهم والمقتفين
لآثارهم كَمَلَا.
أما بعد : فيقول
الفقيرُ إلى رحمة ربِّه الملكِ الصمدانيِّ علي ابن المرحوم الشيخ حسن ابن المقدس
الشيخ علي ابن المرحوم الشيخ سليمان البلادي البحراني ، عفا
__________________
الله تعالى عنهم ، وعن جميع المؤمنين والمؤمنات ، وحشرهم في زمرة محمدٍ
وآلِه الطاهرين الهداة ، عليهم أفضل الصلوات.
وفاة المترجم
إنه في الساعة
السابعة من ليلة الأربعاء ليلة عيد الفطر أو ثانيه على الخلاف في رؤية الهلال سنة (١٣١٥)
، الخامسة عشرة وثلاثمائة وألف من هجرة سيد المرسلين صلىاللهعليهوآله الطاهرين انتقل من دار الفناءِ والبوارِ ، إلى دار
البقاء والقرار ، عمدةُ علماءِ هذا الزمان ، وصفوةُ فضلاءِ هذا الأوان ، محقق
الأُصول والفروع ، جامعُ المعقول والمشروع ، سلمان دهره في الزهد
والتقوى ، وأبو ذر عصره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه
الأكمل الأقوى ، العالمُ
__________________
العامل الروحانيُّ ، والعارفُ الصمدانيُّ ، شيخُنا ووالدُنا الروحانيُّ ،
التقيُّ الأسعد ، الصالحُ ، الشيخُ أحمد ابن العالم العامل المبرور الشيخ صالح البحراني تغمده
الله برحمته وغفرانه ، وأسكنه دار كرامته ورضوانه ، وحشرنا وإيّاه وآباءنا
والمؤمنين في أعلى علِّيِّين ، مع محمد المصطفى وآله الطاهرين ، صلىاللهعليهوآله الأكرمين المعصومين ودفن يوم الأربعاء ، وهو اليوم الذي
دُفِن فيه سيِّدُ المرسلين ، وخاتمُ النبيين صلىاللهعليهوآله أجمعين.
تشييعه ودفنه
وقد صار له من
التشييع والإجلال ، ما لم يكن يتفق لأحدٍ من العلماء الأبدال. كان يوم وفاته
القيامة الصغرى ، والخلقُ مِنْ فقده بلا شعورٍ سكرى ، وحقَّ لهم ذلك ؛ إذ كان
كعبتَها التي تشدُّ إليها الرواحل ، وبحرَها المَراج الذي لا يوجد
له ساحل ، وبَدْرَها الوهاج الذي انعقدت عليه الخناصر ، وغيثها الهَطّال في الموارد
والمصادر. ودفن قدسسره في قرية ( الغريفة ) من ( ماحوز ) من بلاد البحرين ،
بجنب مسجدها ، في الحجرة التي فيها قبر العالم الربانيِّ ، والفيلسوف الصمدانيِّ ،
المحقِّق المدقِّق ، الشيخ ميثم البحرانيِّ ، شارح ( نهج البلاغة ) بالشروح الثلاثة ، وغيرها ، من
التصانيف الجليلة.
وقد رآه قدسسره في المنام ، في مرضه الذي تُوفِّي فيه أو قبله بقليلٍ
من الأيام ، يستجفيه
__________________
ويستدعيه للزيارة. والحال أنه من قريبٍ قد زاره ، فأَوَّلها المرحومُ رحمهالله بالمجاورةِ الطويلة. فلهذا أوصى بأنه يدفن بجنب قبره ،
تغمَّدهما الله برحمته ورضوانه.
واتفق له قدّس
سرِّه ، ونوِّر قلبُه عند الدفن من الكرامات ما تواتر نقلُه عن الثقات. فقبره الآن
مزارٌ مشهورٌ ، وكعبةٌ تطوف الخلقُ عندها وتدور ، وملجأٌ يلجئون إليه النّاس ؛
لإجابة دعواتهم ؛ وإنجاح طلباتهم. ولقد أجاد من قال فيه من أهل الكمال :
ليهنِك يا
قبرُ مَنْ ذا حويتَ
|
|
حويتَ
العلومَ وعرفانَها
|
حويتَ الهُدى
والتقى والندى
|
|
بمَن فاقَ
بالسبقِ أقْرَانها
|
حويت خليفة
آل الرسول
|
|
فطلت بعلياه
كيوانَها
|
مأتمه
واتّفق له
أيضاً ما لم يتَّفق لغيره من العلماء الأعلام ، بل ولا الملوك والحكّام الذين
يجبرون الناس ولا سيما في مثل هذا المقام ، أن سوق البحرين على اختلاف مللها
وأديانها ، عطِّلت وغلِّقت سبعة أيام عن البيع والشراء وجميع المهام ، ونُصِبَت له
المآتمُ في كلِّ مكان ، وقاموا فيها بنشر شعار المراثي والأحزان.
أُقيمت عليه من
المآتم في القطيف والبحرين خاصة دون غيرهما من البلدان ، كالأنجة والمحمَّرة
والبصرة والنجف والأشرف ما يقارب من مائة وخمسين مأتماً ،
__________________
ولم نرَ نحنُ ولا غيرُنا ، صدر هذا الشأنُ في سائر الأزمانِ لغيره من
العلماء والأعيان.
مولده ومبدأ اشتغاله
وقبض رضى الله
عنه ، وله من العمر خمس وستون سنة ، تنقص قليلاً ؛ لأنّ مولده قدسسره سنة خمسين ومائتين وألف ، كما سمعته منه رحمهالله ، ووجدته بخطِّ والده الصالح ، مؤرِّخاً لولادته في
أبيات ، موضع التأريخ منها : ( هذا بجوده ظفرنا ).
ووفاته سنة
الخامسة عشرة وثلاثمائة وألف ، كما تقدم. وأصله رحمهالله من ( مركوبان ) قرية من قرى سترة من جزيرة البحرين ثم
انتقل مع والده الصالح قدسسره إلى منامة البحرين ، واشتغل في مبدأ أمره برهةً من
الزمان عند العالم العامل التقيِّ السيِّد عليٍّ ابن المرحوم
السيد محمد ابن المبرور السيد إسحاق البلاديِّ البحرانيِّ رضى الله عنه ، في النحو
والصرف ، والمنطق ، والقراءة ، ونحوها ، حتى أذعن له هو وغيرُه بالفضيلة التامة.
وقرأ ( شرح الباب الحادي عشر ) ، للمحقق الشيخ مقداد السيوري
الحلّي رضى الله عنه عند العالم الأوّاه الشيخ عبد الله ابن الشيخ عباس الستريِّ
البحرانيِّ ».
سفره إلى النجف الأشرف
وبقي مقدار
ثلاث سنين في البحرين لم يحضرْ عند أحد مشتغلاً بالتصنيف والتأليف ، وأجوبة
المسائل الواردة عليه من البحرين وغيرها. ثم وفَّق الله الخيِّر الصالح ، الخال
الحاج صلات جزاه الله خير الجزاء والصِّلات فسعى في رواحة
__________________
للنجف الأشرف ؛ للحضور عند علمائها ، وقام بما يحتاج إليه من النفقات ؛
لضعف حال والده المرحوم. فمضى للنجف الأشرف ، واشتغل مدةً من الزمان ، على جملةٍ
من الفضلاء والأعيان :
منهم
: العالمُ
المرتضى ، والحسامُ المنتضى ، علّامة العلماء ، الشيخ مرتضى الأنصاريُّ ، من ذرِّيَّة
جابر بن عبد الله الأنصاريِّ ، الصحابيِّ رضى الله عنه.
ومنهم
: العالمُ
العلّامةُ ، الفقيه الأُستاذ ، الشيخ محمد حسين الكاظميُّ النجفيُّ .
ومنهم
: العلّامةُ
الفهّامة الصفيُّ ، الشيخ راضي الفقيه النجفي.
وغيرهم.
ثم اتفق وفاة
والده الصالح ، ووالدي التقي المؤتمن الشيخ حسن في سلوكهما لمكَّة المشرفة والخال
الصالح الحاج صلات ، والعلّامة المرتضى ، في سنة واحدة هي سنة (١٢٨١) هـ. والكلُّ
له مدخلٌ في إقامته وإن كان الخال الحاج صلات رحمهالله هو السبب التامّ ، وهذا من صنيع الدهر الخوان مع
الكرام.
رجوعه إلى البحرين
فتعذَّر عليه
الجلوس في النجف الأشرف ؛ لضيق المعاش ، فرجع إلى بلاده ( البحرين ) ، ملآنَ من العلوم
والمعارف ، ولم يرجع بخُفَّي حنين .
__________________
فهناك قطن فيها
وسكن ، وهمى غيثُ جوده وهتن ، وقصدته الخلق لأجوبة المسائل ، وتحقيق الحقائق
وتنقيح الدلائل ، وصار كعبةً تُشدُّ إليها الرواحل. واشتغل بالتصنيف والتدريس ،
وحضر عنده من طلبة العلم والأدب ، من العجم والعرب جمعٌ كثير. وقد عرض بعض
مصنَّفاته ، التي كتبها قبل رواحة للنَّجف الأشرف على علماء ذلك النادي المشرَّف ،
فاستحسنوها ، وأقروا له بالفضيلة.
وقد أعرضَ طاب
ثراه عن طلب الإجازات من علماء النجف الأشرف وغيرهم ؛ تورُّعاً وتوقُّفاً عمّا
ربّما يُتوهَّم أن ذلك لأغراضٍ دنيويةٍ ؛ فلهذا أعرض عنها بالكليّة.
نعم ، لمّا
صنّفَ كتاب ( زاد المجتهدين في شرح بلغة المحدثين ) في علم الرجال ، اضطرّ إلى أخذ
إجازة ؛ ليذكر سلسلته هناك ، كما هو مقرَّرٌ عند علماء ذلك الفن ، فاستجاز من بعض
السادة العلماء الكبار ، فأجازه إجازةً عامة.
فأقام بالبحرين
مقدار سنتين ، ثم سافر للعتبات العالية بقصد الزيارة مع الأولاد والعيال.
نزوله في القطيف
فلمّا وصل إلى
القطيف ، وكانت على الطريق ، ومعه زوارٌ منها ، سمع بورود محمد بن خليفة حاكم
البحرين هناك وهو يريد الرَّواح للبحرين ليَأْخُذَها من يد أخيه علي بن خليفة
عنوةً. واجتمع معه عدَّةٌ من الأعراب ، فخاف قدسسره من رواحة إليها ، ومصادفته ما يقع فيها ؛ فاستخار الله
تعالى على النزول في القطيف حتى تنكشف حقيقة الحال ، فخرجت الخيرة على نزوله
القطيف أمراً ، وعلى رواحة البحرين نهياً.
وكان معه
جماعةٌ من أهل البحرين زوّار فألحّوا عليه ، والتمسوا منه أن يمضي معهم ، فتعذَّر
منهم بسبب الخيرة ، ووقوعِ هذا الخبر الموجب للتوقف والحيرة ، فنزل في القطيف. ثم
بعد يومين من نزوله فيها ، وقعت الواقعة العظيمة الكبرى في البحرين ، فسلَّمه الله
تعالى ومَنْ معه منها ومن كل شين ، وتلفت له فيها كتب كثيرة
وأثاث البيت.
فلما سكن ما
بالناس ، وأمنوا بعض الأمن ، سافر هو رحمهالله بنفسه إلى البحرين ؛ لاستنقاذ ما يحصل من كتبه بشراءٍ
وغيره ، فأقام بها أيّاماً قليلةً ، واستنقذ ما تمكّن منه ، ورجع إلى القطيف ؛ إذ
كان فيها أولادُه وعياله ، ولعدم استقرار أهل البحرين ؛ من وقوع تلك الواقعة ،
وتفرقهم في كل ناحية. فأقام في القطيف مواظباً على الطاعات ، ملازماً للواجبات
والمندوبات ، والتدريس والجماعات ، فأقبل عليه أهلُ تلك الديار ، وصار مرجعاً في
الإيراد والإصدار.
وكان من عناية
الله تعالى به ، وتوفيقه له أنَّ العالم الفاضل الأوّاه الشيخ ضيف الله ابن المقدس
الشيخ سليمان بن سيف قد كتب إلى العلامة الأمين ، الشيخ محمد حسين الكاظمي قدسسره المتقدّم ذكره بعض المسائل ، وكان أكثر أهل القطيف
مقلِّديه ، وقد سمع بنزول شيخنا الصالح المذكور تغمده الله بالحبور عندهم ، فكتب
إلى المرحوم الشيخ ضيف الله أن يرجع في أجوبة المسائل ، وما يحتاج إليه من الأحكام
والدلائل إلى شيخنا المذكور ، وأنّه أهلٌ ومحلٌّ. فصار المذكور وغيرهُ من أهل تلك
الدِّيار ، يرجعون إليه في الموارد والمصادر ، وانعقدت عليه الخناصر ، وأقرَّ
بفضله كلُّ معاصر. فصنّف وألّف ، وقرّط الأسماع وشنّف ، كما سنذكره
إن شاء الله تعالى في تعداد مصنّفاته.
تلامذته ودراسة المترجِم على
يده
ولقد ربّى
كثيراً من الطلبة والأيتام ، وأنعم عليهم بإرشاده وعلمه غاية الإنعام ، ومنهم :
العبدُ الفقيرُ الجاني ، علي ابن المقدس الشيخ حسن آل الشيخ سليمان البحراني
مؤلِّف هذه الترجمة فإنّه رحمهالله كفلني وربّاني ، وقرّبني وآواني ، وقدَّمني على
__________________
أولاده فضلاً عن أقرأني ، وزوَّجني بابنته وحباني ، وفوّض إليَّ أموره في
حياته ، وجعلني وصيّاً إليه على وصاياه ووليّاً على أولاده بعد وفاته. فجزاه الله
عني وعن جميع المؤمنين والمؤمنات أفضل الجزاء ، وحباه أحسن الحباء ، بحق محمد وآله
الطاهرين النجباء ، صلوات الله عليهم عدداً لا يحصى.
واشتغلتُ عنده
برهةً من الزَّمان في القطيف ، في النحو والصرف ، والمعاني والبيان والبديع ،
والفقه ، والتوحيد. ثم سافرت إلى النجف الأشرف ، وتطفَّلت على الحضور عند جملةٍ من
علمائها ، وقلعة من فضلائها ، كالمقدس الشيخ محمد حسين المتقدّم ذكره قدسسره وشيخنا الفاضل ذي المجد والشرف ، الشيخ محمد طه نجف نُوِّر قبره ـ
، وشيخنا الأنجب الشيخ محمود ذهب ، وسيِّدنا التقيِّ الصفيِّ ، السيِّد مرتضى الكشميري
النجفي قدَّس الله روحيهما ثم رجعت إلى القطيف مجاوراً له ، قدس الله روحه وتابع
فتوحه.
ذهابه إلى البحرين في بعض
الأشهر
وقد طَلب منه
رضى الله عنه أهلُ البحرين مراراً بعد استقرارهم فيها من تلك الواقعة المتقدِّم
ذكرها الرواحَ إلى بلادِهم ، فاعتذر منهم ، ثم ألحّوا عليه ثانياً ، وثالثاً ، فلم
يجبهم.
فلما علموا أنه
لا يجيبهم مستقلا بجميع عياله ، طلبوا منه الرواحَ إليهم ولو بعضَ السنة خمسة أشهر
، أو أزيد ، أو أقل مع بعض العيال ، ورغّبوه في ذلك ؛ لإرشاد
__________________
الجهّال ، واحتياجهم إلى هديه وهداه على كل حال. فلمّا رأى كثرة إلحاحهم ،
وعَلِم باحتياجهم ، أجابَهم إلى ما طلبوا ، ولبّاهم فيما رغبوا ، فانتقل إليهم
ببعض العيال في كلِّ سنة مقدار أربعة أشهر أو خمسة ، ثم يرجع إلى وطنه في القطيف ،
حتّى دعاه الله إليه في بلاد البحرين ، فلبّاه وأجرى عليه فيها حكمَه وقضاه ، قدّس
الله تربته الزكية ، وأفاض عليه المراحمَ الربانية.
مؤلّفاته
وله من
المصنّفات الجليلة ، والرسائل النبيلة ، المشبوعة من التحقيق
والتدقيق ، ما يستحق أن يُكتب بالنور على جبهات الحور ويليق :
فمنها
: الرسالة
المسماة بـ ( قُرَّة العين في حكم الجهر بالبسملة ، فيما عدا الأُوليين ) مبسوطة
جدّاً.
ومنها
: رسالة لطيفة ،
مختصرة منها.
ومنها
: نقض الرسالة
التي صنَّفها الفاضل التقيُّ الشيخ عليٌّ ابن الشيخ عبد الله الستريِّ ، حيث ذهب فيها إلى وجوب
الإخفات بالبسملة في الأخيرتين ، تبعاً لابن إدريس رضى الله عنه.
ومنها
: رسالة في
الحبوة ، اختار منها إدخال الكتب العلمية ولو بالصلح ، وفاقاً لبعض القدماء من
الأصحاب.
ومنها
: الرسالة
المسمّاة بـ ( منهاج السلامة في حكم الخارج عن بلد الإقامة ) مبسوطة.
__________________
وله رحمهالله في تصنيفها مع بعض فضلاء العصر ، الساكنين في البصرة
قصَّةٌ عجيبةٌ ، يطول شرحها .
ومنها
: رسالة عجيبة
سمّاها ( إقامة البرهان ، على حلِّية الإربيان ) ردّاً على بعض محشّي ( اللمعة ) ،
حيث استشكل في حلِّيته زاعماً أنه ( الرّبيثا ) ، المنهي عنه في بعض الأخبار .
ولقد أجاد فيها
شيخنا وأفاد ، وطابق نهج السداد.
ومنها
: كتاب ( زاد
المجتهدين ، في شرح بلغة المحدِّثين ) ، في علم الرجال. وهو كتاب مبسوط بالدلائل ، مشحون من
الفوائد ، لم يعمل مثله ، ولم يتمَّ ، ولو تمَّ لتمّ علمُ الرجال بتمامه. برز منه
مجلَّد كبير.
ومنها
: ( الدرر الفكرية ، في أجوبة المسائل الشبَّرية ). مجلَّد
في جواب أربع مسائل في أُصول الفقه ، أرسلها السيِّد الأفخر السيِّد شبَّر ابن
السيِّد علي ابن السيِّد مشعل البحراني من ( المحمَّرة ) لوالده الصالح ، الشيخ صالح رحمهالله فأجابه شيخنا رضى الله عنه عن والده.
ومنها
: ( ملاذ العباد في تتميم السداد ) في الأُصول والاجتهاد.
مجلَّد ، اختار فيه جواز تقليد الأموات ، ثم احتاط فيه أخيراً بالمنع. وكان تصنيفه
له قبل رواحة للنجف الأشرف ، على مشرِّفه السلام.
ومنها
: رسالة حسنة ،
مسماة بـ ( كاشفة السُّجُف عن موانع الصّرف ). مجلَّد حسن ، عملها بالتماس والدي
المقدَّس قدس الله روحيهما.
وله رسائل
وأجوبة تبلغ مجلَّدات.
__________________
وله من النظم
الرائق ، والشعر الفائق منظومةٌ في الفقه ، نظم ( النخبة ) ، للملإ محسن الكاشاني بلغ
فيها إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مقدار ألفي بيت.
ومنها
: ( العمدة نظم الزبدة ). ( زبدة الأُصول ) لشيخنا البهائي
عليهما الرحمة.
ومنها
: ( المنظومة السهويَّة والشكِّيَّة ). منظومة حسنة عملها
بالتماس بعض المتديِّنين ، نظم فيها أحوالَ السهو والشكِّ ، وذكر فيها فتاوى
مشاهير العصر ، حجج الإسلام كالميرزا الشيرازي ، والسيِّد المهدي القزوينيِّ ، والشيخ محمد
حسن آل ياسين الكاظميِّ ، والأُستاذ الشيخ محمد حسين الكاظميِّ أعلى الله
مقامهم في دار السلام يشير إلى كل واحد بإشارةٍ مفهمة ، ويشير إلى اختياره هو
أيضاً.
وله : منظومة
في التوحيد ، مليحة جدّاً ، لم تتمَّ.
ومنها
: ( الصحيفة الصادقية ) ، مشتملة على
الأدعية الواردة عن الإمام الناطق
__________________
بالحقِّ جعفر بن محمد الصادق عليه وعلى آبائه وأبنائه الكرام أفضلُ الصلاة
والسلام كبيرة جدّاً ، بترتيب عجيب ، ونمطٍ غريب. ذكر أولاً أدعية الطهارة ، ثم
الصلاة ، ثم بقية العبادات ، ثم الحروز والعِوَذ والاستغاثات. وهو فخر للفرقة
الناجية على وضوح فخرهم ، ونورٌ على إشراق نورهم ، سمّاها بـ ( التحفة الأحمدية
للحضرة الجعفرية ).
ومنها
: رسالة في (
العقل وأقسامه ) ، مليحة جدّاً.
ومنها
: ( قبسة العجلان في وفاة غريب خراسان ) . عملها في
بندر جدَّة عند رجوعه من حج بيت الله الحرام ، وزيارة قبر النبي وآله عليه وعليهمالسلام.
ومنها
: رسالة لطيفة
على شرح ( زكاة السخال ) من شرح ( اللمعة ). قرأها عليه بعضُ تلامذته. حسنة جيدة.
وله
: ( الرسالة العاشورية ) ، في تحقيق صوم عاشوراء. فيها
فوائد جمة.
وله
: حواشٍ مفيدة
على كثيرٍ من الكتب ، سيّما كتب الرجال ، كالميرزا الكبير وغيره.
وله
: كتب ابتدأ في
تصنيفها ثم صدّه عنها ما هو أهم ، كشرح على ( اللمعة ) ، و ( سلَّم الوصول إلى علم
الأُصول ).
__________________
شعره
وله من الشعر
الفائق ، ما هو عند أهل الكمال كالسِّحر الحلال ، في مدح النبي والآل عليهم صلوات
ذي الجلال جمع بعضُ المؤمنين بعضاً من ذلك في ديوان حسن ، وطبع في بومباي .
وله القصيدة
الميمية المرفوعة ، جاري بها الملك أبا فراس ، في مثالب بني العباس ، أوّلها :
الحقُ نورٌ
عليه للهدي علمُ
|
|
مَنْ أَمَّه
مستنيراً قاده العَلم
|
وله البديعية
الفريدة ، في مدح الأمير عليهالسلام وأبنائه الكرام عليهمالسلام ، أوّلها :
بديعُ مدحي
عليّاً إذ علا قلمي
|
|
براعةٌ
تستهلُّ الفيضَ مِنْ كَلِمي
|
وله قصيدتان
فريدتان ، في رثاء أُستاذه حجَّة الإسلام الشيخ مرتضى الأنصاري
تغمده برحمته الباري إحداهما ضاديَّة ، أولها :
لله سهمٌ
سدّدتهُ يدُ القضا
|
|
فأصابَ كلَّ
الخَلْقِ حتى مَنْ مَضَى
|
والثانية
نونيَّة ، أولها :
__________________
اللهُ أكبرُ
حُلَّ عِقْدُ الدين
|
|
ورُميْ
الهُدى فهوى على العرنين
|
وسمعتُ منه قدسسره أنَّ السيِّد السند ، السيِّد أسد الله ابن المرحوم
حجَّة الإسلام السيِّد محمد باقر الأصبهانيِّ كان مغرماً بهذه النونيّة ، حتى إنه
مدة شهرين من وفاة المرحوم المرتضى رضى الله عنه يستدعي القارئ وهو القارئ الشيخ
علي الحمامكي ويأمره بإعادة قراءتها ؛ إعجاباً بها ، قدس الله أرواحهم.
خلاصة القول
وبالجملة ،
فهذا الشيخ قدسسره قد حاز من كلِّ كمال أكملَه ، ومن كلِّ جمالٍ أجملَه.
كان أعلى الله مقامه عالماً عاملاً ، تقيّاً نقيّاً ، كاملاً ورعاً ، فاضلاً
زاهداً عابداً كريماً ، متواضعاً حليماً ، قلّما اتفقت لغيره من العلماء الأعلام ،
وهذا لعمري غاية كمال الإنسان وفخره.
وها أنا ذا
ذاكر بعض ما قاله فيه الأُدباءُ الكملاء ، من المراثي الرائعة الفائقة ، لئلا
تكون دعوى مجردةً من الدليل ، والله الهادي إلى سواء السبيل.
قال أميرُ
المؤمنين علي سلام الله عليه في العهد الكبير ، الذي كتبه لمالك الأشتر ( رضوان الله عليه ): «وإنّما يُستدلُّ على الصالحينَ ، بما يَجْرِي
لهم على ألْسِنَةِ
__________________
عِبادِهِ» .
المراثي
يقول الأحْقر
حسين ابن المؤلِّف لهذه الترجمة اللطيفة ، زاد الله في الخلد تشريفه : إلى هنا
انتهى كلامه ، وحيث إن خدمتهما كليهما واجبة على قنِّهما ، عزمتُ على أن أنقل هنا
قصيدتين فاخرتين ، وبهما استكفي ، والله الموفق.
فأقول
: ممّن رثاه
زينُ المجتهدين المحقِّقين ، وفخرُ الفضلاء المدقِّقين شيخُنا التقيُّ الأفخر ،
الشيخ حسن علي ابن المبرور الشيخ عبد الله بن بدر الخطي قدسسره ، ونوِّر قبره ، قال لله درّة :
طرقتكِ يا
أُمَّ العلومِ
|
|
فقماءُ تُذهب
بالحلومِ
|
وأرتك في
الظهرِ الكواكب
|
|
فاقعدِي
جزعاً وقومي
|
وأتتك تنْسفُ
راسيا
|
|
تِ العلمِ
بالريحِ العقِيم
|
وتلفُّ
ألويةَ الشريعة
|
|
رأيَ عينِك
كالرقيم
|
خلعت على وجه
ألزما
|
|
ن براقع
الجهل الفخيم
|
__________________
فتغيَّبَتْ
شمسُ الهداية
|
|
في دُجى
الليلِ البهيم
|
قطعت يدُ
الدهر القطيعة
|
|
ساعِدَ
الشرفِ القديم
|
يا أيُّها
الدهرُ المشوم
|
|
قُتِلتَ من
دَهْرٍ مشوم
|
هل تدري ماذا
لا دريت
|
|
فعلتَ
بالشرعِ القويم
|
طاحتْ شظايا
قلبهِ
|
|
ما بينَ
أنيابِ الهمُوم
|
بمصيبةٍ
أحللتَها
|
|
بفناءِ
أنديهِ العلوم
|
هتفَ النعيُّ
بمَنْ وطى
|
|
بنعالِه هامَ
النجوم
|
فرمى
المكارمَ مِنْ قسيِّ
|
|
النعي أسهمة
الوجوم
|
سحبت أراقمُ
نَعيِه
|
|
قصداً
لأفْئدةِ الشهوم
|
فغدوا ولا
أيّوب إلا
|
|
وهو يعقوبُ
الغموم
|
يذري
الحُشاشةَ أدمعاً
|
|
حمراً أحرَّ
من الحميم
|
نُسفت رواسي
عزِّه
|
|
بزعازع
الخطبِ الجسيم
|
خطبٌ لهُ
ذهبَ الأسى
|
|
بحلُوم
أَربابِ الحلوم
|
يا مزهراً
بحنادس
|
|
الأسحارِ
بالذّكرِ الحكيم
|
متململاً
يبدي الخشوع
|
|
تململَ
الرجلِ السليم
|
أفديكَ كَمْ
سدلَتْ يدَ
|
|
الاشكالِ
جُنحَ دجًى بهيم
|
فطويته ببيان
شمس
|
|
بيانِكَ
الشافي العظيم
|
__________________
وقطعتَ
بالبُرهان حجّة
|
|
كلِّ أفّاك
أثيم
|
حتى إذا شاءَ
الإله
|
|
لِقاكَ في
دارِ النعيم
|
عرجتْ بك
الروحُ الكريمة
|
|
نَحو بارِئها
الكريم
|
وأقامَ
جسمُكَ في البسيطة
|
|
أنْ تميدَ
مِنَ الجروم
|
أفديكَ أحمدُ
مَنْ جرت
|
|
بثناه ألسنةُ
الخصوم
|
وأحقُّ مَنْ
لَهِجت له
|
|
الأشرافُ
بالذكرِ الحكيم
|
لم يَبرَ
ذاتَك ربُّها
|
|
إلا لإحياءِ
العلوم
|
فأتيتَ تصدعُ
بالبيان
|
|
كما امِرْتَ
بلا وجوم
|
آهٍ ولمّا أن
عزمت
|
|
على الرحيل
إلى النعيم
|
وأردتَ
إهداءَ الأنام
|
|
إلى الصراطِ
المستقيم
|
أوصيتَ باب
علومِك
|
|
ـ الهادي إلى النهج القويم
|
مصباحَ ليلِ
المشكلات
|
|
إذا
ادْلهَمَّ على عليم
|
سُمِّي علياً
مذ علا
|
|
شرفاً على
هامِ النجومِ
|
ولئن جللت
فجلَّ في
|
|
الإسلامِ
فقدُك من عظيم
|
فلقد تجلّت
شمسُ عل
|
|
ـ مِك في ابنِك البَرِّ
الكريم
|
ولئن رمى
ركنَ الشريعة
|
|
رزء فقدِك بالهجوم
|
فهنا محمد صالحٍ
|
|
لبناءِ هاتيك
الثلوم
|
__________________
فليثلجنّ
فؤادها
|
|
منه بأنفاسِ
النسيم
|
ولتمسحنَّ
بكفّه
|
|
سيّالَ
مدمعِها السّجوم
|
أعلِي أربابَ
العلا
|
|
ومحمدٌ في
كلِّ خيم
|
سعدتْ بطولِ
بقاكما
|
|
ـ الدنيا وأندية العلوم
|
وممن رثاه
فأغرب ، وشنَّف الأسماعَ فأعجب ، إنسانُ عين الكمال والأدب ، الفاضلُ الزكيُّ
المؤتمن ، الشيخ علي ابن الحاج حسن الجشِّيِّ حفظه الله قال ، دام عزُّه وبقاه :
رمى غائلُ
الدهر نفسَ الهدى
|
|
فهدَّ قواها
وأركانَها
|
رمى أحمداً
فأصابَ الورى
|
|
جميعاً
وأوحشَ أزمانَها
|
فيا ناعياً
أحمداً هلْ
|
|
ترى لَظى
الخطب ما عمَّ إمكانَها
|
أيخفى غروبُ
شموسِ الهدى
|
|
على ناظرٍ
حلَّ أكوانَها
|
فَدَعْ نعيه
فنفوسُ الورى
|
|
تكادُ تفارق
جثمانَها
|
فللهِ خطبٌ
دهى العالمينَ
|
|
فأصبحَ ذو
اللبِّ حيرانَها
|
فويحكَ يا
دهرُ مَنْ ذا رميتَ
|
|
أصبتَ من
الخلق إنسانَها
|
فذي المكرمات
تصوبُ الحشا
|
|
دموعاً
لِمَنْ شادَ بنيانَها
|
وتلكَ
المعالي عراها الأسى
|
|
لِمَنْ عقدتْ
فيه تيجانَها
|
وتلك
المفاخرُ قد الحدت
|
|
بقبر تضمَّن
عنوانَها
|
ليهنكَ يا
قبرُ مَنْ ذا حويت
|
|
حويتَ العلوم
وعرفانَها
|
__________________
حويتَ الهدى
والتقى والندى
|
|
بمَنْ فاق في
السبق أقرانها
|
حويتَ خليفةَ
آل الرَّسولِ
|
|
فطلتَ بعلياه
كيوانَها
|
فتلك
المساجدُ قد أوحشت
|
|
لفقدِ الّذِي
في الدجى زانها
|
وتلك
الشريعةُ تبكي على
|
|
فقيدٍ يبيِّن
برهانَها
|
تكفَّل
إيضاحَها ميّتا
|
|
تكفُّله حيَّ
تبيانِها
|
فأودعها
الكُتُبَ حفظاً لها
|
|
وأوصى الّذي
حاز عرفانها
|
عليّاً يقومُ
بأمر الإله
|
|
إذا قعدَ
الفجر كثلانها
|
فقام به خيرُ
مستودع
|
|
يبيِّن
للخلقِ عِنوانَها
|
وخلَّف فينا
حميدَ الفعال
|
|
ومَنْ بالتقى
فاقَ أقرانها
|
محمَّد صالح
نجم الفخارِ
|
|
وعينَ
المعالي وإنسانَها
|
هو الفرعُ من
أحمد الصالحين
|
|
فلا غرَو إن
طال كيوانها
|
هو الغصن
مندوحة المكرمات
|
|
فيا سَلَّم
الله أغصانها
|
وخلَّد فينا
الوصيَّ الأمينَ
|
|
ومن للعلا
شاد أركانَها
|
أعترةَ أحمد
مَنْ فيهمُ الخلائقُ
|
|
تألفُ
سلوانها
|
لكم أحسنَ
اللهُ فيه العزا
|
|
وجاورَ في
الخُلدِ رحمانَها
|
أقول
: بنهاية هذه
القصيدة ، ينتهي ما أورده العلامة القديحي طاب ثراه وقد ذكر العلّامة الشيخ فرج
العمران في كتابه ( الأزهار الأرجيّة ) خمس قصائد تحت عنوان : تأبين العالم الربّاني الشيخ
أحمد ابن الشيخ صالح آل طعان المتوفّى صبيحة عيد الفطر (١٣١٥) هـ.
__________________
منها
: القصيدتان
المذكورتان.
والثالثة
: للشيخ عبد
الله ابن الشيخ ناصر بن نصر الله المتوفّى سنة (١٢٩٩) هـ.
والرابعة
: للعلامة الشيخ
محمد ابن الحاج ناصر بن علي بن نمر المتوفّى سنة (١٣٤٨) هـ.
والخامسة
: للعلامة الشيخ
محمد بن عبد الله الزهيري المتوفّى سنة (١٣٢٩) هـ. وقد رأيت ذكرها إكمالاً
للفائدة.
القصيدة
الثالثة :
قد نعى ناع
فأعمى للهدي
|
|
وكسا الإسلام
ثوباً أسودا
|
وغدا الايمان
يدعو هاتفاً
|
|
وا فؤادي
قددّوه قددا
|
وشموس الدين
حزناً كسفت
|
|
وخبت أنوارها
إذ فقدا
|
من بقاه
اقتبست أنوارها
|
|
فهي لا تشرق
ما امتد المدى
|
كيف والأعين
منها انطمست
|
|
حيث قد
فاجأها ذاك الندا
|
ونجوم لسما
المجد هوت
|
|
تبعاً للمجد
لما سجدا
|
وبحار العلم
بؤساً نضبت
|
|
حيث لما أن
فقدن المددا
|
وجبال الفضل
قد دكدكها
|
|
حادث أوهن
منها العضدا
|
حركات
للمعالي سكنت
|
|
جزمتها
عاملات للردى
|
بل وما يفرض
من محمدة
|
|
لم تقم
راياتها حيث غدا
|
من هو الروح
لها تحت الثرى
|
|
شغفاً قد ضمه
مستحمدا
|
شاكراً
مفتخراً مهما بقي
|
|
فسما إذ ضم
ذاك الأوحدا
|
خلفاء الشيخ
أنعم بكم
|
|
أسره منه
استفادوا المددا
|
منهلا أكرم
به من منهل
|
|
قد حلا من
ريقه واستشهدا
|
ضربوا في
المجد بيتاً لم يزل
|
|
ملجأ العافين
والملتحدا
|
عرقوا في
المجد والفضل معاً
|
|
فالصلاح
اتخذوه بردا
|
أحسن الله عزاكم
وحبا
|
|
شيخنا الجنات
فيها خلدا
|
أقول
: هذا هو
الموجود من هذه القصيدة وقد ذهب منها شطر مهم.
القصيدة
[ الرابعة ] للعلامة حجة الإسلام الشيخ محمد بن الحاج ناصر بن علي بن نمر المتوفى يوم
الاثنين التاسع من شهر شوال سنة ١٣٤٨ هـ.
لهفي على
العلم قد ثلت مبانيه
|
|
وأصبح الشرع
ينعى فقد راعية
|
والدين من
بعده أمسى بوائقه
|
|
على عماد
الورى فالكل ناعيه
|
يا ناعياً
أحمداً هلا نعيت بني الدنيا
|
|
جميعهم فالكل
يفيديه
|
يا ناعياً
أحمداً هلا خشيت على
|
|
قلب العلوم
الذي قد كان يحييه
|
لله ما صنعت
أيدي المنون بنا
|
|
يا ليتها هل
درت من ذا تواريه
|
ما كنت أحسب
أن الموت يقربه
|
|
مهابة
واحتشاماً أن يدانيه
|
لكن دعاه الى
أسنى منازله
|
|
رب السماء
فلبى أمر داعيه
|
فتلك من بعده
أيدي الخطوب بنا
|
|
قد آمنت بطشه
إذ لا تلاقيه
|
والدين من
بعده أعلامه طمست
|
|
والعلم ذا محجر
حمر أماقيه
|
فليبك أحمد
ما في الكتب من حكم
|
|
وليبك أحمد
ما في الدرس من فيه
|
فتلك من بعده
أعواد منبره
|
|
لما استقل
على الأعواد تبكيه
|
والعلم
والحكم والتقوى وكل علا
|
|
والخير في
أثره أمسى يباريه
|
ما خلفت أن
طباق الأرض تحجبه
|
|
عنا وأن تراب
القبر يخفيه
|
فان يكن جسمه
في الأرض قد دفنوا
|
|
فإنما دفنوا
قلب الورى فيه
|
يا دهر قد
نلت ما في الدين تطلبه
|
|
وقد ظفرت بما
منا ترجيه
|
يا دهر ما
للهدي حتى تعانده
|
|
فإنما أحمد
في الناس يحييه
|
يا دهر ما
للعلا حتى تبارزه
|
|
فإنما أحمد
في الناس بانية
|
فاذهب فما
أنت بالجاني على أحد
|
|
مثل البلاء
الذي بالأمس جانية
|
ويا مريد
الهدى أريابه سلفت
|
|
فالنجم أقرب
مما قد تمنيه
|
ويا مريد
الندى بالأمس قد دفنوا
|
|
ما في الندى
مطمع قد خاب راجيه
|
وقل لمن جد
في تحصيل مكرمة
|
|
إن المكارم
في أعمى من التيه
|
فابك العلوم
الى من كان يطلبها
|
|
فإن مربعها
أعفت مغانية
|
وأبك القضاء
الى من عم مشكلة
|
|
إن القضا قد
قضى مذ غاب قاضيه
|
يا ناعياً
أحمداً روح الأنام به
|
|
عز الإمام
فما في الناس ما فيه
|
فتلك آثاره
في الناس دارسة
|
|
قد غاب من
علمه للناس يرويه
|
لله قلب
الهدى ما كان أصبره
|
|
كأن قلب
الهدى مذ غاب داعيه
|
رأى محمد خير
الصالحين له
|
|
كأنه أحمد
أمسى يضاهيه
|
كذا الوصي
على بعده فبه
|
|
يسلو الأنام
عسى مما يعانيه
|
فقل عداك
البلا إن جئت نحوهما
|
|
ما أنتما
بالذي دون الورى فيه
|
بل نلتما
شرفاً من قربه وعلا
|
|
ولم ينل ذا
الورى شيئاً يسليه
|
القصيدة
[ الخامسة ] : للعالم الفاضل الشيخ محمد بن عبد الله الزهيري المتوفى في الكاظمية في
شهر جمادى الأولى سنة ١٣٢٩ هـ.
قسماً بمن
نحر الزمان له
|
|
عيد الأنام
وضمه القبر
|
العالم
المولى الكريم أخو
|
|
التقوى الأبر
الأمجد الحبر
|
العالم الملك
الذي شرفاً
|
|
يبكي عليه
البر والبحر
|
وملائك
الرحمن قاطبة
|
|
والجن
والسرحان والنسر
|
وبكت له
السبع الشداد ولا
|
|
عجب وكل الجو
مغبر
|
والدين ينعاه
وقد كسرت
|
|
منه القناة
وعزة النصر
|
وقلوب أهل
الدين هاتفة
|
|
تنعى له إذ
غاها الكسر
|
تبكي له بدم
وحق لها
|
|
هيهات منها
يقرب الجبر
|
ما بعده يرجو
أخو شرف
|
|
عيداً الى أن
يحصل النشر
|
يا خط حدي
والبسي حزناً
|
|
ثوباً ينفض
ذيله الحشر
|
فلأنت أجدر
أن فعلت به
|
|
وكذلك
البحرين بل هجر
|
والدين
والدنيا قاطبة
|
|
ومدارس العلماء
والذكر
|
وأوحشه
المحراب حيث غدت
|
|
ترثي به
الصلوات والشكر
|
ورثت له
العلماء من حزن
|
|
وكذلك
الشعراء والشعر
|
ونعت محاريب
الصلاة له
|
|
والبدر ينعى (
قوض البدر )
|
أبكي المكارم
بعده فقدت
|
|
عاق الورى عن
نيلها العسر
|
يا بحر علم
فل نائله
|
|
هلا يفيض
لرزئك البحر
|
لو غاض يوم
قضيت ما افتتنت
|
|
فيك الأنام
فما له عذر
|
عميت عيون
الدين ثم همت
|
|
منها عليك
مدامع حمر
|
وبكت عيوني
ليتها عميت
|
|
هلا إلى أن
ينقضي العمر
|
يا شيخ أحمد
أنت قدوتنا
|
|
وملاذنا
وعمادنا الذخر
|
لا يستطيع
رثاك مثل فمي
|
|
كلا ولا قلمي
ولا الحبر
|
لكن يا بن
الشيخ صالحنا
|
|
لما فقدتك
مسني الضر
|
فكأن قلبي
فيه مؤصدة
|
|
منها استتار
لما يرى جمر
|
قوضت بالدنيا
وصرت الى
|
|
جنات عدن
كلها بشر
|
دفنوك لا وقت
الربيع وقد
|
|
زار الثرى
بلقائك الزهر
|
( ما ضر قبر أنت ساكنه
|
|
ان لا يحل
بربعه القطر )
|
يكفيه ري
نداك يا مدد
|
|
الأجواد
فليستحكم العسر
|
فيهم ويمسي
الحلم مضطهداً
|
|
إذ خانه في
أهله الدهر
|
زهر الزهيري
حين أرخه
|
|
( وسم الثرا طرباً بك الزهر )
|
١٣١٥ هـ
__________________
مصادر التحقيق :
١ ـ القرآن
الكريم.
٢ ـ الأزهار
الأرجيّة ، العمران ( فرج بن حسن ت ١٢٩٧ هـ ) ، ( النجف : مطبعة النجف النعمان ).
٣ ـ أساس
البلاغة ، الزمخشري ( محمود بن عمر ت ٥٣٨ هـ ) تحقيق : عبد الرحيم محمود ، ( بيروت
: المعرفة ١٣٩٩ هـ ١٩٧٩ م ) ط ٢.
٤ ـ الاستيعاب
في أسماء الأصحاب ، ابن عبد البر ( يوسف بن عبد الله ت ٤٦٣ ) ط ١ ١٣٢٨ هـ. بهامش (
الإصابة ).
٥ ـ الإصابة في
تمييز الصحابة ، العسقلاني ( أحمد بن علي بن حجر ت ٨٥٢ هـ ) ، ( ط ١ ١٣٢٨ هـ ).
٦ ـ أعيان
الشيعة ، الأمين ( محسن بن عبد الكريم ت ١٣٧١ هـ ) ، حقَّقه وأخرجه : حسن الأمين (
بيروت : دار التعارف ١٣٠٤ هـ ١٩٨٣ م ).
٧ ـ الأعلام ،
الزِّرِكْلي ( خير الدين بن محمود ت ١٣٩٦ هـ ) ، ( بيروت : دار العلم للملايين
١٩٨٠ م ) ط ٥.
٨ ـ أنوار
البدرين ، البلادي ( علي بن حسن ت ١٣٤٠ هـ ) ، ( النجف : مطبعة النعمان ١٣٧٧ هـ ).
٩ ـ البداية
والنهاية ، ابن كثير ( إسماعيل بن عمر ت ٧٧٤ هـ ) ، ( بيروت : مكتبة المعارف ١٤٠١
١٩٨١ م ) ط ٤.
١٠ ـ ديوان أبي
فراس ، الحمدانيِّ ( الحارث بن سعيد ت ٣٥٧ هـ ) شرح وتقديم : عبّاس عبد الساتر ، (
بيروت : دار الكتب العلمية ١٤٠٤ هـ ١٩٨٣ م ) ط ١.
١١ ـ الكنى والألقاب
، القمّي ( عبّاس بن محمد رضا ت ١٣٥٩ هـ ) ، ( بيروت : مؤسَّسة الوفاء ١٤٠٣ هـ ١٩٨٣
م ) ط ٢.
١٢ ـ الكافي ،
الكلينيّ ( محمَّد بن يعقوب ت ٣٢٩ هـ ) ، صحَّحه وعلَّق عليه : علي
أكبر الغفّاري ( بيروت : دار صعب دار التعارف ١٤٠١ هـ ) ط ٤.
١٣ ـ مجمع
الأمثال ، الميدانيّ ( أبو الفضل أحمد بن محمد ت ٥١٨ ) ، ( مطبعة السنَّة المحمدية
١٣٧٤ هـ ).
١٤ ـ المراثي
الأحمديَّة ، البحرانيّ ( أحمد بن صالح ت ١٣١٥ هـ ) ، اعتنى بطبعه : الميرزا محمد
ملك الكتاب ( بمباي ).
١٥ ـ مصفّى
المقال ، الطهراني ( آقا بزرك ت ١٣٨٩ هـ ) ، ( قم : نشر عترت ، بالافست على طبعة
سنة ١٣٧٨ هـ ) ط ٢.
١٦ ـ منهاج
السلامة في حكم الخارج عن بلد الإقامة ، البحراني ( أحمد بن صالح ت ١٣١٥ هـ )
مخطوط.
١٧ ـ نهج
البلاغة ، الإمام علي عليهالسلام ( جمعهُ محمَّد بن الحسن ت ٤٠٦ هـ ) شرح : محمد عبده ، وتحقيق : عبد العزيز
سيِّد الأهل ( بيروت : در الأندلس ١٩٨٠ م ) ط ٥.
١٨ ـ وسائل
الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، العامليّ ( محمّد بن الحسن ت ١١٠٤ هـ ) تحقيق :
عبد الرحيم الربّاني ( بيروت : دار إحياء التراث العربي ١٤٠٣ هـ ١٩٨٣ م ) ط ٥.
علم الكلام
الرسالة الاولى
العقلُ وأقسامه
الرسالة الثانية
مسألة في إبطال الدور
المتوهّم
في إثبات الإمامة من الكتاب
الرسالة الثالثة
مسألة في الشفاعة
الرسالة الاولى
العقل وأقسام
بسم
الله الرحمن الرحيم
وبه
نستعين
الحمدُ لله
الذي وهب لنا من العقول ما أزاحنا به عن الفضول ، وأراحنا به عن الأجناسِ البعيدة
عن حدود الصَّوابِ والفصول ، والصلاةُ والسلامُ على محمّدٍ وآلِهِ ، أولي العقولِ
الكاملة والأرواحِ الفاضلة.
أمّا
بَعدُ :
فقد سألني بعضُ
إخوانِ الدّين ، الراغبين في تحصيل اليقين ، لحسن ظنّه بالمؤمنين ، فأجبته
بالميسور ؛ إذْ لا يسقطُ بالمعسور ، مع ما أنا فيه من اشتغالِ البال وتراكمِ
الأهوال.
قال سلّمه الله
تعالى ـ : ( ثَمَّ يا مولانا مسألة ، نستفيدُكم فيها ونسترشدُكم إليها ، وهي : إنّ
العقلَ المتعيّن في نوع الإنسان ، هل هو مطلقاً دوام وجوده في كلّ إنسان كان من
المؤمنين والكفّار والفجّار مدّة الأعمار؟.
ثمّ إنْ كان
كذلك ، فما ثمرةُ عقولِ أولئك الكفّار والفجّار هنالك ، حيث إنّ العقل ما عُبِدَ
به الرّحمن وعُصي به الشّيطان ، وأفعالُهم كلُّها عكس ذلك؟
وإنْ كانوا
سُلبت منهم عقولُهم حين تغلّبت عليها شهواتُ أنفسِهِم ، فما تكليفُهم حينئذٍ وهم
لأعقلَ لهم؟.
وإنْ كانت
عقولُهم لم تزل فيهم إلّا أنّها مغلوبةٌ مقهورةٌ لدى شهوات أنفسهم ، لا مدخليّة
لها في شيءٍ من أفعالهم ، فما الفائدةُ في وجودِ شيءٍ لا نفعَ فيه؟ وهل يُسمّى
صاحبُهُ عاقلاً أم جاهلاً؟.
ثمّ ما منشأ
دهاء الدّهاة مثل معاوية وعمرو بن العاص وأشياخهما وأمثالهم الأرجاس بإصابة الرأي
المطابق للأمر الواقع قبل وقوعه ، هل هي بلاسةٌ شيطانيةٌ محضيَّة لا سبيلَ للعقل
فيها بالكليّة ، أم للعقل في ذلك مدخليّة؟.
وهل إنّ عقلَ
ذوي الإيمان على مراتبهم في الإيمان؟ وهل هو يقتضي الزيادة والنقصان ، أم هو
والإيمان سيّان في كلّ إنسان؟ ) انتهى كلامُه بألفاظه ، زيد في إكرامه وإيقاظه.
العقل لغة
الجواب ومنه
سبحانه استمداد الصواب ـ : اعلم علّمك اللهُ الخيرَ وأذهب عنك الضّير أنّ العقل في
اللّغة بمعنى الفَهْم والعلم ، وبمعنى الشّدّ والإمساك ، ومنه عقالُ البعير ؛
لأنّه يمسكه عن الفرار ، وعقلُ الإنسان أيضاً ؛ لأنّه يُمسكه عن المضارّ . كما في (
البحار ) عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
« إنّ العقل
عقالٌ من الجهل ، والنفسُ مثل أخبث الدوابّ ، فإنْ لم تُعقلْ سارت ، فالعقلُ عقالٌ
من الجهل » . انتهى.
العقل اصطلاحاً
وفي الاصطلاح
يطلقُ على معانٍ كثيرة بحسب اختلافِ أهل الاصطلاح :
الأوّل : العقل
الهيولاني.
وهو أوّل وجود
النفس والولادة الإنسانية ، باعتبار أنّ فيها قوّة لقبول العلوم والكمالات
النفسيّة ، نسبةً للهيولى بعلاقة المشابهة الخالية من الصور الفعليّة. والهيولى
لغةٌ يونانية معناها : المادّة بلا صورة ، كالطّينة قبل تخطيطها وتصويرها
__________________
وتقديرها. وهذا في غير نفس المعصوم ، فإنّه بالفعل على ولادته العقليّة
الأوّليّة ، ولهذا كان يقرأ حين ولادته الكتب السماوية.
الثاني : النفس الناطقة الإنسانية.
وهي قوّة
وغريزةٌ يتميّز الإنسانُ بها عن سائر البهائم ، ويستعدّ لقبول العلوم النظريّة
وتدبير الصنائع الفكريّة ، ويستوي فيها الأحمقُ والذكيّ ، وتوجد في الغافل والنائم
والمُغمى عليه والذاهل.
والعقلُ بهذا
المعنى ممّا اصطلح عليه الحكماء واستعملوه في كتاب البرهان ، ويعنون به قوّة النفس
التي بها يحصلُ اليقين بالمقدّمات الصادقة الضروريّة من غير توقّف على قياسٍ ولا
فكر ، بل بالفطرة الإلهية والطبيعة الإنسانيّة.
وهو بهذا
المعنى جزءٌ ما من النفس تحصل به أوائل العلوم ، كالعلمِ بأنّ الاثنين ضعفُ الواحد
وأنّ الواحد نصفُ الاثنين ، وغيرها. كما ورد عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال « خَلقَ الإنسانَ ذا نفسٍ ناطقة ، إن زكّاها
بالعلمِ والعملِ فقد شابهتْ أوائلَ عللِها ، وإذا اعتدلَ مزاجُها وفارقتْ الأضدادَ
شابهتْ السبعَ الشّداد » .
الثالث : القوّة التي بها يُدرِكُ الإنسانُ الخيرَ والشرّ ،
والمضارَّ والمنافع ،
والمقتضيات والموانع.
والعقلُ بهذا
المعنى مناطُ التكليف والثواب والعقاب ، وهو المقابل للجنون ، وهو المصطلح عليه في
لسان الفقهاء ، المشترط مع البلوغ في فنّ العبادات والمعاملات والسياسات. ولا
يشترطُ فيه كونُه ذا قوّةٍ نظريّة ولا معرفة حقيّة ، بل قد يكون حصولُهُ في كثيرٍ
من الكافرين أكثرَ من حصوله في كثير من المؤمنين.
الرابع : القوّة
الدّاعية لاختيار الخير والمنافع ، واجتناب الشرور والمضارّ ، وبها تقوى النفسُ
على زجر الدواعي الشهوانيّة وردعِ الوساوس الشيطانيّة.
وهو بمعنى
الرشد الزائد على البلوغ ، والعقل في اصطلاح الفقهاء أيضاً. وقد
__________________
يُجعل قسماً من سابقه بجعله أكملَ الفردين ، ويختلفُ باختلاف الأفراد في
القوّة والاستعداد.
الخامس : القوّةُ التي يستعملها النّاس في نظام معاشهم
ومعادِهم.
وهي المحصِّلة
للعلم والعمل المنجيين ، فإنْ وافقت القوانينَ الشرعيّة والإرادات الإلهيّة سُمّي
بعقل المعاش والمعاد ، وهو ممدوح في الأخبار ، وهو المرادُ في قوله : « العقلُ ما عُبد به
الرّحمنُ » ، وهذا مغايرٌ للرّشد الذي هو المعنى الرابع بنوعٍ من
الاعتبار.
وإنْ استُعملت
في الأُمور الباطلة والحيل العاطلة المخالِفة للمرادات الإلهية والموافِقة للنفس
الشيطانيّة ، سمّيت في اصطلاحِ أهل الشرع : بالنكراء ، والشيطنة ، والدّهاء ، كما
في معاوية وابن العاص ، وغيرِهما من الأشقياء. ولذا قال أميرُ المؤمنين وسيّد
الوصيين : « لولا
التّقى لكنتُ أدهى العرب » ؛ لارتباط جميع حركاته وسكناته بمراضي الله وإنْ اختلّ
بها أمرُ دنياه ، قال تعالى ( وَما تَشاؤُنَ إِلّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ ) . ومرجعها إلى جودة الرواية وسرعة التفطّن في استنباطِ
ما ينبغي أنْ يُرتكبَ ويُتجنّب.
ولا يسمّى
عقلاً عند أهل الشرع ؛ لعدم صفائه وعدمِ عبادة الله به عند العوامّ وأهل الفسوق
والآثام ؛ لأنّها شبيهةٌ بالعقل لما فيها من الحداقة والنظر ، بخلاف العلماء
الأعلام من أهل الحقّ والصدق والإيمان ، ولذا ورد عنهم عليهمالسلام : « العقلُ
ما عُبد به الرّحمنُ ، واكتُسِبَ به الجنان » .
السادس : العقلُ بالمَلَكَةِ.
وهو قوّة للنفس
، بها تكتسب النظريات بما فيها من الشعاع السابق ، مع حصول الأوّليات أي
البديهيّات في خزانتها ، فتكتسبُ الثواني أي النظريّات إذا لم
__________________
يمنعْها مانعُ الشهوات. ولهذا ورد : « كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ ، إلا أنْ يكونَ
أبواه هما اللذان يُهوّدانه ، وينصّرانه ، أو يمجّسانه » . وتكون حينئذٍ كمالاً بالفعل لما هو بالفعل ، وإنْ كانت
بالنّسبة لما بعدها في القوّة.
السابع : العقلُ بالفعل.
وهو صيرورةُ
النفس بعد حصول العقل بالملكة ذات معرفة بالحدّ والدليل والنتيجة بغير تعمّل
وتفكير وتأمّل ، وتصير كالأوّليات بالنسبة لها أوّلاً ، فالنظريّات الثانويّات
بالنسبة لها كالأوّليات ، فلذا سمّيت عقلاً بالفعل ؛ لأنّ للنفس أنْ تشاهِدَهُ
وتُدرِكَهُ متى شاءت من الأوقات.
وهذا قد يسمّى
بالعقل المستفاد ، وقد يجعل مغايراً له ، وهو عند الأكثر ، وقد يُجعل العقل
المستفاد قبل العقل بالفعل ؛ وهو أوْلى بالاعتبار.
وقد تُطلق
المعاني ولا سيّما الهيولاني على النفس أيضاً ، بعلاقة السّببيّة والمسبَّبيّة ،
بمعنى كون وجود النفس سبباً لإدراك تلك النظريّات بالنظر للدّليل والمقدّمات.
إذا عرفت هذا
.. فلنرجع إلى شرح ما تضمّنه السؤال ، وتفصيل ذلك الإجمال :
مدّة دوام العقل
فأمّا قولُ
السائل سلّمه اللهُ تعالى ـ : ( إنّ العقل المتعيّنَ في نوعِ الإنسان هل هو مطلقاً
دوام وجوده في كلّ إنسان .. إلى قوله ـ : مدّة الأعمار )؟.
فالجوابُ
: إنّ العقلَ
بمعنى النفس الناطقة وما يرجع لها من المعاني السابقة حاصلٌ لكلّ إنسان ، من غير
فرقٍ بين الأبرارِ والفجّار ؛ لأنّ اللهَ تعالى بمقتضى حكمته النابغة ، ونعمته السابغة
وحجّته البالغة خلق في كلِّ شخصٍ قوّةً واستعداداً لإدراك المضارّ والمنافع ، وبها
تصدرُ الأفعالُ والتروك بالاختيار من غير قاسرٍ ولا رادع ـ ( فَمَنْ شاءَ
__________________
فَلْيُؤْمِنْ
وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) بعد قيام البرهان الساطع.
قال تعالى ( وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) .
وقال ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) ، أي : طريق الحقّ والرشاد ، وطريق البغي والفساد.
وقال ( وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ) .
وقال ( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) . إلى غير ذلك من الآيات ، وبمعناها كثير من الروايات.
ثمرة عقول الكفّار والفجّار
وأمّا قولُهُ :
( وما ثمرةُ
عقولِ أولئك الكفّار والفجّار ).
فالجواب
: أنّ الثمرة
قيامُ الحجّة الظاهرة النيّرة القاطعة لأعذار أُولئك الكفرة الفجرة ، قال الله
تعالى ( قُلْ فَلِلّهِ
الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) . وقال تعالى ( وَلَلدّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) . إلى غير ذلك من الآيات المقرعة لأُولئك البغاة بمخالفة
العقول في تلك المُدْرَكات.
وفي وصيّة
الكاظم عليهالسلام لهشام بن الحكم : « إنّ اللهَ عزوجل أكملَ للنّاسِ الحججَ بالعقول . وفيها أيضاً
« إنّ لله
على النّاسِ حجّتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ؛ فأمّا الظاهرةُ فالأنبياءُ
والرسل والأئمة ، وأمّا الباطنةُ فالعقول » . ومثلُها غيرُها من الأخبار ، فاعتبروا يا أولي
الأبصار.
وأمّا قولُه : (
حيث إنّ
العقلَ ما عُبِدَ به الرّحمن ) .. إلى آخره.
فالجوابُ
: أنّ المرادَ
بالعقلِ هنا القوّةُ النظريّة ، وقد يعبّر عنها بالعقل النظري والعملي ، وبالعلمي
والعمَلي ؛ وهي نفس العلم النافع المورث للنجاة الأُخرويّة
__________________
والفوزِ بالسّعادة الأبديّة ، المشروطة بالأخذِ من الطرق الشرعيّة ،
المنصوبةِ من ربّ البريّة ، لا من الأهواءِ والآراء الرديّة ، والقياسات
والاستحسانات الاجتهاديّة.
وهذا الكلامُ
الذي أورده السائل ، هو بعضُ الخبر الذي رواه ثقةُ الإسلام الكليني في ( الكافي )
، والصدوقُ في ( المعاني ) ، والبرقي في ( المحاسن ) ، عن أبي عبد الله الصّادق عليهالسلام حيث سُئل عن العقل فقال : « ما عُبِدَ به الرّحمنُ
واكتُسِب به الجِنانُ ». قال : قلت : فالذي كان في معاوية؟. قال : « تلك النكراءُ ، تلك
الشيطنةُ ، وهي شبيهةٌ بالعقل وليست بالعقل » . انتهى.
فقولُهُ عليهالسلام : « ما
عُبِدَ به الرّحمنُ » ، إشارةٌ للقوّة النظريّة.
وقولُهُ : « واكتُسِب به الجِنانُ
» ، إشارةٌ إلى القوّة
العمليّة.
فبالأُولى
تُعرفُ المعارفُ الإلهيّة والأحكامُ الشرعيّة والأخلاقُ الحسنة النفسانيّة ،
وبالثانية يهذَّبُ الباطنُ والظاهر من الرذائل الشهوانيّة ، وبالعلم والعمل يتمّ
نظامُ عبادة الرّحمن واكتساب الجِنان.
وأمّا قولُهُ
سلّمه الله تعالى ـ : ( وعُصي
به الشيطان ) ، فليس في لفظ الخبر ، وهو مستغنى عنه بقوله « ما عُبِدَ به الرّحمن » ؛ [ فَإنّ ما عُبِدَ به الرّحمنُ ] عُصِي به
الشيطان ، وما عُصِي به الشيطانُ [ فقد ] عُبِدَ به الرّحمنُ.
وفي الخبر : « مَنْ أصغى إلى ناطقٍ
فقدْ عبدَهُ ، فإنْ كانَ عن الله فقد عَبَدَ اللهَ ، وإنْ كانَ عن الشّيطانِ فقد
عَبَدَ الشّيطانَ » .
وليس المرادُ
بالعقل هنا ما يقابل الرّشد ، وهو ما يوجبُ حصولُهُ رفعَ الحجر المالي عنه وإِنْ
كان فاسقاً أو كافراً أو منافقاً.
والنَّكْراء
بفتح النّون ، وسكون الكاف ، والمدّ ـ : بمعنى المنكر ؛ لكونها
قبيحةً
__________________
عقلاً وشرعاً. وهي من جنود الجهل وحزب الشيطان ، وبها فشى الظلمُ والعدوان
ونشا الفسقُ والعصيان والجرأةُ على مخالفة الرّحمن والمحادّة لأولياءِ الملك
الديّان.
وأمّا قوله : (
وإنْ كانت
سُلبت منهم عقولُهُم فما تكليفهم حينئذٍ ولا عقلَ لهم ).
فالجواب
: أنّ العقل
الذي هو مناط التكليف المقابل للجنون المسقط له حاصلٌ فيهم ، فالتكليفُ ثابتٌ
عليهم ؛ لوجود مقتضياته وزوال موانعه ، وإنّما المسلوبُ عنهم شرعاً اسم العقل
العلمي والعملي اللذين هما المنجيان وتترتب عليهما عبادة الرّحمن واكتسابُ الجنان
لصرفهم تلك القوّة في طاعة الشيطان.
وأمّا قوله : (
وإنْ كانت
عقولُهم لم تزلْ فيهم ... إلى قوله ـ : فما
الفائدةُ في وجود شيءٍ لا نفعَ فيه؟ ).
فالجواب
عنه يعرف من
الجواب عن سابقه ، وهو أنّ العقل الذي هو مناط التكليف ثابتٌ فيهم ، مع أنّ تلك
القوّة النظريّة لم تزل عنهم بالكليّة ، بل أصلها ثابت ، وإنْ كان فرعها لعدم
العمل بمقتضاها غيرَ ثابت ، فَمَثَلُهم كمثل مَنْ ملّكه اللهُ أرضاً جيّدة صالحةً
لجميع الحرث والغرس بحسب الإرادة ، وماءً نابعاً صالحاً لسقيها في كلّ وقت أراده
فأهملها حتى استولى عليها الخراب فسلبها عن الإفادة ، فاللومُ إنّما يتوجّه عند
العقلاء عليه بحسب الإهمال ، ويعدُّ من أهل الاستطاعة دون الفقر والإقلال ولو
لقدرته على تلافي تقصيره في العمارات ، ولو بالتدريج في كثيرٍ من الأوقات.
وكَمثل مَنْ
كانت له جوهرة غالية في غاية الجودة والصفاء والحسن والغلاء ، فاستعملها فيما يوجب
لها الحقارة ويزيل عنها الصفاء والنضارة ، ومَنْ عنده مِسْكة أو عنبرة ، فألقاها
في المواضع القذرة ، حتى أذهبت منها الرائحة العطرة.
ولا شكّ أنّ من
هذا شأنه يستحقّ بحسب الحكمة الإهانةَ على تفويته تلك الإصانة ، ويوجب عليه
العقلاء المبادرةَ إلى ما يعيدها سيرتها الاولى بأنواع المعالجاتِ ولو في كثيرٍ من
الأوقات .. إلى غير ذلك من الأمثال الظاهرة لذي
الالتفات.
وأمّا قوله : (
وهل يسمّى
صاحبُهُ عاقلاً أم جاهلاً؟ ).
فقد مرّ عليك
في الخبر الشريف وغيره أنّ النكراء لا تسمّى عقلاً ، ولا يسمّى صاحبُها
عاقلاً في لسان الشرع والحكماء والعقلاء الكملاء وإنْ سمّيت به عند العوامّ
والجهلاء ، وإنّما تسمّى شيطنة ونكراء ، وصاحبُها شيطاناً ومنكراً ؛ وذلك لأنّ
العقل قوّة نورانيةٌ شريف الذات نقي الصفات يدعو للعلم والعمل المنجيين والمثمرين
للسعادة الأُخرويّة. والشيطنة والنكراء قوّةٌ مظلمةٌ تدعو للمال والأمل المهلكين
وملازمةِ الشرور والمنافع الدنيويّة وإنْ ترتّبت عليها الشقاوة السرمديّة. وإنّما
صارت شبيهةً بالعقل لما يصدر عنها من جودة التدابير وسرعة التقادير ، ولا يلزم من
ذلك كونُها مثله ؛ لجواز أنْ يشارك الضدُّ ضدّه في بعض الأمور والأحكام.
فالجهلاء لفقد
بصيرتهم عن تلك الأنوار مع سماعهم بأنّ للإنسان عقلاً هو مبدأ الفطانة يضعون اسمَ
العقل في غير موضعه ، ويسمّون هذه النكراءَ والشيطنةَ عقلاً ويعدّون أهلها من
العقلاء.
وأمّا الكُملاء
فيعرفون بنور تلك البصيرة تباينَ القوّتين ذاتاً وصفةً تباين النور والظلمة ، ولا
يسمّون صاحبها عاقلاً ، بل شيطاناً مريداً وجبّاراً عنيداً ، بل جاهلاً في أمر
الآخرة بليداً ، كما لا يسمّون الزنبور عاقلاً مع أنّه يصدر عنه في صنعة بيوته ما
يعجز عنه فحولُ الهندسة ، من الكيفيّات المثلّثة والمخمّسة والمسدّسة.
وممّا يدلّ على
كون المخالف لهذا العقل جاهلاً قولُ الكاظم عليهالسلام في حديث هشام بن الحكم : « كفى بك جهلاً أنْ [
تركبَ ] ما نُهيتَ عنه » .
وفي ( البحار )
نقلاً من كنز الكراجكي : قال رسولُ الله صلىاللهعليهوآله
: « إنّ العاقل مَنْ أطاعَ
الله وإِنْ
__________________
كان
ذميمَ المنظر ، حقيرَ الخطر ، وإِنّ الجاهلَ مَنْ عصى الله وإنْ كان جميلَ المنظر
، عظيمَ الخطر » .
وفيه نقلاً من (
روضة الواعظين ) : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قيل له : ما العقل؟. قال : « العملُ بطاعةِ الله ،
وإنَّ العمّالَ بطاعةِ اللهِ هُمُ العقلاء » .
وفيه أيضاً ـ :
إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله مرّ بمجنون ، فقال : « ماله؟ ».
فقيل : إنّه
مجنون. فقال : « بل
هو مصابٌ ، إنّما المجنونُ مَنْ آثر الدّنيا على الآخرة » .
ألا ترى كيف
وصفه بالجنون؟ فيلزم اتّصافُه بالجهلِ بطريق الأولويّة.
وفي صحيح عبد
الله بن سنان ، قال : ذكرتُ لأبي عبد الله عليهالسلام رجلاً مبتلىً بالوضوء والصلاة ، وقلتُ : هو رجلٌ عاقلٌ.
فقال أبو عبد الله عليهالسلام
: « وأيّ عقلٍ له وهو
يطيعُ الشيطان ». فقلتُ له : وكيف يطيع الشيطان؟. فقال : « سله ، هذا الذي يأتيه من أيّ شيء هو؟ فإنّه
يقولُ لك : عمل الشيطان » . انتهى.
فإذا كان
المطيعُ للشيطان في الوسواس في الطّهارة والصلاة مسلوباً عنه العقل ، فكيف بالمطيع
له في جميع الحالات وفي قتل الأئمّة الهداة؟ فقد ظهر ممّا تقرّر أنّه لا يسمّى
عاقلاً ، لا شرعاً ولا لغةً. أمّا شرعاً ؛ فلما سمعت.
وأمّا لغةً ؛
فلما تقرّر في علم المعاني : أنّ العالم غير العامل بعلمه ينزّل منزلة الجاهل لعدم
[ جريه ] على موجب علمه ، ومنه قولُه تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ
فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ ) .
فأثبت لهم
العلمَ أوّلاً ، ثمّ نفاه عنهم أخيراً ؛ لعدم جريهم على مقتضى علمهم ، لأنّ مَنْ
لم يجرِ على مقتضى علمِه لا فرق بينه وبين الجاهل ؛ لاشتراكهما في مخالفةِ الحقّ
وانتفاء ثمرة العلم. وقد ينزّل وجودُ الشيء منزلةَ عدمه ؛ لعدمِ وقوعِهِ على وفق
__________________
الإرادة وانتفاء الإفادة.
وإنّما قلنا :
إنّه نفاه عنهم أخيراً ؛ لما تقرّر في محلّه من أنّ ( لو ) موضوعةٌ لتعليق حصول
مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط فرضاً في الماضي ، مع القطع بانتفاء الشرط ، والشرط هنا
هو قولُهُ تعالى : ( لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ ) ، فيدلّ على انتفاءِ العلم ، واللهُ العالم.
منشأ
دهاء الدهاة
وأمّا قوله : (
ثمّ ما
منشأ دهاء الدّهاة ... ـ إلى قوله ـ :
أم للعقل
فيه مدخليّة ).
فالجوابُ
عنه يعرف أيضاً من
الجواب عمّا قبله ، ونزيدُهُ وضوحاً فنقول : إنّ حِكْمةَ الحكيم العزيز العليم قد
اقتضت أنّ لنفس الإنسان دون سائر الحيوان قوّتين متلازمتين : قوّة عالمة وقوّة
عاملة ، فهما له ملازمتان لا ينفكّان ، دون سائر الحيوانات ؛ لبُعْدِها وقصورها عن
الجمع للكمالات.
وفي خبر
إسماعيل بن جابر ، عن الصادق عليهالسلام : « والعلمُ
مقرونٌ إلى العمل ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ ومَنْ عَمِلَ علِمَ ، والعلمُ يهتفُ
بالعمَل فإنْ أجابَهُ وإلّا عنه ارتحلْ » . انتهى.
وذلك لأنّ
العلمَ صورةٌ والعملَ مادّةٌ ، فكما لا وجودَ للمادّة بلا صورة ولا ثباتَ للصّورة
بلا مادّة ، كذلك لا وجودَ للصّورة بلا مادّة ؛ فهما متلازمان لا يفترقان.
والقوّة
العاملةُ لا بدّ لها من اكتساب ، ولا شكّ في توقّف المكتسب على تحصيل مقدّمات
الاكتساب من الشروط والأسباب ، فإنْ كانت القوّة طوعَ العقل سلكت الحسَنَ وطريقَ
اكتسابه ، وتكون حينئذٍ مستقيمةً مطمئنّةً للتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار
الخلود ، والاستعداد للموت قبل أوان الفوت ، وإلّا خرجت للاعتقادات الباطلة
والحِيَل والمَكْر والخدع ، وانهمكت في الأفعال والأعمال الزائلة ؛ لعصيانها
بالتجافي عن دار الخلود والسعود والإنابة إلى دار الغرور والشرور ،
__________________
وعدم الاستعداد للموت بتحسين العمل ؛ لطول الأمل. ولهذا قال أميرُ المؤمنين
عليهالسلام
: « ألا إنّ أخوفَ ما
أخافُ عليكم خلّتان : اتّباعُ الهوى وطولُ الأمل ، أمّا اتّباعُ الهوى فيصدُّ عن
الحقّ ، وأمّا طولُ الأمل فيُنسي الآخرة » .
وتسمّى حينئذٍ
بالنكراء والدّهاء ، ومرجعها إلى سرعةِ التفطُّن في استنباط ما ينبغي أنْ يُرتكبَ
أو يجتنب في إنجازِ المطلب وإنجاحِ المأرب وإنْ لم يجز ذلك بمقتضى الدّين والمذهب.
وقد سمعت أنّها لا تسمّى عقلاً ، لا شرعاً ولا عند الحكماء ، وإنْ سمّته العوامُّ
كذلك ؛ لنظرهم لما تحت أرجلهم بعين البصر الحاسرة ، لا بعينِ البصيرةِ الفاخرة.
وهذه القوّةُ
وإنْ كانت من جنود الجهل كما ذكرناه سابقاً لكن لمّا كانَ وجودُ الجهل عرضيا لا
ذاتيّاً من جهة شِمال العقل ، وجعل الله له جنوداً كالعقل ، ومكّنه وجعله
مختاراً ، كانت تلك القوّة صالحةً للأمرين وسلوك النّجدين.
فكلُّ جندٍ
وقوّةٍ بحسب حكمةِ العدل الحكيم القادر العليم لا بدّ أنْ تكونَ صالحةً للداعيين
وإنْ كان أصلُ الخلق للخير وطوع العقل الذاتيين ( لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) ، ( لِئَلّا يَكُونَ
لِلنّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) .
ثمّ إنّ تعبير
السائل سلّمه الله تعالى ـ : ( بإصابة الرأي المطابق للأمر الواقع قبل وقوعه )
ممّا لا ينبغي ؛ لأنّ مطابقة الرأي للأمر قبل وقوعه لا يصدرُ عن تلك الآراء ، ولا
ينتج عن تلك الشيطنة والنكراء ، وإنّما يصدر بفراسةٍ إيمانيّةٍ وعنايةٍ ربّانيّة ،
كما ورد : « اتّقُوا
فراسةَ المُؤمن ، فإنّهُ يَنظُرُ بِنُورِ الله » . وإنّما يصدرُ عن أهل تلك الغريزة الشيطانية سرعةُ
المبادرة إلى ما يُنجز مقاصدهم الشهوانيّة ، ويُنجح أغراضهم النفسانيّة الشرّانيّة
، من غير نظرٍ إلى العواقب الأخرويّة وخوفٍ من المعاقبات السّرمديّة.
__________________
ومَن يلغِ
أعقابَ الأُمورِ فإنّه
|
|
حريٌّ
بهَلْكٍ آجلٍ أو مُعاجلِ
|
والفراسةُ وإنْ
لم تختصّ بأولياء الله ، بل قد تكون في بعض أعداء الله ، إلّا أنّ هنا فرقاً
بيّناً بين الفراستين وبوناً عظيماً بين التوسّمين ، فإنّ فراسة المؤمن لازمةُ
الإصابة إلّا أنْ يشاء اللهُ تعالى ؛ لأنّها غريزةٌ يوقعها اللهُ تعالى في قلوبِ
أوليائِهِ ، لصفاءِ قوابِلها وكمالِ استعدادِها ، ولكونها لازمةَ الإصابة أمرَ
باتّقائها معلّلاً بأنّه : « ينظرُ
بنورِ الله ».
وأمّا فراسةُ
أعداءِ الله فإنّما تصدر عن أسبابٍ ظاهريّة وتجارب دنيويّة ، وقد تخطئ أكثرَ ممّا
تصيب ، ولو أصابت فإنّها من باب المقارنة الاتّفاقية للأقضية الرّبّانيّة ، واللهُ
العالم.
مراتب عقل المؤمن
وأمّا قولُه ـ سلّمه
اللهُ تعالى ـ : ( وهل
أنّ عقل ذوي الإيمان على مراتبهم في الإيمان؟ ).
فالجواب
: أنّ الأمر
بالعكس ، بمعنى أنّ مراتبهم في الإيمان بحسب مراتبهم في العقل الذي يُعبدُ به
الرّحمنُ ، ويُكتسبُ به الجنان ، كما قال الكاظم عليهالسلام ، في حديث هشام بن الحكم ، المرويّ في ( أُصول الكافي )
وغيره : « وأعلمُهُم
بأمرِ اللهِ أحسنُهُم عقلاً ، وأعقلُهُم وأرفعُهُم درجةً في الدنيا والآخرة » .
وفي ( البحار )
نقلاً عن أمالي الشيخ الطوسي رحمهالله ، بإسناده عن زرّ بن أنس ، قال : سمعتُ جعفر بن محمد عليهالسلام يقول : « لا يكونُ المؤمنُ مؤمناً حتى يكونَ كاملَ العقل » .
وفيه ـ أيضاً ـ
نقلاً عن ( العيون ) ، بإسناده إلى علي الأشعري ؛ قال : قال رسولُ الله صلىاللهعليهوآله
: « ما عُبد اللهُ بمثلِ
العقل » .
__________________
ويدلّ عليه
أيضاً الأخبارُ الكثيرة الواردةُ في هذا الباب عن الأئمة الأطياب ، من أنّ الثواب
والعقاب على قدر العقول والألباب .
الزيادة والنقصان في العقل
وأمّا قوله
سلّمه الله تعالى ـ : ( وهل
هو يقتضي الزيادة والنقصان؟ ).
فالجواب
: أنّك قد عرفت
من معاني العقل السابقة في أوّل الجواب أنّه يقبلُ الزيادةَ والنقصان في كلّ معنىً
بما يناسبه ، ممّا يتعلّق بأمرِ المعاش أو المعاد.
وفي ( البحار )
نقلاً من كتاب ( الاختصاص ) عن الصادق عليهالسلام أنّه قال : « يزيدُ عقلُ الرّجل بعدَ الأربعين إلى الخمسين
والستين ، ثمّ ينقصُ بعد ذلك » .
ومعناه
: أنّه يبتدئ في
استكمالِ الزيادة والكمال بكمال الأربعين ، وينتهي استكمالُ الزيادة والكمال بكمال
الستين.
وهذا هو السرُّ
في كون وعد موسى أربعين ؛ لأنّ مراتبَ الوجود تكونُ أربعين ؛ لأنّ الإنسان خُلق من
عشر قبضات : من الأفلاك التسعة ومن الأرض ، وأُديرت كلٌّ من العشر ثلاث دورات فصار
ثلاثين ، ثمّ أُديرت رابعةً فتمّت أربعين ، فبالدورة الاولى تتمّ العنصريّة ،
وبالثانية تتمُّ المعدنيّة ، وبالثالثة تتمّ النباتيّة ، وبالرابعة تتمّ
الحيوانيّة .
وإليه الإشارةُ
أيضاً بقوله تعالى ( حَتّى إِذا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) الآية.
وهو أيضاً من
أسرار ابتداء اسمِ نبيّنا الجامعِ لجميع الكمالات في جميع الأطوار والنشآت بالميم
؛ لكون عدد قواها أربعين ، إشارةً لابتدائه صلىاللهعليهوآله بمراتبِ الكمال في الوجود البياني.
__________________
وورد أنّ بعثه صلىاللهعليهوآله بعد الأربعين ، مع أنّه كان نبيّاً وآدم بين الماء والطين ، إشارةً
لكماله في الوجود العياني بحسب القابل الزماني.
وهو أيضاً من
جملة أسرار تسمية آدم بآدم ؛ لأنّ كمال الآدَمِيّة أي : القوّة الناطقة الإنسانية
يكون بعد كمال الأربعين ، لأنّ عدد حروف اسمه عليهالسلام يكونُ خمسةً وأربعين ، لحسابِ الألف بواحدٍ بحساب
الكتابة دون اللفظ ؛ لأنّ المدار في الحساب على الكتابة دونه ، كما هو معروف عند
ذوي الألباب.
وإنّما ابتدأ
اسمه بالألف لأنّه شكلُ العقل ، وأتى بعده بالدّال لقُربه من شكل الرّوح ، وهو
اللام ، هكذا ( ل ). فتكونُ الخمسةُ السابقة على الأربعين إشارةً إلى أوّل فردٍ
بعد تحقّق العقل والرّوح من أفراد الاستعداد لظهور ذلك الازدياد ، وبكمال الخمسة
يظهر أثرُ ذلك الاستمداد وتحقّق الاستعداد للازدياد.
ولهذا قيل :
إنّه السنّ الذي بُعِثَ على رأسه الأنبياء ، فيظهر أثر ما يفرّق بينهم وبين سيّد
الأنبياء والأولياء.
وإنّما قيّدنا
أوّليّته الفرديّة بالبعديّة لدفعِ ما يتوهّم من سبق الخمسة بفردين ، وهما الواحد
والثلاثة ، واللهُ العالم.
هذا .. وفي
كلامِ بعضِ محقّقي المتأخّرين : ( إنّ العقلَ التكليفي يتمُّ عند البلوغ ويقوى إلى
ثماني عشرة سنة ، ويشتدّ عند ثلاثين سنة ، أو ثلاثة وثلاثين سنة ، ويكمل عند
الأربعين ).
وهو ممّا
يساعده الاعتبار وظواهرُ بعضِ الأخبار ، كما في خبر أبي بصير ، عن الصادق عليهالسلام : « إذا
بلغَ [ العبد ] ثلاثاً وثلاثينَ
سنةً فقد بلغ أشدّه ، وإذا بلغَ أربعينَ سنةً فقد بلغَ وانتهى مُنتهاه ، وإذا
طَعَنَ في أحد وأربعين بلغَ في النّقصانِ ، وينبغِي لصاحبِ الخمسين أنْ يكونَ
__________________
كَمَنْ
كانَ فِي النَّزْعِ » .
ولا منافاة بين
هذا الخبر الدالّ على النقصان بالطعْن في أحد وأربعين ، وبين الخبر الدالّ على
الزيادة من بعد الأربعين وكمالها بكمال السّتين ؛ لأنّ المراد بالنقصِ النقصُ في
الزيادة البدنيّة ، وبالزيادة زيادة القوّة العقليّة بحسب البصيرة في الأُمور
الأخروية ؛ لأنّه إذا اعتبر بنقص البُنْية البدنيّة دلّه على نقص التنعّمات
الدنيويّة ، فيستعدّ لتحصيل الزاد يوم المعاد لتهيئته للرَّحيل للسّفر الطويل.
ويرشد إليه
قولُه : « وينبغي
لصاحبِ الخمسين أنْ يكون كَمَنْ في حالِ النَّزعِ ». فإنّ مَنْ كان في النزع تنكشفُ له الأُمورُ الغيبيّة
، فتحصلُ له البصيرة اليقينيّة بما يستحقّهُ من الدرجات العليَّة أو الدركات
السّفليّة ، فيندمُ حيث لا ينفعُهُ النّدم على زلّة القدم ، وإليه الإشارةُ بقوله ( فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ؛ لانكشافِ الغواشي الظلمانيّة ، عن مرآة القوة
العقلانيّة واللطيفة الروحانيّة. نسألُهُ سبحانه التوفيقَ للاستعداد وسلوك طريق
السّداد.
وأمّا قولُه ـ سلّمه
الله تعالى ـ : ( أم
هو والإيمان سيّان في كلّ إنسان ).
فالجواب
عنه يعرفُ من
الجواب عن سابقه ، وهو أنّ العقل والإيمان متغايران لا سيّان ، بل إنّ العقل يكون
سبباً في ازدياد مراتب الإيمان بحسب العرفان ، كما هو ظاهرُ قوله : « العقلُ ما عُبِدَ بِه
الرّحْمنُ ، واكتُسِبَ بِه الجِنانُ » .
وحيث قد أسأنا
الأدبَ بالإبطاء بجوابِ السائلِ ؛ لكثرةِ الشواغل ، فلنقتصر من العجالة على هذا
القليل وإنْ كان المقام حريّا بالتطويل. وأسألُ الله أنْ ينتفعَ به السائل
وأمثالَهُ من المؤمنين والإخوان الصالحين ، وأنْ يعاملني بالعفوِ عن زلّة القدم
وَهَفْوَةِ القلم ، إنّه غفورٌ رحيم وتوّابٌ كريم.
__________________
فرغ منه
مؤلّفُهُ الأقلُّ الجاني : أحمدُ بن صالح البحراني ، في اليوم السادس من جمادى
الثانية من السنة العاشرة والثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبويّة ، على مهاجرها
وآلِهِ أفضلُ الصلاة وأكملُ التحيّة.
وقد تمّت هذه
الرسالةُ المباركةُ على يد أقلّ الخليقة في الحقيقة : أحمد بن مهدي ، باليوم
الثاني عشر من شهر شعبان المعظّم ، أحد شهور سنة ١٣١٢ ، الثانية عشر بعد
الثلاثمائة بعد الألف ، حامداً مصلّياً مسلّماً مستغفراً.
ممّا قاله السائلُ المستطاب
، في مدحِ هذا الجواب :
بدتْ نفحاتٌ
من غوامضِ أسرارِ
|
|
حرائر فكرٍ
لا خرائدُ أفكارِ
|
وضاعَ عبيرٌ
مِنْ شذا عنبر التقى
|
|
ومسكُ الهدى
لا عطرَ جُوْنةِ عطّارِ
|
غداة بدتْ
شمسُ العلومِ وأشرقت
|
|
وعنها تولّى
الجهل خاسئ أبصار
|
فتلك لعمرُ
الله شمسُ هدايةٍ
|
|
بدتْ فاهتدتْ
منها القلوبُ بأنوار
|
هي الشمسُ لم
تكسَف ولم يخف نورُها
|
|
بكل مساءٍ
كانَ أو سحب أمطارِ
|
ولا يهتدي
الرائي إليها بعَينهِ
|
|
لما يغشه
منهَا سواطعُ أنوارِ
|
ولكِن
بأبصارِ البصائر يهتدى
|
|
إليها فيهدي
كلّ حاذقِ أفكارِ
|
لنا أظهرت
سِرّ العقولِ وَذاتها
|
|
ذوات معانٍ
ذي صفات وآثارِ
|
تجلّت فَجلّت
جَلّ جامعُ شملِها
|
|
ومودعها سراً
هياكل أسرارِ
|
هو العالمُ
النحرير واحد عصره
|
|
هو الأحمد
البرّ التقي ابنُ أبرارِ
|
هو الجوهر
المكنون في صدف التقى
|
|
وبحرُ علوم
مدّه غير جزّار
|
__________________
ومارز حلم ، بل
وموضِع حكمةٍ
|
|
وأنوار قدسٍ
في خزانةِ أسرارِ
|
أفاض عليه
الله من فيض فضلهِ
|
|
سجال عنايات
الكرامة مدرارِ
|
وألبسه أسنى
جلابيب بهجةٍ
|
|
تلألأ دأباً
للنشورِ بأنوار
|
وآتاه في
الدارين ما شاء وارتضى
|
|
من النعم
العظمى جليلة مقدارِ
|
وقرّة عين
بالمسرّة لم تزلْ
|
|
مدى الدهر
صفواً لن تشاب بأكدارِ
|
حريّ بمهما
نال من أشرف الحبا
|
|
لعلمٍ
وأعمالٍ هَداه لها الباري
|
فذي نبعة من
يمّ زاخرِ علمه
|
|
وأعمالهُ
سيَّان كالجدول الجاري
|
وحين بدت
شمسُ المعارف أرّخت
|
|
« عوامق أسرار بمشكاة أنوارِ »
|
وثمّ صلاة
الله تغشى نبيّنا
|
|
مع الآل
دأباً بالعشيِّ وإبكارِ
|
__________________
الرسالة الثانية
مسألة في إبطال الدور المتوهّم
في إثبات الإمامة من الكتاب
إبطال الدور المتوهّم في
إثبات الإمامة
مسألة : قال لا
زالت أعلام علمه على العالمين منشورة ، وقناة أعدائه مغموزة مكسورة ـ : ( كان ممّا شاع وذاع
وملأ الأسماع وعليه الإجماع أنّ في القرآن من النصوص الجليّة على إمامة الأئمّة
أكثر من أنْ تحصى ، فيكون حينئذ مُثْبِتاً لإمامتهم ، وقد كان مثله أيضاً أنّه لا
يعرف إلّا من جهتهم كما تقدّم ، فكأنّه مُثْبِتٌ مُثْبَتٌ وهم كذلك ، فما المفرّ
من الدور؟! ).
الجواب
: ومن الله
استمدّ الصواب ـ :
الظاهر أنّ
عبارة السؤال مغلوطٌ فيها ، وإلّا فلا يخفى على ذي مسكة أنّ هذا ليس من الدور في
شيءٍ ؛ إذ الدور توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه توقّفاً تامّاً من جميع الجهات
والقيود والحيثيات ، بحيث إذا ثبت ثبت وإذا انتفى انتفى ، وما هنا ليس كذلك ، إذ
غاية ما فيه من الإشكال كون الشيء مُثْبِتاً مُثْبَتاً ، ولا ضير فيه إذا كان من
جهتين كما هنا ، ولكن لا بأس بالكلام على متن السؤال ، فنقول :
قد شاع وذاع
وملأ الأسماع وطبق الأصقاع وعليه الإجماع عدم انحصار إثبات إمامة أُولئك الأعيان
عليهم سلام الملك الديّان في ما دلّ عليه القرآن ، بل الأدلّة
__________________
العقليّة والنقليّة من السنّة النبويّة الدالّة على إثبات إمامتهم دون
غيرهم أكثر من أنْ تحصى وأجلّ من أن تستقصى. وناهيك بكتاب ( الأَلفين ) دون سائر
كتب الفريقين من شاهد عدل بلا مَيْنٍ. فبهذا ثبت إثبات إمامتهم بغيره وإنْ انضاف
هو إليه.
وقولكم : ( وقد كان مثله أيضاً
أنّه لا يعرف إلّا من جهتهم ) قد تقدّم جوابه في المسألة الاولى من عدم التوقّف على التفسير في بعضٍ
حتى لو قيل بالتوقّف عليه مطلقاً ؛ لما قلنا ، فانتفى ما توهّم من الدور لاختلاف
جهتي التوقّف والثبوت ، فهو من قبيل ما استدلّ به على كونه تعالى متكلّماً بإجماع
الأنبياء ، مع أنّ ثبوت نبوّتهم موقوف عليه ظاهراً ، ولكن انتفى الدور لمنع توقّف
الثبوت عليه ؛ لجواز تصديقهم بما سوى الكلام من المعجزات ، والله العالم.
الرسالة الثالثة
مسألة في الشفاعة
مسألة في الشفاعة
ثم قال ـ شدّ
الله عليه نطاق الجلال ـ : ( ثم
ما يقول مولانا الجليل ، هداه اللهُ واضح السبيل ، شفاعةُ نبيّنا محمَّد صلىاللهعليهوآله التي لا إشكال فيها
ولا شكّ يعتريها ، نطق بها الكتابُ وتواترت بها السنّةُ عن المعصومين الأطياب ،
وانعقد عليها الإجماع من المسلمين ، لِمَن
إذا كانت ذنوبُ تاركي الكبائر مكفّرة ، ومرتكب الكبائر غير مرتضىً ، والله عزوجل
يقول : ( وَلا يَشْفَعُونَ
إِلّا لِمَنِ ارْتَضى
)
، و «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»
، كما ورد عنهم عليهمالسلام ، فأمّا التائبون فإنّ الله يقول : ( ما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) ؟ ).
أقول ـ ومنه سبحانه التوفيق لنيل المأمول ـ : تضمّن السؤال الشريف الاستدلال على
شفاعة النبيّ المفضال ، ويلزم منه أيضاً اعتقاد ثبوت الشفاعة للآل وإنْ لم يصرّح
به في المقال ، فلا حاجة لبسط المقال في هذا المجال ؛ إذ لم يخالف في ثبوت الشفاعة
في الجملة أحد من المسلمين وإنْ خالف الوعيديّة وهم المجمعون
على امتناع العفو سمعاً والمختلفون في جوازه عقلاً في محلّها
وخصوصه أو
__________________
عمومه ، فقالوا : إنّها لا تؤثّر في إسقاط العقاب ، وإنّما تؤثّر في زيادة
الدرجات في الثواب .
وبطلانُه لا
يكاد يخفى على أحدٍ من اولي الألباب ، وإلّا لَزِمَ كوننا شافعين في النبيّ
الأوّاب وآله الأطياب إذا سألنا الله تعالى له ولهم زيادة الدرجات ، وهو باطلٌ
بالإِجماع بلا ارتياب.
وأما قوله
تعالى : ( فَما لَنا مِنْ
شافِعِينَ ) ( فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشّافِعِينَ ) فمحمولٌ على غير المؤمنين من فرق الكافرين ، كما تكثّرت
به الأخبار عن الصادقين .
إنّما المهمّ
الجواب عما اشتمل عليه السؤال من الإشكال المنقدح في خيال ذلك الجناب المفضال :
أوّلاً
: بانتفاء موضوع
الشفاعة باجتناب الكبائر ولو مع ارتكاب الصغائر ؛ لقوله تعالى : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ
نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) ، وبأنّ « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » ، كما في الكتاب والسنّة المفضّلة.
وثانياً
: بأنّ مرتكب
الكبائر غير مرتضىً ، وقد قال تعالى : ( وَلا يَشْفَعُونَ
إِلّا لِمَنِ ارْتَضى ) .
والجواب
عن الأوّل : أنّه حصرٌ غير حاصر ؛ لبقاء مرتكب الكبائر والمصرّ على الصغائر ولو مع
اجتناب الكبائر ؛ أمّا الأوّل فلقوله صلىاللهعليهوآله في الخبر المشهور « ادّخرتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » أو « إنّما
شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي » ، كما سيأتي.
__________________
وأمّا الثاني
فلأنّ الصغيرة ذنبٌ موجبٌ لدخول النار ، ولأنّه عصيانٌ للملك القهّار ، كما في
الخبر : « لا تنظر
إلى ذنبك ولكن انظر إلى مَنْ عصيت » ، ولأنّه « لا
صغيرة مع الإِصرار ، كما لا كبيرة مع الاستغفار » .
والجواب
عن الثاني : بالمنع ؛ لدلالة الأخبار الكثيرة في تفسيرها بمَنِ ارتضى دينه لا مَنْ
ارتضى فعله ، فيدخل الفاسق المؤمن وإِنْ ارتكب الكبائر ؛ لأنّ الإيمان بالمعنى
العام هو التصديق بالله ورسوله وجميع ما جاء به ، وليست الأعمال الصالحة جزءاً منه
كما هو المشهور في معناه ؛ لتكثّر عطف الأعمال عليه في الكتاب العزيز ، مع أنّ
العطف يقتضي المغايرة.
ففي ( الصافي )
نقلاً من ( العيون ) عن الرضا عليهالسلام في تفسيرها : « إلّا لمن ارتضى الله دينه » .
وعن توحيد الصدوق
عن الكاظم ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال : « إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا
المُحسنون منهم فما عليهم من سبيل
». قيل : يا ابن رسول الله ، كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر
والله تعالى يقول : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلّا
لِمَنِ ارْتَضى ) ، ومَنْ يرتكب الكبيرة لا يكونُ مرتضىً؟.
فقال : « ما من مؤمن يرتكب
ذنباً إلّا ساءه ذلك وندم عليه ، وقال النبيّ صلىاللهعليهوآله : كفى بالندم توبةً.
وقال صلىاللهعليهوآله : مَنْ سرّته حسنة
وساءته سيئة فهو مؤمن ، فمن لم يندم على ذنبٍ يرتكبُهُ فليس بمؤمن ولم تجب له
الشفاعة ، وكان ظالماً ، والله تعالى ذكره بقوله : ( ما لِلظّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ )
».
فقيل له : يا
ابن رسول الله ، وكيف لا يكون مؤمناً مَنْ لم يندم على ذنبٍ يرتكبه؟.
__________________
فقال : « ما من أحدٍ يرتكب
كبيرة من المعاصي وهو يعلم أنّه سيعاقب عليها إلّا ندم على ما ارتكب ، ومتى ندم
كان تائباً مستحقّاً للشفاعة ، ومتى لم يندم عليها كان مصرّاً ، والمُصرُّ لا
يُغفر له ؛ لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم ، وقد
قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : لا كبيرة مع
الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. وأمّا قولُ الله عزوجل : ( وَلا يَشْفَعُونَ
إِلّا لِمَنِ ارْتَضى ) ، فإنّهم لا يشفعون
إلّا لمَن ارتضى اللهُ دينَه ، والدّينُ الإِقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات ،
فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب ؛ لمعرفته بمعاقبته في القيامة » انتهى. وهو كافٍ في الجواب عن الإشكالين الموقعين في الارتياب.
نعم ، قد ينافي
قوله عليهالسلام فيه : « فمن لم يندم على ذنبٍ يرتكبه فليس بمؤمن » ... إلى آخره ، ما مرّ من ثبوت الإيمان لمرتكب الكبائر ، كما ينافيه
أيضاً ما في الخبر النبويّ : « لا
يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » ... إلى آخره.
والجواب عن
الأوّل بحمله على حال الاستحلال ؛ لدلالة تعليله عليهالسلام ذلك بقوله : « لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب » على زوال اعتقاده التحريم وعدم تصديقه بما أتى به
النبيّ الكريم.
وبه يحصل
الجواب عن الخبر النبويّ أيضاً ، كحمله أيضاً على نفي الإيمان بأحد أفراده الخاصة
الكاملة ، لا بالمعنى الشامل للفاسق بالجوارح مع صحّة اعتقاداته الفاضلة. أو على
أنّ معنى « وهو مؤمن » أنّه ذو أمن من عذابه ، بل إنّ المؤمن يرتكب المحرّم
مع اعتقاد تحريمه ، واستحقاق تأثيمه وتأليمه وإنْ غلب سلطان الهوى والشهوة
النفسانيّة على القوّة العقلانيّة ، على نحو ما في الدعاء المشهور : « إلهي لَمْ أعصِكَ حين
عَصَيتُكَ ، وأَنا بِربوبيّتك جاحِدٌ ، ولا بأمْرِكَ مُستخفٌّ ، ولا لعُقُوبتك
متعرّضٌ وَلَا [ لِوَعِيدِكَ ] مُتهاونٌ ، ولكن خطيئةٌ
عرضت لي وسوّلت لي نفسي
وغلبني هواي » . ونحوه
__________________
غيره من الأدعية المعصوميّة.
أو على أنّ
لفظه خبرٌ ومعناه النّهي ، أي : لا يزن والحال أنّه مؤمن ؛ إذ لا يليق ذلك بحال
العقلاء المصدّقين بما يترتّب عليه من العقاب والبلاء ، على حدّ قول العرب : ( لا
تضرب زيداً وهو أخوك ) في مقام الإنكار والردع والتلويم.
وكيف كان ،
فالخبرُ المذكور ظاهرٌ في أنّ ارتكاب الكبائر مع التصديق بالتحريم واستحقاق العقاب
والتأثيم غير مخرج عن اسم الإيمان العام ، وإنّما يخرج بالاستحلال والإنكار لأحكام
الملك العلّام.
فان
قيل : ما ذكرتم يدلّ
على اجتماع الفسق والإيمان ، وقد قال تعالى ( أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) ، لدلالة تغاير الموصوفين على تغاير الوصفين.
قلنا
: الجواب ، أمّا
أوّلاً ؛ فلدلالة الأخبار الكثيرة من الخاصّة والعامّة على أنّ المراد فيها بالفاسق الوليد بن عقبة ، وبالمؤمن
علي بن أبي طالب عليهالسلام.
وأمّا ثانياً :
فبمنع المنافاة ؛ لأنّا لا ندّعي المساواة في الدرجات ، وإنّما نقول بعدم استحقاقه
التخليد في النار ذات الدركات لو لم يحصل له قبل دخولها أحدُ المسقطات ؛ إمّا
العفو من ربّ البريّات وغافر الخطيئات ، أو التوبة المقبولة المطهّرة له من أدناس
السيّئات ، أو شفاعة النبيّ صلىاللهعليهوآله أو أحد آله الهداة أو غيرهم ممن تُرجى وتُقبل منه
الشفاعات. واللهُ العالم وحججه الهداة.
الإيراد الأوّل من السائل
وردّه
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله ملهم
الصواب وكاشف حجاب الارتياب عن قلوب اولي الألباب ، والصلاةُ والسلامُ على محمّد
وآله الأطياب ، قال السائل سلّمه الله تعالى في الإيراد على جواب مسألة الشفاعة ما
لفظه : ( وحيث حصر
جنابُ مولانا ـ دامت سلامتُه ـ الشفاعة
__________________
في
المؤمنين ـ كما صرّح به من حمل قوله عزوجل ( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ )
، وقوله سبحانه : ( فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشّافِعِينَ )
، على مَنْ عدا المؤمنين من فرق الكافرين انتفى موضعها ؛ لنفيه الإيمان عن المصرّ
على الصغائر ، فأولى منه مرتكب الكبائر ، وأنّ غير المصرّ والمرتكب الكبائر من
المحسنين ، والله جلّ وعلا يقول : ( ولا سبيل على المحسنين )
، والمقصودُ الإِفهامُ وإنْ خرج السؤال بطريق الإلزام ). انتهى كلامه ، زِيد إكرامه.
أقول
: قوله ـ سلّمه
الله تعالى ـ : ( وحيث
حصر ... ـ إلى قوله : ـ انتفى موضعها ) لا أعلم وجهاً لدلالة الجواب على انتفاء موضوع
الشفاعة لنفي الإيمان عن المصرّ على الصغائر ، فأوْلى منه مرتكب الكبائر ؛ إِذْ
عدمُ الملازمة بين الحصر والانتفاء ظاهرٌ بلا خفاء ؛ لأنّ الحمل المذكور إنّما هو
لردّ استدلال الوعيديّة على إسقاط الشفاعة بالكليّة ، ومحصّله نفي الشفاعة
للكافرين ومَنْ بحكمهم من المخالفين المنتحلين ، وإثباتها لغيرهم من فسقة المؤمنين
، المراد بهم مَنْ كانوا من الإماميّين ، إذ الفسقُ هو الخروج عن طاعة ربّ
العالمين مع الإيمان به وبالأنبياء والمرسلين.
وأمّا نفي
الإيمان عن المصرّ على الصغائر الذي استفدتم من فحواه النفي عن مرتكب الكبائر ،
فالوجه من استظهاره من الجواب من أوّله إلى آخره غير ظاهر ، بل هو خلافُ الظاهر ؛
لقولي في الجواب عن الشقّ الأوّل من سؤالكم : بأنّه حصرٌ غير حاصر ؛ لبقاء مرتكب
الكبائر ، والمصرّ على الصغائر ... إلى آخره.
وفي الجواب عن
الشقّ الثاني منه : بمنع أنّ مرتكب الكبائر غيرُ مرتضىً ؛ لتفسير الآية بمَنْ
ارتضى دينه ، لا مَنْ ارتضى فعله ، فيدخل الفاسق المؤمن وإنْ ارتكب الكبائر ؛ لأنّ
الإيمان بالمعنى العام هو التصديق بالله ورسوله ... إلى آخر ما ذكرتُه في الجواب.
__________________
وقولي أيضاً :
وكيف كان ، فالخبر المذكور ظاهر في أنّ ارتكاب الكبائر مع التصديق بالتحريم
واستحقاق العقاب والتأثيم غيرُ مخرج عن اسم الإيمان العام ، وإنّما يخرج
بالاستحلال والإنكار لأحكام الملك العلّام.
وقولي أيضاً في
الجواب عن قوله تعالى ( أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) ـ : حيث إنّ ظاهرها ينافي ما ذكرته من اجتماع الفسق
والإيمان ، بدلالة الأخبار على أنّ المراد بالمؤمن أمير المؤمنين عليهالسلام ، وبالفاسق الوليد المهين .. إلى آخر الجواب.
وكلُّ هذه
الفقرات صريحة في إثبات الإيمان للمصرّ على الصغائر ، بل ومرتكب الكبائر.
الإيراد الثاني من السائل
وردّه
ثم
قال السائل سلّمه
اللهُ تعالى مورداً على هذا الجواب ، ما لفظه : ( ولمّا وقف العبدُ على ما افدتموه في كتابكم
البديع من الخطاب لم يستفد منه سوى الإيضاح لما اشتمل عليه الأوّل من الجواب ،
وليس المرادُ من الكتابة إلّا البيان لا ترصيع الأوراق بمثل هذا الجُمان ، فعادت
المراجعة بِكْراً ).
أقول
ـ وبالله الثقة
والمأمول ـ : لا يخفى على مَنْ تأمّل في الجواب من أوّله إلى آخره وطبّق بعض
فقرأته على بعض ، ولم يقصر نظره على بعض فقره ، أنّه مطابقٌ للسؤال ، وافٍ بحلّ
الإشكال ، وذلك أنّ أصل سؤالكم إنّما هو عن الشفاعة لِمَنْ إذا كانت ذنوب تاركي
الكبائر مكفّرة ، ومرتكب الكبائر غير مرتضىً ، والله عزوجل يقول ( وَلا يَشْفَعُونَ
إِلّا لِمَنِ ارْتَضى ) ، والتائب
من الذنب كمن لا ذنب له ؟ وحيثُ مهدتم هذه المقدّمات الثلاث حصل لكم الإشكال
باستلزامها انتفاء موضوع الشفاعة.
__________________
وحاصل الجوابُ
الأوّل يرجع لمنع بعض المقدّمات ومنع الحصر ؛ لبقاء الفسقة من المؤمنين بالمعنى
الأعم وإنْ ارتكبوا الكبائر وقارفوا المآثم.
وهذه الكلماتُ
القليلة لو حصل فيها اعتلال أو اختلال لضيق المجال ، لم يقدح ذلك في جميع الفقرات
المودعة في جواب ذلك السؤال ، بل يلزم المراجعة لأصل الجواب لو حصل استشكال.
ثم أوردتم في
كتابكم الثاني ما حاصله : أنّ انتفاء موضوع الشفاعة لم يرتفع عنه الإشكال بناءً
على فهمكم منه نفي الإيمان على المصرّ على الصغائر ، فأوْلى منه مرتكب الكبائر ،
فأجبناكم بإثبات الإِيمان بالمعنى الأعم لمرتكب الكبائر ، فضلاً عن مرتكب الصغائر.
ومنع ما استفدتموه من الجواب من نفي الإيمان بكلّ لفظ صريح وظاهر ، بل أجبنا
بإثبات الإيمان الأعمّ لذينك الصنفين ، وإنّ حمل الآيتين على غير المؤمنين إنّما
هو لردّ استدلال الوعيديّين. ثم طالبناكم بتبيين موضع الدلالة على فهمكم من الجواب
نفي الإيمان عن المذكورين ؛ ولهذا قلتم في هذا الكتاب الثالث : لا كلام في ثبوت
الإيمان لمنتحل الولاية وإنْ أصرّ على الصغائر ، أو ارتكب الكبائر.
نعم ، تركنا
المناقشة لكم في موضعين حملاً لكم على أحسن الوجوه ، وصوناً لكلامكم عن المين :
الأوّل
: قولكم : ( وإنّ غير المصرّ
والمرتكب الكبائر من المحسنين ) ، مع مخالفته لظاهر مبدأ الاشتقاق ؛ إذ المراد
بالمحسن حقيقة المتلبّس بالإحسان ، أو الفعل الحسن. ولا ريب أنّ مباشر الذنب وإنْ
اجتنب الكبائر لا يصدق عليه أنّه محسن بالمعنى المذكور ؛ إذ الإحسان من الأُمور
الوجوديّة ، فلا يكفي في ثبوته الأُمور العدميّة مع التلبّس بالهيئات غير
المرضيّة.
الثاني
: قولكم : (
والله جلّ وعلا يقولُ ولا سبيل على المحسنين مع أنّ لفظ الآية الشريفة والله
العالم ـ ( ما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) ، وإنْ تضمّن لفظكم معنى كلام
__________________
الجليل.
قال
ـ سلّمه الله
تعالى ـ : ( فأقولُ ولا
حول ولا قوّة إلّا بالله ـ : لا كلام في ثبوت الإيمان لمنتحل الولاية وإنْ أصرّ على
الصغائر أو ارتكب الكبائر بعد ورود تفاوت دُرج الإيمان ، وثبوت أنّها ثمان ، إنّما
الكلامُ في ثبوت الشفاعة لهذين الصنفين ، وتخصيصهما من البين ، وما ذكرتموه من
الدليل لا يساعد على هذا القيل ).
أقول
: إنّ ما ذكرناه
في جواب إشكالكم في الشفاعة بانتفاء موضوعها باجتناب الكبائر ولو مع ارتكاب
الصغائر ، وبأنّ : « التائب
من الذنب كمن لا ذنب له » ، بتقريب : أنّ المذنب إمّا مقتصر على الصغائر مجتنب
للكبائر ، أو مرتكب للجميع لكنه تاب عن الجميع ، فأجبنا بأنّه حصرٌ غيرُ حاصر ؛
لعدم الانفصال الحقيقي المردّد بين النفي والإثبات كي يلزم الانحصار.
واستدللنا عليه
بما ذكرناه في أصل الجواب من الدليل الواضح السبيل وإنْ اقتصرنا على القليل ، مع
أنّ اعترافكم بأنّه ( لا
كلام في ثبوت الإيمان لمنتحل الولاية وإنْ أصرّ على الصغائر أو ارتكب الكبائر ) مما يشهد بمساعدة الدليل.
وليس يصحّ في
الأذهان شيءٌ
|
|
إذا احتاج
النهارُ إلى دليل
|
واللهُ يقول
الحق وهو يهدي السبيل.
قال سلّمه الله تعالى ـ : ( وتفسير الآية الشريفة
بمَنْ ارتضى دينه لا يستلزم أنّ المصرّ والمرتكب مرتضىً ؛ لنفي ما استدللتم به
الإيمان عنهما ، وشهادته بأنّ المرتكب غير مرتضىً ؛ لقوله عليهالسلام : « فَمَنْ لم
يندمْ على ذنبٍ يرتكبه فليس بمؤمن »
).
أقولُ
: لعلّ كلامه
سلّمه الله تعالى ناشٍ من الاستعجال المانع من مراجعة ما
__________________
قدّمناه من إثبات الإيمان بالمعنى الأعم لهما ، الذي أقلّه الاتصاف بالتدين
بدين الإسلام ، وقد قال تعالى ( إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) ، ومن استيفاء الحديث الشريف ، وما عقّبناه به من
المقال ، لظهوره في أنّ قوله عليهالسلام
: « فمن لم يندم على ذنبٍ يَرْتكبُهُ فليس بمؤمن » ، في أنّه كناية عن اعتقاد
الاستحلال ، كما هو مقتضى القضية الشرطية الظاهرة في اللزوميّة لا الاتفاقيّة ،
وفي أنّ عدم الندم لازمٌ لعدم الإيمان بمعنى التصديق والإذعان اللازم للاستحلال ،
كما يقتضيه التدبّر في الخبر الكاظمي في قوله ، فقيل له : يا ابن رسول الله ، وكيف
لا يكون مؤمناً مَنْ لم يندمْ على ذنب يرتكبه؟. فقال عليهالسلام
: « ما
من أحدٍ يرتكبُ كبيرةً من المعاصي وهو يعلم أنّه سُيعاقب عليها إلّا ندمَ على ما
ارتكب ، ومتى ندِمَ كان تائباً مستحقّاً للشفاعة ، ومتى لم يندم عليها كان مصرّاً
، والمصرّ لا يُغفر له ؛ لأنّه غيرُ مؤمن بعقوبة ما ارتكب ، ولو كان مؤمناً
بالعقوبة لندم » .. إلى آخره.
وكلُّ هذه
الفقرات ظاهرةٌ في أنّ عدم الندم من لوازم الاستحلال وعدم التصديق بالعقاب والنكال
، فيكونُ منكراً لضروري الدّين العال ، وفي أنّ الإيمان المنفي فيه إنّما هو
الإيمان بالمعنى اللغوي ، الذي هو التصديق والإذعان ، كما في قوله
تعالى ( وَما أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنا ) ، وقوله تعالى ( يُؤْمِنُ بِاللهِ ) .. إلى آخرها ، وغيرهما من الآيات والكلمات العربيّة
المتعارفة عند أهل اللسان ، الحاصلة بالسّبر والوجدان.
قال سلّمه
اللهُ تعالى ـ : ( ثم
على القول بأنّ الحصر غيرُ حاصر ؛ لبقاء المصرّ على الصغائر ومرتكب الكبائر ،
يقالُ وإنْ كان فيه شائبة العود ـ : أمع الاستحلال أم لا؟ لا سبيل إلى الأوّل ،
وعلى الثاني : فإمّا أنْ يقال بتكفير مجتنب الكبائر أم لا؟ فعلى الثاني : ردّ صريح
الأثر وصريح القرآن ، وعلى الأوّل : ينتفي الموضع عن البيان ).
__________________
أقولُ
: نختار الثاني
من الأوّل ، والأوّل من الثاني ، ونمنعُ انتفاء الموضع من البيان ؛ لوفاء الجواب
بأنّ المصرّ على الصغائر لا مع الاستحلال ، ومرتكب الكبائر كذلك ممّن يستحقّ
الشفاعة مع استحقاق العقاب ؛ لأنّها إحدى المسقطات ، كما ذكرناه في أصل الجواب.
قصارى ما في الأمر أنّ المصرّ فردٌ من مرتكب الكبائر أو مشاركٌ له في حكمه وإنْ لم
يكن فرداً منه ، فيرجع بالآخرة إلى أنّ موضوع الشفاعة أهل الكبائر حقيقةً أو حكماً
، بمقتضى الدليل الظاهر ، والله العالم بالسرائر.
قال سلّمه الله تعالى ـ : ( وادّعاء وفاء الجواب بأنّ المصرّ على الصغائر
لا مع الاستحلال ومرتكب الكبائر كذلك ممّن يستحق الشفاعة إنْ كان دليله الكاظمي
فقد عرفتم امتناعه ، وإنْ كان لغيره فبيّنوه عسى يستبين لنا كما استبنتموه ).
أقولُ
: لا يخفى وفاء
الخبر الكاظمي المروي بعذبه كلّ ظَمِئ بالمراد منه في هذا المجال على كلّ كَمِي ، ولعل الذي
أوقعكم في الإشكال وتعمية المقال حملُ قوله عليهالسلام : « فمن لم
يندم على ذنبٍ يرتكبه فليس بمؤمن » على إرادة الإيمان بالمعنى الاصطلاحي ، مع قيام
القرينة فيه على إرادته عليهالسلام منه المعنى اللغوي ، كما بيّنه عليهالسلام في جواب مَنْ قال له : وكيف لا يكون مؤمناً مَنْ لم
يندم على ذَنْبٍ يرتكبه؟. حيث قال عليهالسلام : « ومتى
لم يندم عليها كان مصرّاً والمصرّ لا يغفر له ؛ لأنّه غير مؤمن »
، أي : غير مصدّق
بعقوبة ما ارتكب ، ولو كان مؤمناً أي : مصدّقاً بالعقوبة لندم ، وهو ظاهر في هذا
الباب ، ناطقٌ بفصل الخطاب ، والله العالمُ بالصواب.
قال سلّمه اللهُ تعالى ـ : ( فلم يبقَ إلّا القول بالعموم ، فيدخل المرتكب
والمعصوم ، وفيه ما فيه ؛ لتعارض الاعتبار والآثار فيه ، أو يقال بالعدم ، ويلزم
قائله اللوم والندم ).
أقولُ
: أمّا المرتكب
غير المستحل فلا إشكال في دخوله في الشفاعة ، وأمّا المعصوم فخروجه بانتفاء
الموضوع ظاهرٌ لأهل الصناعة.
__________________
ولا بأس بإيراد
بعض الكلمات لعلمائنا الأخيار المشفوعة بظواهر الأخبار :
قال الصدوق رحمهالله في اعتقاداته : ( اعتقادُنا في الشفاعة أنّها لمَن ارتضى اللهُ
دينه من أهل الكبائر والصغائر ، فأمّا التائبون من الذنوب فغيرُ محتاجين إلى
الشفاعة .. إلى أنْ
قال ـ : والشفاعة
لا تكون لأهل الشكّ والشرك ، ولا لأهل الكفر والجحود ، بل تكون [ للمذنبين
] من أهل التوحيد ) .
وقال المحدّث
السري الشيخ محمّد علي آل غانم القطري المجاز من المحدّث المبرور الشيخ حسين آل عصفور ، والشيخ أحمد
بن زين الدين في كتابه ( الكواكب الدريّة ) ما لفظه : ( ومستحقّ
الشفاعة يوم القيامة هم المذنبون من المؤمنين دون غيرهم بالإِجماع والنصوص
المستفيضة :
منها
: ما رواه في (
العيون ) و ( الأمالي ) ، عن الحسين بن خالد ، عن الرّضا عليهالسلام ، قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله :
إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل ».
وفي حديث آخر
عنه عليهالسلام : « إذا قمت المقام
المحمود ، شفعت لأهل الكبائر من أُمّتي
__________________
فيُشفّعني
الله فيهم ، والله لا شفعتُ فيمن آذى ذرّيتي » .
وسئل الرضا عليهالسلام عن قوله عزوجل ( وَلا يَشْفَعُونَ
إِلّا لِمَنِ ارْتَضى ) ، قال ك « لا يشفعون
إلّا لمن ارتضى اللهُ دينه » .
وروى الصدوق في
( فضائل الشيعة ) عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « إذا كان
يوم القيامة أشفع في المذنب من الشيعة ، فأمّا المحسنون فقد نجّاهم الله » ). انتهى.
وقال المحدّث
المجلسي بعد إيراد ما رواه الصدوق رحمهالله في ( الخصال ) في حديث طويل أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال في جواب نفرٍ من اليهود سألوه عن مسائل : « وأمّا
شفاعتي ففي أصحاب الكبائر ما خلا أهل الشرك والظلم » ما لفظه : ( المراد بالظلم : سائر أنواع الكفر والمذاهب
الباطلة ) . انتهى.
ولا يخفى
أمثالها ، فلا فائدة إلى التطويل ، وكلّها ولله الحمد منطبقة على ما ذكرناه من
التأويل.
ثم
قال سلّمه الله
تعالى بعد نقله قولنا : تركنا المناقشة لكم في موضعين : ( إذا عرفتم أنّ للكلام
وجهاً حسناً في المآل ، فما فائدة المناقشة في المقال ، وإذا كان المحسن هو
المتلبّس أو المتّصف فعلاً بالإحسان ، أو الفعل الحسن وإنْ كان للمقال فيه مجال ،
فما المانع من اتّصاف مجتنب الكبائر بتلك الأحوال ، وإذا كانت ذنوب مجتنبي الكبائر
مكفّرة بالنصّ الواضح البيان ، فأيّ تلبّس بهيئة غير مرضيّة تخرجه من الإحسان ،
فيثبت عليه ما نفاه القرآن ، والغلطُ الواضح البيان إذا لم يهدم البنيان فالمناقشة
فيه والعدم سيّان ).
أقولُ بعد قولنا : إنّا تركنا المناقشة في الموضعين حملاً لكم
على أحسن الوجوه ، وصوناً لكلامكم عن المين ـ : لا فائدة في هذا الكلام وتوجيه
الملام ، وحيث إنّ
__________________
تحقيق المعنى الحقيقي في المشتقات ممّا يستغرق جملة من الأوقات ، ضربنا عنه
صفحاً ، وطوينا عنه كَشْحاً ، إيثاراً للأهمّ وما نفعه الأعم.
علم الفقه
كتاب
الطهارة
كتاب
الصلاة
كتاب
الزكاة
كتاب
الصوم
كتاب
الحج
كتاب
التجارة
كتاب
الصلح
كتاب
الوكالة
كتاب
الوصايا
كتاب
النكاح
كتاب
الطلاق
كتاب
الأطعمة والأشربة
كتاب
المواريث
الرسالة الرابعة
هداية البريّة
إلى أحكام اللمعة الدمشقيّة
مقدّمة المؤلِّف
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي
شرح صدورنا بالهداية لدين الإسلام ، وغرس في رياض قلوبنا حدائق معرفة الشرائع
ومدارك الأحكام ، وفقّهنا في معالم دينه بما هو منتهى المطلب وغاية المرام ،
وبصّرنا فيه بنهاية الاستبصار وكامل الإتقان ، ووفّقنا لتهذيب أحكامه وتحرير
قواعده بجامع البيان ، والاستضاءة بمشكاة مصابيحه ، والغوص في بحار أنواره
لاستخراج الجواهر ومنتقى الجُمان ، ووقّفنا على سرائره وكنز عرفانه وإشاراته
وتبيانه بمجمع البرهان وجوامع التبيان.
والصلاة
والسلام على مَنْ هم نبراس الضياء وَقَبَس الاهتداء ، وهداية الأُمّة وغاية المراد
، وبهم كمال الدين وإتمام النعمة والإرشاد ، محمّد مُخمِدِ نار العدم ، وآله
المنتجبين في القدم ، صلاةً وسلاماً دائمين مدى الآباد.
أمّا
بعد : فإنّ أشرف ما
تصرف فيه نفائس النفوس وأطرف ما جرت به جياد الأقلام في ميادين الطروس هو العلم
بالأحكام الفقهيّة ، الذي تطابقت على شرفه الأدلّة العقليّة والنقليّة ، فإنّه بين
سائر العلوم كالشمس بين سائر النجوم ، ولطال ما أنفق العلماء الأعلام فيه كنوز
الأعمار ، وبذلوا في تحقيقه نفائس الأنظار والأفكار ،
__________________
وارتكبوا حرصاً على تنقيحه الأخطار ، وعطّروا بالتأليف فيه أرجاء الأقطار ،
فمِنْ مبسوطٍ كافٍ وافٍ في تنقيح دلائله ، ومختصرٍ نافعٍ معتبرٍ في جُمل عُقوده
ومسائله ، ومهذّبٍ رائعٍ حاوٍ لعناوينه وعوائده ، ومستندٍ كاشف لرموزه ولثامِ
قواعده ، وروضِ جنانٍ جامعٍ لمقاصده ، ودروسٍ كانت تذكرةً وذكرى لُاولي الألباب ،
وموجزٍ كان غُنيةً ومُقنعاً في إيضاحه على نهجٍ عُجاب. شكر الله سعيهم وأدام من
مياه الرضوان سقيهم.
وكان ممّا
انتظم في سلك هذا العقد الشريف ، وانخرط في هذا السمط الطريف ، الكتاب المسمّى ب :
( اللمعة الدمشقيّة في فقه الإماميّة الاثني عشريّة ) ، فإنّه وإنْ كان صغير الحجم
إلّا إنّه غزير العلم ، فعنَّ لي أنْ أُخرجه بشرح يحلّ مشكلاته ، ويفتح مقفلاته ،
خالٍ من الإطناب المُمِلِّ ، والإيجاز المُخِلِّ ، فلم أزل أُقدِّمُ رِجلاً
وأُؤخِّر اخرى ، ولم أدرِ أيّ الحالين أحرى ؛ لما أنا عليه من قلّة البضاعة
باختلال الأحوال ، وجلة الإضاعة باختلاف الأهوال ، حتى هجمت العوائد الرّبّانيّة
على موائد الفوائد السبحانيّة ، فتوجّهتُ تلقاء مدين هذا الشأن ، وأجريتُ جياد
الفكر في فيافي ذلك الميدان ، واثقاً بالملك المنّان في إنجاح المطلوب وإصلاح
الشأن ، وسمّيته : ( هداية
البريّة إلى أحكام اللمعة الدمشقيّة ).
وأسأل الله أنْ
يوفّقني لإتمامه والفوز بسعادة اختتامه ، وأنْ يجعله خالصاً لوجهه الكريم إنَّه ذو
الفضل العظيم والطول العميم ، وقد أحببتُ أنْ أفتتحه بذكر أحوال مؤلِّفه الجليل
تيمُّناً بذكره الجميل.
حياة الشهيد الأول
فأقول سائلاً
منه تعالى التسديد في كلّ مقولٍ ـ : هو العالم العامل ، والحبر النحرير الكامل ،
سمط جَرِيدةِ الأماثل ، وواسطة عِقد الأفاضل ، الإمام في الفنون
__________________
الشرعيّة ، والرئيس في الحكمة الإلهيّة ، مالك أزِمَّة التحقيق ، ومتسنِّم
صهوة التدقيق ، غوّاص بحار المعارف ، وقنّاص شوارد اللطائف ، العقل الحادي عشر
والبرج الثالث عشر ، شمس سماء العبادة والزهادة ، وحاوي فضيلَتَي السعادة والشهادة
، جامع الكرامات والممادح والمحامد ، أبو عبد الله محمّد بن مكّي بن محمّد بن حامد
، رفع الله درجته كما شرَّف خاتمته.
موطنه
كان رحمهالله من أهل جزّين بالجيم المكسورة ، ثمّ الزاي المشدّدة
كذلك ، ثمّ الياء المثناة التحتانية ، ثمّ النون إحدى قرى جبل عامل. أثنى عليه
علماؤنا غاية الثناء ، وفضّلوه غاية التّفضيل ، وبجَّلوه نهاية التبجيل ، وجعلوه
في أعلى مراتب الجلال ، وعدُّوه ممَّنْ حاز قصب السبق في الكمال. وكان ممَّنْ
اتّفقتْ على توثيقه وعدالته كلمةُ مشايخنا الأبدال.
كلمات العلماء فيه
قال الشيخ أبو
علي رحمهالله في كتابه ( منتهى المقال ) نقلاً من كتاب ( نقد الرجال
) للسيّد مصطفى التفريشي رحمهالله بعد ذكر اسمه الشريف ما لفظه : ( شيخ الطائفة وعلّامةُ
وقته ، صاحب التحقيق والتدقيقٌ من أجلّاء هذه الطائفة وثقاتها ، نقيُّ الكلام ،
جيِّدُ التصانيف ) . ثمّ نقل بعض كتبه.
وقال المحدِّث
المنصف الربّاني الشيخ يوسف البحراني في ( لؤلؤة البحرين ) : ( وأمّا شيخنا الشهيد
السعيد شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن مكي إلى أنْ قال ـ : فضله أشهرُ مِنْ أنْ
يُذكر ونُبله أعظم مِنْ أنْ يُنكر ، كان عالماً ماهراً فقيهاً مجتهداً ، متبحّراً
في العقليّات والنقليّات ، زاهداً عابداً ورعاً ، فريد دهره ) . انتهى.
__________________
وبالجملة فهو
من الجلالة بمكان ، بحيث لا تحتاج إلى البيان.
شعر :
هي الشمسُ
كلُّ العالَمينَ يرونَهَا
|
|
عياناً ولكنْ
ذِكرُها للتبرّك
|
وكان والده
أيضاً كما قاله الشيخ يوسف في ( اللؤلؤة ) والحرّ العاملي في ( أمل الآمل ) ـ :
فاضلاً من فضلاء المشايخ في زمانه ، ومن أجِلّاء مشايخ الإجازة .
مقتله
قُتل قدّس الله
تعالى سِرَّه وبحضيرة القدس سَرَّهُ بالسّيف ، تاسع شهر جمادى الأُولى سنة ستّ
وثمانين وسبعمائة ، ثمّ صلب ، ثمّ رجم ، ثمّ أُحرق بالنار لعن الله مَنْ قتله
وَمَنْ بَلَغَهُ ذلك فرضيه وكان ذلك بدمشق في دولة ( بيدمرو ) وسلطنة برقوق بفتوى
برهان الدين المالكي وعبّاد بن جماعة الشافعي ، بعد ما حُبس سنةً كاملةً في قلعة
الشام. كذا نقله في ( اللؤلؤة ) عن كتاب ( أمل الآمل ) .
قال الشيخ أحمد
بن الحسن الحرّ في ( الدر المسلوك ) : توفي الشهيد الأوّل محمّد بن مكّي العاملي
الجزّيني ، تلميذ الشيخ فخر الدين محمّد ابن العلّامة الحلي ، بدمشق مقتولاً
محروقاً بفتوى القاضي برهان الدين المالكي ، وعبّاد بن جماعة الشافعي في دولة
بيدمرو وسلطنة الملك الظاهر برقوق سلطان مصر والشام ، سنة ستّ أو تسع وثمانين
وسبعمائة بعد أنْ حُبس سنة كاملة في قلعة دمشق. وفي مدّة الحبس ألّف ( اللمعة
الدمشقيّة ) في فقه الإماميّة في سبعة أيام. وكان سبب حبسه وقتله أنّه سعى به رجل
من أعدائه وكتب محضراً يشتمل على مقالات شنيعة عند العامّة من مقالات الشيعة ،
وكتب عليه شهادات جماعة منهم كثيرة ، وثبت ذلك عند قاضي صيدا ، ثمّ أتوا به إلى
قاضي دمشق فحبسه سنة ، ثمّ أفتى الشافعي بتوبته
__________________
والمالكي بقتله ، فقُتل ثمّ صُلب ، ثمّ رُجم ، ثمّ أُحرق ، ولعنة الله على
الظالمين ( وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .
ونقل في (
اللؤلؤة ) أيضاً عن خط العلّامة أبي الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني أنَّه وجد في
بعض المجموعات بخطِّ مَنْ يثق به منقولاً من خطِّ الشيخ العلّامة جعفر بن كمال
الدين البحراني أنَّه وجد بخط الشيخ المرحوم المبرور المغفور [ له ]
العالم العامل أبي عبد الله المقداد السيوري مثله ، إلّا أنّه زاد فيه بيان سبب
حبسه ، ضاعف الله تطييب رَمْسِهِ وتطهير نَفسِهِ ، فإنّه قال بعد نقل المذكور ما
لفظُهُ : ( وكان سبب حبسه أنْ وشى [ به ] تقي الدين الجبلي بعد ارتداده وظهور أمارة الارتداد
منه ، وأنَّه كان عاملاً ، ثمّ بعد وفاة هذا الفاجر قام على طريقه شخص اسمه يوسف
بن يحيى ، وارتدّ عن مذهب الإماميّة وكتب محضراً يشنّع فيه على الشيخ شمس الدين
محمّد بن مكّي بأقاويل شنيعة ، ومعتقدات فظيعة ، وأنّه كان أفتى بها الشيخ محمّد
بن مكي ، وكتب في ذلك المحضر سبعون نفساً من أهل الجبل ممَّنْ كان يقول بالإمامة
والتشيّع وارتدّوا عن ذلك ، وكتبوا خطوطهم تعصّباً مع ابن يحيى في هذا الشأن ،
وكتب في هذا ما ينيف على الألف من أهل السواحل من المتسنّنين ، وأثبتوا ذلك عند
قاضي بيروت وقاضي صيدا. وأتوا بالمحضر إلى القاضي عبّاد بن جماعة لعنه الله بدمشق
فنفذه إلى القاضي المالكي وقال له : تحكم فيه بمذهبك
__________________
وإلّا عزلتك.
فجمع الملك
بيدمرو الأُمراء والقضاة والشيوخ لعنهم الله جميعاً وأحضروا الشيخ محمداً قُدِّس
سرُّه بحضيرة القدس وقرئ عليه المحضر فأنكر ذلك ، وذكر أنّه غير معتقد له ؛
مراعياً للتّقيّة الواجبة. فلم يُقبل منه.
فقيل
له : قد ثبت ذلك
عليك شرعاً ، [ و ] لا ينتقض حكم القاضي.
فقال
: الغائبُ على
حجّته فإنْ أتى بما يناقض الحكم جاز نقضه وإلّا فلا ، وها أنا أُبطل شهادات مَنْ
شهد بالجرح ، ولي على كلِّ واحد حجّة بيّنة.
فلم يُسمع ذلك
منه ولم يُقبل.
فقال الشيخ رحمهالله للقاضي عبّاد بن جماعة : إنّي شافعي المذهب وأنت الآن
إمام هذا المذهب وقاضيه ، فاحكم فيَّ بمذهبك.
وإنّما قال
الشيخ ذلك ؛ لأنّ الشافعي يجوّز توبة المرتدّ.
فقال ابن جماعة له : على مذهبي يجب حبسك سنة ثمّ استتابتك.
أمّا الحبس فقد حُبست ، ولكن تب إلى الله واستغفر حتى أحكم بإسلامك.
فقال الشيخ : ما فعلتُ ما يوجب الاستغفار حتى استغفر ؛ خوفاً
من أنْ يستغفر فيثبت عليه الذنب.
فاستغلظه ابن
جماعة وأكّد عليه فأبى عن الاستغفار ، فسارّه ساعة ، ثمّ قال : قد استغفرتَ فثبت
عليك الحقّ. ثمّ قال للمالكي : قد استغفر والآن ما عاد الحكم اليَّ غدراً وعناداً
لأهل البيت عليهمالسلام ثمّ قال : الحكمُ عاد إلى المالكي.
فقام المالكي
لعنه الله وتوضّأ وصلّى ركعتين ، ثمّ قال : قد حكمتُ بإهراق دمه.
فألبسوه اللباس
، وفُعِل به ما قلناه من القتل والصلب والرجم والإحراق ، لعنهم الله جميعاً الفاعل
، والراضي ، والآمر.
وممَّنْ تعصّب
وساعد في إحراقه رجلٌ يقال له محمّد بن الترمذي لعنه الله مع أنّه ليس من أهل
العلم وإنما كان تاجراً فاجراً. فهذا صورة هؤلاء في تعصّبهم على
أهل البيت ، وشيعتهم. وليس هذا بأفضع ممّا فُعِل بابن رسول الله صلىاللهعليهوآله الحسين بن علي عليهماالسلام وأهل بيته عناداً. والحمد لله ربّ العالمين على السرّاء
والضرّاء ، والشدّة والرخاء ، وذلك من باب ( وَلِيُمَحِّصَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا ) ، وما كتب البلاء إلّا على المؤمنين ) .
انتهى المنقول
من خط الشيخ المقداد في واقعة قتل ذلك العالم الجواد ، حشره الله مع أئمّته السادة
الأمجاد ، وهو كافٍ في المراد.
وله قدسسره ولدٌ فاضلٌ محقّقٌ مدقّقٌ هو الشيخ ضياء الدين علي ،
الذي يروي عنه الشيخ محمّد بن محمّد بن داود المؤذِّن الجزّيني ، الذي يروي عنه
الشيخ نور الدين علي بن عبد العالي الميسي ، رحمهمالله تعالى جميعاً.
__________________
شرح خطبة الكتاب
شرح البسملة
وحيث قد تمّ ما
أردناه وحصل ما قصدناه ، فلنشرع في المقصود متوكّلين على الملك المعبود ، فنقول :
لمّا جرت عادة السلف الصالح بابتداء مصنّفاتهم بالبسملة والحمدلة والثناء على الله
تعالى بأنواع المحامد والممادح صدَّر كتابه قدّس الله روحه ، ونوّر ضريحه ، وطّيب
ريحه ب ( بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) جرياً على منوالهم الراجح. وإنَّما ابتدءوا بالبسملة لوجوه :
منها
: الاقتداء
بالكتاب المجيد الذي ( لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ ) ، فإنَّها أوَّله ، وأوَّل كلّ سورة منه ، ما عدا براءة
؛ لنزولها بالتهديد والزجر والوعيد ، بل قيل : قد عُوّض عنها في سورة النمل في
قوله تعالى ( إِنَّهُ مِنْ
سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، بل روى العيّاشي عن الصادق عليهالسلام أنَّه : « ما أنزل
الله تعالى كتاباً من السماء إلّا وهي فاتحته » .
وفي ( الكافي )
عن الباقر عليهالسلام : « أوّل كلّ كتابٍ نزل من
السماء : بسم الله الرحمن الرحيم » .
ومنها
: امتثال
الأوامر الواردة عن النبيّ المجيد وآله المعصومين خلفائه على الطارف والتليد ،
الحاثّة على ذلك بما ليس عليه مزيد ، ففي تفسير الإمام عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، قال : « إنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآله حدّثني
عن الله عزوجل أنَّه قال
: كلّ أمر ذي بالٍ لم يذكر فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر » .
وفيه أيضاً وفي
( التوحيد ) عنه عليهالسلام : « مَنْ تركها
مِن شيعتنا امتحنه الله بمكروه لينبّهه على الشكر والثناء ، ويمحق عنه وصمة تقصيره
عند تركه [ قول بسم الله الرحمن الرحيم » ].
__________________
وفي ( الكافي )
عن الصادق عليهالسلام ، قال لا تدعها ولو كان بعدها شعر ، إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المضمار.
ومنها
: أنَّه جلَّ
شأنه وعَظُم سلطانه أوّل الموجودات فناسب أنْ يكون اسمه أوَّل كلّ شيء حتى
المكتوبات ، كما قيل : إنّ له تعالى وجوداً في الأعيان ، ووجوداً في الأذهان ،
ووجوداً في الإنسان ، ووجوداً في البيان وهي الكتابة. ووجوده تعالى في هذه الأقسام
أشرف الوجودات.
ومنها
: الردّ على أهل
الجاهلية فإنّهم إذا أرادوا البسملة قالوا : باسمك اللهمَّ ، فلمّا نزل قوله تعالى
( قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) ، وقيل : قوله تعالى ( إِنَّهُ مِنْ
سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، أمر صلىاللهعليهوآله أن يقال ( بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) .
ثّم إنَّ
المُراد من ذي البال في الحديث السابق هو الأمر المقصود بالذكر بالذات ، لا كلّ ما
كان ذا شأنٍ وخطرٍ في نفس الأمر ، فتخرج البسملة عنه بهذا المعنى ، فلا يرد ما قيل
من أنَّ البسملة أيضاً أمرٌ ذو بال فتقتضي بسملة اخرى ، وهي أيضاً كذلك ، فيلزم
الدور أو التسلسل ، وهما باطلان. أو نخصّص ذلك العامّ بما سوى البسملة ، إذ ما من
عامّ إلّا وقد خُصّ ، فنخرجها عن حكمه بالقرينة الخارجيّة من الأدلّة النقليّة ،
كاستثناء الصلاة على النبيّ وآله في ضمن الصلاة عليهم ؛ بناءً على القول بالوجوب
كلّما ذكر. أو نجعلها متخصّصةً بنفسها غير داخلة في العموم أصلاً ، على حدّ قولنا
: كلّ شيء معلول لله ، وقوله تعالى ( اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ ) ، فإنَّ المُراد غير ذاته تعالى من غير احتياج إلى أحد
المخصِّصات.
والفرق بين
الجوابين ظاهر بلا رين.
ولك أنْ تبقية
على عمومه وتلتزم بأنَّ البسملة الواحدة كما أنَّها بسملةٌ لغيرها
__________________
كذلك تجعلها بسملةً لنفسها ، كالدرهم الواحد في أحد نصب الزكاة ، فإنّه كما
يصدق أنَّه زكاة لما انضمَّ اليه ، كذلك يصدق أنَّه زكاة لنفسه ، ولكن لا يخلو من
خدش وتأمّل. أو نمنع الدور والتسلسل بانقطاع السلسلة ولو بانتهائها إليها ؛ لأنّ
ما يوجد بالغير لا بدّ أنْ ينتهي إلى الموجود بالذات كوجود الأشياء المنتهى إلى
وجود الواجب بنفسه ، ودسومة الأشياء المنتهية إلى دسومة الدسم بالذات ، وإليه
الإشارة بقوله تعالى ( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ
الْمُنْتَهى ) .
وحينئذٍ
فابتداء غير البسملة بها ، وابتداؤها بها. ونظيره قول الصادق عليهالسلام
: « خَلَقَ اللهُ
المَشِيئةَ بِنَفْسِها ثَمّ خَلَقَ الخَلْقَ بِالمَشِيئَةِ » على بعض الوجوه في الحديث.
ثمّ إنّ
الشّائع على ألسنةِ أصحابنا في هذا المقام هو الاستدلال بالخبر المشهور : « كلّ
أمر ذي بالٍ لم يبدأ فيه بِبِسْمِ الله فهو أبتر » .
وهو بهذا اللفظ
غير وارد من طرقنا ولا موجود في شيء من كتب أخبارنا ، وإنّما هو من الأخبار العاميّة
، أخرجه المدني وابن مسعود والرهاوي عن أبي هريرة ، ولعلّه
بناءً منهم على ما اشتهر بينهم من التسامح في أدلّة السنن.
وحيث اشتمل على
لفظ الابتداء وقعوا في الإشكالين المشهورين ؛ من معارضته بحديث الابتداء بالحمدلة
الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة عنه صلىاللهعليهوآله ، ومحالية الابتداء بالبسملة ؛ ضرورة أنَّ الابتداء
إنّما هو بالباء فقط ، وسيأتي الجوابُ عن الأول في الكلام على التحميد.
وأمّا الجواب
عن الثاني فبما قيل من تنزيل البسملة منزلة البسيط الخالي عن شائبة التركيب ،
فيلزم من الابتداء بشيء منه الابتداء به بكماله ؛ وذلك لأنّ الكلّ كما تُلاحظ معه
أجزاؤه كذا قد يلاحظ شيئاً واحداً مع قطع النظر عن أجزائه ، وتصير
__________________
الأجزاء حينئذٍ كأنّها مندمج بعضها في بعض ، فيكون الكلّ كالبسيط ، فيصح
نسبة الحكم بالمخصوص بالكلّ إلى الجزء ويسري منه إليه ، فليتأمّل.
مع أنّ مبنى
الشرع الشريف على الظواهر العرفيّة لا الدقائق الحكميّة.
معنى الباء
ثمّ الباء هنا
تحتمل الاستعانة والملابسة ، فإنّ ذكر اسمه المبارك الميمون مثمرٌ للبركة على جميع
الحالات والشؤون ، وتظهرُ الثمرة في اللَّغْوِيّة والاستقرار :
فعلى الأول يكون
الظرفُ لغواً ، وهو ما كان عامله خاصّاً غير واجب الحذف ؛ إمّا لكونه لغواً من
الضمير ، أي خالياً منه ؛ أو لعدم تعلُّقه بالاستقرار العامّ ، وعلى الأخير يكون
مستقراً ( بفتح القاف وكسرها ) وهو عكس الأول ، كالواقع خبراً وحالاً ونعتاً وصلةً
ووصفاً.
قيل : إمّا
لاستقرار الأصل فيه ؛ لأنَّ الظرف لمّا قام مقام عامله انتقل إليه ، وإمّا لكون
عامله الفعلَ العامَّ من الاستقرار والثبوت ، والكون والحصول ، والملابسة والوجود.
ويرجِّح الأول
مضافاً إلى ما رواه الإمام العسكري عليهالسلام في تفسيره والصدوق في معانيه وتوحيده عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : « تقول : بسم
الله ، أي أستعين على أُموري كلِّها باللهِ الذي لا تحقُّ العبادةُ إلّا له » أنَّ جعل الاسم الكريم وسيلةً لحصول الفعل مشعرٌ
بزيادة مدخليّته وتمام الانقطاع إليه ، حتى كأنَّه لا يتمّ الفعل بل لا يحصل إلّا
به ، ومعنى الملابسة عارٍ عن ذلك الإشعار غايةً ، وناءٍ عنه نهاية.
ويرجِّح الثاني
كونُ الملابسة أدخل في التعظيم والتبجيل ، وأوغل في التكريم والتجليل ؛ لجعلها
حينئذٍ متعلّقةً بالتبرّك.
__________________
وأُورِدَ عليه
أنَّ تقدير التبرّك حالة الملابسة يخرجها عن حيز الاستقرار وينأى بها عن صقع ذاك
المزار ، إذ المستقر هو ما كان عامله عامّاً واجب الحذف والإضمار ، والتبرّك خاصّ
، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.
وأُجيب بأنَّ
الفعل العامّ قد تقوم قرينةٌ تخصّصه ببعض الأفراد ، وذلك غير قادح في الاستقرار ،
فإنّا إذا قُلنا : ( زيدٌ على الفرس ) ، فالأصل مستقرٌّ ، إلَّا إنَّ المراد منه
بحسب القرينة الدالّة عليه راكبٌ.
وقد يقال :
إنَّه مع قيام القرينة على إرادة الفعل الخاصّ فلا ريب في دخوله في حيّز تعريف
اللغو وخروجه عن ضابط الاستقرار العامّ ؛ بناءً على أعمّيّة الخاصّ من الأصلي
والعرضي ، فيفضي إلى عود الكلّ إلى الاستقرار العامّ.
وبطلانُهُ غير
خفيِّ على ذي التأمُّل التامّ ؛ إذ لنا أنْ نقدِّر على تقدير إرادة الاستعانة
أيضاً ـ ( متلبِّساً ) إلّا إنّ المراد بحسب مقتضى المقام على الاستعانة ، وهو
خلاف ما صرّح به الأعلام.
ويحتمل كونها
للإلصاق أيضاً ؛ لأنَّه أدخل في شدّةِ الملازمة ، مضافاً لأصالته فيها كما يظهر من
غير واحدٍ ، وظاهر مرويّ الصدوق في ( التوحيد ) و ( العيون ) عن الرضا عليهالسلام : أنَّه سُئِل عن معنى قول القائل : بسم الله ، فقال :
« أي ، أسِمُ
[ على ] نفسي بسِمةٍ من
سمات الله عزوجل » قيل : ما السمة؟ قال :
« العلامة » .
واحتمل بعضٌ
كونها صِلةً ، أيْ زائدةً لتحسين اللفظ ، فمحلّ مجرورها حينئذٍ رفع على الابتداء ،
وخبره محذوف تقديره : كهفي أو عوني أو حصني.
ولا يخفى ما
فيه من مخالفة الأصل من وجهين ، مع عدم المقتضي لذلك في البين ، كما في تجويز بعضٍ
آخر كونها حالَّة محلّ اسم تقديره ابتدائي ، وحذف خبرها ، أي ابتدائي ثابت ،
إذ هو كما ترى.
__________________
وإنَّما
حُرِّكت الباء حذراً من الابتداء بالساكن ؛ لأنّه إمَّا متعذِّرٌ مطلقاً سواء كان لازماً
لذاته كما في الألف ، أو لا كما في غيرها عند بعضٍ ، أو متعسّرٌ كذلك كما عند
آخرين ، أو متعذِّرٌ في الأوّل فقط كما عن أكثر المحقّقين.
وكيف كان ،
فالفرار من الابتداء به لازم بلا إشكال ؛ لنصِّ القائلين بالإمكان على عدم وقوعه
في اللغة العربيّة بحال.
وحرّكت بالكسر
دون غيره لتكون حركتها من جنس ما تحدثه ؛ لاختصاصها بلزوم الجرّ والحرفيّة ، ولم
يلتزموه في الكاف ؛ لعدم ملازمتها الحرفية ، وأمَّا اللام فالقياس فيها كالباء ،
وإنّما تفتح مع الضمير لمانع هو حصول الثقل بالانتقال من الكسر إلى غيره ، فأُوثر
الفتح لخفَّته. على أنّه نُقل عن الفارسي عدم امتناع الفتح والضم في الباء لحصول الغرض بهما.
وعن بعض العرب فتحها ، إلّا
إنّه نادر في القياس والاستعمال.
الكلام على معنى الاسم
واشتقاقه
و ( اسم ) مجرور بالباء ؛ لأنَّ الاستعانة بالاسم استعانة
بالمُسمَّى على أبلغ وجهٍ ، ولأمره تعالى بالدعاء بأسمائه قال ( وَلِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ
بِها ) .
وقيل
: إنَّه مقحم
بين الباء ومجرورها وهو لفظ الجلالة على حدّ قول لَبِيد :
إلى الحولِ
ثمّ اسمُ السلامِ عليكُما
|
|
ومَنْ يَبكِ
حولاً كاملاً فقد اعتذر
|
والإقحام وإنْ
كان جائزاً بل واقعاً ، إلّا إنَّه مع مخالفة الأصل لا داعي إليه مع استقامة
المعنى بغيره الذي لا محذور فيه.
وكأنّ الذي
حداه على ذلك قصد الفرار من توهّم عينيّة الاسم للمسمّى ، كما جنح إليه أكثر
الأشاعرة ، إذ الحقّ عند الإماميّة والمعتزلة هو الغيريّة كما دلّت
__________________
عليه الأخبار المعصوميّة وقامت عليه الأدلّة القطعيّة العقليّة ، وإنْ كان
المانع أنّ هذا الخلاف في عدم الثمرة كالخِلَاف ؛ لأنّه إنْ أُريد بالاسم اللفظ
الدالّ على الذات فلا شبهة في أنّه غير المسمّى ضرورةَ أنَّ لفظ إنسان غير الحيوان
الناطق ، وإن أُريد به ما صدق عليه فلا ريب أنّه عينه ، وإن تحيّروا في تحرير محلّ
النزاع حتى إنّ بعض الأعلام اضطرب كلامه في المقام ؛ فتارة : [ جعله الذات ] إذا أُريد
بالاسم الذات [ مع صفة ] معيّنة وتجلّ [ خاصّ ] ، وتارة : ما إذا لم تقم [ قرينة ]
تعيّن المراد من الاسم ومن اللّفظ أو المسمّى.
وكلامه غير
وافٍ بتحقيق المرام وغير شاف في تنقيح المراد.
أمّا
الأول : فلأنَّه إنْ
أراد بالذات المأخوذة مع صفة معيّنة ذات المعنى [ فلا كلام ] في أنّها المسمّى فلا
يتصوّر مغايرتها له ، [ وإن أراد ] بها الدلالة فيتصوّر كونها عينه وإن كان لا
يخلو من نظر.
وأمّا
الثاني : فلأنّ ظاهرهم
عدم اختصاص الخلاف المذكور باسمٍ دون آخر ، ولا بما لم تقم فيه قرينة على إرادة
اللفظ أو المعنى ، دون ما قامت فيه قرينة تخصّه بأحدهما. ومَنْ أراد بسط الكلام في
هذا المقام فليرجع إلى مطوّلات علمائنا الأعلام ، فإنّهم قد أرخوا في ذلك الزمام
وكشفوا عن عزة المرام نقاب الإبهام.
واختلف في أصله
:
فقال الكوفيّون
: إنّه مشتقّ من السمة بمعنى العلامة ؛ لأنَّه علامةٌ على مسمّاه ، واصلة
: ( وسم ) ، مكسور الفاء فحذفت اعتباطاً ، أو بعد نقل حركتها إلى السين لثقل
الكسرة على الفاء ، ثمّ إسقاط الحركة المنقولة فحذفت الواو لالتقاء الساكنين.
وكأنّ الأول أولى لسلامته من التكلّف ، فلمّا حذفت فاؤه أُتي بهمزة الوصل حالة
الابتداء لتعذر الابتداء بالساكن ؛ ولهذا حذفت عند دخول الباء ؛ لعدم الحاجة إليها
، لا أنّها اتي
__________________
بها للتعويض عن المحذوف كما هو المنقول عن الكوفيّين ليرد ما أُورِد عليهم
مِنْ أنَّه خلاف المعهود ، إذ المعهود التعويض بالهاء في العجز كـ ( العدة ) لا
التعويض بالهمزة في الصدر.
وقال البصريّون
: إنّه مشتق من ( السمو ) بمعنى العُلوّ والارتفاع ؛ لأنَّه رفعةٌ لمسمّاه
، فهو عندهم من الأسماء المحذوفة الأعجاز كيدٍ ، ودمٍ ، وغدٍ ، واصلة سمو ، بكسر
الفاء أو ضمِّها ، فحذفت لامه ؛ تخفيفاً لكثرة الاستعمال ثمّ أُسقطت حركة فأية
حذراً من الاستثقال فاتي بهمزة الوصل حال الابتداء لتعذر الابتداء بالساكن.
وآثروا الهمزة
على غيرها لأنّها تثبت في الابتداء فيتحصّل بها الغرض وتسقط في الدرْج لعدم الحاجة
إليها ، وليس غيرها كذلك.
وتظهر ثمرة
الخلاف في أصله الموزون به ، فعلى قول ( الكوفيّين ) يكون وزنه ( اعلاً ) وعلى قول
البصريين ( افعاً ).
وقد أرخينا
زمام الكلام في هذا المقام بإيراد الأدلّة من الجانبين ، وترجيح قول الكوفيّين من
البين ببعض أدلّةٍ قويّةٍ في بعض أجوبة المسائل النحويّة. إلّا إنَّ الإنصاف أنّ
قول البصريّين أيضاً قويٌّ متين لسلامته من كثير من التكلّفات وإنْ كان قول
الكوفيّين أوفق بظواهر بعض أخبار الهُداة.
وفيه خمس عشرة
لغةً جمعت في قول بعضهم :
سماة سم واسم
كذا سمة سما
|
|
لغاتٌ بتثليث
الأوائل فاعلما
|
والأصل في
همزته أنْ تثبت خطّاً وإنْ حُذفت لفظاً كغيرها من همزات الوصل ، وإنّما حذفت حين
الإضافة إلى اسم الجلالة تخفيفاً لكثرة الاستعمال أو للتعويض عنها بمد الباء ، قيل
: أو ليوافق الخط اللفظ . ولا يخفى عدم اطّراده لانتقاضه بِاسمِ رَبِّكَ ؛ إذ لم تُحذف
في الخط تبعاً للّفظ.
وعن الكسائي
والأخفش جواز حذفها إذا أُضيفت إلى غير اسم الجلالة من
__________________
أسمائه تعالى كـ ( بسم ربِّك وبسم الخالق ) .
وحكى النحاس عن
بعضهم أنَّه لا حذف أصلاً وإنّما أصله : ( سِم ) أو ( سُم ) بكسر السين أو ضمّها
من غير همز ، وسُكِّنت السين بدخول الباء تخفيفاً لوقوعها بعد كسرة أو ضمّةٍ . وهو غير بعيد
عن الصواب ؛ لأنَّ ذلك إحدى لُغاته بلا ارتياب ، مع سلامته من التكلُّف والاضطراب.
وحيث كان الجار
والمجرور وُصْلة ورابطة لغيرهما فلا بدّ لهما من متعلَّق يتعلّقان به ، وهو واحد
من ثمانية أُمور حاصلة من ضرب اثنين : الفعليّة والاسميّة ، في أربعة : العموم
والخصوص والتقديم والتأخير ، ولكلٍّ واحد منها مناسبة ترجِّحه في الجملة ، ولعلّ
أوّلها ما كان فعلاً خاصّاً مقدّماً أو مؤخّراً ؛ لما لا يخفى على الفطن اللبيب ،
وكان له من المعرفة بالأساليب أوفر نصيب.
في لفظ الجلالة
و ( الله ) عَلَمٌ عربي للذَّات الواجب الوجود البحت الباتّ ، كما
هو الحقّ عند أهل التحقيق ، وهو الحريّ بالقبول والتصديق ؛ ولهذا صحَّ وصفه دون
الوصف به كما هو حقُّ الأسماء العَلَمِيَّة ، ولاتّصافه تعالى بالوحدة الحقيقيَّة
عن جميع التكثُّرات ولو اعتباريَّة ذهنيّة أو خارجيّة ، لا أنّه معرّب ( لاها )
الذي هو لفظ سرياني فحذفت الألف من آخره للتخفيف ثمّ أُدخلت عليه أداة التعريف ،
ولا أنّه وصف لمفهوم الواجب لذاته أو مفهوم المعبود بالحقّ كما قيل ؛ إذ لو كان
كذلك لم يكن قولنا : ( لا إله إلّا الله ) ، مفيداً للتوحيد الحقيقي ؛ لاحتمال
المفهوم من حيث هو الشركة المستلزمة للتكثُّرات المنافية للوحدة الحقيقيَّة.
فقُصارى ما
تفيده حينئذٍ انحصار الإله في هذا المفهوم الكُلّي المحتمل للأفراد المنتشرة
والمصاديق المتكثّرة ، لكن التالي باطل فالمقدّم مثله ، لا لما قيل من أنَّه لو
__________________
كان اسماً لذلك المفهوم لكان الإله ؛ إمّا أنْ يُراد به المعبود بالحقّ
فيلزم استثناء الشيء من نفسه ، أو مطلق المعبود فيلزم الكذب لكثرة المعبودات
الباطلة ؛ لأنَّه غير تامّ في إثبات المرام ؛ لأنّ لهم اختيار الشقّ الأول ، ودفع
لزوم استثناء الشيء من نفسه بأنَّه يكفي في المفهوم لا استثناء العموم ولو بحسب
المفهوم. ولهذا صحّ استثناء كلّي من كلّي آخر إذا كان مفهوم الأوّل أعمّ من مفهوم
الثاني ، كما تقول : ( لا ناطق إلّا الإنسان ، ولا صاهل إلّا الفرس ) مع أنّه في
قوّة ( لا ناطق إلّا الناطق ، ولا صاهل إلّا الصاهل ) ، ولكن لمّا كان مفهوم
الأوّل أعمّ صحّ الاستثناء.
وما
قيل من أنَّه لو
كان عَلَماً لما أفاد ظاهر قوله تعالى ( قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ ) ولا ظاهر قوله تعالى ( وَهُوَ اللهُ فِي
السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ) معنىً صحيحاً ؛ لأنّه فيهما بمنزلة قولنا : اللهُ اللهُ
؛ لصيرورته حينئذٍ جزئيّاً حقيقيّا وعود الضمير إلى الله تعالى بخلاف الحمل على
الوصفيّة.
ومن أنّه لو
كان جزئيّاً حقيقيّا لما أُخبر عنه بأحد ؛ للزوم التكرار.
ومن أنّ وضع
العَلَم بإزاء ذاتٍ فرعُ تعقّلها ، وذاته تعالى من حيث هي غير معقولة للبشر فلا
يتصوّر كونه عَلَماً له.
لا يثبت المدّعى :
أمّا
الأوّل ، فلأنّه لمّا
اشتهرت تلك الذّات بوصف المعبوديّة بالحقّ وجَمْعِ الكمالات صحّ جعله خبراً
باعتبار تضمّنه تلك الصفات ، فيؤول إلى قولنا : الجامع لتلك الأوصاف أحد وهو
المعبود بالحقّ مثلاً ، أو المستحقّ للعبادة في السماوات والأرض ؛ لأنّ الأسماء قد
يلاحظ فيها معانٍ تصلح لتعلُّق الظروف بها مستفادة من تصوّر مسمّاها ، كما يلاحظ
في ( حاتم ) معنى الكريم وفي ( الأسد ) معنى المتجري وفي ( قس ) معنى الفصيح ،
ولهذا صحّ تعلّق الجار والمجرور بـ ( أسد ) في قول الشاعر :
__________________
أسدٌ عليَّ
وفي الحروب نعامة
|
|
[ ربداءُ تجفلُ من صفير الصافرِ ]
|
باعتبار الصفة
اللازمة له من الصولة والتجرؤ. فيلاحظ هنا المعبود بالحقّ لاشتهاره به في ضمن هذا
الاسم الأقدس.
وأمّا
الثاني ؛ فلأنّ الجزئي
الحقيقي إنّما ينفي الكثرة الذاتيّة والتعدّدات الذاتيّة فيرادف الواحد فلا يفيد
إلّا نفي الشريك المماثل ، لا نفي الكثرة الأجزائيّة والصفاتيّة ، بخلاف ( الأحد )
؛ فإنّه يقتضي نفي التعدّد والتكثّر في الذات والأجزاء والصفات ؛ لأنَّ جميع
الصفات لا وجود لها في الخارج ، بل نِسَبٌ واعتبارات ، ولهذا قال سيّد الموحّدين
وإمام العارفين : « وكمال الإخلاص له نفي
الصفات عنه » .
فيؤول إلى : هو
واحد أحد. ولا ضير فيه ، مع أنّ كلام الخصم لا يتمّ إلّا بجعل ( هو ) ضمير الشأن ، وليس بمتعيّن ؛ لجواز كونه مبتدأ بمعنى
المسئول عنه و ( الله ) خبراً و ( أحد ) بدلاً ، لأنَّه في معرض الرد على المشركين حيث سألوا
النبيّ صلىاللهعليهوآله عن ربّه هل هو من نحاس أم من ذهب فيسقط كلام
الخصم من رأس وينهدم من الأساس.
وأمّا
الثالث ؛ فلأنّ التعقّل
الممتنع إنّما هو التعقُّل بكنه الحقيقة ، وهذا غيرُ لازم في الوضع بل يكفي فيه
تعقُّل معناه بوجه يمتاز به عن جميع ما سواه ، ولا نزاع في معلوميَّته بصفاته
الحقيقيّة الإضافيّة والسلبيّة على قدر ما ظهر منها بالفيض الإلهي ، والإلهام
السبحاني ، والتعليم النبويّ والإماميّ ، والعقل الفطريّ. على أنّه إنّما يتمّ لو
كان الواضع مطلقاً أو واضع هذا الاسم الشريف غيره تعالى ، أمّا إذا كان هو هو كما
هو الحقّ فلا مانع من أنْ يعلم غيره بالوحي أو الإلهام ، أو يضع لنفسه علماً ثمّ
يظهره
__________________
لعباده على لسان أوليائه.
وهل
هو مشتقّ أو لا؟ قولان ، أشهرهما وأظهرهما الأول ؛ للخبر الصحيح ، والأثر الصريح عن هشام
بن الحكم : أنّه سأل أبا عبد الله عليهالسلام عن أسماء الله واشتقاقها ، الله ممّ هو مشتقّ؟ قال :
فقال لي : « يا هشام ، الله مشتقّ
من إله والإله يقتضي مألوهاً » إلى آخر كلامه ، عليه أفضل صلاة الله وسلامه.
وعلى القول
باشتقاقه فهل هو مشتقٌّ من أَلَه وأَلِه كَضَرَبَ وفَرِحَ إلاهَة وأُلوهية
وأُلُوهة بمعنى عبد ، أو من أَلِه بمعنى سكن ، أو من إله إذا أولع ، أو
مِنْ ألِه إليه كفَرِحَ بمعنى فزع ولاذ ، أو بمعنى تحيَّر ، أو مِنْ
لَاهَ ليهاً إذا احتجب وعلا وارتفع ، أو مِنْ لَاهَ لوهاً ولوهاناً بمعنى اضطرب
وبرق ، أو مِنْ لَاهَ لوهاً بمعنى خَلَقَ ، أو مِنْ لَاهَ يليه بمعنى خفي واستتر ،
أو مِنْ وَلِهَ بمعنى تحيّر أو بمعنى حزن وخاف ووجل ، أو من ألِهَ إذا أقام؟
وجوه وأقوال ،
قد استوفينا الكلام عليها في أجوبة بعض المسائل ، موشّحاً بالشواهد والدلائل وبيان
وجوه المناسبات بين تلك الاشتقاقات.
ولا يخفى على
ذي حِجْر وحجا وفطنة وذكاء صدق هذه الاشتقاقات عليه سبحانه بأسرها وإنْ تفاوتت
قوَّةً وضعفاً وظهوراً وخفاءً.
وقد تقرّر في
محلّه أنّ الكلمة متى رجعت إلى اشتقاقات واضحة محقّقة جاز الحمل على كلّ منها وإن
ترجّح الأوضحُ الأجلى. لكن على اشتقاقه من أَلَهَ بمعنى عبَدَ وسكن وأولع وفزعَ
وتحيّر ، ومن وَلِهَ بمعنى تحيّر وحزن وخاف ووجل ، يكون وزنه فعالاً بمعنى مفعول ،
أي معبود ومسكون إليه ومولَع به بفتح اللام ، ومفزوع إليه
__________________
ومتحيّر فيه ومخوف ومحزون وموجول من سطوته وقدرته ، فالهمزة فيه والواو
المبدلة همزة أصليّتان.
وأمّا على
اشتقاقه من ألِهَ بمعنى أقام فوزنه أيضاً ( فعال ) لكن من غير نقل إلى معنى (
مفعول ) ، وما ذكرناه هنا فهو قليلٌ من كثير ونقطة من غدير ، حرصاً على الاشتغال
بما هو أهمّ ، ونفعه أتمّ وأعمّ.
ومن أراد
استقصاء الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام في جميع مباحث هذه اللفظة الشريفة التي
حارت في لفظها ومعناها الأفهام ، فليرجع إلى جواب تلك المسائل التي أشرنا إليها ،
وإلى شرحنا على خطبة لأمير المؤمنين عليهالسلام ، بل قد عملنا فيها رسالةً في سالف الزمان سمّيناها (
شمس الدلالة في تحقيق الجلالة ). لكنّها لم تتمّ ونسأل الله التوفيق للإتمام.
معنى الرحمن والرحيم
و ( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) صفتان مشبَّهتان من رَحِمَ كعلم ، بعد جعله لازماً
بمنزلة الغرائز بنقله إلى فَعُلَ ككَرُمَ.
ولمّا كانت
الرحمة في اللغة بمعنى رقّة في القلب ، وانعطاف يقتضي الفضل والإنعام امتنع صدق حقيقتهما في
حقّ الملك العلَّام ؛ لتنزّهه عن القلب ورقّته ، إذ هما من صفات الأجسام ، وإنّما
يوصَفُ بهما باعتبار غايتهما التي هي فعل من الإحسان والإفضال ، لا باعتبار مبدئها
الذي هو انفعال ، فيكون إمّا مجازاً مرسلاً من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبّب ؛
لأنّ رقّة القلب سبب لإرسال شآبيب النوال ، وإمّا استعارة تمثيلية بتمثيل حال ذي
الجلال بحال ملك قد عطف على رعيته فغمرهم معروفُه على الأزل ؛ ولهذا اشتهر : (
خذوا الغايات واحذفوا المبادئ ) على ألسنة العلماء الأبدال.
__________________
وهذا أحد
الوجهين في صحّة إطلاق بعض الصفات على الملك المتعال ، وإليه الإشارة بما في أخبار
الآل : « إنّما سُمّي عالماً ؛
لهبته العلم للعالمين » « ولطيفاً ؛
لخلقه الشيء اللطيف وعلمه به » ، والله العالم بحقيقة الحال.
والفرقُ بين
هذين الوصفين من وجهين :
الأوّل
: أنّ الأوّل
أبلغُ من الثاني ؛ لأنّ زيادة المباني تدلّ غالباً على زيادة المعاني ، كما في (
تبيان وبيان ، وقطَّع وقطع ، وغلَّق وغلَق ) وإنْ انعكس في بعض الموارد كحذِر
وحاذِرِ.
وإنّما صار
أبلغ منه لزيادته عليه كيفاً وكمّاً ، أمّا كيفاً فلأنّ معنى الرحمن هو المعطي
لجلائل النعم ، والرحيم هو المعطي لصغائرها بالنسبة إلى الجلائل وإنْ كانت كلّها
جلائل بالنسبة إلى صدورها منه تعالى ، كذا قيل.
وأمّا كمّاً
فلأنّ الرحمة الرحمانيّة عامّةٌ لجميع الخلق من المؤمنين والكافرين ، بخلاف الرحمة
الرحيمية فإنّها مختصّة بالمؤمنين ، قال تعالى ( وَكانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) ، وفي تفسير الإمام عليهالسلام : « فأمّا
الرحيم فإنّ أمير المؤمنين عليهالسلام قال
: رحيمٌ بعباده المؤمنين » .
وفيه
أيضاً : « الرحمن
العاطف على خلقه بالرزق ، ولا يقطع عنهم موادّ رزقه وإنْ انقطعوا عن طاعته » .
وفي ( الكافي )
و ( التوحيد ) و ( المعاني ) و ( تفسير العياشي ) و ( القمّي ) عن الصادق عليهالسلام : « الرحمن
بجميع خلقه ، والرحيم بالمؤمنين خاصّة » .
وفي ( الصافي )
عن ( المجمع ) قال الصادق عليهالسلام : « الرحمن اسم
خاصٌّ بصفة عامّة ،
__________________
والرحيم
اسمٌ عامٌّ بصفة خاصّة » .
وقال عيسى بن
مريم عليهالسلام : « الرحمن
رحمن الدنيا ، والرحيم رحيم الآخرة » .
وفي كثير من
الأدعية : « يا رحمن الدنيا ورحيم
الآخرة » وفي بعضها : « يا رحمن
الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ».
فقد دلّت هذه
الروايات على أنَّ الرحمة الرحمانيّة تشمل الفرق الكافرة والمؤمنة ، كما تشمل
النعم الظاهرة والباطنة ، من إحسان الخلق والإتقان والتوفيق للهداية والإيمان ،
وإليه الإشارة بقوله تعالى ( الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى ) .
وأمّا الرحمة
الرحيمية بمعنى التوفيق في الدنيا والدين ، فهي مختصّة بالمؤمنين ، وأمّا ما في
تفسير الإمام عليهالسلام من شمولها للكافرين حيث قال عليهالسلام في موضع آخر : « الرحيم :
بعباده المؤمنين في تخفيفه عليهم طاعاته ، وبعباده الكافرين في الرفق بهم في
دعائهم إلى موافقته. قال : « وإنّ أمير المؤمنين عليهالسلام قال
: [ الرحمن هو العاطف على
خلقه بالرزق ] » . فلا ينافي ما ذكرناه ؛ لأنَّه ظاهر بل صريح في أنَّ
الرحمة بهم إنّما هو من أجل الرفق بهم في الدنيا برزقه إيّاهم ، أو بدعوتهم إلى
الإيمان ، وتعريضه إيَّاهم لما يوجب لهم الرضوان وإنْ خالفوه وأطاعوا ناعق الشيطان
وداعي الطغيان.
وأمّا ما في
بعض الأدعية من قولهم عليهمالسلام : « يا رحمن
الدنيا والآخرة ورحيمهما » ، و « يا رحمن الدنيا
والآخرة ورحيم الدنيا » فلعلّه مبنيٌّ على التوسّعات واختلاف الاعتبارات.
وأمّا حمل
الثاني على ما مرّ من زيادة الرحمن على الرحيم باعتبار الكيف ، لجسامة نِعَم
الآخرة بأجمعها بخلاف نعم الدنيا.
ففيه : أنَّ
الرحمة الأُخروية كما هي زائدة على الرحمة الدنيوية كيفاً ؛ لجسامتها
__________________
وجلالتها كذلك زائدة عليها كمَّاً ؛ لتواترها وعدم انقطاع أفرادها ، بل
تناهي الثانية وعدم تناهي الاولى يوجب اضمحلالها في مقابلتها ويجعلها كالمعدومة
بالنسبة إليها.
والتحقيق
: أنَّ شيئاً
ممّا ذكر لا يثمر فرقاً بين الكمّ والكيف ؛ لرجوع وجه الزيادة كيفاً إليها كمّاً
إنْ لم يكن انطباقه على الكمّ أظهر. ولا يوجبُ الزيادة الكميّة الحقيقيّة ، إذ
ليست الزيادة في نفس المعنى المصدري وإنّما هي باعتبار زيادة متعلّقة من المرحومين
، حيث عمَّ الرحمن جميع الخلق وخصّ الرحيم المؤمنين.
اللهم إلّا أنْ
يراد الفرق في الجملة ولو بالاعتبار ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.
الثاني
: أنَّ الرحمن
مختصٌّ به تعالى فلا يُوصَفُ ولا يُسمَّى به غيره ، دون الرحيم ، وإليه الإشارة
بقول الصادق عليهالسلام : « الرحمن
اسمٌ خاصٌّ بصفةٍ عامّة ، والرحيمُ اسمٌ عامٌّ بصفة خاصّة » . انتهى.
وأمّا تسمية
مسيلمة برحمن اليمامة وقول شاعرهم فيه :
فأنتَ غيثُ الورى لا زلتَ رحماناً
فهو تعنّتٌ في
الكفر وخروجٌ عن قانون اللغة ، فلا يعتد به.
ولهذا الاختصاص
ذهب ابن مالك ، وجماعةٌ إلى أنّه عَلَمٌ له تعالى ، ولهذا يوصف ولا يوصف به ،
والأكثر على أنّه وصفٌ مختصٌّ به لا عَلَمٌ له ، والاختصاص لا يستلزم العلميّة ،
وعدم الوصف به ؛ إمّا لأنَّه لاختصاصه به اجري مجرى العَلَم أو أنّه شرعيٌّ لا
لغويٌّ.
واستدلال بعضهم
للعلميّة بإشعار بعض الآيات بها كقوله تعالى ( الرَّحْمنُ. عَلَّمَ
،
__________________
الْقُرْآنَ
) ، وقوله سبحانه ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ ) و ( قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ) لا يدلّ عليها ، لما عرفت ، إذ قصاراها إفادة الاختصاص
، ولات حين مناص ، مع إمكان ابتنائها على حذف الموصوف وإقامة الصفة فيها ، كقوله
تعالى ( أَنِ اعْمَلْ
سابِغاتٍ ) و ( أَرْسَلْنا رُسُلَنا
بِالْبَيِّناتِ ) وغيرهما من الآيات.
وكأنّ وجه
الاختصاص بعد النصّ والإجماع أنّ معناه المنعم الحقيقي ، البالغ في الرحمة أقصاها
، ومفيض جميع النعم أعلاها ، وأخلاها ، وأهناها ، وأسناها ، تفضّلاً منه وإحساناً
، وتطوّلاً وامتناناً ، لا على وجه الاستحقاق لما يسبغه من أنواع الأرزاق. ولا
يصلح لهذه الأوصاف إلّا الخالق الرزّاق على وجه العموم والإطلاق ؛ لأنّ ما سواه
تعالى إنّما يطلب بإحسانه ؛ إمّا ثواباً أُخرويّا ، أو ثناءً دنيويّاً ، أو إزالة
خساسة البخل ، أو غير ذلك من الأغراض والأخلاق ، مع أنَّ ذات المنعم والنعَم
والتمكين من إيصالها وإقداره على تحصيلها من جملة نعمه الجزيلة وأياديه الجميلة.
إلّا إنّ هذا
التوجيه موقوف على كون هذه اللفظة بهذه المعاني عند أهل اللغة ، وليس كذلك ،
اللهمّ إلّا أن يثبت كون معناها في العرف ذلك ، كما هو صريح بعض وظاهر آخرين من
العلماء المحقّقين .
وجه تقديم الرحمن على الرحيم
فإنْ
قيل : إنّ القاعدة
في المدح إنّما هي الانتقال من الأدنى إلى الأعلى ، كما يقال : عالم نحرير ، وناقد
خبير ، وعالم حليم ، فلِمَ قدّم الرحمن على الرحيم؟
قلتُ
: ذلك إمّا من
قبيل التتميم فإنّه لمّا دلّ على جلائل النعم وأُصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج
منها ، وهو باب سائغ مطلوب وشائع محبوب ، أو أنّ ذلك إنّما يجب فيما إذا كان
الأعلى يدلّ على الأدنى بإحدى الثلاث ؛ لئلّا يلغو ذكر الأدنى لدلالة
__________________
[ الأعلى ] عليه ، وهنا ليس كذلك ؛ لأنَّ الرَّحمن لمَّا كان
يتناول جلائل النعم وأُصولها ، والرحيم يتناول دقائقها وفروعها ، كانا كالجنسين
المتغايرين.
بقي شيء ينبغي
التنبيه عليه ، وهو أنَّ قضية البسملة محصورةٌ كلّيّة إن جعلنا إضافة الاسم
استغراقيّة ، أو شخصيّة إنْ جعلناها عهديَّة ، والفضليّة لا تنافي الموضوعيّة ؛
لأنّ اللفظ قد يكون موضوعاً معنىً وإن كان فضلةً لفظاً. هذا على تقدير إطلاق
القضية. وأمّا على تقدير توجيهها ، فأمّا مطلقة عامَّة إن اعتبر فعليّة النسبة في
المستقبل ، أو قضيّة دائمة ، أي كلّ اسم الله أو المعهود منه ابتدئ أو أستعين به
بالفعل أو دائماً.
وأمّا قياسها
فقضيّتها كبرى فتضمّ إليها صغرى من الشكل الأوّل ، هكذا :
هذا الابتداء
باسم الله ، لأنّه ابتدائي.
وكلّ ابتدائي
باسم الله.
فهذا الابتداء
باسم الله.
فإذا أُريد
الاستدلال على الكبرى استدلّ عليها بمعنى الرحمن ، فتقول :
كلّ ابتدائي أو
استعانتي باسم الله ؛ لأنّ كلّ ابتدائي واستعانتي باسم مفيض خيرات الدارين.
وكلّ اسم مفيض
ذلك فهو اسم الله.
فابتدائي أو
استعانتي باسم الله.
والله العالم
بحقيقة الحال.
شرح الحمد
ثمّ لمّا ابتدأ
المصنّف قدس الله لطيفه وأجزل تشريفه بالبسملة حذراً من النقص وطلباً للكمال لاحظ
ما اشتملت عليه ألفاظها من الجمع لصفات الكمال والجلال
__________________
ونعوت الجمال ، فوجد من نفسه محرِّكاً للإقبال بالثناء عليه ببعض ما إفاضة
من شآبيب الطول والإفضال ، التي منها التوفيق لتأليف هذا المؤلف المفضال ، ثمّ
لاحظ غيبة الذات الأحديّة عن إدراك الأبصار ولمس الحواس والتمثال ، وعدم الأهليّة
لخطاب تلك الذات التي هي المبدأ الفيّاض لجميع الكمالات ، فقال : ( اللهَ أحمدُ ) منبّهاً بتقديم المحمود وإنْ كان حقّه التأخير بحسب
المعموليّة على إرادة الحصر وإفادة الأهمية ، وبيان تقدّمه في الوجود البياني
اللفظي ، كتقدّمه في سائر الوجودات من العينيّة والذهنيّة ، وبإيثار الجملة
الفعليّة المضارعيّة على إرادة التجدّد والاستمرار وحسن العاقبة ؛ لعدم حصول ذلك
في الاسميّة والماضويّة. وعلى العجز عن دوام الحمد المنبئ عن الاعتراف بالتقصير
كما هو مفاد الاسميّة. وبصيغة التكلّم على التنصيص على صدور الحمد عن نفسه لا
بانضمامه إلى سائر البريَّة. وبصيغة المفرد على هضم نفسه العليّة ، وانفراد
المحمود بالنعم التي يجب الحمد عليها ، وعدم المشاركة فيها وفي الوحدة الحقيقيّة
لذاته الأحديّة.
وإنّما آثر لفظ
الجلالة كما آثرها في البسملة دون سائر الصفات ؛ إمّا على كونه عَلَماً للذات ، أو
لدلالته على جمع جميع الكمالات ، أو لدلالته بالعدد المكتوبي على الأسماء الحسنى
التسعة والتسعين ؛ لأنّك إذا جمعت طرفيها وهما ستة ، وقسّمتها على حروفها الأربعة
المكتوبة ، صار لكلّ حرف منها واحدٌ ونصفٌ ، فإذا ضربت الواحد والنصف في عدد
الجلالة بالجمل وهو ستّة وستون ، بلغت تسعة وتسعين ، أو للاستلذاذ والتبرّك في
موضعين.
وما ذكرنا من
تعليل الجمع بين البسملة والحمدلة بما سمعت من الكلام كافٍ في المقام وافٍ بالمرام
، إلّا إنّه خلاف المتداول على ألسنة العلماء الأعلام ؛ لأنّهم إنما يُعلّلون ذكر
الحمدلة بالنبويّ الذي لم يوجد في أُصول الإماميّة الكرام ، وهو قوله عليه الصلاة
والسلام : « كلّ أمر ذي بال لم
يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع » .
__________________
فلهذا وقعوا في
إشكال التعارض ، واضطربوا في وجوه الجمع بينهما.
الجمع بين خبري البسملة
والحمدلة
والذي يختلج في
الفكر الكليل والفهم العليل بعد الإغماض عن سند حديث الحمدلة عدم التنافي بينهما ؛
لأنّ ظاهر الأمر بالابتداء فيهما تقديم البسملة والحمدلة على المقاصد الذاتيّة
التي هي مسائل الفنّ المشروع فيه ، من غير تعرّض لتقديم أحدهما على الآخر ، وإنّما
قُدِّمت البسملة للاهتمام أو الاقتداء بخير الكلام كلام الملك العلّام ، أو لقصرها
واستدعاء الحمد غالباً طول الكلام وإرخاء الزمام.
اللهم إلّا أنْ
يقال : إنَّ المتبادر من الابتداء فيهما هو الابتداء الحقيقي دون أخويه ، فتأمّل
فيه.
ولك أنْ تحمل
الخبرين على منع الخلوّ من أحدهما ، فلا يلزم الجمع بينهما ، وإنَّما يجمع بينهما
جمعاً بين الوظيفتين وإحرازاً للفضيلتين.
هذا ، وقد جُمع
بينهما ؛ تارةً بحمل الحمد على مطلق الثناء الجميل بأيّ صيغة أفاده ، سواء كان
بلفظ الحمد أم لا ، فيعمّ الثناء بالبسملة لاشتمالها على إظهار صفاته الجميلة
وتضمّنها النعم الجزيلة ، فيكون في الابتداء بها عمل بالحديثين لتحقّق الابتداء
بالحمد في ضمن الابتداء بها ، فيرتفع البَوْنُ من البين. وتارةً بحمل الباء في
الخبرين على الاستعانة أو الملابسة. ولا ريب في أنّ التلبّس بشيء والاستعانة به
لا ينافي التلبّس والاستعانة بغيره ؛ ولأنَّ التلبّس يعمُّ الابتداء بالشيء على
وجه الجزئية. وَذَكَرَهُ قبل الابتداء بلا فصل فيجوز جعل أحدهما جزءاً ، وذكر
الآخر قبله بلا فصل ، فيكون آنُ الابتداء آنَ التلبّس بهما.
وأُورد عليه
بأنّ حمل الباء على الاستعانة ليس بسديد ؛ لاقتضاء حمل الباء [ في البسملة ] عليها جعل بسم الله
آلةً ، والآلة غير مقصودة بذاتها ، وخروج الحمد
__________________
عن الكتاب وهو منافٍ للعُرف ، ولا يخفى ما فيه على نبيل نبيه.
وتارةً بحمل
أحدهما على الابتداء اللساني والآخر على الجناني ، فيكون كلا الابتداءين حقيقيّا ،
إلّا إنَّه خلاف الظاهر كما لا يخفى على اولي البصائر.
وتارةً بحمل
الابتداء فيهما على الابتداء العرفيّ الممتدّ من حين الابتداء في التصنيف إلى آن
الشروع في المقصود ، فيقارنه التسمية والتحميد. وتارةً بحمل خبر البسملة على
الحقيقي والحمدلة على الإضافي ، وتارة بالعكس.
وبيان
هذه الثلاثة أنَّ الابتداء على ثلاثة أقسام : حقيقيٌّ ، وإضافيٌّ ، وعرفيٌّ ، وبضرب
ثلاثتهما في ثلاثة الابتداء بالبسملة والحمدلة معاً ، أو بالبسملة فقط ، أو
بالحمدلة فقط ، تحصل تسعة أقسام بالقسمة العقليّة ، حاصلة من ضرب ثلاثة في مثلِها
كما هو القاعدة الكلّيّة ، وهي مجموعة في هذا الجدول فتأمّله تجده صحيحاً ، وفي
المطلوب واضحاً صريحاً :
الابتداء بالبسملة والحمدلة معاً
|
حقيقي
|
إضافي
|
عرفي
|
الابتداء بالبسملة فقط
|
حقيقي
|
إضافي
|
عرفي
|
الابتداء بالحمدلة فقط
|
حقيقي
|
إضافي
|
عرفي
|
وتوضيحه
: أنْ تجعل
الابتداء بكليهما حقيقيّا أو بكليهما إضافيّاً ، أو بكليهما عرفيّاً ، أو بالبسملة
فقط حقيقيّا وبالحمدلة إضافيّاً أو عرفيّاً ، أو بالبسملة إضافيّاً وبالحمدلة
حقيقيّا أو عرفيّاً ، أو بالبسملة عرفيّاً وبالحمدلة حقيقيّا أو إضافيّاً ، أو
هكذا تفعل في الحمدلة فتكمل تسعة.
هذا كلّه بناء
على كون الابتداء بهما معاً على النهج المعتاد المعتبر من تقديم البسملة على
الحمدلة ، وإلّا فتصير الاحتمالات ثمانية عشر.
وهذه الوجوه ؛
منها ما هو صحيح معتبر ، ومنها ما هو صحيح غير معتبر ، ومنها ما هو ممتنع ، كما لا
يخفى على ذي نظر. ويحصل الجواب بالقسمين الأوَّلين ، وإنّ
الأوْلى الأوّل الذي عليه المعوّل ، فالممتنع كون الابتداء بهما حقيقيّا
لاستلزامه المحال.
الحمد لغة
وكيف كان ،
فالحمد لغةً : الوصفُ باختياريّ الجميل ، بقصد التعظيم والتبجيل . ومثله المدح
اللغوي على القول بترادفهما كما اختاره بعض ذوي التحصيل .
وأمَّا على
المشهور من التغاير بينهما فيخرج باختياريّ الجميل ، كما يخرج بقصد التعظيم
والتبجيل ما كان ثناءً على جهة الاستهزاء والسخرية والتخجيل.
اللهمّ إلّا
أنْ يقال : إنَّ الوصف على جهة الاستهزاء لا يُسمَّى ثناءً عرفاً ؛ لاشتراط
الإشعار بالتعظيم في صدق الثناء ، فالخالي عنه إنَّما يسمّى سخريَّة واستهزاءً ،
فحينئذ يخرج بقيدي الثناء [ و ] الجميل ، لكنَّه إنّما يتمّ بناءً على المشهور
المنصور من أنَّ الثناء حقيقةٌ في الخير فقط ، وأنَّ الوصف بالجميل لا يكون إلّا
بقصد التجليل.
أمَّا على
القول بمقوليّة الثناء بالاشتراك أو التواطؤ على الخير والشرّ ، وأنَّ الوصف
بالجميل لا يستلزم التفضيل ، بل قد يكون على وجه الاستهزاء والتخجيل ، فلا يخرج
ذلك عن الحمد ، كما لا يخفى على ذي تحصيل.
وقد نُقض هذا
التعريف في عكسه بالثناء على صفات الله تعالى حيث قد قيَّد فيه المحمود عليه
بالاختياري بالثناء على صفات الله الذاتية ، فإنَّها ليست باختياريّة ، فإنّه
تعالى بالنسبة إليها موجب لعدم انفكاك الذات في حال من الحالات ، فلا يجوز الحمد
عليها بخلاف الصفات الفعليّة التي يمكن انفكاكها عن الذات كالخلق والرزق ، فإنّها
اختياريّة له تعالى فيجوز الحمد عليها.
__________________
وأنت خبيرٌ
بأنّه إنّما يَرِدُ على الأشاعرة وأمثالهم ممَّنْ يقول بزيادة الصفات الذاتيّة على الذات
الأحديّة ومغايرتها لها ، دون المذهب الحقّ من عينيّتها لتلك الذات العليّة ، كما
هو مذهب الحكماء والمعتزلة والإماميّة ، بمعنى أنَّه يترتّب على تلك الذات ما يترتَّب على ذات
وصفه في سائر المخلوقات.
ألا ترى أنَّ
ذواتنا غير كافية في انكشاف الأشياء لنا ، بل مفتقرة إلى تحصيل صفة العلم الذي
يقوم بنا ، فيثبت الجهل في مرتبة ذاتنا؟! ولكنّه تعالى لا يحتاج في ذلك الانكشاف
إلى صفة تقوم به ، بل الأشياء بأسرها منكشفة إليه وحاضرة لديه بنفس تلك الذات التي
هي جميع الكمالات ، « فسبحان مَنْ دلّ على
ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته » .
فذاته تعالى
بهذا الاعتبار حقيقة العلم والاقتدار ، لا بمعنى أنَّ هنا ذاتاً وصفة حقيقيّة ،
وهما متّحدان كذلك ، كما يتخيّل في بوادي الأنظار ، وربّما جنح إليه بعضُ الأشرار
، فإنَّ فساده ممّا ليس عليه غبار ، بل كالشمس في رابعة النهار : « لشهادة
كلِّ صفةٍ بأَنَّها غيرُ الموصوف ، وشهادةِ كلِّ موصوف بأنّه غيرُ الصفة » كما قاله والد الأئمّة الأطهار.
وبسط الكلام في
هذا المقام يفضي إلى الإضجار ، وحينئذ فلا يرد النقض المذكور ؛ لأنّ الحمد على
الصفات الذاتية راجعٌ إلى الآثار المترتّبة على الذات على نفس الذات الأحديّة.
فإذا قيل :
الحمد لله على علمه وقدرته مثلاً فإنَّما يُراد الثناء على الآثار المترتّبة على
الذات والتعلّقات التي هي أُمور نسبيّة إضافيَّة وأحوال اعتباريّة ، ولا ريب أنَّ
تلك الأُمور والآثار اختياريّة لتلك الذات العليّة ؛ لكون تلك التعلُّقات حادثة
متغيِّرة متغايرة بتغير تلك المتعلِّقات ، فيكون الثناء عليها ثناءً على جميل
اختياري إفاضة مالك الخيرات.
__________________
وأمَّا
مخالفونا فمنهم مَنْ اضطرّ إلى جعل الحمد هنا بمعنى المدح الشامل للاختياري وغيره
مجازاً من باب ذكر الخاصّ وإرادة العامّ ، كما قيل في قوله تعالى ( عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً
مَحْمُوداً ) . ولا يخفى ما فيه.
ومنهم مَنْ
التجأ إلى أنَّ تلك الذات لمّا كانت بنفسها كافيةً في اقتضاء تلك الصفات نُزِّلت
منزلة أفعال اختياريّة يستقل بها فاعلها من باب الاستعارة لجامع الاستقلال ، فيصحّ
الحمد عليها باعتبار مشابهتها للاختياري.
ولا يخفى ما
فيه على ذي بال ؛ إذ لازمه كونها كالاختياريّة لا كونها اختياريّة حقيقيّة ، كما
هو المفروض في ذلك المقال.
وبقيت لهم
أجوبة أُخر لا يليق أنْ تذكر ، بل هي بالإعراض عنها أجدر.
الحمد عرفاً
وأمّا الحمد
عرفاً فهو فعل يُقصد به تعظيم المنعم بسبب الإنعام على الحامد أو غيره من الأنام ،
سواء كان ذِكْراً باللسان أم اعتقاداً بالجنان أم خدمةً بالأركان.
وقولنا : في
فعل يقصد به ، مع أنَّ المتداول بينهم فعل ينبئ عن تعظيم المنعم ؛ لأنّ
الإنباء عن الشيء لا يستلزم تحقّقه فضلاً عن قصده مع اعتبار قصد التعظيم قطعاً.
اللهمَّ إلّا
أنْ يُجعل شرطاً لا جزءاً ، أو يمنع عدم الاستلزام ولو ظاهراً ، بحيث يظهر من
الفعل المنبئ عن التعظيم ؛ لأنّ ذلك الفعل إذا أنبأ عن شيء كان ذلك الشيء لازماً
له ؛ لامتناع عدم تحقّق اللازم مع تحقّق الملزوم ، ولعدم اشتراط تحقّق التعظيم في
نفس الأمر ، ضرورة تعذّر الاطّلاع عليها ، وعدم الوصول إليه. كما أنّ الجهل
بالمنبئ عن التعظيم لا يقدح في تحقّق الإنباء ، وإلّا لقدح الجهل بالوضع في تحقّق
الدلالة الوضعيّة.
فلا يرد النقض
بأنَّ الاعتقاد الجناني لا يُتَصَوَّر إنباؤه عن التعظيم ، لعدم اطّلاع الغير
__________________
عليه ، ومع إظهار الحامد إيّاه بقولٍ أو فعلٍ يكون المُنْبِئ هو المظهر لا
الاعتقاد ؛ لأنَّ المُراد إشعار الفعل في حدّ ذاته بالتعظيم ، بحيث لو اطَّلع عليه
لأنبأ عَنهُ فعلاً لا شأناً كما قيل ؛ لأنّ هذا المُنْبِئ ثبتت له هذه الحيثيّة
عند الاطّلاع ، فتأمّل.
أو أنَّ المراد
إشعاره بالنظر إلى الغير.
ولا ريب في
إفادة الاعتقاد الجناني ذلك ؛ لجواز الاطّلاع على اعتقاد الحامد بإخبار غيره أو
نفسه أو فعله ، فيتحقّق الإنباء في الاعتقاد بالنسبة إلى الغير بجعل المُنْبِئ
حقيقة نفس الاعتقاد ، لتحقّق معنى الإنباء فيه وإنْ انضمّ إليه الفعل والقول
المطَّلعان عليه ، وإنباء أحد الأمرين عن الآخر لا ينفي إنباء الآخر.
ولا يخفى على
ذوي الأنظار أنّ الاطّلاع على الاعتقاد بالإخبار لا يستلزم أنْ يكون المُنْبِئ هو
الاعتقاد ؛ لأنّ الأخبار بالمُنْبِئ لا يُنْبِئ عن التعظيم حقيقةً بلا واسطة ،
وإنّما يُنْبِئ عن الاعتقاد المُنْبئ عنه ، فإنباؤه عنه إنّما كان ثانياً وبالعرض
، لأنّ المُنْبِئ عن المُنْبِئ عن الشيء مُنْبِئٌ عن ذلك الشيء. فالمُنْبِئ
حقيقةً بلا واسطةٍ أوّلاً وبالذات ليس إلّا الاعتقاد ، وتلك الأشياء وسائط له ،
كما لا يخفى على النقَّاد.
كما لا يخفى
أنَّ ظاهر التعميم للأقسام الثلاثة في التعريف كون كلّ منها حمداً مستقلا على
الانفراد ، بل لم ينقل المناقشة فيه عن أحد من العلماء الأمجاد ، إلّا إنَّ
المنقول عن المحقّق الشريف في ( حواشي شرح المطالع ) أنَّه قال : ( إنَّ الذكر
اللساني والعمل الأركاني لا يكون شيءٌ منهما حمداً عرفيّاً ما لم يطابقهما
الاعتقاد الجناني ) .
بل ربّما
قَيَّد بعضهم الأوَّلَين بما إذا لم يخالف أحدهما الآخر أيضاً ، وهو قريبٌ من
الاعتبار ، إذ لو خالف أحدهما الآخر أو خالفهما الاعتقاد خرجت عن حيِّز الحمديّة
وانتظمت في سلك الاستهزاء والسخرية.
بل ربّما
يستفاد ذلك من قولهم في التعريف : فعلٌ يُنْبِئ عن تعظيم المنعم من حيث إنَّه منعم
أو لكونه منعماً ، فإنَّه لمّا كان الباعث عليه الإنعام كان هناك تعظيم
__________________
باطني ، إذ الإنعام لا يبعث على التهزِّي ، ولهذا لو صدر من المُنْعَم عليه
بالنسبة إلى المُنْعِم لذمَّهُ العقلُ الفطري.
ليس بين الحمد والنعمة فرق
ثمّ عقَّب
الحمد المستلزم للإنعام المدلول عليه بالفعل بقوله :
( استتماماً لنعمتِهِ والحمدُ فضلهُ ) تأكيداً لما دلّ عليه الحمد بالالتزام من الفضل والإنعام ؛ تارةً تلويحاً
بطلب الإتمام الذي هو فرع الوجود ، وأُخرى تصريحاً بالاعتراف بأنَّ الحمد أيضاً من
جملة النعم والجُود ، وتنبيهاً على أنَّه سبحانه كما يستحقّ الحمد لذاته كذلك
يستحقّه لصفاته ؛ لأنَّ نسبة الحمد إلى الذات باعتبار وصفٍ يُشعر بعلِّيَّته ،
فجمع بين وظيفتي الترتُّب على الذات والترتُّب على الصفات ، مراعياً قانون الحكيم
في تقديم ما حَقّه التّقديم ، منبّهاً بتوحيد النعمة على أنَّ نعمه تعالى أجلّ من
أنْ تُحصى بِعدٍّ وتحصر بحدٍّ ، وأعظم من أنْ تستتمّ على عبدٍ ؛ لتوالي فيوضه
الجزيلة وتتالي أياديه الجميلة ، فلا يُعقل تناهيها ، وحصر بواطنها وبواديها ،
وإنّما يفيضها على عباده من صالحٍ وطالحٍ على حسب الحِكَم والمصالح ، وبالمفعوليّة
الأجلية التي جعلها للحمد علّة غائية ، على صغرى دليلٍ كبراه مطويّة ، فكأنّه قال :
الله مستحق
للحمد ؛ لأنَّه منعمٌ.
وكلُّ منعمٍ
مستحقّ للحمد.
فهو تعالى
مستحقٌّ للحمد.
فإنْ اعتبر
إيصال نعمة خاصّة إلى المنعم عليه تحقّق الحمد والشكر ؛ لكون ذلك مادّة اجتماعهما
، وإنْ اعتبر إيصال النعمة ولو إلى الغير تحقّق الحمد خاصّة ؛ لأنَّه مادة
افتراقهما ، بناءً على أنَّه يُشترط في الشكر وصول النعمة إلى الشاكر.
وأمّا على عدمه
، فكلّما وجد الحمدُ وجد الشكر ، كما سيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
وبهذا الوجه
يصحّ جعله رحمهالله الحمدَ علَّةً لطلب تمام النعمة المستلزم للزيادة ، ومع
أنّ الذي تترتّب عليه الزيادة إنّما هو الشكر لا الحمد ، كما قال عزَّ من قائل في
الكتاب المجيد ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) ، بناءً على أنَّه أراد هنا الحمد العرفي الذي هو مرادف
للشكر اللُّغَوي ، فحينئذ لا حاجة إلى تأويل الحمد إلى معنى الشكر كما فعله الشارح
قدسسره.
معنى النعمة
والنعمة في
الأصل مصدر بمعنى الحالة المستلَذَّة ، ككون الإنسان عالماً أو عابداً. أُطلقت على
نفس الشيء المستلَذِّ ، تسميةً للسبب باسم المسبّب.
وفي ( القاموس
) : ( النعمة بالكسر المسرّة. واليد البيضاء الصالحة كالنعمى بالضم ). وهي
على ما فيه أيضاً : ( الخفضُ والدِّعة والمال ).
وفي ( مجمع
البحرين ) : ( والنعمة : اليد ، وهي الصنيعة والمنّة ، وما أنعم
الله به عليك ) انتهى.
وقد يُراد بها
ما يقصد به النفع والإحسان لا لعوضٍ ولا لغرض ، وبهذا عرَّفها صاحب كتاب (
التعريفات والاصطلاحات ) ، والشهيد رحمهالله في الشرح ، مع اختلاف يسير في التعبير .
وقد تطلق
النعمة أيضاً في لسان الأئمّة عليهمالسلام تارة على الدين والإسلام ، وتارة عليهم
وعلى موالاتهم ومحبّتهم ، كما هو ظاهر من تتبّع.
وفي كلام بعض علمائنا
: إنَّ نعمه سبحانه على كثرتها وتعذّر حصرها ؛ إمّا أخروي روحاني كغفران ذنب ، أو
جسماني كأنهار العسل ، وإمّا أخروي كسبي روحاني ،
__________________
كغفران ذنب التائب ، أو جسماني كاللذات الجسمانيّة المستجلبة بالطاعات ،
وإمّا دنيوي موهبي روحاني كإفاضة العقل ، أو جسماني كخلق الأعضاء ، وإمّا دنيوي
كسبي روحاني ، كتحلية النفس بالأخلاق الزكية ، وتحليتها بالفضائل العلية ،
وتخليتها من الرذائل الرديّة الدنيَّة ، أو جسماني [ كتزين ] البدن
بالهيئات المطبوعة ، وهو المراد هنا.
كما أنَّ الفضل
كما في ( القاموس ) : ( ضدّ النقص ) والبقية ، إلّا إنَّ المراد به هنا : ( ابتداء الإحسان
بلا علّة ) ، كما في كتاب ( التعريفات والاصطلاحات ) .
والظاهر أنَّ
ما ذكره في ( القاموس ) معناهما اللغوي ، وما ذكرناه معناهما العرفيّ ، وهو المعنى
المناسبُ للمقام.
وإنّما عقَّبَ
الحمد بالشكر في قوله : ( وإيَّاه أشكرُ
استسلاماً لعزَّتِهِ والشكرُ طَوْلُه ) جمعاً بين الوظيفتين ، وإحرازاً للفضيلتين ، وللإشعار
باستحقاقه جلّ شأنه الحمدَ على كلّ حال ومقام ، سواء وصلت النعمة إلى الحامد ، أو
اتّصلت بغيره من الأنام ، منبِّهاً بتقديم الحمد على الاعتناء بشأنه ، إذ هو للشكر
مدارٌ ونظام ؛ ولهذا ورد عن النبيّ عليه وآله أفضل الصلاة والسلام : « الحمدُ رأسُ الشكرِ ،
ما شكر الله مَنْ لم يحمده » .
وهو وإنْ كان
من طرق العوام إلَّا إنّه متلقًّى بالقبول عند علمائنا الأعلام .
ومعناه أنَّ
ذكر النعمة والثناء على المنعم باللسان أشْيعُ لها ، وأدلُّ على مكانها ، وأظهر
لشأنها من ذكرها بالجنان والأركان ، ولكون اللسان مُظهراً لما انطوى عليه الجنان
لخفاء حقيقة الاعتقاد ، بخلاف عمل اللسان الذي هو النطق المفصح عن خفيِّ المراد ،
مشيراً بتقديم المشكور إلى انحصار الشكر فيه وقصره عليه ؛ لرجوع النعم كلّها إليه.
ولهذا اعترف بأنَّ حمدَه من جملة فضله الواسع العميم ، وشكره من بعض مَنِّه وجوده
العظيم ، فلا محمودَ سواه ولا مشكورَ في الحقيقة عداه.
__________________
وهذا على رأي
الأشاعرة من أنَّ جميع الأفعال مخلوقة له تعالى ظاهر لا ريب
فيه ؛ لأنَّ كلّ جميل فهو له خَلْقاً وتمكيناً ، ولاختصاص الحمد بالأفعال
الاختياريّة ، ولا اختيار لغيره سبحانه وإنّما العبد مختار في صورةٍ ، مضطر في
أُخرى ، فيختصّ الحمد به ولا يسري إلى غيره.
القول في أفعال العباد
وبيانه أنَّهم ذهبوا إلى أنَّه لا مؤثِّر في الوجود إلّا الله
سبحانه ، وليس شيء مؤثِّراً في شيء أصلاً ، فجميع أفعال العباد من الصلاح
والفساد صادرة عندهم من الله الجواد ، وليس لهم منها إلّا الكسب الذي هو عند
أكثرهم الإرادة والاختيار ، بمعنى أنَّ العبد إذا أراد الطاعة أو المعصية فعلهما
الله فيه. فأصل الفعل من القادر المختار وليس للعبد سوى الاختيار فيه ، فمن حيث
إنَّه لا قدرة له على إيجاد الفعل ، حيث إنَّ الموجد هو الله تعالى يتّصف
بالاضطرار ، ومن حيث صدور ذلك الفعل منه تعالى بعد اختياره وإرادته يوصف
بالاختيار.
وفساد هذا
القول الشنيع أظهر من الشمس في رابعة النهار ( سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ) ، ( فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً
وَزُوراً ) ( وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
وَإِثْماً مُبِيناً ) .
وأمَّا على
مذهب الإماميّة ، فلأنَّ تمكين العباد وإقدارهم على الأفعال الحسنة منه تعالى ؛
لأنَّ أُصول النعم وفروعها منه ، وأمَّا مُلْكُ غيرهِ فتسليطٌ منه واسترعاء ، فهو
المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فبهذا صحّ رجوع المحامد إليه
وقصرها عليه ؛ لاستناد ما يصدر منّا إلى جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا ، وكلّها مستندة
الى جوده ومتفرّعة على وجوده. فيصير توفيقه إيّاهم لحمده وشكره من جملة النعماء
__________________
وبعض القِسَم والآلاء ؛ ولهذا قال سيّد الساجدين وسند العابدين عليهالسلام في دعاء التحميد : « والحمدُ
لله الَّذي لو حَبَسَ عنْ عِبادِه معرفةَ حَمْدِهِ على ما أبْلَاهم من مِنَنِهِ
المُتتابعةِ ، وأسبَغَ عليهم مِنْ نِعَمِه المُتظاهرةِ ، لَتصرَّفوا في مِنَنِهِ
فلم يَحمَدُوه ، وَتَوَسَّعُوا في رِزْقِهِ فلم يَشْكُروه » .
وفي مناجاة
داود عليهالسلام
: « إلهي كيف أشكُرُكَ
وأنَا لا أستطِيعُ أنْ أشْكُرَكَ إلّا بنعمَةٍ ثانيةٍ من نِعَمِكَ. فأوحى اللهُ
تعالى إليه : إذا عَرفتَ هذا فقد شَكَرْتَني » .
وفي خبرٍ آخر :
« إذا عَرفتَ أنَّ النِّعَمَ
منّي رَضيتُ منك بذلك شكراً » .
وبهذا صحّ كون
الاعتقاد الجناني حمداً وشكراً كما مرَّ في تعريف الحمد العرفي.
__________________
معنى الشكر وفلسفته
الشكر لغة
وأمَّا الشكر ،
فالمشهور المنصور أنَّه لُغَةً مرادفٌ للحمد المذكور ، فيجري فيه ما يجري فيه حذو
النعل بالنعل والقذّة بالقذّة ، بل لم يخالف فيه إلّا السيّد الشريف ، فاعتبر فيه
وصول النعمة إلى الشاكر ، فجعل النسبة بينهما العموم المطلق مع احتماله الترادف
أيضاً ، بناءً على عدم التقييد كما هو الظاهر ، إذ ما لعلّه يصلح دليلاً له ضعيفٌ
قاصرٌ.
وأضعف منه ما
عن بعض شرّاح ( الكشّاف ) مِنْ أنَّ الشكر اللّغوي لا يكون إلَّا باللسان. ولعلّه
لما عن ( مجمل اللغة ) من تعريف الشكر بالثناء على الإنسان بما يوليكه . وتعريفهُ
الثناء بالكلام الجميل بناء على أنَّ الثناء لا يكون الّا باللسان ولا يكون
بغيره ولو مجازاً.
وفيه
: مع عدم
استلزامه الاختصاص باللسان ، أنَّه معارَضٌ بما عن غير واحد من عدم الاختصاص ، فعن
الخطابي التصريح بأنَّ الثناء يُطلق حقيقة على ما ليس باللسان ، كما في قولك :
أثنى اللهُ سبحانه على ذاته ، وكما في الحديث : « أنْتَ
كما أثنَيتَ على نَفْسِكَ » .
وعن الجوهري
والزمخشري أنَّ الثناء هو الإتيان بما يُشعر بالتعظيم مطلقاً ، سواء كان بآلةِ
اللسان أو بغيرها ، بل قد يستفاد من تعريف الحمد اللغوي بالثناء باللسان
كما صدر من غير واحد من الأعيان ، إذ لو اختصّ الثناء به لكان ذكره حشواً تُصان
منه التعاريف ويستهجنه الذوق اللّطيف.
__________________
وفي كتاب (
التعريفات والاصطلاحات ) : ( الثناء للشيء : فعل [ ما ] يشعر
بتعظيمه ) . انتهى.
ولا يخفى عليك
صراحة هذه العبارات في عدم الاختصاص ، ولات حين مناص. نعم قال في ( القاموس ) : (
والثَّناء والتثنية : وصف بمدحٍ أو ذمٍّ ، أو خاصٌّ بالمدح ) .
وفي ( مجمع
البحرين ) : ( واثنِ على ربّك ، أي أذكره ذكراً حسناً جميلاً ، من الثناء بالمد
وهو الذكر الحسن والكلام الجميل ، يقال : أثنيت على زيدٍ بالألف مدحته. والاسم
الثناء. واستعماله في الذكر الجميل أكثر من القبيح ) انتهى.
وهما لا يثبتان
المُدَّعى ، إذ قُصَارى ما فيهما الاقتصار في تعريف الثناء على الوصف والذكر الحسن
والكلام الجميل الظاهر كلٌّ منها في اللساني ، وليس ذلك إلّا لكونها أظهر الأفراد
وأكثرها في الاستعمال. ومع التنزل عن تعيُّن ذلك فلا أقلّ من راجح الاحتمال وهو
يكفي في إبطال الاستدلال ، على أنَّ هنا دعويين في هذا المجال :
إحداهما
: أنَّ الشكر لا
يكون إلّا باللسان.
وثانيتهما
: أنَّ الثناء
كذلك ، الذي هو من البعد بمكان.
ولئن سلّمنا
الثانية فلا نسلّم الاولى ، ولا يلزم من تسليمِها تسليمُها ، كما لا يخفى على مَنْ
رَقي ذُرا العرفان. ألا ترى أنَّ مَنْ عرّف الثناء بما سمعت كالفيروزآبادي
والطريحي عرّف الشكر بالمعنى الأعمّ؟
قال في القاموس
: ( الشُّكر بالضم عرفان الإحسان ونشره ، أو لا يكون إلّا عن يدٍ ، ومن الله تعالى
المجازاة والثناء الجميل ) .
وقال في (
المجمع ) في مادة شكر : ( الشَّكور بفتح الشين المتوفِّر على أداء الشكر ، الباذل
وسعه فيه ، قد شغَلَ فيه قلبه ولسانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً
__________________
وكدحاً ) .
وقال فيها
أيضاً : ( وشكرت الله : اعترفتُ بنعمته وفعلتُ ما يجب من فعل الطاعة وترك المعصية
) .
وقال في مادة
حمد ، بعد تعريف الحمد بالمعنى اللغوي السابق : ( والشكر فعلٌ ينبئ عن تعظيم
المنعم ؛ لكونه منعماً سواء كان باللسان ، أو بالجنان ، أو بالأركان ) .. إلى آخره.
وقال ابن
الأثير في النهاية : ( والشكر : مقابلة النعمة بالقول والفعل والنيّة ، فيثني على
المنعم بلسانه ويذيب نفسه في طاعته ، ويعتقد أنَّه موليها ) . انتهى.
ولا يخفى ما في
هذه العبارات من الظهور كالنور على الطور ، وبه يظهر ما في القول المذكور من الضعف
والقصور. كما ظهر أنَّ مرادفة الشكر اللغوي للحمد العرفي هو القويّ المنصور :
وليس يصحّ في
الأذهان شيء
|
|
إذا احتاج
النهار إلى دليل
|
الشكر عرفاً
نعم ، هو
بالمعنى العرفي كما صرّح به غير واحد من الأعلام عبارة عن صرف العبد جميع ما أنعم
عليه به ربّ الأنام فيما خلقه لأجله من المصالح والمهام ، كصرف [ .. ] والبصر في
النظر إلى ما في المخلوقات من الصنع المحكم الغريب والفعل المتقن العجيب ، والقلب
إلى التدبّر فيها والاستدلال بها على وجود باريها وحكمة مبدئها ، كذا قاله غير
واحد.
والظاهر أنَّ
المُراد من جميع ما خلق لأجله جميع ما كلّف به ، إذ لو أُريد صرف الجميع في جميع
ما خلق لأجله لا في جنسه كما نصّوا عليه لم يكد يتحقّق الشكر
__________________
العرفي أصلاً ؛ إذ لا يمكن صرف جارحة اللسان مثلاً في وقت من الأوقات في
جميع ما خلق لأجله ، كالذكر والنصيحة وإنذار الأعمى من الوقوع في البئر وغيرها ،
فضلاً عن صرف الجميع.
أمَّا على ما
ذكرنا فلإمكان إتيان المكلّف بما يكلَّف به في وقته وإلَّا لزم التكليف بالمحال ،
وهو محالٌ على الحكيم المتعال.
النسبة بين الحمد اللغوي
والحمد العرفي
إذا عرفت هذا ،
فالنسبة بين الحمدين العموم والخصوص من وجه ؛ لاجتماعهما في الثناء باللسان في
مقابلة النعمة والفواضل ، وانفراد اللغوي بصدقه بذلك في مقابلة غيرها من الفضائل ،
وانفراد العرفي بصدقه بغير فعل اللسان من قول الجنان والأركان. فاللغويّ أعمّ
متعلّقاً وأخصّ مورداً ، والعرفي أعمّ مورداً وأخصّ متعلّقاً.
النسبة بين الشكر اللغوي والشكر
العرفي
وبين الشكرين ؛
إمَّا العموم والخصوص المطلق واللغويّ أعمّ مطلقاً ، أو التباين :
أمَّا
الأول : فنظراً إلى
أنَّ صَرْف جميع الأعضاء فيما خلق لأجله في العرفي فعل واحدٌ وإنْ تعدّد متعلَّقه
من الأعضاء والآلات ، ضرورة عدم منافاة ذلك وصفه بالوحدة ظاهراً بالنظر إلى ذاته ؛
ولهذا يقال : صدر عن زيد فعلٌ واحد هو ضرب القوم ، مع تعدّد مَنْ وقع عليه الضرب ؛
ولأنَّ المركَّب تارةً يوصف بالوحدة الحقيقية كذي الأجزاء الارتباطيّة كبدنٍ واحد
، وتارة بالاعتباريّة كذي الأجزاء الاستقلاليّة كعسكرٍ واحد. والصرْفُ المذكور من الثاني
لا الأوّل ، فيكون كلا الشكرين فعلاً واحداً بهذا الاعتبار ، فيتصادقان وإنْ كان
اللغويّ أعمّ.
وأمّا
الثاني : فنظراً إلى
أنَّ الصرْف المذكور ينحلّ انحلال الكلِّ إلى أجزائه إلى أفعال متعدّدة كصَرْف
اللسان ، وصَرْف القلب ، وصَرْف السمع والبصر ونحوها ، فلا يصدق عليها فعل واحدٌ
فيتباينان ، ضرورة مباينة الواحد للمتعدّد ؛ ولأنَّه لو جعل
الصرْف المذكور فعلاً واحداً لم ينحصر الشكر اللغوي في اللسان أو الجنان أو
الأركان ، بل كان المجموع قسماً رابعاً ، بل كلُّ اثنين قسماً آخر.
اللهمّ إلّا
أنْ يمنع بطلان اللازم أو يجعل التقسيم هناك لمنع الخلوّ لا الجمع.
وربّما يجعل
اللغوي أخصّ ؛ نظراً إلى أنَّه لا يقع إلّا بإزاء النعمة ، وعموم العرفي لها
ولغيرها من سائر الكمالات كما هو ظاهر تعريفه ؛ لعدم إشعاره بكونه بإزاء النعمة.
وفيه
: منع عموم
العرفي لغيرها لاعتبار الإنعام فيه أيضاً ؛ لأنّ تعريفه بصَرْف العبد جميع ما أنعم
الله به عليه ينادي باعتبار الإنعام.
اللهمَّ إلّا
أن يكون مراده أنَّه لم يذكر في الشكر العرفي مقابلة للإنعام كما ذكر في اللغوي ،
ولكنَّه لا يثبت إلّا العموم من وجه لا العموم مطلقاً ؛ إذ لا ينكر عموم الشكر
اللغوي من جهات شتّى :
منها
: أنَّ فعل كلّ
من اللسان أو الجنان أو الأركان على جهة الانفراد يكون شكراً لغويّاً لصدق تعريفه
عليه ، بخلاف العرفي لعدم صدق شيء منها على أنَّه صَرْف الجميع في الجميع ؛
لأنَّه جزءٌ منه ولا يصدق الكلّ على جزئه الخارجي ، فيوجد اللغوي بدون العرفي وهو
قرينة العموم. وإنَّ المُنْعم المذكور في تعريف اللغوي لم يقيّد بكونه منعماً
مخصوصاً على الشاكر لا غيره ، بخلاف العرفي إذ اعتُبر فيه الخصوصيّتان ، فيكون
اللُّغويّ أعمّ مطلقاً.
وربّما يمنع
العموم والخصوص المطلق بين الشكْرَين بحسب الحمل والصدق ، لا الوجود والتحقّق :
أمَّا
الأوّل ؛ فلأنّ الشكر
اللُّغوي كصرف أحد آلات العرفي جزءٌ خارجيٌّ من صَرْف الجميع الذي هو العرفي ، فلا
يحمل عليه ؛ لامتيازه في الوجود الخارجي عن سائر الأجزاء والآلات. وبين الكلّ
وجزئه تباين لا عموم وخصوص ؛ لحمل العامّ على الخاصّ ، وعدم حمل الجزء الخارجي على
كلّه.
وأمّا
الثاني ؛ فلأعمّيّة
الجزء الخارجي مطلقاً من كلِّه ؛ لاستلزام وجود الكلِّ وجودَ
الجزء بلا عكس ، فيكون اللُّغوي أعمّ تحقُّقاً من العرفي.
وفيه
: أنَّه ناشئٌ
من اشتباه المفهوم بالمصداق ، إذ مفهوم اللغويّ فعل ينبئ عن تعظيم المُنْعم لكونه
مُنْعماً ، ومصداقه الذي هو صَرْف اللسان أو الجنان مثلاً مغايرٌ له مغايرة الكلّي
لجزأيه. وما لا يحمل على الصرْف ما صدق عليه الشكر اللغوي لا مفهومه الذي هو الفعل
المذكور ، فعموم مفهوم اللغوي للعرفي وحمله عليه لا يستلزم عموم ما صدق هو عليه
وحمله عليه. فعليك بالتأمّل التامّ ، فإنّ هذا المقام من مزالِّ الأقلام بل
الأقدام ، ومن الله الهداية وبه الاعتصام.
النسبة بين الحمد والشكر
اللغويّين
وبين اللغويّين
العموم والخصوص من وجه ، كالحَمْدَين ؛ لعموم الحمد باعتبار المتعلّق وخصوصه
باعتبار المورد ، والشكر عكسه كما مرّ في الحَمْدَين ، هذا على ما هو المشهور ، بل
المجمع عليه من عموم الشكر اللغوي للموارد الثلاثة ، أمّا على ما نقله بعضُ
المحشّين على ( المطوَّل ) من خصوصه بجارحة اللسان ، فالحمد اللُّغوي أعمّ منه
مطلقاً ؛ لفوات وجه عموم الشكر عليه. ولكنّه ضعيفٌ لا يلتفت إليه لما سمعتَ من
الكلام فيه.
النسبة بين الحمد والشكر
العرفيَّين
وبين العرفيّين
العموم المطلق كالنسبة بين الحمد اللغوي والشكر العرفي ، والثاني أخصّ مطلقاً ؛
نظراً إلى شمول تعلُّق الأوّل به تعالى وبغيره ممَّنْ اتّصف بالفضائل أو الفواضل ،
واختصاص تعلّق الثاني به سبحانه ؛ لأخذه في تعريفه ، كذا قيل.
وفيه
: أنّ ما وجّهوا
به عموم متعلَّق الحمد اللغوي إنّما يفيد عموم المتعلَّق ، لا عموم الحمد باعتبار
المتعلَّق بحيث يصدق على الشكر العرفي أنَّه حمد لغويّ.
والحقّ أنّ
النسبة بينهما التباين الكلّي بحسب الحمل والصدق ، والعموم والخصوص المطلق باعتبار
الوجود والتحقّق :
أمَّا
الأوّل ؛ فلصدق الحمد
اللغوي على جهة الانفراد بالثناء باللسان فقط ، مجرّداً عن فعل الجِنان والأركان
وإنْ كان مطابقة الأوّل وعدم مخالفة الثاني شرطاً في الصدق لا شطراً منه ، وعدم
صدق الشكر العرفي بذلك ؛ إذ لا يصدق إلّا بانضمام فعل جميع الآلات ، فيصير الحمد
اللغوي جزءاً خارجياً من الشكر العرفي ، ومن الواضح الجليّ مباينة الكلّ لجزئه
الخارجي ؛ لامتناع حملهما على شيء أو حمل أحدهما على الآخر.
وأمّا
الثاني ؛ فلأنّه متى
تحقّق الكلّ تحقّق الجزء في ضمنه من دون عكس ، فكان اللغوي أعم مطلقاً بهذا
الاعتبار ، وإلَّا فلا مجال لإنكار مباينة الكلّ لجزئه بحسب الحمل. وحينئذ فإنْ
أراد القائل الأول العموم والخصوص المطلق باعتبار الوجود والتحقّق فمرحباً
بالوفاق. وإنْ أراد بحسب الحمل والصدق ففيه ما مرّ.
وقد تجعل
النسبة بينهما بذلك الاعتبار العموم والخصوص من وجه ؛ لانفراد الشكر العرفي عن
الحمد اللغوي في مادة فاقد اللسان أو آلة التعبير مطلقاً ، فإنّه يتحقّق منه حينئذ
صرف الجميع في الجميع ، إذ جارحة اللسان حينئذ ليست ممّا أنعم الله بها عليه ، فلا
ينافي فقدانها تحقّق الشكر العرفي ، فتأمَّل.
النسبة بين الحمد العرفي
والشكر اللغوي
قيل
: وبين الحمد
العرفي والشكر اللغوي التساوي.
وفيه
: أنَّ نسبة
التساوي وسائر النسب إنّما تعتبر بين الشيئين المتغايرين في المفهوم ؛ لامتناع
نسبة الشيء إلى نفسه بأحدها ، ومجرّد التساوي في الصدق في الترادف لا يكفي في
تحقّق التساوي ؛ إذ المتساويان هما المفهومان المتّحدان مصداقاً ، والمترادفان
ليسا مفهومين وإنْ اتّحدا فيه ، فالأقرب سقوط النسبة بينهما عن درجة الاعتبار.
نعم ، على ما
نقل عن بعض شرّاح ( الكشّاف ) من خصوص الشكر اللغوي بجارحة اللسان يكون الحمد
العرفي أعمّ مطلقاً ، كما أنَّه على تقدير تقييد النعمة في
الشكر اللغوي بالوصول إلى الشاكر يكون الشكر أخصّ مطلقاً ، ولكن قد عرفت
ضعف القولين وسقوطهما من البيَنْ.
تبصرة :
ثمّ عقّب الحمد
والشكر المذكورين بقوله (
حمداً وشكراً كما هو أهلُهُ )
تنبيهاً على العجز عن
أداء ما هو أهله وحقّه من الحمد والشكر اللذين يستحقّهما على نعمائه المتواترة
وآلائه المتظافرة من النعم الباطنة والظاهرة ، فيكونان حينئذ صوريَّين لا حقيقيّين
، لما مرّ من اعترافه بأنَّ الحمد والشكر المذكورين من جملة النعم التي تستدعي
حمداً وشكراً آخَرينِ ، بناء على جعل الكاف على حقيقتها للتشبيه لا زائدة ؛ إذ
الأصل عدم الزيادة ، مع منافرة تنكيرهما لجعل ( ما ) الموصول صفةً لهما أو نكرةً
موصوفةً بدلاً منهما كما قيل. وإن جُعلت زائدة لزم خلاف الأصل مع عدم الحاجة إليه
، بل ومخالفته لظاهر المقام من الاعتراف بالعجز عن الحمد على ما أنعم به عليه.
ويمكن جعل
الكاف هنا تعليلية مثلها في قوله تعالى ( وَاذْكُرُوهُ كَما
هَداكُمْ ) ، فيكون حينئذ إشارة إلى أعلى مراتب العبادة من عدم
ملاحظة رجاء الثواب ودفع العقاب ، التي هي عبادة الأحرار ، كما ورد عنهم عليهمالسلام. بمعنى : أنّه يحمده تعالى لأنَّه أهلٌ للحمد ومستحقّ
للشكر مع قطع النظر عن الإنعام على حدّ قول أمير المؤمنين عليهالسلام
: « إلهي ما عبدتُك خوفاً
من نارِك ، ولا طمعاً في جَنَّتِك ، ولكن وجدتُك أهلاً للعبادةِ فعبدتُك » .
ولعلّ هذا أحسن
الوجوه لأوفقيّته بشأن المخلِصِين الأبرار ، جعلنا الله منهم بحقّ محمّد وآله
الأطهار.
وإنّما وحّد
الضمير في « أهله » مراعاة للسجع ؛ ليناسب ما بعده من قوله :
__________________
(
وأسأله تسهيلَ ما يلزمُ حملُهُ وتعليمَ ما لا يسعُ جهلُهُ ) لكون ذلك مطلوباً عند الأُدباء محبوباً عند العرب
العُرباء.
والسؤال
: طلب الأدنى من
الأعلى ، كالدعاء في مقابلة الأمر والالتماس ، فإنَّ الأوّل طلبُ الأعلى من الأدنى
، والثاني طلب المساوي من مثله ، فإنْ كان متعلَّقه الاستكشاف ودفع الشبهة فالغالب
فيه التعدية بـ ( عن ) ، كقوله تعالى ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ ) ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ ) ، وقد يتعدّى بنفسه. وإن كان متعلّقه الاستعطاء من
المال ونحوه فالغالب فيه التعدية بنفسه ، كقوله تعالى ( وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً ) . وقد يتعدّى بـ ( من ) ، كقوله تعالى ( وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ ) ، وهو هنا من قبيل الثاني.
مراتب العلم وفضله
وأصل ( يَسَع :
يوسع ) فحذفت الواو لكونه مكسور العين في الأصل ، وإنّما فُتحت لأجل حرف الحلق.
والقاعدة في مثله حذفها كـ ( يلد ، ويعد ) لوقوعها بين عدوَّين : فتحة وكسرة
أصليّة ؛ لأنَّها إنَّما يناسبها الضمة لا الفتحة والكسرة ، ولهذا حملوا فتحة (
يؤجل ) على الأصالة حيث لم تحذف الواو كما تقرّر في محلّه .
وأراد بالسعة
عدم الجواز ؛ لتشاركهما في إفادة الحَجْر وعدم التجاوز ؛ تشبيهاً للضيق المعنوي
بالضيق الحسّي. وأشار بذلك إلى العلم الشرعي الذي ورد فيه : إنَّ طلبه فريضة على
كلِّ مسلم ومسلمة وهو العلم المتعلِّق بمعرفة المعارف الخمس الإلهيّة
الاعتقاديّة ، ومعرفة الأحكام الشرعيّة العمليّة ، فإنَّ لكلٍّ من هذين العلمين
مرتبتين يصيران بأحدهما فرضَ كفايةٍ وبالأُخرى فرضَ عينٍ.
فالأُولى
للأوَّل المرتبة التي
يقتدر بها على معرفة ذلك بالأدلّة التفصيليّة ، ودفع
__________________
الشكوك النفسانيّة ، وحلِّ الشبه السوفسطائيّة ، فإنَّ طلب هذه المرتبة
فرضُ كفاية تسقط عن البعض بقيام بعض الرعية.
والثانية له المرتبة التي يحصل بها الاعتقاد الحقّ وإنْ لم
يتمكّن من دفع تلك الشبه الرديَّة ، فإنَّ طلبَ هذه المرتبة فرضُ عين على جميع
البريَّة.
والأولى
من الثاني هي المرتبة
التي يحصل بها العلم بالأحكام عن أدلّتها التفصيليّة ، فإنَّ طلبها فرضُ كفاية على
المشهور بين الإماميّة.
والثانية له المرتبة التي يحصل بها العلم بما يحتاج إلى معرفة
العبادات وغيرها ولو بتقليد أحد نوّاب الشريعة المحمّديّة ، فإنَّ طلبها فرضُ عين
كما تساعد عليه الأدلّة القويّة.
وكأنّ المصنّف قدسسره أشار بهذا الكلام إلى ما في كثير من أخبار أهل الذكر عليهمالسلام أنَّ « طلبَ العلم
فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ » .
وفي
بعضها : « تفقَّهوا
في الدينِ ، فإنَّ مَنْ لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي » .
وفي
بعضها : « عليكم
بالتفقّهِ في دينِ اللهِ ولا تكونوا أعْراباً ؛ فإنّه مَنْ لم يتفقَّهْ في دينِ
اللهِ لم ينظر الله إليه يومَ القيامة ، ولم يزكِّ له عملاً » . وفي بعضها :
هل يسع الناس ترك المسألة عمَّا يحتاجون إليه؟ ، فقال : « لا » .
إلى غير ذلك من
الأخبار الواردة في الحثِّ على طلب هذا العلم الواضح المنار ، وهو الذي أراده
أيضاً بقوله :
(
وأستعينُه على القيامِ بما يبقى أجرُه ) ، أي يدوم ثوابه ويُحْمَد مثابه.
(
ويحسنُ في الملإ الأعلى ذِكرُه ) ، أي : يعلو عند أهل العالم العلوي قدره ،
( وتُرجى
مثوبتُه وذخرُه ).
__________________
وذلك كلُّه
ممّا قامت عليه البراهين العقليَّة ونطقت به الأدلَّة النقليَّة من الآيات
القرآنيّة والسنَّة المعصوميّة ، قال الله تعالى ( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) . وقال سبحانه ( إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) . وقال جلّ شأنه ( وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) ، حيث فُسِّرت الحكمةُ بالعلم أو ما يرجع إليه. إلى غير
ذلك من الآيات.
وروى ثقة
الإسلام في ( الكافي ) بسنده إلى عبد الله بن ميمون القدَّاح ، بطريقين معتبرين ،
عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « قال رسول
الله صلىاللهعليهوآله : مَنْ
سلك طريقاً يطلبُ فيه علماً سلك اللهُ به طريقاً إلى الجَنَّة ، وإنّ الملائكةَ
لتضعُ أجنحَتَها لطالبِ العلمِ رضاً به ، وإنّه يَستغفرُ لطالب العلم مَنْ في
السماءِ وَمَنْ في الأرضِ حتَّى الحوتُ في البحر. وفضل العالم على العابد كفضل
القمر على سائر النجُوم ليلة البدر ، وإنَّ العُلماءَ ورثةُ الأنبياء ، إنّ
الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورَّثوا العلم فَمَنْ أخذ منه أخذ
بحظّ وافرٍ » . انتهى.
ومعنى أنَّهم « لم
يورّثوا ديناراً ولا دِرْهماً » أنَّهم عليهمالسلام لحقارة الدنيا عندهم وإعراضهم عنها لا يعدُّون حطامها
ميراثاً ولا يهتمون به ، أو أنَّهم لم يجعلوا عُمدة ما يحصِّلونه في دنياهم وينتفع
الناس به منهم في حياتهم وبعد وفاتهم الدينارَ والدرهمَ.
وحينئذ فلا
ينافي أنْ يرثَ وارثهم الجسماني منهم ما يبقى بعدهم من الأموال ، فلا وجه لطعن بعض
العُلماء فيه بموافقيّة الحديث المفترع والكذب المخترع على النبيّ صلىاللهعليهوآله من قوله : « نحنُ
معاشرَ الأنبياءِ لانورِّث » .
ويحتمل أنْ
يقال : إنَّ وارثهم من حيث النبوّة الروحانية المختصّة بهم العلماءُ ؛ لأنَّ
المتعلِّم ابنٌ روحاني لمعلِّمه ، ولهذا قيل :
مَنْ عَلَّمَ
العِلْمَ كان خيرَ أبٍ
|
|
ذاك أبو
الروح لا أبو الجسد
|
__________________
وحينئذ فلا
ينافي إرث وارثهم الجسماني أموالهم الظاهرة.
وفي ( تفسير
الإمام العسكري ) عليهالسلام وكذا في ( الاحتجاج ) أيضاً عنه عليهالسلام : « قال أمير
المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام :
مَنْ كان من شيعتنا عالِماً بشريعتنا ، فأخرج ضُعفاءَ شيعتنا من ظُلْمَةِ جهلهم
إلى نور العلم الذي حبوناه به ، جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاجٌ من نورٍ يضيءُ
لأهل جميع العرصات ، و [ عليه ] حلّة لا يقوّم
لأقلِّ سلك منها الدنيا بحذافيرها ، ثمّ ينادي منادٍ : يا عباد الله ، هذا عالم من
تلامذة بعض علماء آل محمد صلىاللهعليهوآله ،
ألا فَمَنْ أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبّث بنوره ؛ ليخرجه من حيرةِ ظُلمةِ
هذه العرصات إلى نزهة الجنان. فيخرج كلُّ
مَنْ كان قد علَّمَه في الدنيا خيراً ، أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً ، أو أوضح
له عن شبهة » .
وفيهما أيضاً
قال : « قال محمّد بن علي
الباقر عليهالسلام :
العالم كَمَنْ معه شمعة تضيء للناس ، فكلّ مَنْ أبصر بشمعته دعا له بخير ، كذلك
العالم له شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة ، فكلّ مَنْ أضاءت له فخرج بها من حيرة أو
نجا بها من جهل فهو من عُتقائه من النار ، والله يعوّضه عن ذلك بكلِّ شعرة لمَنْ
أعتقه ما هو أفضل له من الصدقة بمائة ألف قنطار على غير الوجه الذي أمر الله عزوجل به
، بل تلك الصدقة وبالٌ على صاحبها ، لكن يعطيه الله ما هو أفضل من مائة ألف ركعة
يصلّيها بين يدي الكعبة » . انتهى.
وقد اشتمل
الكتابان المذكوران على طرف وافر من الأخبار الواردة في هذا العنوان ، وَمَنْ أراد
الاستكثار منها فليطلبها من المظانّ.
كلمة التوحيد
(
وأشهدُ ) أي : أعلم ، من
الشهادة بمعنى العلم المُعبَّر عنه بالإخبار عن يقين ، أو من الشهادة بمعنى الحضور
لاستلزامه العلم غالباً بأنَّ الشهادة حضورٌ لمشهود به وإدراك
__________________
به بالبصر أو السمع. وأمّا ما كان بالدليل القطعي كما هنا ، فبتنزيل الحضور
المعنوي الباطني منزلة الحضور الحسّي ؛ لأنَّه إذا نظر في الآثار ودلَّه صحيحُ
النظر والاعتبار على الوحدة الحقيقيّة دلالة قطعيَّة كان كَمَنْ أبصر الشهود
العدول من الآيات الجليَّة الآفاقيَّة والأنفسيَّة ، فإنَّ كلَّ شيء منها يشهد
شهادة حضور ومعاينة باللسان الصادق من حاله بوحدة المتعالي في عزّه وجلاله.
و
( أنْ لا إلهَ ) لجميع المخلوقات من الناطقات ، والصامتات ، والجامدات ، والناميات ، وأصناف
[ المبروءات والمذروءات ].
(
إلّا الله ) الجامع لجميع الكمالات.
والإله في أصل
اللغة يقال لكلّ معبودٍ سواء كان بحقّ أو باطل ، ثمّ غُلِّبَ في الاستعمال على
المعبود بالحقّ.
وعن ( الكشّاف
) : أنَّ ( إلهاً ) بالتنكير لمطلق المعبود ، وبالتعريف للمعبود بالحقّ .
وقد تُحذف
همزته فيقال : لاه ، كقراءة بعضهم : وهو الذي في السماء لاه وفي الأرض لاه .
وقول الشاعر :
كحلفَةٍ مِنْ
أبي رباحٍ
|
|
يَسمعُها
لاهُهُ الكبارُ
|
وهل هو اسم
جنسٍ أو صفةٌ؟
قيل
بالأوّل ؛ لأنَّه يوصف
ولا يوصف به كما هو شأن الأسماء ، فيقال : إلهٌ واحد ، ولا يقال : شيء إلهٌ ، كما
لا يقال : شيء رجل.
وقيل
بالثاني ؛ لقوله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي
الْأَرْضِ إِلهٌ ) ، لتعلّق الظرف
__________________
به. وكلا الدليلين ليس نصّاً في المدّعى :
أمّا
الأوَّل ؛ فلجواز كون
الوجه في عدم الوصف به إجراؤه مجرى العلم وإعطاؤه حكمه.
وأمّا
الثاني ؛ فلجواز تعلّق
الظرف به باعتبار صفة لازمة له وهي المعبوديّة ، كقوله :
أسدٌ عليَّ
وفي الحروب نعامة
|
|
[ ربداءُ تجفلُ من صفير الصافرِ
|
] وأمَّا خبر ( لا ) هذه فقد
اضطربت فيه [ الأفهام ] ، وزلّت فيه أقدام الأقلام ، وانتصلت فيه سهام النقض
والإبرام ؛ فذهب كثير من المحقّقين إلى الاستغناء في هذا المقام وأمثاله عن الخبر
:
إمَّا
لأنَّ ( إلّا الله ) مبتدأ و ( لا إله ) خبره ؛ لأنَّ أصله ( الله
إله ) فزيدت ( لا ) و ( إلَّا ) لإفادة الحصر ، فمعناه : الله إلهٌ لا غيره.
وإنَّمَا جُعل ( إلَّا الله ) مبتدأ ؛ لأنَّ إلهاً نكرة فلا يبتدأ بها.
وفيه
: أولاً : أنَّه لا يتم
في كلّ التراكيب ، كـ ( لا حول ولا قوّة إلّا بالله ) ، وليس مرادهم خصوص هذا
التركيب.
وثانياً
: أنَّه لا يدفع
المحذور الذي أرادوا الفرار منه ؛ لأنّ حصر المستحقّ وهو معنى ( لا إله ) في الله
تعالى ليس نصّاً في ما هو معتبر في الإيمان من عدم إمكان الغير ووجوده تعالى
بالفعل ؛ لأنَّه إنْ أُريد بـ ( الإله ) واجب الوجود ؛ فإنْ أُريد حمله بالفعل فلا
يدل إلّا على الوهيّته تعالى ونفي وجود إله غيره فعلاً ، ولا يدلّ على نفي إمكانه
، وإنْ أُريد حمله بالإمكان فلا يدلّ على وجوده سبحانه فعلاً ، وإنْ أُريد بالإله
المعبود بالحقّ فلا ينفي تعدّد الواجب أصلاً.
وإمّا لأنَّ
كلمة ( لا ) اسم فعل بمعنى انتفى ، كما أنَّ كلمة ( هاء ) اسم لـ ( خذ ) ، و ( يا
) اسم لـ ( أدعو ). وانتفاء نفس الشيء معقول ؛ لتعلّق السلب في السالبة بنفس
الاتّصاف ، لا بحال من أحواله ، وإلّا لم يتحقّق التناقض بين الموجبة والسالبة ؛
لجواز
__________________
تعلّق نفس الاتّصاف بالخارج ، وتعلّق السلب بحال من أحوال الاتّصاف ، فلا
تناقض. وعلى هذا فتصير ( إلّا ) بمعنى غير ، فاعلاً لـ ( انتفى ).
وأُورد عليه
بأنَّ حمل ( إلَّا ) على معنى غير مشروط بتبعيّتها لجمعٍ مُنكَّر غير محصور.
ويمكن الجواب
عنه بجواز بناء القائل على عدم الاشتراط ، إذ لم يشترطه إلَّا ابن الحاجب وبعض
مَنْ تبعه ، مع أن سيبويه أنكره ومنعه ، بل نسبه
المحقّق الرضي إلى أكثر المتأخّرين ، وعليه قول الشاعر :
وكلُّ أخ
مفارقُهُ أخوهُ
|
|
لَعَمْرُ
أبيكَ إلّا الفرقَدَان
|
وتنزيله على
حذف ( أن ) يكون في غير محلّه.
وإمَّا لأنّ
كلمة ( لا ) تدلّ عليه ، فالخبر محضور بالبال عند سماع كلمة ( لا إله إلّا الله )
، لكنّه غير معتبر في نظم الكلام وإنْ كان مقدّراً في الإرادة ؛ ولهذا التزم
التميميّون والطائيّون حذف خبر ( لا ) هذه ، إمَّا مطلقاً كما نقله ابن مالك عنهم ، وإمَّا إذا
كان خبراً مرفوعاً كما هنا دون الظرف والجار والمجرور كما نقله ابن خروف ، وسيبويه
في ظاهر كلامه ، بل نقله أبو حيّان عن الحجازيّين ، وقال : وأكثر ما يحذفه الحجازيون
مع ( إلَّا ) ، نحو ( لا إله إلّا الله ) .
ولعلّ ارتكاب
هذا أسهل من سائر التكلّفات لاستناده إلى ظاهر اللغات.
وذهب جماعة
كالشارح الشهيد رحمهالله والفاضل الأبهري إلى أنَّ هذه الكلمة
__________________
وُضعت بوضع شرعي لإفادة التوحيد ، فهي مفردة فلا يطلب لها ما يطلب على
تقدير التركيب.
وهذا وإنْ
سَلِمَ من بعض التعسُّفات إلّا إنَّه يلزم منه عدم الحكم بالإسلام بمجرّد الإتيان
بهذا الكلام ما لم يعلم إرادة المعنى الشرعي ، مع أنَّه خلاف ما جرت به السيرة من
الحكم بإسلام قائلها من غير تفتيش عمّا قصد بها مع بُعد اطّلاعهم على الاصطلاح
الشرعي وإرادته.
وما
يقال : إنّ نفي وجود
إله غيره كما هو ظاهرها لغةً يكفي في الإسلام ، ثمّ نقلت شرعاً إلى إفادة التوحيد
التامّ ، ليقصده الموحّدون الكاملون ويترتَّب عليه لهم المرتبة العليا من الأجر
والثواب.
ففيه
: أنَّه إنّما
يتمّ لو اعتبر في الإسلام نفي وجود الغير فقط ، أمَّا مع اشتراط ضميمة الإقرار
بوجوده تعالى بالفعل فلا.
اللهمَّ إلّا
أنْ يكتفى في صدور الإسلام بالمرتبة الاولى ثمّ بعد الإذعان بها يُكلَّفُ بالمرتبة
العليا ، وهكذا كما هو غير بعيد ، والله العالم.
وذهب الأكثر
إلى أنَّه لا بدَّ لها من الخبر وإنّما حذف لنكتتين : مصحِّحة ومرجِّحة :
أمّا
الاولى ؛ فلأنَّ ( لا )
للسلب ، وهو فرع الوجود فيحذف لدلالة ( لا ) عليه ، كما يقال في ( لولا زيد لكان
كذا ) : إنّ الخبر محذوف ؛ لأنّ ( لولا ) لانتفاء الثاني لوجود الأوّل ، فتدلّ على
الوجود. ولا يخفى ما فيه من التكلّف :
أمَّا
أوّلاً ؛ فلأنَّه إنّما
يتمّ لو انحصر الخبر في الوجود ، ولكنّ المفروض بل الواقع خلافه.
وأمَّا
ثانياً ؛ فلأنَّ الوجود
المتوقِّف عليه صحّة السلب غير ما نحن فيه ؛ لأنّ ما تدلّ عليه ( لا ) و ( لولا )
إنّما هو الوجود اللفظي الرابطي ، والمُراد إنّما هو الوجود الذاتي الأصلي
المعبَّر عنه في لسان بعض بالوجود المحمولي ، فما وجد لم يقصد وما قصد لم يوجد حتى
يحذف.
وثالثاً
: أنَّ هذا لو
تمّ لكان دليلاً للطائفة الأُولى القائلة بعدم احتياج هذه الهيئة التركيبيّة إلى
تقدير الخبر ؛ لدلالة ( لا ) عليه.
هذا كلّه
مضافاً إلى استلزام قولهم : إنَّ السلب فرع الوجود ، وجود إله معبود غير واجب
الوجود.
اللهم إلّا أنْ
يكتفوا بوجوده بحسب دعوى ذوي الجحود.
وأمَّا جعل
بعضهم النكتة المصحّحة للحذف ؛ إنّ ( لا ) لمّا كانت للسلب ولم تقم قرينةٌ على
خصوص المسلوب صُرف إلى العامّ ؛ لأنّ عدم قرينة الخصوص قرينة العموم.
ففيه
: أنّه إن أراد
بالعامّ اللفظ الصادق على نحو الوجود والكون والحصول والثبوت فهو خروج عن المُدّعى
، وإنْ أراد به مطلق المتعدّد كما هو ظاهر كلامه فلا وجه لجعله نكتة اخرى غير نكتة
ذهاب السامع كلّ مذهب ، بل إحداهما عبارة أُخرى عن الأُخرى.
وأمّا
الثانية ، فهي أنَّ
المتكلّم يتحاشى عن ذكر وجود غيره سبحانه ولا يريد أنْ يلوّث بذكره لسانه ، بل
يريد أنْ يفرغ بسرعة عن السلب الذي هو بمنزلة العدم الذي هو شرّ محض إلى الإيجاب
الذي هو كالوجود الذي هو خير محض ، وليذهب السامع كلّ مذهب ممكن.
أقول
: هذه النكتة لا
ضير فيها ولا تثريب على ذاكريها ، ثمّ اختلف هؤلاء في تقدير المحذوف على أقوال :
فمنهم
مَنْ قال : إنّه موجود.
وأُورد
عليه : بأنَّه وإنْ
استلزم وجوده تعالى وعدم وجود غيره سبحانه ولكنّه لا ينفي إمكان وجود غيره جلَّ
شأنه ، فلا يكون نصّاً في التوحيد المعتبر في الإيمان.
وأجاب عنه بعض المحقّقين ، منهم جمال الدين الخونساري رحمهالله في حاشية شرح الكتاب ، بأنّها حينئذٍ تفيد نفي إمكان
المعبود بالحقّ غيره سبحانه ؛ لأنّ المعبود
بالحقّ لا يمكن أنْ يكون غير واجب الوجود لذاته ، وكلّ ما لا يكون موجوداً
فليس بواجب الوجود لذاته ، فنفي المعبود بالحقّ غير الله نفي إمكانه ؛ لأنّه لو
أمكن لكان واجب الوجود ، وإذا كان واجب الوجود يكون معبوداً بالحق البتة.
وبعبارة
اخرى أخصر : نفي الوجود يستلزم نفي الإمكان ، إذ لو اتّصف فرد آخر بوجوب الوجود لوجد ،
فإذا لم يوجد علم عدم اتّصافه به ، وما لم يتّصف به لم يمكن أنْ يتّصف به .
وفيه
: أنَّ المقصود
من هذه الكلمة الشريفة إنّما هو نفي استحقاق العبادة عن غير الله تعالى. وهو وإنْ
استلزم وجوب الوجود واقعاً لكنّه ليس كذلك عند الكفّار ؛ لأنّهم مع عبادتهم
الأصنام والأشجار يعتقدون أنَّها ليست واجبة الوجود فلا يلزم من اعترافهم بنفي
الإمكان نفي الإمكان ، فلا تكون حينئذ نصّاً في الإيمان.
وقيل
: تقديره ممكن.
وأُورد
عليه : بأنّ إمكانه
لا يستلزم وجوده بالفعل وإنْ استلزم عدم إمكان غيره ، مع أنّه لا بدّ في التوحيد
من وجوده بالفعل ونفي إمكان غيره.
وأجاب عنه جمال
الدين أيضاً ب : ( أنَّ إمكان اتّصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتّصافه به بالفعل
وهو مستلزم لوجوده بالفعل بالضرورة ، فإذا استفيد منها إمكانه تعالى يستفاد وجوده
أيضاً ، إذ كلّ ما لم يوجد يستحيل أنْ يكون واجب الوجود ) .
أقول
: أمّا قوله رحمهالله : ( إنَّ إمكان اتّصاف شيء بوجوب الوجود ) .. إلى آخره
، فهو مسلَّم ، لكنّه لا ربط له بالمُدّعى ؛ إذ لم يقدّر ممكن اتّصافه بوجوب
الوجود ليستلزم الوجود الفعلي.
وأمّا
قوله رحمهالله : ( فإذا استفيد منها إمكانه تعالى يستفاد وجوده أيضاً ).
ففيه
: أنَّ
المُورِدَ قد سلَّمَ الدلالة على الوجود ، وإنّما أراد إثبات الدلالة على
__________________
الوجود الفعلي الذي هو المطلب الكلّي ، ولا دلالة في الجواب عليه.
وأمّا قوله رحمهالله : ( إذ كلّ ما لم يوجد يستحيل أنْ يكون واجب الوجود ).
ففيه
: أنّه إنْ أراد
الوجوب الذاتي فمُسَلّمٌ ، وإنْ أراد ما يعمّ الوجوب الغيري وَرَدَ النقض عليه
بالحوادث الإمكانيّة الواجبة الوجود عند وجود علَّتها التامَّة ، ولعلَّه لهذا
عقّبه رحمهالله بقوله : ( فافهم ).
قيل
: تقديره مستحقّ
للعبادة.
وأُورد
عليه : أوّلاً : بعدم دلالتها حينئذ على الوجود الفعلي وعدم إمكان غيره تعالى ؛ لجواز وجود
إله غيره تعالى غير مستحقّ للعبادة ، مع أنّه لا بدّ في التوحيد من هذين الأمرين.
على أنّه إنْ أُريد سلب الاستحقاق عن الغير بالإمكان لم تدلّ على الاستحقاق
والوجود الفعليين بالنسبة إليه تعالى ، وإنْ أُريد السلب الفعلي لم تنفِ إمكان إله
مستحقّ للعبادة غيره سبحانه ؛ لجواز وجود إله غيره تعالى غير مستحقّ للعبادة ، أو
مستحقّ معاً بالإمكان.
وثانياً
: أنّه بناءً
على أنّ اتّصاف ذات الموضوع بالعنوان لا بد أنْ يكون بالفعل كما اختاره ابن سينا ، يكون معناها
: لا إله بالفعل مستحق للعبادة إلّا الله.
وحينئذ فغاية
ما تفيده أنْ لا يكون شيءٌ معبودٌ بالفعل مستحقّاً للعبادة غيره جلّ شأنه ، ولا
تنفي أنْ يكون إله بالإمكان مستحقّاً للعبادة ، فلا تكون نصّاً في نفي استحقاق
العبادة عن جميع ما سواه جلّ مجده وعُلاه.
وأُجيب
عنهما بطريقين :
الأوّل
: بـ ( أنَّ
وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات ، ولذا فرَّع المحقّق الطوسي رحمهالله [ في التجريد ] كثيراً منها عليه ) .
وحينئذ فلا ريب
أنّه يوجب استحقاق التعظيم والتبجيل ، ولا معنى لاستحقاق
__________________
العبادة إلّا ذلك ، فإذا لم يستحقّ غيره تعالى للعبادة لم يوجد واجب وجود
غيره تعالى ، وإلَّا لاستحقّ العبادة قطعاً ، وإذا لم يوجد لم يكن ممكناً ، فنفي
كلّ من الإمكان والوجود واستحقاق العبادة يستلزم نفي الآخر ، وإثباته يستلزم
إثباته.
وفيه
: أوّلاً : ما مرَّ من أنّ استحقاق العبادة وإنْ استلزم وجوب الوجود واقعاً ، ولكنّه
عند الكفَّار ليس كذلك ؛ لأنّهم مع اعتقادهم استحقاق الأصنام للعبادة يعتقدون
أنّها ليست واجبة الوجود كما تشهد به الوجادة.
وثانياً
: أنَّ هذه
الاستلزامات إنّما يتنبّهُ لها ذوو الأفكار الصافية والتدقيقات ، وأمّا سائر
العوام فبينهم وبينها أتمّ حجاب ، كما اعترف به صاحب الجواب.
وأُجيب
عن الثاني : بأنَّ المتأخّرين وإنْ فهموا من كلام الشيخ أنَّ المعتبر هو الاتّصاف
بالفعل بحسب نفس الأمر وجعلوا كثيراً من الأحكام دائراً عليه ، إلّا إنَّه صرّح في
( الشفاء ) و ( الإشارات ) بخلافه وجعل الاتِّصاف أعمّ من أنْ يكون في نفس الأمر أو في
الفرض.
قال
في الإشارات : ( كلّ واحد
ممّا يوصف بـ ( ج ) سواء كان موصوفاً بـ ( ح ) في الفرض الذهني أو في الوجود ) .
ولا يخفى أنّه
لا بدّ من أخذ إمكان الاتصاف معه كما صرّحوا به. فالفرق بين المذهبين مجرّد زيادة
الاعتبار في مذهب الشيخ ، فلا يتّجه السؤال على شيء من مذهبه ؛ لأنّ السالبة تصدق
بانتفاء الموضوع ، فيصدق نفي استحقاق الأُلوهية عن غير الله تعالى ؛ لأنَّه ليس (
لا إله ) فرد ممكن غيره تعالى بمستحقّ للعبادة ، ومفهوم تلك الكلمة نفي استحقاق
الأُلوهية عن جميع الأفراد الممكنة الاتّصاف بالمعبوديّة غير الله تعالى.
وفيه
: أنَّه مع غض
النظر عمّا يرد على أطرافه من المناقشات وتمام تلك التعسّفات ، لا يدفع جميع
الإيرادات ، فتأمّل.
__________________
وقيل
: إنَّ الخبر
هنا متعدّد ، أي موجود وممكن ، فيفيد عدم إمكان الغير ، ووجوده سبحانه بالفعل.
وفيه
: أوّلاً : أنَّ القرينة وهي نفي الجنس إنّما تدلّ على الوجود دون الإمكان.
وثانياً
: أنَّ سلب
المجموع عن غيره لا يستلزم عدم إمكان الغير ؛ لإمكان اجتماع إمكان غيره مع وجوده
بالفعل.
وكيف كان ، فهو
من الضعف بمكان. ومثله في الضعف ما عوّل عليه بعضهم من أنّ من جملة نكات حذف الخبر
ذهاب ذهن السامع كلّ مذهب ممكن ، فيعتبر نفي الوجود والإمكان معاً فيلزم وجوده
تعالى ونفي إمكان غيره فيحصل التوحيد ، إذ لا يخفى عليك أن ذهاب الذهن إليهما عند
الحذف إنّما هو على سبيل البدل دون الاجتماع ، فيلزم على كلِّ تقدير المحذور
الوارد عليه حال الانفراد.
وقد قيل فيها
أقوال كثيرة يفضي ذكرها إلى الإطناب والخروج عن موضوع الكتاب.
والحق أنَّ
مبنى الشرع الشريف إنّما هو على الظواهر العرفيّة دون التدقيقات الحكميّة
والاحتمالات العقليّة. وقد تعبّدنا الشارع الأقدس بإسلام مَنْ قال هذه الكلمة
الطيبة من الكفّار من غير تفتيش لهم عمّا يقدّرونه لها من الأخبار ، وصاحب الدار
أعرف بما في الدار.
وإنّما عقّبها
بقوله : ( وحده )
مع دلالة ما قبله على
التوحيد ؛ تنصيصاً على التوحيد البحت في الذات ، بمعنى تنزيهه عن جميع الكثرات
بجميع الاعتبارات ؛ لأنّ الأوهام لأُنسِها بالكثرات وإلفها بالتعدّدات قد تتوهّم
أنّه تعالى كلّي أو جزئي من مفهومه يستحيل وجود غيره ، فأزال هذا التوهّم بتأكيد
التوحيد ومزيد التنصيص على التفريد.
ثمّ إنَّ هذا
وإنْ كان بالنسبة إلى استعماله في الممكنات نصّاً في توحيد الذات إلّا إنَّ
الأوهام لمزيد إلفها بنظائرها قد تحتمل التعدّد في الصفات والأفعال والاستحقاق
للعبادات ؛ لعدم معرفتها بالوجوب الذاتي البحت الباتّ ؛ فلهذا قال :
(
لا شريكَ لَهُ ) فنفى الشركة في الصفات والأفعال واستحقاق العبادة ، فتمحّض التوحيد الحقيقي
والتفريد الذاتي في المراتب الأربع التي هي أركان الأحديّة ونظام الفرديّة ، وهي
التي تعبَّد الله بها العباد ووعد الجزاء عليها ثواباً وعقاباً يوم المعاد ، فأشار
إلى المرتبة الأُولى بقوله تعالى :
( وَقالَ اللهُ لا
تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ) .
وإلى الثانية
بقوله تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ ) .
وإلى الثالثة
بقوله سبحانه ( أَرُونِي ما ذا
خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) .
وإلى الرابعة
بقوله جلَّ شأنه ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ
أَحَداً ) .
__________________
بحث في النبوّة
ثمّ لمّا كان
التوحيد موقوفاً على الشهادة برسالة نبيّنا المجيد الحميد قَرَنَ الشهادةَ الأُولى
التي هي الركن الأوّل بالركن الثاني الذي هو قوله :
(
وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً ) ، وشرَّفه بألّا يذكر إلّا ويذكر معه. وبهذه المزية خصَّه
وبجَّله.
قال أمير
المؤمنين وسيّدُ الموحدين في خطبة الجمعة والغدير بعد ذكر بعض أوصاف ذلك النبيّ
الكبير : « قَرَنَ الاعتراف
بنبوّته بالاعتراف بلاهُوتيَّته واختصَّهُ من تكرمَتِه بما لم يلحقهُ [ فيه ] أحدٌ من بريَّته » .. إلى آخره.
مستند النبوّة
وحيث إنَّ
الشهادة لا بدّ لها من مستند ولا سيّما على تقدير أخذها من الحضور فالمستند هنا
أمران :
الأوّل
: عامٌّ لجميع
الأنام حتى العوامّ وهو المعجز القاهر والبرهان الباهر الذي ثبت جُلُّه بالتواتر
وباقيه بالتسامع والتظافر ، حتى ملأ الدفاتر وتناقله الثقات كابراً عن كابر ، ولا
سيّما المعجز الباقي إلى انقضاء عالم التكليف وهو القرآن الحكيم والفرقان العظيم ،
الشاهد بنبوّته والمصدِّق لرسالته ، فإنَّه شاهدٌ حاضر في كلّ قرنٍ قرن ، وزمنٍ
زمن في الماضي والغابر ، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، ولا تُرَدُّ شهادته
ولا تفلج حجّته.
والثاني
: خاصّ بمَنْ
صفا ذهنه ولطف حسّه من ذوي الأفهام السليمة والأفكار المستقيمة ، وهو أنَّ مَنْ
عرف الله تعالى وصفاته وأفعاله وآثارها ، وعرف أسرار هذا الدين ظاهراً وباطناً ،
عرف بالضرورة أنَّ محمّداً رسول الله صلىاللهعليهوآله حقاً ونبيّه صدقاً ؛ فإنَّ مَنْ نظر إلى سيرته وما جاء
به من الأوامر والنواهي في شريعته ، وتفكّر في آدابه الشريفة وأخلاقه اللطيفة ،
وهمّته العلية وشيمه الأبية ، وفتوحه العظيمة وكراماته
__________________
الجسيمة حصل له القطع بأنَّ هذا كلّه إنّما صدر عن حكمة ربانيّة وقوةٍ
إلهيّة ، ولا تصدر عن قوّة بشريّة ، وإنَّه لا يمكن صدورها عن أحد من البشر إلّا
بالوحي الإلهي والفيض الرباني ، لا بسحر ولا كهانة ولا رياضة ولا في نوم ولا يقظة.
وذلك لجريان ما أتى به صلىاللهعليهوآله في جميع الأحوال على طبق الحكمة ، ولا يكون كذلك إلّا
إذا كان عن الله عزوجل ، فإنَّ الخطأ والغفلة ، والسهو والنسيان مساوقان
للإنسان.
وممّا يدلّ على
ذلك أنَّ جملة من الكفرة قد أسلموا لمجرّد ما رأوا أخلاقه وسيرَهُ ، وأنَّ جُملةً
من أعدائهِ ومقابليه كانوا في نبوّته مصدّقيه ، وأنَّهم إنّما لم يتّبعوه بمحض
العصبية والحمية الجاهلية ، كما روي أنَّ أبا جهل لعنه الله سُئِل عنه صلىاللهعليهوآله فقال : إنَّه نبيٌّ حقّا ، ولكن متى تكون بنو مخزوم
تبعاً لبني هاشم؟ ولهذا قال تعالى ( وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ) .
وبالجملة ،
فإنَّ تلك العلامات الظاهرة والمعجزات الباهرة تدلّ بأوضح دلالة وتفصح بأوضح مقالة
أنَّ نبيّنا صلىاللهعليهوآله (
نبيٌّ ) لا نبيَّ بعده ، كما لم يُدْرك مَنْ قبلَهُ من الأنبياء
مَجْدَهُ.
تعريف النبوّة
وهو مشتق إمّا
من ( النبإ ) بالهمز بمعنى الخبر ؛ لأنَّ النبيّ هو المخبر عن الله تعالى بغير
واسطة أحدٍ من البشر ، أو من ( النبوة ) بمعنى الارتفاع ؛ لارتفاع قدره على جميع
مَنْ سواه. وإمَّا من ( النبيّ ) وهو الطريق الواضح ؛ لأنّ النبيّ هو طريق الخلق
إلى خالقهم ، وموصلهم إلى مراد بارئهم.
وقد تُطلق
النبوّة في بعض الاصطلاحات على قبول النفس القدسية حقائق المعقولات والمعلومات من
جوهر العقل الأوّل ، كما أطلقوا الرسالة على تبليغ تلك المعقولات والمعلومات إلى
المستعدّين لتلك المقبولات.
__________________
وقد تُطلق
أيضاً على الإخبار عن الحقائق الإلهية والمعارف الربانية. ومُرادهم الإخبار عن ذات
الحقّ وأسمائه وصفاته الكماليّة ، ونعوته الجلاليّة ، وأفعاله اللَّاهوتيّة ،
وأحكامه العدليّة. وخصّوا الإخبار عن معرفة الذات والصفات والأسماء والأفعال باسم
نبوّة التعريف ، كما خصّوا ذلك مع الإخبار عن الأحكام والتأديبِ بحميد الأخلاق
والتعليمِ للسياسات باسم نبوّة التشريع والرسالة ، وكما يدلّ ما قدّمناه على أنَّه
صلىاللهعليهوآله نبيٌّ كذلك يدلّ على أنَّه أيضاً رسولٌ إلى جميع خلقه.
(
أرسله ) الله تعالى
بالهُدى ودين الحقّ بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه ، وسراجاً مُنيراً ،
وختم بشريعته السمحة الحنيفيّة السهلة شرائع مَنْ كان قبله.
الفرق بين الرسول والنبيّ
والفرق بين
النبيّ والرسول بعد اجتماعهما واشتراكهما في الإخبار بلا واسطة اختصاص الرسول
بشريعة دون النبيّ ، فكلّ رسول نبيّ ولا عكس ، كذا قيل .
ولا يخلو من
بحث ؛ لأنّ تعريف النبيّ بالإنسان المُخبِر عن الله بغير واسطة بشرٍ منقوضٌ عكساً
بالأنبياء الموجودين في زمن أصحاب الشرائع الذين يأخذون أحكامهم من صاحب الشريعة ،
كلوط عليهالسلام بالنسبة إلى إبراهيم عليهالسلام.
اللهمّ إلّا
أنْ يلتزم عدم صدق النبوّة حقيقةً عليهم ، ولا يخفى ما فيه.
وربَّما فُرِّق
بين النبيّ والرسول بأنَّ النبيَّ غير مأمور بتبليغ وحيه ، والرسول عكسه. وبأنّه
مأمور بالتبليغ ولكن ليس له كتاب أو نسخ لبعض شرائع من قبله ، والرسول عكسه.
وربّما قيل :
هما مترادفان. والجميع كما ترى ، وكون بعض الأنبياء منبَّأً في نفسه فقط فردٌ نادر
بالنسبة إلى غيره ، فلا ينبغي حمل جميع إطلاقات النبيّ عليه.
والأَوْلَى هو
الرجوع في ذلك إلى ما ورد في الأخبار عن الأئمّة الأطهار ، ففي
__________________
( الكافي ) عن زرارة ، عن الباقر عليهالسلام ، قال : « النبيُّ
الذي يرى في منامه ويسمعُ الصوتَ ولا يعاينُ المَلَك ، والرسولُ الذي يسمعُ الصوتَ
ويرى في المنام ويعاينُ المَلَك ».
وعن الحسن بن [
العباس ] المعروفي ، عن الرضا عليهالسلام : « إنَّ
الرسولَ الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي ، وربّما رأى
في منامه نحو رُؤيا إبراهيم عليهالسلام ، والنبيُّ ربّما سمع الكلام وربّما رأى
الشخص ولم يسمع » .
وعن الأحول ،
عن الباقر عليهالسلام : « الرسولُ
الذي يأتيه جبرئيل قُبُلاً فيراه ويكلّمه ، فهذا الرسول ، وأمَّا النبيّ فهو الذي
يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليهالسلام ،
ونحو ما كان رأى رسول الله صلىاللهعليهوآله من
أسباب النبوّة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل عليهالسلام من
عند الله بالرسالة. وكان محمَّد صلىاللهعليهوآله حين
جُمع له النبوّة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلّمه بها
قُبُلاً. ومن الأنبياء مَنْ جُمع له النبوّة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه
ويحدّثه ، من غير أنْ يكون يرى في اليقظة » .
فقد دلّت هذه
الأخبار وما بمعناها من الآثار بعد ضمّ بعضها إلى بعض على أنّ الفرق بين الرسول
والنبيّ هو معاينة الملك في اليقظة وعدمها ، فمَنْ عاينه فهو رسول ومَنْ لا فلا.
ثمّ اعلم أنّه
لا منافاة بين ما في خبر زرارة من أنَّ النبيَّ يرى الملك في منامه ويسمع الصوت
ولا يعاين الملك ، وبين ما في خبر المعروفي من أنَّ النبيَّ ربّما سمع الكلام
وربّما رأى الشخص ولم يسمع ؛ لأنّ هذا الاختلاف بالنظر إلى اختلاف طبقات الأنبياء
ومراتبهم ، فقد يجتمع لأحدهم جميع مراتب النبوّة ما سوى تحديث الملك في اليقظة ،
وقد يجتمع لأحدهم مرتبتان أو أكثر أو أقلّ. ففي ( الكافي ) في باب طبقات الأنبياء
والمرسلين والأئمّة عليهمالسلام عن هشام بن سالم ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام
__________________
« الأنبياءُ والمرسلون
على أربع طبقات : فنبيٌ منبَّأٌ في نفسه لا يعدو غيرها ، ونبيٌّ يرى في النوم ويسمع
الصوت ولا يعاينه في اليقظة ، ولم يُبعث إلى أحدٍ وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم
على لوط عليهماالسلام ،
ونبيّ يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك ، وقد أُرسل إلى طائفةٍ قلّوا أو
كثروا ، كيونس ، قال الله ليونس ( وَأَرْسَلْناهُ إِلى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال ـ : يزيدون ثلاثين ألفاً وعليه إمامٌ. والذي يرى في
منامه ويسمع الصوت ويعاين في
اليقظة وهو إمام مثل أولي العزم » .. إلى آخره.
معنى الروح
والمراد بالروح
في قوله عليهالسلام في خبر الأحول : « ومن
الأنبياء من جُمع له النبوّة ويرى في منامه ويأتيه الروح .. » إلى آخره ، هو الروح
الأمين وهو جبرئيل عليهالسلام ؛ لأنَّه هو الذي ينزل بالوحي على جميع الأنبياء عليهمالسلام. ولهذا قال علي بن الحسين عليهالسلام في دعاء الصلاة على حملة العرش والملائكة المقرّبين : « وجبرئيلُ
الأمينُ على وَحْيِكَ ، المُطاعُ في أهلِ سماواتِكَ المَكينُ لَدَيْك ، المقرَّبُ
عِندَكَ » ، إشارة إلى قوله تعالى ( إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) ؛ لتفسيره به عليهالسلام.
ويُحتمل والله
العالم أنْ يُراد به الروح القدس ؛ لأنَّه الذي يسدِّدُ الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام ، وهو غير بعيد. وليس المراد بهذا الروح الروح من أمر
الله ؛ لورود الصحاح الصراح باختصاصه بنبيّنا وأوصيائه صلوات الله عليهم ، وهو
أعظم من جبرئيل وميكائيل ، وهو الروح الذي أشار إليه السجّاد عليهالسلام بقوله : « والروحُ
الذي هو من أمرِكَ » .
وفي ( الكافي )
عن أبي بصير ليث المرادي ، قال : سمعتُ أبا عبد الله عليهالسلام يقول
__________________
( يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) ، قال : « خَلْقٌ
أعظمُ مِنْ جبرئيل وميكائيل ، لم يكن مع أحد ممَّنْ مضى غير محمَّد صلىاللهعليهوآله وهو
مع الأئمّة يسدّدهم » ومثله صحيحاه
الآخران ، وما رواه [ ... ].
وفي المقام
أبحاث نفيسة ذِكرها يفضي إلى الإطناب والخروج عن موضوع الكتاب.
وكما أنّ الله
تعالى أرسله وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين فكذلك شرّفه ( على )
جميع ( العالَمين ) وهو جمع ( عَالَم ) كخَاتَم وقَالَب وطَابَع ، وجمعه لاستغراق العوالم ،
والألف واللام لاستغراق أفرادها ، كما يدلّ عليه قول أمير المؤمنين عليهالسلام حين سُئل عن تفسير ( رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، فقال : « هم الجماعات من كلّ مخلوق ؛ من الجمادات
والحيوانات » .
واختلف في
تعيين معنى ( العَالَم ) ، ففي ( القاموس ) : إنّه ( الخَلقُ كلُّه أو ما حواه
بطنُ الفَلَكِ ) . انتهى.
وقيل
: إنّه اسم لما
يُعلم به كالخاتم لما يُختم به ، فغلِّب فيما يعلم به الصانع ، وهو ما سوى الله
تعالى من الجواهر والأعراض. وإنّما لم يجمع بالألف والتاء تغليباً للعقلاء ، وعلى
هذا فيصير مفرده أعمّ من جمعه ؛ لأنّ مفرده ما سوى الله تعالى وجمعه مخصوص
بالعقلاء.
ولا يجمع هذا
الجمعَ لفظٌ على هذا الوزن غيره وغير ياسَمٍ ، كما قاله في ( القاموس ) .
__________________
وقيل
: ( اسم لذوي العِلْم من الملائكة والثقلين ) ، أي الجن
والإنس.
وقيل
: للثقلين خاصّة
.
وقيل
: المراد به كلّ
ذي روح دبَّ أو درج .
وقيل
: المراد به
الناس خاصّة . وإنّما جُمع باعتبار أنَّ كلّ واحدٍ منهم عَالَم أصغرُ
لاشتماله على ما في العالم الأكبر ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام :
وتزعَمُ
أنَّكَ جرمٌ صغيرٌ
|
|
وفيك انطوى
العالَمُ الأكبرُ
|
وقال الصادق عليهالسلام : « الصورةُ
الإنسانيةُ [ هي ] أكبرُ
حججِ اللهِ على خلقِهِ » . والأوْلى أن
يراد به الصنف من الموجودات كما يدلّ عليه الحديث السابق ، وقوله عليهالسلام : « خلق
الله ، ألف ألفِ عالمٍ وألفَ ألفِ آدم » . وإنّ تلك الإطلاقات كلّها صادقةٌ عليه بحسب اختلاف
الاعتبارات.
تفضيل النبيّ وأهل بيته عليهمالسلام
وبالجملة ،
فإنَّ الله تعالى قد اختار نبيّنا صلىاللهعليهوآله و (
اصطفاه ) ، أي جعله صفواً خالصاً من جميع الكدورات ( وفضَّله ) على جميع أهل الأرضين والسماوات ، والأدلّة على هذين المطلبين لا تخفى على
ذي التفات ، بل هما غنيّان عن الإثبات ، ولكن لا بأس بذكر بعض الأخبار تيمّناً
وتبرّكاً بكلمات الأئمّة الهُداة.
فقد روى الصدوق
رحمهالله بأسانيده عن عبد السلام بن صالح الهروي ، عن علي بن
موسى الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ، قال : « قال رسول
الله صلىاللهعليهوآله :
ما خلق الله خلقاً أفضل منّي ولا أكرم عليه منّي. قال علي عليهالسلام :
فقلتُ : يا رسول الله أفأنت أفضل أو جبرئيل؟ فقال صلىاللهعليهوآله :
يا علي ، إنَّ الله تبارك وتعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين ،
__________________
وفضّلني
على جميع النبيّين والمرسلين ، والفضلُ بعدي لك يا علي وللأئمّة من بعدك ، وإنّ
الملائكة لخدّامُنا وخدّام محبّينا.
يا
علي ، الذين ( يَحْمِلُونَ
الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) و ( يَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا ) بولايتنا.
يا
علي ، لولا نحن ما خلق الله آدمَ ولا حوّاء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا
الأرض ، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربّنا وتسبيحه
وتهليله وتقديسه وتمجيده؟ لأنّ أوّل ما خلق الله عزوجل خلق
أرواحنا ، فأنطقنا بتوحيده وتحميده ، ثمّ خلق الملائكة فلمّا شاهدوا أرواحنا نوراً
واحداً استعظموا أمرنا فسبّحنا ؛ لتعلَمَ الملائكة أنّا خلقٌ مخلوقون وأنَّه
منزَّهٌ عن صفاتنا ، فسبّحت الملائكة بتسبيحنا ونزَّهته عن صفاتنا. فلمّا شاهدوا
عظم شأننا هلّلنا ؛ لتعلم الملائكة أن لا إله إلّا الله وأنّا عبيدٌ ولسنا بآلهة
يجب أنْ نعبد معه أو دونه ، فقالوا : لا إله إلّا الله. فلمّا شاهدوا كبر محلِّنا
كبَّرنا ؛ لتعلم الملائكة أنّ الله أكبر من أنْ ينال عظيمُ المحلِّ إلّا به. فلمّا
شاهدوا ما جعله لنا من العزّة والقوّة قلنا : لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ
العظيم ؛ لتعلم الملائكة أنْ لا حول ولا قوّة إلَّا بالله. فلمّا شاهدوا ما أنعم
الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة قلنا : الحمد لله ؛ لتعلم الملائكة ما
يحقّ لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه ، فقالت الملائكة : الحمد لله. فبنا
اهتدوا إلى معرفة توحيد الله وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده.
ثمّ
إنَّ الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً
لنا وإكراماً ، وكان سجودهم لله عزوجل عبوديّة
ولآدم عليهالسلام إكراماً
وطاعةً ؛ لكوننا في صلبه ، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلّهم
أجمعون ؟ ».
وبهذا المضمون
كثير من الأخبار لا تخفى على مَنْ جاس خلال الديار.
وقال أمير
المؤمنين عليهالسلام في خطبة يوم الجمعة والغدير في ذكر بعض أوصاف النبيّ
الكبير مشيراً إلى مقام الاصطفاء والتفضيل والاختيار والتبجيل : « وأشهد
أنَّ
__________________
محمَّداً
صلىاللهعليهوآله عبده
ورسوله استخلصه في القدم على سائر الأُمم على علم منه ، انفرد عن التشاكل والتماثل
من أبناء الجنس ، وانتجبه آمراً وناهياً عنه ، أقامه في سائر عالمه في الأداء عنه
مقامه ؛ إذ كان لا تدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار ، ولا تمثِّله غوامض
الظنون والأسرار ، لا إله إلّا هو الملك الجبّار. قرن الاعتراف بنبوّته بالاعتراف
بلاهوتيّته واختصّه من تكرمته بما لم يَلحقه أحد من بريّته ، فهو أهل ذلك بخاصّته
وخلّته ، إذ لا يختصّ مَنْ يشوبه التغيير ، ولا يلحقه التظنين » .. إلى آخره.
وهذا من فضائله
صلىاللهعليهوآله قليل من كثير ، وهو قطرة من غدير ، كما لا يخفى على
المتتبّع الخبير.
الصلاة على النبيّ وآله
ولمّا كان
استفاضة القابل من الفاعل متوقّفة على مناسبة بينهما ، فكلَّما كانت المناسبة أتمّ
كانت الاستفاضة أتمّ والاستفادة أعمّ ، وكانت النفوس البشرية إنّما تستفيض من بحر
الذات الأحديّة لافتقارها في كلّ كلّية وجزئيّة ، وكانت محجوبة بحجب العلائق
البدنية ، ومحجوزة بحجز العوائق البشرية ، ومتلوّثة بالكثافات الحيوانيّة. والفاعل
عزّ شأنه في غاية التقدّس والتفرّد ، ونهاية التنزّه والتجرّد ، فلا بدّ للمستفيض
والمستفيد من ذلك البحر الذي يفيض ولا يغيض من واسطة في البين تجمع بين الجهتين ،
فبجهة التجرّد العُليا يستفيض من الحقّ ، وبجهة التعلّق تقبل منه الخلق ، وليس ذلك
إلّا أصحاب الوحي ، وأعظمهم وأرفعهم نبيُّنا الكريم الموصوف في الذكر الحكيم بـ ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ؛ ولهذا قال بحر العلم الدافق ، جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام
: « مَنْ كانت له إلى الله
حاجة فليبدأ بالصلاة على محمّدٍ وآل محمّدٍ ، ثمّ يسأل حاجته ، ثمّ يختم بالصلاة
على محمّد وآل محمّد ، فإنَّ الله عزوجل أكرم
من أنْ يقبل
__________________
الطرفين
ويدع الوسط ، إذ كانت الصلاة على محمّد وآلهِ لا تحجب عنه » . انتهى.
والسّر فيه
أنهم صلوات الله عليهم هم القابلون للفيوض الربّانيّة بالذات ، وغيرهم إنّما هو
بواسطتهم ، فلو أُفيض كرمه على غيرهم قبلهم لكان مثل أنْ يصنع سلطان عظيم الشأن
ضيافةً عاليةً لرجل من سائر نوع الإنسان ، بخلاف ما لو قصد بها أوَّلاً وبالذات
أحد المقرّبين الأعيان ، فإنّه لا ينافي ذلك إذنه في الأكل لجميع الرعيّة في جميع
البلدان ، وأنّهم عليهمالسلام أيضاً هم المقرّبون عند ذلك السلطان العظيم ، والمقبول
شفاعتهم في كلّ دقيق وجسيم ، فلا بدَّ لمَنْ أراد قضاء حاجته ورام إنجاح طلبته من
التقرّب إلى مقرِّبي حضرته بأنواع الهدايا التي تليق بخدمته ، وليس ذلك إلّا
الصلاة على نبيّنا وذريَّته. فلاحظ المصنّف رحمهالله ذلك كلّه كما لاحظه سائر المصنِّفين بعده وقبله ، حيث
يتوسّلون في فواتح تصانيفهم وخواتمها بالصلاة على محمّد أفضل الأنبياء وخاتمها ،
وآلِهِ ورثةِ فضائل الأنبياء ومكارمها ، فقال بعد الثناء عليه :
(
صلّى الله عليه ) أي : ترحّم عليه ؛ لأنّ الصلاة منه تعالى الرحمة ، كما
رواه الصدوق رحمهالله في ( ثواب الأعمال ) عن الكاظم عليهالسلام أنَّه سُئل : ما معنى صلاة الله وصلاة الملائكة وصلاة
المؤمنين؟ فقال عليهالسلام : « صلاة
الله رحمة من الله ، وصلاة الملائكة تزكية منهم [ له ]
، وصلاة المؤمنين دعاء منهم له » .
وفي ( معاني
الأخبار ) عن أبي حمزة ، قال : سألتُ أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عزوجل ( إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) فقال : « الصلاة من
الله رحمة ، ومن الملائكة تزكية ، ومن المؤمنين دعاء
» .
ولا ينافيه عطف
الرحمة عليها في قوله تعالى ( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) حيث إنَّه مقتضٍ للمغايرة ؛ لعدم تعيُّن العطف هنا ، بل
يجوز أنْ يكون
__________________
تفسيرَها ، وهو شائع ذائع في القرآن وفي كثير من فصيح كلام أهل اللسان.
وكما تكون
الصلاة لُغةً بمعنى الرحمة كذلك تكون بمعنى الاستغفار ، والتزكية ، والدعاء ، وحسن
الثناء من الله عزوجل على رسوله ، وبمعنى المتابعة والتنزيه.
والظاهر أنَّ
التزكية والتنزيه والاستغفار بمعنى واحد ، ولعلَّه مرادُ مَن فسَّر صلاة الملائكة
بالاستغفار ، مقتصراً عليه مع تفسيرها في الخبرين بالتزكية ؛ لاستلزام الاستغفار
التزكية في الذنوب والتنزيه من العيوب. بل قد يجعل الاستغفارُ نوعاً من الدُّعاء
وحُسْنُ الثناء من الله عزوجل قسماً من الرحمة ، كما يجوز جعل التعظيم داخلاً في
التزكية والتنزيه ؛ لاستلزامه إيّاهما ، فينحصر معناها في الدعاء والرحمة
والاستغفار والمتابعة ؛ ولهذا كان المتداول بين أرباب التصنيف الاقتصار عليها وعدم
إضافة باقي المعاني إليها.
نعم ، يبقى
الإشكال في أنَّ استعمالها في هذه المعاني من باب الحقيقة والمجاز ، أو الاشتراك
اللفظي ، أو المعنوي؟ فقال الشارح الشهيد رحمهالله في شرح الكتاب و ( روض الجنان ) ناقلاً له فيه عن بعضهم
أيضاً : إنَّها حقيقةٌ في الدعاء خاصّة من الله وغيره ، لكنّها منه تعالى مجاز في
الرحمة ، محتجّاً بخيْريّة المجاز من الاشتراك والآية السابقة.
وهو
مردود : أوّلاً : بوجود أمارة الحقيقة فيها وهو التبادر ، والأصل فيه أنْ يكون وضعيّاً لا
إطلاقياً.
وثانياً
: بتصريح الأكثر
على الاشتراك ، ولا أقلّ من إفادته الظنّ ، وخيْريَّة المجاز إنّما تجدي مع الشكّ.
وأمّا الآية فقد مرّ الجواب عنها ، مع أنّها مشتركة الإلزام لا
لاعترافه بأنّها منه تعالى بمعنى الرحمة ، وإنّما بمنع كونها حقيقة ، فلهذا أجاب
عن الإلزام بمنع اختصاص العطف بلزوم المغايرة ، وجعله من عطف الشيء على مرادفه ،
مستشهداً له ببعض الآيات والأخبار والأشعار. ولهذا كلّه جنح الأكثر إلى
__________________
الاشتراك اللفظي بين الثلاثة الأُوَل ، محتجّين بتدوينها في الكتب
اللُّغَوية بضميمة أنّهم لا يذكرون فيها إلّا المعاني الحقيقية وهو مردود بأنّهم
كثيراً ما يذكرون المعاني المجازية ؛ لأنّ الغرض من تدوين تلك الكتب بيان ما
استعمل فيه اللفظ من المعاني الحقيقيّة والمجازيّة.
وذهب جمع من
محقّقي المتأخّرين إلى أنّها حقيقة في القدر المشترك بين الثلاثة الأُوَل وهو
العطف والرأفة. فالعطف بالنسبة إلى الله الرحمة ، وبالنسبة إلى الملائكة الاستغفار
والتزكية ، وبالنسبة إلى الناس الدعاء ؛ لاستلزام قول الأكثر الاشتراك الذي الأصل
عدمه والمجاز خير منه ، ولأنَّه لم يعهد في العربية فعل يختلف معناه باختلاف
المسند إليه إسناداً حقيقيّا ، ولأنّ فعل الرحمة متعدٍّ ، وفعل الصلاة قاصر ولا
يُفسَّر بالمتعدّي القاصر ، ولأنّ حقّ المترادفين صحَّة حلول كلٍّ منهما محلّ
الآخر ، مع أنّه لو قيل مكان ( صلّى عليه ) : ( دعا عليه ) انعكس المعنى.
والحقّ أنَّ
أكثر هذه الوجوه ، أو كلَّها لا يخلو من نظر ؛ لإمكان المناقشة في الأوّل بما مرّ.
وفي الثاني
بمنع كون الإسناد هنا حقيقيّا بالنسبة إلى الله والملائكة. ولا ريب في اختلاف
المعنى باختلاف المسند إليه في الإسناد المجازي كما يعترف به الخصم ، كما في قوله
تعالى ( أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ
لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ ) ؛ لاختلاف معنى السجود باختلاف الساجدين ، ولا فرق بين
الصلاة والسجود.
وفي الثالث
بالنقض بـ ( مررتُ بزيدٍ ) فإنّه قاصر ، مع تفسيرهم له بـ ( جاوزت ) وهو متعدٍّ.
وفي الرابع
بالتزام صحّة حلول ( دعا ) مكان ( صلّى ) فإنَّ معنى ( صلى عليه ) : ( صلّى له ) ،
ولا ريب في صحّة ( دعا له ) ، وإنّما عُدّي ( صلّى ) بـ ( على ) ؛ لإشرابه معنى
__________________
( عطف ) ، أو لأنّ إشعار ( على ) بالمضرّة مخصوص في العرف بتعلقه بـ ( دعا
) دون ( صلّى ) ، فلهذا يقال : ( صلّى عليه ) ، دون ( دعا عليه ). وكون لفظ بمعنى
لفظ آخر لا يستلزم أنْ يتعلّق به كلّما يتعلَّق بالآخر ، أو لأنّ ( على ) بمعنى
اللام ، فتأمّل جيّداً.
وربّما
يُستدلُّ على الاشتراك اللفظي بالخبرين السابقين لظهورهما في أنّهما حقيقة في تلك
المعاني.
وفيه
: أنَّ
الاستعمال أعمّ من الحقيقية ، بل يمكن انطباقهما على الاشتراك المعنوي بجعل تلك
المعاني أفراداً لكلِّي العطف الشامل لتلك المعاني ، لا من حيث الانفراد
والخصوصيّة ، فتأمَّل جيداً.
وأمّا المتابعة
وحسن الثناء فلم أقف على مصرِّح بجعلها حقيقة فيهما ، بل صرَّح بعض بمجازيّة
الثاني منهما.
ولمّا كانت
الملاحظة المذكورة في الصلاة على النبيّ صلىاللهعليهوآله جارية في الصلاة على الآل وكانوا واسطة بيننا وبينه ؛
لأنّ ملاءمتهم لجنابة أكثر ، أتبَعَ الصلاةَ على النبيّ صلىاللهعليهوآله بالصلاة ( على آله )
ساداتِ البشر ، ولِمَا
ورد في الأخبار الخاصّة والعامّة من النهي عن الصلاة البتراء وهي إفراده صلىاللهعليهوآله بالصلاة ، ففي ( الكافي ) عن ابن القدّاح ، عن أبي عبد
الله عليهالسلام أنّه قال : « سمع أبي
رجلاً متعلّقاً بالبيت وهو يقول : اللهم صلِّ على محمّد ، فقال له أبي : يا عبد
الله ، لا تبترها ، لا تظلمنا حقّنا ، قل : اللهم صلِّ على محمّد وأهل بيته » .
وعن الصدوق في (
ثواب الأعمال ) و ( الأمالي ) عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنَّه قال : « إنَّ الرجل
من أُمّتي إذا صلّى عليَّ وأتْبَع بالصلاة علي أهل بيتي فُتحت له أبواب السماء ،
وصلّت عليه الملائكة سبعين صلاة ، ثمّ تتحاتُّ عنه الذنوب كما يتحاتُّ الورق من
الشجر ، ويقول الله تبارك وتعالى : لبّيك يا عبدي وسعديك. ويقول لملائكته : يا
ملائكتي ، أنتم تصلّون عليه سبعين صلاة وأنا أُصلّي عليه سبعمائة صلاة. وإذا صلّى
عليَّ ولم يُتبع بالصلاة عَلَيَّ أهل بيتي كان بينها وبين السماء سبعون حجاباً ،
ويقول الله : لا لبّيك ولا سعديك. يا ملائكتي ، لا تصعدوا دعاءه إلّا أنْ يُلحق
__________________
بنبيّي
عترته. فلا يزال محجوباً حتى يُلحق بي أهل بيتي » .
وقال المحدّث
السري السيّد نعمة الله الجزائري : ( قال صلىاللهعليهوآله : « لا تصلّوا
عليَّ الصلاة البتراء » ، فقالوا : يا رسول الله وما الصلاة البتراء؟ قال : « أنْ
تقولوا : اللهم صلِّ على محمّد ، بل قولوا : اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد ». وروى أيضاً في صحيح أخبارنا أنَّه قال : « مَنْ صلّى عليَّ ولم يصلِّ على آلي لم يجد ريح
الجنّة ، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام » ) . انتهى.
إلى غير ذلك من
الأخبار المذكورة في ( الكافي ) وغيره من كتب علمائنا الأخيار .
وفي ( كشف
الغمّة ) للشعراني من علماء العامّة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنَّه كان يقول : « أنهاكم
عن الصلاة البتراء » فقيل له : ما الصلاة البتراء يا رسول الله؟ فقال : « أنْ
تقولوا : اللهمّ صلِّ على محمّد وتمسكوا » ، فقيل : ما نقول؟ فقال : « قولوا
: اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد » ومثله كثير ، ولا ينبئك مثل خبير.
الصلاة على النبيّ وآله
واجبة ومستحبة
وكيف كان ، فلا
خلاف ولا إشكال في أنَّ الصلاة على النبيِّ والآل من أفضل الأعمال وأرجح الأقوال.
إنّما الكلام في الوجوب العيني في غير الصلاة كلّما ذكروا عليهمالسلام أو ذكر النبيّ صلىاللهعليهوآله خاصّة ، أو في كلّ مجلس مرّة ، أو في العمر مرّة ، أو
أنَّه في الجميع على وجه الاستحباب دون الإيجاب ، وفي أنَّ ثواب الصلاة راجع إليهم
بمعنى تأثيره في زيادة مرتبتهم أو راجع إلى المصلِّي عليهم.
أمّا
الأول ، فالمعروف بين
الأصحاب اختصاص الوجوب بتشهد الصلاة.
__________________
وأمّا
في غيره فليس إلّا
الاستحباب. ونسب الى جمع من أصحابنا الوجوب في جميع الأحوال عند ذكر النبيّ والآل.
قلت
: ومنهم السيد
نعمة الله الجزائري ، والمحدِّث الحر العاملي ، والمقداد
السيوري على ما نقل عن كنزه ، والمحدِّث البحراني على ما نقل عنه في حدائقه ناقلاً له عن
الشيخ البهائي ، والشيخ عبد الله بن صالح البحراني ، والكاشاني والمازندراني ، بل نقل عن
الصدوق أيضاً ، إلّا إنَّ ما في ( المقنع ) لا يدلّ عليه إنْ لم يدلّ
على خلافه ، فإنَّه قال فيه بعد ذكر جملة من المستحبات : ( وعليك بالصلاة على رسول
الله صلىاللهعليهوآله ) ، ثمّ نقل بعض الأخبار الآمرة بالصلاة عليه.
وأمّا في (
الهداية ) فلم يتعرّض لحكمها أصلاً في الصلاة وغيرها ، بل قيل : إنَّه في ( الفقيه
) أيضاً كذلك.
وذهب إليه من
العامة الطحاوي والزمخشري .
وعن المقدّس
الأردبيلي قدسسره القول بالوجوب في كلّ مجلس مرّة ، إنْ صلّى في آخره ،
فلو صلّى ثمّ ذكر وجبت أيضاً نظير القول بتعدّد الكفّارة بتعدّد الموجب مع تخلّل
التكفير .
واحتجّ
للأول بالأصل وإجماع ( الناصريات ) ، بل و (
المنتهى ) ، و ( التذكرة ) ، و ( الخلاف ) ، و ( المعتبر ) كما قيل على
عدم وجوبها في غير الصلاة ، وبالسيرة
__________________
القطعية ، وخلو الأدعية الموظفة ، والخطب المعروفة ، والقصص المنقولة عن
المعصومين عليهمالسلام غالباً عنها ، وعدم تعليمها للمؤذّنين ، ولأنَّه لو كان
كذلك لاشتهر حتى صار أشدّ ضرورةً من وجوب الصلوات الخمس ، إلّا إنَّ الإنصاف أنّ
الجميع لا يخلو من نظر واعتساف :
أمّا الأصل
فلإمكان القول من جهة الخصم بانقطاعه بالأخبار الكثيرة المستدلِّ بها على القول
بالوجوب عند الذكر كما سيأتي.
وأمّا إجماعات
وجوبها في التشهّدين فلا تنفي وجوبها في غيرهما ؛ لعدم تعرّضها لغير معاقدها.
وأمّا السيرة ،
فبعدم تحقّقها على وجه يكشف عن حجّيتها إن لم تُدَّعَ السيرة على خلافه كما يكشف
عنه عمل الناس في عصرنا ، مع أنَّ تلك السيرة المدّعاة تَرْكِيّة ، وغاية ما ثبت
اعتبار السيرة الفعليّة.
وأمّا خلوّ
الأدعية والخطب والقصص ، فيمنعه كما يشهد به التتبُّع أوّلاً ، وعدم دلالته على
المدّعى لو سلّم لأنّها لم تسق لبيان وجوبها ثانياً.
وأمّا عدم
تعليم المؤذّنين ؛ فلعدم سَوْق أخباره لما سوى بيان فصول الأذان ، وما نحن فيه
خارج عنه كما لا يخفى على اولي الأذهان ، بل يمكن الاستدلال بالخلوّ المذكور وعدم
التعليم المزبور على خلاف المشهور ، بتقريب أنّ العلّة فيهما استغناء الحكم
المذكور عن البيان لكونه في غاية الاشتهار بين أهل الإيمان ، نظير ما وجّه
المستدلّ إهمال الصدوق لها في التشهُّدين من قوّة الظنّ بأنّ تركه لها في مثل (
الفقيه ) لمعروفيّة فعل الصلاة عقيب اسم الرسول صلىاللهعليهوآله ، على أنَّ عدم تعليم المؤذّنين ممنوع ؛ لما سيأتي من
الأمر بها في الأذان وغيره.
وأمّا
الاستدلال بأنَّه لو كان كذلك لاشتهر ؛ فلأنّ كثيراً من الواجبات لا يعلمها إلَّا
العلماء الثقات.
وحينئذ فينحصر
الاستدلال في الأصل إنْ لم يتم معارضته بالدليل ، وفي إجماع
( الناصريات ) كما يقضي به التأمّل في عبارته ، مع المناقشة في هذا
الإجماع أيضاً بوجوبها في خطبتي الجمعة كما هو قول الأكثر نقلاً وتحصيلاً كما قيل
، ومنهم أهل هذا الإجماع ، بل هو من معقد إجماع الخلاف والغنية والتذكرة وغيرها كما في
( جواهر الكلام ) ، بل فيها وفي ( الرياض ) نفي الخلاف عنه في الخطبة
الثانية ، فيكشف هذا عن فساد ذلك الإجماع وعدم حسمه لمادة
النزاع. والإجماع لا يقبل التخصيص ليخصّص بهذا المقام.
اللهمّ إلّا أن
يُتكلّف دخوله في الحكم المجمع عليه بدعوى دخول الخطبتين في الصلاة ؛ لقيامهما
مقام الركعتين في وجه ومقام الظهر في آخر ، ولا يخفى ما فيه وبُعده عن مذاق
الفقيه.
واحتجّ للثاني بأمرين :
الأوّل
: إطلاق قوله
تعالى ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ، وإطلاق الأخبار الواردة في تفسيرها بعد تقييدها بما
بعد الذكر فقط ؛ للإجماع على عدم وجوبها ابتداءً ، وإمكان جعل وجوبها في التشهّد
لأجل الذكر ، لا من حيث الخصوصية ، إذ لا يبعد جعل الشارع إيّاها سبباً لترتّب هذا
الحكم عليها. وحينئذ فتبقى الأحوال المتأخّرة من الذكر داخلةً تحت إطلاق الأمر
إلّا إذا ذكر في ضمن الصلاة عليه لاستلزامه الدور المستلزم للعسر والحرج
المنفيّين.
والثاني
: الأخبار
الخاصّة في المقام ، ففي ( الكافي ) بسندين عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « إذا ذُكِر
النبيّ صلىاللهعليهوآله فأكثروا
الصلاة عليه ، فإنَّ مَنْ صلّى على النبيّ صلىاللهعليهوآله صلاة
واحدة صلّى الله عليه ألف صلاة في ألف صفّ من الملائكة ، ولم يبقَ شيء ممّا خلقه
الله إلّا صلّى على العبد لصلاة الله عليه وصلاة ملائكته ، فَمَنْ لم يرغب في هذا
فهو جاهل مغرور ، قد برئ الله منه ورسوله
__________________
وأهل
بيته » .
والتقريب
فيه : أنَّ هذا
الوعيد الشديد والزجر والتهديد حتى استلزم تركها براءة الله ورسوله وأهل بيته لا
يكون إلّا على الواجب ، إذ لا عقاب على ترك المستحبّات.
وفيه أيضاً عنه
عليهالسلام في حديث قال فيه : « وقال
رسول الله صلىاللهعليهوآله :
مَنْ ذُكِرتُ عنده فلم يصلّ عليّ دخل النار
فأبعده الله. وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله :
ومَنْ ذُكِرْتُ عنده فنسي الصلاة عليّ خطئ به طريق الجنّة » .
وفيه أيضاً عنه
عليهالسلام عن رسول الله صلىاللهعليهوآله مثله بتغيير يسير لفظي ، كما أنَّ
بمضمونه أيضاً جملة من الأخبار.
كما أنَّ مثل
الخبر الثاني ما عن ( ثواب الأعمال ) عن الباقر عليهالسلام عن رسول الله صلىاللهعليهوآله في حديث قال فيه : « ومَنْ
ذُكِرْتُ عنده فلم يصلّ عليّ فلم يغفر الله له [ فأبعده ]
الله » .
والتقريب في
هذه الأخبار بعد حمل « نسي » بمعنى ( ترك ) : أنَّ
دخول النار والبعد من العزيز الغفّار و [ الأخطاء ] به طريق
الجنّات لا يكون إلّا على الواجبات.
وفي بعض
الأخبار : قيل : يا رسول الله أرأيت قوله تعالى ( إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ) ؟ فقال صلىاللهعليهوآله : « هذا من
العلم المكنون ، لولا أنَّكم سألتموني عنه ما أخبرتكم ، إنَّ الله وكّلَ باسمي
ملكين ، فلا اذكر عند عبد مسلم فيصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان عن الله تعالى :
ولك مثله ، وقال الله تعالى ( وَمَلائِكَتَهُ ) جواباً
لذينك الملكين : آمين ، ولا اذكر عند عبد مسلم فلا يصلّي عليّ إلّا قال ذانك
الملكان : لا غفر الله لك ، وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين : آمين » .
__________________
والتقريب فيه :
أنَّ توكيل الله تعالى ذينك الملكين في الدعاء على تاركها بعدم المغفرة التي
يتسبّب عنها العقاب ، وتأمينه تعالى وتأمين باقي الملائكة على ذلك الدعاء ينافي
الاستحباب.
وفي ( الوسائل
) عن الصدوق بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام في حديث قال فيه : « وصلّ
على النبيّ صلىاللهعليهوآله كلّما
ذكرته أو ذكره عندك ذاكر في أذان أو غيره » .
والتقريب فيه :
ظهور الأمر في الوجوب.
وفيه : عنه في (
العيون ) بإسناده عن الرضا عليهالسلام في كتابه إلى المأمون ، وفي ( الخصال ) عن الصادق عليهالسلام في حديث شرائع الدين ، قال : « والصلاة
على النبيّ صلىاللهعليهوآله واجبة
في كلّ موطن ، وعند العطاس ، والذبائح ، وغير ذلك » .
والتقريب
فيه : أنَّ الظاهر
من الوجوب المعنى المصطلح عليه ، ولمّا كان ظاهره الوجوب ابتداءً خرجنا عنه إلى
تقييده بحالة الذكر ، فيتمّ المطلوب.
والجواب : أمّا عن الإطلاقات
:
فأوّلاً
: أنّ الظاهر
منها أنّها مسوقة لبيان مطلق التشريع والإثبات من دون تعرّض لبيان الأمكنة
والأوقات بنفي ولا إثبات. وعلى تسليم الإطلاق فهي مقيَّدة بحال التشهّد في الصلاة
، كما يشعر به ما في ( الكافي ) عن الصادق عليهالسلام أنّه قال : « إذا صلّى
أحدكم ولم يذكر النبيّ وآله صلىاللهعليهوآله في
صلاته ، يسلك بصلاته غير سبيل الجنّة » .
وثانياً
: أنَّ غاية ما
تفيده الآية هو الاستحباب لعدم القرينة على الإيجاب ، وكونه الأصل
في صيغة الأمر لا يجدي في إثبات كونه هنا له بعد قيام القرينتين الصارفة
والمعيِّنة من سائر الأخبار وإجماع الأصحاب.
__________________
وثالثاً
: أنّا وإنْ
سلَّمنا الظهور في الوجوب إلّا إنَّ متعلّق الأمر فيها مجمل ، والقدر المتيقّن ما
قام النصّ والإجماع على وجوبه ، ويبقى الوجوب في الثاني مشكوكاً فيه فيُنفى بالأصل
السالم عمّا يصلح للمعارضة. وجعل الذكر قدراً متيقّناً ، وجعل وجوبها في التشهّد
للفرديّة لا الخصوصية ساقطٌ عن درجة الاعتبار بالكلّيّة ؛ لأنّ الظاهر من أخبار
الآل هو الوجوب من حيث الاستقلال ، كما لا يخفى على مَنْ أصلح الله له البال. على
أنّه وإنْ تمّ في الوجوب التشهّدي فلا يتمّ في الوجوب في خطبة الجمعة ؛ لعدم تقدّم
الذكر فيها إلّا أنْ نجعله متيقّناً آخر ، وهو خلاف ظاهره.
ورابعاً
: أنَّ جعل
الشارع إيّاها سبباً لترتّب الحكم عليها لا يستلزم الإيجاب ، بل يجمع مع
الاستحباب.
وأمّا عن الأخبار الخاصّة :
فأمّا
إجمالاً ، فلأنّ الحقّ
أنَّ صحيح النظر والاعتبار والمعرفة بلسان الأخبار والممارسة لكلام الأئمّة
الأطهار ، إنّما تقضي بظهورها في الاستحباب دون الإلزام والإيجاب ، كما يستفاد من
تسمية تاركها عند الذكر بخيلاً أو جافياً ، كقوله عليهالسلام في الخبر المنقول عن ( المعاني ) : « البخيل
حقّا مَنْ ذُكرت عنده فلم يصلّ عليّ » .
وفي المنقول عن
( الإرشاد ) : « والبخيل كلّ البخيل
مَنْ إذا ذكرتُ عنده لم يصلّ عليّ » .
وفي المنقول عن
( عدّة الداعي ) : « أجفى الناس رجل ذُكرت
بين يديه فلم يصلّ عليّ » .
وذلك لأنّ
البخل ضد الكرم وفاعل الواجب العيني لا يوصف به ؛ لأنّ موضوع الكرم فعل ما لا يلزمه
فعله ، فإنَّ مؤدّى الزكاة لا يوصف بالكرم من هذه الجهة ما لم ينضمّ إليه فعل ما
لم يجب عليه ، كما أنَّ [ تاركها ] لا يوصف بالبخل فقط بل
__________________
يسمّى عاصياً فاسقاً. فلو دلَّ هذا الخبر على وجوب الصلاة لدلَّ ما ورد في
تسمية تارك السلام بالبخيل ، بل حصر البخيل فيه على وجوب السلام ، ففي ( الكافي )
عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « إنَّ الله عزوجل قال
: البخيل مَنْ يبخل بالسلام » .
والعمل بأحدهما
دون الآخر مع أنّهما خطاب واحد تحكّم بارد. ومثله الكلام في لفظ الجفاء ، فإنَّ
تارك الواجب لا يسمّى جافياً بل فاسقاً عاصياً ، سواء جعلناه من الجفاء بمعنى
الثقل على القلوب والطباع ، أو منه بمعنى القطع : ضدّ الصلة.
وأمّا ما
اشتملت عليه من التهديد والوعيد بالنار وبراءة الله ورسوله وآله الأطهار صلوات
الله عليهم آناء الليل وأطراف النهار فهو لا يدلّ على الوجوب ؛ لورود مثل هذا
التهديد والوعيد ، بل أشدّ منهما على ترك بعض المستحبّات وفعل بعض المكروهات ؛
تنبيهاً على شدّة الكراهة ، وتأكُّدِ الاستحباب كما يشهد به تتبّعُ أخبار الأئمّة
الأطياب. أو لأنّهما ليسا مرتَّبين على مطلق الترك بل على الترك المسبَّب عن
السخريّة والاستهزاء واستعظام ذلك الأجر عليها ، والجزاء والاستخفاف بأوامر الله
ورسوله وآله الشرفاء ، فيستحقّ تاركها على هذا الوجه ما هو أشدُّ وأذلّ وأخزى.
وأمّا
تفصيلاً ، فعن الخبر
الأوّل :
أوّلاً
: بمخالفة ظاهره
لمراد المستدلِّ ؛ لأنّ متعلَّق الأمر فيه المرتَّب على الذكر إنّما هو الإكثار لا
إيجاد الطبيعة ؛ فإمّا أنْ يجعل الأمر للوجوب كما هو معنى الاستدلال فيستلزم وجوب
الإكثار ويفيد التعدّد والتكرار ، ولا أظنّ الخصم يلتزمه كما لا يخفى على مَنْ جاس
خلال الديار. وإمّا أنْ يجعله للاستحباب فيسقط الاستدلال من رأسٍ وينهدم من
الأساس.
وثانياً
: بأنّ ظاهر
قوله عليهالسلام فيه : « فمَنْ لم يرغب في هذا » .. إلى آخره ،
ليس أنّ ذلك الوعيد والعقاب مرتّبٌ على نفس ترك الصلاة ، بل على عدم الرغبة في ذلك
الثواب العظيم والأجر الجسيم العميم. وما يستلزم الوجوب هو الأوّل ، ولكن الخبر
عنه
__________________
بمعزل.
وعن الخبر
الثاني وما بمعناه :
أوّلاً
: بأنّهما ليسا
نصّاً في ترتُّب البعد من الملك الجبّار على نفس ترك الصلاة ، بل يُحمل ترتُّبه
عليه مع انضمام بعض موجبات دخول النار بقرينة العطف بالواو ، بل على تقدير العطف
بالفاء الظاهر في السببيّة كما في بعض النسخ لا مانع من قيام ذلك الاحتمال وبه
يسقط الاستدلال.
وثانياً
: أنَّ الظاهر
منهما بقرينة بعض الأخبار وروده مورد التعجّب ممَّنْ يجعل نفسه مستحقاً لدخول
النار ولا يتدارك ذنوبه بالصلاة على النبيّ وآله الأطهار ، وأنّ ذلك من سوء
التوفيق وإيكال الله إيّاه لنفسه ، حتى استوجب البعد من الله وعدم الهداية إلى
سواء الطريق ، ففي ( الوسائل ) عن ( المقنعة ) عن الباقر عليهالسلام في حديث فيه : « إنَّ رسول
الله صلىاللهعليهوآله قال
: قال لي جبرئيل عليهالسلام :
مَنْ ذُكرت عنده فلم يصلّ عليك فأبعده الله ، قلت : آمين ، فقال : ومَنْ أدرك شهر
رمضان فلم يُغفر له فأبعده الله ، قلت : آمين ، قال : ومَنْ أدرك أبويه أو أحدهما
فلم يُغفر له فأبعده الله ، فقلت : آمين » .
وهو ظاهر في
أنَّ معنى هذين الخبرين التعجّب ممَّنْ يهمل نفسه ولا يتدارك ذنوبه بهذه المكفّرات
للذنوب ، من الصلاة على النبيّ وآله ، والدعاء والاستغفار في شهر رمضان ، وبِرّ
الوالدين ، وأنّ التهاون بهذه الأُمور التي يُتداركُ بها العصيان ، يوجب البعد عن
حضرة الملك المنّان.
وعن أخبار [
الأخطاء ] بناسيها طريق الجنة :
أوّلاً
: باشتمالها على ترتُّب العقاب على النسيان ، وهو مخالفٌ
لما علم ضرورةً من رفع العقاب عليه ، وكونُهُ بمعنى الترك وإنْ ورد في القرآن ،
إلّا إنَّ كونه بمعنى ( ضد الحفظ ) أظهر ، واستعماله فيه أكثر وأشهر ، بل هو
المتبادر والمنساق عند الاستعمال
__________________
والإطلاق.
وثانياً
: أنّا لو
تنزّلنا ، وحملنا النسيان فيها على الترك ؛ تحاشياً عن الطرح وحرصاً على الجمع ،
إلّا إنّها بعيدة عن الدلالة على المراد غايةً ، وأجنبية عنه نهايةً ؛ لأنّ غايةَ
ما تدلّ عليه أنَّ الصلاة على محمّد وآله صلىاللهعليهوآله طريق من طرق الجنّة فمَنْ تركها فقد أخطأ طريقاً منها.
وهذا ممّا لا نزاع فيه ، ولا شكّ يعتريه.
وعن خبر توكيل
الملكين وتأمين الله والملائكة ، بعدم دلالته على الوجوب كما لا يخفى على أُولي
الألباب والقلوب ؛ لأنّ قصارى ما فيه الدعاء بعدم المغفرة ، المحتمل احتمالاً
راجحاً أو مساوياً ترتُّبه على الاستخفاف والاستهزاء واستكثار الثواب والجزاء ، لا
على مطلق الترك ، وإنّما ينفع الثاني دون الأوّل.
وعن قوله عليهالسلام في صحيح زرارة :« وصلِّ على
النبيّ صلىاللهعليهوآله كلَّما
ذكرته » .. إلى آخره ،
وقول الصادق والرضا عليهماالسلام : « والصلاة
على النبيّ صلىاللهعليهوآله واجبة
في كلّ موطن » .. إلى آخره ، بعدم دلالتهما على الوجوب :
أمّا
أوّلاً ؛ فلأنّ الأمر
وإنْ قيل بأنّ الأصل فيه الوجوب ، لكنّه مدفوع بالقرائن الصارفة عن إرادته هنا ،
مع استعماله في أخبار الأئمّة الأطياب في الندب والاستحباب على وجه يساوي الحقيقة
أو يرجح عليها كما قاله بعض الأصحاب ، ولأنّ الوجوب في كلام المتشرّعة وإنْ كان
ظاهراً في مقابل الاستحباب إلّا إنّ المراد بالوجوب هنا إنّما هو المعنى اللغوي
وهو مجرّد الثبوت ، لا المعنى الاصطلاحي. ومن تتبّع الأخبار ظهر له استعمال الوجوب
في المعنى الأوّل في لسان الأئمّة الأطهار ظهور الشمس في رابعة النهار.
وأمّا
ثانياً ؛ فلأنّ الظاهر
منهما ورودهما لرفع توهّم الحظر الظاهر في غير الوجوب بقرينة ما في ( الكافي ) عن
الفُضَيْل بن يَسَار ، قال : قلتُ لأبي جعفر عليهالسلام : إنَّ الناس
__________________
يكرهون الصّلاة على محمّد وآله صلىاللهعليهوآله في ثلاثة مواطن : عند العطسة وعند الذبيحة وعند الجماع
، فقال أبو جعفر عليهالسلام : « مالهم؟!
ويلهم نافقوا ، لعنهم الله » .
وهو من الظهور
في المراد بمكان لا ينكره إلّا عادمو الأذهان.
على أنَّ فهم
الاستحباب الصادر من قدماء الأصحاب الذين هم أعرف بعرف الأئمّة الأطياب من أقوى
القرائن في هذا الباب ، وحينئذ فلا وجه لجعل الوجوب في الخبر الأخير بالمعنى
المصطلح والتزام التقييد ، مع أنَّ التجوُّز في لفظ الوجوب أوْلى من مجاز التقييد
، ومن الله العصمة والتسديد.
__________________
كتاب الطهارة
الرسالة الخامسة
حكم الماء المتقاطر من السقف
حال نزول المطر
الرسالة
السادسة
مسألة
فيما لو ماتت الأُم وقد خرج نصف الولد
الرسالة
الخامسة
حكم
الماء المتقاطر من السقف
حال
نزول المطر
حكم الماء المتقاطر من السقف
حال نزول المطر
بسم
الله الرحمن الرحيم
قال سلّمه الله
تعالى ، وأصلحَ له الحالَ والبال ـ : ( ما يقول مولانا في المتقاطر من السقف حال نزول
المطر ، يُطهّر الأرض إذا كانت نجسة ، أم لا؟ ).
أقولُ مستمدّاً منه سبحانه التوفيق لارتقاء سلّم الوصول
لتحقيق الفروع والأُصول ـ : لا خلاف بين علمائنا الأشراف كما في ( الحدائق ) ، بل الظاهر
حصول الإجماع في أنّ ماء المطر في الجملة حال نزوله كالجاري وإنْ اختلفوا في إطلاق
كونه بحكمه جرى أو لم يجرِ ، كما نسبه في ( المعالم ) و ( البحار ) للأكثر. ونسبه
في الأوّلِ للفاضلين ، والشهيدين ، وغيرهم .
اشتراط الكريّة
واستظهر بعضٌ من اشتراط
العلّامة رحمهالله في الجاري الكريّة اشتراطها فيه بحكم المشابهة ، بل
صرّح بعضُ المحقّقين كما في ( الحدائق ) بأنّه الظاهر من كلام العلّامة.
__________________
إلا إنّ في كلا
الاستظهارين نظراً لا يخفى على ذي عين ؛ لظهور عدم اقتضاء التشبيه العموم كما هو
معلوم ، ولتصريح العلّامة رحمهالله بعدم الاشتراط ، كما حكي عنه في ( التذكرة ) و (
التحرير ) ، و ( النهاية ) .
ففي
محكي ( التذكرة ): ( لو انقطع
تقاطر المطر وفيه نجاسةٌ عينيّة اعتبرت الكريّة ، ولا تعتبر حال التقاطر. ولو
استحالت عينُها قبل انقطاعه ثمّ انقطع كان طاهراً وإنْ نقص عن كرٍّ ) . انتهى.
ألا تراه كيف
صرّح بعدم اشتراطها ، فالحكاية عنه لا وجه لها. اللهمَّ إلا أنْ يُريدَ القائلُ
إلزامه باشتراطها ، ولا يخفى عدمُ اتّجاه الإلزام على ذوي الأفهام.
اشتراط الجريان
وعن ظاهر الشيخ
في ( التهذيب ) ، و ( المبسوط ) ، وابن حمزة في ( الوسيلة ) ، وفي جامع نجيب الدين بن
سعيد : اشتراطُ الجريان من ميزابٍ ؛ لظاهر صحيح هشام بن الحكم أو حَسَنه ـ : في
ميزابين سالا ، أحدُهما بولٌ والآخر ماء ، فاختلطا فأصاب ثوب الرجل ، لم يضرّ ذلك .
ونحوه خبر
محمّد بن مروان .
وصحيح علي بن
جعفر : سأل أخاه عليهالسلام عن البيت يُبال على ظهره ، ويغتسل من الجنابة ، ثمّ
يصيبه المطر ، أيؤخذ من مائه فيتوضّأ به للصلاة؟ فقال : « إذا
جرى فلا بأس » .
وخبره أيضاً :
سأله عن الكَنِيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر ، فيكف فيصيب
__________________
الثياب ، أيصلّى فيها قبل أنْ تُغسل؟ قال : « إذا
جرى من ماءِ المطر فلا بأس » .
وخبره الآخر :
عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب الثوب ، أيصلّى فيه قبل أن يُغسل؟ قال عليهالسلام : « إذا جرى به
المطر فلا بأس » .
ولا دلالة في
الأوّلين عند الإنصاف على اعتبار الجريان من الميزاب ؛ لكونه واقعاً في كلام
السائل ، لا في كلام الامام عليهالسلام. ولعلّ تعبير الشيخ رحمهالله وأتباعه به للتمثيل ، لا التعيين. كما لا دلالة في
الجميع أيضاً على اشتراط مطلق الجريان.
أمّا صحيح ابن
الحكم ، وخبر ابن مروان ؛ فلأنّ قصاراهما مضافاً إلى كون السيلان من الميزاب من
كلام السائل نفي البأس عن ماء الميزابين المذكورين لو اتّفق ذلك ، وهو لا يستلزم
قصر الحكم عليه وانحصارُه فيه ، كما لا يخفى على نبيهٍ.
وأمّا صحيح علي
بن جعفر ؛ فبحمله على جعل الجريان من السماء علّةً مقتضية لتطهيره لما يقع عليه من
النجس أو المتنجّس ، تنزيلاً لنزولهِ وجريانه من السماء منزلة المادّة للنابع ، لا
أنّ الجريان شرطٌ في تطهيره.
وأمّا خبراه ؛
فلما مرّ ، أو بحمل الجريان فيهما على مثل جريان الماء في التطهير على الأعضاء أو
غيرها ، من انتقال الأجزاء من مكان إلى مكان وإنْ لم يسل من الميزاب ونحوه ،
وغيرها من وجوه الاحتمال ، فيبطل حينئذٍ الاستدلال. هذا في حال نزوله.
وأمّا
بعد انقطاعه فهو كالواقف اتّفاقاً كما في ( كشف اللثام ) ، وبلا خلافٍ
كما في ( المعالم ).
فما
في ( الحدائق ) من استظهاره نفي الخلاف في أنّ ما يبقى من المطر بعد
انقطاعه حكمه حكم القليل لعلّه من سهو القلم ، لا من زلّة القدم الجليل ؛ لعدم
انطباقه على ظواهر الأخبار ، وكلمات علمائنا الأخيار.
__________________
الأخبار الدالّة على كونه
كالجاري
وقد احتجّوا
على كونه حال نزوله كالجاري بجملةٍ من الأخبار :
منها
: الخمسةُ
المذكورة ، وغيرُها من الآثار التي لا تخفى على من جاس خلال
الديار.
أقواها
سنداً صحيحُ هشام بن
سالم عن الصادق عليهالسلام ، أنّه سأله عن السطح يُبال عليه ، فيصيبه السماء ،
فيكفّ ، فيصيب الثوب؟ فقال عليهالسلام : « لا بأس به
، ما أصابه من الماءِ أكثر منه » .
وأقواها
دلالةً مرسلُ الكاهلي
عن الصادق عليهالسلام : يسيل عليّ من ماء المطر ، أرى فيه التغيّر ، وأرى فيه
آثار القذر ، فتقطر القطرات عليّ ، وينضح عليّ منه ، والبيتُ يتوضّأ على سطحه ،
فيكفّ على ثيابنا؟ قال : « لا بأس ،
لا تغسله ، كلّ شيء يراه ماءُ المطر فقد طهر » .
ونحوه خبر عليّ
بن جعفر عن أخيه عليهالسلام : عن رجلٍ مرّ في ماء المطر ، قد صبّت فيه خمر ، فأصاب
ثوبه ، هل يصلّي فيه قبل أنْ يغسله؟ قال : « لا يغسلْ
ثوبَهُ ، ولا رجليه ، ويصلّي فيه ، ولا بأس » .
إلا إنّه لا
بدّ مِنْ صرفهما عن ظاهرهما ؛ ليلتئما مع غيرهما من الأخبار الواردة في هذا
المضمار.
هذا ، مع أنّ
في دلالتها على ما احتجّوا عليه من كونه حال النزول كالجاري مطلقاً وإن لم يجرِ
نظراً ظاهراً لا يخفى على أُولي الأنظار ، بل قصارى ما تدلّ عليه كونه في بعض
الصور المسئول عنها مخالفاً كحكم القليل المنفعل بالملاقاة عند غير ابن أبي
__________________
عقيل ، بل قد ينطبق عليه بناءً على القول بالفرق بين
الورودين كما نُسِبَ لجمعٍ من الأصحاب.
فلا دلالة لعدم
الانفعال في بعض الصور المنصوصة التي موردها ورود الماء على النجاسة وغلبتُهُ
عليها على إطلاق عدم الانفعال ، إذْ الدليل أخصُّ من المُدّعى بلا إشكال.
بل غايةُ ما يستفاد
منها بعد ضمِّ مطلقها لمقيّدها ، وعامّها لخاصّها أنّ له أحكاماً يشارك في بعضها
الجاري وفي بعضها الراكد ، وأنّ القدر المتيقّن من كونه كالجاري صورة الكثرة
والجريان ، وأمّا في غيرها فلا مناص من الرجوع للقواعد المقرّرة من الأئمّة
الأعيان.
ولقد بالغَ
بعضُ المتأخّرين كما نقله ثاني الشهيدين عن بعض معاصريه من السادة الفضلاء فحكم
بتطهير القطرة الواحدة من المطر إذا وقعت على الماء النجس.
ثمّ قال بعد
نقله ـ : ( وليس ببعيد ، وإنْ كان العمل على خلافه ) .
واعترضه أيضاً
في ( المعالم ) : ( بأنّه غلط ) .
ولكن لا داعي
لتغليطه في الحكم ، إذ بعد حكمه أنّه كالجاري مطلقاً ولو قطرة كما هو ظاهر مرسل
الكاهلي ، وأنّه يطهر الجزء الملاقي له حال وقوعه فلا ريب في
إجراء التقريب المذكور في الجاري. وصدقُ الانقطاع عليه في الآن الثاني غيرُ ضائر ؛
لحصول الطهارة في الآن الأوّل. اللهمّ إلّا أنْ يريد تغليطه في الدليل.
نعم ، قد يقال
: إنّ مقتضى قوله تعالى في مقام التفضّل والامتنان والتمدّح بالإنعام والإحسان : ـ
( وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) ، ( وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ
الشَّيْطانِ ) ، مضافاً لما دلّ على أنّ جميع المياه الأرضية من ماء
__________________
السماء ، كما نطق به القرآن كقوله تعالى ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ) ، وقوله تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ ) ، بمعونة تفسيرها في الأخبار بالأنهار والعيون والآبار ، وقوله تعالى
( هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ) هو أنّ علّة تطهير المياه الأرضيّة السفليّة نزولُ
أصلها من المادّة السماويّة العلويّة ، وأنّ الطهارة والطهوريّة الثابتتين لذات
الماء الجاري صفتان تابعتان للصفتين الذاتيّتين الثابتتين للمادّة المسلوكة في
المنبع والمقرّ.
فالأصل فيهما
حينئذٍ هو ماءُ المطر ، وأنّ ما سواه فرعٌ عليه وإنْ تكثّر ، فينبغي جعلُ تشبيهه
بالجاري من عكس التشبيه ، وأنّ الحقّ تشبيهُ الجاري به لما مرّ ، وإنما عكس نظراً
لإفهام العوام وتقريباً للمتعارف بين الأنام.
وحيث إنّ
اعتصام المياه المطهّرة وعصمتها لغيرها إنّما هي بالمادّة ، فتختلف أحكامُها
باختلافها كمّاً وكيفاً ، كما في تعليل طهارة ماء الحمّام بأنّ له مادّة ، وكذا في ماء
البئر ، وبها استدلّ على أنّ قليل النابع كالكثير.
وحيث إنّه لا
مادّة أقوى من مادّة اتّصال ماء المطر بالسحاب المسخّر لذلك من ربّ الأرباب ، ولا
كثرة أكثر ممّا اتّصل سيلانه من مسافة السماء إلى الأرض ، فلا فرق في النازل بين
الغزير والنزير ، ولا في النزول بين التواتر والتقطير.
ولعلّ هذا هو
السّر في تعليق تطهيره على الجريان بالمعنى الذي ذكرناه في أوّل العنوان ، وعلى
أنّ ما أصابه من الماء أكثر منه ، فإنّ ظاهره تنزيل نزوله من المادة السماويّة
بمعنى سيلانه منها وإنْ لم يجرِ على المساحة الأرضيّة منزلةَ الكثرة المعتبرة في
تطهير المياه الأرضيّة.
__________________
وحينئذٍ ،
فالقطرة المتّحدة إذا اتّصل عمودُها بالسماء كالقطرات المتعدّدة ، لكن مع مراعاة
الصدق عرفاً ، لا مطلقاً.
ولعل السيّد
المذكور أراد هذا المعنى المزبور ، كما لعلّه لهذا الوجه السديد جعلَ ثاني
الشهيدين ذلك القول غير بعيد.
وهذا الوجه
وإنْ لم يكن بعيداً بل هو قريب من الاعتبار لكنّي لم أقِفْ على مَنْ تنبّه له ، أو
نبّه عليه صريحاً من علمائنا الأبرار ، وإنْ لم يخرج عن مرادهم في مطاوي كلماتهم ،
فاعتبروا يا أُولي الأبصار.
إلا إنّ
الاحتياط الذي يُرجى به السلامة من الاختباط ، هو العمل على ما تقدّم من اعتبار
الكثرة والجريان بالمعنى المعتبر عند علمائنا الأعيان.
خلاصة القول
إذا عرفت هذا
..
فاعلم
: أنّ المتقاطر
من السماء حال نزول المطر إذا استوعب موضع النجاسة وأزال العين طاهرٌ مطهّرٌ ، بلا
خلافٍ ولا إشكال.
أمّا على القول
المشهور من عدم اشتراط الجريان فظاهرٌ.
وأمّا على قول
الشيخ رحمهالله فالظاهر أنّه لا يناط التطهير به هنا ؛ لما نقل عنه من التصريح
بالاكتفاء في تطهير الأرض بالماء القليل.
فينحصر الخلافُ
في ابن حمزة ؛ وابن سعيد إنْ لم يُحمَل كلامهما على إرادة الورود والوقوع على
المحلّ النجس ، لا خصوص جريان المطر وسيلانه من مكانٍ إلى آخر ، كما هو غير بعيد.
كما انّ احتمال
تخصيص كلام الشيخ رحمهالله بخصوص الماء القليل من غير ماء المطر غيرُ سديد.
__________________
ويدلّ على
الحكم المذكور جملةٌ من الأخبار المذكورة ، خصوصاً مرسل الكاهلي ، وصحيح علي بن
جعفر ، وخبراه ، وصحيح هشام بن سالم ، إلّا إن ظاهره كما سمعت اعتبارُ أكثريّته
ممّا يقع عليه ، ولا ينافيه كون مورده خصوص الثوب ؛ إذ العبرة بعموم الجواب لا
مورد السؤال ؛ لما تقرّر بين العلماء الأماجد من أنّ المورد لا يخصّص الوارد.
وأمّا
المتقاطر من السقف حال نزول المطر كما هو مفروض السؤال فمتى كان التقاطر من السقف حال
نزول المطر من السماء وعُلِمَ اتّصالُ المتقاطر بالمادّة السماويّة لرقّة السقف ،
أو لنفوذ الماء في جميع أعماقه ، بحيثُ يصدق عليه اسم المطر عرفاً ، واستوعب موضع
النجاسة وأزال عينها فالظاهرُ أنّه لا خلاف في طهارة الأرض المذكورة بهذه الشروط
المزبورة ؛ لإطلاقِ تلك الأخبار ، وكلمات علمائنا الأخيار ؛ لصدق كونه ماء مطر
نازلٍ من السماء ، واعتصامه بتلك المادّة العاصمة من تنجّس الماء ، ويجري في قليله
ما يجري في سابقه من الكلام ، وكونُ نزوله بواسطة السقف لا يمنع صدق الاسم على
المسمّى إلّا أنْ يثبت دعوى انصراف الإطلاق للنازل لا بالواسطة ، فلا يدخل تحت تلك
الضابطة.
وأمّا
لو كان التقاطر بعد انقطاع المطر ؛ لنفوذ الماء في أعماق السقف ، ورسوب الماء الأوّل ، وتخلفه في أجزائه
بحيث ينتفي الصدق العرفي عن كونه نازلاً من السماء بالمعنى المعتبر اصطلاحيّاً ،
أو يشكّ في صدقه عليه ، فحكمه كما لو عُلِمَ عدمُ صدقه ، فلا تجري عليه أحكام
الجاري ، بل حكمه حكم الراكد.
ولو بقيت عين
نجاسته في السقف بعد الانقطاع فحكم هذا المتقاطر حكم ماء الغُسالة المنفصل من
المغسول وإنْ لم يُحْكَم بنجاسته إذا لم تغيّره النجاسة وإنْ قيل بنجاسة غُسالة
القليل الواقف من غيره ؛ عملاً بظاهر بعض تلك الأخبار ، كصحيح هشام بن سالم ، حيث حكم عليهالسلام بنفي البأس عمّا أصاب الثوب ممّا تقاطر من سقف
__________________
البيت مطلقاً ، سواء كان التقاطر حال نزول المطر ، أو بعد انقطاعه. وهو
ظاهر في طهارته ، لكنّه إنّما يتمّ هذا لو لم يثبت القولُ بعدم الفصل بين غُسالات
المياه ، ويتمّ تنقيح المناط القطعي.
وكلا الوجهين
غير خالٍ من الرَّيْن ؛ لإمكان القول بالفصل بين غُسالات المياه ، كالفصل بين
الغسلات والغسالات وأفراد النجاسات ؛ حملاً لاختلاف الأخبار على اختلاف الموارد
والمقامات ، ولجواز اختصاص المياه السماويّة بما لم يجرِ في المياه الأرضيّة
بمقتضى الفرعيّة والأصليّة.
وأمّا احتمالُ
حملِ نفي البأس فيه على كونه معفوّاً عنه أو على أنّ المتنجّس لا ينجّس فهو خلافُ
الظاهر إنْ لم يكن الظاهر خلافه ، خصوصاً الوجه الآخر ، مع أنّه إِنْ جاز في
الصحيح المذكور لم يجز في صحيح عليّ بن جعفر ؛ لقوله عليهالسلام بعد قول السائل : أيؤخذ من مائه ، ويتوضّأ به للصلاة ـ
: « إذا
جرى فلا بأس » . لظهوره في طهوريّته من الحدث وإنْ نُقل عن الفاضلين في ( المعتبر
) و ( المنتهي ) نقلُ الإجماع
على عدم رفع الحدث بماء الغسالة ، لما لا يخفى من تكثر الأقوال ، والاختلاف على
وجه لا يحصل به الائتلاف ، كما لا يخفى على مَنْ لاحظ كتب الأسلاف والأخلاف ،
فدعوى الإجماع في هذه المسألة لا يخلو من جزاف ، وبَسطُ الكلام في الغسالة يستدعي
الإفراد في رسالة.
هذا ما اختلجَ
بالبالِ الكليل ، وارتسمَ في صحيفةِ الفكرِ العليل ، في جوابِ هذا السؤال الجليل ،
على شدّة استعجال ، واختلافِ أهوال ، واختلاف أحوال ، مع طولِ التسويف والإمهال ،
والله العالم بحقائق الأحوال.
والمأمولُ من
الناظرين ترويج الكساد ، وإصلاحُ الفساد ، وسدل ذيل العفو على ما يجدونه من الهفو.
__________________
حرّره
الأقل الجاني : أحمد بن صالح البحراني ، في عدّة أوقات ، آخرها اليوم الثامن عشر
من شهر ذي القعدة الحرام للسنة ١٣١١ ، الحادية عشرة بعد الثلاثمائة والألف من
الهجرة المصطفوية ، على مهاجرها وآله أشرفُ الصلاة والتحية.
الرسالة السادسة
مسألة فيما لو ماتت الأمُّ وقد خرج
نصف الولد
مسألة : فيما لو ماتت الامّ
وقد خرج نصف الولد
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ
مجيبِ السائلين ، والصلاة والسلامُ على محمّدٍ وآلِه الطاهرين.
قال السائلُ
الكاملُ ، سلّمه اللهُ تعالى ، وعامله بلطفه الشامل : ( ما يقولُ مولانا في
امرأةٍ حُبلى تعسّرت ولادتُها ، وخرج نصفُ الولد ، وماتت ، ومات الولد؟ أيُخرج
بجرٍّ ونحوه ، أم يُتْرك؟ ومع الترك يكفي غُسل الأُمّ ، أم يغسّل النصف على حدة؟
ومع خروجه والأُمّ ميّتة لو خرج دمٌ بعد الخروج ، أو قبل الخروج ، أو معه ، هو دمُ
نفاسٍ ، أم لا؟ وعلى الأوّل تتداخل الأغسال الواجبة ، أم لا؟ ).
الجواب ومنه سبحانه استمدادُ الصّواب ـ : أنّ هذه المسألة فيما
أعلم لم يجرِ لها ذكرٌ في شيءٍ من أخبار الأئمّة الأطياب ، ولا في كلماتِ الأصحاب
، عدا كاشف الغطاء ، حيث إنّه بعد أن احتمل جعلها معه كميّت واحد فيغسّل الخارج
تبعاً لها ، ولا حاجة إلى إخراجه ، قال : ( والأحوط الإخراج ) .
__________________
وقد يستظهر
أيضاً وجوبُ الإخراج من السيّد المهدي القزويني في رسالته
العمليّة ، حيث قوّى في موتِ الحامل والحمل معاً وجوبَ إخراجه. فيلزم منه وجوبُه
هنا بطريق الأولويّة.
واللائقُ بمثلي
الوقوفُ عن شأو هذا الشأن ؛ إذ لستُ من فرسان هذا الميدان ، لكن لا بأس بالخوض من
باب المذاكرة والاستفادة ، لا الإفتاء والإفادة.
فأقول مستمدّاً
منه العصمة في كلِّ مقول ـ :
إِنْ أمكنَ
إخراجُه بجرٍّ ونحوه بحيث لا يستلزم تعنيفاً بالميّت وهتكاً لاحترامه وجب إخراجُه
ولو من باب المقدّمة لإتمام غسلِهِ الواجبِ المتوقّف على إخراجه مع عدم المانع ،
وإِنْ لم يمكن إخراجُهُ إلّا بما يستلزمهما ، أو غيرهما ممّا ينافي الاحترام ، أو
تعجيل التجهيز المحثوث عليه من أهل الذكر عليهمالسلام ، بحيث يستلزم التغيّر ، أو الانفجار والانخرام ،
فالمتّجه عدمُ الوجوب في هذا المقام :
أمّا
أوّلاً ؛ فلأصالة عدمه
السالمة عن المعارِض. وما يُتَوهّم مُعارضتُه من الوجوب المقدّمي غيرُ ناهض
للالتزام بالاكتفاء بغسل الخارج مِنه منفرداً في وجهٍ وجيه ؛ لعموم : « إذَا
أُمِرْتُم بشيءٍ فأتُوا منه بما استطعتم » و : « لا يسقط
الميسورُ بالمعسور » ، وأدلّة نفي العسر والحرج ، ونفي الضّرر
والضّرار .
أو بغسله تبعاً
لها ، كمحتمل ( كشف الغطاء ) ؛ لإطلاق ما دلّ على وحدة غسل
__________________
الحامل ، الذي هو لمثل هذا الفرد شامل ، إلّا أنْ يثبت
الانصرافُ ، وهو بعيد ؛ إذ الغلبةُ هنا غلبةُ وجودٍ عند الإنصاف.
أو بغسله مرّةً
تبعاً لها ، وأُخرى بانفراده احتياطاً.
وأمّا
ثانياً ؛ فلعموم ما دلّ
على أنّ حرمة المؤمن ميّتاً كحرمته حيّاً ، وخصوصِ الأخبار الآمرة بالرفق بالميّت عند تغسيله
وعدم غمز بطنه .
ولذا علّل
الترك لمسح بطن الحامل حال الغسل كراهةً على قولٍ ، أو تحريماً
على آخر ، مضافاً للخبر بعموم أدلّة الاحترام ، فيدل بالفحوى على حرمته هنا ،
لأشدّيّة الهتك والإيذاء هنا على الوجه المذكور ، وحصولهما بالطريق الأَوْلى.
ولعلّ إطلاق
أحوطيّة الإخراج ، وما استظهرناه من وجوبه في ( الكشف ) و ( الرّسالة ) المذكورين
مرادٌ به التقييد بما إذا لم يستلزم الإخراجُ الهتكَ والإيذاءَ ، بقرينة فتواهما
كغيرهما بترك المسح المذكور ، والله العالمُ بحقائق الأُمور.
وأمّا
قولهُ ، سلّمه اللهُ
تعالى ـ : ( ومع الترك
، غسل الأُمّ يكفي ) .. إلى آخره.
فالجوابُ
عنه حكماً ودليلاً
يُعرف من الجواب عن سابقته ، فلا حاجة لإعادته ، ولكن نوضّحه بأنّ الأحوطَ الجمعُ
بين تغسيله تبعاً لُامّه ، وبين تغسيله بانفراده ، إنْ جُعل من موارد الاحتياط ،
بتقريب أنَّ الشغل اليقيني بصحّة غسل الامّ يستدعي توقّف البراءة اليقينيّة على
الجمع بين الغُسلين.
إلّا إنّ
الأظهر كونُه من موارد أصلِ البراءة ؛ لرجوعه للشكِّ في التكليف ، المتوقّف
__________________
على البيان من المكلِّف اللّطيف ، والفرضُ عدمُه في المقام. مع أنّ
التّكرار قد ينافي الاحتياط ، واللهُ العالمُ بحقائق الأحكام.
خروج الولد والأُمّ ميّتة
وأمّا
قوله ، سلّمه الله
تعالى ـ : ( ومع خروجه
، والأُمّ ميّتة ) .. إلى آخره.
فالجواب ومنه سبحانه إزالة حجاب الارتياب ـ : أنّ هذه المسألة
كسابقتها في عدم التعرّض لها بالخصوص في كلام الأصحاب ، إلّا إنّ مقتضى ظواهر
الأدلّة وكلام علمائنا الأطياب ، عدمُ جريان أحكام النفاس في هذا الباب ؛ لظهورها
في إناطة أحكامه بالحياة دون الممات بلا ارتياب ، حتى لو قيل بوجوب الأغسال لنفسها
بمجرّد وجود الأسباب.
ولا يردُ أنّ
مقتضى سببيّة الولادة للنفاس عدمُ الاختصاص بحال الحياة ؛ لأنّ القدر المتيقّن هو
السببيّة المقيّدة بحالها ، لا على وجهٍ يشملُ الممات ، فتسلمُ أصالة البراءة
والعدم عن معارضٍ يدلّ على المساواة ، وعلى مدّعي الدليل الإثبات.
وقصارى ما يمكن
الاستدلال به ما ورد في قصّة الجارية الأنصاريّة مع بهلول نبّاش القبور ، حيث إنّه
بعد أنْ غلبته نفسه الأمّارة على مجامعتها بعد أخذه كفنها ، إذا بصوتٍ من ورائه يقول
له : ويلٌ لك من ديّان يوم الدّين إلى أنْ قالت ـ : وتركتني أقومُ جنبة إلى حسابي
، فويلٌ لشبابك من النّار .
ولا حجّة فيه ،
فالاستدلال به وهنٌ على وهنٍ ، كما لا يخفى على نبيه.
وأمّا ما
صرّحوا به من وجوب غُسل الجنابة بوطء الميتة متمّماً كسابقه بعدم القول بالفصل بين الأغسال الواجبة
إنْ تمّ فمرادُهم منه أنّه مقتضٍ للوجوب ، أو سببٌ له ما لم يُفْقَدْ شرطٌ ، أو
يَمْنع مانعٌ ، فلا يوجب الغُسل فعلاً على غير المكلَّف الواجد للشرائط ، الفاقد
للموانع.
__________________
وحينئذٍ ،
فيجري على هذا الدم حكم النجاسة الخبثيّة ، من دم أو بول أو غائطٍ إذا خرجت من تلك
المواضع ولو حال التغسيل من الأموات ، للدليل الساطع. والله العالم ، وحججه
الأنوار اللوامع.
وأمّا قوله
سلّمه الله تعالى ـ : ( وعلى
الأوّل : تتداخل الأغسال الواجبة ، أم لا؟ ).
فقد عُرف ممّا
سبق انتفاء الأصل ، فينتفي بانتفائه حكم الفرع بلا منازع ؛ لما عرفت من وضوح
الدليل ، والله يقول الحقّ ، وهو يهدي السبيل.
كتاب الصلاة
الرسالة
السابعة
قرّة
العين في حكم الجهر
بالبسملة
في ما عدا الأوليين
الرسالة
الثامنة
نقض
رسالة الشيخ على الستري
الرسالة
التاسعة
مسألة
في الجهر بالبسملة
الرسالة
العاشرة
أجوبة
مسائل الشيخ جعفر البحراني
الرسالة
الحادية عشرة
منهاج
السلامة في حكم الخارج عن بلد الإقامة
الرسالة
الثانية عشرة
حاشية
على مباحث الخلل من كتاب الشرائع
الرسالة السابعة
قرّة العين في حكم الجهر
بالبسملة في ما عدا الأوليين
الفهرس التفصيلي
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ
جامعِ الشتات ، ومحيي الرفات ، والصلاةُ والسلامُ على محمّدٍ وآلهِ الهداة.
أما بعد :
فهذا فهرستُ
تفصيل ما اشتملت عليه الرسالة المسمّاة ب : ( قرّة العين في حكم الجهر بالبسملة في
ما عدا الأُوليين ) من المباحث الشافية ، والفروع الوافية.
وهي مرتّبةٌ
على : مقدّمتين ، ومقامين ، وخاتمة.
المقدّمة
الأولى : في أنّ الأصلَ
في الصلاةِ هو الجهرُ أو الإخفات ، أو أنَّ كلّاً منهما أصلٌ برأسه.
وفيها
: إشارةٌ إلى
أنّ الأفضل في الأَذكار هو الإسرار لا الإجهار.
المقدّمة
الثانية : في تحرير محلّ
النزاع.
وفيها
: ذكر الخلاف في
قراءةِ المأمومِ خلفَ الإمام.
وفيها
مسائل : الاولى : في الصلاةِ الجهريّة وسماعِ تمام القراءة.
__________________
وفيها
: الإجماع على
سقوط القراءة وإنْ اختُلف في أنّه على جهة الوجوب ، أو الاستحباب.
وفيها
: التنبيهُ على
أنّ الخلافَ في الحرمة أو الكراهة مبنيٌّ على وجوب الإنصات لقراءة القرآن أو استحبابِهِ
، أو لا.
الثانية
: سماع الهمهمة
فقط.
وفيها
: التنبيهُ على
خللٍ في سندٍ في ( التهذيب ).
الثالثة
: إلّا يسمع
أصلاً.
وفيها
: التنبيهُ على
عدم الفرق بين كون عدم السماعِ لبعدٍ ، أو صمم ، أو مزاحمةِ الأصوات.
الرابعة
: أنْ يسمع
بعضاً دون بعض.
الخامسة
: في أخيرتَي
الجهريّة أو أخيرتها ، وذكرِ الأقوال فيها.
ومنها
: الإشارة إلى
المناقشة في نقل الإجماع على التخيير بين القراءة والتسبيح.
السادسة
: في أُوليي
الإخفاتيّة ، وذكر الأقوال فيها.
ومنها
: التنبيه على
اشتباه واقع لجملة من محقّقي المتأخّرين في تصحيف إبراهيم بن علي الرافعي ب :
المرافقي ، أو الرافقي ، أو الواقفي.
وعلى المناقشة
في صحّة سنده بسببه.
السابعة
: في سماع
المأموم القراءة في أُوليي الإخفاتيّة.
الثامنة
: في جهر الإمام
نسياناً في الإخفاتيّة.
التاسعة
: على القول
برجحان الذكر في أُوليي الإخفاتيّة ، هل يكفي كلُّ من التسبيح ، والتحميد ،
والصلاة على محمّدٍ وآله ، أم النبيّ صلىاللهعليهوآله منفرداً ، أم بضم الجميع ، أم يقتصر على التسبيح؟
العاشرة
: في أخيرتَي
الإخفاتيّة.
وفيها
: ذكر الأقوال
والمناقشة في بعض الأنقال.
وبحثٌ مع صاحب (
مجمع الأحكام ).
الحادية
عشرة : في الصلاة
المركّبة من الجهر والإخفات.
الثانية
عشرة : في حكم
المسبوق.
وفيها
: بحثٌ مع صاحب (
مجمع الأحكام ).
والمناقشة في
نقل القول بحرمة القراءة أو كراهتها.
والتنبيه على
معنى : « ولا تجعل
أوّل صلاتك آخرها ».
وبحثٌ مع صاحب (
المدارك ).
وبحثٌ مع صاحب (
مجمع الأحكام ).
الثالثة
عشرة : في حكم ما لو
دار الأمر بين إكمال الفاتحة المفوّت للقدوة ، وبين قطعها المحصِّل لها.
الرابعة
عشرة : على القول
بعدم وجوب القراءة على المسبوق ؛ لو أدرك الإمام في أخيرتيه وسبّح فيهما ، فهل
يبقى في أخيرتيه على التخيير مطلقاً ، أم يتعيّن عليه القراءة مطلقاً ، أم يقرأ
إنْ سبّح الإمام ويسبّح إنْ قرأ.
وفيها
: بحثٌ مع سيّد (
المدارك ) أيضاً.
الخامسة
عشرة : هل الإخفات في
قراءة المسبوق في الجهريّة واجبٌ أم مستحبّ؟
المقام
الأوّل : في ذكر أقوال
البسملة ، وهي ستّة بجعل الاحتياط قولاً آخر :
الأوّل
: استحباب الجهر
بها مطلقاً.
وفيه
: التنبيه على
حكم المأموم فيها ودخول الأُنثى والخُنثى ، وصلاة الاحتياط.
الثاني
: وجوب الجهر
بها مطلقاً.
وفيه
: تحقيق اتّحاد
أبي الصلاح وابن البرّاج في إطلاق الوجوب.
وفيه
: التنبيه على
استعمال أبي الصلاح اللزوم بمعنى الاستحباب.
وفيه
أيضاً : التنبيه على
ما وقع في الموجود من نسخة ( الجواهر ) من تحريف ( الحلبي ) بـ ( المجلسي ) ،
ونسبة قول الحلبي للمجلسي.
الثالث
: الفرق بين ما
تتعيّن فيه القراءة فيستحبّ الجهر بها ، وبين ما يخيّر فيها فيحرم.
وفيه
: استظهاره
أيضاً من صاحب ( الوسيلة ) ، و ( إشارة السبق ).
الرابع
: الفرق بين
الإمام والمنفرد.
الخامس
: وجوب الجهر
بها في أُوليي الإخفاتيّة ، ووجوب الإخفات في ما عداهما ، واستظهار ذلك من ابن
زهرة.
وفيه
: المناقشة من
صاحب ( الجواهر ).
واستظهار رجوعه
لقول ابن البرّاج.
السادس
: الاحتياط في
الأخيرتين ؛ إمَّا بالإخفات بها في وجه ، أو بتكرار الصلاة بالجهر والإخفات في وجه
، أو به وبتكرار البسملة خاصّة في وجه.
المقام الثاني : في
الاستدلال للأقوال.
وفيه مباحث :
الأوّل
: في الاستدلال
على القول الأوّل.
وهو أُمور :
الأوّل
: كونه من شعار
الإماميّة مطلقاً.
وفيه
: اعتراف الفخر
الرازي وأبي حاتم السجستاني بأنّه من شعارهم ، واعتراف الرازي أنَّ الجهر مذهب
عليّ بن أبي طالب ، وأنَّ من اقتدى في دينه به فقد اهتدى ، وأنَّ الجهر بها في
سالف الأعصار مذهب جميع المهاجرين والأنصار ، وإنَّما حدث الإخفات بها من معاوية
سعياً في إبطال آثار علي عليهالسلام.
وفيه
: الجمع بين ذلك
، وبين الجهر بها من الشافعيّة.
الثاني
: الإجماع
بقسميه.
وفيه
: كلام في وجه
حجّيّة الإجماع ، وتحقّقه في موضع النزاع.
الثالث
: الأخبار
المستفيضة ، بل المتواترة.
فمن
طريق أصحابنا :
(١) صحيح صفوان.
وفيه
: التنبيه على
حال الحسين بن الحسن بن أبان.
(٢) وخبره
الآخر.
وفيه
: الكلام على
السند ، وأنّ القاسم بن محمّد هو الجوهري ، لا الأصفهاني المعروف بكاسولا ،
والتنظّر في الاكتفاء في توثيق ابن داود له.
(٣) وخبر رجاء
بن أبي الضحّاك.
وفيه
: استشعار جهر
الرضا عليهالسلام بالتسبيح على وجه رجيح.
وفيه
أيضاً : نقل الكلام
لبعض المتأخّرين ، والتنظّر فيه.
(٤) وحسن
الكاهلي.
وفيه
: بيان ما فيه
من الوجوه ، وأنّ مسجد بني كاهل من المساجد الممدوحة في الكوفة.
(٥) وصحيح
منصور بن حازم المنقول من ( تفسير العيّاشي ).
وفيه
: بيان الوجه في
دلالته.
وفي معنى
السورة.
(٦) والخبر
المنقول من ( تفسير القمّي ) ، وفيه وجه دلالته.
(٧) وخبر ابن
أذينة المنقول من ( تفسير القمّي ) أيضاً.
وفي ذيله نقل
كلام الرازي في إثبات استحباب الجهر بها بالاستحسان.
(٨) وخبر
الأعمش المنقول من ( الخصال ).
وفيه
: التنبيه على
سهو مَنْ نقله من ( الفقيه ).
(٩) وخبر سليم
بن قيس الهلالي المنقول من ( روضة الكافي ).
وفي ذيله
التنبيه على صرف ظاهره كسابقه عن الإيجاب إلى الاستحباب.
(١٠) وخبر (
تحف العقول ).
وفيه
: الإشارة إلى
وجه دلالته.
وإلى حال
مصنّفه وجلالته.
(١١) وصحيح الفضل
بن شاذان المرويّ في ( العيون ).
وفي ذيله بيان
معنى السنّة.
ووجه دلالته
على الاستحباب.
(١٢) والخبران
المرويّان عن أبي حمزة الثمالي ؛ أوّلهما من [ التهذيب ].
[١٣] والثاني
عن ( العيّاشي ) .
وفي ذيلهما وجه
الدلالة.
ومعنى ( قرين
الإمام ).
ومعنى ( اكتسع
).
(١٤) وخبر
حنّان بن سدير المرويّ من ( التهذيب ).
(١٥) وخبر أبي
حفص الصائغ المرويّ من ( مجالس ابن الشيخ ).
(١٦) وخبر
محمّد بن عبد الحميد وعبد الله بن محمّد المرويّ من ( قرب الإسناد ).
وفي ذيل
الثلاثة الكلام في وجه الدلالة.
وكلام في الجهر
بالاستعاذة.
(١٧) ومرسل (
البحار ).
(١٨) وخبر (
الدعائم ).
(١٩) وما نقله
ابن أبي عقيل.
وفي ذيلها
الإحالة في بيانها على ما مرّ في أوّل المقام.
وعلى ما دلّت
عليه من نفي التقيّة فيها ، على ما يذكر إن شاء الله تعالى في الختام.
(٢٠) وخبر (
التهذيب ) و ( المصباح ) في علامات المؤمن.
(٢١) والخبر
المتكرّر الإسناد في تفسير قوله تعالى ( الْحَمْدُ لِلّهِ
الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ) الآية.
(٢٢) وخبر عبد
الله بن أبي أوفى في علامات الشيعة.
(٢٣) وخبر أبي
بصير المتكرّر أيضاً في تفسير ( وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) .
__________________
وفي ذيل
الأخبار الأربعة تنبيهات حسنة مخترعة.
والكلام في وجه
الدلالة.
والكلام على ما
في خبر ( الدعائم ) من تخصيص الجهر بها في ما يجهر فيه بالقراءة ، واطّراحه.
(٢٤) وصحيح
زرارة المرويّ من ( تفسير العيّاشي ).
وفي ذيله
الكلام في وجه دلالته.
( ٢٥ ٢٦ )
وخبران آخران عن ( العيّاشي ).
(٢٧) وخبر عمرو
بن شمر المرويّ من ( تفسير فرات بن إبراهيم ).
وفي ذيله بيان
وجه الدلالة في الأخبار الأربعة المذكورة.
(٢٨) ومرسل (
أزهار الرياض ).
وفي ذيله بيان
حال الشيخ ناصر بن عبد الحسن البحراني المنامي.
وأبي الحسن بن
شاذان الغامي أو القاضي.
وبيان وجه
دلالته.
والكلام على
الصلاة خلف من لا يجهر بالبسملة.
وخلف المجهول
والسفيه ومن تشهد عليه بالكفر ويشهد عليك به ، وبيان معناه.
وخلف مَنْ
يتولّى ولا يتبرّأ.
وفيه
: بيان معنى
البتريّة.
وخلف الواقفي.
وبيان معناه.
وسبب الوقف.
والجمع بين
رواية هذا الخبر عن الصادق عليهالسلام ، وبين حدوث الوقف بعد الكاظم عليهالسلام.
وخلف المجذوم.
وفيه
: بحثٌ مع (
المدارك ) في عبد الله بن يزيد.
والجمع بين
الأخبار المختلفة في الصلاة خلفه.
وخلف المحدود.
وفيه
: استعمال ( لا
ينبغي ) في التحريم.
وخلف الحاقن.
وفيه
: الكلام على
الأخبار المانعة.
وخلف الآدر.
وفيه
: بيان معناه.
وخلف من يبتغي
على الأذان أجراً.
وخلف من هو
أقلُّ منك معرفة ، وفي دليله ، والجواب عنه.
وفيه
: تفسير قوله
تعالى ( يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) .
وخلف غير
المحترم.
وفيه
: بيان معناه.
ودليله.
وفيه
: إشارة لعدم
الاعتماد على إجماعات الشيخ رحمهالله.
وخلف الأعمى.
وفي دليله ،
والجواب عنه.
وخلف المخنَّث
والمأبون.
وفيه
: بيان معناهما.
وفيه
: نقل اعتراف
السيوطي ، وابن الأثير ، والضرير البابلي بأنَّ الثاني كان مخنّثاً أو مأبوناً ،
وإن كذّبوا الروافض في معناه.
(٢٩) وخبر
الحسين بن حمدان في هدايته.
__________________
وفي ذيله بيان
دلالته.
والتنبيه على
حال الحسين بن حمدان وصحّة عقيدته.
وترجيح تعدّده.
وبيان رؤيا
لبعض الأعلام تتعلّق بحاله ، وحسن عقيدته.
وفيه
: بحثٌ مع صاحب (
العوائد ) أيضاً في حكمه بالاتّحاد.
وفيه
أيضاً : ترجمةُ الشيخ
علي بن الشيخ حسن بن الشيخ يوسف البلادي.
(٣٠) والخبر
المرويّ في ( الصافي ) نقلاً من ( الكافي ) في تفسير قوله تعالى ( وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ ) الآية.
وفيه
: بيان دلالته.
(٣١) وخبر أبي
هارون.
وفيه
: بيان دلالته.
(٣٢) وحسن
زكريا بن إدريس القمّي.
وفيه
: بيان وجه
دلالته.
(٣١) وخبر (
فقه الرضا ) المروي في ( البحار ).
وفيه
: بيان معناه.
ووجه دلالته.
(٣٢) وعموم
موثّق أبي بصير
ينبغي للإمام
...
وأمّا من طريق الخصم :
(١) فما أخرجه
الطبراني ، والدارقطني ، عن عليّ عليهالسلام.
(٢) وما رواه
الرازي ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله.
وما نقله عن
البيهقي ، عن ابن الخطاب ، وابن عبّاس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، وعليّ بن أبي
طالب رضى الله عنه.
(٣) وما رواه
عن أبي قلابة ، عن أنس.
__________________
(٤) وما نقله
بعض سادة الهند من أصحابنا المعاصرين ، من كتاب ( جمع الجوامع ) لعبد الوهاب
السبكي الشافعي.
وفي ذيله وجه
دلالته.
وبيان حال
كتابه ( روح القرآن ) وجلالته.
(٥) وما أخرجه
أبو عبيدة ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ، وابن خزيمة ، وابن الأنباري ،
والدارقطني ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي ، والخطيب ، وابن عبد البرِّ ، عن أمّ
سلمة.
(٦) وما رووه
عن ابن المنذر.
(٧) وما رووه
عن أبي هريرة.
وفي ذيل هذه
الأخبار الإشارة إلى وجه الاستدلال.
المبحث
الثاني : في الاستدلال
على القول الثاني.
وهو من وجوه :
الأوّل
: بعض الأخبار
المذكورة في أخبار الاستحباب ، بدعوى ظهورها في الإيجاب.
والتقريب في
وجوه الاستدلال.
الثاني
: الإجماع
المدَّعى من قول الصدوق رحمهالله في مجالسه.
والتقريب فيه.
الثالث
: قاعدة الشغل.
الرابع
: ملازمة النبيّ
والأئمّة عليهمالسلام عليه.
وفي ذيلها
الجواب عنها إجمالاً.
ثمّ تفصيلاً.
وفيه
: التنبيه على
تعبير الصدوق رحمهالله عن الاستحباب بالوجوب ، وهو أحد القرائن الصارفة لظاهر
كلامه عن إرادة الوجوب الاصطلاحي.
وفيه
أيضاً : بحثٌ مع بعض
المعاصرين في ردِّه دليل الوجوب بخلوِّ الأخبار الآمرة
بالقراءة من غير تعرّض للجهر بالبسملة.
المبحث
الثالث : في الاستدلال
على القول الثالث.
وفيه
: الاكتفاء بنقل
عبارة ( السرائر ) من أوّلها لآخرها.
ثمّ الجواب
عنها بحذافيرها.
وفيه
أيضاً : نقل عبارة ابن
الجنيد ، والمرتضى ، في عدم وجوب الجهر والإخفات في مواضعهما.
وفيه
أيضاً : الكلام على
موارد وجوب الاحتياط.
والمناقشة لابن
إدريس في دعواه الإجماع.
ونقله الإجماع
في جملة من المواضع في محلّ النزاع.
وبيان طريقته
في تحقّق الإجماع.
وفيه
أيضاً : البحث مع بعض
الفضلاء المعاصرين بالاحتجاج لابن إدريس بإشعار بعض الأخبار بالإخفات بها في
الأخيرتين.
وفيه
أيضاً : توثيق محمّد
بن عيسى العُبَيْدِي وتمييزه عن غيره.
وتوثيق أبي
خديجة.
وفيه
أيضاً : التنبيه على
رواية عبد الله بن سنان الثقة ، عن أخيه محمّد ، ورواية أخيه محمّد عن الإمام
الصادق جعفر بن محمّد.
والردّ على من
أنكر ذلك.
وفيه
أيضاً : استغرابٌ من
أبي عليّ في ( منتهى المقال ).
المبحث
الرابع : في الاستدلال
على القول الرابع.
وهو بالتمسّك
بأصالة الإخفات.
والإجماع على
وجوبه في القراءة الإخفاتية.
وفي ذيله
المناقشة في تقرير الدليل.
ثمّ الجواب عنه
بما يحسم مادّة القال والقيل.
المبحث
الخامس : في الاستدلال
على القول الخامس.
ثمّ الجواب عنه.
المبحث
السادس : في الاستدلال
على القول السادس بوجوهه الثلاثة.
ثمّ الجواب عن
كلّ واحد منها تفصيلاً.
الخاتمة
: في بيان أمرين
مهمّين :
الأوّل
: في بيان ما
ورد من الأخبار من نفي التقيّة في الجهر بالبسملة.
والجواب عنها.
الثاني
: في بيان معنى
الاستحباب ، وأنَّ المستحبّ هو الجهر نفسه ، لا القصد إليه واختياره.
ثمّ في الذيل
تاريخ الفراغ من تأليف هذا النظام.
ونسأله سبحانه
حسن الختام. حرّره بقلمه وقرّره بكلمة مؤلِّفُه الأقلُّ الجاني : أحمد بن صالح
البحراني ، عامله الله بعفوه السيحاني ، ولطفه الصمداني.
مقدّمة المؤلِّف
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي
يعلمُ الجهرَ وما يخفى ، والصلاةُ والسلامُ على محمّد المصطفى ، وآله الخلفاء
الحنفاء ، حلفاء الصفا ، وأُلفاء الوفا.
أما بعد :
فيقول المتعطّش
لفيض ربّه البحراني ، أحمد بن صالح بن طعّان البحراني : إنَّ الداعي لهذا التسجيل
هو إبراز قسط قليل ، لإحراز طَسْقٍ جليل ، في حكم الجهر بالبسملة في الأخيرتين ، وربّما
انجرّ الكلام إلى الأُوليين بما ورد عن أئمّة المَلَوَيْنِ. وسمّيتها : ( قرّة
العين في حكم البسملة في ما عدا الأُوليين ) ، وقد رتّبتها على : مقدّمتين ،
ومقامين ، وخاتمة ، سائلاً منه سبحانه حسن الخاتمة.
أمّا
المقدّمة الأُولى : ففي تأسيس الأصل في الصلاة ، وأنّه الجهر أو الإخفات.
وأمّا
المقدّمة الثانية : ففي تحرير محلّ النزاع بين أولئك الأبدال.
وأما
المقام الأوّل : ففي ذكر الأقوال.
وأمّا
المقام الثاني : ففي ما يصلح لها دليلاً من كلام الآل عليهم سلام ذي الجلال ، ما
__________________
سمح سِجَال وسنح لآلٍ.
وأمّا
الخاتمة : ففي الجمع بين
ما ورد عن الأئمّة الأبرار الإبدال من جواز التقيّة في الجهر بها ، وما ورد من عدم
التقيّة فيه من أولئك الأشرار الأنذال ، وفي المعنى المراد من ذلك الاستحباب في
كلام العلماء الأنجاب.
فأقول وبالله الثقة وعليه الاتّكال في جميع الأحوال ، وأسأله
التسديد والعصمة في الأفعال والأقوال ـ :
__________________
المقدّمة الأولى
في تأسيس الأصل في الصلوات ، وأنّه الجهر أو الإخفات ، أو أنّ كلّاً منهما
أصل برأسه
اعلم أنَّه لا
نزاع في أنَّ الإخفات من حيث كونه أمراً عدميّاً هو الأصل الأوّلي ؛ لأنَّ العدم
الأزلي هو الأصل في جميع الممكنات ، وأنَّ الجهر من حيث كونه وصفاً زائداً على ذات
الحرف خلاف الأصل ؛ لصحّة نفيه بأصل العدم ، واحتياج إيجاده في الخارج لأمر آخر
يقتضي الإثبات.
كما أنَّه لا
نزاع في تطابق العقل والنقل على اتّحادهما في جهة الحسن المقتضية لحسن التكليف
بكلّ منهما ، وإنَّما النزاع في أنّ الأصل الأوّلي هل ورد عليه دليل رافع لموضوعه
، أو أصل ثانوي حاكم عليه ، أم لا؟
وبعبارة
اخرى : إنَّ الصفة
المشروطة في تأدية ألفاظ الصلاة بمعنى المجعول أو المراد الشرعيين ، هل هو الجهر ،
أو الإخفات ، أو كلاهما؟
وبعبارة
اخرى : إنَّ الجعل أو
الإرادة شرعاً هل تعلّق أحدهما بالجهر أو الإخفات ، أو أنّ كلّاً منهما أصل برأسه
، بمعنى تعلّق الجعل أو الإرادة بكلّ منهما بانفراده ؛ لانقسامها لجهريّة
وإخفاتيّة؟
قد يظهر الأوّل
من بعض ، كما قد يظهر الثاني من آخر ، والثالث من ظاهر الأكثر.
الاستدلال على أصالة الجهر
ويمكن
الاستدلال على الأوّل بقوله تعالى : ( وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ
بَيْنَ
ذلِكَ سَبِيلاً ) .
والتقريب من وجوه :
الأوّل
: سبب النزول ،
فإنَّ سبب نزولها كما عن العيّاشي عن أحدهما عليهماالسلام ـ : « أنَّه صلىاللهعليهوآله إذا كان بمكّة يجهر بصوته فيعلم بمكانه المشركون ،
فكانوا يؤذونه .
ولا يخفى
دلالته على مداومته على الجهر واستمراره عليه ، فيكون هو الأصل ، لكنّه صلىاللهعليهوآله أمر بالقراءة بالجهر الوسط دون الذي كان يجهر به أوّلاً
؛ صوناً لنفسه وعرضه عن الأذى ( وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحى ) .
وليس هذا نسخاً
، بل دفاعاً عنه ؛ إذ الضرورة تتقدّر بقدرها ، إلّا إنَّ في دلالة الاستمرار على
الأصالة نظراً متّجهاً.
الثاني
: أنَّ الجهر
والإخفات حقيقتان متضادّتان لا يجتمعان ؛ لعدم إمكان اجتماع الضدّين ، ولا يرتفعان
؛ لعدم انفكاك الكلام عنهما ، ولا بدّ من إرادة أحدهما ؛ لكونهما من مقولة الكيف
الذي هو من الأعراض ، وليس لنا سواهما.
ولا يجوز إرادة
الإخفات الوسط ؛ لعدم تصوّره ، أو ندرته وشيوع مقابله ، فليس المراد والله العالم
إلّا الجهر الوسط ؛ لمعقوليّة الجهر بالتشكيك على أفراد كثيرة ، لتفاوته قوّة
وضعفاً ، دون الإخفات. فالمراد حينئذٍ والله العالم ـ : وابتغ بين أدنى الجهر
وأعلاه سبيلاً. وهو المطلوب.
ولو أراد
البينيّة بين الجهر والإخفات لقال : وابتغ بين ذينك سبيلاً. إلّا أنْ يقال بلزوم
مثله على الأوّل أيضاً ، وبإمكان القول بارتفاع الضدّين ووجود فرد آخر في البين ،
فليتأمّل.
وما يقال من
إمكان إرادة الإخفات الوسط ؛ لكونه مشكّكاً كالجهر ، مردودٌ :
بأنَّ ( ذلك )
مشار به للجهر ؛ لأنَّه لا يشار به إلَّا للبعيد ، أوّلاً.
وبمنع كونه ذا
أفرادٍ ؛ لأنّه ليس له طرفان أدنى وأعلى ، ثانياً.
وبمنع كونه ذا
وسطٍ بين القوّة والضعف ، إذ حدّه إسماع النفس ، فإذا تجاوز إسماع
__________________
نفسه بلغ إسماع القريب الصحيح السمع ، وهو من الجهر ، بخلاف الجهر ، ثالثاً.
وبكونه فرداً
خفيّاً لو سلّم وجوده فلا ينصرف الإطلاق إليه ، لوجوب حمل كلام الشارع على الفرد
الشائع الذائع ؛ لحضوره في الذهن في أوّل وهلة ، بخلاف الوسط الجهري ؛ لكونه
مشهوراً مألوفاً ، رابعاً.
وبأنّ المنساق
إلى الفهم من قولنا لزيد : ( لا ترفع صوتك ولا تخفِه ) إنّما هو الأمر بالجهر
الوسط لا غير ، خامساً.
وبأنّه لو سلّم
إمكان وجوده بالقسمة العقليّة من أنّ كلّ ذي طرفين فله وسط ، إلّا إنّ العرف يقطع
بعدم الوسط في مثله ، ولهذا لا تكاد تسمع إخفاتاً وسطاً ، إذْ ليس في الأصوات إلّا
ما يسمع الإنسان نفسه ، وما يسمع القريب الصحيح السمع ، وما بينهما تقصر العبارة
عن تحديده ، بل لا يتعقّل إلّا بالفرض العقلي.
وما تشتمل عليه
القسمة العقلية الفرضيّة لا يلزم وقوعه واندراجه في أفراد الموجودات الخارجية ،
وله أمثلة كثيرة في علوم كثيرة ، فالوسط الحقيقي حينئذ مستحيل ، سادساً.
وللنصّ والإجماع على بطلان
الصلاة ممّن لم يُسمع نفسه في الإخفات ، سابعاً.
وأما قوله
تعالى ( فَانْطَلَقُوا وَهُمْ
يَتَخافَتُونَ ) حيث صدق الإخفات على إسماع الغير فهو محمول على ما كان
الغير أقرب للسمع من النفس ؛ لقربه من هواء الحرف بوضع الأُذن في فم المتكلّم ،
وانحراف أُذنه عن فمه ؛ لأنّه الفرد الشائع في المخافتة والمسارّة للغير.
فإن
قيل : قد روى
الكليني رحمهالله صحيحاً عن علي بن جعفر ، عن أخيه عليهالسلام ، قال : سألته عن الرجل يصلح له أن يقرأ في صلاته
ويحرّك لسانه بالقراءة في لهواته من غير أن يُسمع نفسه؟ قال : « لا
بأس ألّا يحرّك لسانه ، يتوهّم توهّماً » .
__________________
وروى
الحِمْيَري في ( قرب الإسناد ) ، عنه أيضاً ، عن أخيه عليهالسلام ، أنّه سأل عن الرجل يقرأ في صلاته ، هل يجزيه أن لا
يحرّك لسانه ، وأن يتوهّم توهّماً؟ قال : « لا بأس » .
وهما دالّان
على أنَّ أدنى الإخفات حديث النفس ، ووسطه إسماعها ، وأعلاه إسماع القريب الصحيح
السمع.
قلتُ
: لا نسلِّم
أنَّ حديث النفس أحد أقسام الإخفات ، بل الذي دلّ عليه متكاثر الأخبار وكلام
العلماء الأبرار أنّ ما لا يُسمع المرء نفسه من تصوّر الألفاظ في الذهن لا يسمّى
كلاماً ، فضلاً عن وصفه بالإخفات ؛ لوجوه :
الأوّل
: دلالة الأخبار
على أنّ أقلّه المجزي إسماع النفس لا حديثها ، لخلوّه عن التصوّر ، ففي صحيح زرارة
عن الباقر عليهالسلام : « لا يُكتب
من القرآن والدعاء إلّا ما أسمع نفسه » . وفي صحيح الحلبي
عن الصادق عليهالسلام : هل يقرأ الرجل في صلاته وثوبه على فيه؟ قال عليهالسلام : « لا بأس
بذلك إذا أسمع أُذنيه الهمهمة » .
الثاني
: نقل علّامة (
المنتهى ) ، ومحقّق ( المعتبر ) الإجماع على
أنّ الإخفات أن يُسمع نفسه لو كان سامعاً ، وما لا يُسمعها لا يسمّى كلاماً ولا
قراءة. ونحوه عن ( التذكرة ) ، و ( البيان ) ، و ( السرائر ) ، وغيرها. وأنّ أعلى الإخفات أن تسمع أذناك القراءة ،
وليس له حدّ أدنى ، بل إن لم تسمع أذناه القراءة فلا صلاة له ، وإن سَمِعَ مَنْ
على يمينه أو شمالاً صار جهراً.
والإنصاف
: أنَّه إن ثبت
فيهما مراد شرعي فهو ، وإلّا كان مدارهما على العرف العام ، كما اختاره غير واحد
من الأعلام.
الثالث
: أنَّ الإخفات
وصف للصوت ، ففي الدعاء : « وَهُوَ
يَدعُوكَ بصَوْتٍ حَائِلٍ
__________________
خَفِيٍّ » . ونمنع حصول صوت لا يمكن سماعه ؛ لأنّ الصوت هو
الكيفيّة المتموّجة بالهواء ، الحامل له إلى سماع الأُذن ، إمّا بالقرع أو القلع ،
على اختلاف الرأيين .
فظهر أنّ حديث
النفس ليس قسماً للإخفات ؛ لدخوله في حيّز العدم ، وإنّما اكتفي به لضرورة التقيّة
، وذلك أنَّه مخاطب بالصلاة معهم وبالقراءة لنفسه ، فلو أسمعها أفضى إلى الضرر
الواجب دفعه ، فجُعِل حكمه الاكتفاء بمثل حديثها تفضّلاً من المولى على مولاه ؛
دفعاً للحرج المنفي آيةً وروايةً ؛ ولدخولهما في عموم قوله عليهالسلام : « إذا أمرتم
بشيء فأتوا منه بما استطعتم » إذ « لا يسقط
الميسور بالمعسور » .
وإطلاق الخبرين
مقيّد بالتقيّة ، حملاً للمطلق على المقيّد.
والمستند ما
رواه الشيخ صحيحاً عن علي بن يقطين ، قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجل يصلّي خلف مَنْ لا يُقتدى بصلاته ، والإمام يجهر
بالقراءة؟ قال : « اقرأ لنفسك وإن لم
تُسمِع نَفسك فلا بأس »
، ومرسلاً عن محمّد بن
أبي حمزة ، عمّن ذكره ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « يُجزيك من
القراءة معهم مثل حديث النفس » .
فظهر أنّ حديث
النفس ليس قسماً للإخفات مستمراً في جميع الأوقات ، وإنّما هو قضية في واقعة ؛
تفضّلاً من ربّ السماوات ؛ دفعاً للضرر المتوقّع من أولئك الطغام الطغاة.
فإن
قيل : إنّ كلّ شيئين
حكم بالتغاير بينهما فلا بدّ من جهة امتياز لكلّ واحد منهما عن الآخر ، وإلّا لما
كانا اثنين.
قلنا
: إنَّ المراد
من الوسط المنفي للإخفات فرد وسط في القوّة والضعف بين فردين أحدهما قويّ والآخر
ضعيف ، لا الوسط الذي هو الاعتبار الذهني للشيئين
__________________
المتعدّدين ، وهو ما يتوهّمه الذهن بين ما به الامتياز للشيئين.
إلّا إنّ
المستفاد من الأخبار المفسّرة للآية الشريفة ثبوت وسط للإخفات أيضاً كالجهر ،
فأدناه المنهي عنه مثل حديث النفس ، ووسطه المأمور به إسماعها ، وأعلاه المنهي عنه
أيضاً إسماع الغير.
فعن العيّاشي ،
عن سَمَاعة ، عن الصادق عليهالسلام : « المخافتة
ما دونَ سمعِكَ ، والجهر أن ترفع صوتك شديداً » .
ورواه الكليني ، والشيخ ، عن سَمَاعة
مضمراً.
وعن القمّي
بسنده عن إسحاق بن عمّار ، عن الصادق عليهالسلام ، قال : « الجهرُ بها
رفع الصوت عالياً ، والتخافت ما لم تُسمع نفسك ، واقرأ ما بين ذلك » .
وعن العيّاشي ،
عن الصادق عليهالسلام
: « الجهر بها رفع الصوت ،
والمخافتة ما لم تسمع أذناك ، وما بين ذلك قدر ما تسمع أذنيك » .
وفي ( مجمع
البحرين ) : ( وابتغ بين ذلك بين الجهر والمخافتة سبيلاً وسطاً ) .
وحينئذٍ لا
يتمّ الاستدلال ، بل مقتضى قوله عليهالسلام في العيّاشي الثاني : « وما
بين ذلك قدر ما تسمع أذنيك » ، إن أريد به الوسط في
الإخفات لقربه وإنّ إلحاق الكاف باعتبار المخاطب لا المكان كما في نظائره فات
المطلوب ، وانعكس المراد. وإن أريد به الوسط منهما لزم ما لا يلتزمه المستدلّ من
تضادّهما عقلاً ؛ لاجتماعهما حينئذ في إسماع النفس ، بل تلازمهما ، فيلزم في
التمييز بينهما في مواضعهما العسر والحرج ، أو تكليف ما لا يطاق.
إلّا أن يتمّ
ما قيل في دفع المنافاة من أن مورد الاجتماع لا يجتزى به في شيء من الصلوات ،
ولعلّه خلاف النصّ والإجماع.
نعم ، لا يبعد
دفعها بتقييد الغير في إسماع أعلى الإخفات بالغير الذي يكون
__________________
سمعه أقرب لفم المتكلّم من أُذن نفسه ؛ لاندراجه حينئذ في الإسرار والإخفات
، والله العالم.
الثالث
من وجوه التقريب : صحيح عبد الله بن سنان ، المرويّ في ( الكافي ) و ( تفسير العيّاشي ) ، قال :
سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الإمام ، هل عليه أن يُسمع مَنْ خلفه وإن كثروا؟ قال
عليهالسلام
: « ليقرأ قراءة وسطاً ؛
إنّ الله يقول ( وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) » الحديث.
والتقريب
: أنّ المتبادر
من قوله عليهالسلام : « قراءة
وسطاً » الجهر الوسط في القراءة ؛ لأنّه في مقام البيان ، مع أنّ السؤال عن غاية
الجهر ، وحدّ إسماع الإمام من خلفه.
وفيه
: أنَّ أمر
الإمام بالقراءة بالجهر الوسط في الصلاة الجهريّة لا يقتضي انحصار الوسطيّة فيه
دون الإخفات الذي هو مناط الاستدلال والإثبات.
الرابع
: استدلال قدماء
الأصحاب كالصدوق وأضرابه بل متأخّريهم أيضاً بهذه الآية
على القراءة بالجهر الوسط.
وفيه
: أنَّ محلّ
النزاع إنّما هو انحصار الوسط في الجهر دون الإخفات ؛ ليتوجّه الأمر إليه أوّلا
وبالذات. والاستدلال إنّما هو على انحصار الأمر بالقراءة في الوسط من الجهر
والإخفات.
هذا وقد أُيِّدت أيضاً أصالة الجهر بأُمورٍ :
الأوّل
: الأخبار
الواردة بأنّ الصلاة تحميد ودعاء وتسبيح وتكبير وثناء ، فالجهر حينئذ أوْلى من
الإخفات ، كما صرّح به بعض الثقات ، قائلاً : ( إنَّه صريح بعض أخبار الهداة ).
وفيه : أوّلاً : أنَّ قصاراه كون الصلاة من الذكر للملك العلَّام ، وهو
لا يقتضي المشاركة في جميع الأحكام.
وثانياً
: أنَّ ما ادّعي
صراحته معارض بظاهر قوله تعالى ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ
فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً
__________________
وَخِيفَةً
وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) . فإنَّ ظاهره أفضليةُ الإسرار بالأذكار بالأقربيّة
للقبول والإخلاص ، وأبعديّته عن الرياء من الإجهار.
وفي الكافي عن
الصادق عليهالسلام
قال الله تعالى
: مَنْ ذكرني سرّاً ذكرتُهُ عَلانية .
وعن أمير
المؤمنين عليهالسلام
: « مَن ذَكَرَ الله فِي
السرِّ فَقَد ذَكَر الله كثيراً ، إنَّ المنافقين كانُوا يذكرون الله علانيةً ،
ولا يذكرونَهُ في السرِّ ، فقالَ اللهُ تعالى ( يُراؤُنَ النّاسَ
وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلّا قَلِيلاً ) .
وثالثاً
: أنَّ الصلاة
كلّها توقيفيّة ، كمّيّة وكيفيّة ، فلا يثبت شيء منهما بالاستحسانات الظنّيّة ،
ولا مسرح فيهما للاعتبارات العقليّة.
الثاني
: الأخبار
المتضمّنة لكيفيّة صلاة النبيّ صلىاللهعليهوآله ليلة الإسراء. ومنها ما رواه الصدوق رحمهالله في الصحيح ، بإسناده عن محمّد بن حمران ، عن الصادق عليهالسلام ، في حديث قال فيه : « إنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لمّا أسري به إلى السّماء ، كان أوّل صلاة فرض الله
عليه الظهر يوم الجمعة ، فأضاف الله عزوجل إليه الملائكة تصلّي خلفَه ، وأمر نبيّه صلىاللهعليهوآله أن يجهر بالقراءة ليبين لهم فَضْله » .
وفيه
: أنَّه ظاهر في
أنَّ الجهر حينئذ إنَّما هو لخصوصية الجماعة وظهر الجمعة ، ولهذا تركه في العصر
لمّا لم يضف إليه الملائكة.
فقصاراه
الدلالة على أصالته في الجماعة في نهار الجمعة ، ظهراً أو جمعة ، والمدّعى إنّما
هو الأصليّة على وجه الكليّة.
الثالث
: أنَّ الأصل
يقال على الدليل والاستصحاب والراجح والقاعدة ، ولا يخفى عدم إرادة الأوّل ،
فتعيّن إرادة الثلاثة الأُخر.
فأمّا الرجحان
؛ فلما عرفت من أنّ الصلاة إنّما هي تحميد ودعاء وذكر وثناء ، فالراجح فيها الجهر
كما مرّ التصريح به من البعض.
__________________
وأمّا القاعدة
؛ فلأنّ المراد بها هنا الأمر المستمر كالقانون ، وقد عرفت مداومة النبيّ صلىاللهعليهوآله على الجهر واستمراره عليه.
وأمّا
الاستصحاب ؛ فلما دلّ عليه صحيح محمّد بن حمران من أنّ أوّل صلاة شرّعت إنّما هي
بالجهر ، فيرجع إليه حالة الشكّ في الحكم.
ولا يخفى ما
فيه من عدم الدلالة والتأييد ، بعد الإحاطة بما ذكرناه من القول السديد.
أمّا رجحان
الجهر في الأذكار والاستمرار ، فقد عرفت ما فيهما من المنع والإنكار.
وأمّا
الاستصحاب فلتغيّر الموضوع بفوات الخصوصيّات المأخوذة قيداً فيه ، كما لا يخفى على
نبيه ، ولو للشكّ في بقاء الموضوع مع القطع بزوال بعض القيود.
وحينئذ ، فما
جنح إليه البعض من احتمال أصالة الجهر بعد ما وقفت على ما حرّرناه لا يعوّل عليه
ولا يستند إليه.
الاستدلال على أصالة الإخفات
ومثله ما استند
له بعض الإثبات من احتمال أصالة الإخفات ، قال رحمهالله محشّياً على صحيح الفضل بن شاذان المعلّل للجهر
في بعض الصلوات دون بعض بأنّ الصلوات التي يجهر فيها إنّما هي في أوقات مظلمة ،
فوجب أنْ يجهر فيها ليعلم المارُّ أنَّ هنا جماعة تصلّي ، وصحيح محمّد بن حمران المعلّل للجهر
في الجمعة والعشاءين والغداة ، والإخفات في الظهرين ، وخبر يحيى بن أكثم المعلّل للجهر
في الصبح بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان يغلس بها ما لفظه :
( لعلّ فيه
دلالة على أنّ أصل الصلاة بالإخفات ، وإنَّما جهر في بعض الصلوات لعلّةٍ ، هي
إعلام المارّ بأنّ هناك جماعة تصلّي. بل هو صريح في أنّ الصلوات التي يجهر فيها
إنّما هي في أوقات مظلمة ، فوجب أن يجهر فيها للعلّة المذكورة. وفي
__________________
الحديث الثاني دلالة على أنّ إجهار النبيّ صلىاللهعليهوآله بصلاة الجمعة والمغرب والعشاء إنّما هو لأجل تبيين فضله
عند الملائكة ، والإجهار في الصبح لأجل تبيين فضله عند الناس. وفي الحديث الثالث
أنَّه إنّما جهر بها ؛ لأنّه عليهالسلام يغلس بها ) انتهى كلامه ، علت في الخلد أقدامه.
أقول
: لا يخفى أنّ
ما ذكره غير ناهض بالمدَّعى ، إذ التعليل لم يتوجّه إلى نفس الجهر من حيث هو ،
وإنّما توجّه إلى ما هو أعمّ منه ؛ وذلك أنّه لمّا انتقش في ألواح الفِطَن السليمة
، وانغرس في حدائق الفِطَر المستقيمة غير السقيمة ، قبحُ ترجيح أحد المتساويين بلا
مرجّح ، توجّه السؤال عن جعل الجهر في بعض الصلوات ، والإخفات في بعضها ، حيث قد
صدر من الحكيم المطلق ، وكانت تلك الصلوات بأسرها مرادة له ، فأُجيب بوجه الترجيح.
الاستدلال على أصالة كلّ من
الجهر والإخفات
والتعليل لا
ينافي الأصالة كما يحكم به الذهن الرجيح ، وقد ثبت أنّ العلل الشرعية إنّما هي
معرِّفات تقريبية لا حقيقية ، فهي إمّا للتقريب للإفهام القاصرة بالنكت الظاهرة ،
أو لبيان وجه المصلحة أو الداعي والحكمة.
وأيّا ما كان
لا يلزم عدم الأصالة ، ألا ترى أنّ أصل فرض الصلاة إنّما هو القصر مثنىً مثنىً ،
كما نطقت به أخبار أهل الذكر عليهمالسلام ، مع أنّ قصر الرباعية في السفر وردّها إلى الأصل معلّل
بالتخفيف من الله تعالى على عبده « لموضع سفره
ونصبه ، واشتغاله بأمر نفسه ، وظعنه وإقامته ؛ لئلّا يشتغل عمّا لا بدّ منه في
معيشته ، رحمة من الله ، وتعطّفاً عليه » ، كما في الخبر.
بل لو كان
مجرّد التعليل منافياً للتأصيل لزم انقلاب الدليل ؛ إذ قد تضمّن صحيح الفضل تعليل عدم
الجهر في صلاة النهار ؛ لكونها في أوقات مضيئة ، فهي من جهة
__________________
الرؤية لا يحتاج فيها إلى السماع ، وصحيح حمران تعليل عدم
الجهر في العصر بأنَّه لم يكن وراء النبيّ صلىاللهعليهوآله أحد. فأيّ فرق بين هذين التعليلين ليصحّ أحد الدعويين؟
فظهر أنّ القول
المشهور من أصالة كلٍّ منهما برأسه هو المؤيّد المنصور وإن كان تعليله بانقسام
الصلاة لجهريّة وإخفاتيّة لا يخلو من قصور ؛ إذ الجهر والإخفات من الأوصاف الخارجة
عن الماهيّة لا المنوّعة. وإلى الله ترجع الأُمور.
__________________
المقدمة الثانية
في تحرير محلّ النزاع
اعلم سُقيت
بكأس التوفيق ، وكُفيت حوادث التعويق أنّ الصلاة ؛ إمّا ثنائيّة ، أو ثلاثيّة ، أو
رباعيّة ، وعلى تلك التقادير فالمصلّي ؛ أمّا إمامٌ ، أو مأموم ، أو منفرد ، وعلى
تلك التقادير فهي ؛ إمّا جهريّة ، أو إخفاتيّة ، أو مركّبة من الجهر والإخفات ،
وعلى تلك التقادير فالبسملة ، إمّا في الأُوليين ، أو الأخيرة ، أو الأخيرتين.
فالأقسام
الحاصلة بحسب القسمة العقليّة أربع وعشرون صورة حاصلة من ضرب
ثمانية في ثلاثة كما لا يخفى على ذي رويّة ، وإنْ أردت معرفتها
بالطريق الأسهل فعليك بملاحظة هذا الجدول ، فتأمّله تجده إن شاء الله تعالى صحيحاً ، وفي المقصود
واضحاً صريحاً :
البسملة في ثنائية جهريّة
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
البسملة في ثنائية إخفاتية
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
ثلاثيّة مركّبة من الجهر
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
والإخفات والبسملة في الأُوليين
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
ثلاثية مركّبة
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
والبسملة في الأخيرة
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
__________________
رباعية إخفاتية
والبسملة في الأُوليين
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
رباعية إخفاتيّة
والبسملة في الأخيرتين
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
رباعيّة مركبة
والبسملة في الأُوليين
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
رباعية مركّبة
والبسملة في الأخيرتين
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
وقد خرج عن
محلّ النزاع أقسام الإمام والمنفرد في أُوليي الجهريّة ثنائيّة وثلاثيّة ورباعيّة
وأولتي الإخفاتيّة.
أمّا في أُوليي
الجهريّة ؛ فللإجماع المنقول ، بل المحصّل على وجوب الجهر بها في ما يجب الجهر فيه ؛
لأنّها آية من الحمد والسورة ، فيجب الجهر بها كما يجب الجهر بهما.
وأمّا في
أُوليي الإخفاتية ؛ فللإجماع أيضاً على جواز الجهر بها فيهما بالمعنى الأعمّ ، وإن
اختلف في أنّه على الوجوب أو الاستحباب ، إلّا من ابن الجنيد ، حيث خصّ
الجهر بها بالإمام دون المنفرد.
ذكر الخلاف في قراءة المأموم خلف الإمام
وأمّا أقسام
المأموم فتبتني على جواز القراءة خلف الإمام المرضي وعدمه ، ولقد انتصلت فيها سهام
النقض والإبرام حتى زلّت فيها أقدام أقلام ، وضلّت فيها أفهام أعلام ، حتى قال
شيخنا الشهيد الثاني قدسسره في ( روض الجنان ) : ( لم أقف على خلاف في مسألة في
الفقه يبلغ ذلك المقدار ) ، حيث قد بلغت الأقوال فيها على ما قيل ـ
__________________
ثلاثة عشر قولاً أو ستّة عشر قولاً تعرف من مطوّلات فقهائنا الأبرار ، ولا
بدّ من ذكر انموذجٍ منها في هذا المضمار.
وتحرير المقام
على وجه يتّضح به فجر المرام أن يقال : إنّ الصلاة ؛ إمّا جهريّة أو سريّة. وعلى
الأوّل ، فإمّا أن يسمع المأموم سماعاً عامّاً ، أو سماعاً ما ، أو لا يسمع أصلاً
وعلى التقديرات ، فإمّا أن يكون في الأُوليين أو الأخيرتين ، وإمّا أن يكون
مسبوقاً ، أو لا.
وقبل ذكر
الأقوال لا بأس بذكر عبارة ( السرائر ) لاشتمالها على الإشارة للروايات الصالحة
على اختلافها للاستدلال ، قال رحمهالله في باب صلاة الجماعة : ( واختلف الرواية في القراءة خلف
الإمام الموثوق به ، فروي أنّه لا قراءة على المأموم في جميع الركعات والصلوات ،
سواءً كانت جهريّة أو إخفاتيّة ، وهي أظهر الروايات والتي يقتضيها المذهب ؛ لأنّ
الإمام ضامن للقراءة بلا خلاف بين أصحابنا. ومنهم من قال يضمن للقراءة والركوع
والسجود ؛ لقولهم عليهمالسلام « الأئمّة
ضمناء ».
وروى أنّه : « لا
قراءة على المأموم في الركعتين الأُوليين في جميع الصلوات التي يخافت فيها
بالقراءة أو يجهر بها ، إلّا أن تكون صلاة جهر لم يسمع فيها المأموم قراءة الإمام
فيقرأ لنفسه ».
وروى أنه : « ينصت
في ما جهر الإمام فيه بالقراءة ولا يقرأ هو شيئاً ، ويلزمه القراءة في ما خافت ».
وروى أنّه : « بالخيار
في ما خافت فيه الإمام ».
فأمّا الركعتان
الأخيرتان فقد روي أنه : « لا قراءة
على المأموم فيهما بل تسبيح ».
وروى أنّه : « يقرأ
فيهما أو يُسبّح » ، والأوّل أظهر ؛ لما قدّمناه ) . انتهى.
إذا تقرّر هذا
، فابن إدريس وسلّار والصدوق أسقطوا القراءة في جميع هذه الأقسام ؛ للأخبار الصحاح
الصراح في النهي عن القراءة خلف الإمام المرضي.
__________________
فمنها
: ما رواه
المشايخ الثلاثة صحيحاً عن زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، والبرقي في ( المحاسن ) ، عن
حمّاد بن عيسى ، وابن إدريس في ( السرائر ) نقلاً من كتاب حريز ، كلّهم عن الباقر عليهالسلام ، قال : « كان أمير
المؤمنين عليهالسلام يقول
: من قرأ خلف إمام يأتمّ به فمات ، بعث على غير الفطرة » .
وعن الحلبي عن
الصادق عليهالسلام ، قال : « إذا صلّيت
خلف إمام تأتمّ به فلا تقرأ خلفه ، سمعت قراءته أو لم تسمع » .
وما رواه الشيخ
وابن إدريس بتفاوتٍ يسيرٍ صحيحاً عن زرارة ، عن الباقر عليهالسلام ، قال : « إنْ كنت
خلف إمام فلا تقرأنّ شيئاً في الأُوليين ، وأَنْصِت لقراءته ، ولا تقرأنّ شيئاً في
الأخيرتين » ، وإطلاقه مقيّد بالمرضي إن لم ينصرف الإطلاق إليه. إلى
غير ذلك من الصحاح الصراح ، وأخبار ضمان الإمام للقراءة.
مضافاً لقوله
تعالى ( وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) .
بعد تخصيصها
بما في صحيح زرارة : « وإن
كنت خلف الإمام فلا تقرأنَّ » ، مستشهداً فيها بها.
إلّا إنّهم
اختلفوا :
فابن إدريس والصدوق نصّا على
التحريم ، وقوفاً على ظاهر الأخبار.
وهو ظاهر أبي
الصلاح في ( الكافي ) ، حيث قال في صلاة الجماعة : ( ولا يقرأ خلفه في الأُوليين
من كلّ صلاة ، ولا في الغداة ، الا أن يكون بحيث لا يسمع قراءته ولا صوته في ما
يجهر فيه فيقرأ. وهو في الأخيرتين من الرباعيات وثالثة المغرب بالخيار بين قراءة
الحمد والتسبيح ، والقراءة أفضل ) . انتهى. بناءً على إفادة الجملة الخبريّة الوجوب.
__________________
وسلّار جعل تركها
مستحبّاً ، وروى القول بالتحريم واستثبت الاستحباب.
وسائر الأصحاب
على إباحة القراءة في الجملة.
المسألة الأُولى : في الصلاة
الجهريّة وسماع تمام القراءة
وتفصيله
: أنّ الصلاة
إنْ كانت جهريّة وسمع القراءة كملاً في الأُوليين فقد نقل الشهيد الأوّل رحمهالله في ( شرح نكت الإرشاد ) ، والثاني في (
روض الجنان ) ، والعلّامة الشيخ سليمان الماحوزي رحمهالله في رسالة له في ذكر أقوال المسألة ، الإجماع على سقوط
القراءة ، وإن اختلفَ في أنّ السقوط على جهة الوجوب بحيث تحرم القراءة ، أو
الاستحباب فتجوز ، فالمشهور هو التحريم ؛ لتلك الآية والصحاح المذكورة.
وقال بعضٌ منهم
العلّامة والمحقّق بالكراهية ، بل في ( الدورس ) جعلها أشهر
القولين فيها كالسريّة. وعن ظاهر ( التنقيح ) و ( النجيبيّة ) الإجماع على استحباب الإنصات ممّن عدا ابن حمزة .
واستدلّ
للكراهة بصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج عن الصادق عليهالسلام ، وفيه : « إنّما أُمر
بالجهر لينصت من خلفه ، فإن سمعت فأنصت ، وإن لم تسمع فاقرأ » .
والتقريب
فيه : إشعار الإنصات
بالاستحباب بناءً على مجامعته القراءة سرّاً ، استناداً إلى ما رُوي أنّه قيل
للنبيّ صلىاللهعليهوآله : ما تقول في إنصاتك؟ قال : « أقول
.. اللهمَّ اغسلني من خطاياي » ، وما في خبر زرارة : « إذا كنت
خلف إمام تأتمّ به فأنصت ، وسبّح في نفسك » .
وعن الثعلبي : (
قد يسمّى الرجل مصمتاً وهو قارٍ ومسبّح إذا لم يكن جاهراً بالقراءة ).
__________________
وحملوا أخبار
الأمر بالإنصات على الاستحباب ، وأخبار النهي عن القراءة على الكراهة ، وكلاهما لا
يخلو من نظر.
أمّا
الأوّل ؛ فلأنّ مقابلة
الإنصات عند السماع في الجهريّة بالقراءة عند عدم السماع فيها ممّا يدلّ على أنّ
المراد بالإنصات عدم القراءة ، فيكون دليلاً للمحرّم لا عليه.
وأمّا
الثاني ؛ فلأنّ حملَ
هذه الأخبار المتكثّرة على الندب والكراهة من غير معارض خروجٌ عن ظاهر اللفظ بلا
دليل ، كما لا يخفى على نبيه نبيل ، مع أنّ فيها ما يأبى الحمل على الكراهة ،
كصحيح زرارة ومحمّد بن مسلم ، الدالّ على أنّ من قرأ خلف إمام يأتمّ به بعث على غير
الفطرة ، فتأمّل.
مبنى الخلاف في المسألة
الأُولى
وهل الخلاف في
الحرمة والكراهة مبني على الخلاف في وجوب الإنصات واستحبابه فيجزي الخلاف في
الأذكار ، أم لخصوص قصد الجزئيّة بها حرمةً أو كراهةً؟
وجهان ، بل
قولان ، وربّما يشهد للأوّل الظواهر المعلّلة لترك القراءة بالأمر بالإنصات. لكن
ينافيه تنافي الشهرتين في المسألتين ، بل لم ينقل شرطيّة الإنصات في صحّة القراءة
إلّا عن ابن حمزة ؛ لجعله من واجبات الاقتداء الإنصات لقراءة الإمام.
كما يشهد
للثاني تعليل النهي عن القراءة بالبعث على غير الفطرة ، إلّا أن يحمل على إرادة
القراءة بقصد اللزوم ، كما هو قول الخصوم ، إذ بعثهم على غير الفطرة معلوم.
ولعلّ الأشهر
الثاني ، ويؤيّده فحوى ما في خبر حُمَيْدِ بن المثنى ، بل صحيحه ، عن الصادق عليهالسلام : أكون خلف الإمام وهو يجهر بالقراءة ، فأدعو وأتعوّذ؟
قال : « نعم ،
__________________
فادعُ » . إذ لو كان
التحريم لمنافاته الإنصات لحرم كلّ ما ينافيه من الدعاء والذكر ، إلّا أن يحمل على
ما مرّ من الجمع بين الاستماع والدعاء والذكر ، أو على ما قبل شروع الإمام في
القراءة والدعاء عند آية الرحمة ، والتعوّذ عند آية النقمة ؛ للنصّ الخاصّ ، أو
عدم سماع المأموم. والله العالم.
المسألة الثانية : في سماع
الهمهمة
وإنْ سمع
الهمهمة فقط فكالأوّل في نقل الإجماع على السقوط في الجملة ، والخلاف في أنّه على جهة الوجوب
فتحرم القراءة ، أو الاستحباب فتكره ، والخلاف في تعليل وجه الحكم ، فالأكثر على
التحريم هنا أيضاً كالأوّل ؛ لخصوص صحيح قُتَيْبَة عن الصادق عليهالسلام ، وفيه : « فإن كنت
تسمع الهمهمة فلا تقرأ » ، وصحيح عُبَيْدِ بن زرارة عنه عليهالسلام ، وفيه : « إن سمع
الهمهمة فلا يقرأ » ، وموثّق سماعة : « إذا سمع
صوته فهو يجزيه ، وإذا لم يسمع صوته قرأ لنفسه » ، وعموم غيرهما ؛ لصدق سماع القراءة عليه وإن لم يكن
سماعاً تامّاً. ومن قال بالكراهة هناك قال بها هنا ، والدليل الدليل ، والجواب
الجواب.
ونقل عن الشيخ رحمهالله في ( التهذيب ) هنا التخيير بين القراءة والترك ؛ لصحيح عليّ بن يقطين
، وفيه : « لا بأس إن صمتَّ وإن
قرأ » .
وفي الدلالة
نظر ، وفي النقل مناقشة :
أمّا
الأوّل ؛ فلكون التخيير
مسوقاً في السؤال عمّن لا يسمع القراءة ، ومن سمع الهمهمة يصدق عليه أنّه سمع
القراءة وإن لم يكن سماعاً تامّاً يميّز بعض الألفاظ عن بعض.
وأمّا
الثاني ؛ فلأنّ ظاهر
كلامه في ( التهذيب ) خلاف ذلك ، فإنّه قال فيه : ( وإذا صلّيت
__________________
خلف من يُقتدى به فلا يجوز لك أن تقرأ خلفه في سائر الصلوات ، سواء كان
ممّا لا يجهر فيها بالقراءة أو ممّا يجهر ، وعليك أن تسبّح الله وتهلّله ، اللهمّ
إلّا أن تكون صلاة يجهر فيها بالقراءة ولا تسمعها أنت فإنّه حينئذٍ يجب عليك
القراءة ، وإنْ سمعت شيئاً من القرآن أجزأك وإنْ خفي عليك بعضه ) .
إلى أنْ قال : (
وقد بيّنا أنّه إذا سمع مثل الهمهمة أجزأه ، وقد رُوي أيضاً أنّه : « إذا
لم يسمع القراءة في ما يجهر بالقراءة فيه فهو بالخيار ، إن شاء قرأ وإن شاء لم
يقرأ حسب ما يراه ». والأحوط ما قدّمناه ) . ثمّ استدلّ
عليه بصحيح ابن يقطين المذكور .
وفيه : تنبيه على خلل في السند.
إلا أن سنده في
الكتاب المزبور قد اشتمل على خلل مشهور ، حيث رواه عن سعد بن عبد الله ، عن أبي
جعفر يعني به أحمد بن محمّد بن عيسى بقرينة غيره عن الحسن بن علي بن يقطين ، قال :
سألت أبا الحسن الأوّل عليهالسلام .. الى آخره. إذ الحسن لم يلق أبا الحسن الأوّل ،
فالصواب : عن أبي جعفر ، عن الحسن بن علي بن يقطين ، عن أخيه الحسين بن علي بن
يقطين ، عن أبيه علي بن يقطين ، قال : سألت .. إلى آخره. كما وقع في هذا الباب بعد
عدّة أخبار ، وبه صرّح هنا في ( الاستبصار ) .
وكيف كان ، فلا
يخفى أنّه إنّما نسبه إلى الرواية ، وجعل الأحوط ترك القراءة ، كما لا يخفى على ذي
دراية.
المسألة الثالثة : في عدم
سماع القراءة
وإنْ لم يسمع
أصلاً جازت القراءة بالمعنى الأعمّ ، وفي ( الرياض ) : ( أطبق الأكثر بل الكلّ عدا
الحلّي عليه ) ، وبه أفتى المفيد ، وشيخ الطائفة ، والمرتضى ،
__________________
وأبو الصلاح ، والفاضلان ، والشهيد ، إلّا إنّ السيّد والشيخ في غير ( الخلاف ) كـ ( التهذيب ) أفتيا بالوجوب
؛ استناداً لظاهر الأمر بالقراءة في صحيح الحلبي المتقدّم ، وفيه « إلّا أن تكون
صلاة يجهر فيها بالقراءة ولم تسمع فاقرأ » . وصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج المتقدّم ، وصحيح قتيبة
المتقدّم أيضا ، وفيه « إذا كنت خلف إمام ترتضي به في صلاة يجهر فيها بالقراءة فلم
تسمع قراءته ، فاقرأ أنت لنفسك » وهو الظاهر أيضا مما مرّ في عبارة أبي الصلاح ، بناء
على أن مراده من عدم سماع الصوت القسيم لعدم سماع القراءة عدم سماع الهمهمة. وعن
الفاضلين والشهيد التصريح هنا بالاستحباب. إلّا إن في استفادته من الجميع نظرا.
[ وقال
العلّامة والمحقّق والصدوق بالاستحباب ، واختاره العلّامة الشيخ سليمان الماحوزي
وصرّح بأنّه المشهور ، وتلميذه المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح السماهيجي ،
والمحدّث المحسن الكاشاني ، والمحقّق المنصف الشيخ يوسف ، وابن أخيه
الشيخ حسين ] ؛ حملاً لأخبار الوجوب على الاستحباب ، جمعاً بينه
وبين غيره ، كصحيح بن يقطين السابق .
وقال ابن إدريس
والشيخ على ما نقل عنه في ( الخلاف ) بالتحريم ؛ لعموم الأخبار الناهية عن القراءة خلف
المرضي.
وعن الديلمي الكراهة ؛
حملاً لأخبار التحريم عليها.
__________________
والظاهر
الاستحباب ، كما هو المشهور بين الأصحاب ؛ لصحيح بن يقطين السابق ، ولعدم نصّ في
الباب ، وعليه يحمل ما ظاهره الإيجاب.
وأمّا أخبار
النهي عن القراءة الشامل لموضع النزاع ، فهي مخصّصة بما دلّ عليها مع عدم السماع ؛
لوجوب تقديم الخاصّ على العامّ.
وأمّا الأخبار
الدالّة على وجوب الإنصات المستشهد فيها بالآية الكريمة عليه فلا
دلالة لها على المدّعى ؛ إذ الأمر بالإنصات معلّل بقراءة القرآن ، ولا معنى
للإنصات لشيء لا يسمع أصلاً ؛ إذ المعلول عدم عند عدم علّته.
وأمّا الحمل
على الكراهة فلا حاجة إليه ولا تعويل عليه ، ولا فرق في عدم السماع بين كونه
لبُعدٍ أو صممٍ أو مزاحمة أصوات ؛ لدخول الجميع في إطلاق صدق عدم السماع.
المسألة الرابعة : في سماع
بعض القراءة
وإن سمع بعضاً
دون بعضٍ ، فهل تجب القراءة كَمَلاً ؛ لأصالة عدم السقوط إلّا بسماع الجميع ، أو
القراءة عند عدم السماع وعدمها عنده مع مراعاة الترتيب ، أو لا تجب أصلاً كالمسموع
كَمَلاً؟ وجوهٌ ، أوسطها أوسطها ، فيبتدئ بما لم يسمعه ، فإنْ سمع في الأثناء
شيئاً اعتدّ به ، مراعياً عدم الإخلال بالترتيب بين المسموع وغيره ، معيداً لما
يتوقّف النظم عليه بقصد المقدّمة لإحراز النظم. والله العالم.
وعلى تقدير
القول بالقراءة ، فهل المراد قراءة الفاتحة والسورة ، أو الفاتحة وحدها؟ خلافٌ.
وظاهر جماعة
الأوّل ؛ لأنّه المتبادر من إطلاق القراءة في الأخبار ، وكلام علمائنا الأخيار.
وعن الشيخ رحمهالله وجماعة بأنَّ المراد قراءة الفاتحة وحدها ؛ لأنّها القدر
المتيقّن ، ولا يخفى ما فيه ، والله العالم.
__________________
المسألة الخامسة : في أخيرتي
الجهريّة أو أخيرتها
وإن كان في
أخيرتي الجهريّة أو أخيرتها ، ففي ( الروض ) ورسالة الشيخ سليمان الماحوزي
المعقودة لذكر أقوال قراءة المأموم : ( فيها أقوال :
وجوب القراءة
مخيّراً بينهما وبين التسبيح كالمنفرد ، وهو قول أبي الصلاح وابن زهرة .
واستحباب قراءة
الحمد وحدها ، وهو قول الشيخ رحمهالله.
والتخيير بين
قراءة الحمد والتسبيح استحباباً ، وهو ظاهر جماعة منهم العلّامة في ( المختلف ) ) . انتهى.
قيل
: والمشهور هو
التخيير بين قراءة الحمد والتسبيح وجوباً ، سواء كان الإمام فيهما قارئاً أو
مسبّحاً ، بل صرّح في ( الفرحة الإنسية ) بالإجماع على هذا التخيير ، إلّا إنّه لم يفصّل بين
أخيرتي الجهريّة والإخفاتيّة ، كما لم يصرّح بوجوبٍ ولا ندبٍ ، لكنّه جعل الأحوط
تقييد التخيير بما إذا لم يقرأ الإمام في الأخيرتين ، ولعلّ منشأ الإجماع على
تخيير المصلّي مطلقاً بين القراءة والتسبيح ، مع أنّ كلام عمّه الشيخ يوسف صريح في
اختصاص التخيير بغير المأموم.
ونسب بعض
الفضلاء وجوب القراءة مخيّراً بينها وبين التسبيح في الجهريّة والإخفاتيّة للأكثر
وأبي الصلاح وابن زهرة والمرتضى .
ونقل الشهيد في
( نكت الإرشاد ) عن السيّد المرتضى وأبي الصلاح استحباب القراءة ، وهو صريح عبارته السابقة وإن كانت
مطلقة. وحكاه عن ظاهر الشيخ أيضاً ؛ لإطلاقه
قراءة الحمد في ما لا يجهر فيه.
__________________
وهو مقتضى ما
في ( الروض ) ، والعبارة منقولة عنه في ما سيأتي ، حيث قال : ( ويستحبّ أن يقرأ
الحمد وحدها في ما لا يجهر الإمام فيها بالقراءة ) .
وحكى العلّامة
الماحوزي في بعض رسائله عن المرتضى أنّه قال : ( فالأوْلى أنْ يقرأ المأموم في
الأخيرتين أو يسبّح ) .
وقال : ( ويعزى
إلى أبي الصلاح أنّه أوجب على المؤتمّ القراءة أو التسبيح فيهما ، وإلى ابن زهرة
أنّه قال : حكم المؤتمّ في الأخيرتين وثالثة المغرب حكم المنفرد ) انتهى.
وعن ظاهر (
العزّية ) أن أشهر الأقوال كراهة القراءة.
وكلّ هذه
الأقوال لا تنافي التخيير ، فتخرج هذه الأقوال عن المنافاة والتعدّد والتكثير ،
وترجع إلى وحدة مركز التخيير والاختلاف في التساوي أو الترجيح ، كما يحكم به الذوق
السليم ، وسيأتي إنْ شاء الله في أخيرتي الإخفاتيّة أنَّ في نسبة هذه الأقوال
والتخصيص بأخيرتي الجهريّة مناقشة جليّة.
وممّا يدلّ على مرجوحيّة
القراءة :
صحيح زرارة
الناهي عن القراءة في الأخيرتين ، تارةً بقوله : « ولا
تقرأنَّ شيئاً في الأخيرتين ، فإنَّ الله عزوجل يقول
للمؤمنين ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) يعني
في الفريضة خلف الإمام ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) . وتارةً بقوله : « والأخيرتان تبعاً
للأوليين » .
ورواية معاوية
بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين ، قال : « الإمام
يقرأ فاتحة الكتاب ، ومَنْ خلفه يسبّح ، فإذا كنت وحدك فاقرأ فيهما ، وإن شئت
فسبّح » .
وإطلاق رواية
جميل بن درّاج ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عمّا يقرأ الإمام في الركعتين في آخر الصلاة ، فقال : « بفاتحة
الكتاب ، ولا يقرأ الّذين خلفه » .
__________________
مضافاً لإطلاق
ما دلّ على أفضليّة التسبيح على القراءة مطلقاً.
واستدلّ
للقائلين باستحباب قراءة الحمد وحدها كالشيخ برواية ابن سنان ، عن أبي عبد الله عليهالسلام : « إنْ كنت
خلف الإمام في صلاةٍ لا يجهر فيها بالقراءة ، .. فلا
تقرأ [ خلفه ]
في الأُوليين ». وقال : « يجزيك
التسبيح في الأخيرتين ». قلت : أي شيءٍ تقول أنت؟ قال : « اقرأ
فاتحة الكتاب » .
لأنّه مسوق
لبيان ما فوق المجزي ، فإنّه عليهالسلام لمّا أخبره بإجزاء التسبيح في الأخيرتين ، استشعر أنّ
هنا شيئاً فوق المجزي فسأل عنه ، فأجابه بأنّه قراءة الفاتحة.
وما في رواية
أبي خديجة عنه عليهالسلام
: « فإذا كنت في الأخيرتين
فعلى الذين خلفك أنْ يقرءوا فاتحة الكتاب » .
وفيه مع ظهور أوّلهما في الإخفاتيّة ، وثانيتهما في خلاف
الاستحباب ، وما في متنها من الاضطراب ، حتى بعض المتأخّرين صحّف «
الأخيرتين » في قوله عليهالسلام
: « وعلى الإمام أن يسبّح
مثل ما يسبّح القوم في الركعتين الأخيرتين » بـ ( الأُوليين ). وبعض المحقّقين أوّلهما بأنّهما تثنية
الأُخرى ، لا الأخيرة أنّهما معارضان بما هو أكثر عدداً ، وأصحّ وأقوى سنداً ،
وأوضح دلالةً ، وأصرحُ مقالةً ، والله العالم ومعدن الرسالة.
المسألة السادسة : في أُوليي
الإخفاتيّة
وإن كان في
أُوليي الإخفاتيّة فالأشهر الأظهر التحريم ، بل قيل : إنّه المشهور تحريم قراءته ؛
لصحيح ابن سنان المذكور ، وصحيح سليمان بن خالد ، قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : أيقرأ الرجل في الأُولى والعصر خلف الإمام وهو لا
يعلم أنّه يقرأ؟ فقال : « لا ينبغي له أن يقرأ ،
يكله إلى الإمام » ، وصحيح الحلبي المتقدّم ، وفيه : « إذا صلّيت
خلف إمامٍ تأتمّ به فلا تقرأ خلفه ، سمعت قراءته أم لم تسمع ، إلّا أن تكون صلاة
يجهر فيها
__________________
بالقراءة » ؛ وصحيح ابن
الحجّاج ، وفيه : « أمّا الصلاةُ التي لا
يجهر فيها بالقراءة فإن ذلك جعل إليه ، فلا تقرأ خلفه » .
إلى غير ذلك من
الأخبار المعتبرة الصراح ، المشتملة على الصحاح ، مضافاً لأخبار ضمان الإمام قراءة
المأموم ، ممّا هو في محلّه معلوم.
وقال سلّار
بالكراهة ، بل نسبه بعض مشايخنا للمشهور ، ولعلّه أراد الشهرة
بين المتأخّرين والمعاصرين ؛ لصحيح ابن خالد المذكور ، بناءً على جعل « لا
ينبغي » حقيقةً في الكراهة ، وخبر عمران بن الربيع البصري ، وإبراهيم بن علي
الرّافعي بالراء المشدّدة بعد اللام ، والعين المهملة بعد الفاء ـ ، لا المرافقي
بالميم بعد اللام ، والقاف بعد الفاء كما اشتهر بين المتأخّرين تبعاً لأكثر نسخ (
التهذيب ) ، ولا الواقفي كما في بعض نسخه ، ولا الرافقي بالقاف بعد الفاء كما في
بعضها أيضاً ، عن أبي عبد الله عليهالسلام
: « إذا كنت خلف إمام
تتولّاه وتثق به فإنّه يجزيك [ قراءته (٤) ] ، فإنْ أحببت أنْ تقرأ فاقرأ في ما
يخافت فيه ، فإذا جهر فأنصت » .
والرافعي هو
إبراهيم بن إبراهيم بن علي بن الحسن بن علي بن أبي رافع ، وهو مذكور في أصحاب
الصادق عليهالسلام ، وانّما قيّدناه بالرافعي ؛ لأنّ المرافقي وإنْ كانت
الطبقة لا تأباه ؛ لأنّ المرافقي ، أو الواقفي ، أو الرافقي هو عبيد الله لا
إبراهيم ، له كتاب ، رواه عنه الصدوق ، بإسناده إلى أبي أحمد محمّد بن زياد الأزدي
، وهو محمّد بن أبي عمير الثقة المشهور ، فالطريق إليه صحيح.
وضعّفه السيّد
المصطفى ، والميرزا ، بناءً منهما على أنّه محمّد بن زياد
الأشجعي ، المهمل ، وهو ضعيف لتصريح الصدوق بأنّه الأزدي.
وإنّما خرجنا
عن الموضوع ؛ لمسيس الحاجة للتنبيه عليه ؛ لإطباق محقّقي المتأخّرين تبعاً لأكثر
نسخ ( التهذيب ) على إبراهيم بن علي المرافقي ، وهو اشتباه
__________________
غريب ، وعلى ما ذكرناه ففي الحكم بصحّته ما لا يخفى.
وكيف كان ، ففي
دلالتهما على مدّعاه نظرٌ :
أما
الخبر الأوّل ، فبمنع كون « لا ينبغي » حقيقة في الكراهة ، بحيث تصلح لصرف الأخبار
الظاهرة في التحريم ، وشيوع استعمالها في الكراهة لا يستلزم ظهورها فيها وضعاً ولا
انصرافاً ، مع معارضته لشيوع استعمالها في التحريم ، حتى إن بعض المتأخّرين ذكر
استعمالها فيه في خمسة عشر موضعاً ، فحمل « لا ينبغي » على الكراهة مع معارضتها
بظهور الصحاح وعدم المعارض وشيوع استعمالها في التحريم لا ينبغي.
وأما
الثاني ؛ فلجواز كونه
في الصلاة المركّبة ، مع الغض عن سنده لما ذكرناه.
وحينئذٍ ،
فالمراد بما يجهر فيه : الركعتان الأُوليان ، وما يخافت فيه : الأخيرة والأخيرتان.
وقد مرّ ويأتي جواز القراءة فيها مخيّراً فيها بينها وبين التسبيح.
وقد استدلّ له
أيضاً بقوله في صحيح علي بن يقطين ، عن أبي الحسن عليهالسلام : عن الركعتين اللّتين يصمت فيهما الإمام ، أيقرأ فيهما
الحمد وهو إمامٌ يُقتدى به؟ قال : « إن قرأت
فلا بأس ، وإن سكت فلا بأس » .
ولا دلالة فيه
أيضاً ؛ لاحتمال أن يراد بالركعتين المذكورتين خصوص الأخيرتين ، لجعل الموصول
للعهد ، فلا يشمل الأوليين الأخفاتّيتين ، فالاستدلال به للقول بالإباحة أوْلى.
وحينئذٍ ،
فالمنصور هو التحريم المشهور ؛ إذ العدول عن مدلول الصحاح الصراح من النهي عن
القراءة في أُوليي الإخفاتيّة بدليل ضعيف ممّا لا يجسر عليه منصف عفيف ، سيّما مع
اشتمال بعضه الأقوى على ما أعرض عنه المشهور من استحباب القراءة ؛ لأنّه إنّما
يستحب له حينئذٍ التسبيح للأمر به في أخبارٍ كثيرةٍ كصحيح بكر بن محمّد الأزدي ،
عن الصادق عليهالسلام ، أنه قال : « إنّي
لأكرهُ للمرء أنْ يصلّي خلف الإمام صلاة لا يجهر فيها بالقراءة ، فيقوم كأنه حمار ».
قال : قلت :
جعلت فداك فيصنع ماذا؟ قال
__________________
« يسبّح » ، وخبر علي بن
جعفر ، عن أخيه عليهالسلام ، قال : سألته عن رجل صلّى خلف إمام يقتدى به في الظهر
والعصر يقرأ؟. قال : « لا ، ولكن يسبّح ،
ويحمد ربّه ، أو يصلّي على نبيّه » .
إلى غير ذلك من
الأخبار. بل قال بعض محقّقي المتأخّرين : ( إن استحباب القراءة ممّا لا قائل به ،
بل هو مطّرح عند الكلّ ، حتى عند سلار ). ولكن النظر في كلامه ظاهرٌ لذوي الأنظار.
المسألة السابعة : في سماع
المأموم القراءة في أُوليي الإخفاتيّة
فلو سمع
المأموم القراءة في الإخفاتيّة فالأحوط الإنصات وترك التسبيح ؛ لاختصاص صحيح
الأزدي بقرينة التشبيه بالحمار بصورة عدم السماع ، كاختصاص وجوب الإنصات على القول
به بخصوص الصلاة الجهريّة ، فلا يشمل الصلاة التي يسمع قراءتها وإنْ كانت
إخفاتيّة.
المسألة الثامنة : في جهر
الإمام نسياناً في الإخفاتيّة
ولو نسي الإمام
فجهر في الإخفاتيّة لم يستحبّ الإنصات ؛ لما مرّ. وجعله بعض المحقّقين أحوط. ونقل
بعض مشايخنا المحقّقين قولين آخرين من دون تعيين القائل ، وجعلهما في الغاية
ضعيفين :
أحدهما
: إباحة القراءة
وعدم الكراهة ؛ إمّا بمعنى تساوي القراءة والتسبيح ، أو بمعنى أنّها ليست من
مستحبّات الاقتداء أو مكروهاته ، لا بمعنى أنّها لا رجحان فيها أصلاً ؛ لأنّ قراءة
القرآن إذا لم تكن مرجوحةً لا تكون إلّا راجحة.
ويمكن
الاستدلال له بصحيح ابن يقطين المذكور ، لقوله عليهالسلام : « إنْ قرأت
فلا بأس ، وإنْ سكتّ فلا بأس » .
__________________
واستدلّ له بعض
المحقّقين بخبر البصري والرافعي ، لكنّه لا يتمّ إلّا بجعل الأمر الوارد بعد توهّم
الحظر للإباحة.
الثاني
: استحبابها ،
ولعلّ القائل به الشيخ قدسسره لما مرّ من نقل الشهيد في ( النكت ) عنه استحباب
قراءة الحمد في ما لا يجهر فيه ، وكذا نقل عنه الشهيد في ( الروض ) في الإخفاتيّة
مطلقاً ، فيشملهما وإن لم تتعيّن إرادتهما بانصراف الإطلاق إليهما.
لكنّه إنّما
يتمّ لو أراد هذا القائل خصوص الحمد لا قراءتهما مع السورة ، فيوافق ما نقله في (
الروض ) عن ظاهر ( الإرشاد ) من استحباب قراءتهما في الإخفاتيّة.
وكيف كان ، فلا
شاهد له ، مع مصادمته لأدلّة النهي ، ومعارضته بدليل الأمر بالذِّكر.
ثمّ على
المختار من سقوط القراءة لا خلاف في سقوط قراءة الحمد والسورة معاً ، وأمّا على
القول بالقراءة فقد ظهر ممّا مر وممّا يأتي سيظهر وقوع الخلاف في أنه هل يقرأ
الفاتحة وحدها ، أو هي مع السورة؟ وقد صرّح البعض النافي للقول بالقراءة : ( إن
الثاني قول الأكثر ). ومنه يعلم ما في كلامه من النظر.
المسألة التاسعة : على القول
برجحان الذكر ، ماذا يكفي منه؟
وعلى القول
برجحان الذكر كما في صحيح الأزدي ، وخبر علي بن جعفر هل يكفي كلٌّ من التسبيح والتحميد والصلاة منفرداً ، أم
يضمُّ الجميع ، أم يقتصر على التسبيح ؛ لدلالة الخبرين عليه؟ وجوهٌ :
أظهرها الأوّل
، بقرينة الاكتفاء به في الصحيح ، وبانتفاء التشبيه بصورة القيام كالحمار
بالاقتصار عليه ، فتكون ( الواو ) في خبر علي بن جعفر للتقسيم لا الجمع وإنْ كان
الجمعُ أكمل ، إلّا أن يراد الاقتصار على أحدها فالتسبيح أفضل.
ولا ينافيه
أفضليّة الصلاة على النبيّ وآله صلىاللهعليهوآله على سائر الأذكار ؛ لكون العبادة توقيفيّة فيلزم
الاقتصار ، إلّا أنْ يأتي بها لا بقصد الخصوصيّة في هذا المضمار.
__________________
ويحتمل قويّاً
أنْ يراد بالتسبيح في صحيح الأزدي التسبيحات الأربع ، وهي ( سبحان الله ، والحمد
لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر ) ؛ لأنّها صارت كالمراد الشرعي من لفظ
التسبيح في لسان المتشرّعة ، بحيث ينصرف لها الإطلاق وإنْ لم توجد قرينةٌ في
السياق. ويؤيّده أيضاً ما في خبر أبي خديجة من التصريح بهذه الكيفيّة.
ولا فرق كما
مرّ بين أنْ يسمع المأموم قراءة الإمام الإخفاتيّة أم لا ؛ لإطلاق الخبرين. ولا
إشكال فيه على القول بعدم وجوب الإنصات للقراءة ، أمّا على القول بوجوبه مطلقاً
كما في بعض الأخبار وظاهر الآية ، أو في خصوص قراءة الإمام في الفريضة كما مرّ في
صحيح زرارة فلا يخلو من إشكالٍ ، إلّا أنْ يمكن الجمع بين التسبيح والأذكار ،
بناءً على أنّ الإنصات هو السكوت في مقابلة الجهر بالكلام للاستماع ، أو يحمل
الإنصات المأمور به في الآية والرواية على خصوص السكوت عن القراءة ، مضافاً لما
مرّ من انصراف الأمر بالإنصات إلى الإنصات في سماع القراءة الجهريّة لا مطلق
السماع ولو في الإخفاتيّة ، إلّا أنْ يدّعى انصراف أوامر الذكر لما هو الغالب من
عدم السماع في الإخفاتيّة ، وترك الذكر حال السماع في الإخفاتيّة ، إنْ لم يمكن
الجمع ، والله العالم.
المسألة العاشرة : في أخيرتي
الإخفاتيّة
وإن كان في
أخيرتي الإخفاتيّة فالذي نقله أوّل الشهيدين في ( شرح نكت الإرشاد ) عن السيّد
والشيخ استحبابُ قراءة الفاتحة ؛ لصحيح ابن سنان وخبر أبي خديجة المتقدّمين .
ولكن قال
ثانيهما في ( روض الجنان ) وتبعه عليه الشيخ سليمان ما لفظه :
( وإنْ كانت
إخفاتيةً ، ففيها أقوالٌ :
أحدها
: استحباب
القراءة فيها مطلقاً. وهو الظاهر من كلام المصنّف هنا ، يعني ( الإرشاد ) .
__________________
وثانيها
: استحباب قراءة
الحمد وحدها ، وهو اختياره في ( القواعد ) ، وقبله الشيخ قدسسره .
وثالثها
: سقوط القراءة
في الأُوليين ، ووجوبها في الأخيرتين ، مخيّراً بين الحمد والتسبيح ، وهو قول أبي
الصلاح ، وابن زهرة ، كما مرّ.
ورابعها
: استحباب
التسبيح في نفسه ، وحمد الله ، أو قراءة الحمد مطلقاً ، وهو قول نجيب الدين يحيى
بن سعد ) . انتهى كلامهما زِيد إكرامهما.
ولا يخفى أنّ
سياق كلامهما والتصريح بإطلاقهما يقتضي جريان الأقوال المذكورة في الأخيرتين
كالأُوليين. ويؤيّدهُ تفصيلهما في الجهريّة بين ذينك الموضعين.
وقال المحقّق
المقابي في ( مجمع الأحكام ) بعد تفصيله أحكام الجهريّة مثلهما ما لفظه :
( وأمّا
القراءة في الركعتين الأخيرتين من الإخفاتيّة ، فقال الفاضلان بالكراهة
تبعاً لسلّار . وقال في ( الخلاف ) بالحرمة ، وهو
اختيار الصدوق مع تصريحه بوجوب التسبيح. وذهب السيّد إلى وجوب
أحدهما تخييراً ).
ثمّ ذكر أدلّة
الأقوال الثلاثة ، وقد تقدّم في عبارة ( الفرحة ) نقلُ الإجماع مع مبالغته في عدم
حصوله على التخيير بين القراءة والتسبيح ، من غير فرقٍ بين أخيرتي الجهريّة
والإخفاتيّة ، ولا تعيين لجهة الوجوب أو الندب.
ونسبه بعض
المصنّفين للأكثر ، وفي بعض الحواشي ، عن ابن حمزة التخيير بينهما وبين السكوت ،
وأفضليّة القراءة ، ثمّ التسبيح.
__________________
ذكر الأقوال والمناقشة في
بعض الأنقال
وبالجملة
، فالأقوال في
هذا الموضع غير مضبوطةٍ ، والنقول غير منقّحةٍ ، فلا بدَّ من الرجوع إلى كلمات
أولئك الفحول من تلك الأُصول ، من غير اعتماد على النقول.
فأقول
: أمّا الصدوق رحمهالله ، فاقتصر في باب صلاة الجماعة من ( الفقيه ) على
الأخبار الناهية بعد ضمّ بعضها إلى بعض عن القراءة خلف الإمام المرضي إلّا في
الجهريّة إذا لم يسمع ولا همهمة ، وعلى الأخبار الآمرة بالتسبيح في الركعتين
الأخيرتين من غير فصل بين الجهريّة والإخفاتيّة.
ومنها
: صحيح الأزدي
الآمر بالتسبيح خلف الإمام في الصلاة الإخفاتيّة ، وظاهره وجوب التسبيح ، كما يدلّ
عليه عبارته التي نقلها عنه العلّامة في ( المختلف ) ، ولعلّها من غير ( الفقيه )
، قال ما لفظه : ( وقال الصدوق أبو جعفر بن بابويه : واعلم أنّ على القوم في
الركعتين الأُوليين أن يسمعوا إلى قراءة الإمام ، وإن كان في صلاة لا يجهر فيها
بالقراءة سبّحوا موضع القراءة ، وعليهم في الركعتين الأخيرتين أن يسبّحوا ) . انتهى.
وهو ظاهرٌ في
وجوب التسبيح على المأمومين عيناً في الأخيرتين مطلقاً ، فيوافق ما نقله عنه في (
مجمع الأحكام ).
وقال رحمهالله في ( المقنع ) : ( وإذا كنت إماماً فعليك أن تقرأ في
الركعتين الأُوليين ، وعلى الذين خلفك أن يسبّحوا ، يقولون : سبحان الله ، والحمد لله
، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر. وإذا كنت في الركعتين الأخيرتين فعليك أن تسبّح
مثل تسبيح القوم في الركعتين الأُوليين ، وعلى الذين خلفك أن يقرءوا فاتحة الكتاب.
وروى : « إنّ على القوم في
الركعتين أن يستمعوا إلى قراءة الإمام وإن كان في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة
سبّحوا ، وعليهم في الركعتين الأخيرتين أن يسبّحوا » ولهذا أحبّ إليَّ ) .
وما ذكره
أوّلاً هو مضمون خبر أبي خديجة ، بإبدال ( الأخيرتين ) في آخره بـ ( الأُوليين ) وما
ذكره أخيراً ينافي صحّة ما نقل عنه من الجزم بوجوب التسبيح ، وإنْ
__________________
احتمل أنْ يكون جميع المذكور في الباب من كلام والده المبرور ، فهو نورٌ
على نور.
وأمّا السيّد
المرتضى رحمهالله ، فلم يتعرّض لقراءة المأموم في انتصاره ولا ناصريّاته
، وإنّما اقتصر فيهما على الوجوب التخييري في الأخيرتين بين القراءة والتسبيح ،
ولعلّه أراد ما يشمل المأموم ، فلعلّ ما في ( مجمع الأحكام ) مستند إلى ذلك
الإطلاق والعموم ، ولكن قال في ( المختلف ) ما لفظه :
( وقال السيّد
المرتضى : لا يقرأ المأموم خلف الموثوق به في الأُوليين في جميع الصلاة من ذوات
الجهر والإخفات ، إلّا أن يكون صلاة جهر لم يسمع فيها المأموم قراءة الإمام ،
فيقرأ كلّ واحدٍ لنفسه. وهذه أشهر الروايات ، وروى أنّه لا يقرأ في ما جهر فيه
الإمام ، وتلزمه القراءة في ما يخافت فيه الإمام ، وروى : أنّه بالخيار في ما خافت
فيه ، فأمّا الأخيرتان فالأوْلى أن يقرأ المأموم ، أو يسبّح فيهما. وروى : ليس
عليه ذلك ) . انتهى.
ولا يخفى أنّ
تعبيره بالأولويّة غير صريحٍ في الوجوب إنْ لم يكن صريحاً في عدمه ، فلا يوافق ما
نقله أوّل الشهيدين عنه من استحباب قراءة الفاتحة ، ولا ما نقله عنه في (
مجمع الأحكام ) من وجوب إحداهما تخييراً إلّا بالتصرّف في لفظ الأُولى. وظاهره
أيضاً عدم الفرق بين أخيرتي الجهريّة والإخفاتيّة.
وأما
الشيخ قدسسره فعبارته التي نقلناها عنه سابقاً من ( التهذيب ) إنّما تدلّ
على حرمة القراءة مطلقاً ، إلّا في الصلاة التي لا يسمع فيها ولا همهمة ، وإنّ
الواجب على المأموم التسبيح أو التهليل.
نعم ، عبارته
في ( النهاية ) صريحة في استحباب قراءة الفاتحة في الإخفاتيّة مطلقاً ، قال رحمهالله : ( وإذا تقدّم مَنْ هو بشرائط الإمامة فلا تقرأنَّ
خلفه سواء كانت الصلاة ممّا يجهر فيها بالقراءة أو ممّا لا يجهر ، بل تسبّح مع
نفسك ، وتحمد الله تعالى وإنْ كانت الصلاة ممّا يجهر فيها بالقراءة فأنصت للقراءة
، فإنْ خفي عنك قراءة الإمام قرأت لنفسك ، وإنْ سمعت مثل الهمهمة من قراءة الإمام
جاز لك إلّا تقرأ ، وأنت مخيّرٌ في
__________________
القراءة. ويستحبّ أن يقرأ الحمد وحدها في ما لا يجهر الإمامُ فيها بالقراءة
، وإنْ لم تقرأ فليس عليك شيءٌ ) . انتهى.
ونقل في (
المختلف ) عنه في ( المبسوط ) نحوه. وهو صريحٌ في استحباب قراءة الفاتحة في جميع
المواضع الإخفاتيّة ، كالظهرين مطلقاً ، وأخيرة الثلاثيّة ، وأخيرتي الرباعيّة ،
فيوافق ما نقله عنه الشهيدان في ( النكت ) و ( روض الجنان ) ، لكنّه مناقض لقوله رحمهالله في أوّل الكلام : ( فلا تقرأنّ خلفه ، سواء كانت
الصلاةُ ممّا يجهر فيها بالقراءة ، أو ممّا لا يجهر ) ، إذ أقلُّ مراتب النهي
الكراهة ، الملازم للمرجوحيّة ، فلا يلائم الاستحباب الملازم للرجحان.
وأما عبارته في
( الخلاف ) فغير نصٍّ في ما نقله عنه في ( مجمع الأحكام ) من الجزم بالتحريم وإنْ
لم تخلُ من إشعارٍ.
قال رحمهالله في ( الخلاف ) : ( الظاهر من الروايات أنّه لا يقرأ
المأموم خلف الإمام أصلاً ، سواءٌ جهر أو لم يجهر ، لا فاتحة الكتاب ولا غيرها ).
ثمّ ذكر أقوال
أهل الخلاف ، إلى أنْ قال : ( فأمّا إذا خافت فالرجوع في ذلك إلى الروايات ، وقد
أوردناها في الكتابين يعني بهما التهذيبين وبيّنّا الوجه فيها. منها : ما رواه
يونس بن يعقوب : قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الصلاة خلف مَنْ أرتضي به ، أقرأ خلفه؟. قال : « مَنْ
رضيت فلا تقرأ خلفه » ) .
ثمّ ذكر خبري
سليمان بن خالد والحلبي ، السابقين .
ولعلّ الناقل رحمهالله استظهر التحريم من ظواهر هذه الأخبار.
ويمكن الجمع
بين كلماته المزبورة في الكتب المذكورة بحمل القراءة المنهي عنها على قراءة
السورتين في الأُوليين ، واستحباب قراءة الحمد وحدها على القراءة في الأخيرتين ؛
لكونها عنده أفضل الفردين.
__________________
وأمّا أبو
الصلاح ، فعبارته السابقة صريحةٌ في صحّة المنقول عنه من الوجوب التخييري بين
القراءة والتسبيح في الأخيرتين ، وأفضليّة قراءة الحمد ، فلا وجه للإخلال بذكره ،
وطيِّه على غرّه.
وأمّا ابن زهرة
فعبارته في ( الغنية ) ، والحكاية السابقة عنه في أخيرتي الجهر ، صريحتان في صحّة ما نقل عنه من سقوط
القراءة في الأُوليين ، والتخيير بين القراءة والتسبيح في الأخيرتين ، من غير فصل
بين أخيرتي الجهريّة والإخفاتيّة.
قال رحمهالله في كيفيّة أفعال الصلاة بعد ذكره وجوب قراءة الحمد
وسورةٍ في الثنائيّة والأُوليين في ما زاد عليها عيناً ما لفظه : ( وهو مخيّرٌ في
الركعتين الأخيرتين وثالثة المغرب بين الحمد وحدها ، وبين عشر تسبيحات ، وهن : (
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله ) يقول ذلك ثلاث مرّات ، ويقول في
الثالثة : والله أكبر ) .
وقال في صلاة
الجماعة ما لفظه : ( ولا يقرأ في الأُوليين من كلِّ صلاة ولا في الغداة إلّا أن
يكون في صلاة جهرٍ وهو لا يسمع قراءة الإمام ، فأمّا الأخيرتان وثالثة المغرب
فحكمه فيها حكم المنفرد ) . انتهى.
وهو صريحٌ في
التخيير في الأخيرتين مطلقاً ، كما مرّ نقله عنه .
وأمّا سلّار بن
عبد العزيز ، فقال في ( المراسم ) في شرح كيفيّة الصلاة بعد ذكره وجوب القراءة في
الأُوليين ما لفظه : ( وفي الثالثة والرابعة الحمد وحدها ، أو يسبّح فيقول : (
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله ) ثلاث مرّات. ويزيد في الثالثة : والله
أكبر ) . انتهى.
ثمّ قال في
أحكام صلاة الجماعة في قسم المندوب ما لفظه : ( وألّا يقرأ المأموم خلف الإمام.
وروى : إنّ ترك القراءة في صلاة الجهر خلف الإمام واجبٌ. والأوّل
__________________
أثبت ) . انتهى.
ونقله عنه
أيضاً في ( المختلف ) من غير ذكر الكتاب.
وأنت خبيرٌ
بأنّ قصاراه كراهة قراءة المأموم خلف الإمام ، فلعلّ إطلاقه منصرفٌ بحكم الغلبة
والشياع للأُوليين ، ويكون حكمه حكم المنفرد من التخيير مطلقاً في الأخيرتين ، كما
مرّ في كلام ابن زهرة ، بقرينة موافقته له في كيفيّة التسبيح ، فيؤول للوجوب
التخييري ، وإنْ كان التسبيح في أخيرتي الجهريّة والإخفاتيّة أفضل الفردين فلا
ينبغي الجزم بعدّه قسيماً للقول المشهور في الأخيرتين.
وأمّا ابن حمزة
، فلم يذكر في ( الوسيلة ) في صلاة الجماعة ممّا يتعلّق بالقراءة إلّا وجوب
الإنصات للقراءة إذا سمع ، وليس فيها تعرّضٌ للمنقول عنه بعينٍ ولا أثر ، ولذا
اقتصر في ( المختلف ) على نقله عنه وجوب الإنصات إذا سمع القراءة ، إلّا أنْ
يكون منقولاً من غيرها ، ولكن يبعده عدم نقله في ( المختلف ).
وأمّا المحقّق
نجم الدين جعفر بن سعيد ، فقال في ( الشرائع ) في أفعال الصلاة : ( والمصلّي في
كلِّ ثالثة ورابعةٍ بالخيار ، إنْ شاء قرأ الحمد ، وإنْ شاء سبّح ، والأفضل للإمام
القراءة ) .
وقال في صلاة الجماعة
: ( ويكره أنْ يقرأ المأموم خلف الإمام ، إلّا إذا كانت الصلاة جهريّةً ثمّ لا
يسمع ولا همهمةً. وقيل : يحرم. وقيل : يستحبّ أنْ يقرأ الحمد في ما لا يجهر فيه.
والأوّل أشبه ) .
وقال في (
النافع ) في أفعال الصلاة : ( ويتخيّر المصلّي في كلِّ ثالثة ورابعة بين قراءة
الحمد أو التسبيح ) .
وقال في صلاة
الجماعة : ( وتُكره القراءة خلف الإمام في الإخفاتيّة على الأشهر ، وفي الجهريّة
لو سمع ولو همهمةً. ولو لم يسمع قرأ ) . انتهى.
__________________
ولا يخفى عدم
صراحتهما في الشمول لقراءة الأخيرتين بالتقريب السابق في عبارة سلّار ، مضافاً إلى
حكمه رحمهالله فيهما برجحان القراءة في الجهريّة إذا لم يسمع الهمهمة
المختصّ ذلك بالأُوليين ، فيرجع أيضاً بالآخرة إلى ما ذكرناه من بقاء التخيير
للمصلّي في الأخيرتين وإنْ كان التسبيح أفضل الفردين.
وأمّا ابن عمّه
نجيب الدين يحيى بن سعيد الأصغر ، فقال في ( الجامع ) :
( ويخيّر في
الثوالث والروابع بين الحمد والتسبيح ، وهما سواء ) .. إلى آخره.
ثمّ قال في
صلاة الجماعة : ( ولا يقرأ المأموم في صلاة جهرٍ ، بل يصغي لها ، فإن لم يسمع أو
سمع كالهمهمة أجزأه ، وجاز أنْ يقرأ ، وإنْ كان في صلاة إخفاتٍ سبّح مع نفسه وحمد
الله ، وندب إلى قراءة الحمد في ما لا يجهر فيه ) . انتهى.
ولا يخفى أنّ
ظهوره في إرادة الأُوليين بقرينة الإصغاء للقراءة ومقابلته بالتسبيح في نفسه أرجح
من شموله للأخيرتين ، مضافاً إلى قوّة احتمال أنْ يريد بقوله : ( وندب إلى قراءة
الحمد ) إلى الرواية الدالّة على قراءة الحمد عيناً ، لا أنّها أحد الفردين.
وأما الفاضل
العلّامة رحمهالله ، فقال في ( القواعد ) : ( ولا يقرأ خلف المرضي إلّا في
الجهريّة مع عدم سماع الهمهمة ، والحمد في الإخفاتيّة ) . انتهى.
وفي ( الإرشاد
) في قسم المكروه : ( والقراءة خلف المرضي ، إلّا إذا لم يسمع ولا همهمة فتستحبّ
على رأيٍ ) انتهى.
ولا يخفى ظهور
كلامه في الكتابين في إرادة القراءة في الأُوليين ؛ بقرينة تقييده الاستحباب بعدم
سماع الهمهمة ، بل لا ظهور له في الأخيرتين ، فلا يطابق المنقول عنه في الكتابين.
والعجب من
هؤلاء الفضلاء كيف غفلوا عن نقل كلامه في ( المختلف ) الصريح في التخيير بين
القراءة والتسبيح في الأخيرتين من الإخفاتيّة. قال رحمهالله في ( المختلف ) بعد ذكر الأقوال في قراءة المأموم ،
وبعض الأخبار الواردة فيها ما لفظه :
__________________
( والأقرب في
الجمع بين الأخبار استحباب القراءة في الجهريّة إذا لم يسمع قراءته ولا همهمته لا
الوجوب ، وتحريم القراءة فيها مع السماع لقراءة الإمام ، والتخيير بين القراءة
والتسبيح في الأخيرتين من الإخفاتيّة ) . انتهى.
وأغرب منه
أنّهم رضوان الله عليهم نقلوا عنه في ( المختلف ) التخيير استحباباً بين القراءة
والتسبيح في أخيرتي الجهريّة أو أخيرتها ، وليس فيه كما ترى تعرّضٌ لوجه التخيير ،
ولا لأخيرتي الجهريّة أو أخيرتها ، بقليلٍ ولا كثيرٍ ، ولا ينبّئك مثل خبير.
وبالجملة
، فمفاد عبارة
ابني سعيد في ( الشرائع ) و ( النافع ) و ( الجامع ) ، والعلّامة في ( الإرشاد ) و
( القواعد ) كما سمعته في تلك المواضع إنّما هو التنبيه على أنّ تعيّن القراءة في
الأُوليين مخصوصٌ بغير المأموم ، وأنّ حكمه فيهما ؛ إمّا تحريم القراءة ، أو
كراهتها ، أو استحبابها ، على ما مرّ من الأقوال المذكورة. وأمّا في الأخيرتين فهو
باقٍ على أصل حكم التخيير وإنْ وقع الخلاف في تعيين الراجح الأثير.
فالوجه الجامع
بين الأخبار ، الملائم لها بعد الانتشار ، والناظم لها بعد الانتثار ، هو ترك
القراءة في الأُوليين من غير فصلٍ بين ذوات الإجهار والإسرار ، إلّا في الجهريّة
إذا لم يسمع ولا همهمة فتستحبّ. ووجوب الإنصات في أوليي الجهريّة. واستحباب
التسبيح في أُوليي الإخفاتيّة ، والاستدلال عليه يظهر ممّا مرّ من تلك الأخبار
المعتبرة القويّة. والتخيير وجوباً بين قراءة الحمد والتسبيح في الأخيرتين من غير
فصلٍ بين أخيرتي الجهريّة والإخفاتيّة ، وأفضليّة التسبيح ؛ لإطلاق ما دلّ على
الوجوب التخييري للمصلّي الشامل للمأموم ، وما يصلح للتقييد غير معلوم ، بل هو
معدوم ، مضافاً الى ظهور أخبار الضمان في القراءة العينيّة المستقرّة في ذمّة
المكلّف ، المبدل عنها في الأُوليين بقراءة الإمام ، فيبقى غيرها في ذمّة المأموم
، الذي اشتغاله بها معلوم ، إلّا أنْ يثبت بقرينة الأخبار المسقطة ، المتوعّد فيها
بالبعث على غير الفطرة أصلٌ ثانوي حاكمٌ على ذلك الأصل ، وهو لما مرّ غير معلوم.
وأمّا ما في
خبر ابن سنان المشتمل على إجزاء التسبيح في الإخفاتيّة ، بحمل
__________________
الركعتين اللّتين لا يجهر فيهما على خصوص الأخيرتين ، أو على ما يشملهما مع
الأُوليين ، المشعر بأفضليّة القراءة وخبر أبي خديجة المشعر
بأفضليتهما في الأخيرتين فقد مرّ الجواب عنهما ، مع ما سيأتي من المناقشة في صحّة
خبر ابن سنان ؛ لاحتمال كونه ليس عبد الله ، وكونه محمّداً أخاه ، كما سيأتي إنْ
شاء الله.
وأمّا ما
استدلّ به لكراهة القراءة بدعوى شموله لقراءة الأخيرتين فقد مرّ الجواب عنه في حكم
الأُوليين ، اللهمَّ الّا أنْ يراد بها مرجوحيّتها بالنسبة للتسبيح فيرتفع الخلاف
في البين.
واحتجّ له بعض
الفضلاء بالجمع بين الأصل المقتضي للإباحة ، والأخبار الناهية عن القراءة.
ولا يخفى ما
فيه ؛ إذ لا يصحّ التعويل على الأصل مع وجود النصّ الخاصّ ؛ لارتفاع موضوع الأصل
بورود الدليل عليه ، وإلّا لم يمكن إثبات التحريم أبداً ؛ لأصالة الإباحة ، وإمكان
حمل النهي على الكراهة.
وأما ما
استظهره في ( السرائر ) من سقوط القراءة والتسبيح معاً مطلقاً ، فأخبار الأمر
بالذكر والصلاة على النبيّ صلىاللهعليهوآله تدفعه ، وأخبار السكوت الظاهرة في السكوت عن القراءة
خاصّة لا السكوت مطلقاً لا تنفعه.
ومن الغريب عدم
نقل هذا القول في ( روض الجنان ) ، ولا في رسالة الشيخ سليمان ، مع أنّ عبارة (
السرائر ) في الصراحة فيه بمكان.
بحث مع صاحب ( مجمع الأحكام
)
كما أنّ من
الغريب أيضاً ما في ( مجمع الأحكام ) حيث استدلّ على وجوب التسبيح عيناً بصحيحي
ابن سنان ، والأزدي ، وخبر علي بن جعفر . وأجاب عنها بعدم دلالة شيءٍ منها على الوجوب.
__________________
ثمّ استدلّ على
الوجوب التخييري بالجمع بين هذه الروايات الدالّة على الوجوب ، وبين خبري الرافعي
والبصري وأبي خديجة . وأجاب بعدم دلالتها على وجوب أحدهما مطلقاً حتى يصحّ
الجمع بالحمل على الوجوب التخييري ، إذ أقصى ما في صحيح ابن سنان أنّه قال : « يُجزيك
التسبيح » فكان التسبيح أحد الفردين المجزيين ، وجاز أنْ يكون الفرد الآخر السكوت ،
أو يكون التسبيح أحد الأفراد الواجبة التي منها السكوت ، فلا يتعيّن أنْ يكون
الواجب أحد الأمرين : التسبيح ، أو القراءة.
بل قد يقال :
إنَّه إلى الدلالة على وجوب التسبيح عيناً أقرب .. إلى آخره.
وفيه نظرٌ من وجوه :
أمّا
أوّلاً ؛ فلنفيه دلالة
تلك الأخبار التي منها صحيح ابن سنان على وجوب التسبيح عيناً ولا تخييراً ، ثمّ
جعل دلالته على وجوب التسبيح عيناً أقرب ، وهو كرٌّ على فرّ ، وتناقضٌ مستغرب.
وأمّا
ثانياً ؛ فلاشتمال
الخبر المذكور بعد التعبير عن التسبيح بالمجزي على رجحان القراءة ، سواء جعلنا (
اقرأ ) مضارعاً أو أمراً ، وهذا أغرب.
وأمّا
ثالثاً ؛ فلجعله أحد
الأفراد الواجبة السكوت ، وهو ممّا لا يحسن عليه السكوت ؛ إذ السكوت فردٌ مرجوحٌ
نادرُ الاستعمال ، فلا يحمل عليه كلام الآل ، ولا يؤسّس عليه بمجرّد ذلك الاحتمال
، مضافاً لما مرّ من قوّة احتمال قوله عليهالسلام : « لا بأس إنْ
قرأ وإنْ سكت » إرادته السكوت عن القراءة خاصّة ، فلا ينافي التسبيح واختصاصه.
وأمّا
رابعاً ؛ فلأنَّ كلامه
في ردِّ الاستدلال على الوجوب التخييري بعدم دلالة شيءٍ منها على وجوب أحدهما
مطلقاً ، إنّما يتمّ لو أراد الاستدلال بخصوص ما ذكره ، فتبقى أدلّة التخيير
للمصلّي مطلقاً من النصّ والإجماع سالمةً عن النزاع.
والإنصاف أنّ
للمناقشة فيها أيضاً مجالاً ذا اتّساع.
أمّا
الأخبار ؛ فلقوّة
احتمال كون أدلّة المأموم حاكمةً أو مخصّصة لذلك العموم.
__________________
وأمّا
الإجماع ؛ فقد يستفاد
من تعدّد الأقوال ، وانتشار الخلاف في قراءة المأموم في ما عدا الأُوليين بين
علمائنا الأبدال ، أن مورد الإجماعات المستفيضة على التخيير بين القراءة والتسبيح
إنّما هو خصوص المنفرد ، أو ما عدا المأموم ، إذ يبعد غاية البعد اجتماع مثل هذه
الإجماعات على التخيير مع هذا الاختلاف الفاحش الكثير.
ويؤيّده تصريح
المحدّث المنصف بأنّ التخيير المجمع عليه في الأخيرتين مخصوصٌ بغير
أخيرتي المأموم ، وإنّه من كلام جملةٍ من الأصحاب هو المفهوم. وإنْ صحّ الجمع بأنّ
تلك الأقوال ليست على التخيير والتعيين ، بل بالنسبة إلى الراجحيّة والمرجوحيّة ،
وإلى وجوب شيءٍ وعدمه.
المسألة الحادية عشرة : في
الصلاة المركّبة من الجهر والإخفات
وأما الصلاة
المركّبة من الجهر والإخفات فيعلم حالها ممّا مرّ ، فأحوال الجهريّة واختلافاتها
يجري في الركعتين الأُوليين ، وأحوال الإخفاتيّة وخلافها يجري في الأخيرتين.
المسألة الثانية عشرة : في
حكم المسبوق
وأما المسبوق
ففي ( مجمع الأحكام ) : إنّ الأقوال فيه أربعة : وجوب الحمد وحدها في أُولاه إنْ
كان مسبوقاً بركعتين ، وفي ثانيته إنْ كان مسبوقاً بركعة وهو للسيّد رحمهالله ، ووجوب الحمد والسورة معاً كذلك وهو للشيخ رحمهالله ، واستحباب القراءة من غير نصٍّ على السورة وهو لعلّامة
( المنتهى ) ، وتحريم القراءة وهو للصدوق رحمهالله ، والكراهة وهو للمعتبر. انتهى بمعناه.
وظاهره أنّ
الأقوال خمسةٌ لا أربعة ، إلّا أنْ يجعل قول السيّد والشيخ واحداً باعتبار
مغايرتهما للاستحباب والتحريم والكراهة. فأمّا ما عزاه للسيّد رحمهالله فهو صريح عبارته المنقولة عنه في ( المختلف ) ، قال فيه
: ( قال السيّد المرتضى : لو فاتته ركعتان من الظهر أو العصر أو العشاء وجب أنْ
يقرأ في الأخيرتين الفاتحة في نفسه ، وإذا سلّم
__________________
الإمام قام فصلّى الركعتين الأخيرتين مسبّحاً فيهما ، وأصحابنا وإنْ قالوا
: إنّه يقرأ ، لكن لم يذكروا الوجوب ، والأقرب عدم الوجوب ) .. إلى آخره.
وأما ما نقله
عن الشيخ رحمهالله فهو صريح كلام ( النهاية ) .
وأما ما نقله
عن المنتهى فهو أيضاً ظاهر ( المختلف ) في عدم الوجوب.
وأمّا نقله عن
الصدوق رحمهالله تحريم القراءة ، فلعلّه أخذه ممّا رواه في ( الفقيه )
من الأخبار المسقطة لقراءة المأموم ، إلّا أنّ بعدها ما يخرج المسبوق من ذلك
العموم ، قال رحمهالله : ( وروى عمر بن أُذَيْنَة ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : « إذا أدرك
الرجل بعض الصلاة ، وفاته بعضٌ ، خلف إمام يحتسب بالصلاة خلفه ، جعل أوّل ما أدرك
أوّل صلاته ، إنْ أدرك من الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة ركعتين ، وفاته ركعتان
، قرأ في كلّ ركعةٍ ممّا أدرك خلف الإمام في نفسه بأمّ الكتاب » .. إلى آخر
ذلك الصحيح ، وهو في الأمر بالقراءة صريح.
بل في (
الجواهر ) : ( إنّ الحرمة لم يصرّح بها أحد ، بل الظاهر الاتّفاق بين من تعرّض
لذلك على الرجحان في الجملة وإن اختلفوا في وجوبه وندبه ) . انتهى.
وبه يظهر ما في
نقل الحرمة من الاشتباه ، والمعصوم مَنْ عصمه الله.
وأمّا نقلَهُ
عن المحقّق الكراهة ، فلعلّه أخذه من إطلاق حكمه بقراءة المأموم ، وشموله لهذه
الصورة غير معلوم ، ولذا حصر في ( السرائر ) ، و ( المدارك ) ، و ( المختلف ) ، و ( الجواهر ) ، و ( الرياض ) الخلاف في الوجوب أو الاستحباب ، وهو ظاهر في هذا
الباب.
ولا يلزم من
تحريم القراءة أو كراهتها في مطلق المأموم جريانهما في المأموم المسبوق ، ولهذا
إنّ الصدوق وابن إدريس والمرتضى مع قولهم بتحريم
__________________
القراءة كما مرّ جزموا بالوجوب هنا ، والعلّامة مع قوله
بالكراهة جزم بالاستحباب هنا ، فظهر سقوط القولين من البين ، كما لا يخفى على ذي
عين.
وكيف كان ، فالأخبار الواردة
في هذا العنوان :
ما بين آمرٍ
بمطلق القراءة ، كصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن الصادق عليهالسلام : عن الرجل يدرك الركعتين الأخيرتين من الصلاة ، كيف
يصنع بالقراءة؟ قال : « اقرأ فيهما ، فإنهما
لك الأوليان ، ولا تجعل أوّل صلاتك آخرها » .
وقوله عليهالسلام : « ولا تجعل
أوّل صلاتك آخرها » كلامٌ مستأنف للردّ على مَنْ خالف ، ويجوز أنْ يكون
تأكيداً للأمر بالقراءة ، أي : لا تسبيح فيهما كالإمام ، فتجعل أوّل الصلاة الذي
هو القراءة آخرها الذي هو التسبيح ، أو : لا تقرأ في أخيرتيك فيكون آخرها كأوّلها.
وصحيح عبد
الرحمن بن أبي عبد الله ، عنه عليهالسلام ، قال : « إذا سبقك
الإمامُ بركعة فأدركت القراءة الأخيرة ، قرأت في الثالثة من صلاتك ، وهي ثنتان لك
، فإنْ لم تدرك معه إلّا ركعةً واحدةً قرأت فيها ، وفي التي تليها » .. إلى آخره.
ومنه صحيح
معاوية بن وهب ، عنه عليهالسلام : عن الرجل يدرك آخر صلاة الإمام ، وهي أوّل صلاة
الرجل، فلا يمهله حتى يقرأ، فيقضي القراءة في آخر صلاته؟ قال : « نعم » . بحمل القضاء
على معنى الفعل كقوله تعالى (فَإِذا قَضَيْتُمْ
مَناسِكَكُمْ) ، (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ) لا المعنى الاصطلاحي ، وحمل آخر صلاته على ركعته
الثانية التي انفرد فيها مجازاً، أو على الثلاث جميعاً، وقصد القراءة عيناً في
أوّلها، وتخييراً في غيرها.
وخبر علي بن
جعفر المرويّ في كتاب ( قرب الإسناد ) ، عن أخيه عليهالسلام ، قال : سألته عن رجل أدرك مع الإمام ركعةً، ثمّ قام
يصلّي ، كيف يصنع؟ يقرأ في الثلاث كلّهن ، أو في ركعتين، أو في ثنتين؟ قال : « يقرأ
في ثنتين ، وإنْ قرأ واحدةً أجزأه » .
__________________
وبين آمرٍ
بقراءة الحمد والسورة مع التمكّن ، وإلّا فالحمد ، كصحيح زرارة بطريق الشيخ رحمهالله ، قال : « إذا أدرك
الرجل بعض الصلاة ، وفاته بعض ، خلف إمام يحتسب بالصلاة خلفه ، جعل ما أدرك أوّل
صلاته ؛ إنْ أدرك من الظهر أو من العصر أو من العشاء ركعتين وفاته ركعتان قرأ في
كلِّ ركعة ما أدرك خلف الإمام في نفسه بأمّ الكتاب وسورة ، فإنْ لم يدرك السورة
تامةً أجزأته أُمّ الكتاب ، فإذا سلّم الإمام قام فصلّى ركعتين لا يقرأ فيهما ؛
لأنّ الصلاة إنّما يقرأ فيها في الأوليين في كلِّ ركعة بأُمّ الكتاب وسورةٍ ، وفي
الأخيرتين لا يقرأ فيهما ، إنّما هو تسبيحٌ وتكبيرٌ وتهليلٌ ودعاء ليس فيهما قراءة
، وإنْ أدرك ركعة قرأ فيها خلف الإمام ، فإذا سلّم الإمام قام فقرأ بأُمّ الكتاب
وسورة ، ثمّ قعد فتشهّد ، ثمّ قام فصلّى ركعتين ليس فيهما قراءة » .
ولعلّ عدم
النصّ على قراءة الحمد والسورة في قوله : « وإن أدرك
ركعة قرأ خلف الإمام » اعتماداً على بيانه عليهالسلام في الأوّل ، فيكون بياناً لذلك المجمل.
وبين آمرٍ
بقراءة الحمد وحدها ، كصحيح زرارة السابق برواية الفقيه السابقة ، ومرسل أحمد
بن النضر ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : قال لي : « أي
شيءٍ يقول هؤلاء في الرجل إذا فاته مع الإمام ركعتان؟ » قال : يقولون يقرأ في
الركعتين بالحمد وسورة ، فقال : « هذا يقلب
صلاته ، فيجعل أولها آخرها ». فقلت : كيف يصنع؟ فقال : « يقرأ
بفاتحة الكتاب في كلّ ركعة » .
والتقريب
فيه : أنّ المراد ؛
إمّا كلّ ركعة من الأُوليين ، أو هما مع الأخيرتين ، ويستفاد منه أنّ العامّة
يوجبون السورتين في الركعتين الأخيرتين الفائتتين ، وأنّهما صارتا له أوليين ،
فتنقلب صلاتهم لمكان السورة ؛ ولذا تكثّرت الأخبار والإجماعات على أنّ ما يدركه
المأموم يجعله أوّل صلاته ؛ نظراً للردّ على مخالفي المذهب وعداته ؛ محتجّين بما
رووه عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : « ما أدركتم
فصلّوا ، وما فاتكم فاقضوا » .
وهو عن الدلالة
بوادٍ سحيق ، وعن سعة الحقِّ في أشدِّ المضيق.
وأمّا تحريم
القراءة على المسبوق أو كراهتها فلا شاهد له من الأخبار ، بل لا قائل
__________________
به من علمائنا الأخيار ، بل يستفاد من عبارات أصحابنا السابقة عدم الخلاف
في رجحان القراءة ، وإنّما الخلاف في الوجوب أو الاستحباب ، بل قد يستفاد من كثير
من الأخبار وكلمات القدماء الأخيار أنّ جعل المسبوق ما أدركه أوّل الصلاة الذي هو
معقد كثير من الإجماعات كنايةٌ عن قراءته في ما يدركه من الركعات ، ومن أصرحها
عبارة الشيخ رحمهالله في ( النهاية ) حيث قال : ( ومَنْ فاتته ركعة مع الإمام
أو ركعتان فليجعل ما يلحق معه أوّل صلاته ، فإذا سلّم الإمام قام يتمّم ما قد فاته
، مثال ذلك : مَنْ صلّى مع الإمام الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة وفاتته ركعتان
، فليقرأ في ما يلحقه الحمد وسورة ) .. إلى آخره ، كما مرّ مضمون صحيح زرارة.
والإنصاف أنّ
تلك الأخبار إنّما سيقت للردّ على الأشرار ، الجاعلين آخر صلاة الإمام آخر صلاة
المسبوق.
وبالجملة
، فما في (
المدارك ) بعد قوله : ( إنّ مقتضى الروايتين يعني : صحيح زرارة وابن الحجّاج أن المأموم
يقرأ خلف الإمام إذا أدركه في الركعتين الأخيرتين ) : ( إنّ كلام أكثر الأصحاب
خالٍ من التعرّض لذلك ) ، لا يخلو من نظر للسالك.
وفي ( الرياض )
إنّ الوجوب قول أعيان القدماء ، كالشيخ ؛ والحلبي ، والمرتضى ، والكليني ، والصدوق . واختاره هو ؛
لقوّة أدلّته ، وضَعْفِ معارضها.
قلت
: وهو كذلك ، إذ
قصارى ما استدلّ به للاستحباب الجمع بين ما هنا وبين إطلاقات سقوط القراءة عن
المأموم ، الذي شموله للمسبوق غير معلوم ، بل انصراف الإطلاقات إلى غيره هو
المعلوم ، ولو سلّم فلا بدّ من حمل المطلق على المقيّد ، والعامّ على الخاصّ ،
فالتنافي معدوم.
__________________
وأمّا ما في (
المدارك ) من ضعف دلالة الصحيحين على الوجوب ، باشتمال صحيح زرارة على النهي عن
القراءة في الأخيرتين ، المحمول على الكراهة ، وكون القراءة في النفس الدالّ على
عدم وجوب التلفّظ ، واشتمال صحيح ابن الحجّاج على الأمر بالتجافي ، المحمول على الندب .
فهو بناءٌ مهدوم :
أمّا
أوّلاً ؛ فلعدم
الانحصار في الصحيحين المذكورين.
وأمّا
ثانياً ؛ فلأنَّ
الاشتمال على الأمر المحمول على الندب والنهي المحمول على الكراهة معارضٌ
بالاشتمال على ما هو للوجوب قطعاً ، كجعل ما يدركه أوّل صلاته ، الذي لا خلاف فيه
بين جميع الإماميّة الأطياب ، وانحصار الخلاف في أُولي الأذناب ، وكالجلوس للتشهّد
الواجب ، ثمّ القيام لمتابعة الإمام.
فيبقى الأمر
الظاهر في الوجوب سليماً عن المعارض في الباب.
وأمّا
ثالثاً ؛ فلظهور صحيح
زرارة في النهي عن القراءة العينيّة كقراءة الأُوليين ؛ ليحصل به الفرق بينهما
وبين الأخيرتين ، كما هو الظاهر من قوله عليهالسلام : « لا تجعل
أوّل صلاتك آخرها » ، لا القراءة
التخييرية ، فيبقى النهي على التحريم ، ويُنفى التنافي في البين.
وأما
رابعاً ؛ فلأنّ الخبر
الآمر بالقراءة غير الخبر الآمر بالتجافي ، بل هو خبرٌ آخر وإن اتّحدا في السند ،
بدليل انفصاله عنه بقوله : قال : وسألته عن الرجل الذي يدرك .. إلى آخره. ولذا
اقتصرنا على إيراده دون ما قبله.
ولو سلّم
الاتّحاد فلا يلزم من اشتماله على مندوبٍ كون كلّ ما فيه كذلك ، بل القرينتان متكافئتان
، فترجيح إحداهما على الأُخرى ترجيحٌ بلا مرجّح هنالك ؛ ولذا احتجّ البعض لوجوب
التجافي ؛ لظهور الأمر فيه واشتماله على واجب ، فتتساقطان ويبقى الأمر على أصله ،
كما لا يخفى على المرتاد السالك.
وأمّا خامساً ؛
فلأنّ القراءة في النفس كنايةٌ عن الإخفات ، ولذا شاع التعبير بها عنه في
__________________
أخبار الصلاة خلف المخالف ، المتّفق على وجوب القراءة الحقيقيّة خلفه بلا
مخالف ، مع أنّ سلب القراءة عنها يسقطها عن الصلاحيّة للقرينيّة وعن درجة الحجيّة
؛ لمخالفتها حينئذ كما في ( الرياض ) إجماع الإماميّة.
وحيث ثبت
انحصار الخلاف في الوجوب والاستحباب ، ووجوب السورتين معاً ، أو الحمد خاصّة ،
وانتفى التحريم والكراهة ، فلا مناص عن قراءة السورتين مع إمكانهما ، وإلّا
فالفاتحة ؛ لقاعدة الشغل الحاكمة بوجوب الفعل ، مضافاً إلى أنّ القدر المتيقّن من
ضمان الإمام القراءة عن المأموم إنّما هو ما شاركه فيه في حال الائتمام ، فيبقى
غيره على الأصل.
وبما ذكرنا
تنتظم تلك الأخبار في سلك الالتئام ، وينجلي عن وجهها قَسْطل الإبهام.
ومن العجيب ما
في ( مجمع الأحكام ) من جمعه بين تربيع الأقوال ، أو تخميسها بالتحريم والكراهة
واعترافه بعدم ما يدل عليه من أخبار الباب وبين الحكم بوجوب القراءة محتجّاً ب : (
توقّف يقين البراءة عليه ، وتحصيله واجبٌ ، فلا يعدل عنه إلى مشكوكٍ فيه ؛ لأنّ
صحّة الصلاة بالقراءة مجزومٌ به ، وصحّتها بالتسبيح فيه احتمال اختصاص الأدلّة
الدالّة على سقوط القراءة عن المأموم وتحريمها وكراهتها بغير محلّ النزاع ) انتهى.
ولا يخفى ما
فيه على ذي نُهى ؛ إذ مع إثباته تحريم القراءة يكون من قبيل الدوران بين الشرطيّة
والمانعيّة ، ويسقط التزام الوجوب بالكلّيّة ، اللهمّ إلّا أنْ يجاب عنه بأنّ نفيه
الدليل على عدم التحريم والكراهة من الأخبار يسقطهما عن درجة الاعتبار ، لكن نقله
القول عمّن لا يعمل إلّا بها مع إشارته لمّا يدل عليه منها يسقط هذا الاعتذار.
المسألة الثالثة عشرة :
دوران الأمر بين إكمال الفاتحة المفوِّت للقدوة وبين قطعها المحصِّل لها
وأمّا لو دار
الأمر لضيق الوقت عن إكمال الفاتحة لعدم إمهال الإمام بين إكمالها
__________________
المفوّت للمتابعة ، وبين قطعها المحصّل لها :
فأمّا على
القول باستحباب القراءة وعدم فوات القدوة بالإخلال بركن أو ركنين ولو عمداً كما
عزي للمشهور ، سواء جعلنا وجوب المتابعة تعبّديّاً على المشهور أو شرطيّاً على
غيره فلا إشكال. كما لا إشكال أيضاً على القول بوجوبها وعدم الفوات بالإخلال
المذكور.
وأمّا على
القول بالوجوب وفوات المتابعة بالإخلال ولو بركنٍ في غير السهو ، فوجهان ، بل
قولان ، منشأهما : عدم النصّ الخاصّ في هذا العنوان ، ويظهر من صحيح معاوية بن وهب
السابق تقديمُ المتابعة على إتمام القراءة ؛ فإنّ مناط قضاء
القراءة لخوف عدم الإمهال إنّما هو تحصيل المتابعة ، بل قد استدلّ عليه أيضاً
بصحيح زرارة الآمر بالسورتين مع الإمكان ، وإلّا فالفاتحة ، فإنّ
ظاهره أيضاً أنّ المناط إنّما هو تحصيلها.
وقد
يقال عليه : إنّ الاجتزاء بالفاتحة في صحيح زرارة الخالي عن المناط لا يستلزم الاجتزاء
بأبعاضها ، بخلاف صحيح ابن وهب المشتمل عليه ، إلّا أنْ يستفاد من ضمّ أحدهما
للآخر تنقيح المناط.
نعم ، يمكن
الاستدلال عليه مضافاً لصحيح ابن وهب المذكور بما عن ( دعائم الإسلام ) بطريقين عن
الصادق عليهالسلام ، وما عن الفقه الرضوي من الاجتزاء
بما يدركه ، مؤيَّداً بالأخبار العامّة الدالّة على الإتيان بالميسور ، ففي النبوي
المشهور : « إذا أمرتكم بشيءٍ
فأتوا منه بما استطعتم » . وفي المرتضويّتين : « ما
لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » ، و « لا يسقط
الميسور بالمعسور » .
والطعن فيها من
حيث السند مدفوعٌ باشتهار العمل بها في جميع الأعصار ، بل صار كالمسلّمات بين جميع
المتشرّعة في جميع الأمصار ، مضافاً للاستقراء في
__________________
الموارد الفقهيّة من الاكتفاء بالمقدور ، فيلحق المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب
من تلك الأمور ، وإلى موافقة مضامينها لمجرى العادة العقلائيّة ، فتكون مؤكّدة
باشتراط القدرة ، الذي هو مقتضى الأدلّة النقليّة والعقليّة ، وفهم هذا المعنى
منها عند أهل العرف هو المحكم في التكاليف الشرعيّة ، فلا يلتفت إلى سائر
الاحتمالات المبنيّة على التدقيقات الحكميّة.
وقد يستفاد من
الصحيحين المذكورين عدم جواز التخلّف بركنٍ ، فضلاً عن ركنين.
وكيف كان ،
فالأحوط حينئذٍ عدم الدخول إلّا بعد دخول الإمام في الركوع متى عرف في هذا المحذور
الوقوع ، فلو دخل معه فالأحوط المبادرة للمتابعة ، ثمّ الإعادة ؛ تحصيلاً لإحراز
السعادة.
المسألة الرابعة عشرة : حكم
المسبوق على القول بعدم وجوب القراءة
ثمّ على القول
بعدم وجوب القراءة على المسبوق لو أدرك الإمام في أخيرتيه وسبّح فيهما ، فهل يبقى
في أخيرتيه على التخيير بين القراءة والتسبيح مطلقاً ؛ لإطلاق أدلّة التخيير ، أم
تتعيّن عليه القراءة مطلقاً ؛ لئلّا تخلو الصلاة من الفاتحة التي لا صلاة إلّا بها
، أو يقرأ إنْ سبّح الإمام في أخيرتيه ، ويسبّح إنْ قرأ فيهما ؛ للجمع بين الأخبار؟.
أقوالٌ
: أشهرها بل عن (
المنتهى ) اتّفاق الأصحاب عليه الأوّل ، والثاني نقله في (
المدارك ) وضعّفه. والثالث عن موضع من ( البحار ) .
وقد يجاب بمنع
شمول الإطلاق وانصرافه لغير محلّ النزاع ، وبأنّه بأنّ معقد إجماع التخيير إنّما
هو غير المأموم ، بل قال بعض مشايخنا المحقّقين : ( خصوص المنفرد ) ، وعهدته عليه
، فيبطل الأوّل.
وبمنع خلوّ
الصلاة عن الفاتحة ؛ لابتناء صلاة المأموم على صلاة الإمام المشتملة
__________________
عليها ولو في أُولييه اللتين لم يحضرهما المأموم ، فيبطل الثاني.
إلّا أنْ يقال
: إنّ القدر المتيقّن من ضمان الإمام ضمانه القراءة العينيّة التي يحضرها المأموم
؛ لانصراف الإطلاق إليها ، دون التخييريّة التي لم يحضرها ؛ لكونه غير معلوم. فإنْ
تمّ الإجماع على التخيير هنا وكونه مشمولاً لتلك الأخبار ، وإلّا فالتفصيل أوفق
بالاعتبار.
وفي ( المدارك
) : أنّ مورد الخلاف إنّما هو من فاتته ركعتان ، أمّا من دخل معه في الرابعة فلا
خلاف في التخيير. قال رحمهالله بعد قول الماتن : لو أدركه في الرابعة دخل معه ، فاذا
سلّم قام فصلّى ما بقي عليه ، ويقرأ في الثانية له بالحمد وسورة ، وفي الاثنتين
الأخيرتين بالحمد ، وإنْ شاء سبّح ما لفظه :
( لا خلاف في
التخيير بين قراءة الفاتحة والتسبيح في هذه الصورة ، وإنّما الخلاف في ما إذا أدرك
معه الركعتين الأخيرتين ، وسبّح الإمام فيهما ) .. إلى آخره.
وفيه
: أنّه إنْ كان
من حيث قراءته في إحدى أُولييه كما هو ظاهر كلامه بعد سياق المتن فهو مطالب بدليل
الفرق بين ما إذا أدرك معه الرابعة من الرباعيّة ، وبين من أدرك معه الثالثة من
الثلاثيّة. وكذا لو أدرك معه أخيرتي الرباعيّة يقرأ المأموم في إحدى أُولييه ولو
استحباباً ؛ لاتّحاد المناط. وإنْ كان الدليل خاصّاً فلا بدّ من بيانه ، ولات حين
مناص.
ولعلّه رحمهالله أراد التمثيل ، والله يقول الحقّ ، وهو يهدي السبيل.
المسألة الخامسة عشرة : حكم
الإخفات في قراءة المسبوق في الصلاة الجهريّة
وهل الإخفات في
قراءة المسبوق واجب في الجهريّة ، أو مستحب؟
ظاهر أصحابنا ،
بل صريح كثيرٍ من المتأخّرين والسيّد المرتضى الوجوب ، بل لم يُحْكَ الخلاف عن
أحدٍ من الأسلاف والأخلاف ؛ لظاهر قوله عليهالسلام في صحيح زرارة : « قرأ
في نفسه » ؛ بناءً على ظهور الجملة الخبريّة في الوجوب ، وظاهر
الأمر في ما عن
__________________
( دعائم الإسلام ) عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، قال : « إذا سبق
الإمام أحدكم بشيءٍ من الصلاة فليجعل ما يدركه مع الإمام أوّل صلاته ، وليقرأ
فيما بينه وبين نفس إنْ أمهله الإمام » . ، وعن أبي جعفر عليهالسلام
: « إذا
أدركت الإمام وقد صلّى ركعتين فاجعل ما أدركت معه أوّل صلاتك ، فاقرأ لنفسك بفاتحة
الكتاب إنْ أمهلك الإمام » .
وبها يقيّد
إطلاقات الأمر بالجهر في الجهريّة إنْ لم تتمّ حكومتها عليها كما هو الظاهر من
أخبار المأموم ، مع أنّ موردها ؛ إمّا المنفرد ، أو غير المأموم ، فلا إطلاق ولا
عموم.
واحتمال الندب
كما في ( الرياض ) للأصل مدفوعٌ بانقطاعه بما عرفت.
ولا داعي
لحملها على سياق الأخبار الآمرة باستحباب عدم إسماع الإمام ؛ لحسن حفص بن البختري
بل صحيحيه على الصحيح ، بطريق الكليني والشيخ رحمهالله عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « ينبغي
للإمام أنْ يسمع من خلفه التشهّد ، ولا يسمعونه هم شيئاً » .
وفيه بطريق
الصدوق تقييده بقوله : « ولا يسمعونه هم شيئاً
، يعني : الشهادتين » . ولعلّه من
كلامه ، أو كلام أحد الرواة ، فلا تتعيّن حجيّته ؛ لقوّة استناده في ذلك إلى فهمه
التقييد من قوله قبله : « ينبغي للإمام أنْ يسمع
من خلفه التشهّد » ، فحمل « شيئاً » الذي هو نكرةٌ في سياق النهي على الشهادتين ، أي : التشهّد الذي ينبغي
للإمام إسماعه المأموم.
وموثّق أبي
بصير عن أحدهما عليهماالسلام ، قال : « ينبغي
للإمام أنْ يسمع من خلفه كلّ ما يقول ، ولا ينبغي لمن خلفه أنْ يسمعه شيئاً ممّا
يقول » .
وموثّقه الآخر
عن أحدهما عليهماالسلام ، قال : « لا
تُسمعنَّ الإمام دعاءَك خلفه » .
لعدم التلازم
بين الأذكار التي ليست محلّاً لوجوب الجهر والإخفات ، وبين القراءة
__________________
التي هي محلّ وجوبهما ؛ لجواز اختصاصها بخصوصيّة تقتضي التفكيك بينها وبين
الأذكار ، فيعمل بكلٍّ في مورده وينتفي العثار.
مع أنّه لو جاز
الجهر للمسبوق لاختلّ نظم الجماعة في صورة تعدّد المسبوقين بالإجهار. ومع ذلك فإنْ
تمّ الإجماع ، وإلّا فللبحث مجال ، وإنْ كان الاحتياط بالإخفات لا يترك بحال.
أمّا مع عدم
المتابعة بأنْ خرج الإمام من الصلاة وقام المأموم للركعة التي يجب عليه الجهر فيها
فلا إشكال في وجوب الجهر عليه ، وإنْ احتمل في ( الرياض ) : [ العدم ] ضعيفاً
بتخيل اختصاص ما دلّ على وجوب الجهر بحكم التبادر بغير مفروضنا ) . ولا يخفى ما
فيه.
إذا عرفت هذا ،
فقد تبيّن انحصار النزاع في المواضع الإخفاتيّة ، وهي هذه الصور المجموعة في هذا
الجدول ، فتأمّله تحصل :
الثنائيّة الإخفاتيّة
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
الأخيرتان من الثلاثية المركبة
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
الأخيرتان من الرباعية المركبة
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
الأخيرتان من الرباعية الإخفاتيّة
|
المصلّي إمام
|
المصلّي مأموم
|
المصلّي منفرد
|
وقد آن أنْ
أشرع في المقصود ، فأقول متوكّلاً على مفيض فيض الجود على جميع من ألبسه حلّةَ
الوجود :
__________________
المقام الأوّل
في ذكر الأقوال في حكم الجهر بالبسملة في مواضع الإخفات
لا يخفى على
مَنْ جاس خلال ديار الآثار ، وغاص بحار الأنوار ، وخاض عيون الأخبار ، بثاقب الفهم
النوار ، أنّ كلام علمائنا الأبدال قد اختلف في حكم الجهر بالبسملة في مواضع
الإخفات على أقوال :
القول الأوّل : استحباب
الجهر بها فيها مطلقاً.
وظاهر الإطلاق يقتضي
دخول المأموم لو قرأ خلف الإمام على تلك الأقوال ؛ لدخولها في المواضع الإخفاتيّة.
وممّن صرّح به
الشيخ البهائي في ( اثني عشرية الصلاة ) ، والمحقّق العلي الطباطبائي في ( الرياض ) ، والفاضل
الهندي الأصفهاني في ( كشف اللثام ) ، والمحقّق النراقي في ( المستند ) ، وهو الظاهر
أيضاً من فاضل ( الجواهر ) .
نعم ، صرّح بعض
المحدّثين من متأخّري المتأخّرين برجحان الإخفات بها للمسبوق تبعاً للفاتحة.
ولعلّه لدعوى
حكومة أدلّة الإخفات بقراءة المأموم على أدلّة الجهر بالبسملة ، كما لعلّه يظهر من
قول أبي عبد الله عليهالسلام في موثّق أبي بصير : « ولا
ينبغي لمن خلف الإمام أنْ يسمعه شيئاً ممّا يقول » البسملة. وكلاهما لا سيما الأوّل من المنع بمكان ، مع
__________________
أنّ عمدة أدلّة وجوب الإخفات في الأخيرتين إنّما هو منقول الإجماع ،
ودخولها في معقده محطّ خيام النزاع ، مضافاً إلى أنّ النسبة بين الإطلاقين العموم
من وجه ، ولا ريب أنّ إطلاقات الجهر بها أوْلى بالرجحان والاتّباع.
وما قيل من
أنّه إذا سقط الجهر في موارد وجوبه مراعاةً لجانب الإمام اللائق بالاحترام ،
فسقوطه في موارد ندبه أوْلى.
غير تامّ ؛
لعدم القطع بالأولويّة ، ولما علم من اختصاص البسملة بخصوصيّات لا تجري في سائر
أجزاء القراءة الكلّيّة ، فإنْ ثبت عدم الانصراف ، وإلّا فللمناقشة مجالٌ وافٍ.
هذا ، ولعلّ الإخفات أوْلى ولو للخروج عن الخلاف.
وقد صرّح غير
واحد من علمائنا الأبرار حشرهم الله مع الأئمّة الأطهار بما يستظهر منه حصول
الإجماع على عموم استحباب هذا الإجهار قطعاً للنظر عن خلاف ابن إدريس الحلّي ،
وعدم الاعتداد به ؛ لكونه ليس على مبنى جلّي ، فيسقط عن درجة الاعتبار.
قال أمين
الإسلام الطبرسي في ( مجمع البيان ) : ( اتّفق أصحابنا أنّها آيةٌ من سورة الحمد
ومن كلّ سورة ، وإنْ تركت في الصلاة بطلت صلاته ، سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً
، وأنّه يجب الجهر بها في ما يجهر فيه بالقراءة ، ويستحبّ الجهر بها في ما يخافت
فيه بالقراءة ، وفي جميع ما ذكرناه خلاف بين فقهاء الأُمّة ) .. إلى آخره.
وظاهره حصول
الإجماع من علمائنا الأعلام على ما ذكره من الأحكام ، التي منها استحباب الجهر
بالبسملة في جميع مواضع الإخفات ، وانحصار الخلاف في سائر فقهاء الإسلام.
وقال المحقّق
في ( المعتبر ) : ( إذا تقرّر أنّها آيةٌ من الحمد ، فحيث يجب الجهر بالحمد يجب
الجهر بها ، وحيث يجب الإخفات أو يستحبّ يستحبّ الجهر بها خاصّة. وهو انفراد
الأصحاب في الفرض والنفل ، سفراً وحضراً ، جماعة وفرادى. وبه قال الثلاثة ) . انتهى.
__________________
وقال في ذكر
مذهب ابن إدريس ما لفظه : ( وقال بعض المتأخّرين : ما لا تتعيّن فيه القراءة لا
يجهر فيه لو قُرِئ. وهو تخصيص لما نصّ عليه الأصحاب ، ودلّت عليه الروايات ) .. إلى آخره.
فانظر كيف نسبه
في الموضعين للأصحاب ، وهو جمع محلّى بـ ( اللام ) ، فيفيد العموم مطلقاً.
وقال العلّامة
في ( التذكرة ) : ( قال ابن إدريس : ما لا تتعيّن فيه القراءة لا يجهر فيه
بالبسملة لو قرأ. وهو تخصيصٌ لعموم الروايات ، وتنصيص علمائنا ) .. إلى آخره.
وقال شهيد (
الذكرى ) : ( وتفرّد ابن إدريس باختصاص الاستحباب بأُوليي الظهرين ، لا الأواخر.
وهو قول مرغوب عنه ، أمّا أوّلاً ؛ فلأنّه لم يسبق إليه ، وهو بإزاء إطلاق
الروايات والأصحاب ، بل بإزاء تصريحهم بالعموم ) .. إلى آخره.
ولا يخفى على
ذي اطّلاع ظهوره في دعوى حصول الإجماع ، وعدم الاعتداد بذلك النزاع.
وقال الشيخ
المقداد السيوري في ( كنز العرفان ) : ( أطبق أصحابنا على استحباب الجهر بالبسملة
في ما فيه الإخفات ، وأكثر الجمهور على خلافه ) انتهى.
ولا يخفى ما
فيه من الدلالة على المدّعى ، كما لا يخفى على مَنْ وعى ورعى.
وعن ( الخلاف )
نقل الإجماع عليه أيضاً. لكن ظاهر عبارته إرادة الأُوليين ، قال رحمهالله : ( يجب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الحمد وفي
كلّ سورة بعدها كما يجب القراءة ، هذا في ما يجب الجهر فيه ، فإنْ كانت الصلاة لا
يجهر فيها استحبّ أنْ يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ). ثمّ نقل أقوال المخالفين ،
ثمّ قال : ( دليلنا : إجماع الفرقة ، فإنّهم لا يختلفون في ذلك ) . ثمّ استدلّ
عليه برواية صفوان.
إلّا أنْ
يستفاد العموم من قوله : ( فإنْ كانت الصلاة لا يجهر فيها ). ولعلّه خلاف ظاهرها.
__________________
ولا فائدة في
نقل أقوال القائلين ، لما سمعت من انحصار المخالف في ابن إدريس في كلمات
أولئك المحقّقين ، بل يظهر من يراع المقدّس الأردبيلي في ( شرح الإرشاد ) مناقشته
في تصريح ابن إدريس تحريم الجهر بها.
وما ذاك إلّا
لاستبعاد مخالفته الإجماع ، وإنْ كانت مناقشة هذا المقدّس أيضاً بعيدة السماع.
ولعلّه رحمهالله لم يقف على عبارة ( السرائر ) ، كما يكشف
عنه لفظه الزاهر ، قال رحمهالله في ترجيح القراءة في الأخيرتين على التسبيح : ( ولا
يعارض ذلك الخلاف في الجهر بالبسملة ، فإنّ الظاهر أنّ تحريمه مع أنّه غير مصرّح
به في ما نقل عنه في ( المنتهى ) وغيره ضعيف كوجوبه ) .. إلى آخر
كلامه ، زيد في إكرامه.
وهو كما ترى
ظاهرٌ في المدّعى.
كما أنّ مقتضى
الإطلاقات دخول الأُنثى والخنثى وصلاة الاحتياط ؛ لاندراج المذكورات في مواضع
الإخفات ؛ لأنَّ مقتضى أدلّة الجهر بها كون الجهر معلّقاً إمّا على عنوان القراءة
، أو القارئ ، أو المصلّي ؛ إمّا على خصوص الأفراد ، أو على الماهيّة من حيث
وجودها في ضمن أفرادها ، وعلى جميع التقادير لا خصوصيّة لفردٍ منها دون الآخر ،
فلا يراد أن الإطلاق ينصرف إلى الفرد الغالب لاستواء جميع الأفراد في الشمول
والاندراج ، ولا خصوصيّة حينئذٍ للذكوريّة وإنْ وقع في بعض الأخبار وكلمات بعض
علمائنا الأبرار بصيغة خطاب المذكر ؛ لأنّه لملاحظة الشرف من حيثيّة الذكوريّة ،
واستهجان خطاب فاقدها في المحاورات العرفيّة ، كتخصيص الخطابات القرآنيّة ، مع أنّ
الأصل هو الاشتراك في التكليف ، فتخصيص ما عدا الرجل يحتاج للتوقيف.
وأمّا ركعات
الاحتياط فالظاهر دخولها حتى عند الحلّي ؛ لأنّها عنده صلاةٌ مستقلّة ، وخلافه
إنّما هو في قراءة غير الأُوليين ولو كانت بدلاً من الأخيرتين ، ولذا
__________________
حكم بصحّة الصلاة مع تخلّل الحدث بينها وبين الصلاة الأصليّة ؛ إذ لا يلزم
مساواة البدل للمبدل منه مطلقاً على القول بالبدليّة.
وهذا ولله
الحمد ظاهر لكل ذي رويّة ، إلّا إنَّ كاشف الغطاء بعد أنْ
استحبّ الجهر بها فيها احتاط بتركه ، وتبعه بعض مشايخنا المعاصرين ، ولعلّه للشكّ
في شمول الإطلاق وقاعدة الشغل ، والله العالم والعاصم.
القول الثاني : وجوب الجهر
بها في ما يخافت فيه من غير فصل بين الأُوليين والأخيرتين.
وهو مختار
القاضي ابن البراج ظاهراً ، كما نقله عنه جملةٌ من الفضلاء كالعلّامة والشهيدين ، واختاره
المحقّق السري الشيخ حسين بن الشيخ مفلح الصيمري نصّا. ومن متأخّري المحدّثين
الشيخ حسن بن الشيخ حسين العصفوري في ( رسالة الصلاة ) ، ونسبه ثاني الشهيدين في
شرح نفليّة أوّلهما لبعض الأصحاب ، وربّما استظهر من كلام الصدوق رحمهالله ، حيث قال في المجلس الثالث والتسعين ، الذي عقده لوصف
دين الإماميّة : ( ويجب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة ) . وربّما حمل
عليه قوله في ( الفقيه ) : ( واجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات ) ، بتقريب أنّ
المراد منه الوجوب ؛ لكثرة إرادة القدماء من الأمر الوجوب ، ولكن سيأتي في المبحث
الثاني ما يقتضي صرفه عن ظاهره.
وإنّما نسبنا
مختار القاضي إلى الظاهر ؛ لأنّ جمعاً من الفضلاء إنّما قالوا : إنّه أوجب الجهر
بها في ما يخافت فيه وأطلق ، إلّا أنّ جمعاً أيضاً نقلوا عنه التصريح بالتعميم في
الأُوليين والأخيرتين ، كالمحدّث السري السيّد نعمة الله الجزائري ، وسبطه الفاضل
الأوّاه السيّد عبد الله في المسألة الرابعة عشرة من أجوبة المسائل الجبليّة
الثانية ؛ وشيخنا المرتضى أعلى الله مقامه في ما كتبه على بحث القراءة من إرشاد
العلّامة ، حيث إنّه بعد أن ضعّف قول ابن إدريس ونسبه للشذوذ
كقول ابن
__________________
الجنيد ، قال : ( وما أبعد ما بين هذا القول وقول القاضي بوجوب الجهر
حتى في الأخيرتين ). انتهى.
حتى إنّ السيّد
عبد الله المذكور جعله أحد الوجوه المرجّحة لاختيار التسبيح ، حيث قال : ( ممّا
يرجّح التسبيح الخروج به من عهدة الخلاف الواقع في الجهر بالبسملة في الأخيرتين ؛
لأنّه دائر بين الوجوب كما قاله ابن البراج ، والتحريم كما قاله ابن إدريس ) .. إلى آخره.
وما ذاك إلّا
لجزمهم بالقول بالوجوب ، ولعلّهم اطّلعوا على التنصيص في بعض كتبه.
كما لعلّه
يستظهر من كلام المقداد في ( التنقيح ) عند قول المحقّق : ( ومن السنن الجهر
بالبسملة ) .. إلى آخره فإنّه قال : ( قال ابن البرّاج : يجب الجهر بها في ما
يخافت ؛ لمواظبة الرضا عليهالسلام على ذلك ) .. إلى آخره.
فإنّه ظاهر في
حكاية لفظ ابن البرّاج ، لكن فيه : أنّه إنْ أراد المواظبة التي حكاها عنه رجاء بن
أبي الضحّاك فقد اشتملت على ملازمته عليهالسلام التسبيح في الأُخريات ، كما أنّ عبارته المنقولة من
كتاب ( المهذّب ) غير صريحة في الإيجاب ، حيث قال : ( ويخافت بقراءة السورتين في
الظهر والعصر ، إلّا ببسم الله الرحمن الرحيم ، فإنّه يجهر بها في كلّ الصلوات ) .. إلى آخره ؛
لتوقّفه على دلالة الجملة الخبريّة على الوجوب عنده ، وهو غير معلوم ، كما أنّه لا
يستفاد منها التخصيص بالأُوليين ؛ لما تقرّر في محلِّه من أنّ حذف المتعلّق يفيد
العموم ، وسائر غاياته المذكورة في محلّها لا تتّجه هنا ، فليس إلّا ما ذكرنا.
وأمّا ذكره
السورتين فلا يصلح للتخصيص بالأُوليين ؛ إذ مراده كغيره الحمد مطلقاً حيث كانت ،
لا بشرط وجود السورة بعدها ، ألا ترى أنّ جماعةً من المقطوع بقولهم بالتعميم
للأخيرتين صرّحوا في عنوان المسألة بذكر السورتين ، والسبر
__________________
والوجدان شاهدا عدلٍ لذوي الأذهان ، مضافاً لما نقله عنه الثقات من التصريح
بالعموم للأُخريات ، فلا وجه لما توهّم من الاختصاص ، ولات حين مناص.
أقول
: وممّن قال
بالوجوب أيضاً أبو الصلاح الحلبي .
أما بالنسبة
للأُوليين فهو ظاهر غير خفيّ ، وأما بالنسبة لغيرهما فالأصحاب رضوان الله عليهم
بين ناصٍّ على قوله بالوجوب في الأخيرتين ، وبين ساكت عن حكمهما في البين ، أما
مَنْ نصّ على الوجوب في الأخيرتين فهو القطب الصمداني المحقّق الشهيد الثاني ،
والفاضل الربّاني الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني.
قال الشهيد في (
روض الجنان ) : ( ويمكن أنْ نقول : إنّ التسبيح أحوط ، للخلاف في الجهر بالبسملة
في الأخيرتين ، فإنّ ابن إدريس حرّمه ، وأبا الصلاح أوجبه ، فلا يسلم من الخلاف ) .. إلى آخره.
وقال ذلك
الفاضل المذكور في فوائد رسالته المعمولة في كيفيّة التسبيح في الأخيرتين ما لفظه
: ( العاشرة من مرجّحات التسبيح مضافاً إلى ما حرّرناه في رسالتنا المعمولة في
أفضليّته ما ذكره الشهيد الثاني في ( شرح الإرشاد ) من أنّه أحوط ؛ للخلاف في
الجهر بالبسملة في الأخيرتين ، فإنّ ابن إدريس حرّمه ، وأبا الصلاح أوجبه ، فلا
يسلم من الخلاف ) .. إلى آخر كلامهما ، زيد في إكرامهما.
وهو نصٌّ واضح
السبيل ، حاسمٌ لمادّة القال والقيل ، وكفى بهذين الثقتين شاهدين عادلين.
لكن من الغريب
أنّ ذلك الشهيد في نقل الأقوال في الجهر بالبسملة في الأخيرتين عبّر عن قول أبي
الصلاح بالوجوب في أُوليي الظهرين ، ويمكن الجواب عنه بنوعٍ من العناية ، كما
سيأتي.
وأمّا الساكت
عن حكمهما عنده غير ناصٍّ فيهما على سلب ولا إيجاب فهم أكثر الأصحاب ؛ إذ لم
ينقلوا عنه التعرّض في تلك العبارة لحكم البسملة في الأُخريات بتصريحٍ ولا إشارة.
__________________
لكنّ كلامه في
كتابه ( الكافي ) على ما وجدته فيه ظاهرٌ في تحريم الجهر في ما عدا الأُوليين ،
فإنّه بعد ذكر وجوب الحمد والسورة مع الإمكان ، والحمد وحدها مع الاضطرار ، عيناً
في أُوليي الرباعيّة والمغرب وصلاة الغداة والعصر ، وعلى جهة التخيير في أخيرتي
الرباعيّة وثالثة المغرب بين الحمد وحدها وبين التسبيحات الاثني عشر ، قال ما لفظه
: ( ومن شرط القراءة وصحّة الصلاة فعلها من قيام مع الإمكان ، ويلزم الجهر بها في
أُوليي المغرب والعشاء الآخرة وصلاة الغداة ، وببسم الله الرحمن الرحيم في أُوليي
الظهر والعصر في ابتداء الحمد والسورة التي تليها ، والإخفات في باقي الركعات ) .. إلى آخر
كلامه ، زيد في إكرامه.
وهو ظاهرٌ في
تحريم الإخفات في الأخيرتين.
فالجمع بين
كلامه هنا ، وبين نقل ذينك الثقتين ؛ إمّا بعدم وقوفهما على كلامه في كافيه ، أو بفهم
الوجوب من موضع آخر من كتبه ، أو من كتابه هذا ؛ نظراً إلى أنّه لمّا استفاد من
أخبار الأمر بالجهر الوجوب اقتضى ذلك قاعدة كلّيّة ، وهو أنّه كلّما وقعت البسملة
في الصلاة الإخفاتيّة وجب الجهر بها في الأُوليين والأخيرتين على السويّة ، إلّا
إنّه لمّا كانت قراءة الأُوليين عينيّة حتميّة لا بدل لها في الاختيار بالكلّيّة
وكانت هي الفرد الذي يعمّ به البلوى كان التنبيه على حكم بسملتها أليق وأحرى ،
وأعمّ فائدة وجدوى. ولمّا كانت قراءة الأخيرتين ليست عينيّة حتميّة بل يقوم
التسبيح مقامها على جهة التخيير أو البدليّة ، بل كان بدلها الذي هو التسبيح أكثر
تداولاً ؛ لأفضليّته عليها ، كما هو المشهور المنصور كانت القراءة فيها غير لازمة
الوقوع ، فلم يكن لتخصيصها بالذكر مزيد فائدة ، مع التنبيه على حكمها بمقتضى تلك
القاعدة.
بل ربّما يحتمل
أيضاً احتمالاً مرجوحاً موافقته للمشهور في الأخيرتين وإنْ خالفه في الأُوليين ،
ولهذا تراهم عند ذكر الخلاف يبدؤون بالقول المشهور ثمّ يخصّون ما يخالفه بالذكر
ويتركون ما يوافقه ، ألا تراهم عند ذكر قول ابن إدريس إنّما يذكرون الشقّ المخالف
للمشهور ، وهو تخصيص الاستحباب بالأُوليين ، وعند ذكر
__________________
قول ابن البرّاج يطلقون مخالفة المشهور بإيجاب الجهر مطلقاً ، وعند ذكر قول
ابن الجنيد إنّما يذكرون الشقّ المخالف أيضاً ، وهو تخصيص الاستحباب بالإمام.
وحيث قد ثبت
نصّ ذينك الثقتين على قوله بوجوب الجهر في الأخيرتين تعيّن الاحتمال الثاني ، وزال
الإشكال من البين ؛ إذ نصّهما كاشفٌ عن ذلك الإجمال الذي في كلمات أولئك الأبدال.
ويؤيّده
أُمور : الأوّل : تصريح ثاني الشهيدين في ( شرح النفليّة ) في مقابلة قول المشهور بإطلاق
نسبة الوجوب لبعض الأصحاب ؛ إذ لم يفرّق بين أبي الصلاح وابن البرّاج في قولهما
بالإيجاب.
الثاني
: التشريك بين
قول أبي الصلاح وابن البرّاج في الدليل والمنهاج ، مع أنّ اللازم تخصيص كلّ منهما
بدليل على الانفراد ؛ لتركّب قول أبي الصلاح حينئذٍ من جهتين متضادّتين لا يستقيم
فيهما الاتّحاد.
الثالث
: ما صرّح به
كثيرٌ منهم كما مرّ من تفرّد ابن إدريس وحده بالتحريم ، وأنّ الإجماع قد سبقه
وتأخّر عنه في الحديث والقديم ؛ إذ الكلمات الموافقة ظاهراً ؛ إمّا حادثة بعد ذلك
الجيل ، أو ممكنة التأويل.
نعم
، يبقى الإشكال في أمرين : الأوّل : مزية التعليق بالظرف المشعر بالتقييد.
والثاني
: جعل الفقهاء
إيّاه قولاً قسيماً للقول بإطلاق الوجوب.
ويمكن
الجواب عن الأوّل بمثل ما ذكرناه في تقرير الاحتمال الأوّل ، وحاصله : التزام الخروج عن
الظاهر ؛ للقرينة الصارفة عن القاعدة الأصليّة ، وحمل مزية القيد على التنبيه على
مزيد الأهميّة ، لا إرادة الخصوصيّة ؛ لشيوع هذا الاستعمال من كثير في القيود
اللفظيّة ، وهو كافٍ في صون التعليق عن اللغويّة ، أو بأنّ المزية تمهيد حكم
البسملة مع السورة التي لا تكون إلّا في الأُوليين ؛ تنبيهاً على خلاف ابن الجنيد
، حيث إنّه لا يرى الإتيان بالبسملة معها فيهما لاستحبابها عنده ، أو أنّه لا
يراها آية منها
وإنْ قال بوجوبها.
وأمّا
عن الثاني فبجواز جعله
من باب حكاية القول الواحد في المسألة الواحدة بعبارتين مختلفتين ؛ حرصاً على
حكاية اللفظين ، تنبيهاً على اختلافهما في ظهور الدلالة وصراحة المقالة.
هذا ، والعمدة
نصّ ذينك الثقتين على قوله بالوجوب في الأخيرتين ، وإلّا ففي بعض ما ذكرناه مجال
ظاهر.
نعم ، يمكن
المناقشة في إرادته الوجوب من لفظ اللزوم باحتمال إرادته الاستحباب المؤكّد ؛
بقرينة استعمال اللزوم فيه في بعض المواضع كقوله في صلاة الجماعة : ( ويلزم إمام
الصلاة تقديم دخول المسجد ليقتدي به المؤتمّون ، ويتعمّم ويتحنّك ويرتدي ) .. إلى آخره.
مع الإجماع على عدم وجوبها.
وكقوله في صلاة
الجمعة : ( ويلزم الإمام الغسل ، وتغيير الثياب ، والطيب ، والتعمّم والتحنّك ،
والارتداء ، وتقديم دخول المسجد ، ليتأسّى به المسلمون ) .. إلى آخره ؛
للإجماع على استحبابها ، حتى إنّه رحمهالله عدّ غسل الجمعة من الأغسال الثلاثين المسنونة.
نعم ، فيه
حينئذٍ لزوم استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ، وهو سهل ؛ لجواز استعماله
في القدر المشترك ، أو بالتزام إرادته الاستحباب المؤكّد في الموضعين. ولا ينافيه
حكمه ببطلان الصلاة بالجهر أو الإخفات في غير مواضعهما ؛ لجواز جعله من باب الوجوب
الشرطي المجامع للاستحباب ، كالحكم بوجوب القيام في الأذان والإقامة عند القائل
باستحبابهما ، وكحكمه بشرطيّة الأذان والإقامة في صحّة الجمعة والجماعة ، وكحكمهم
بشرطيّة الطهارة في النوافل ، والله العالم.
وأما الصدوق رحمهالله ، فهو وإنْ كان ظاهر كلامه في المجالس الإيجاب ، إلّا
إنّ القرائن صرفته عنه إلى الاستحباب.
هذا ، وفي
الموجود عندنا من نسخة ( الجواهر ) نسبة القول بوجوب الجهر في
__________________
أُوليي الظهر والعصر إلى المجلسي.
إلّا أنّ حمله
على تحريف الناسخ ( الحلبي ) بـ ( المجلسي ) هو القريب الظاهر ؛ لأنّه إنْ أراد
محمّد تقي المجلسي الكبير ، فكلامه في ( شرح الفقيه ) ينافيه ، كما لا يخفى على
الخبير ، لأنّه بعد استدلاله للجهر بالبسملة بأخبار صفوان ، والكاهلي وحنان ، قال
: ( وهذه الأخبار تدلّ على استحباب الجهر للإمام ، كما قال ابن الجنيد باختصاصه به
، وإنْ أمكن أنْ يقال لغيره ؛ لعموم التأسّي ) .. إلى آخره. وهذا الكلام خالٍ من هذا المرام.
وإنْ أراد به
ابنه الماهر الملّا محمد باقر ، فكلامه في ( البحار ) ليس فيه إشعار ؛ لقوله رحمهالله : ( والظاهر رجحان الجهر في الجميع للإمام والمنفرد ،
والاستحباب أقوى ، وعدم الترك أحوط ؛ لإطلاق الوجوب في بعض الأخبار ) .
ولا يخفى ما
فيه من عدم الدلالة والإشعار ، وكذا كلامه في ( شرح التهذيب ) لقوله فيه بعد ذكر
الأقوال ـ : ( والأظهر استحباب الجهر في الجميع للمفرد والجامع ، والأحوط عدم
الترك ؛ لورود كثيرٍ من الأخبار بلفظ الوجوب ). انتهى.
فحمله على
تصحيف الناسخ هو المتعيّن واللائق بذلك الجناب ، والله العالم بالصواب.
القول الثالث : الفرق بين ما
تتعيّن فيه القراءة ، وبين ما يخيّر فيه بينها وبين التسبيح ، فيستحبّ الجهر بها
في الأوّل ، ويحرم في الثاني.
وهو قول
المدقّق العلي محمّد بن إدريس الحلّي ، في كتابه ( السرائر ) ، وقد مرّ
عليك تصريح الشهيد وغيره في ( الذكرى ) وغيرها بأنّه لم يُسبق إليه.
أقول
: ممّن يظهر منه
اختيار هذا القول أيضاً الشيخ علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي الفضل الحلبي في
كتابه ( إشارة السبق ) ، حيث قال في عدّ السنن : ( والجهر بالبسملة في أُوليي
الظهر والعصر من الحمد والسورة ) .
__________________
ومثله الشيخ
الفقيه محمّد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي في كتابه ( الوسيلة لنيل الفضيلة ) ،
حيث قال في تعداد الكيفيّة المندوبة : ( والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في ما لا
يجهر بالقراءة فيه في الموضعين ) .. إلى آخره.
هذا إنْ أراد
بالموضعين الحمد والسورة ، بناءً على أنّ ذكرهما قرينة على الأُوليين ، وأمّا لو
أريد بهما مطلق الظهر والعصر أو موضعا التعيين والتخيير ، فانطباقه على القول المشهور
في محلٍّ من الظهور.
بل يمكن إرجاعه
إليه على المعنى الأوّل أيضاً ؛ بناءً على أنّ المراد الحمد مطلقاً حيث كانت ،
سواء اجتمعت مع السورة أو انفردت ، مع ظهور قوله رحمهالله : ( في ما لا يجهر فيه بالقراءة ) في شمول ما نحن فيه ،
فسبيل هذه العبارة سبيل عبارة المحقّق وغيره ممّن عمّم الجهر في جميع مواضع الإخفات مع
التعبير بالحمد والسورة في تلك العبارات.
ولعلّك بعد
الإحاطة بما ذكرناه في وجه تخصيص الحلبي بالأُوليين تقدر على تثبيته الاستحباب في
الأخيرتين.
فإنْ
قيل : تعبير السيّد
السند في ( المدارك ) بالأكثريّة حيث نسب التعميم إلى قول الأكثر يقتضي كون
القول باختصاص الجهر بها بالأُوليين أيضاً كثيراً ؛ قضاءً لحقّ صيغة التفضيل ، إذ
احتمال انسلاخها عنه يحتاج إلى دليل.
قلت
: إنّ الكثرة
المدلول عليها بصيغة التفضيل الدالّة على المشاركة في الأصل والزيادة عليه قد توجّهت
إلى سائر الأقوال التي ذكرها كقوله وقول القاضي وأبي الصلاح وابن الجنيد ، فما
حظّه من تلك الكثرة إلّا سهم من أربعة ، فهي بالنسبة إلى كثرة القائلين بالتعميم
في الأُوليين والأخيرتين مطلقاً غير ملحوظة أصلاً ، فتأمّل.
القول الرابع : استحباب
الجهر بها للإمام خاصّة في الأُوليين والأخيرتين ، وأمّا المنفرد فيجهر بها في
الجهريّة ، ويخفت بها في الإخفاتيّة.
__________________
وهو قول ابن
الجنيد الإسكافي ، ولم ينقل له موافق.
القول الخامس : وجوب الجهر
بها في أُوليي الإخفاتيّة ، ووجوب الإخفات في ما عداهما ، وتخصيص الوجوب بأُوليي
السريّة للاتّفاق على وجوب الجهر بها في الجهريّة من حيث الجزئيّة.
وهذا القول هو
الظاهر من عبارة السيّد ابن زهرة في ( الغنية ) ، إلّا إنّه أسند دليله إلى
الاحتياط ، حيث قال : ( ويجب الجهر بجميع القراءة في أوّل المغرب والعشاء الآخرة
وصلاة الغداة ؛ بدليل الإجماع المشار إليه ، وببسم الله الرحمن الرحيم فقط في
أُوليي الظهر والعصر من الحمد والسورة التي تليها عند بعض أصحابنا ، وعند بعضهم
مَسْنون. والأوّل أحوط ؛ لأنّ من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم برئت ذمّته بيقين ،
وليس كذلك من لم يجهر بها ، ويجب الإخفات في ما عدا ما ذكرناه ؛ بدليل الإجماع
المشار إليه ) . انتهى.
ودلالته على
المطلوب لا تخفى على أُولي القلوب ، إلّا إن محقّق ( الجواهر ) قد احتمل إرادته
خلاف هذا الظاهر ، حيث قال بعد ذكر تفرّد ابن إدريس بتخصيص
الاستحباب بالأُوليين وتحريم الجهر بها في الأخيرتين ، واستشهاده بعبارة ( الذكرى
) وغيرها عليه ما لفظه : ( فصحّ حينئذٍ تفرّده بذلك ، وإنّ الإجماع قد سبقه
، بل ولحقه. نعم ، قد يظهر من عبارة ( الغنية ) موافقته ، بل وإنّه إجماع ، لكن
التتبّع يشهد بخلافه ، أو يحمل على ألّا يريد هذا الظاهر ، كما يومي إليه عدم ذكر
أحدٍ من الأصحاب له مخالفاً ) . انتهى.
وكأنّ الذي
ألجأه إلى هذا الاحتمال ثبوت تفرّد ابن إدريس بهذا القول من بين علمائنا الأبدال ،
وخروج البسملة من حيث هي عن مواضع الإخفات في عرف الشارع ، والمتشرّع من علمائنا
الثقات.
__________________
والحقّ رجوع
هذا القول لقول ابن البرّاج ، لما مرّ من المنهاج الظاهر ، والله العالم بالسرائر.
القول السادس : استحباب
الجهر بها مطلقاً ، لكن الإخفات في الأخيرتين أحوط.
وهو مختار جمع
من علمائنا المتأخّرين ، كالمحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح في ( منية
الممارسين ) ، وتبعه عليه جملةٌ من محقّقي المتأخّرين كالمحدّث المنصف الشيخ يوسف
في ( الحدائق ) ، بل قوّى قول ابن إدريس وجعله الأظهر ، وكالفاضل
العليّ الشيخ محمّد بن الشيخ عبد علي آل عبد الجبار في ( رسالة الصلاة ) ، والعالم
الأمجد الشيخ سليمان بن الشيخ أحمد آل عبد الجبار في ( النجوم الزاهرة ) و ( شرح
المفاتيح ) ، ومنهم شيخنا وأستاذنا المحقّق المدقّق المرتضى الأنصاري في تعليقه
على الرسالة العمليّة ، إلّا إنّه في ( فرائد الأُصول ) احتمل
الاحتياط بالجمع بتكرار الصلاة بالجهر والإخفات. ومنهم شيخنا وأستاذنا المحقّق
المدقّق الشيخ محمد حسين الكاظمي منبعاً والنجفي موضعاً في شرحه على الشرائع ،
إلّا إنّه قرّب وجوب هذا الاحتياط ، أمّا بالإخفات ، أو بالتكرار بالجمع بين الجهر
والإخفات ، والله الموفّق والهادي في الغايات والمبادي.
__________________
المقام الثاني
في ما يصلح للاستدلال على تلك الأقوال
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل : في الاستدلال على القول الأوّل
الذي عليه عند
جلّ الإماميّة المعوّل ، فنقول : لنا على ذلك وجوه :
[ الدليل ] الأوّل : ما قاله الشهيد الأوّل قدسسره في ( الذكرى ) ، والسيّد السند في ( المدارك ) ، وبهاء
الملّة والدين في ( الحبل المتين ) ، وغيرهم من الأفاضل المحقّقين ، من أنّ الجهر بالبسملة
شعار الملّة المحقّة ، والثلّة الحقّة ، من حيث كونها بسملةً من غير تقييد بحالة
من الحالات ، ولا بصلاةٍ من الصلوات ، ولا بركعةٍ من الركعات.
ولا يخفى أنّ
كونه من شعارهم يشعر بكونه من ضروريّات مذهبهم التي لا يجوز إنكارها.
ويؤيّده
: ما نقلوه
أيضاً عن الثقة الجليل الحسن بن أبي عقيل من تواتر الأخبار بعدم التقيّة فيه ؛ ويؤيّده ما رواه
في ( البحار ) مرسلاً عن الباقر عليهالسلام ، أنّه قال : « التقيّة
ديني ودين آبائي ، إلّا في ثلاث : في شرب المسكر ، والمسح على الخفّين ، والجهر
ببسم الله الرحمن الرحيم » .
__________________
وحينئذ فيدخل
منكره من حيث هو في منكر الضروري بالدليل القطعي.
ولهذا ورد في
بعض الأخبار النهي عن الصلاة خلف من لا يجهر بها ، وهو ما رواه أبو الحسن الشيخ
سليمان بن عبد الله الماحوزي في ( أزهار الرياض ) ، قال : ( وجدت في كتابٍ عتيق
مصحّح من كتب الحديث لأصحابنا الإماميّة رضوان الله عليهم حديثاً هذه صورته : سئل
الصادق عليهالسلام عمّن لا يجوز الصلاة خلفه؟ قال : « لا
تصلِّ خلف مَنْ لا يمسح على الرجلين ، ولا خلف مَنْ لا يقنت في الركعتين قبل
الركوع ، ولا خلف مَنْ لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ولا خلف مَنْ لا يؤمن
بالرجعة ، ولا خلف مَنْ لا يقول : إنّ الإمام معصوم ، ولا خلف مَنْ يمسح على
الخفّين » ) .. إلى آخره. وهو حديثٌ طويل ، أخذنا منه موضع الحاجة ، وسيأتي إنْ شاء
الله تعالى بتمامه وكماله عند الاستدلال بالأخبار.
ولا يخفى ما في
ذكره مع ما هو من ضروريّات المذهب من الدلالة على المطلب.
بل قد اعترف
خصومنا الأشرار باختصاصنا بهذا الشعار ، وأنّه مذهب أهل البيت الأطهار.
ففي
تفسير الرازي : ( قالت الشيعة
: السنّة هي الجهر بالتسمية ، سواء كانت في الصلاة السريّة أو الجهريّة ، وجمهور
الفقهاء يخالفونهم فيه ) .
وفيه
أيضاً : ( إنَّ عليّاً عليهالسلام كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع
الصلوات ) .
وفيه
أيضاً بعد نقله
الجهر عن ابن الخطاب ، وابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ـ : ( وأمّا إنَّ عليّ
بن أبي طالب عليهالسلام كان يجهر بالتسمية ، فقد ثبت بالتواتر ، ومَنْ اقتدى في
دينه بعليِّ بن أبي طالب فقد اهتدى. والدليل عليه قوله عليهالسلام
اللهم أدِرِ
الحقَّ مع عليٍّ حيث دارَ
) . وفيه أيضاً : ( إنَّ عليّاً عليهالسلام كان يبالغ في الجهر بالبسملة ، فلمّا وصلت الدولة إلى
بني أُميّة بالغوا في المنع من الجهر ، سعياً في إبطال آثار عليّ عليهالسلام ) . انتهى.
ومتى ثبت أنَّه
مذهب أمير المؤمنين ثبت أنّه مذهب شيعته الميامين.
__________________
وعن أبي حاتم
السجستاني ، أنّه قال : ( روى عبد العزيز بن الخطاب ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ،
قال : أجمع آل الرسول صلىاللهعليهوآله على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وعلى ألّا يمسحوا
على الخفّين ).
قال ابن خالويه
بعد نقله : ( هذا مذهب الشيعة ، ومذهب أهل البيت عليهمالسلام ). انتهى.
ونقله بعض
مشايخنا عن ( كشف الغمّة ) أيضاً ، حذو النعل بالنعل ، وهو شاهد بصحّة هذا النقل.
وممّا يدلّ على
كونه من شعارهم ، نشرَ اللهُ أعلام انتصارهم مضافاً إلى الأخبار الآتية ما رواه
شيخ الطائفة في ( التهذيب ) ، و ( المصباح ) ، عن أبي محمّد الحسن بن علي العسكري عليهالسلام ، أنه قال : « علامات
المؤمن خمسٌ : صلاة الخمسين ، وزيارة الأربعين ، والتختّم باليمين ، وتعفير الجبين
، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » .
ونقله الشيخ
محمّد المقابي من ( الاستبصار ) ، وقد تتبّعته فلم أقف عليه فيه ، ونسبة الزلّة
للقلم أوْلى من نسبتها للقدم.
وناهيك بتظلّم
سيّد الموحّدين وقائد الغرّ المحجّلين من تاركيه وردّه على منكريه ، وعدّه تركه من
جملة المظالم التي لم يقدر ظاهراً على دفعها ، والمناكر التي لم يُطَع في رفعها ،
دليلاً صحيحاً عليه ، وسنداً صريحاً إليه ، ففي ( روضة الكافي ) عن سُلَيْم بن قيس
الهلالي ، قال : خطب أمير المؤمنين فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ صلّى على النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ثمّ قال : « ألا إنَّ
أخوف ما أخاف عليكم خلّتان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل ، أمّا اتّباع الهوى فيصدّ
عن الحقِّ ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة ».
إلى أنْ قال عليهالسلام
: « وقد عملت الولاة قبلي
أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، متعمّدين لخلافه ، ناقضين
لعهده ، مغيّرين لسنّته ، ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها التي
كانت في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله لتفرّق عنّي جندي حتى أبقى وحدي ».
إلى أنْ قال عليهالسلام
: « أرأيتم لو أمرت بمقام
إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلىاللهعليهوآله كما
كان ، وأمضيت قطائع قطعها رسول الله صلىاللهعليهوآله لأقوام
فلم يمض لهم ولم تنفذ ، ورددت
__________________
قضايا
من الجور قضاها ، ونزعت نساءً تحت رجالٍ بغير حقٍّ ، فرددتهن إلى أزواجهن ،
واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأحكام ، وسبيت ذراري بني تغلب ، ورددت ما قسم من
أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا ، وأعطيت كما كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يعطي
بالسويّة ، ولم أجعلها دُولةً بين الأغنياء ، وأنفذت خمس الرسول صلىاللهعليهوآله كما
أنزل الله عزوجل وفرضه
، ورددت مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى ما كان عليه ، وسددت ما فتح فيه من
الأبواب ، وفتحت ما سدّ منه ، وحرّمت المسح على الخفّين ، وحددت على النبيذ ،
وأمرت بإحلال المتعتين ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات ، وألزمت الناس
الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأخرجت من أدخل مع رسول الله صلىاللهعليهوآله في
مسجده ممّن كان رسول الله صلىاللهعليهوآله أخرجه
، وأدخلت من أخرج بعد رسول الله ممّن كان رسول الله صلىاللهعليهوآله أدخله
، وحملت الناس على حكم القرآن ، وعلى الطلاق على السنّة ، وأخذت الصدقات على
أصنافها وحدودها ، ورددت الوضوء والغسل الى مواقيتهما وشرائعهما ومواضعهما ، ورددت
أهل نجران إلى مواضعهم ، ورددت سبايا فارس وسائر الأُمم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله ، إذاً
لتفرّقوا عنّي » . إلى آخر كلامه ، عليه أفضل صلاة الله وسلامه.
وقريبٌ منه ما
سيأتي في خبر هداية الحضيني.
فأجِلْ أيُّها
الأديب الأريب العريف جواد فكرك في فيافي هذا الخبر الشريف ، وسرّح بريد فهمك في
ما تضمّنه هذا الأثر الطريف ، تجد فيه شفاءً لما في الصدور ، وظهوراً في المدّعى ،
ظهور النور على ذرى الطور ، حيث قد قرنه بالحدِّ على النبيذ ، وتحريم المسح على
الخفّين ، والتكبير على الجنائز خمس تكبيرات ، التي كلٌّ منها من متفرّدات الأئمّة
الهداة ، وسِمات شيعتهم السراة.
بل صرّح الرازي
في تفسيره الكبير أنَّ الجهر بها في سالف الأعصار مذهب جميع المهاجرين والأنصار ،
حيث إنّه روى فيه عن الشافعي بإسناده : ( إنّ معاوية قدم المدينة فصلّى بهم ، ولم
يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يكبّر عند الخفض إلى
__________________
الركوع والسجود ، فلمّا سلّم ناداه المهاجرون والأنصار : يا معاوية! سرقتَ
من الصلاة ، أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثمّ
إنّه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير ).
ثمّ قال : (
قال الشافعي : إنّ معاوية كان سلطاناً ، عظيم القوّة ، شديد الشوكة ، فلولا أنّ
الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرّر عند كلّ الصحابة من المهاجرين والأنصار ،
وإلّا لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية ) . انتهى.
ولا يخفى ما
فيه من الدلالة القويّة ، وحينئذ فيصدق على منكره بالكلّيّة قول ربّ البريّة ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما
تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ) ( فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ ) .
فإن
قيل : إنّ إقامة
الشعار تتحقّق بالجهر بها في مواضع الإجهار.
قلنا
: لا يخفى على
نبيه نبيل ، بل على مَنْ له أدنى تحصيل ، أنّ إقامة ذلك الشعار إنّما يتحقّق
بالجهر بها في مواضع الإسرار ، إذ الجهر بها هناك ليس لحيثيّة الشعار ، وإنّما وقع
تبعاً لما لا بدّ فيه من الإجهار ، وإلّا لخرج الشعار عن كونه شعاراً بجهر المخالف
الذي يراها آيةً من الفاتحة في المواضع الجهريّة ، كما لا يخفى على ذي رويّة.
نعم ، مقتضى
الحكاية عن الشافعيّة من الجهر بها حتى في المواضع الإخفاتيّة ينافي تحقّق
المخالفة أيضاً بالجهر في المواضع السريّة ، بل ينافي أيضاً ما دلّ من الآثار على
أنّ الجهر بها من علامات الإيمان ولو كاملاً والشعار.
إلّا
أنْ يقال : لمّا كان السواد الأغلب من العامّة العميّة والجمّ الغفير من الفرقة
الغويّة ، على تحريم الجهر بها مطلقاً حتى من القائلين فيها بالجزئيّة ، وكان مَنْ
يجهر بها قليلاً من كثير ، بل كنقطةٍ من غدير ، وردت هذه الأخبار على مقتضى ما دان
به في
__________________
الزمن الحديث السواد الأغلب ، وصار هو المعوّل عليه عندهم ، والشائع في
المذهب. أو إنّ هذا القول إنّما حدث بعد صدور تلك الأخبار ، وأنّهم خذلهم الله
تعالى حال الصدور أو قبله لا يجهرون أصلاً في جميع الأمصار ، كما يومي إليه خبر
الهلالي وغيره من الآثار. أو إنّ معنى كون الجهر بها من شعار الشيعة أنّ كلّ شيعي
يجهر بها لا العكس ، فالتشيّع لازم للجهر ، لا أن المجهر لازم للتشيّع ، فحينئذٍ
لا ينافي الشعار وجود من يجهر بها من بعض الأشرار ، كما لو قال بعضهم بعدم جواز
المسح على الخفّين ، أو بحلِّ المتعتين ، مع أنهما من ضروريّات مذهبنا من غير
مَيْنٍ .
وربّما
يجاب أيضاً بأنّ الجهر الذي هو من علامات الإيمان هو الجهر بعنوان الوجوب ، لا مجرّد
الجواز أو الاستحباب ، أو الجهر بها حيث كانت من مواضع التسمية لا في خصوص الصلوات
، بل في جميع ما ورد فيه البسملة وجوباً أو ندباً من سائر الحالات.
إلّا إنّ
الأوّل خلاف المشهور بين أصحابنا الثقات ، والثاني وإنْ ساعده ظاهر الإطلاقات إلّا
أنّ خبر ( مختصر البصائر ) و ( الهداية الحضينية ) مقيّد لجهرهم بها في الصلاة
فيكون مقيّداً لها بمقتضى القاعدة ، فتأمّل ، والله العالم العاصم.
الدليل الثاني : الإجماع منقولاً كما مرّ ، ومحصّلاً من تتبّع كلمات علمائنا الأكابر على
رجحان الجهر بالبسملة في الركعات الأواخر ممّا عدا الحلّي في ( السرائر ) ، وإنْ وقع
الخلاف في كونه على وجه الاستحباب كالمشهور ، أو الإيجاب كبعض الأصحاب.
ويؤيّده
: ظهور حكاية
الإجماع على استحباب هذا الإجهار ممّا سمعت من ظاهر ( مجمع البيان ) ، و ( المعتبر
) ، و ( التذكرة ) ، و ( الذكرى ) ، و ( كنز
__________________
العرفان ) .
ولذا قال في (
الجواهر ) في ردّه قول الحلبي ببعض ما مرّ من العبائر : ( فصحّ تفرّده به ، وإنّ
الإجماع قد سبقه ولحقه ) . انتهى.
وهو قويٌّ
متينٌ ؛ بناءً على إطلاق الإجماع على ما كشف عن الدليل ، الذي هو قول المعصوم
الجليل ، وإنْ لم يكن بالمعنى الحقيقي المصطلح عليه بين جميع الأُصوليّين ؛ فإنّ
المقرّر في فنّه : إنّ هذا الاتّفاق كالمصطلح عليه في الحجّيّة ، وإنْ خرج عنه
بحسب الموضوعيّة ، قصاراه التجوّز في إطلاق الإجماعيّة ، ولا ضير فيه مع قيام
القرينة القويّة. بل صرح كثيرٌ بأنّ الإجماع عند الإماميّة هو هذا المعنى ، وأمّا
اتّفاق الكلِّ فهو اصطلاح العامّة العميّة ، فإنّ مدار الحجيّة ومنار الحقيّة عند
الإماميّة العدليّة ليس إلّا الكشف عن قول الحجّة ، أو فعله ، أو تقريره ، التي
بكلٍّ منها تتّضح المحجّة ، فلا يجدي كثرة القائلين مع عدم الاستناد إلى دليلٍ
مبينٍ ، والبناء على أصلٍ متينٍ ، والرجوع إلى ركنٍ مكينٍ ، بل يتحقّق في المسألة
التي يتحقّق فيها الخلاف حال تحقّق ذلك الانكشاف بالدلالة المطابقيّة ، أو
التضمنيّة ، أو الالتزاميّة ، عقليّة أو عاديّة.
فإنْ
قيل : هذا ينافي ما
قرّرتموه من منع الإجماع في موضع النزاع.
قلنا
: هذا ليس على
إطلاقه ، بل هو مقيّد بما إذا كان الجانب المخالف قويّاً ؛ لقوّة دليله ، ووضوح
سبيله ، وكثرة القائلين المعتبرين به.
أمّا إذا لم
يكن كذلك كما نحن فيه فلا ؛ فإنّ مجرّد خلاف الواحد والاثنين والثلاثة لا يقدح في
تحقّق الإجماع ، سيّما إذا كانوا معروفي النسب والمستند ، كما لا يخفى على ذي
اطّلاع.
والحكم بتحقّقه
في مسألة خاصّة لا يستلزم تحقّقه مطلقاً ، وبالعكس ؛ لدورانه في الحجيّة مدار
الكشف وجوداً وعدماً ، لا مدار الكثرة والاتّساع.
ولنعم ما قاله
سيّد المحقّقين وسند المدقّقين بحر العلوم السيّد المهدي الطباطبائي
__________________
المرحوم : ( وطريق العلم بالإجماع تتبّع الفتوى والعمل ، والنقل المتواتر ،
والمحفوف بقرائن العلم ، وتصفّح الأخبار والآثار ، وكثرة المزاولة ، وطول المراجعة
، وتواتر الخلف عن السلف ، وتناول الأثر يداً بيد ، وحصول التسامع والتضافر
بالتدريج ) .
ولا يخفى على
مَنْ نظر بعين الإنصات والإنصاف ، وتنكّب طريق الاعتساف ، تحقّق هذا الطريق في ما
ندعيه بأوضح طريق ، إذ وقع الاتّفاق على الجهر في الزمن السابق ، ولم يُنقل الخلاف
في الزمن اللاحق إلّا عن ابن إدريس ، مع العلم بأنّ مستنده غير مطابق ، فلا يخلّ
بالإجماع ، كما لا يخفى على متتبّعٍ حاذقٍ.
ولا تزال
تسمعهم يقولون : ولا عبرة بخلاف فلانٍ وفلانٍ وفلانٍ ؛ لمعروفيّة نسبهم ، وسبق
الإجماع عليهم ، وتأخّره عنهم ، كما وقع لهم في دعوى الإجماع على وجوب الإخفات
بالتسبيح في الأخيرتين ولم يعتبروا بخلاف ابن إدريس ، قالوا : لسبق الإجماع عليه ،
وتأخّره عنه .
وليت شعري ما
الفارق بين الخلافين؟ مع اعتضاد هذه الدعوى بوفاق ابن الجنيد ، والشيخ ، والسيّد
المرتضى ، فلينظر الناقد البصير ، ولا ينبّئك مثل خبير.
فإنْ
قيل : إن عبارة (
الذكرى ) ، و ( التذكرة ) ، و ( المعتبر ) ، و ( مجمع البيان ) من قبيل حكاية
الإجماع التقييدي ، الذي لا يعلم منه إرادة الإمام ، فلا يكون دليلاً في المقام.
قلتُ
: أما على ما
استظهره البعض من أنّ سيرة الفقهاء الثقات عدم فرقهم في بيان الإجماعات من تلك
العبارات ، فظاهرٌ لذي التفات ، وأمّا على ما حقّقه بعض المحقّقين من مشايخنا
المعاصرين ؛ فلأنّ ظاهرهم أنّهم إنّما يريدون بالفرق بين تلك
__________________
العبارات عدم دلالة بعضها كما نحن فيه على الإجماع الحقيقي الاصطلاحي ، لا
نفي الحجيّة في نفي هذا الاتّفاق الكاشف أصلاً ، ولا نفي كونه إجماعاً باعتبار
الكشف المنقول ولو مجازاً ، على أنّه إنّما يتمّ في الإجماع المنقول لا ما يدّعى
من المحصّل الثابت الحصول ، إلّا إنّ في حجّيّة مثل هذا الاتّفاق كلاماً طويل
الذيل ، مستمدّ السيل ، كما هو مبسوطٌ في فنّ الأُصول ، والله العالم الموفّق لنيل
السؤل.
الدليل الثالث : الأخبار الكثيرة المتضافرة ، كما صرّح به ثاني الشهيدين في ( شرح النفليّة
) ، بل البالغة حدّ التواتر كما صرّح به بعض الفضلاء كـ ( الرياض ) وغيره.
ويؤيّده
: عمل السيّد
المرتضى ، وابن البرّاج بها ، وحكمهم بموجبها ، مع ما علم من طريقهم من عدم
عملهم بأخبار الآحاد الظنيّة ، وقَصْرِهم العمل على السنّة المتواترة القطعيّة.
ويزيده
تأييداً : أنّ المعتبر
في التواتر عند الإماميّة هو حصول العلم بصحّة النقل ، وأمّا العدد فغير معتبرٍ
عندهم بالكلّيّة ، كما صرّح به المازندراني وغيره من محقّقي الإماميّة ، مضافاً إلى ما صرّح به غير
واحدٍ من المحقّقين ، كالسيّد المرتضى ، والشيخ الطوسي ، والمحقّق الثالث في بحث الإجازة من ( المعالم ) ،
وصاحب ( الرواشح السماويّة ) المعروف بثالث المعلّمين المحقّق العماد السيّد محمّد
باقر الداماد ، والشيخ حسين بن شهاب الدين ، والورعين المجلسيّين ، والسيّد عبد
الله الشوشتري ، وغيرهم من المحدّثين والمجتهدين ، بأنّ أخبارنا المعمول بها عندنا
؛ أمّا متواترة ، أو كالمتواترة في إفادة العلم واليقين ، على أنّه إنْ لم يحصل
اللفظي فلا أقلّ من المعنوي.
__________________
قال بعض
المحقّقين : ( والقول بأنّ الأصول الأربعة مستندةٌ إلى ثلاثة والتواتر لا يحصل
بقولهم مدفوعٌ بأنّ العدد غير معتبرٍ في التواتر ، بل المعتبر هو حصول العلم بصحّة
النقل. ولا يخفى على المنصف أنّ هؤلاء الثلاثة إذا اتّفقت دلالة رواياتهم مع
اختلاف المتون ، أو اتّفقت المتون مع اختلاف السند ، يحصل العلم بالتواتر ؛ إمّا
لفظاً أو معنى ، سيّما إذا صرّحوا بأنّ ما ذكروه مأخوذٌ من عدّة كتب من الأُصول
المدوّنة في الأحاديث ؛ لأنّ العادة قاضيةٌ بأنّ هؤلاء مع كمال ورعهم ، وشدّة
اهتمامهم في الدين ، وتقدّمهم على الفئة الناجية لا يكذبون في ذلك ، ولا يفترون
على الله كذباً ). انتهى كلامه ، علت في فراديس الجنان أقدامه. وهو حقٌّ مبينٌ ،
قويٌّ متينٌ ، وجوهرٌ ثمينٌ.
إذا تقرّر هذا
، فالذي عثرنا عليه من الأحاديث الصالحة للانتظام في سلك الاستدلال ، والسبق في
حَلْبَةِ هذا المجال ، ممّا ينوف على عشرين حديثاً واردة عن الآل ، إلّا إنّها على
أنحاء وأحوال ، تظهر للناظر فيها ، ولما نوشّحها به من الكلام بعين التأمّل
التامّ.
وها نحن نتلوها
عليك مشفوعةً بما يكشف عنها حجاب الإبهام ، ويميط حجال الإيهام :
١ ـ فمنها : ما رواه شيخ الطائفة في ( التهذيب ) ، عن الحسين بن سعيد ، عن عبد الرحمن
ابن أبي نجران ، عن صفوان بن مهران ، قال : ( صلّيت خلف أبي عبد الله عليهالسلام أيّاماً ، وكان يقرأ في فاتحة الكتاب : بسم الله الرحمن
الرحيم ، فإذا كانت صلاة لا يجهر فيها بالقراءة جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ،
وأخفى ما سوى ذلك ) .
ورواه في (
الاستبصار ) أيضاً ، عن أحمد بن محمّد ، عن أبيه ، عن الحسين بن الحسن بن أبان ،
عن الحسين بن سعيد .. إلى آخره.
أقول
: لا يخفى على
ذي بالٍ صحّة هذا الحديث بلا إشكال ، كما يظهر من كتب
__________________
علم الرجال ، إذ ليس في سنده مَنْ يتوقّف في حاله ، إذ كلّهم إماميّون
ممدوحون بالتوثيق ، كما لا يخفى على مَنْ شرب بكأس رحيق التوفيق.
إلّا إنّه
بطريق ( الاستبصار ) قد اختلف فيه علماؤنا الأبرار ، فمنهم من عدّه في الحسن ؛
لاشتماله على الحسين بن الحسن ، ومنهم من عدّه في الصحيح ، ولعلّه هو الصحيح.
وقد صحّح
العلّامة وابن داود طرقاً كثيرةً هو فيها ، كما نقله عنهما الشيخ ياسين في ( معين
النبيه ) ، والمحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح في ( منظومة الرجال ) ، وصرّحا
بعدِّ حديثه في الصحيح.
وكيف كان ،
فالخلاف هنا قليل الجدوى ؛ لاتّفاقهم على قبول حديثه والعمل به ؛ لكونه من مشايخ
الإجازة.
وقد نطق هذا
الصحيح بلسان البيان الصريح بأنّه عليهالسلام كان يداوم على الجهر بها في جميع الصلوات ، قضاءً لصيغة
( كان ) المشعرة بالدوام.
ودلّ قوله : (
فإذا كانت صلاة لا يجهر فيها بالقراءة ) .. إلى آخره ، على أنّه يجهر بها إذا قرأ
الأخيرتين ، لتعميمه الجهر بها في الصلاة غير الجهريّة ، وهو شاملٌ للأخيرتين.
وهذا الصحيح
وإنْ دلّ بظاهره على عدم قراءة السورة ، إلّا إنّ خبر صفوان المرويّ في ( الكافي )
دلّ على قراءتها ؛ لقوله فيه : ( وكان يجهر في السورتين جميعاً ).
ثمّ لا يخفى
على ذي ثبات ما فيه من عدم الدلالة على الاختصاص بالأُوليين بإحدى الدلالات ، إذ
قصارى ما دلّ عليه الصدْرُ أنّه يقرأ في فاتحة الكتاب بالبسملة ، والعجزُ على أنّه
يجهر بالبسملة في الصلاة الإخفاتيّة ، ويخفي ما سواها من أجزاء الفاتحة.
وكلاهما لا
يدلّ على الاختصاص ، بل دلالتهما على العموم ظاهرة ، ولات حين مناص ؛ لأنّه عليهالسلام ؛ إمّا أن يكون في الأخيرتين قارئاً ، أو مسبّحاً.
__________________
فعلى
الأوّل يثبت المطلوب
، إذ قد دلّ الصدر على أنّ الراوي أخبر عن الإمام عليهالسلام أنّه يقرأ في فاتحة الكتاب البسملة ولا يحذفها ، ولو لم
يجهر بها لم يعلم أنّه يحذفها أو يقرأها ، والعجز على جهرة بها في ما لا يجهر فيه
بالقراءة ، من غير تقييدٍ في الموضعين بالأُوليين.
وعلى
الثاني لا دلالة فيه
على أحد الدعويين ، وهذا بحمد الله واضح المنار ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.
٢
ـ ومنها : ما رواه ثقة
الإسلام في ( الكافي ) عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ،
عن القاسم بن محمّد ، عن صفوان الجمّال ، قال : ( صلّيت خلف أبي عبد الله عليهالسلام أيّاماً ، وكان يقرأ في فاتحة الكتاب بسم الله الرحمن
الرحيم ، فإذا كانت صلاةٌ لا يجهر فيها بالقراءة جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ،
وكان يجهر في السورتين جميعاً ) .
أقول
: إنّما جعلنا
هذا خبراً على حدة مع احتمال اتّحاده مع الصحيح السابق احتمالاً قريباً ؛ اقتفاءً
لأثر العلماء الأعلام الأبدال حيث جعلوه خبراً بالاستقلال.
وقد عدّه بعض
الفضلاء من قسم الضعيف بالقاسم بن محمّد الجوهري ، وهو وإن كان
واقفيّاً إلّا إنّ ابن داود وثّقه .
وكيف كان ،
فوقفه لا يوجب عدّ حديثه في الضعيف مع ثبوت توثيق ابن داود له.
وربّما توهم
أنّه الأصفهاني المعروف بكاسولا ، وليس كذلك ؛ لأنّ رواية الحسين بن سعيد عنه
قرينة على أنّه الجوهري ، إلّا إنّ في الاكتفاء بتوثيق ابن داود له نظراً ظاهراً :
أمّا
أوّلاً ؛ فلانفراده به
دون غيره من الأوائل والأواخر.
وأما
ثانياً ؛ فلبنائه في
ذلك على التعدّد لذكر الشيخ رحمهالله له في رجاله مرّةً في أصحاب
__________________
الكاظم عليهالسلام ومرّة في باب : من لم يروِ عنهم عليهمالسلام ، وهو لا يدلّ على التعدّد ، لأنّه رحمهالله كثيراً ما يذكر الرجل مرّتين أو أكثر لبعض الاعتبارات
ولو باختلاف أوصافه وأحواله ، كما لا يخفى على مَنْ راجع فهرسته وكتاب رجاله.
وكيف كان ،
فالتقريب فيه كالأوّل.
٣
ـ ومنها
: ما رواه رئيس
المحدّثين محمّد بن علي الصدوق في ( العيون ) بسنده المتّصل إلى تميم بن عبد الله
القرشي ، قال : ( حدّثني أبي ، عن أحمد بن علي الأنصاري ، قال : سمعت رجاء بن أبي
الضحّاك يقول : بعثني المأمون في إشخاص علي بن موسى الرضا عليهالسلام من المدينة .. ) ، ثمّ حكى جملةً وافرة من أحواله
الطاهرة ، وعبادته الوافرة ، إلى أنْ قال : ( وكان عليهالسلام يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع صلاته بالليل
والنهار ) .
أقول
: لا يخفى على
ذي فكر نقّاد وفهمٍ وقّاد ما في هذا الخبر الشريف من الدلالة على عموم جهره عليهالسلام بها في حال الائتمام والانفراد ، إلّا إنّه مختصٌّ
بالأُوليين ؛ لأنّه عليهالسلام لا يقرأ في الأخيرتين ، بل كان عمله التسبيح ؛ لقوله
فيه : ( وكان يسبّح في الأُخراوين ، يقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا
الله والله أكبر ، ثلاث مرّات ).
وفيه دلالةٌ
على أنّه عليهالسلام كان يجهر بالتسبيح ، كما لا يخفى على ذي فكر صحيح ،
إلّا أنْ يُلتزم بعدم المنافاة بين الإخفات وسماع الغير ، كما مرّ فيه الكلام ،
وأنّه غير رجيح.
وحينئذٍ ، لا
دلالة فيه على أحد الدعويين ، وإنّما الغرض من ذكره الردّ على ابن الجنيد ؛ لتخصيصه
الجهر بالإمام.
بل ربّما
يستفاد من قوله : ( وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ) .. إلى آخره ، أنّه لو
كان يقرأ في الأخيرتين لجهر فيها بها ، ويستفاد منه ومن أمثاله أنّ السبب في عدم
__________________
التصريح بحكم البسملة في الأُخريات إنّما هو ملازمتهم عليهمالسلام للتسبيح في غالب الأوقات ، والله العالم.
قال بعض
الفضلاء المتأخّرين : ( ورجاء بن أبي الضحّاك وإنْ لم يكن من رجالنا لكن لا يستطيع
في هذه الأحوال والأقوال عن الرضا عليهالسلام أنْ يقول الزور ، فإنّ الله ألجم الألسنة أنْ تلوّث
أعراض أئمتنا عليهمالسلام بنوعٍ من النقص والقصور ، في الغيبة والحضور ). انتهى
كلامه ، علت في الخلد أقدامه.
ولا يخفى ما
فيه ، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه ، والله العالم بظاهر الأمر وخافيه.
٤
ـ ومنها : ما رواه شيخ
الطائفة في كتابي الأخبار حسناً عن محمّد بن علي بن محبوب ، عن محمّد بن الحسين ،
عن محمّد بن حمّاد بن زيد ، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، قال : ( صلّى بنا أبو
عبد الله عليهالسلام في مسجد بني كاهل ، فجهر مرّتين ببسم الله الرحمن
الرحيم ، وقنت في الفجر ، وسلم واحدة ممّا يلي القبلة ) .
أقول
: مسجد بني كاهل
من المساجد الممدوحة في الكوفة ، ويعرف أيضاً بمسجد أمير المؤمنين عليهالسلام ؛ لأنّه يصلّي فيه.
وهذا الخبر
يحتمل وجوهاً من التأويل :
منها
: ما خطر بالبال
العليل ، والفكر الكليل ، وهو أحسنها وأقربها من الدليل : أنّ قول الراوي ( فجهر
وقنت وسلم ) إخبار عمّا فعله الإمام عليهالسلام أوقات صلاته في ذلك المسجد من الأُمور المخالفة لأفعال
العامّة العمياء ، فأخبر أنّه عليهالسلام جهر بالبسملة مرّتين ، أي : في وقتين من أوقات صلاته في
ذلك المسجد ؛ لعدم حضور أحدٍ من العامّة فيهما.
وحينئذٍ ،
يتّجه الاستدلال به للمشهور ، حيث أخبر الراوي أنّ الإمام عليهالسلام جهر بالبسملة في ذينك الوقتين من غير تقييد بالأُوليين.
__________________
ويؤيّده
: أنّ جمعاً
ممّن استدلّوا به له يقتصرون على قول الراوي : ( فجهر مرّتين ببسم الله الرحمن
الرحيم ) ويتركون آخره ؛ بناءً على أنّه أحد الأُمور التي شاهدها منه في تلك
الأوقات.
٥
ـ ومنها : أنّ تلك
الصلاة كانت ثنائيّة كما هو ظاهر الخبر ، بناءً على جعل الظرف قيّداً للقنوت
والجهر ، إلّا إنّه عليهالسلام ترك بسملة السورة في الركعتين تقيّةً كما هو مذهب بعض
الشافعيّة ؛ بناءً على عموم التقيّة فيها ، أو أنّه عليهالسلام ترك الجهر بالبسملة في السورة كما هو قول جلّ العامّة ،
أو أنّه ترك السورة تقيّةً ؛ لكونه مذهب الشافعي وغيره من الجمهور ، أو أنّ الراوي
كان مسبوقاً بركعةٍ ، أو أنّه لم يسمع جهر الإمام عليهالسلام في إحدى الركعتين لكثرة الصفوف وبُعْده عنه ، إذ لا يجب
على الإمام إسماع المؤمنين إذا كثروا ؛ لصحيح عبد الله بن سنان ، قال : قلت لأبي
عبد الله عليهالسلام : على الإمام أنْ يُسْمع مَنْ خلفه وإنْ كثروا؟ قال : « ليقرأ
قراءة وسطاً ، يقول الله تبارك وتعالى ( وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) » .
كما حمل عليه
الشيخ خبر مِسْمَع البصري ، قال : ( صلّيت مع أبي عبد الله عليهالسلام فقرأ ( بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، ثمّ قرأ السورة التي بعد الحمد ، ولم يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ثمّ قام في الثانية ، فقرأ الحمد ولم يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ثمّ قام في الثانية ، فقرأ الحمد ولم يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ).
حيث قال : ( لا
ينافي هذا الخبر ما قدّمناه من تأكيد الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ؛ لأنّه
يتضمّن حكاية فعل ، ويجوز أنْ يكون مِسْمَع لم يسمع أبا عبد الله عليهالسلام يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ؛ لبُعْدٍ كان بينه وبينه
) . انتهى كلامه ، علت في الخلد أقدامه.
وكيف كان ،
فالوجه الحسن في تقريب هذا الحسن هو ما قدّمناه أوّلاً.
__________________
ويؤيّده
: استدلال جمعٍ
من أفاضل المحقّقين ممّن أمن عثارهم في التحقيق ، ولم يشق غبارهم في التدقيق ،
كالسيّد السند ، وبهاء الملّة والدين ، وغيرهما
بهذا الخبر المأثور على القول المشهور ، وإلى الله تصير الأُمور.
لكنّه إنّما
يتمّ على ما اعتمدوه من الاقتصار على رواية ( التهذيب ) و ( الاستبصار ) ، ولكن قد
رواه المجلسي في مزار ( البحار ) عن مؤلّف ( المزار الكبير ) ومزار الشهيد ، عن
عبد الله بن يحيى الكاهلي ، قال : ( صلّى بنا أبو عبد الله عليهالسلام في مسجد بني كاهل الفجر ، فجهر في السورتين ، وقنت قبل
الركوع ، وسلم واحدةً تجاه القبلة ) . انتهى.
وهو صريحٌ في
كون تلك الصلاة ثنائيّةً ، ووقوع الجهر بها في كلتا السورتين بكلٍّ من الركعتين.
٥
ـ ومنها : ما رواه
المحدّث الماهر المجلسي في ( البحار ) ، والمحدّث المحسن الكاشاني في ( الصافي )
في تفسير قوله تعالى ( وَإِذا ذَكَرْتَ
رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) ، نقلاً من تفسير الثقة الجليل محمّد بن عمر بن مسعود
العيّاشي صحيحاً عن منصور بن حازم ، عن الصادق عليهالسلام
: « إنّه كان رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا
صلّى بالناس جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، فيتخلّف مَنْ خلفه من المنافقين عن
الصفوف ، فإذا جاوزها في السورة عادوا إلى مواضعهم ، وقال بعضهم لبعض : إنّه
ليردّد اسم ربّه ترداداً ، إنّه ليحب ربّه » .. إلى آخره.
أقول
: لا يخفى على
ذي لبٍّ خَلِي من الريب والرين ما دلّ عليه هذا الخبر الشريف من عموم الجهر بها في
الأخيرتين ، كما يدلّ عليه إطلاق الخبرين الآتيين وغيرهما من أخبار سادات الثقلين.
لا
يقال : إنّ الخبر
ظاهرٌ في الأُوليين ؛ لاشتماله على ذكر السورة ، وهي لا تكون في قراءة الأخيرتين.
__________________
لأنّا
نقول : هذا إنّما
يتمّ على جعل السورة حقيقةً في ما عدا الفاتحة من أجزاء القرآن المفتتحة بالبسملة
التي أقلّها ثلاث آيات ، وأنّى له به ، بل الفاتحة مندرجة في ضابطة السورة ،
وإنّما خصّت بهذا الاسم من دون سائر السور لأنّها أوّل القرآن ، لأنّ فاتحة
كلّ شيء أوّله ، كما أنّ خاتمته آخره ، أو لأنّها أوّل السور نزولاً كما عليه
جمٌّ غفير من المفسّرين ، أو لما نقل من كونها مفتتح الكلام المثبت في اللوح
المحفوظ ، أو مفتتح القرآن المنزل جملةً واحدة إلى السماء الدنيا ، أو لأنّه يفتح
بها مقفلات المطالب الدنيويّة والأُخرويّة ، إلى غير ذلك من التعليلات القويّة.
فهي في الأصل ؛
إمّا مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب ، أو صفة والتاء فيها للنقل من
الوصفيّة إلى الاسميّة كالذبيحة والحقيقة ، ففاتحة الكتاب إنْ اعتبرت أجزاء الكتاب
سوراً فالأوّليّة حقيقيّة ، وإنْ اعتبرت آيات أو كلمات مثلاً فمجازيّته من باب
تسمية الكلّ باسم أجزائه ، وإضافة الفاتحة إلى الكتاب كإضافة الجزء إلى الكلّ ،
كيد زيد ، وإضافة السورة إلى الفاتحة من إضافة العامّ إلى الخاصّ ، كبلدة البحرين.
فاندفع بهذا التحقيق عدم اختصاص السورة بما عدا الفاتحة ، وثبت إطلاق السورة عليها
، فيبقى الخبر دالّاً على الجهر في الأخيرتين.
فحاصل المعنى
حينئذٍ : أنّه إذا جهر بالبسملة تخلّف المنافقون ، فإذا تعدّاها وشرع في الفاتحة
عادوا إلى مواضعهم ؛ بناءً على أن القراءة إخفاتيّة كما هو ظاهر السياق ، أو
مطلقاً لمزيةٍ في البسملة دون غيرها من أجزاء القرآن ؛ لما ورد من أنّها أقرب إلى
الاسم الأعظم من سواد العين إلى بياضها . وغيره من مزاياها المذكورة في محالّها.
على أنّا لو
تنزّلنا وسلمنا ظهوره في الأُوليين ، إلّا إنه غير دالٍّ على الإخفات في الأخيرتين
، إذ لم ينصّ فيه على أنّه يقرأ في الأخيرتين ويخفت بها ، بل قصارى ما دلّ
__________________
عليه أنّه إذا صلّى بالناس جهر بها ، فيدلّ على أنّه إذا قرأ جهر بها على
جهة العموم.
ويؤيّد ما قلناه من أنّ المراد بالسورة هنا الفاتحة أمران :
الأوّل
: عدم ذكر
الفاتحة بالكلّيّة ، كما لا يخفى على ذي ملكة قدسيّة ، وعناية ربانيّة ، مع أنّه
لا صلاة إلّا بها ، كما نطقت به الأخبار المعصوميّة .
الثاني
: ما في صحيح
زرارة الآتي ، من قوله فيه : « وإذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم نفروا وذهبوا ،
فإذا فرغ منها عادوا واستمعوا » .
٦
ـ ومنها
: ما رواه
المحدّثان المذكوران في الكتابين المزبورين ، نقلاً من تفسير الثقة الجليل علي بن
إبراهيم القمّي ، أنّه قال : « كان رسول
الله صلىاللهعليهوآله إذا
صلّى تهجّد ، وتسمع له قريش لحسن صوته ، فكان إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم
فرّوا عنه » .
أقول
: لا يخفى على
المتفنّن الماهر ما في هذا الخبر كسابقه من العموم الظاهر ، والتقريب فيه من وجهين
:
الأوّل
: إنّ قوله : « فكان
إذا قرأ » .. إلى آخره ، إخبارٌ عن السماع ، وليس المراد من الجهر إلّا إسماع الغير ، إذ
لو أسرّ بها لم يعلم أنّه قرأها أوّلاً.
الثاني
: إنّ فرارهم
عند قراءتها دليلٌ على الجهر بها ، إذ لو لم يجهر بها لم يفرّوا عنه.
فإنْ
قيل : إنّ أخبار جهر
النبيّ صلىاللهعليهوآله بها في هذا وغيره من الأخبار لا دلالة فيها على الجهر
بها في الأخيرتين ؛ لاحتمال كون صلاته ثنائيّة ، بقرينة كونه في مكّة قبل فرضه
الزيادة على الركعتين.
قلنا
: لو سلّم ذلك
فخصوص المورد لا يخصّص الوارد ، فهذا الإيراد غير وارد.
٧
ـ ومنها : ما رواه علي
بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره ، بأسانيد متعدّدة ، عن عمر بن أُذينة ، عن الصادق عليهالسلام ، أنّه قال « بسم الله الرحمن الرحيم أحقّ ما يجهر بها ، وهي
الآية
__________________
التي
قال الله عزوجل : ( وَإِذا ذَكَرْتَ
رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) » .
أقول
: دلّ هذا الخبر
الشريف والأثر الطريف على عظم البسملة ، وعلوّ شأنها ، ورفعة قدرها ، وجلالة
مكانها ، فمتى ذكرت في موضع من المواضع فهي حقيقةٌ بالجهر بها وإعلانها ، وكأنّ
ذلك لما اشتملت عليه من الاسم المختصّ به تعالى ، وبعض أسمائه الحسنى ، وصفاته
العليا ؛ ولهذا كان ذكرها يُفَلُّ به حدّ كيد الشياطين ، ويُحلّ به قيد الكافرين.
ولمثل هذا
الوجه المنير نظر الرازي في تفسيره الكبير ، حيث إنّه بعد أنْ احتجّ للجهر
بالبسملة بالحجّة الثالثة وهي أن الجهر بذكر الله يدلّ على كونه مفتخراً بذلك
الذكر ، غير مبال بإنكار من ينكره .. إلى آخره قال : ( وممّا يقوّي هذا الكلام
أيضاً أنّ الإخفاء والسرّ لا يليق إلّا بما يكون فيه عيبٌ ونقصان ، فيخفيه الرجل
ويسرّه ، لئلّا ينكشف ذلك العيب ، أمّا الذي يفيد أعظم أنواع الفخر والفضيلة
والمنقبة ، فكيف يليق بالعقل إخفاؤه ، ومعلوم أنّه لا منقبة للعبد أعْلى وأكمل من
كونه ذاكراً لله بالتعظيم ؛ ولهذا قال عليهالسلام : « طوبى لمن
مات ولسانه رطب من ذكر الله » ، وكان عليّ بن أبي طالب عليهالسلام يقول : « يأمن ذكره
شرفٌ للذّاكرين ».
ومثل هذا كيف
يليق بالعاقل أنْ يسعى في إخفائه. ولهذا السبب نقل أنّ علياً رضياللهعنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع
الصلوات.
وأقول
: إنّ هذه
الحجّة قويّة في نفسي ، راسخةٌ في عقلي ، لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين ) . انتهى.
ومثله ما ذكره
في الحجّة [ الثانية ] ، وهي : ( إنّ قوله : بسم الله الرحمن الرحيم ، لا
شكّ أنّه ثناءٌ على الله ، وذكرٌ له بالتعظيم ، فوجب أن يكون الإعلان به مشروعاً ؛
لقوله تعالى ( فَاذْكُرُوا اللهَ
كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ) .
__________________
ومعلوم أنّ
الإنسان إذا كان مفتخراً بأبيه ، غير مستنكفٍ منه ، فإنّه يعلن بذكره ، ويبالغ في
إظهاره. أمّا إذا أخفى ذكره أو أسرّه ، دلّ ذلك على كونه مستنكفاً منه ، فإذا كان
المفتخر عليه يبالغ في الإعلان والإظهار ، وجب أن يكون إعلان ذكر الله أوْلى ،
عملاً بقوله تعالى : ( فَاذْكُرُوا اللهَ
كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ) ) . انتهى.
ولا يخفى أنّ
ما ذكره من هذا التعليل والاستحسان يقتضي استحباب الجهر بالبسملة في مواضع الإسرار
كالإعلان ، كما يقوله علماؤنا الأعيان ، فلا وجه لقصر الجهر على مواضع الإجهار ،
فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وإنّما أوردناه
ليكون حجّة على أصحابه الموجبين للإسرار ، مع أنّه منافٍ لما يذهبون إليه من
الاستدلال بالاستحسان والاعتبار ، وأمّا نحن ففي غُنْيةٍ بما عندنا من كلمات
أئمّتنا الأبرار ، خزنة الأسرار ، المعصومين من الأرجاس والآصار.
٨
ـ ومنها : ما رواه رئيس
المحدّثين الصدوق قدسسره في كتاب ( الخصال ) ، بسنده المتّصل إلى الأعمش ، عن
جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام ، قال : « هذه شرائع
الدين لمن تمسّك وأراد الله هداه : إسباغ الوضوء كما أمر الله عزوجل في كتابه
الناطق ، غسل الوجه واليدين إلى المِرْفقين ، ومسح الرأس والقدمين إلى الكعبين ،
مرّة مرّة .. إلى أن قال عليهالسلام ـ :
والإجهار ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة واجبٌ » .
ونقله المحدّث
الصالح الشيخ عبد الله بن صالح السماهيجي من كتاب ( من لا يحضره الفقيه ) ، ولا
يخفى أنّه سهوٌ واضح.
٩
ـ ومنها
: قول سيّد
الموحّدين عليهالسلام في الخطبة المتقدّمة : « وألزمت
الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » . وفي بعض
النسخ : « وأمرت ... ».
أقول
: دلّ هذا الخبر
على تأكّد الاستحباب ، المعبّر عنه في كثيرٍ من الأخبار كما
__________________
هنا بالإيجاب ، جمعاً بينها وبين صحيح الحلبيّين الآتي في المبحث الثاني
حيث قال عليهالسلام : « إنْ شاء
سرّاً ، وإنْ شاء جهراً » ، وبقرينة الإجماع الصارفة عنه. وسيأتي إنْ شاء الله
تعالى في بحث الاستدلال على الوجوب كمالُ المطلوب.
١٠
ـ ومنها : ما رواه
المجلسي عطّر الله مرقده في الجزء الرابع من ( البحار ) ، في باب ما كتبه الرضا عليهالسلام للمأمون ، من مَحْض الإيمان وشرائع الدين ، نقلاً من
كتاب ( تحف العقول ) للثقة الجليل الحسن بن علي بن شعبة : ( إنّ المأمون بعث الفضل
بن سهل ذا الرئاستين إلى الرضا عليهالسلام ، فقال له : إنّي أحبّ أنْ تجمع لي من الحلال والحرام ،
والفرائض والسنن ، فإنّك حجّة الله على خلقه ، ومعدن العلم.
فدعا الرضا
بدواة وقرطاس ، وقال للفضل اكتب : « بسم الله
الرحمن الرحيم ، حسبنا شهادة لا إله إلّا الله ، أحداً صمداً ، لم يتّخذ صاحبةً
ولا ولداً ، قيّوماً ، سميعاً ، بصيراً ، قويّاً ، قائماً ، باقياً ، نوراً ،
عالماً لا يجهل ، قادراً لا يعجز ».
ثمّ ذكر كثيراً
من الأُصول والفروع ، إلى أنْ قال عليهالسلام :
« والجهر ببسم الله
الرحمن الرحيم في الصلاة مع فاتحة الكتاب » .. الى آخر الخبر
الجليل ، وهو حديث شريف طويل ، اقتصرنا منه على موضع الدليل.
إلى أنْ قال عليهالسلام :« .. فهذه أُصول الدين ،
والحمد لله ربِّ العالمين ، وصلّى الله على نبيّه وآله وسلم تسليماً » .
قال في (
البحار ) : ( ورأيت هذا الخبر برواية أُخرى ، عن أبي علي محمّد بن الحسين بن الفضل
، عن أحمد بن علي بن حاتم ، عن علي بن جعفر ، عن علي بن أحمد بن حمّاد والفضل بن
سنان الهاشمي ، عن محمّد بن يقطين وإبراهيم بن محمّد ، رووا كلّهم عن الرضا عليهالسلام.
وجمع بين
الروايتين ، وإنْ كانت الأخيرة أوفق ، تركناها حذراً من التكرار ، وأوّل
__________________
الرواية هكذا : « أما بعد .. أول
الفرائض : شهادة أنْ لا إله إلّا الله » .. . انتهى.
أقول
: لا يخفى ما
فيه من رجحان الجهر بها في الصلاة من غير تقييدٍ بإحدى الركعات.
وهذا الكتاب
ممّا اعتمده المجلسي وغيره من الإثبات ، وقال رحمهالله : ( إنّ نظمه يدلّ على رفعة شأن مؤلّفه ، وأكثره في
المواعظ والأُصول المعلومة التي لا يحتاج فيها إلى سندٍ ، وهو كافٍ في المستند ) .
١١
ـ ومنها : ما رواه
الصدوق عطّر الله مرقده في ( العيون ) بسنده الصحيح المتّصل إلى الثقة الجليل الفضل
بن شاذان ، قال : سأل المأمون علي بن موسى الرضا عليهالسلام أنْ يكتب له محض الإسلام على الإيجاز والاختصار ، فكتب عليهالسلام : « إنّ محض
الإسلام شهادة أنْ لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ... ».
إلى أنْ قال عليهالسلام : « والإجهار
ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلاة سنّة ». وفي بعض النسخ : « في
جميع الصلوات سنّة » .
أقول
: لفظ ( السنّة
) وإنْ كان لا ملازمة بينه وبين الندب ؛ لمجيئه كثيراً بمعنى ما ثبت فرضه بالسنّة
، كما في مرسل بن فضّال ، عن الصادق عليهالسلام : « الوقوف
بالمشعر فريضةٌ ، والوقوف بعرفة سنّة » . مع الإجماع
على أنّ الوقوف بها ركنٌ ، مَنْ تركه عامداً بطل حجّه. ومثله غيره.
إلّا أنّ
الظاهر المتبادر هو الاستحباب ، مع أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة في هذا المجال ،
ولو سلّم الاشتهار فالقرينة أوجبت حملها عليه ، كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى في
مبحثه الإشارة إليه.
١٢
ـ ومنها
: ما رواه شيخ
الطائفة في ( التهذيب ) عن أحمد بن محمّد ، عن ابن أبي نجران ، عن صباح الحذاء ،
عن أبي حمزة الثمَالي ، قال : قال علي بن الحسين عليهالسلام : « يا
__________________
ثمالي
، إنّ الصلاة إذا أُقيمت جاء الشيطان إلى قرين الإمام ، فيقول : هل ذكر ربّه؟ فإن
قال : نعم ، ذهب ، وإنْ قال : لا ، ركب على كتفيه ، فكان إمام القوم حتى ينصرفوا ».
قال : فقلت :
جعلت فداك أليس يقرءون القرآن؟ قال : « بلى ، ليس حيث تذهب يا
ثُمَالي ، إنّما هو الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم .
١٣
ـ ومنها : ما رواه في (
البحار ) نقلاً من تفسير العيّاشي عن أبي حمزة الثمَالي ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، أنّه قال : قال لي أبو جعفر عليهالسلام
: « يا ثُمَالي ، إنّ
الشيطان ليأتي قرين الإمام فيسأله هل ذكر ربّه؟ فإنْ قال : نعم ، اكتسع فذهب ،
وإنْ قال : لا ، ركب على كتفيه ، فكان إمام القوم حتى ينصرفوا ».
قال : قلت :
جعلت فداك ما معنى ذكر ربّه؟ قال : « الجهر ببسم
الله الرحمن الرحيم » .
أقول
: لا يخفى على
ذي بضاعة من تلك الصناعة ما دلّ عليه هذان الخبران من فضيلة الجهر بها ، والوقوع
في شبك الشيطان عند الإسرار بها ، مع ما دلّا عليه من العموم لكلِّ موضع اشتمل على
البسملة.
وقد مرّ في خبر
العيّاشي : « أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله إذا
جاوزها عاد المنافقون إلى مواضعهم » . فلا يبعد أن
يكون حال الشيطان كذلك ، فيتأكّد الجهر بها على كلِّ حال.
والمراد بقرين
الإمام هو الشيطان الموكّل من إبليس بإفساد صلاة الإمام ، وإيقاعه في شبك الوساوس
الشيطانيّة والأوهام. ويدلّ عليه التصريح في خبر تفسير العيّاشي : بأنّ الشيطان
الآتي يسأل الشيطان الذي هو قرين الإمام ، ففيه عن أبي عبد الله عليهالسلام
: « إذا أمَّ الرجل القوم
جاء [ شيطان إلى ]
الشيطان الذي هو قرين الإمام ، فيقول : هل ذكر الله؟ يعني : هل قرأ بسم الله الرحمن
الرحيم ، فإنْ قال : نعم ، هرب منه ، وإنْ قال : لا ، ركب عنق الإمام ، ودلّى
رجليه في صدره ، فلم يزل الشيطان إمام القوم حتى يفرغوا من صلاتهم » . انتهى.
__________________
وهو صريحٌ في
ما نريد ، وحمله بعضٌ على المَلَكِ ، وهو بعيد ، كما لا يخفى على ذي رأي سديد.
وقوله عليهالسلام في الخبر الثاني : « اكتسع
فذهب » ، إمّا من باب اكتسع الفحل : إذا خطر فضرب فخذيه بيديه ، واكتسع الكلب
بذنبه : إذا استثفر ، أو من اكتسع : بمعنى تأخّر. ولعلّ الأوّل أنسب وأظهر.
١٤
ـ ومنها : ما رواه شيخ
الطائفة قدّس سره ونوّر قبره موثّقاً عن حَنَان بن سَدير الصيرفي ، قال : ( صلّيت
خلف أبي عبد الله عليهالسلام فتعوّذ بإجهار ، ثمّ جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ) .
١٥
ـ ومنها : ما رواه ابنه
الشيخ حسن في مجالسه ، بإسناده إلى أبي حفص الصائغ ، قال : ( صلّيت خلف جعفر بن
محمَّد عليهالسلام ، فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ) .
١٦
ـ ومنها : ما رواه
الحِمْيري في ( قرب الإسناد ) ، عن محمّد بن عبد الحميد وعبد الصمد بن محمّد ،
قالا : ( صلّينا المغرب خلف أبي عبد الله عليهالسلام فتعوّذ بإجهار ، ثمّ جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ) .
أقول
: لا يخفى على
ذي بال أنّ هذه الأخبار الثلاثة وإنْ كان موردها الإمام ومورد الأخير الصلاة
الجهريّة ، إلّا أنّها لا دلالة فيها على الاختصاص بالأُوليين إنْ لم يظهر منها
الشمول للأخيرتين ، فإنّ الراوي لها عمّم في إخباره المقال ، ولو اختصّ الجهر ببعض
الركعات لأخبر عنه الراوي ، وبالإخفات في ما سواه بلا إشكال.
ولفظ التعوّذ
لو دلّ على الاختصاص لأفاد الاختصاص بالركعة الأُولى ، ولا قائل به من علمائنا
الأبدال.
وتتميم
الاستدلال بعدم القول بالفصل مستلزمٌ لاطّراح ظاهره على كلّ حال ، كما لا يخفى على
مَنْ عرف الرجال بالحقّ ، لا الحقّ بالرجال ، ونظر إلى ما قيل ، لا إلى مَنْ
__________________
قال.
ثمّ إنّ ما
تضمّنه موثّق حنّان وخبر ( قرب الإسناد ) من جهره عليهالسلام بالاستعاذة خلاف ما هو المشهور بين الطائفة قديماً
وحديثاً ، بل ادّعى الشيخ عليه الإجماع من أنّها سريّة ولو في الجهريّة .
حتى إنّ
الأردبيلي كما نقل عنه بعض الأمجاد في ( شرح الإرشاد ) عدّ اشتمالها عليه من
المطاعن ، فإنّه لمّا استشهد به على استحباب الجهر بالبسملة ، قال : ( إنْ لم يكن
صحيحاً بجهل بعض رجاله وهو عبد الصمد بن محمّد ، مع القول في حنّان بأنّه واقفي ،
واشتماله على جهر التعوّذ ، المشهور خلافه أيضاً من صحيحة صفوان إلّا إنّه مؤيّد )
.. إلى آخره.
وحينئذٍ ،
فهذان الخبران محمولان على تعليم الجواز كما قاله المحدّث الكاشاني وجماعة ، أو التقيّة
لمطلق المخالفة بين شيعته وإنْ لم يقل به أحدٌ منهم كما عند بعض آخر.
وخصّ بعض
مشايخنا الاستحباب بالإمام ، كما هو مورد الدليل ، وبعضهم بصلاة المغرب ، كما هو
مورد خبر ( قرب الإسناد ) . وتحقيق المقام موكولٌ إلى فنّه.
١٧
ـ ومنها : ما رواه
المحدّث الماهر الباهر الآخوند الشيخ محمّد باقر المجلسي في ( البحار ) عن الصادق عليهالسلام ، قال : قال : « التقيّة
ديني ودين آبائي ، إلّا في ثلاث .. » وعدّ منها : « الجهر
ببسم الله الرحمن الرحيم » .
١٨
ـ ومنها : ما رواه صاحب (
دعائم الإسلام ) عن الصادق عليهالسلام ، قال : « التقيّة
ديني ودين آبائي ، ولا تقيّة في ثلاث : شرب المسكر ، والمسح على الخفّين ، وترك
الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » .
__________________
١٩
ـ ومنها : ما نقله ابن
أبي عقيل من ( تواتر الأخبار عن الأئمّة الأطهار ، من عدم التقيّة في الجهر
بالبسملة من أولئك الأشرار ) .
أقول
: قد مرّ في
أوّل المقام ما يصلح بياناً لهذه الأخبار العظام ، ولا يخفى ما فيها من الدلالة
على المرام على ثاقبي الأفهام ، وسيأتي تحقيق الجمع بينها وبين غيرها في الختام.
٢٠
ـ ومنها : ما رواه الشيخ
رحمهالله في ( التهذيب ) و ( المصباح ) بسنده عن العسكري عليهالسلام ، أنّه قال : « علامات
المؤمن خمسٌ .. » وعدّ منها : « الجهر ببسم
الله الرحمن الرحيم » .
٢١
ـ ومنها
: ما في ( كنز
الفوائد ) و ( تحفة الإخوان في تقوية الإيمان ) بسندهما عن
الصادق عليهالسلام بألفاظ متقاربة ـ ، قال : « إذا
كان يوم القيامة ، تقبل قومٌ على نجائب من نور ، ينادون بأعْلى أصواتهم : الحمد
لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا أرضه نتبوّأ من الجنّة حيث نشاء ».
قال : « فتقول
الخلائق : هذه زمرة الأنبياء ، فإذا النداء من قبل الله تعالى : هؤلاء شيعة علي بن
أبي طالب عليهالسلام ،
فهم صفوتي من عبادي ، وخيرتي من بريّتي. فتقول الخلائق : إلهنا وسيّدنا ، بِمَ
نالوا هذه الدرجة؟ فإذا النداء من الله تعالى : بتختّمهم باليمين ، وصلاتهم إحدى
وخمسين ، وتعفيرهم الجبين ، وجهرهم ببسم الله الرحمن الرحيم » .
أقول
: ونقله أيضاً
المحدّث المبرور الشيخ حسين آل عصفور في ( شرح المفاتيح ) عن ( مختصر البصائر )
للشيخ حسن بن سليمان الحلّي ، بإسناده عن الصادق عليهالسلام ، كما في الكنز ، إلّا إنّه رحمهالله بدّل ( الحلّي ) بـ ( القطيفي ) ، وهو خلاف المعروف من
نسبته ، والمصرّح به من نفسه. قال رحمهالله في مطاوي كتابه ( المحتضر ) ـ
__________________
المغاير لـ ( مختصر البصائر ) ما لفظه : ( يقول العبد الضعيف ، المفتقر إلى
ربّه الغني ، حسن بن سليمان بن محمّد الحلّي ). إلى آخره.
فلعلّ (
القطيفي ) سهوٌ من قلم الناسخ أو المصنّف.
ونقل أيضاً في
الكتاب المذكور عن كتاب ( إعلام الورى ) صحيحاً عن صفوان ، عن أبي عبد الله عليهالسلام مثله.
فإنْ أراد كتاب
الطبرسي فقد تتبّعته كلّه مراراً فلم أجده فيه ، فلعلّه سقط من قلم الناسخ ، أو
يريد غيره ممّا لم نقف عليه.
ووجدته أيضاً
في بعض المجاميع العتيقة مع الخبر الآتي قريباً بحذف الإسناد ، وتفاوتٍ يسيرٍ في
المتن ، وتقييد جهرهم في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم. والله العالم.
٢٢
ـ ومنها : ما رواه
المحدّث الكمي محمّد بن مسلم بن أبي الفوارس الدارمي في الحديث السابع والعشرين من
الأحاديث الأربعين في مناقب أمير المؤمنين عليهالسلام ، قال : ( أخبرنا محمّد بن تاج الدين الشيباني ، يرفعه
عن جماعة من الصادقين المحقّقين ، في ما يوردون ويسندون ذلك إلى المفضل بن عمر ،
عن عبد الله بن أبي أوفى ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه قال :
« لمّا خلق الله إبراهيم عليهالسلام كشف
عن بصره فنظر إلى جانب العرش ، فرأى نوراً ، فقال : إلهي وسيّدي ، ما هذا النور؟
قال
: يا إبراهيم ، هذا نور محمّدٍ صفوتي.
قال
: إلهي وسيّدي ، وأرى نوراً إلى جانبه؟.
قال
: يا إبراهيم ، هذا نور عليّ ناصري.
قال
: إلهي وسيّدي ، وأرى نوراً ثالثاً يلي النورين؟
قال
: يا إبراهيم ، هذا نور فاطمة عليهاالسلام ،
يلي نور أبيها وبعلها ، فطمت بها محبّيها من النار.
قال
: إلهي وسيّدي ، وأرى نورين يليان ثلاثة الأنوار؟
قال
: يا إبراهيم ، هذان الحسن والحسين ، يليان نور أبيهما وأمّهما وجدّهما.
قال
: إلهي وسيّدي ، وأرى تسعة أنوار قد أحدقوا بالخمسة الأنوار؟
قال
: يا إبراهيم ، هؤلاء الأئمّة من ولدهم.
قال
: إلهي وسيّدي ، وبماذا يُعرفون؟
قال
: يا إبراهيم ، أوّلهم علي بن الحسين ، ومحمّد بن علي ، وجعفر بن محمّد ، وموسى بن
جعفر ، وعلي بن موسى ، ومحمّد بن علي ، وعلي بن محمّد ، والحسن العسكري ، والمهدي
محمّد ابن الحسن ، صاحب الزمان ، عليه وعليهم الصلاة والسلام.
قال
: إلهي وسيّدي ، وأرى أنواراً كثيرة ، لا يحصي عددهم إلّا أنت.
قال
: يا إبراهيم ، هؤلاء شيعتهم ومحبّوهم المخلصون.
قال
: إلهي وسيّدي ، وبم تُعرف شيعتهم ومحبّوهم؟
قال
: يا إبراهيم ، بصلاة إحدى وخمسين ، والتختّم باليمين ، والجهر ببسم الله الرحمن
الرحيم ، والقنوت قبل الركوع ، وسجدة الشكر.
قال
إبراهيم : إلهي وسيّدي ، اجعلني من شيعتهم ومحبّيهم. فأنزل الله تعالى في القرآن ( وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ. إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) ».
قال المفضل بن
عمر : إنّ أبا حنيفة لمّا أحس بالموت روى هذا الخبر ) انتهى.
أقول
: ورواه عنه
أيضاً بهذا الإسناد أبو الفضل سديد الدين الشيخ شاذان بن جبرئيل ابن إسماعيل بن
أبي طالب القمّي ، نزيل مهبط وحي الله ودار هجرة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، في كتاب ( الفضائل ) المشهور ، قال رحمهالله كما هي عادته في الأخبار التي يرويها عنه ـ : وبالإسناد
يرفعه إلى عبد الله بن أبي أوفى ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، أنّه قال : « لمّا خلق
الله إبراهيم الخليل ... ».
وساق الخبر
بكماله كما مرّ بتفاوتٍ يسير ، لكن في آخره : قال المفضّل بن عمر : ( إنّ إبراهيم عليهالسلام لمّا أحسّ بالموت روى هذا الخبر ، وسجد فقبض في سجدته ).
__________________
ورواه المحدّث
المبرور الشيخ حسين آل عصفور في ( شرح المفاتيح ) ، نقلاً من كتاب ( الروضة ) و (
فضائل ابن شاذان ) بإسناديهما إلى عبد الله بن أبي أوفى ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، قال : « لمّا خلق
الله إبراهيم .. » إلى قوله : « هذه الأئمّة من ولد علي وفاطمة
». من دون تعيين أسماء
التسعة ، وبنقص قول المفضل بن عمر في كلا الروايتين.
والمعروف من
كتب الحديث والفضائل ، من إطلاق كتاب ( الروضة ) في هذه الأزمان ، هو كتاب ( روضة
الواعظين ) للثقة الجليل أبي علي محمّد بن الحسن بن علي بن أحمد بن علي ، الحافظ
الفارسي النيسابوري ، الشهيد ، الشهير بالفتّال ، أو ابن الفتّال. وقد يعبّر عنه
بمحمّد بن علي ، بالنسبة لجدّه العلي.
وقد تتبّعته
كلّه فلم أجده فيه ، ولعلّه يريد كتاب ( روضة الفضائل ) المنسوب للصدوق رحمهالله ، المعبّر عنه تارةً بـ ( الروضة ) ، وتارة بـ (
الفضائل ) ، وتارة بـ ( روضة الفضائل ).
وأمّا الراوي
لهذا الخبر الفاضل فهو الشيخ الكامل الشيخ شاذان بن جبرئيل كما ذكرناه وهو صاحب (
إزاحة العلّة في مسألة القبلة ) ، المذكورة بتمامها في مجلد الصلاة من ( البحار ) ، لا ابن
شاذان كما في الشرح المذكور الذي هو الشيخ الجليل محمّد بن أحمد بن علي بن الحسين
بن شاذان القمّي ، صاحب ( الأحاديث المائة في مناقب أمير المؤمنين ) ، أستاذ أبي
الفتح الكراجكي.
فالظاهر أنّ
زيادة ( ابن ) قبل ( شاذان ) وقع سهواً من قلم الناسخ ، أو المصنّف.
وأما محمّد بن
مسلم بن أبي الفوارس ، الذي روى عنه الثقة الجليل شاذان بن جبرئيل ، فلم أقف على
من تعرّض لترجمته ومذهبه ، جيلاً بعد جيل.
والذي ذكره
العلّامة رحمهالله في إجازته لبني زهرة ، وتبعه من تأخّر عنه كصاحب (
اللؤلؤة ) وغيره ، هو : ( أبو الفتح بن أبي الفوارس ، الحافظ ، من علماء العامّة ،
الذين يروي عنهم شيخ الطائفة ) مقتصرين على الكنية في اسمه واسم أبيه.
__________________
ولعلّ روايته
لتلك الأحاديث الأربعين خصوصاً هذا الخبر المشتمل على أسماء الأئمّة الطاهرين ،
وتلك الصفات التي هي من علامات المؤمنين ، ورواية هذا الشيخ الجليل شاذان بن
جبرئيل عنه ، وروايته عن المفضّل بن عمر ممّا يكشف ظاهراً عن كونه باطناً من
الإماميّة المخلصين.
والعجب من
السيّد المعاصر الباقر في كتابه ( رياض الجنّات في أحوال العلماء والسادات ) ، حيث
لم يترجم له على حدة ، أو في ضمن ترجمة غيره ، كما فعل مع غيره من المشهورين
بالتسنّن ، الذين يعبّر عنهم بإطباق الفريقين ، مع ذكره رواية الشيخ عنه . وأمّا الذين
لم يذكروه في جملة من يروي عنه الشيخ شاذان ؛ فلكونه عندهم من جملة من بالتسنّن
دانَ.
وأمّا الوجه في
ما في رواية الفضائل : « إنّ إبراهيم عليهالسلام لمّا
أحس بالموت روى هذا الخبر ، وسجد فقبض في سجدته ». فلعلّ قصده عليهالسلام تجديد الإقرار بالعهد الأوّل ، واختتام عمره الشريف بالسجود ، شكراً
للتوفيق ، لجمع تلك الصفات الفضل.
وأما رواية أبي
حنيفة هذا الخبر لمّا أحس بالموت على الرواية الأُولى ، فلعلّه أنّه لمّا انصرم
منه الأجل ، وانقطع به من حبّ الدنيا سبب الأمل ، دان بمذهب الإماميّة ، الذي هو
خير العمل ؛ لأنّ السبب التامّ في عدول الفرق الغويّة عن مذهب الإماميّة العليّة ،
إنّما هو حبّ الدنيا الدنيّة ، فلمّا آيس من الحياة رجع لما به النجاة.
وممّا يرشد
عليه ما ينسب له من الأبيات :
أخرّب ديني
كل يوم وأرتجي
|
|
عمارة دنيائي
ودنياي أخرَبُ
|
فها أنا ذا
بين الحمارين راجلٌ
|
|
فلا الدينُ
معمورٌ ولا العيشُ طيّب
|
فإنْ صدق في
دعواه ، فقد انقلب على وجهه ، خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين ، إلّا
أنْ يركب سفينة النجاة ، ويتّبع سبيل المؤمنين.
__________________
ويؤيّده
: إنّ المحدّث
العلي السيّد هاشم التوبلي عدّه في الكتاب الذي ألّفه في بيان من رجع إلى الحقّ في
جملة الراجعين ، ونقل أيضاً ـ : أنّه كان زيديّاً جاروديّاً.
فلعلّه بمعونة
هذا الخبر وغيره صار مخلصاً إماميّاً.
وفي ( روضات
الجنّات ) عن الزمخشري ، في تفسير قوله تعالى ( لا يَنالُ عَهْدِي
الظّالِمِينَ ) ـ : ( إنّ أبا حنيفة كان يفتي سرّاً بوجوب نصرة زيد بن
علي بن الحسين ، وحمل المال إليه ).
إلى أنْ قال : (
حتى قالت له امرأةٌ : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ، وقد قتل؟ فقال لها : يا
ليتني مكان ابنك ) . انتهى.
وفي بالي أنّ
السيّد المذكور ذكر أيضاً هذا الكلام ، ولم يحضرني الآن الكتاب ، لأُلاحظ هذا
المقام.
ويؤيّده
أيضاً : ما في كتاب
الروضات أيضاً : ( إنّ الفاضل الميبدي في شرح الديوان المرتضوي ، نسب إليه هذا
الشعر القوي :
حبّ اليهود
لآل موسى ظاهرٌ
|
|
وولاؤهم لبني
أخيه بادي
|
وإمامهم من
نسل هارون الأُولَى
|
|
بهم اقتدوا
ولكلّ قوم هادي
|
وكذا النصارى
يكرمون محبّةً
|
|
لمسيحهم
نجراً من الأعواد
|
ومتى توالى
آل أحمد مسلمٌ
|
|
قتلوه أو
شتموه بالإلحاد
|
هذا هو الداء
العضال لمثله
|
|
ضلّت حلوم
حواضر وبوادي
|
لم يحفظوا
حقّ النبيّ محمّدٍ
|
|
في آله
واللهُ بالمرصاد
|
وما ذكره فيه
أيضاً : ( إنّ أبا حنيفة مات في حبس المنصور ).
فلعلّ ذلك إنْ
لم يثبت كونه على ردّه ولاية القضاء كان لاستشعاره منه إسرار الحقّ المنصور ،
والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلّا على الظالمين.
__________________
٢٣
ـ ومنها : ما رواه
المحدّث العلي السيّد هاشم التوبلي في تفسيره ( البرهان ) ، والمحدّث المنصف الشيخ
يوسف في ( الحدائق الناضرة ) ، كلاهما عن الشيخ شرف الدين النجفي في كتاب ( الآيات
الباهرة في فضائل العترة الطاهرة ) ، قال رحمهالله : ( ويؤيّد هذا التأويل أي انّ إبراهيم من شيعة أمير
المؤمنين ما رواه الشيخ محمّد بن الحسن ، عن محمّد بن وهبان ، عن أبي جعفر محمّد
بن علي بن رحيم ، عن العباس بن محمّد ، قال : حدّثني أبي ، عن الحسن بن علي بن أبي
حمزة ، عن أبي بصير يحيى بن أبي القاسم ، قال : سأل جابر بن يزيد الجعفي جعفر بن
محمَّد عليهالسلام عن تفسير هذه الآية ( وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) .
فقال عليهالسلام
: « إنّ الله سبحانه لمّا
خلق إبراهيم عليهالسلام كشف
له عن بصره ، فنظر فرأى نوراً إلى جنب العرش ، فقال : إلهي وسيّدي ، ما هذا النور؟
قال
: يا إبراهيم ، هذا نور محمّدٍ صفيّي.
فقال
: إلهي وسيّدي ، إنّي أرى إلى جانبه نوراً ، فقال : إلهي وما هذا النور؟
فقيل
له : هذا نور عليّ بن أبي طالب ، ناصر ديني.
وإذا
إلى جنبه ثلاثة أنوارٍ ، فقال : إلهي ، وما هذه الأنوار؟
فقيل
له : هذا نور فاطمة ، فطمت محبّها من النار ، ونور ولديها الحسن والحسين عليهماالسلام.
فقال
: إلهي وأرى تسعة أنوار قد حفّوا بهم ، فقال : إلهي ، وما هذه الأنوار التسعة؟
قيل
: يا إبراهيم ، هؤلاء الأئمّة من ولد علي وفاطمة.
فقال
: إلهي وسيّدي ، وأرى أنواراً قد أحدقوا بهم ، لا يحصي عددهم إلّا أنت؟
قيل
: يا إبراهيم ، هؤلاء شيعتهم ، شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام.
فقال
إبراهيم عليهالسلام :
وبم تُعرف شيعتهم؟.
قال
: بصلاة الإحدى والخمسين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، والقنوت قبل الركوع ،
والتختّم باليمين.
__________________
فعند
ذلك قال إبراهيم : اللهمَّ اجعلني من شيعة أمير المؤمنين عليهالسلام.
قال
: فأخبر الله تعالى في كتابه ( وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) » . انتهى.
ووجدته أيضاً
في بعض المجاميع العتيقة كما مرّ ، وفي كتابٍ قديم لبعض علمائنا ، قد اقتصر فيه
على تفسير الآيات الواردة في فضائل الأئمّة الهداة ، ولم أعرفه ؛ لكونه مقطوع
الطرفين ، ولعلّه كتاب ( شرف الدين ) ، بقرينة موافقته لما في ( البرهان ) و (
الحدائق ) ، أو كتاب ( ما نزل من القرآن في أهل البيت ) للشيخ الجليل محمّد بن
العباس بن علي بن مروان بن الماهيار ، المعاصر للكليني رحمهالله ، ويعرف أيضاً بتفسير محمّد بن العبّاس ، قال رحمهالله في تفسير قوله تعالى ( وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) : ( ويؤيّد هذا التأويل أي : أنّ إبراهيم من شيعة عليّ
أمير المؤمنين عليهالسلام ما رواه الشيخ محمّد بن الحسن .. ). وساق السند والمتن
كما مرّ ، إلّا إنّ فيه بعد قوله : « هؤلاء
الأئمّة من ولد عليّ وفاطمة ». زيادةً ، وهي : « فقال
: إلهي ، بحقِّ الخمسة إلّا عرّفتني مَنِ التسعة؟ قيل : يا إبراهيم ، أوّلهم عليّ
بن الحسين ... » ثمّ عدّهم إلى الحجّة عليهالسلام ، ثمّ قال عليهالسلام : « فقال
إبراهيم .. »إلى آخره.
وروى أيضاً هذا
الخبر الشريف والأثر الطريف صاحب ( تحفة الإخوان ) عن أبي بصير ، عن جابر ، عن
الصادق عليهالسلام.
ورواه أيضاً
المحدّث المبرور الشيخ حسين آل عصفور في ( شرح المفاتيح ) عن ( تفسير العيّاشي ) ،
عن أبي بصير ، عن جابر الجعفي ، عن الصادق عليهالسلام.
مع أنّ صاحبي (
البرهان ) و ( الصافي ) مع كثرة نقلهما عنه لم يروياه عنه ، بل رواه أوّلهما كما
سمعت ، وثانيهما لم يروه أصلاً.
ورواه أيضاً
فيه عن ( مختصر البصائر ) للشيخ حسن بن سليمان الحلّي ، معبّراً
__________________
عنه بالقطيفي.
تنبيهات
أقول
: لا يخفى ما
دلّت عليه هذه الأخبار الأربعة ، التي هي من الكتب المعتمدة بالطرق المتعدّدة ، من
عموم استحباب الجهر بها في عامّة الأوقات ، سيّما الصلوات ، ومن أنّ الجهر بها
شعار الأئمّة الهداة ، وشيعتهم الثقات ، ومقتضاه عدم التخصيص بإحدى الركعات.
فأمّا ما عن (
الدعائم ) : ( روينا عن رسول الله صلىاللهعليهوآله وعن عليّ ، والحسن ، والحسين ، وعليّ بن الحسين ، ومحمّد
بن عليّ ، وجعفر بن محمَّد عليهمالسلام : أنّهم كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم في ما
يجهر فيه بالقراءة من الصلوات ، في أوّل فاتحة الكتاب ، وأوّل السورة في كلّ ركعة
، ويخافتون بها في ما يخافتون فيه من السورتين جميعاً. قال الحسن بن علي عليهالسلام : « اجتمعنا
ولد فاطمة على ذلك » ) .
فهو مطّرحٌ ، أو محمول على التقيّة من وجوه : الأوّل : اشتماله على ما لا قائل به من الإماميّة ، من تخصيص
الجهر بها بأُوليي الصلاة الجهريّة ، دون الأُوليات من السريّة.
الثاني
: معارضته
بالأخبار المستفيضة القويّة ، الدالّة على أنّ الجهر بها من حيث هي ، أو في الصلاة
من علاماتهم ، وعلامات شيعتهم الحقّيّة.
الثالث
: معارضته بما
عن الكتاب بعينه ، عن الصادق عليهالسلام من عدم التقيّة في ترك الجهر بها.
وقد يجمع
بينهما بحمل الأخير على الجهر بها في المواضع المذكورة في الخبر الأوّل ، لا
مطلقاً ، فليتأمّل.
الرابع
: موافقته لقول
جمهورهم ، وما كان إليه ميل حكّامهم وقضاتهم ، كسر الله قناة
__________________
شوكاتهم.
وأجاب عنه بعض
فضلائنا بأنّ ذلك إنّما كان أمارة الاستحباب ، وصرفاً للجهر عن الإيجاب.
ولا يخفى على
أُولي الألباب أنّ ما ذكرناه من الجواب أقرّ لساحة الصواب.
٢٤
ـ ومنها : ما رواه الثقة
الجليل محمّد بن مسعود العيّاشي صحيحاً عن زرارة ، عن أحدهما عليهماالسلام ، قال في بسم الله الرحمن الرحيم ـ : « هو
الحقّ فاجهر به ، وهي الآية التي قال الله ( وَإِذا ذَكَرْتَ
رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ) بسم
الله الرحمن الرحيم ( وَلَّوْا عَلى
أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) كان
مشركون يستمعون إلى قراءة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فإذا قرأ ( بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) نفروا
وذهبوا ، فإذا فرغ منها عادوا واستمعوا » .
أقول
: لعلّ المراد
من قوله عليهالسلام : « فإذا قرأ » : فإذا جهر ؛ بقرينة
صدر الخبر ، وما مرّ ويأتي من أخبار الغرر.
ولا يخفى ما
دلّ عليه هذا الخبر الشريف والأثر المنيف من الحثِّ على الجهر بها في جميع الأوقات
، التي من جملتها بل أفضلها حالات الصلوات ، من غير تخصيص بإحدى الركعات ، كما
يترجّح الجهر بالحقّ في جميع الأوقات ، إلّا ما خرج بالدليل البات ، وقد مرّ في
تذييل الخبر المروي من تفسير القمّي ما فيه تأييدٌ وإثبات.
٢٥
ـ ومنها : ما رواه أيضاً
في تفسيره عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : « كان رسول
الله صلىاللهعليهوآله يجهر
ببسم الله الرحمن الرحيم ، ويرفع صوته بها ، فإذا سمعه المشركون ولوا مدبرين » .
٢٦
ـ ومنها
: ما رواه في (
البحار ) نقلاً من تفسير العيّاشي ، عن زيد بن علي ، قال : دخلت على أبي جعفر عليهالسلام فذكر بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال : « أتدري
ما نزل في بسم الله الرحمن الرحيم ». فقلت : لا ، فقال : « إنّ
رسول الله صلىاللهعليهوآله كان
أحسن الناس صوتاً بالقرآن ،
__________________
وكان
يصلّي بفناء الكعبة يرفع صوته ، وكان عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام
وجماعة منهم يستمعون قراءته. قال : « وكان يكثر ترداد بسم
الله الرحمن الرحيم ، فيرفع بها صوته ، فيقولون : إنّ محمَّداً صلىاللهعليهوآله ليردّد
اسم ربّه » .. إلى آخره.
٢٧
ـ ومنها : ما رواه فرات
بن إبراهيم في تفسيره ، عن عمرو بن شِمْر ، قال : سمعت جعفر بن محمَّد عليهالسلام يقول له بعضهم : إنّي أؤمّ قومي ، فأجهر ببسم الله
الرحمن الرحيم؟ قال : « نعم ، حقٌ فاجهر بها ،
قد جهر بها رسول الله صلىاللهعليهوآله ثمّ قال : « إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان
من أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، فإذا قام من الليل يصلّي ، جاء أبو جهل والمشركون
يستمعون قراءته ، فإذا قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، وضعوا أصابعهم في آذانهم
وهربوا. فإذا فرغ من ذلك ، جاؤوا واستمعوا » .. إلى آخره.
أقول
: لا يخفى على
مَنْ نظر ببصر بصيرته الصائبة ، وأعمل عامل فكرته الثاقبة ، ما دلّت عليه هذه
الأخبار من العموم لمحلّ الكلام ، والانطباق على ذلك والالتئام :
أمّا
الخبر الأوّل فقد تضمّن أنّها الحقّ ، ثمّ عقّبه بالأمر بالجهر بها ، فمفاد ذلك كما مرّ
أنّها متى وقعت في موضع فأجهر بها ، فكما أنّ الجهر بالحقّ لا يختصّ بوقتٍ دون وقت
من مواضعه المطلوب فيها ذلك ، فالبسملة كذلك.
وأما
الخبر الثاني والثالث فقد دلّا على أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يرفع بها صوته من غير تخصيص بإحدى الركعات ، بل ولا
الأوقات ، مع أنّ الحاكي لفعله أبو جعفر عليهالسلام ، فلو كان جهره صلىاللهعليهوآله مخصوصاً بالأُوليين لخصّ الإخبار بالجهر فيهما فقط ،
لكنّه عمّم المقال ، وترك الاستفصال ، فيفيد العموم بلا إشكال.
وأمّا
الخبر الرابع فقد تضمّن أنّ بعض أصحابه عليهالسلام سأله عن الجهر بها في أيّ ركعة وقعت ، فأمره عليهالسلام بالجهر بها كذلك ، وأخبره أنّ الجهر بها مطلقاً حقٌّ
هنالك ، ثمّ علّله ـ
__________________
أيضاً بأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قد جهر بها ، ولا يخفى عموم كلّ من السؤال والجواب ،
وإنّما يتذكّر أولو الألباب.
٢٨
ـ ومنها : ما رواه
العلّامة الثقة الأوّاه أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهالله في كتاب ( أزهار الرياض ) على ما وجدته في بعض مجموعات
أصحابنا ، كما مرّ قال رحمهالله : ( وجدت في كتاب عتيقٍ مصحّح ، من كتب الحديث لأصحابنا
الإماميّة رضوان الله عليهم حديثاً هذه صورته : سئل الصادق عليهالسلام عمّن لا تجوز الصلاة خلفه؟.
قال : « لا
تصلِّ خلف مَنْ لا يمسح على الرجلين ، ولا خلف مَنْ لا يقنت في الركعتين قبل الركوع
، ولا خلف مَنْ لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ولا خلف مَنْ لا يؤمن بالرجعة ،
ولا خلف مَنْ لا يقول : إنّ الإمام معصوم ، ولا خلف مَنْ يمسح على الخفّين ، ولا
خلف الغالي ، ولا خلف المجهول ، ولا خلف المجاهر بالفسق ، ولا خلف الفاسق ، ولا
خلف السفيه ، ولا خلف المجبّر ، ولا خلف مَنْ يقول : إنّ الله كلّف عباده ما لا
يطيقون ، ولا خلف مَنْ يقول : إنّ الله جسم ، ولا خلف مَنْ تشهد عليه بالكفر ويشهد
عليك به ، ولا خلف الواقفي ، ولا خلف مَنْ يتولّى ولا يتبرّأ ، ولا خلف الناصب ،
ولا خلف المجذوم والأبرص ، ولا خلف المحدود ، ولا خلف ولد الزنا ، ولا خلف الحاقن
لبوله ، ولا خلف الأدرن ، ولا خلف الشاكّ في
دينه ، ولا خلف من يبتغي على الأذان أجراً ، ولا خلف مَنْ هو أقل منك معرفة ، ولا
خلف غلامٍ غير محترم ، ولا خلف الأعمى ، ولا خلف مَنْ يصلّي جالساً ، ولا خلف
المخنّث ، ولا خلف المأبون » ).
ثمّ قال : (
كتبت هذا الخبر من جزء كتاب من خطّ الشيخ الفقيه أبي الحسن علي بن أحمد بن شاذان
الفامي ).
أقول
: ووجدته
منقولاً من ( أزهار الرياض ) أيضاً بخطّ الفاضل الكامل الذي قال فيه بعض واصفيه :
شيخنا ، قطب دائرة الكمال ، ومحدب كرة أُولي الفضل والإجلال ، الفاخر الزاهر ،
والبحر الزاخر الشيخ ناصر بن عبد الحسن بن ناصر
__________________
المنامي البحراني.
وفي آخره بعد
نسبته إلى خطّ الفامي ـ : ( وكتب علي بن الحسن بن علي المؤدّب ، ابن الصباغ :
والشيخ ناصر
هذا من جملة تلامذة العلّامة الأفخر الشيخ حسين بن محمّد بن جعفر الماحوزي
البحراني ، ولم أقف له على طريق إجازة من أحد من العلماء ، إلّا إنّه من المشاهير
الفضلاء ، له حواشٍ متعدّدة في العلوم المعتمدة ، ومن جملة ما قرأه وأنهاه عليه : (
شرح الأصفهاني على التجريد ) وهذه صورة الإنهاء بخطّه الشريف : بسم الله ، والحمد
لله ، قد أنهى الشيخ الفاخر ، الباهر المؤتمن ، الشيخ ناصر بن عبد الحسن البحراني
وفّقه الله سبحانه لاقتناص العلوم والمعارف واكتساب اللطائف عليَّ هذا الكتاب ،
قراءة بحثٍ وتحقيق وتدقيق ، مع كثرة الإفادة ، وحصول الاستفادة ، في أوقات متعدّدة
، وساعات متبدّدة ، وكان آخر الإنهاء اليوم الرابع والعشرين من ذي القعدة الحرام
لسنة ١١٣٨ ، وكتب الأقلّ : حسين بن محمّد بن جعفر البحراني ) انتهى.
وهذه الأقوال
والأحوال تدلّ على أنّه من أُولي الإجلال ، والحائزين قصب السبق في ميدان الكمال.
واعلم أنّ المعروف بأبي الحسن من بني شاذان هو محمّد بن أحمد
بن علي بن الحسن بن شاذان القمّي ، وهو شيخٌ جليل فاضل ، من علمائنا ، صاحب كتاب (
المناقب ) كما في أوّل ( البحار ) .
ويراد به أيضاً
أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان ، أبو العباس القمّي الفامي بالفاء بعد اللام ،
والميم بعد الألف ، والياء أخيراً كما في ( النجاشي ) و ( الإيضاح ) .
ولعلّ المراد
به : بائع الفوم. قال في ( القاموس ) بعد ذكر معنى الفوم وبائعه ـ
__________________
( فامي : مغيّر عن فومي ) . انتهى.
والقاضي بالقاف
والضاد المعجمة كما في الخلاصتين ، قال النجاشي في وصفه : ( شيخنا الفقيه ، حسن المعرفة
، صنّف كتابين لم يصنّف غيرهما ، أخبرنا بهما ابنه أبو الحسن رحمهماالله ) .
فلعلّ تقديم (
علي ) على ( أحمد ) من تصحيف الناسخ ، لا المصنّف المعتمد ، والأمر سهلٌ بعد معرفة
المستند.
وإنّما نقلت
هذا الخبر بتمامه ؛ لقلّة حصوله ، وكثرة فوائده ومحصوله.
ولا يخفى على
ذي التأمّل التامّ ما فيه من الدلالة على المرام ، بل دلّ على ما لا مزيد عليه من
التأكيد والحثّ الشديد ، البالغ إلى حدّ الإيجاب ، والزائد على وظيفة الاستحباب :
أمّا
أوّلاً ؛ فللنهي عن
الصلاة خلف مَنْ لا يجهر بها ، وأقلّ مراتبه الكراهة إنْ لم يفد التحريم ، بل لولا
معارضته بغيره كصحيح الأخوين المتضمّن لجواز الإسرار والإجهار لكان دلالته عليه
كالشمس في رابعة النهار.
وأمّا
ثانياً ؛ فلجعله في
عداد ما هو من ضروريّات مذهب الفرقة المحقّة ، والثلّة الحقّة ، كالرجعة والعصمة.
وأمّا دلالته على حكم
الأخيرتين ، فلا يخفى على ذي عين :
أمّا
أوّلاً ؛ فلعدم تقييد
النهي بحالةٍ من الحالات ، ولا ركعةٍ من الركعات.
وأمّا
ثانياً ؛ فلأنّ ظاهر
الخبر وسياقه أنّ النهي عن الصلاة خلف مَنْ كانت فيه تلك الصفات من متفرّدات
الأئمّة الهداة والإماميّة الثقات ، وجواز الصلاة خلف مَنْ كانت
__________________
فيه مذهب أولئك العداة الطغام الطغاة.
ولا ريب أنّ
مَنْ يجهر بها منهم قد لا يخصّ الجهر بالأُوليين ، كما أنّ مَنْ يخفت بها منهم
يخفت في الموضعين.
فمقتضى خلاف
مذهبهم والردّ عليهم ، شمول الجهر للأخيرتين ، كما تحكم به ضرورة المخالفة بين
المذهبين.
ولا تضرّ رواية
الخبر بطريق الوجادة ؛ لاعتضاده بقرائن قويّة الإجادة والإفادة ، بل يمكن
الاستدلال على جواز العمل والرواية بها بما في ( الكافي ) عن أبي عبد الله عليهالسلام
: « اكتب وبثّ علمك في
إخوانك ، فإنْ متّ فأورث كتبك لبنيك ؛ فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون
فيه إلا بكتبهم » الخبر. والتقريب فيه ظاهر لذي النظر.
إذا
تقرّر هذا فنقول : قد تضمّن هذا الخبر أحكاماً كثيرة ، في التنبيه عليها فوائد أثيرة :
(١)
فمنها : النهي عن
الصلاة خلف مَنْ لا يجهر بالبسملة.
وهو موافقٌ
للقول بالوجوب ، مخالفٌ لما اشتهر بين الإماميّة ، بل نقل عليه الإجماع كما مرّ
فلا مناص من اطّراحه ؛ لقوله عليهالسلام : « خذ ما
اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر » . أو حمله على
خلاف ظاهره ؛ بناءً على أنّ العمل بالدليلين بالجمع بينهما مهما أمكن خيرٌ من
الاطّراح ودفعهما بالراح.
هذا ، ولنا أنْ
نبقيه على ظاهره ، بحمل ( مَنْ لا يجهر بها ) على منكر الجهر بالأصالة ، ونافيه من
رأس ، كما هو رأي جمهور أولئك الناس ؛ لمخالفته ضروري المذهب وإن كان في نفسه
يستحبّ.
ويؤيّده جعله
في عداد ما هو كذلك ، والله العالم بما هنالك.
(٢)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف المجهول.
ولا إشكال فيه
بعد الإجماع محصّلاً ومنقولاً على اشتراط الإيمان والعدالة في
__________________
الإمام ، ويدلّ عليه أيضاً ما رواه الشيخ والصدوق في ( الفقيه ) و ( الخصال
) ، عن الصادق عليهالسلام ، قال : « لا تصلِّ
خلف الغالي وإنْ كان يقول بقولك ، والمجهول ، والمجاهر بالفسق وإنْ كان مقتصداً » .
وما رواه في (
العلل ) ، قال : قال الصادق عليهالسلام
: « ثلاثة لا يُصلّى خلفهم
: المجهول ، والغالي وإنْ كان يقول بقولك ، والمجاهر بالفسق وإنْ كان مقتصداً » .
وما رواه
الكشّي صحيحاً عن يزيد بن حمّاد ، عن أبي الحسن عليهالسلام ، قال : قلت له : أُصلّي خلف مَنْ لا أعرف؟ قال : « لا
تصلِّ إلّا خلف مَنْ تثق بدينه » .
ومثله رواية
أبي عليّ بن راشد .
والمراد بـ (
المقتصد ) في الخبرين الأوّليّين : الإمامي المتوسط ، الذي ليس بغالٍ ولا مخالف ،
لكنّه مجاهر بالفسق.
ثمّ إنّ
المجهول يقال على مجهول الإيمان ، ومجهول الحال ، ومجهول الولادة.
وإطلاق هذه
الأخبار يتناول الثلاثة ، مضافاً في الأخير إلى ما دلّ على اشتراط طهارة المولد ،
إلّا إنّ بإزائها خبر عبد الرحيم القصير ، قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : « إذا كان
الرجل لا تعرفه يؤمّ الناس ، فيقرأ القرآن ، فلا تقرأ واعتد بقراءته » .
وهو ناطقٌ
بخلافها كما ترى.
وربّما يحمل
على من رُئِيَ يؤمّ العدول. وحمله بعض مشايخنا على التقيّة ، بقرينة لفظ ( الناس )
. ولا يخفى ما فيه ، إذ المصلّي خلفهم لا يعتدّ بقراءة إمامهم ، وإنّما
يقرأ لنفسه.
(٣)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف السفيه.
__________________
ويدلّ عليه
أيضاً ما رواه الصدوق ، والشيخ ، بإسناديهما إلى أبي ذر رحمهالله ، قال : « إنّ إمامك شفيعك إلى
الله ، فلا تجعل شفيعك سفيهاً ، ولا فاسقاً » .
وأبو ذر رحمهالله وإنْ لم يسنده إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله ، أو أمير المؤمنين عليهالسلام ، إلّا إنّه صادق اللهجة ، بشهادة الحديث المشهور بين
الأمّة ، مع اعتضاده بما روي عنه صلىاللهعليهوآله : « إنّ
أئمّتكم وفدكم إلى الله ، وشفعاؤكم إليه » .
و ( السفيه )
يطلق على الجاهل بالأحكام ، والمبذّر الذي يصرف ماله في غير غرضٍ صحيح ، وعلى من
يستطيل على مَنْ دونه ويخضع لِمَنْ فوقه ، كما ذكره الفخر في مجمعه واستقرب إطلاقه
على الذي لا يبالي بما قال ، ولا ما قيل فيه .
أقول
: ولو أُريد به
المخالف أيضاً لم يكن بعيداً من الصواب ؛ لإطلاقه عليه في كثيرٍ من أخبار الأطياب.
فعلى ما ذكرنا
ينكشف عن وجه المنع الحجاب ، وأمّا على تلك المعاني فلعلّه للإخلال بالعدالة ،
مضافاً إلى ورود النصّ به ، وكفى به مثبتاً للمقالة.
وفي ( الجواهر
) : ( عن جماعةٍ : كراهة إمامة السفيه ) .
وعن ( التذكرة
) الإشكال في إمامته .
لكنّه إنّما
يتمّ على عدم اشتراط المروّة في العدالة ، أمّا عليه فلا مناص عن التحريم ، مضافاً
لنبوِّ ذلك المنصب العظيم عن ذلك الوصف الذميم.
(٤)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف مَنْ تشهد عليه بالكفر ، ويشهد عليك به.
والوجه فيه بعد
الإجماع بقسميه على اشتراط الإيمان ظاهر لا يشتبه.
ويدلّ عليه
أيضاً ما رواه الصدوق ، بإسناده عن محمّد بن علي الحلبي ، عن
__________________
أبي عبد الله عليهالسلام ، في حديثٍ قال فيه : « لا
تصلِّ خلف مَنْ يشهد عليك بالكفر ، ولا خلف مَنْ شهدت عليه بالكفر » .
أقول
: والمراد بهم ؛
أمّا العامّة العمياء كما صرّح به بعض الأكابر ؛ أو الأعمّ منهم ممّن حكم عليه
بالكفر من منتحلي الإسلام ظاهراً ، وحكم به على مخالفته من أهل الحقّ عناداً ، كما
هو الظاهر.
(٥)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف مَنْ يتولّى ولا يتبرّأ.
ويدلّ عليه
أيضاً مع ما مرّ ما رواه الشيخ صحيحاً عن إسماعيل الجعفي ، قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : رجلٌ يحبّ أمير المؤمنين عليهالسلام ، ولا يتبرّأ من عدوّه ، ويقول : هو أحبّ إليّ ممّن
خالفه.
فقال : « هذا
مُخَلِّط ، وهو عدوّ ، فلا تصلِّ خلفه ولا كرامة ، إلّا أنْ تتّقيه » .
والظاهر أنّ
المراد بهم البتريّة ، أصحاب كثير النواء ، والحسن بن صالح بن حيّ ، وسالم ابن أبي
حفصة ، والحكم بن عتيبة ، وسلمة بن كهيل ، وثابت الحداد.
وهم فرقةٌ من
الزيديّة دعوا إلى ولاية عليّ عليهالسلام ، ثمّ خلطوها بولاية الأوّليْنِ وإمامتهما ، ويبغضون
الثالث وطلحة والزبير وعائشة ، ويرون الخروج مع ولد عليّ عليهالسلام ، ويثبتون لكلّ من خرج منهم الإمامة .
وعلّة تسميتهم
البتريّة ما رواه الكشّي في كتاب ( الرجال ) عن سدير ، قال : ( دخلت على أبي جعفر عليهالسلام ومعي سلمة بن كهيل وأبو المقدام ثابت الحداد وسالم بن
أبي حفصة وكثير النواء وجماعة معهم. وعند أبي جعفر عليهالسلام أُخوة زيد بن علي عليهالسلام ، فقالوا لأبي جعفر عليهالسلام : نتولّى عليّاً وحسناً وحسيناً ، ونبرأ من أعدائهم؟.
قال : « نعم ».
قالوا : نتولّى
أبا بكر وعمر ، ونبرأ من أعدائهما؟
__________________
قال : فالتفت
إليهم زيد بن عليّ عليهالسلام ، وقال لهم : ( أتتبرَّؤن من فاطمة! بترتم أمرنا ،
بتركم الله ) فيومئذٍ سمّوا البتريّة .
أقول
: يعني أنّهم
قطعوا حبل ولاية عليّ عليهالسلام بولايتهم لعدوّه ؛ لأنّ الله تعالى جعل البراءة جزءاً
من الدين كما في كثيرٍ من الآيات والروايات ، ولهذا قدّم في كلمة التوحيد النفي
على الإثبات ، وقال تعالى ( لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ ) . ومثلها غيرها من الآيات.
ويجوز أنْ يراد
بهم أيضاً المعتزلة الذين يفضّلون أمير المؤمنين عليهالسلام على الثلاثة ، ويقدّمونهم عليه في الخلافة ، وإنْ لم
يوجدوا في زمن الخطاب ؛ لعلمه عليهالسلام بوجودهم في مستقبل الأحقاب ، والله العالم بالصواب.
(٦)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف الواقفي.
ويدلّ عليه
أيضاً ما رواه الشيخ صحيحاً عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، أنّه كتب إلى أبي
جعفر الثاني عليهالسلام : أتجوز الصلاة خلف مَنْ وقف على أبيك وجدّك؟
فأجاب : « لا
تصلِّ وراءه » .
مضافاً للأخبار
المتكثّرة بكفر المخالفين للعترة المطهّرة ، ومنكري ولايتهم المقرّرة.
والواقفي
: نسبة للواقف ،
والمراد به من ساق الإمامة للكاظم عليهالسلام أو الرضا عليهالسلام ، ووقف عليهما ، كما يشهد به هذا الصحيح ، لأنّ المراد
بأبي جعفر عليهالسلام هو الجواد عليهالسلام ، والأغلب استعماله في مَنْ وقف على الكاظم عليهالسلام .
وسبب وقفهم كما
في الكشّي ـ : أنّه اجتمع ثلاثة آلاف دينار عند الأشاعثة من زكاة
أموالهم وغيرها ، فحملوها إلى وكيلين للكاظم عليهالسلام بالكوفة ، حيّان السرّاج وآخر معه ، وهو عليهالسلام في الحبس ، فاتّخذوا بذلك الدور ، واشتروا الغلّات.
__________________
فلمّا مات عليهالسلام أنكرا موته ، وأذاعا في الشيعة أنّه لا يموت ؛ لأنّه
القائم ، وانتشر قولهما في الناس ، ثمّ أوصيا عند موتهما بالمال لورثته عليهالسلام ، واستبان للشيعة أنّهما إنّما قالا ذلك طمعاً في
المال. رزقنا الله حسن المآل.
قلت
: لعلّ الرجل
الآخر المذكور هو عثمان بن عيسى الرواسي ؛ لأنّه أحد وكلائه عليهالسلام بالكوفة ، وأنّه أنكر ما عنده له من المال ، ثمّ مات
وبعث للرضا عليهالسلام بالمال. وقد عدّ أيضاً ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما
يصحّ عنهم . والله العالم.
فإنْ
قيل : إنّ ذلك الخبر
مرويّ عن الصادق عليهالسلام ، والوقف إنّما صار على الكاظم عليهالسلام كما نطقت به الأخبار الكثيرة ، أو الرضا عليهالسلام كما في هذا الخبر ، فكيف التوفيق؟
قلت
: لا منافاة بين
الأمرين :
أمّا
أوّلاً ؛ فلأنّ الصادق عليهالسلام [ لمّا ] سئل عمّن لا تجوز الصلاة خلفه ، استدعى ذلك بيان جميع
الأصناف وكان من جملتهم الواقفي ، فعدّه عليهالسلام في جملتهم ، بناءً على علمه عليهالسلام بأنّ ذلك سيقع بعده.
وأمّا
ثانياً ؛ فلأنّه لمّا
كان كلّ إمام سابق يخبر عن إمامة الإمام اللاحق ولو بنصّ رسول الله صلىاللهعليهوآله عليهم فلعلّه عليهالسلام أخبرهم عنه صلىاللهعليهوآله بإمامة ابنه موسى ، وإمامة باقي الأئمّة عليهمالسلام ، فقبلوا إمامة موسى عليهالسلام خاصّة ، أو إمامة ابنه الرضا عليهالسلام كما في هذا الخبر وأنكروا إمامة الباقين الغرر ، فنهى
عن اتّباعهم ، والاقتداء بهم ؛ لأنّ مَنْ أنكر واحداً منهم فقد أنكر الكلّ ، وأشرك
أو كفر.
لكن هذا الوجه
لا يلائم السبب المذكور في ذلك الخبر المزبور.
وقد تدخل
الناووسيّة أيضاً في الواقفيّة ، على ما هو الأشهر عنهم من سوقهم الإمامة إلى
الصادق عليهالسلام ، ووقوفهم عليه ، وقولهم : إنّه حيّ ، ولن يموت حتى
يظهر أمره ، وهو القائم المهدي عندهم . وحينئذٍ لا يبعد إرادتهم ، والله العالم.
__________________
(٧)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف المجذوم ، والأبرص.
والأخبار فيهما
مختلفة ؛ ولهذا اختلفت الفتاوى لاختلافها ، فروى الكليني ، والشيخ عنه صحيحاً ـ ،
عن ليث المرادي ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « خمسةٌ لا
يؤمّون الناس على [ كلِّ ]
حال : المجذوم ، والأبرص .. » الحديث.
وروى الكليني
أيضاً والصدوق صحيحاً على الصحيح عن زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : « قال أمير
المؤمنين : لا يصلّين أحدكم خلف المجذوم ، والأبرص » .. . الحديث.
وروى الصدوق
صحيحاً عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، أنّه قال : « خمسة لا
يؤمّون الناس ولا يصلّون بهم صلاة فريضة في جماعة : الأبرصُ ؛ والمجذوم » .. الحديث.
ويؤيّده ما في (
الخصال ) بسنده إلى محمّد بن يحيى الخزّاز ، عمّن أخبره ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « إنّ الله عزوجل أعفى
شيعتنا من ستّ : من الجنون ، والجذام ، والبرص ، والأبنة ، وأنْ يولد له من زنا ،
وأنْ يسأل الناس بكفّه » .
وبإزائها ما
رواه الشيخ رحمهالله عن عبد الله بن يزيد ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المجذوم والأبرص ، يؤمّان المسلمين؟ قال : « نعم ».
قلت : هل يبتلي
الله بهما المؤمن؟ قال : « نعم ، وهل
كتب الله البلاء إلّا على المؤمن » .
وما رواه
البرقي في ( المحاسن ) عن الحسين بن أبي العلاء ، عن أبي عبد الله عليهالسلام مثله ، بتغايرٍ يسيرٍ.
وقد يؤيّدهما
ما في ( مسكن الفؤاد ) ، عن ناجية ، قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : إنّ المغيرة يقول : إنّ الله لا يبتلى المؤمن بالجذام
، والبرص ، ولا بكذا ، ولا بكذا؟ فقال
__________________
« إنْ كان لغافلاً عن
مؤمن آل ياسين ، إنّه كان مكنعاً » ثمّ رد أصابعه فقال : « كأنّي
أنظر إلى تكنيعه » .. الخبر.
فعَمِلَ
بالأخبار الأُول المستظهر منها التحريم : السيّدُ المرتضى كما نقل عنه في (
المصباح ) والشيخ الطوسي في ( المبسوط ) و ( الخلاف ) ، وأتباعهما.
بل عن ( الخلاف
) و ( الغنية ) الإجماع عليه.
وبالخبرين
الأخيرين الظاهرين في الجواز : السيّدُ في ( الانتصار ) ، والمفيد ، والحلّي ، والفاضلان ، والشهيد ، وأكثر
المتأخّرين ، بل عزي لعامّتهم ، عدا النادر منهم ، وعزاه في ( المدارك ) إلى الشيخ في
الكتابين ، بل عن ظاهر ( الانتصار ) أو صريحه
الإجماع عليه.
إلّا إنّهم
قيّدوا الجواز بالكراهة ؛ حملاً لأخبار المنع عليها ، جمعاً بين الأخبار.
وفي ( المدارك
) : ( وهذا الجمع جيّد لو تكافأ السندان ، لكن رواية زرارة معتبرة الإسناد ،
ومعتضدةٌ بما في معناها من الأخبار ، وهذه الرواية ضعيفةٌ بجهالة الراوي ، فيشكل
الخروج بها عن ظاهر النهي ) . انتهى.
وفيه
: أوّلاً : إنّما يتمّ بالنسبة لحصره المعارض في رواية عبد الله بن يزيد ؛ لاشتراكه
بين رجلين مجهولين من أصحاب الصادق عليهالسلام ؛ لاقتصاره رحمهالله على ما في الكتب الأربعة.
__________________
أمّا بالنسبة
لرواية الحسين بن أبي العلاء فالمناقشة مندفعة ، ولعلّ الخبر مأخوذ من كتابه
المعدود من الأصول.
وثانياً
: أنّه سيأتي
إنْ شاء الله تعالى ما يوهن ردّ رواية المجهول.
وثالثاً
: أنّ رواية
ثعلبة بن ميمون الثقة الفقيه عنه تفيده مدحاً يفيد القبول.
وما أبعد ما
بينه وبين وصف التقيّ المجلسي في ( شرح الفقيه ) الرواية
بالصحّة مع اعترافه بأنّ عبد الله بن يزيد مجهول.
ورابعاً
: أنّ وصفه
رواية زرارة بأنها معتبرة الإسناد لا صحيحة بناءً منه على عدم توثيق إبراهيم بن
هاشم ، وقد بيّنا ضعفه في محلّه ، مع أنّه كثيراً ما يصف أخباره بالصحّة ، وهو من مثله
غير مقبول.
وجمع الشيخ بينها بحمل
خبري الجواز على ما إذا لم يوجد إمامٌ غيرهما ، أو على قومٍ هذه صفتهم ، فيجوز أنْ
يؤمّ كلّ واحدٍ منهما مثله.
ولا يخفى أنّ
مقتضى الأوّل جواز إمامتهما للماثل وغيره إذا لم يوجد غيرهما من غير كراهة ،
ومقتضى الثاني عدم جواز إمامتهما لغير مثلهما وإنْ لم يوجد غيرهما. والأوّل ينافي
ما يظهر من تلك الأخبار العظام من مانعيّة نفس البرص والجذام عن قابليّة أهليّة
الائتمام.
وبه يسقط ما
قيل من معارضة أخبار المنع بأخبار الاقتداء بالعدل ، إذ العدالة مقتضٍ ، وهما
مانعٌ ، ولا أثر للمقتضي مع وجود المانع.
هذا ، وحمل
أخبار المنع على الكراهة لا يخلو من ركاكة ؛ لاشتمال تلك الصحاح على المنع من
إمامة ولد الزنا والمجنون ، وحمل ذلك على الكراهة يقتضي جواز إمامتهما كذلك ، ولا
قائل به هنالك.
وحملُهما
حينئذٍ على مَنْ قيل فيه : إنّه ابن زنا ، ولم يثبت شرعاً ، أو مَنْ وُلدَ من
__________________
زنا في زمن الجاهليّة ، والمجنون الأدواري في حال إفاقته ، خلافُ الظاهر.
وقد يجاب بأمرين :
الأوّل
: أنّ الأوّل
لمّا قام له المعارض المنجبر بالشهرة ، جمعنا بينهما بالحمل على الكراهة وإنْ كانت
أخبار المنع صحاحاً لانجباره حينئذٍ بالعمل ، فلا يقصر عن مقاومة الصحيح بالاصطلاح
الجديد.
وجهالة حال
الراوي عندنا لا يستلزم جهالته عند قدمائنا ، مع أنّ غير واحد من علماء الرجال قد
صرّحوا بأن مجرّد إهمال الراوي وعدم التعرّض له لا يدلّ على قدحه ، بل قد يدلّ على
مدحه.
وأمّا إمامة
ابن الزنا والمجهول ، فلمّا سلمت من المعارض بقيت على حالها من المنع.
الثاني
: أنّ مدلول
النهي أنّما هو طلب الترك الشامل للحرمة والكراهة ، فجاز إرادة الحرمة في شيء
والكراهة في آخر ، ولا يلزم منه استعمال المشترك في كلا المعنيين ؛ لأنّ اللفظ
إنّما استعمل في الحقيقة الشاملة للقسمين.
والكلام في أصل
المسألة وفي هذين الجوابين طويل الذيل ، فليطلب من مواضعه ، وليتأمّل في مواقعه ،
والله العالم.
(٨)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف المحدود.
ويدلّ عليه
أيضاً صحيح زرارة على الصحيح من توثيق إبراهيم بن هاشم عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : « قال أمير
المؤمنين عليهالسلام :
لا يصلّين أحدكم خلف المجذوم ، والأبرص ، والمجنون ، والمحدود .. » الحديث.
وصحيح ابن مسلم
عنه عليهالسلام ، أنّه قال : « خمسةٌ لا يؤمّون الناس ، ولا
يصلّون بهم صلاة فريضةٍ في جماعة .. » وعدّ منهم المحدود.
__________________
وصحيح الأصْبَغ
بن نُبَاتَة ، المرويّ في ( الخصال ) ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : « ستةٌ لا
ينبغي أنْ يؤمّوا الناس » .. وعدّ منهم المحدود.
فعمل بإطلاقها
الشامل للتائب ، وغيره أبو الصلاح ، إلّا لمثله. وقيّد الأكثر الحرمة بما قبل التوبة ،
أمّا بعدها فالكراهة خاصّةً ؛ للفسق في الأوّل ، والنقص في الثاني.
مضافاً فيه إلى
الأصل ، وعموم : « يؤمّكم أقرؤكم » ، وأنّه ليس أسوأ حالاً من الكافر ، وبالتوبة واستجماع
الشرائط تصحّ إمامته.
ولا يخفى أنّ
هذه الاعتبارات الباردة لا تقوى على معارضة تلك الصحاح الصراح الخاصّة الناصّة
الواردة.
على أنّ تقييد
الجواز بالكراهة خارجٌ عن حكم سلطان الأصل ، وعموم إمامة ( الأقرأ ) مخصّصٌ بهذا
النصّ الخاصّ ، والحمل على الكافر باطلٌ ؛ للفارق الصادق ، لبقاء النفرة من
المحدود بعد التوبة ، وزوالها من الكافر بعد الإسلام ، بل علوّ رتبته إذا عمل بتلك
الأركان ، كما يشهد به العيان.
هذا ، وإطلاق
تلك الصحاح شاملٌ للإمامة لمثله وغيره ، فتجويز أبي الصلاح إمامته لمثله تقييدٌ
لها بالراح ، وهو في حكم الاطّراح.
نعم ، بقي في المقام أمران :
الأوّل
: إتيان صحيح
الأصْبَغ بلفظ « لا ينبغي » ، وليست حقيقة في
الحرمة ، فتكون قرينةً على إرادة الكراهة في ذينك الصحيحين.
الثاني
: ورود الخبر
بقبول شهادته بعد توبته ، فلعلّه يصلح شاهداً على جواز إمامته.
وقد يجاب عن الأوّل بأمرين :
الأوّل
: أنّها وإنْ لم
تكن حقيقةً في التحريم إلّا أنّ إتيانها له شائع في الأخبار ، ذائعٌ
__________________
في الآثار ، كما لا يخفى على مَنْ جاس خلال الديار.
وحينئذٍ ، فلا
بدّ في صرفها عنه من دليل ، وليس فليس ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.
على أنّ في
الكتاب وبعض الأخبار ما يعطي كونها حقيقة فيه ، كما في قوله تعالى ( وَما يَنْبَغِي لَهُ ) ، وقوله تعالى ( وَما يَنْبَغِي
لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ) ، وقوله تعالى ( وَما يَنْبَغِي
لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ ) .
وكصحيح زرارة ،
عن الباقر عليهالسلام ، قال : « لا ينبغي
نكاح أهل الكتاب ». قلتُ : جعلت فداك وأين تحريمه؟ قال عليهالسلام : « قوله تعالى ( وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ )
» .
ألا ترى كيف
فهم زرارة من مجرّد تلفّظ الإمام عليهالسلام بها التحريم من غير توقّف ، وإنّما سأل عن دليله ،
والتبادر أمارة الحقيقة.
الثاني
: أنّ كونها
قرينة على إرادة الكراهة من ذينك الصحيحين ليس أوْلى من جعلهما قرينة على إرادة
الحرمة منها ، بل الصواب العكس بلا مَيْنٍ.
وعن
الثاني بالفرق بين
عدالة الشاهد وإمام الجماعة ، لا سيّما الواجبة ، فإنّ الشهادة تقبل من ناقص
المنزلة في القلوب بكثرة التطرّق ، والأكل في الأسواق ، ومزاولة الدني من
الصناعات. وإمامة الصلاة متوقّفةٌ على الاتّصاف بما يوجب ميل النفوس إليه ، وإقبال
القلوب عليه.
ولذا ورد المنع
من إمامته مع كراهة المأمومين له مع عدالته ، كما في خبر ( المعاني ) : « ثمانيةٌ
لا يقبل الله لهم صلاة .. » وعدّ منهم : « إمام قوم
وهم له كارهون » .
وكره إمامة
مَنْ تناله الألسن لذلك ، ولمنافاته الإقبال الذي هو روح الأعمال.
فظهر أنّ قبول
شهادته لا يستلزم جواز إمامته ، إلّا أنّه إنّما يتمّ على عدم اشتراط المروّة في
العدالة مطلقاً ، وعلى الفرق بين عدالة الشاهد والإمام كما اختاره بعض
__________________
الأعلام ، مع أنّ ظاهرهم الإجماع على عدم الفرق.
ولنا أنْ نبني
المسألة بعد قطع النظر عن تلك الأخبار على مسألة لزوم بقاء المعنى في صدق المشتقّ
حقيقةً وعدمه ، والكلام عليها موكولٌ إلى فنّه. والله العالم.
(٩)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف الحاقن لبوله.
ويمكن الاستدلال
عليه أيضاً بالأخبار الناهية عن مدافعة الأخبثين ، ففي صحيح هشام بن الحكم ، عن
الصادق عليهالسلام : « لا طهارة
لحاقنٍ ولا حاقنةٍ ، وهو بمنزلة مَنْ هو بثوبه » .
وفي وصيّة
النبيّ صلىاللهعليهوآله لعليّ عليهالسلام المرويّة في ( الفقيه ) : « ثمانية
لا تقبل منهم صلاة .. » وعدّ منها : « الزبين ،
وهو الذي يدافع البول والغائط » .
وفي ( المعاني
) مرفوعاً إلى أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « قال رسول
الله صلىاللهعليهوآله :
ثمانيةٌ لا يقبل الله منهم صلاة .. » وعدّ منهم : « الزبين » .
وفي ( المجالس
) عن إسحاق بن عمّار ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : « لا صلاة
لحاقنٍ ، ولا لحاقب ، ولا
لحازق » .. إلى آخره.
وفي حَسَن
الحضرمي ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « إنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآله قال
: لا تصلِّ وأنت تجد شيئاً من الأخبثين » .
إلى غير ذلك من
الأخبار الواردة في هذا المضمار.
وتوجيه
الاستدلال : أنّ هذه الأخبار قد نطقت بالنهي عن الصلاة في تلك الحال على وجهٍ يشمل
المنفرد والمأموم والإمام ، فيستلزم النهي عن الائتمام به حينئذٍ ؛ لأنّ صلاة
المأموم فرع صلاة الإمام بلا إشكال ، فهي دائرةٌ مدارها في الصحّة والبطلان ،
والاختلال والكمال.
__________________
ولا يخفى أنّ
هذه الأخبار تقتضي بظاهرها التحريم ، ويؤيّده تنزيله في صحيح هشام منزلة مَنْ هو
أي الحدث في ثيابه ، ونفيه القبول في خبري ( الفقيه ) و ( المعاني ).
إلّا إنّ
بإزائها صحيح عبد الله بن الحجّاج ، قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن الرجل يصيبه الغمز في بطنه ، وهو يستطيع أنْ يصبر
عليه ، أيصلّي على تلك الحال ، أو لا يصلّي؟ فقال : « إنْ
احتمل الصبر ولم يخف إعجالاً عن الصلاة ، فليصلِّ وليصبر ». وخبر الحضرمي الحاصر لقواطع الصلاة في أربعة : الخلاء
، والبول ، والريح ، والصوت .
مع أنّ علّامة (
المنتهى ) نقل الكراهة عن كلّ مَنْ يُحفظ عنه العلم ، ونقل إجماع
علمائنا أجمع على أنّ الحاقن لو صلّى صحّت صلاته. فلذا حملوا النهي في خبر الحضرمي
على الكراهة ، ونفي الصلاة في الصحيح الهشامي على نفي الكمال ، ونفي القبول في
الخبرين الصدوقين على ما هو أعمّ من الإجزاء.
وتنزيله منزلة
مَنْ هو بثوبه يدفع هذا كلّه ؛ بناءً على عموم المنزلة ، أو الحمل على الأحكام
الشائعة للمشتبه به ، إلّا إنَّ إجماع المسلمين كافّة على خلافه ، فلا محيص عن
الحمل للنهي عن الاقتداء به على الكراهة.
وأمّا ما في
صحيح الفُضَيْل بن يَسَار ، وخبر أبي سعيد القماط ، من الأمر
لمن وجد في بطنه غمزاً ، أو أذى ، أو عصراً من البول أو ضرباناً ، بالانصراف
والتوضّؤ ، والبناء على ما مضى من صلاته ، وأنّه كمن تكلّم ناسياً.
فهو صريحٌ في
التقيّة ، الموجبة لطرحه بالكليّة ، من غير تكلّفٍ بحمله على أحد تلك الوجوه
القصيّة ، مع أنّ النصّ والإجماع حاسمان لمادّة النزاع.
__________________
(١٠)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف الآدر.
والمراد مَنْ
يصيبه فتق في إحدى خصيتيه ، أو كليهما. من الأُدرة بالضّم وهي انتفاخ الخصية ،
يقال أَدِرَ يأدَرُ كتَعِبَ يَتْعَبُ ، فهو آدر بالمدّ.
ولم أقف على ما
يوافقه من الأخبار ، ولا على مفتٍ به على الخصوص من علمائنا الأبرار. نعم ، في (
الجواهر ) عن ( النفليّة ) و ( الفوائد المليّة ) : أنّه ينبغي ألّا يكون الإمام
أيضاً مكشوف غير العورة من أجزاء البدن التي يستحبّ له سترها ، وخصوصاً الرأس ،
ولا آدراً ، أو مدافع الأخبثين ، إلّا بمساويهم ) انتهى.
ويوافقه أيضاً
عموم كلامَي الشيخ في ( التهذيب ) ، والسيّد السند في ( المدارك ) ، قال الشيخ قدسسره : ( ينبغي أن يكون الإمام مبرّءاً من سائر العاهات ،
وهذا على الاستحباب إلّا ما استثني ) .. إلى آخره. وقال سيد ( المدارك ) قدسسره : ( وكذا الكلام في جميع المراتب ، لا يؤمّ الناقص فيها
الكامل ) .
ولعلّ مستندهما
قبح تقديم المفضول على الفاضل أيضاً ، وقد قال بعض فضلائنا بأنّ غايته الكراهة . ولا يخفى ما
فيه ، سيّما إنْ أراد العموم ، وكأنّ الوجه في النهي عن الائتمام بالمبتلى بتلك
العاهة عروض الريح والأوجاع في حالة الصلاة المنافي للإقبال ، والمستلزم لعدم
الكمال ، بل ربّما عرض له ما يوجب القطع في بعض الأحوال ، إذ صلاة المأموم فرع
صلاة الإمام بلا إشكال ، والله العالم بحقيقة الحال.
(١١)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف مَنْ يبتغي على الأذان أجراً.
وهو كسابقه في
عدم الوقوف على مفتٍ به ، أو موافق له بالخصوص من الأخبار. نعم ، يمكن الاستدلال
عليه بالأخبار الناهية عن أخذ الأُجرة على الأذان ، كخبر السكوني ، عن جعفر ، عن
أبيه ، عن علي عليهالسلام ، قال : « آخر ما
فارقت عليه حبيب قلبي أنْ قال : يا علي إذا صلّيت فصلِّ صلاة أضعف مَنْ خلفك ، ولا
تتّخذن مؤذّناً يأخذ على أذانه أجراً » .
__________________
ومرسل الصدوق
في ( الفقيه ) ، قال : أتى رجل أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، والله إني لأُحبّك. فقال
له : « ولكنّي أبغضك ». قال : ولم ذلك؟ قال
: « لأنّك تبغي في الأذان
كسباً ، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً » .
والكلام هناك
مبنيٌّ على الكلام هنا ، فإنْ كان أخذ الأجر حراماً كما هو المشهور ، بل تكثّرت
حكاية الإجماع عليه كان الاقتداء بمَنْ يفعله حراماً ؛ لانتفاء العدالة ، وإنْ كان
مكروها كما عليه السيّد ، والمحقّق ، والشهيد كان الاقتداء بفاعله مكروهاً.
إذا تقرّر هذا
فنقول : إنّ هذين الخبرين وإنْ كانا ضعيفين ، إلّا أنّهما منجبران بالشهرة ومحكي
الإجماع من أولئك الأعيان.
نعم ، يبقى في
المقام أمران :
الأوّل
: الخبر الأوّل
قد اشتمل على مكروهات كثيرة ، فلعلّ هذا منها.
الثاني
: أنَّ الخبر
الثاني أنّما تضمّن بغض عليٍّ عليهالسلام لِمَنْ يأخذ الأجر على الأذان ، ولا يخفى أنّه عليهالسلام كما يبغض المحرّمات يبغض المكروهات ، سيّما المغلّظات ،
فلا يكونان صريحين في التحريم ، مع إمكان الجواب عن الأوّل بأنّ حَمْلَ النهي في
بعض تلك المنهيّات على الكراهة إنّما كان لمعارضٍ ، وهو غير موجود في ما نحن فيه.
وكيف كان ،
فالحكم دائرٌ مدار الحكم في أخذ الأجر على الأذان ، والله العالم.
(١٢)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف مَنْ هو أقلّ منك معرفة.
ويدلّ عليه
أيضاً مضافاً إلى قبح تقديم المفضول على الفاضل ما رواه في ( الفقيه ) ، قال صلىاللهعليهوآله
: « مَنْ صلّى بقومٍ وفيهم
مَنْ هو أعلم منه لم يزل أمرهم إلى سَفَالٍ إلى
يوم
__________________
القيامة » ، وقوله صلىاللهعليهوآله
: « إمامكم
وافدكم ، فقدّموا أفضلكم » ، وقوله صلىاللهعليهوآله
: « إنّ
سرّكم أنْ تزكّوا صلاتكم فقدّموا خياركم » .
وعمل بظاهرها
ابن أبي عقيل ، وهو مشكل على إطلاقه ، مع أنّ المنقول عن جمع من
الفضلاء اقتداؤهم بمن لا يدانيهم في العلم والمعرفة.
ويمكن الجواب
عمّا دلّ على قبح تقديم المفضول بحمله على الإمامة الخاصّة الكبرى والخلافة العظمى
، لكنّه إنّما يتمّ في الدليل اللفظي ، إذ لا تخصيص في الحكم العقلي.
وعن الأخبار
الثلاثة بحملها على ما إذا كان [ في ] تقديم المفضول منافاة للفاضل ، ومناواة للكامل ، أمّا
إذا رضيت نفس الفاضل بذلك ، وسمحت نفسه ؛ إظهاراً لشرف المفضول ، والاعتناء بشأنه
كما هو المنقول عن جمع من الفضلاء فلا مانع من جوازه ، بل ذلك هو الذي ينصرف إليه
الإطلاق ، ويظهر من السياق.
ويؤيّده ظاهر
الخبر الأوّل ، فإنّ كون أمرهم سَفَالاً إلى يوم القيامة إنّما يترتّب على تأخير
الإمام الأعظم عن الإمامة العظمى ، كالمتلصّصة وأتباعهم ، وكون إمامهم وافدهم
إنّما يراد به الإمام الأعظم ، بدليل الأخبار الواردة في تفسير قوله تعالى ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) ، ففي ( الكافي ) عن الصادق عليهالسلام ، قال : « بإمامهم
الذي بين أظهرهم ، وهو قائم أهل زمانه » ، و [ في ] ( القمّي ) عن الباقر عليهالسلام في تفسيرها ، قال : « يجيء
رسول الله صلىاللهعليهوآله في
قومه ، وعلي عليهالسلام في
قومه ، والحسن عليهالسلام في
قومه ، والحسين عليهالسلام في
قومه ، وكلّ مَنْ مات بين ظهراني قوم جاؤوا معه » . إلى غيرهما
من الأخبار الواضحة المنار.
نعم ، ظاهر
الخبر الثالث يعطي الأفضليّة ، وتأكّد الاستحباب ؛ لترتّب تزكية صلاتهم
__________________
أي : نموّها وكثرة الجزاء عليها بتقديم خيارهم ، فلا بدّ من حمل النهي عن
الاقتداء على الكراهة لتفويته الأفضليّة ، دون التحريم المقتضي لعدم الصحّة ،
لتحصيل التوافق بين الخبرين ، ويزول البَوْنُ من البين ، والله العالم.
(١٣)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف غير المحترم.
ويراد باحترامه
؛ إمّا البلوغ ، أو التمييز ؛ لأنّ الغلام كما يطلق على الصغير حقيقةً ، يطلق على
الكبير مَجازاً ، من باب تسمية الشيء بما كان عليه ، كقوله تعالى ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) ، كما يسمّى الصغير شيخاً من باب تسميته بما يؤول إليه
؛ لقوله سبحانه ( إِنِّي أَرانِي
أَعْصِرُ خَمْراً ) ، وفي ( المجمع الفخري ) : ( وعن الأزهري : سمعت العرب
يقولون للمولود حين يولد ذكراً : غلامٌ. وسمعتهم يقولون للكهل : غلامٌ ، وهو فاشٍ
في كلامهم ) انتهى.
فعلى الأوّل
يطابق ما هو المشهور ، بل نقل عليه الإجماع من عدم جواز إمامة الصبي غير البالغ.
ويدلّ عليه
موثّق إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه عليهماالسلام
: « إنّ عليّاً عليهالسلام كان
يقول : لا بأس أنْ يؤذّن الغلام قبل أنْ يحتلم ، ولا يؤمّ حتى يحتلم ، فإنْ أَمَّ
جازت صلاته ، وفسدت صلاة مَنْ خلفه » .
واحتجّ عليه في
( المدارك ) بما يرجع إلى تحصيل يقين البراءة.
وجوّز الإسكافي
إمامته إذا كان سلطاناً مستخلفاً للإمام الأكبر ، كوالي عهد المسلمين ،
والشهيد في النوافل التي تجوز فيها الجماعة.
ومبنى الأوّل
على الاعتبار ، والثاني على التسامح في أدلّة السنن ، والمباحث
__________________
فيهما ستظهر.
وعلى الثاني
ينافي المشهور وفتوى الشيخ في ( النهاية ) و ( التهذيب ) من عدم جواز إمامةِ المميّز الغير البالغ ، ويوافق فتوى
( الخلاف ) و ( المبسوط ) بجواز إمامة المميّز المراهق العاقل ، واستدلّ عليه
بإجماع الفرقة ، وخبر طلحة بن زيد ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي عليهالسلام ، قال : « لا بأس أنْ
يؤذّن الغلام الذي لم يحتلم وأنْ يؤمّ » ، وخبر غياث بن إبراهيم ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « لا بأس
بالغلام الذي لم يبلغ الحلم أنْ يؤمّ القوم ، وأنْ يؤذّن » ، وخبر سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « تجوز صدقة
الغلام وعتقه ، ويؤمّ الناس إذا كان ابن عشر سنين » .
وفي الترجيح
بين هذين القولين إشكال وإعضال :
أما
أوّلاً ؛ فلما عرف من
نقل الشيخ قدسسره إجماع الطائفة ، مع أنّه خلاف المشهور ، بل خلاف فتواه في غير (
المبسوط ) و ( الخلاف ) ، بل نُقِلَ الإجماع على خلافه .
أمّا
ثانياً ؛ فلاعتضاد
موثّق إسحاق بالشهرة ، بل منقول الإجماع واعتضاد فتوى ( المبسوط ) و ( الخلاف ) في
كثرة الروايات ، ونقل الشيخ عليه الإجماع .
ويمكن ترجيح
المنع مضافاً للشهرة الثابتة ، بل منقول الإجماع بأنّ موثّق إسحاق أرسله الصدوق عن
علي عليهالسلام جازماً به ، وبموافقة الاحتياط الذي يؤمن بسلوك جادّته
عن الوقوع في الاختباط ؛ لتوقّف يقين البراءة على ترك إمامته ؛ لأنّه لا يُؤمن
إخلاله بواجب أو فعله المبطل ؛ لعلمه بارتفاع المؤاخذة ، ولأنّ وقوع الفعل
__________________
منه ليس على وجه المأموريّة ، وقولُهُ عليهالسلام
: « مروهم
بالصلاة وهم أبناء سبع » لا يستلزم
الشرعيّة ، لما تقرّر من أنّ الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً بذلك الشيء.
والطلبُ أنّما
يرجع للولي ، وللإجماع على شرطيّة العدالة ، وهي غير محقّقة في حقّه ؛ لكونها
هيئةً قائمة بالنفس تقضي البعث على ملازمة الطاعات والانتهاء عن مقارفة المحظورات
ومقاربة المحرّمات ، فليتأمّل.
وبأنّ إجماعات
الشيخ قدسسره لا تستلزم الوقوع على وجهٍ يناط به الحكمُ الشرعي ، مع
نقل الإجماع على خلافه ، ومعارضته للرواية ، لما عُرِفَ مِنْ تساهله في نقل
الإجماعات ، حتى إنّه ينقل الإجماع في موضع ويخالفه ، بل ينقل على خلافِهِ في آخر
مع أنَّه لم يفتِ به إلّا في هذين الكتابين ، حتّى إنّه أجاب في ( التهذيب ) عن
خبر طلحة بن زيد الذي استدلّ به على مطلبه بحمله على مَنْ بلغ بغير الاحتلام ،
كالسنّ والإنبات ، قال : ( لأنّ الاحتلام ليس بشرطٍ في البلوغ ، ولا يجوز غيره ،
لأنّ البلوغ يعتبر بأشياء ومنها الاحتلام ، فمن تأخّر احتلامه اعتبر بما سواه ) . وأورد عليه
محقّق ( المعتبر ) بما لا يخلو من نظر.
هذا ، ويمكن
الجمع بحمل النهي في موثّق إسحاق على الكراهة ، إلّا أنّ إمامة الصبي تكون بعد بلوغ
العشر لا مطلقاً ، بدليل التصريح به في موثّق سماعة ، لكنّه فرع
المكافئة.
أمّا الجمع
بالحمل على إمامته بالمثل ، أو في النفل ، فغير دالّ عليه النقل ، والله العالم
العاصم.
(١٤)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف الأعمى.
وظاهره مصادم
للصحاح الصراح ، الدالّة على جواز إمامته بلا تشاح ، كصحيح
__________________
الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « لا بأس
بأنْ يصلّي الأعمى بالقوم وإنْ كانوا هم الذين يوجّهونه
» .
وصحيحِ زرارة
عن الباقر عليهالسلام ، قال : قلت : أُصلّي خلف الأعمى؟ قال : « نعم
، إذا كان له من يسدّده ، وكان أفضلهم » .
ومرسلِ الصدوق
، قال : قال الباقر ، والصادق عليهماالسلام
: « لا بأس أنْ يؤمّ
الأعمى إذا رضوا به ، وكان أكثرهم قراءة وأفقههم » .
قال : وقال أبو
جعفر عليهالسلام
: « إنّما الأعمى أعمى القلب
، فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور » إلى غير ذلك من النصوص الخاصّة والعامّة.
وللإجماع
المنقول عن غير واحد من الفحول كالفاضلين في ( المعتبر ) و ( المنتهى ) إلّا من بعض أهل الخلاف ، إلّا أنّه نقل عنه في (
التذكرة ) في باب الجمعة نسبة اشتراط سلامة الإمام من العمى إلى
أكثر علمائنا. وفي باب الجماعة نفى الخلاف عن جواز إمامة الأعمى بمثله والمبصر.
ولا يخفى ما
بين النقلين من البَوْنِ ، فإنّه إذا انتفى الخلاف في جواز إمامته ، كيف يصحّ
اشتراط أكثرهم لسلامته ، مع عدم القائل بالفصل بين إمام الجمعة والجماعة في هذا
الشرط إن ثبت؟!.
وحينئذٍ ، فلا
ريب في رجحان تلك الأخبار المعتضدة بإجماع علمائنا الأبرار ، فإنّ العمى لا يوجب
نقصاً ، وإلّا لما عمي بعض الأنبياء ، والاستناد إلى عدم تمكّنه من الاحتراز من
النجاسات وساوس شيطانيّة ، وتشكيكات في النصوص المعصوميّة المؤيّدة بإجماع
الإماميّة ، ولهذا نفى عنه العمى في مرسل الصدوق ، حيث قال عليهالسلام :
__________________
« .. إنّما
الأعمى أعمى القلب .. » . واستشهد له بقوله تعالى ( فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) .
وقد رُوي أنّ
أبا بصير صلّوا خلفه في طريق مكّة ، فسألوا الإمام عليهالسلام ، ولم يأمر بالإعادة .
نعم ، روى
الشيخ خبراً عاميّاً ، عن الشعبي ، قال : قال علي عليهالسلام : « لا يؤمّ
الأعمى في البرّيّة » .
وروى الكليني
والشيخ بإسناده عنه ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، عن أبيه ، قال : « قال أمير المؤمنين عليهالسلام في حديث ـ : « .. لا يؤمّ الأعمى في
الصحراء ، إلّا أن يوجّه إلى القبلة » .
وهما أنّما
تضمّنا المنع في البراري والصحاري لا مطلقاً ، ولعلّه لعدم معرفته بالقبلة ، وعدم
المسدّد ، كما تقتضيه قضية التخصيص بالبرّيّة والصحراء ، أو لعدم أفضليّته عليهم
كما يحكم به صريح تلك الأخبار ، كقوله عليهالسلام في الصحيح المتقدّم : « إذا
كان له مَنْ يسدّده ، وكان أفضلهم » . وفي المرسل :
« إذا كان أكثرهم قراءةً
، وأفقههم » .
وبهذا يمكن
الجمع بين هذا الخبر وتلك الأخبار ، وينجلي عنها ذلك القَسْطَل والغبار ، فإنّ
قولَه عليهالسلام في صحيح الحلبي : « وإنْ
كانوا هم الذين يوجّهونه » ، وفي صحيح زرارة : « إذا كان له
مَنْ يسدّده » ، وفي خبر السكوني : « .. إلّا أنْ
يوجّه إلى القبلة » ، صريحٌ في أنّ إمامته
إنّما تصحّ إذا كان له مَنْ يوجّهه إلى القبلة.
وما دلّ على
المنع من إمامته في البراري والصحاري محمول على عدم المسدّد ،
__________________
لعسر معرفة أمارات القبلة فيهما ، إلّا لأوحديّ الناس ، وهو إذا كان أعرفهم
وكلوا أمر القبلة إليه ، وهو متعذّر في حقّه ، بخلاف ما إذا كان في المدن والقرى
لمعرفته إيّاها بالمحاريب وشبهها ، ولهذا ورد خبر السكوني المانع من إمامته في
الصحراء بجوازها مع التوجيه ، فيحمل الخبر المبحوث عنه المانع من الصلاة خلفه على
تلك الأخبار الناطقة بالجواز مع التسديد ، حملاً للمطلق على المقيّد. ويمكن الجمع
أيضاً بحمل النهي فيه على الكراهة مع وجود الغير ، أو مطلقاً ، والله العالم.
(١٥)
ومنها : النهي عن
الصلاة خلف المخنّث ، والمأبون.
والمراد
بالأوّل الموطوء في الدبر ، وبالثاني المعيوب ، كما هو صريح كلام الفخري في ( مجمع
البحرين ) ، والفيروزآبادي في ( القاموس ).
قال
في ( المجمع ) : ( وخنث خنثاً
من باب تعب إذا كان فيه لين وتكسّر ، [ يُعدّى ] بالتضعيف فيقال : خنّثه غيره ، ومنه المخنَّث بفتح
النون والتشديد وهو مَنْ يوطأ في دبره لما فيه من الإخناث وهو التكسّر والتثني ،
ويقال هو مَنْ الخنثى ) . وقال فيه أيضاً ـ : ( والمأبون المعيب ، والأبنة العيب
) .
وقال في (
القاموس ) : أبنه بشيء يأبُنُهُ ، ويأبِنُه : اتّهمه ، فهو مأبون بخير أو بشرٍّ ،
فإنْ أطلقت فقلتَ : مأبون فهو للشرٍّ ، وَأَبَنَهُ وأبَّنَهُ تأبيناً عابَهُ في
وجهه ، والأُبْنَةُ بالضم العقدة في العود والعيب ) . انتهى.
أقول
: أمّا الوجه في
المنع من الاقتداء بالمخنّث فممّا لا ريب فيه ؛ لورود الأخبار بالوعيد الشديد على
فاعل ذلك الذنب المكيد ، وبأنّه من الكبائر المتوعّد عليها بالنار والعذاب المبيد
، وأنّه شرٌّ من الزنا ، وأنّه يهتزّ منه العرش المجيد ، إلى غير ذلك من العقوبات
والوعيدات التي ليس عليها مزيد .
__________________
وأمّا النهي عن
الصلاة خلف المأبون بالمعنى الذي ذكروه ، الشامل للعيب الخُلُقي والخَلْقي فموضع
إشكال ، سيّما مع حمل النهي على المعنى الحقيقي ، والشمول لمطلق العيب ، إذ
السلامة من سائر العيوب الخُلُقيّة والخَلْقيّة لا تحصل إلّا للعترة المعصومة ، أو
الأوحديّ من الشيعة الاثني عشريّة.
ومَنْ ذا
الذي تُرضى سجاياهُ كلُّها
|
|
كفى المرءَ
نُبْلاً أنْ تُعدَّ معايبُه
|
اللهمَّ إلّا
أنْ يحمل النهي على المعنى المجازي ، فيوافقه عموم كلامَي شيخ ( التهذيب ) وسيّد (
المدارك ). قال الشيخ قدسسره : ( ينبغي أن يكون الإمام مبرّءاً من سائر العاهات ،
وهذا على الاستحباب ) .. إلى آخره. وقال السيِّد قدسسره : « وكذا الكلام في جميع
المراتب ، لا يؤمُّ الناقص فيها الكامل ) . انتهى.
أو يحملُ النهي
على العيوب المنافية للعدالة ، أو النهي عن الاقتداء بالمبتلى بها على الخصوص ،
كالجذام والبرص الخَلْقِيّين أو الحادثين ، وغيرهما.
ويحتمل
احتمالاً راجحاً ، بل هو الأظهر أنْ يكون المرادُ بالمأبون : مَن به داء
الأُبْنَةِ ، وهي الغدّة التي تكون في أدبار بعض الأشخاص ، كما رواه الشيخ في (
التهذيب ) عن علي عليهالسلام ، قال : « إنّ لله
عباداً لهم في أصلابهم أرحامٌ كأرحام النساء ». قال : فمالهم لا
يحملون منها؟ قال : « لأنّها منكوسة ، ولهم
في أدبارهم غدّة كغدّة البعير ، فإذا هاجت هاجوا ، وإذا سكنت سكنوا » . انتهى.
وهي الآفة التي
في الثاني ، كما اعترف به شيعته ، قال السيوطي في تعاليقه على القاموس نقلاً عنه
عند تصحيح لغة الأبنة : ( وكانت في جماعة في زمن الجاهليّة ، أحدهم سيّدنا عمر ).
وقال ابن الأثير أيضاً : ( زعمت الروافض أنّ سيّدنا عمر كان
__________________
مخنّثاً ، كذبوا لعنهم الله ، ولكن كان به داء دواؤه ماء الرجال ). انتهى
وحكى بعض الثقات ( أنّه سمع بعض محدّثيهم ، وهو العلّامة الضرير التابلي في مكّة
المشرّفة يقول : ( إنّ الروافض تزعم أنّ عمر كان مخنّثاً ، وكذبوا ، وإنّما كانت
به أُبْنَة ). انتهى.
وحينئذ ، فيرجع
بهذا المعنى إلى الأوّل ، ويكون من عطف الشيء على مرادفه ، وقد عرفت ما فيه من
الوعيد والنكال ، فيزول غيهب الإشكال.
ولنرجع
إلى ما كنّا فيه ثانين العنان عمّا ينافره وينافيه ،
فنقول :
(٢٩)
ومنها : ما رواه
الحسين بن حمدان الخَصِيبِي في ( الهداية ) ، عن عيسى بن مهدي ، والجوهري في دلائل
الإمام أبي محمّد الحسن العسكري عليهالسلام في حديث طويل قال عليهالسلام فيه : « .. ومنكم مَن أضمر السؤال
عن الاختلاف بينكم وبين أعداء الله وأعدائنا من أهل القبلة والإسلام ، فإنّي
منبّئكم بذلك فافهموه ». فقالت طائفةٌ أُخرى : والله يا سيّدنا ، لقد أضمرنا
ذلك. فقال : « إنّ الله عزوجل أوحى
إلى جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله :
أنّي خصصتك وعليّاً وحججي منه إلى يوم القيامة وشيعتكم بعشر خصال : صلاة إحدى
وخمسين ، وتعفير الجبين ، والتختّم باليمين ، والأذان والإقامة مثنى مثنى ، وحيّ
على خير العمل ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين ، والقنوت في ثاني
كلّ ركعتين ، وصلاة العصر والشمسُ بيضاء ، وصلاة الفجر مُغْلِسة ، وخضاب الرأس
واللحية والوَسْمَة فخالفنا
مَنْ أخذ حقّنا وحزبه الضالّون ، فجعلوا صلاة التراويح في شهر رمضان عوضاً عن صلاة
إحدى وخمسين في كلّ يوم وليلة ، وكتف أيديهم على صدورهم في الصلاة عوضاً عن تعفير
الجبين ، والتختّم باليسار عوضاً من التختّم باليمين ، والإقامة فرادى خلافاً على
مثنى ، والصلاة خير من النوم خلافاً على حيّ على خير العمل ، والإخفات في السورتين
خلافاً على الجهر .. » .
ثم ذكر
مخالفتهم في بقية الأُمور المذكورة ، وذكر أنّ أوّل من ابتدع التكبير أربعاً في
__________________
صلاة الأموات مروان بن الحكم ؛ لخوفه من قتل يزيد إيّاه بوصيّة أبيه له عند
الصلاة عليه ، وذكر فيه أيضاً أنّه : « لا تقيّة
في خمس : التكبير خمساً على الميّت ، والتعفير في دبر كلّ صلاة ، وتربيع القبور ،
وترك المسح على الخفّين ، وشرب المسكر ». وهو طويل أخذنا منه
موضع الحاجة.
وهذا الخبر
وإنْ كان موردُه الأُوليين بقرينة السورتين إلّا أنّه لا دلالة فيه على المنع من
الجهر بها في الأخيرة أو الأخيرتين ، بل يستفاد منه استحبابُ الجهر ببسملة الحمد
مطلقاً حيث كانت ؛ لأنّها إحدى السورتين.
فإنْ
قلتَ : إنّ الحسين بن
حمدان ضعّفه علماء الرجال كابن الغضائري والنجاشي والطوسي بأنّه فاسد المذهب ، ملعونٌ كذّاب ، صاحب مقالة ؛ ولهذا
عَدَّ من أبواب صاحب الزمان : محمّد بن أبي زينب ، ومحمّد بن نصير النميري ، وإنّ
ابن نصير باب المهدي غائب بغيبته ، ويظهر بظهوره.
قلتُ
: إنّ هذا الخبر
إنّما هو من كتاب ( الهداية ) الموصوف بأنّه في غاية المتانة والإتقان ، ولم يروِ
فيه ما ينافي المذهب ، وقد نقل عنه وعن كتابه هذا الأجلّاء من المحدِّثين كالشيخ
أبي محمّد هارون بن موسى التلعكبري ، والشيخ حسن بن سليمان الحلّي ، وصاحب ( عيون
المعجزات ) الذي قيل : إنّه السيّد المرتضى ، والأصحُّ أنّه الحسين بن عبد الوهاب
والمجلسي ، وصاحب ( العوالم ) ، والحرُّ العاملي ، والسيّد هاشم التوبلي.
ومقتضى الجمع
بين كلام القادحين والمادحين هو تعدّد الشخصين ، وإنّ صاحب ( الهداية ) سالمٌ من
الذمّ ، مقبولُ الرواية.
وممّا يرشد
إليه أنّ المذموم مقيَّدٌ بـ ( الجنبلاني ) وليس في كتبه كتاب ( الهداية ) ، وأنّ
صاحب ( الهداية ) غير مقيّدٍ بـ ( الجنبلاني ).
__________________
ويؤيّده :
المنقول عن المولى الماهر ، الآقا محمّد علي بن الآقا باقر ، في حواشيه على ( نقد
الرجال ) ، نقلاً عن شيخه المعاصر ، من أنّ كون ( الحسين بن حمدان فاسد المذهب ،
كذّاباً ، صاحب مقالةٍ ، ملعوناً ، لا يلتفت إليه ، وظاهر لمن تدبّر هذا الكتاب
وهو ( الهداية ) أنّه من أجلّاء الإماميّة وثقاتهم ). انتهى.
وبمثله صرّح
الفاضل المحدّث المنصف الشيخ يوسف في ( الكشكول ) ، حيث قال بعد نقله بعض الأخبار
من كتاب ( الهداية ) المذكور ما هذا لفظه :
( الذي في كتب
الرجال أنّ الحسين بن حمدان الحضيني كان فاسدَ المذهب ، كذّاباً ، صاحب مقالة ،
ملعوناً ، لا يلتفت إليه. وظاهرٌ لمن تدبّر هذا الكتاب وهو ( الهداية ) أنّه من
أجلّاء الإماميّة ) انتهى.
وهو في الظهور
كالنور على الطور.
بل قد يفرّق
بينهما بأنّ المذموم هو ( الحُضَيني ) بالمهملة المضمومة ، ثمّ المعجمة المفتوحة
قبل الياء المثناة التحتانيّة ، والنون بين اليائين. والآخر هو ( الخَصِيبي )
بالخاء المعجمة المفتوحة ، والصاد المهملة المكسورة ، والباء الموحّدة بدل النون.
ويؤيّده ما في (
الفهرست ) : ( الحسين بن حمدان الخصيب ، له كتابُ ( أسماء النبيّ والأئمة ( عليهمالسلام
) ) انتهى. مضافاً إلى الموجود في صدر الكتاب ، وهو ما لفظه :
( كتاب (
الهداية ) للحسين بن حمدان الخصيبي ، يشتمل على أسماء النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وأسماء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله
عليه ، بالهندي والعبراني ، وأكثر الصفات المختلفة ، وفاطمة الزهراء عليهاالسلام بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، والأئمّة الراشدين : الحسن ، الحسين عليهمالسلام .. وعدّهم إلى آخرهم ، إلى أنْ قال ـ : حدّثنا ابن
الخصيب ، قال : حدّثنا جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري ، الكوفي .. ) ثم ذكر طرقه.
فلعلّ التعبير بالحضيني تصحيف للخصيبي.
__________________
ويزيده تأييداً أيضاً كلام السيّد علي الطاووسي في كتابه ( الإقبال ) ، حيث عدّ من
جملة علماء الإماميّة المرضيّين والمعيِّنين وفاة الإمام العسكري عليهالسلام في اليوم الثامن من ربيع الأول ، الحسين بن حمدان بن
الخصيب.
وكفاه في علوّ
مقامه عدّه أيضاً إيّاه في جملة الكليني ، والمفيد ، والشيخ الطوسي ، ومحمّد بن
جرير بن رستم الطبري الإمامي ، والتلعكبري.
وهو ظاهرٌ في
اعتماده على هذا الكتاب وجريان مضامينه على نهج الصواب. وأمّا ما في ( العوائد )
من جعل الجنبلاني ، والحضيني ، والخصيبي ، كلّها لمسمّى واحد فلعلّه اشتباه في
النظر ، والتعدّد هو المعتبر.
وممّا يناسب
هذا المقام ، ذكر منام لبعض الأعلام ، وجدته على ظهر كتاب ( الهداية ) ، قال ما
لفظه :
( بسم الله
الرحمن الرحيم : الحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة على محمّد وآله.
رأيتُ في
الليلة الثامنة من شهر محرّم الحرام للسنة ١٠٩٩ في المنام ، بعد أنْ تذاكرتُ وبعض
الإخوان الخلّص حال الحسين بن حمدان ، مصنّف هذا الكتاب ، لمّا رأينا ترجمة في (
الميرزا ) [ للحسين ] بن حمدان تتضمّن فساد مذهبه ولعنه ، وبقينا في شكّ
فيه من ذلك ، كأنّ بعض العلماء العظام المشار إليهم يقول إليّ وقد سألته عن ذلك ،
وهل هو أو غيره ـ : يا أخي ، الحسين بن حمدان صاحب ( الهداية ) رجلٌ جليل القدر ،
عظيم الشأن ، إمامي المذهب ، وأين يكون في مذهب الحقّ مثل الحسين بن حمدان صاحب (
الهداية ). وأمّا المذكور في ( الميرزا ) فهو غيره ، ألا ترى أنّ فيه : ( لم )
يعني : لم يروِ وصاحب ( الهداية ) من خيار الرواة وثقاتهم.
فقلت : نعم ،
إنّ فيه ( لم يروِ ) ، فقال تعرف كيف يكون هو هذا وقد روى مثل ( الهداية ) ، والله
سبحانه أعلم. بقلم الرائي العبد الفقير إلى ربّه الغني علي بن حسن
__________________
البحراني ). انتهى ما وجدته بلفظه.
أقول
: لعلّ الرائي
المذكور بقرينة التاريخ المزبور هو الشيخ علي بن الشيخ حسن ابن الشيخ يوسف بن
الشيخ حسن ، البحراني ، البلادي نسبةً إلى ( بلاد القديم ) قرية كبيرة من قرى
بلادنا ( البحرين ) المعاصر للمحقّق الربّاني الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ،
المعروف بالماحوزي.
قال المحقّق
المحدّث المنصف الشيخ يوسف في ( لؤلؤة البحرين ) : ( وكان الشيخ علي المذكور
فاضلاً جليلاً ، سيّما في العربية والمعقولات ، مدرّساً ، إماماً في الجمعة
والجماعة ، معاصراً للشيخ سليمان المذكور .. ) إلى آخر كلامه ، زِيد في إكرامه.
وكيف كان ، فلا
ضير في نظمها في سلك تلك الأدلّة ، إذ بانجبارها بعمل الطائفة والملّة ، وتأيّدها
بتلك الوجوه السابقة تزول العلّة.
وممّا يصلح ولو
في الجملة للتأييد والتأكيد أخبارٌ :
٣٠
ـ منها
: ما رواه المحدّث
الكاشاني في ( الصافي ) نقلاً من ( الكافي ) عن الصادق عليهالسلام ، قال : « كان رسول
الله صلىاللهعليهوآله إذا
دخل إلى منزله واجتمعت عليه قريش يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ويرفع بها صوته ،
فتولّى قريش فراراً فأنزل الله عزوجل في
ذلك ( وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ
وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) » .
أقول
: هذا الخبر
وإنْ كان مورده الجهر بها في غير الصلوات إلّا إنّه يستفاد منه أنّ في الجهر بها
مزيةً شديدة ، وفضيلة أكيدة ، تقتضي كلّ منهما استحبابه في جميع الحالات الشاملة
للصلوات بضميمة ما تقدّم من تلك الأخبار ، أو عدم القول بالفصل من غير الحلّي من علمائنا
الأخيار ، إنْ لم يجرِ فحوى الخطاب في هذا المضمار ، بل يمكن حمله على حال الصلاة
بحمل القرآن في الآية الشريفة بالنظر للّغة عليها ،
__________________
كما في قوله تعالى ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) ، وكما في أحد الوجوه في قوله تعالى ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) أي : الصلاة ، تسمية للشيء ببعض أجزائه ، يعني : صلاة
الليل ، ثمّ نسخ بالصلوات الخمس ، إلّا إنّ عدم العثور على تفسيره بها هنا في شيء
من الآثار يوجب الوقوف ، بل العثار.
٣١
ـ ومنها
: ما رواه ثقة
الإسلام عن أبي هارون ، عن الصادق عليهالسلام ، قال : قال لي : « كتموا
بسم الله الرّحمن الرّحيم ، فنعم والله الأسماء كتموها ، كان رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا
دخل إلى منزله واجتمعت عليه قريش يجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم ، ويرفع بها صوته
، فتولّى قريش فراراً .. » الحديث.
أقول
: لا يخفى على
أُولي الحلوم ما دلَّ عليه من الحثّ العظيم على الجهر بها على جهة العموم.
والتقريب
فيه : أنّ المراد
بكتمانها : إخفاؤها ، وعدم الجهر بها ؛ بدليل مقابلته بالجهر ، حيث إنّه عليهالسلام رَدَّ على مَنْ يخفت بها في الصلاة بعموم فعل النبيّ صلىاللهعليهوآله واستمراره على الجهر بها في الصلاة وغيرها ، من باب الاستدلال بالعامِّ على
الخاصّ ، ولات حين مناص.
٣٢
ومنها : ما رواه شيخ
الطائفة عطّر الله مرقده في ( التهذيب ) حسناً عن زكريا بن إدريس القمّي ، قال :
سألت أبا الحسن الأوّل عليهالسلام عن الرجل يصلّي بقوم يكرهون الجهر ببسم الله الرّحمن
الرّحيم ، فقال : « لا يجهر » .
أقول
: وجه الاستدلال
أنّ الإمام عليهالسلام إنّما خصّ نفي الجهر بحال التقيّة حقناً لدمه ودم
أصحابه من الفئة البغية ، وأمّا حال الاختيار فحكمه هو الإجهار. والاستدلال
بالمنهي عنه في بعض الأحوال على ثبوت الأمر به مطلقاً غير غريب عند أديب أريب ، ألا
ترى أنّ الفقهاء استدلّوا على وجوب الصلاة على أموات المسلمين
__________________
ومشروعيّة القيام على قبورهم ، بقوله تعالى ( وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ) ، مع أنّ موردها النهي عن الصلاة على المنافقين
والكفّار ، والقيام على قبورهم للدعاء وسؤال الرحمة عليهم ، معلّلاً بكفرهم ،
فيزول النهي بزوال العلّة التي هي الكفر ، ويثبت الأمر بها في حقِّ المسلمين.
ولا يخفى على
ذي نظر أنّ حال الاستدلال بالآية كحال الاستدلال بالخبر.
٣٣
ـ ومنها
: ما رواه في (
البحار ) عن كتاب ( فقه الرضا عليهالسلام ) ، حيث قال في بيان كيفيّة الصلاة وآدابها ، بعد
الدعاء الثالث من أدعية التكبيرات الافتتاحيّة ، وهو دعاء التوجّه : « أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرّحمن الرّحيم ،
وتجهر ببسم الله على مقدار قراءتك » .. إلى آخره.
والظاهر أنّ
مراده بتقييد الجهر بمقدار القراءة بيان حدّ الجهر بها ، وأنّه ليس مغايراً لحدِّ
سائر القراءات الجهريّة.
والنكتة
فيه : أنَّه لمّا
تكثّر الحثّ على الجهر بها ، والتظلّم من مخفيها ، ربّما يتوهّم متوهّمٌ أنّ الجهر
بها زائدٌ على الجهر بغيرها ، فبيّن عليهالسلام أنّ الجهر بها على حدِّ الجهر بغيرها ؛ لتأدّي النسبة
بإسماع الغير ، الذي هو أقلّ الإجهار ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.
٣٤
ـ ومنها : ما رواه الشيخ
قدسسره موثّقاً عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، أنّه قال : « ينبغي
للإمام أنْ يُسمع مَنْ خلفه كلّ ما يقول ، ولا ينبغي لمن خلف الإمام أنْ يسمعه
شيئاً ممّا يقول » .
أقول
: التقريب في
هذا الخبر : أنّ البسملة ممّا يقوله الإمام ، فينبغي إسماعها مَنْ خلفه ؛ قضاءً
للعموم المستفاد من الكلّيّة ، خرج غيرها بالدليل الخارجي كقوله في صحيح صفوان : (
جهر بالبسملة ، وأخفى ما سوى ذلك ) ، وغيره من الأخبار الآمرة
__________________
بالمخافتة بالقراءة ، فبقيت البسملة داخلةً في عموم ذلك ، كما لا يخفى على
مَنْ سلك تلك المسالك ، وظفر بالنصيب الوافر من تلك المدارك ، لما تقرّر في محلّه
من أنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي ، والله العالم بما هنالك.
فهذه نبذةٌ من
مُعْتبر الأخبار ، وصريح الآثار ، الواردة عن الأئمّة الأطهار ، قد استقبلها
العلماء الأبرار بعين القبول والاعتبار. هذا كلّه من طريق أصحابنا الأنجاب.
أخبار العامّة
وأمّا
من طريق أولي الأذناب فهو :
ما أخرجه
الطبراني ، والدارقطني ، عن أمير المؤمنين عليهالسلام : « إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان
يجهر بها في الحمد » . ونقلوا عمل الصحابة على ذلك.
وقال الرازي في
تفسيره الكبير : ( روى البيهقي في ( السنن الكبرى ) عن أبي هريرة ، قال : كان
رسولُ الله ( ص ) يجهر في الصلاة ببسم الله الرّحمن الرّحيم ).
ثم قال بعد أن
نقل عن البيهقي أنّه روى الجهر بها عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن عمر ،
وابن الزبير ما لفظه : ( وأمّا إنّ عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه كان يجهر
بالتسمية ، فقد ثبت بالتواتر ، ومَنْ اقتدى في دينه بعليّ بن أبي طالب فقد اهتدى.
والدليل عليه قوله عليهالسلام : « اللهم أدرِ
الحقَّ مع عليٍّ حيث دار » ) .
وقد مرّ تصريح
الرازي والشافعي بأنّ الجهر بالتسمية مذهب جميع المهاجرين والأنصار . ومرّ أيضاً
تصريحه بأنّ ابتداء الإسرار إنّما وقع خوفاً من بني أُميّة الأشرار .
ومنه
: ما في التفسير
المذكور أيضاً ، قال : ( وروى أبو قلابة عن أنس أيضاً ـ : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله وأبا بكر ، وعمر ، كانوا يجهرون ببسم الله الرّحمن
الرّحيم ) .
ومنه
: ما نقله بعضُ
المعاصرين من السادة الأبرار في هامش كتابه ( روح القرآن في فضائل أُمناء الرحمن )
من كتاب ( جمع الجوامع ) في أُصول الفقه لتاج الدين عبد الوهاب بن علي
السبكي الشافعي ، المتوفّى سنة ٧٧١ : ( في مسند بشر بن معاوية ،
__________________
عن أبي الهيثم البكالي ، بإسناده إلى بشر ومجالد أنّهما وفدا على النبيّ صلىاللهعليهوآله فعلّمهما ( يس ) والحمد لله ربِّ العالمين ، والمعوّذات
الثلاث : قل هو الله ، والفلق ، وقل أعوذ برب الناس ، وعلّمهما الابتداء ببسم الله
الرّحمن الرّحيم ، والجهر بها في الصلوات ، والقراءات ) انتهى.
وهذا كلّه ممّا
يدلّ على أنّ الجهر بها في العصر السالف مستند للسماع من النبيّ المختار والمطاع.
ولا يخفى ما
فيه من العموم قضاءً لحقّ ( كان ) المفيدة للدوام والاستمرار في الأوقات ، بضميمة
ما نقلوه عنه عليهالسلام من أنّه كان يقرأ في الأُخريات.
أقول
: وصاحب كتاب (
روح القرآن في فضائل أُمناء الرحمن ) هو السيّد السند والفاضل المعتمد السيّد عباس
، وقد يسمّى السيّد محمّد عباس ، من السادة المعاصرين ، وهو شوشتري الأصل ، هندي
المسكن. ويظهر من مطاوي كلماته أنّه تارةً ينتسب للسيّد القاضي نور الله الشوشتري
، وأُخرى للسيّد نعمة الله الجزائري. ولعلّه لأحدهما بالأب ، وللآخر بالأُمّ.
وهذا الكتاب قد
وضعه لفضائل أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين ، وقد جمع فيه مائة آية وإحدى
وثلاثين آية من كتاب الله المبين على الترتيب ، مضافاً لما ذكره آية الله العلّامة
في ( إحقاق الحقّ ) ، وهو أربع وثمانون آية مع تذييل الآيات ببيانات شريفة ،
وحكايات طريفة ، وأشعار لطيفة ، وذكر في آخره أنّه فرغ من تأليفه لثمانٍ بقين من
محرّم الحرام للسنة الحادية والسبعين بعد المائتين والألف من هجرة سيّد الأنام.
وقد وضع له
فهرساً لطيفاً ، سمّاه ( قلّة العجلان في فهرست روح القرآن ) جامعاً لما فيه
إجمالاً من البيان وبيّنات الكتب المنقول منها لعلماء السنة وأحوال مؤلّفيها ،
__________________
بحيث يصلح أن يكون كتاباً مستقلا مفيداً وتصنيفاً جديداً سديداً. جزاه الله
عنّا وعن جميع المؤمنين أفضل جزاء المحسنين.
وله أيضاً
ديوان شعر سمّاه ( رطب العرب ) ، وهو من المطبوعات الهندية ، وله أيضاً كتب ورسائل في
كثير من المسائل. وفّقنا الله وإيّاه لتحقيق المسائل وتنقيح الدلائل.
وأمّا ما أخرجه
أبو عبيدة ، وابن سعد في ( الطبقات )، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ، وابن
خزيمة، وابن الأنباري في ( المصاحف )، والدارقطني ، والحاكم وصحَّحَه ، والبيهقي ،
والخطيب ، وابن عبد البرِّ، كلاهما في كتاب البسملة، عن أُمِّ سلمة رضياللهعنها : ( إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ) .
وما
رووه عن أمّ سلمة
رضى الله عنه : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله صلّى فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم .
وما
رووه عن ابن المنذر
: أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم .
وما
رووه عن أبي هريرة
: أنّه صلّى فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، وقال : أنا أشبهكم بصلاة رسول الله صلىاللهعليهوآله .
فهي وإنْ أشعرت
بالجهر بها بتقريب أنّ إخبارهم عنه صلىاللهعليهوآله بقراءته إيّاها إنّما كان لسماعهم إيّاها منه صلىاللهعليهوآله في صلواته على وجه الاستمرار ، وليس المراد من الإجهار
إلّا إسماع الأغيار لكن إنّما سيقت لبيان أنّ البسملة جزءٌ من السورة ، للردّ على
مَنْ يحذفها من أُولي الشقاق ، فلا ظهور لها في العموم أو الإطلاق وإنْ كان
للتأمّل فيه
__________________
مجالٌ وانطلاق.
وكيف كان ، فلا
يخفى على مَنْ كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد ، وخلع ربقة الاعتساف عن الجيد
، وما في أكثر تلك الأخبار من العموم لموضع النزاع ، كما لا يخفى على ذي اطّلاع
ولا يخفى على ذي رويّة أنّه لا تخصيص إلّا بمخصّص من الآيات القرآنيّة ، أو السنّة
المعصوميّة.
وقد نصّت تلك
الآثار على عموم استحباب ذلك الإجهار في جميع الصلوات من غير تخصيص بإحدى الركعات
، وعلى ملازمة سادات القادات وقادات السادات عليه في كلّ الأوقات ، إلّا في حال
التقيّة من أُولئك الطغام الطغاة ، وأنه من سمات شيعتهم السراة. وقد دلّ محكم
الآيات ومتواتر الروايات ومتضافر الدرايات على الاقتداء بأحوالهم ، والتأسّي بهم
في جميع أفعالهم وأقوالهم.
وحينئذٍ ، فقصر
الجهر بها على بعض الركعات غير لائق بمن تمسّك بذيل أُولئك الهداة ، بل قال بعض
الأبدال : ( إنّ تخصيص الجهر بما تتعيّن فيه القراءة محض تحكّم بلا إشكال ).
والمعصوم مَنْ عصمه الله ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله ، ولا غَرْوَ فالصارم قد
ينبو ، والنار قد تخبو ، والجواد قد يكبو ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو
الفضل العظيم.
المبحث الثاني
في الاستدلال على القول الثاني
أدلّة
الوجوب : ويمكن
الاستدلال عليه بوجوه :
الأوّل
: بعض الأخبار
المتقدّمة ، بدعوى ظهورها في تلك الدعوى غير المسلّمة ، كقول أمير المؤمنين عليهالسلام في خبر سُليم بن قيس : « ولألزمت
الناس بالجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم » . وفي نسخةٍ
أُخرى صحيحةٍ : « ولأمرت الناس ».
والتقريب
فيه : أمّا على
النسخة الأُولى فظاهر ، إذ لا إلزام بالمندوب ؛ لاختصاص الإلزام بالوجوب. وأمّا
على النسخة الأُخرى ؛ فلأنّ لفظ الأمر للوجوب ، لذمِّ إبليس على ترك السجود
المأمور به ، وإيجاب الحذر عند مخالفة الأمر.
وقوله عليهالسلام في خبر بريرة : « إنّما أنا
شافع ». بعد قولها : ( أتأمرني يا رسول الله؟ ) ، وقوله صلىاللهعليهوآله : « لأمرتهم
بالسواك » ، مع الإجماع على استحبابه.
وقول الصادق عليهالسلام لهشام بن الحكم : « إذا
أمرتكم بشيء فافعلوا »
، كما في كتاب الحجّة
من ( الكافي ) عن يونس بن يعقوب ، فليس إلّا لأنّ الأمر للوجوب. وهو المطلوب.
وكقول الصادق عليهالسلام في خبر الأعمش : « والإجهار
ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلوات واجب » .
__________________
والتقريب
فيه : أنّ لفظ
الوجوب ظاهر في ما هو قسيم المندوب ، فيجب حمله على ما هو الأصل فيه ، كما لا يخفى
على نبيه.
وكمرسل ( أزهار
الرياض ) السابق ، الناهي عن الصلاة خلف مَنْ لا يجهر بها.
والتقريب
فيه : أنّ النهي عن
الصلاة خلفه يستلزم الوجوب ؛ للإجماع على جواز الاقتداء بتارك المندوب.
وكصحيحي زرارة الدالّين على
أنّ مَنْ جهر في ما لا ينبغي الجهر فيه ، أو أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه
متعمّداً ، فقد نقض صلاته ، وعليه الإعادة.
والتقريب
: أنّ البسملة
ممّا لا ينبغي الإخفاء فيه بما مرّ من الأدلّة الدالّة على الرجحان ، وعدم
الالتفات إلى خلاف ابن إدريس ، لكونه من الضعف بمكان فتبطل الصلاة حينئذٍ بالإخفات
، فيلزم كون الجهر من الواجبات.
وكما نقله ابن
أبي عقيل من تواتر الأخبار عن آل الرسول صلىاللهعليهوآله من نفي التقيّة فيه ، وليس ذلك إلّا للوجوب.
الثاني
: الإجماع
المستفاد من قول الصدوق قدسسره في المجلس المعقود لوصف دين الإماميّة : ( ويجب الجهر
ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة ، عند افتتاح السورة وبعدها ) .
والتقريب
فيه : أنّ ذكره وجوب
الجهر بها في وصف دين الإماميّة يقتضي أن كلّ من كان منهم قائلٌ بالوجوب ، الظاهر
لفظه في قسيم المندوب ، فيتمّ المطلوب.
الثالث
: قاعدة الشغل ،
لدوران الأمر حينئذٍ بين الوجوب والاستحباب ، فلا يقين بفراغ الذمّة من الشغل
اليقيني بالتكليف إلّا بالتزام الفعل على وجه الإيجاب.
الرابع
: ملازمة النبيّ
والأئمّة الهداة عليه وعليهم أفضل السلام والصلاة على
__________________
الجهر بها في جميع الحالات ، فيلزم التأسّي بهم عليهمالسلام في ذلك ، كما يلزم في سائر الأوقات.
أقول
: لا يخفى على
الناقد البصير أنّ هذه الوجوه لا تدلّ على المدّعى ، ولا ينبّئك مثل خبير.
والجواب عن الأوّل :
أمّا
إجمالاً ؛ فلمجيء
الوجوب في كلامهم كثيراً بالمعنى اللغوي ، الذي هو أعمّ من الحكم الشرعي الاصطلاحي
، وهو مطلق الثبوت تارةً ، ومراداً به تأكّد الاستحباب أُخرى ، في مواضع متعدّدة ،
وأماكن متبدّدة ، كما لا يخفى على مَنْ جاس خلال ديار آثارهم ، واقتفى أثر أخبارهم
، والسبر والوجدان شاهدا عدلٍ لذوي الأذهان ؛ ولقيام القرائن القويّة الصارفة لهذه
الأخبار عن الإيجاب ، كالشهرة المحقّقة ، والإجماعات الكثيرة المنقولة إنْ لم تكن
محصّلة ـ ، وفهم محقّقي الأصحاب ، وصحيح الأخوين عبيد الله بن علي ، ومحمّد بن علي
الحلبيين ، الذي رواه شيخ الطائفة في التهذيبين بطريقين عن أبي عبد الله الصادق
بلا مَيْنٍ ، أنّهما سألا عمّن يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم حين يريد أنْ يقرأ
فاتحة الكتاب ، فقال : « نعم ، إنْ شاء سرّاً
وإنْ شاء جهراً » . ولو كان واجباً لما خيّر عليهالسلام بين الأمرين ، كما لا يخفى على ذي قلب خالٍ من الرين.
وحمل الألفاظ
على حقائقها عند الإطلاق إنّما هو مع التجرّد عن القرينة الصارفة عنها ، أمّا معها
فلا ، كما لا يخفى على مَنْ له في الصناعة أدنى خَلَاق.
هذا ، ويمكن
أنْ يقال : إنّ مناط التخيير هو التقيّة وعدمها ، فلا ينافي الوجوب ، إلّا إنّه
بعيد من حاقّ اللفظ وسياقه ، وخلاف المتبادر من وضعه وإطلاقه.
وأمّا تفصيلاً : فأمّا عن خبر سُليم بن قيس :
فأمّا على نسخة
الإلزام فأوّلاً : بما مرّ من الكلام.
__________________
وثانياً : أنّ سياق كلامه عليهالسلام المشتمل على تظلّماته من أُولئك الولاة الطغاة الطغام
أنّ إلزامه عليهالسلام بالجهر لا للوجوب ، بل للردّ على مَنْ سبقه من أعداء
علّام الغيوب ، حيث أظهروا أنّه غير جائز ولا مشروع ، ولتنبيه مَنْ رسا في قلبه ذلك
الأمر المبدوع ، فأراد عليهالسلام إظهار هذه السنّة الحميدة ، وأنّها من آكد السنن
الأكيدة. ولا يلزم من الإلزام بها الوجوب ؛ لوقوع الإلزام بالمندوب ، فإنّ والي
المسلمين إذا رآهم مكبّين على هجر السنن المحمّديّة ، ومعرضين عن الإتيان بها
بالكلّيّة ، ولا سيّما السنن التي هي من شعار الإيمان ، جبرهم على الإتيان بها ،
كما ورد مثل ذلك في زيارة النبيّ صلىاللهعليهوآله والأذان ، فإنّ المشهور بين الأصحاب إيجاب جبر الوالي
على الزيارة مع قولهم بالاستحباب ، وعن علّامة ( المنتهي ) : ( إنّ الإجماع واقع
على مقاتلة أهل المصر المجمعين على ترك الأذان ). ونَقلَ الإجماع عليه أيضاً بعض
الأصحاب ، مع قوله وقول جلّ الفرقة بعدم الإيجاب.
وثالثاً
: بحمل إلزامه عليهالسلام على الإلزام بمطلق الجهر بها ، فيجهرون بها على وجه
الوجوب في القراءة الجهريّة ، وعلى وجه الاستحباب في القراءة السريّة.
ورابعاً
: بحمل الإلزام
بالجهر بها على كونه كناية عن مطلق الإتيان بالبسملة ، في مقابلة مَنْ يحذفها من
المخالفين للفرقة المفضّلة ، لكون الجهر أفضل الفردين الدالّين على التلفّظ بها ،
فيلزم من الإتيان بها في الجهريّة الجهر بها من حيث التبعيّة ، ويستفاد الجهر بها
في الإخفاتيّة من الأدلّة الخارجيّة.
وأمّا على نسخ
: « ولأمرت » ، كما هو الأكثر ؛
فلأنّ الأمر وإنْ كان الأشهر فيه اختصاصه بالطلب الحتمي ، وفرّعوا عليه خروج
المندوب عن الأمر ، إلّا إنّ الحقّ فيه كونه حقيقةً في مطلق الطلب ، الشامل للدعاء
والالتماس ، الذي هو طلب المساوي.
ودعوى تبادر الطلب الحتمي منه ممنوعة ، وبعد تسليمها فهي بحمل
التبادر على الإطلاقي دون الوضعي مدفوعةً.
__________________
واستعمالها في
الأحاديث المذكورة للوجوب لا يستلزم كونها كذلك في كلّ موضع مطلوب ، إذ الاستعمال
أعمّ من الحقيقة ، كما لا يخفى على ذوي القلوب ، مضافاً لشيوع تعلّق الأمر بالأعمّ
في كثير من المواضع ، في كلام الشارع والصادع ، قال تعالى ( وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ) وقال تعالى ( أَتَأْمُرُونَ
النّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) وقال تعالى حكاية عن قول فرعون لقومه ( فَما ذا تَأْمُرُونَ ) وقال تعالى ( لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ) .
والتقريب في هذه الآيات :
أمّا
في الآيتين الأُوليين ؛ فلأنّ المراد بالمعروف هنا كلّ فعلٍ يحسّنه الشرع والعقل ، سواء كان
واجباً أو مندوباً ، كما أنّ البرَّ أيضاً اسم جامعٌ للخير كلّه ، مع أنّه تعالى
أمر الناس في الآية الأُولى بأنْ يأمر بعضهم بعضاً بفعل المعروف ، ولا شكّ في صدق
الامتثال بفعل المستحبّات ، كما أنّ الإنكار في الآية الثانية يترتّب على مَنْ أمر
غيره بفعل المستحبّ ، مع أنّه لا يفعله ولو في بعض الأوقات.
وأمّا
في الآية الثالثة ؛ فلأنّ سَوْق الآية القرآنيّة ومقتضى الحكمة الربّانيّة ، وكلام المفسّرين
من الإماميّة ، ومدقّقي العربية ، يقتضي تعلّق الفعل بضمير المتكلّم ، لا الجنود والفرق
العسكريّة ، ومن البعيد صدور الإلزام على المَلِكِ المطاع من الرعيّة ، خصوصاً من
يُدّعى فيه الربوبيّة.
والتقريب
في الآية الرابعة يظهر من التقريب في الأُولى ، لذِي الرواية.
والكلام في
المسألة طويل الذيل ، موكول إلى الكتب الأُصوليّة ، وعلى اختصاص الأمر بالواجب ،
فالجواب عنه كما مرّ بالسويّة.
وأمّا عن خبر الأعمش :
فأوّلاً بضعف سنده عن مقاومة ما مرّ من الأخبار والإجماعات.
__________________
وثانياً بحمله على الوجوب التخييري ، الراجع إلى كونه أفضل
الفردين ، أو على المعنى اللغوي أو تأكّد الاستحباب ، كما سمعته في سابقه ، فيزول
الارتياب من البين.
وأمّا
عن مرسل ( الأزهار ) فبحمله على مَنْ ينكره بالكلّيّة من الأشرار ، فيفيد النهي عن الاقتداء
بمخالفي الأئمّة الأبرار ، ولهذا قرنه بما هو من ضروريّات مذهب أُولئك الأخيار.
وقد تقدّم أنّ منكره بالكلّيّة خارج عن رِبْقَةِ الفرقة
المحقّة الإماميّة ، فيخرج عن محلّ النزاع ، وينكشف القناع.
وأمّا
عن صحيحَيْ زرارة : فأوّلاً بأنّ المراد بـ ( ينبغي ) هنا الوجوب خاصّة ، لا مطلق الرجحان ، وكثرة
استعمالها فيه لا ينافي حملها على الوجوب بدليل آخر في هذا المكان.
وثانياً بأنّ مقتضى الأدلّة في البسملة خصوص الاستحباب ، لا
القدر المشترك ، فتخرج المسألة حينئذٍ عن ذلك العنوان.
وثالثاً بلزوم تمشية الحكم المذكور إلى كلّ ما يترجّح فيه الجهر
كالقنوت ، والإقامة ، والأذان ، ولا قائل به من الأعيان ، واللازم باطلٌ ،
فالملزوم مثله في البطلان ، ووجه الملازمة غنيّ عن البيان.
ورابعاً بانصراف ظاهرهما إلى خصوص القراءة الواجبة في الأُوليات
، لأنّها الفرد الشائع المنصرف إليه الإطلاق ، المتبادر من السياق ، لا كلّ ما
يجهر فيه أو يخفى حيث كان.
وأمّا
عمّا نقله ابن أبي عقيل من نفي التقيّة :
فأوّلاً بعدم الملازمة العرفيّة فضلاً عن العقليّة أو الشرعيّة
بين الوجوب وعدم التقيّة ، إذ من القريب كون النفي من الأُمور التعبّديّة والأحكام
الخارجيّة ، لا صفة تابعة لذات اللابديّة ، وحكماً ناشئاً من اللوازم الوجوبيّة ،
كما لا يخفى على من أعمل عامل
__________________
الرواية ، وألغى عوامل العصبيّة.
وثانياً بقصوره عن درجة الحكومة أو المعارضة لأدلّة التقيّة
العقليّة والنقليّة ، ولا ينافي نقله التواتر لأنّه بالنسبة إلينا آحاد ، إذ لم
نعثر على ما يوافقه سوى مرسل ( البحار ) عن ( دعائم الإسلام ) ، المشتمل على خلاف
ما أجمع عليه في النصوص ، وفتاوى علمائنا الأبرار من تخصيص الجهر بالبسملة بأوّل
الصلاة التي يجب فيها الإجهار ، وقد مرّ نقله ، وسيأتي تمامُ الكلام عليه إن شاء
الله في الخاتمة ، رزقنا الله حُسنها بمحمّد وآله الأطهار.
الجواب عن إجماع الأمالي
والجواب
عن الثاني : أوّلاً بعدم ظهور كلام الصدوق قدسسره في دعوى الإجماع الحاسم لمادّة النزاع ، إذ قصارى الأمر
ذكر الحكم في المجلس المعقود لوصف دين الإماميّة كما سمعت ؛ فلا يفيد إلّا انحصار
القول بالوجوب في علمائهم ، دون سائر الفرق الغويّة ، لإطباقهم على عدم وجوبه وإنْ
قال بعضهم باستحبابه ، فيصدق بقول بعضهم فضلاً عن أكثرهم.
ثانياً بمنع حصول الإجماع الكاشف عن قول الحجّة ، الذي هو مدار الحجيّة عند
الإماميّة ، لأنّ مرجعه في الحقيقة إلى نقل سبب العلم الكاشف فقط ، من دون انضمام
المعلوم المنكشف إليه ، إذ من البعيد الغريب استناده في نسبة الوجوب للإماميّة إلى
السماع من الإمام عليهالسلام ، مع عدم معرفته بعينه ؛ لانضمامه لجماعة لا تعرف
أعيانهم ، كما أنّ من القريب استناده فيه إلى أمر حدسي لا يستلزم المطابقة لقوله عليهالسلام بالنسبة إلينا وإن استلزمها بالنسبة إليه ، ولا بدع في
ذلك لاستناد كثيرٍ من قدماء الفقهاء في الكشف عن قول الحجّة إلى الحدس النظري
بواسطة النظر إلى أصل مقرّرٍ أو رواية
خبر معتبر ، كما ادّعى السيّد والمفيد إجماع الإماميّة على جواز إزالة النجاسة بسائر المائعات
؛ نظراً لإجماعهم على العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل ، أو على وجود الرواية عنهم
بذلك ، كما اعتذر به المحقّق للمفيد هنالك ، وكما ادّعى المفيد إجماع الإماميّة على
أنّ المطلّقة ثلاثاً في مجلس واحدٍ تقع بها واحدة ؛ لإجماعهم على أنّ ما خالف
الكتاب والسنّة فهو باطل ، مشيراً بالكتاب إلى قوله تعالى ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) ، وإلى السنّة بقوله صلىاللهعليهوآله : « كلّ ما لم
يكن على أمرنا فهو ردّ » ، وقوله صلىاللهعليهوآله
: « ما
وافق الكتاب فخذوه » . وكما ادّعى
الشيخ رحمهالله إجماع الفرقة على سقوط القَوَد ، وأخذ الدية من بيت
المال لو بانَ بعد القتل فسق الشاهدين به ، لروايتهم : « إنّ
ما أخطأت القضاة ففي بيت مال المسلمين » .
وعلى استخراج
السابق بالقرعة لو تعذّرت الشهود في مَنْ أعتقه المريض ، واختلفوا في التعيين ولم
يفِ الثلث بالجميع ؛ نظراً إلى أنّ القرعة لكلّ أمر مجهول.
ومثله كثير
يظهر للمتتبّع البصير ، وستسمع إنْ شاء الله تعالى شطراً منه في البحث مع ابن
إدريس ، ولا ينبّئك مثل خبير.
وقد تقرّر في
محلّه أنّ الإجماع الحجّة هو الاتّفاق الكاشف عن قول المعصوم ، المراد منه نقل
الكاشف والمنكشف معاً ، فيسمّى المجموع إجماعاً مسامحةً وتجوّزاً ؛ لخروجه عن حدّ
الإجماع الحقيقي ، المستدلّ على حجّيته في الأُصول ، ولا يلزم من المناقشة في عدم
الكشف هنا المناقشة في إجماع الاستحباب ؛
__________________
لاختلاف ذلك باختلاف الموارد والأحوال والأسباب ، فتأمّل ، والله العالم
بالصواب.
وثالثاً بقيام القرائن الكثيرة على إرادة خلاف ظاهره ؛ لحكاية
بعض محقّقي الأصحاب كالشهيد ، وغيره تصريحه بالاستحباب ، وغلبة تعبير القدماء
بالألفاظ الباقية على معانيها اللغويّة ، كما هو كذلك في لسان الأئمّة الأطياب ،
ولذا عبّر الصدوق قدسسره في ( العلل ) عن استحباب قضاء النافلة بالوجوب ، حيث
قال : ( باب العلّة التي [ من أجلها لا ] يجب قضاء النوافل على من تركها بمرض ) ، ثم أورد خبر
محمّد بن مسلم عن الباقر عليهالسلام ، وفيه : « .. إنّها ليست بفريضة ،
إنْ قضاها فهو خير له ، وإنْ لم يفعل فلا شيء عليه » ، وخبر إسماعيل بن
جابر ، عن الصادق عليهالسلام ، وفيه « .. ليس عليك قضاء ، إنّ
المريض ليس كالصحيح » .
والتقريب فيه ظاهر ، حيث عبَّر عن استحباب قضاء النوافل بوجوب
قضائها ، كما وجدناه في نسخ ( العلل ) ، حتّى إنّ بعض المحشّين عليه فسّر مراده قدسسره من الوجوب بالاستحباب المؤكّد ، فيصير قرينةً على
إرادته هنا من الوجوب ، ولبعد جهل الصدوق قدسسره بما علم من عدم إجماع الإماميّة على الإيجاب.
اللهم
إلّا أنْ يقال : إنّ غاية المعلوم من مذهبهم كون الجهر من شعارهم فقط ، أمّا الندب فلا.
ويرد
عليه : النقض بعدم
معلوميّة الإيجاب ، فترجيحه على الاستحباب الظاهر الراجح خلاف الصواب. وحينئذٍ فلا
مناص عن حمله على الوجوب بالمعنى اللغوي الأوّلى ، دون المعنى الشرعي الثانوي ، في
مقابلة مَنْ ينفيه من أهل المذهب الغوي ، أو على تأكّد الاستحباب ؛ لغلبة التعبير
عنه بالوجوب في لسان قدماء الأصحاب ، أو على الوجوب التخييري ؛ للزوم القراءة لأحد
الوصفين ، واجتماع الاستحباب الخصوصي مع الوجوب التخييري ، فيؤوّل كلامه حينئذٍ
إلى كون
__________________
الجهر أفضل الفردين الواجبين ، ولهذا حمل شهيد ( الذكرى ) عبارات
الموجبين على هذا المعنى المستبين ، وحمله بعض المحقّقين على الجهر في الأُوليين.
وفيه
: أنّ المعلوم
من كلمات السادة الميامين ، وعبارات أصحابهم المتقدّمين ، هو اتّحاد الأُوليين
والأخيرتين بالنسبة إلى البسملة في الوجوب والندب ، في الإيجاب والسلب الكلّيّين.
وأمّا الفرق
بينهما بالجزئيّين فلم يظهر إلّا من بعض المتأخّرين ، كما يشهد به التتبّع الصادق
من السالك الحاذق.
الجواب عن قاعدة الشغل
والجواب
عن الثالث : أوّلاً بانقطاع الشغل بالإطلاقات المتكاثرة ، بل العمومات المتضافرة ، والشهرة
المحقّقة من الفرقة المحقّة المحقِّقة ، فتوًى وروايةً وعملاً ، قديماً وحديثاً ،
على وجه يبرئ الذمّة يقيناً ، كما هو مقتضى قولهم الزاهر : « خذ
ما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر » ، مضافاً إلى الإجماعات الكثيرة المنقولة إنْ لم تكن
محصّلةً ، بل لا يبعد تحصيل الإجماع من الأشراف على ما هو الحقّ من طرق الانكشاف.
وثانياً بما قيل من أنّ مقتضاها حينئذٍ ليس مجرّد التزام الجهر
؛ للدوران بين الشرطيّة والمانعيّة ، فلازمها حينئذ ؛ إمّا التكرار للصلاة ، أو
للبسملة خاصّة ، أو اختيار التسبيح على بعض الوجوه ، أو التخيير على الوجه الآخر ،
كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.
وفيه
: أنّ مبناه على
الاعتداد بالقول بالتحريم ، وقوّة الشبهة في طرف التلزيم ، والاحتياط إنّما يتبع
الشبهة قوّةً وضعفاً ، ولا ريب مع قطع النظر عن قوّة دليل الاستحباب ، وقصره على
النسبة بين التحريم والتلزيم في قوّة الوجوب دون التحريم.
__________________
الجواب عن التأسّي
والجواب
عن الرابع : أوّلاً باختصاص التأسّي بما لم يُعلم وجهه لا ما عُلم.
وثانياً بملازمتهم عليهمالسلام على المستحبّات ، ولا سيّما المؤكّدات ، كملازمتهم على
الواجبات ، حتى إنّهم يعدّون الاشتغال بالمباحات من الذنوب ، فيستغفرون عنها علّام
الغيوب ؛ لمنافاتها الإقبال بالكلّيّة على المحبوب.
وثالثاً بما قيل من عدم شمول أدلّة التأسّي للمقام ؛ لعدم ثبوت
قراءتهم في الأُخريات ، فينتفي موضوع الجهر بالبسملات.
وفيه
: أنّه لا يتمّ
بالنسبة الى الأخبار الدالّة على الإجهار من حيث إقامة الشعار وإنْ تمّ في ما
يُدّعى ظهوره في الأُوليات من الأخبار ، وهذا بحمد الله واضح المنار ، فاعتبروا يا
أُولي الأبصار.
أمّا ما أجاب
بعض الفضلاء المعاصرين من خلوِّ الأخبار الكثيرة الواردة في مقام البيان ، من ذكر
الجهر بالبسملة بالكلّيّة ، كصحيح ابن قيس ومُعْتبر أبي خديجة ، وابن حازم ، وابن عمّار ، وغيرها من الأخبار ، حيث تضمّنت الأمر بالقراءة من
غير تعرّض للجهر بالبسملة فغير نصٍّ في المراد :
أمّا
أوّلاً ؛ فلأنّ الأحكام
لا تؤخذ من مقام واحد.
وأمّا
ثانياً ؛ فلأنّ الجهر
بها لمّا كان من شعارهم ومعلوماً عندهم يحتاج إلى بيانه ، فلا يلزم منه تأخير
البيان عن وقت الحاجة ، بل ولا الخطاب.
وأمّا
ثالثاً ؛ فلأنّه لو دلّ
على عدم الوجوب لدلّ على عدم التحريم وعدم الاستحباب ، ومنع الاشتراك واضح الفساد
، وظاهر الكساد.
__________________
وأمّا
رابعاً ؛ فلأنّ هذه
الأخبار إنّما سيقت جواباً للسؤال عن قضية شخصيّة ، هي ثبوت القراءة أو نفيها ، أو
بياناً ابتدائيّاً لمحلّها ، من دون تعرّض للجهر والإخفات بها ، أو ببعض أجزائها ،
والله العالم العاصمُ من عثرات الألسنة وأهفائها.
المبحث الثالث
في الاستدلال على القول الثالث
ولنكتفِ في ذلك
بما في ( السرائر ) ؛ لأنّه معتمد الأواخر.
قال المحقّق
العلي الشيخ محمّد بن إدريس الحلّي في كتابه ( السرائر ) : ( فأمّا الجهر ببسم
الله الرحمن الرحيم في الركعتين الأخيرتين فلا يجوز ؛ لأنّ الأخيرتين لا تتعيّن
فيهما القراءة ، وإنّما الإنسان مخيّر بين التسبيح والقراءة.
والدليل على
ذلك : أنّ الصلاة عندهم على ضربين ، جهريّة وإخفاتيّة. فالإخفاتيّة الظهر والعصر ،
فإنّ الجهر بالبسملة في الركعتين بالأُوليين مستحبّ ؛ لأنّ فيهما تتعيّن القراءة ،
فأمّا الأخيرتان فلا تتعيّن فيهما القراءة. والصلاة الجهريّة الصبح والمغرب
والعشاء الآخرة ، فإنّ الجهر بالبسملة واجبٌ كوجوبه في جميع الجمل ، فأمّا
الأخيرتان فلا يجوز الجهر بالقراءة إن أرادها المصلّي ، فقد صار المراد بالجهر
الركعتين الأُوليين دون الأخيرتين ، ولا خلاف بيننا في أنّ الصلاة الإخفاتيّة لا
يجوز فيها الجهر بالقراءة ، والبسملة من جملة القراءة ، وإنّما ورد في الصلاة الإخفاتيّة
التي تتعيّن فيها القراءة ، ولا تتعيّن القراءة إلّا في الركعتين الأُوليين فحسب.
وأيضاً طريق
الاحتياط يوجب ترك الجهر بالبسملة في الأخيرتين ؛ لأنّه لا خلاف بين أصحابنا بل
بين المسلمين في صحّة صلاة من لا يجهر بالبسملة في الركعتين الآخرتين ، فمن ادّعى
استحباب الجهر في بعضها وهو البسملة فعليه الدليل.
فإنْ
قيل : عموم الندب
بالاستحباب بالجهر في البسملة.
قلنا
: ذلك في ما
تتعيّن وتتحتّم القراءة فيه ؛ لأنّهم قالوا : يستحبّ الجهر بالبسملة في ما تجب
القراءة فيه في الإخفات ، والركعتان الأخيرتان خارجتان عن ذلك. وقد
قال شيخنا أبو جعفر الطوسي قدسسره في جُمَله وعقُوده ، في قسم المستحبّ : ( والجهر ببسم
الله الرحمن الرحيم في الموضعين ) ، يريد بذلك الظهر والعصر ، فلو أراد الأخيرتين من كلّ
فريضة لما قال : ( الموضعين ) بل كان يقول ( المواضع ).
وأيضاً فلا
خلاف في أنّ مَنْ ترك الجهر بالبسملة في الأخيرتين لا يلحقه ذمّ لأنّه ؛ إمّا أن
يكون مسنوناً على قول في المسألة ، أو غير مسنون على قولنا ، وفي كلا الأمرين لا
ذمّ على تاركه ، وما لا ذمّ في تركه ويخشى في فعله أنْ يكون بدعة ومعصية يستحق بها
الذمّ ، ومفسداً لصلاته ، فتركه أوْلى وأحوط في الشريعة.
وأيضاً ، فقد
ورد في ألفاظ الأخبار عن الأئمّة الأطهار تنبيهٌ على ما قلناه ، أوْرَدَ ذلك حرِيز
بن عبد الله السجستاني في كتابه وهو حريز ، بالحاء غير المعجمة ، والراء غير
المعجمة ، والزاي المعجمة ، وهو من جملة أصحابنا ، وكتابه معتمدٌ عندهم ، قال فيه
: ( وقال زرارة : قال أبو جعفر عليهالسلام : « لا تقرأ في
الركعتين الأخيرتين من الأربع ركعات المفروضات شيئاً ، إماماً كنت أو غير إمام ». قلتُ : فما أقول
فيهما. قال : « إنْ كنت إماماً فقل :
سُبحان الله والحمد لله ولا إلهَ إلّا الله والله أكبر. ثلاث مرّات ، ثم تكبّر
وتركع. وإنْ كنت خلف إمامٍ فلا تقرأ شيئاً في الأُوليين وأَنصت لقراءته ، ولا
تقرأنّ شيئاً في الأخيرتين فإنّ الله عزوجل يقول
للمؤمنين ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) يعني
في الفريضة خلف الإمام ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) والآخرتان
تبع للأوليين ».
قال زرارة :
قال أبو جعفر عليهالسلام
« كان الذي فرض على
العباد عشراً فزاد رسول الله صلىاللهعليهوآله سبعاً
، وفيهن السهو وليس فيهن قراءة ، فمَنْ شكّ في الأُوليين أعاد حتى يحفظ ويكون على
يقين ، ومَنْ شكّ في الآخرتين عمل بالوهم » ، فليلحظ قوله : « وليس
فيهن قراءة » ) انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول
ـ ومن الله
التوفيق لارتقاء سلّم الوصول ـ : لا يخفى على مَنْ ذاق من حدائق
__________________
السداد وشرب بكأس الرشاد أنّ ما نسجتْه يدُ فهمه الوقّاد وفكره النقّاد لا
يشفي علّة عليل ، ولا يبُلُّ غُلّة صادٍ ، بل هو كنسيج العنكبوت ، ( وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ
الْعَنْكَبُوتِ ) .
أمّا
قوله : ( لأنّ الأخيرتين لا تتعيّن فيهما القراءة وإنّما
الإنسان مخيّر بين التسبيح والقراءة ).
ففيه
: أنَّ التعيين
والتخيير لا مدخل لهما في الجهر والإخفات حتى يستلزم التعيينُ الجهرَ ، والتخييرُ
الإخفاتَ ، وأيّ ملازمة بينهما لزوماً بيّناً أو غيره ، فإنّ التكليف فِعْلُه
تعالى ، وأفعاله تعالى معلّلة بالأغراض والمصالح كما هو مذهب العدليّة ، وتلك
المصلحة ؛ إمّا جليّة أو خفيّة ، فعلى الأوّل يلزم معلوميّتها لكلّ عاقل ولا
اختصاص لها بأحد دون آخر. وعلى الثاني يلزم خفاؤها كذلك ، إذ الجلاء والخفاء
حقيقتان متضادّتان ، لا يجتمعان ولا يرتفعان.
وحينئذٍ ،
فالمصلحة المقتضية للفرق بين مواضع التعيين والتخيير ؛ إمّا جليّة أو خفيّة ، إذ
لا واسطة لما عرفت ، فعلى الأوّل يلزم ما لا يجوز اعتقاده من خطأ علماء الإماميّة
غير ابن إدريس ، بل فسقهم حيث علموا العلّة المقتضية للفرق المذكور ولم يعملوا
بمقتضاها ، وإنْ كانت خفيّة فلا سبيل لابن إدريس عليها دون غيره من الإماميّة ،
لكنّا نقول : إنّ العلّة المقتضية للجهر شاملة للموضعين ؛ لأنّها ؛ إمّا إقامة
الشعار ، أو اقتضاء الدليل. فإنْ قيل بالأوّل ، قلنا : إنّ إقامة الشعار كما اقتضت
الجهر في الأُوليين اقتضته في الأخيرتين ، فما الداعي لحصره في الأُوليين مع عمومه
لما عداهما.
فإنْ
قيل : إنّ الداعي
للحصر هو أنّ المطلوب عدم خلوّ الصلاة من الجهر ، وهو يتحقّق بالجهر في الأُوليين
، فليخصّ بهما لموضع اليقين.
قلنا
: إذا كان
المطلوب هو عدم خلوّ الصلاة من الجهر ، فهو يتحقّق بالجهر ببسملة
__________________
الفاتحة دون السورة ، أو بالعكس ، وبالجهر في ركعة دون أُخرى من الأُوليين
، بل أو الأخيرتين ، إذ كما وقع الخلاف من ابن إدريس في الأخيرتين
وقع من ابن الجنيد في الأُوليين ، فالاعتداد بخلاف أحدهما دون الآخر ممّا
لا وجه له ، مع أنّ الشهيد قد أثنى على ابن الجنيد بما لا مزيد عليه في مسألة
حرمان الزوجة في الجملة من شيءٍ من أعيان التركة ، فإنّه قال : ( والنظرُ إلى ابن
الجنيد بمعلوميّة أصله فلا يقدح في الإجماع معارضٌ بمثله في الجانب الآخر ، فإنّه
لا يعلم موافقٌ للمرتضى أصلاً ، فضلاً عن مماثل لابن الجنيد ، العزيز المثل في
المتقدّمين بالتحقيق والتنقيب ، يعرف ذلك من اطّلع على كلامه ) انتهى كلامه ،
علت في الخلد أقدامه.
وقد وصفه
المحقّقون من علماء الرجال بأنّه شيخ الإماميّة وكبيرهم ، وأنّه ثقة جليل القدر ،
وأنّه وجه في أصحابنا ، وما رُمي به من الطعن لم يثبت ، مع أنّ ابن إدريس أيضاً لم
يسلم.
وحينئذٍ ، فلا
وجه لتخصيص الأُوليين بموضع اليقين ؛ لوقوع الخلاف في الموضعين.
وإنْ
قيل بالثاني حصل المطلوب أيضاً ؛ لعموم الدليل ، اللهمّ إلّا أنْ يريد بفرقه بين مواضع
التعيين والتخيير انصراف أدلّة الجهر لموضع التعيين ، فيتّجه عليه حينئذٍ منع ذلك
الانصراف ؛ لتوقّفه على غلبة الاستعمال المفقود عند الإنصاف.
وأمّا
قوله : ( والدليل على ذلك ) .. إلى آخره.
ففيه : أوّلاً : أنّ الدليل لا يقتضيه.
وثانياً
: أنّ ما فرّعه
عليه عين المتنازع فيه.
وأمّا قوله : (
فالصلاة الإخفاتيّة الظهر والعصر إلى قوله والصلاة الجهريّة الصبح والمغرب والعشاء
الآخرة ).
__________________
ففيه
: أنّه ؛ إمّا
أن يريد انحصار الإخفات في الظهرين مطلقاً ، والجهر في البواقي مطلقاً ، كما يظهر
من أوّل كلامه ، أو انحصارهما في الأوّليّات كما يقتضيه آخره. وكلاهما خلاف مرامه
، إذ على الأوّل يلزمه عدم جواز الجهر في الظهرين مطلقاً ، وعدم جواز الإخفات كذلك
، وكلاهما خلاف الإجماع منقولاً ومحقّقاً. وعلى الثاني يلزمه التزام التخيير بين
الجهر والإخفات في جميع الركعات الأُخريات ، وهو وإنْ التزمه في التسبيح لكنّه
مطالب فيه وفي الفرق بين التسبيح والقراءة بالدليل الصريح التام ، وقد عرفت عدم
مدخليّة التعيين والتخيير في الجهر والإخفات.
وأمّا
قوله : ( فقد صار المراد بالجهر الركعتين الأُوليين دون
الآخرتين ) ، فقد عرفت بناءه على شفا جرفٍ هارٍ ، فيسقط عن درجة الاعتبار ، مع
أنّه يلزمه سقوط الصبح من البين ؛ لعدم دخولها في موضوع الأوليين. فظهر أنّ دليله
قاصر ، وحصره غير حاصر.
وأمّا
قوله : ( ولا خلاف بيننا في أنّ الصلاة الإخفاتيّة لا يجوز فيها
الجهر بالقراءة ، والبسملة من جملة القراءة ، وإنّما ورد في الصلاة الإخفاتيّة
التي تتعيّن فيها القراءة ).
ففيه : أوّلاً : أنّه مجرّد تطويل بلا طائل ، ولا يرجع إلى نائل ، فإنّ
مقتضى النصّ العامّ الدالّ على الجهر بها مطلقاً في جميع الصلاة ، ومن حيث هي في
جميع الأحوال ، كخبر علامات المؤمن وغيره ، شمول الجهر بها للأخيرتين ، ومدّعي التخصيص
عليه الدليل ، إذ التخصيص بلا مخصّص مرعى وبيل ، وقد عرفت عدم المدخليّة للتعيين
والتخيير في الجهر والإخفات.
وثانياً
: أنّ نفيه
الخلاف محض جزاف وخراف ، فانّ قبله ابن الجنيد والسيّد المرتضى وجماعة من متأخّري
المتأخّرين كما في ( شرح المفاتيح ) قائلون بالتخيير وعدم وجوب الجهر والإخفات في
مواضعهما.
قال السيّد
المرتضى نقلاً عنه في ( المصباح ) : ( هو يعني الجهر والإخفات من
__________________
السنن الأكيدة ، حتى يروى : إنّه مَنْ تركهما عمداً أعاد .
وقال ابن
الجنيد نقلاً عنه في كتابه ( الأحمدي ) : ( لو جهر بالقراءة في ما يخافت ، أو خافت
في ما يجهر جاز ، والاستحباب ألّا يفعل ذلك ) انتهى.
وثالثاً
: أنّ الإجماع
على وجوب الإخفات في أخيرتي الإخفاتيّة قائم على وجوبه في أُولييها ، وقد استثنوا
منه البسملة. وقد عرفت حصول الإجماع ونقله على عموم الجهر بها ، وحصول الخلاف من
ابن الجنيد في أُوليي المنفرد ، فما جرى في الأخيرتين فهو بعينه في الأُوليين ،
فالجواب الجواب ، والله الهادي للصواب.
وأمّا قوله : (
وأيضاً طريق الاحتياط يوجب ترك الجهر بالبسملة في الأخيرتين ).
ففيه : أوّلاً : أنّه لا داعي للاحتياط هنا ، إذ مع فقد الدليل على وجوب
الإخفات لا يمكن القول بتوقّف يقين البراءة عليه ، إذ مجرّد خلاف واحدٍ لا يستلزم
الاحتياط وعدم يقين البراءة ، كما لا يخفى على محصّل ، وإلّا لوجب الإخفاتُ
للمنفرد في أُوليي الإخفاتيّة ، خروجاً من خلاف ابن الجنيد ، لكن لا قائل به ، مع
أنّ بعض المحقّقين صرّح بأنّ الاحتياط في الجهر بها لدوران الأمر بين
الوجوب والاستحباب ، لضعف دليل التحريم عنده ، بل لعدم الاعتداد به.
وثانياً
: أنّ مورد
أخبار الاحتياط إنّما هو قيام الدليل من الطرفين ، مع تعارضهما وعدم المرجّح في
البين ، ويقين اشتغال الذمّة بشيءٍ ، وتوقّف يقين البراءة على الأخذ به.
فمن الأوّل : ما رواه ابن أبي جمهور في ( الغوالي ) عن العلّامة رفع
الله مقامه مرفوعاً عن زرارة ، قال : سألتُ الباقر عليهالسلام ، فقلت : جعلت فداك يأتيني عنكم الخبران أو الحديثان
المتعارضان؟ فقال عليهالسلام : « خذ بما
اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر .. » ، ثم ذكر الترجيح
بالأوثقيّة ، والأعدليّة ، ومخالفة مذهب العامّة العميّة الغويّة. ثم قال
__________________
السائل. فقلت : ربّما كانا موافقين لهم ، أو مخالفين ، فكيف أصنع؟ فقال : « خذ
بما فيه الحائطة لدينك ، واترك ما خالف الاحتياط » .
وأنت خبير
بأنّه لم يأمر بالاحتياط إلّا مع التساوي في جميع وجوه التراجيح ، وما هنا ليس
كذلك ؛ إذ الجهر موافق لشعار الإماميّة ، ومخالفٌ لتلك الفرقة الغويّة. نعم ، لو
اشتركا فيه اتّجه ما قاله ، وليس فليس.
ومن الثاني : مكاتبة عبد الله بن وضّاح ، قال كتبت إلى العبد الصالح عليهالسلام : يتوارى القرص ويقبل الليل ، ثمّ يزيد الظلام ارتفاعاً
، وتستتر عنّا الشمس ، وترتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذّن المؤذّنون ، فأصلي حينئذٍ
وأفطر إنْ كنت صائماً ، أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟.
فكتب عليهالسلام إليَّ : « أرى لك أنْ
تنتظر حتّى تذهب الحمرة ، وتأخذ الحائطة لدينك » .
وصحيح عبد
الرحمن بن الحجّاج ، قال : سألتُ أبا الحسن عليهالسلام عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان ، الجزاءُ عليهما ،
أم على كلّ واحدٍ منهما؟ قال : « لا ، بل
عليهما أنْ يجزي كلّ واحد منهما عن الصيد ».
قلت : إنّ بعض
أصحابنا سألني عن ذلك ، فلم أدرِ ما عليه ، فقال : « إذا
أصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط » .
ولا يخفى أنّ
مورد المكاتبة هو اشتغال الذمّة بالصيام والصلاة في وقتها ، ولا يحصل يقين البراءة
بالإفطار والصلاة قبل زوال الحمرة ؛ لاحتمال عدم دخول الوقت ، واستصحاب بقاء
النهار. وعند زوالها يحصل يقين البراءة إنْ لم يحكم بمجرّد الاستتار. فموردها
توقّف البراءة على أمر واحد ممكن الحصول ، وما نحن فيه ممّا توقّف فيه اليقين على
الإتيان بأمرين متباينين ، ولا يخفى الفرق في البين على ذي عين.
__________________
ومورد الصحيحة
اشتراك رجلين في قتل صيدٍ حرمي ، فذمّة كلٍّ منهما مشتغلة بالكفّارة ، لكن لم
يعلما : هل هي كفّارة واحدة عن الكلّ ، أو على كلّ واحد كفّارة؟.
ولا يخفى على
ذي تحصيل أنّ المتنازع فيه ليس من هذا القبيل ، ولا انسلاك له في سلك هذا السبيل ،
إذ موردها الشكّ في الحكم الشرعي مع التمكّن من العلم والامتثال التفصيلي ؛ لقوله عليهالسلام
: « إذا أصبتم بمثل هذا
فلم تدروا فعليكم بالاحتياط ، حتى تسألوا وتعلموا » ، مع أنّ ظاهرها الاحتياط بالكفّ عن العمل ، والتوقّف عن الإفتاء حتّى
يسأل. وأين هذا المقام ممّا نحن فيه ، كما لا يخفى على نبيه؟!.
وما ورد من
الأخبار مطلقاً في الأمر بالاحتياط ، كقوله عليهالسلام : « أخوك دينك
فاحتط لدينك » و « دع ما يريبك » .
فما فيها من الإجمال
أوجب حملها على المبيّن بلا إشكال.
فعُلِمَ أنّ
مقتضى هذين الصحيحين وغيرهما من الأخبار أنّ المصير إلى الاحتياط أنّما يجب إذا لم
يترجّح في نظر الفقيه أحد القولين ولهذا يُفتي بخلاف الاحتياط ، ولو وجب مطلقاً
لما ساغ له التعدّي عمّا فيه الاحتياط إلى غيره مطلقاً. هذا ، مع قضاء البداهة
بأنّ أُولئك الأبرار عارفون بمواقع الاحتياط ، مطّلعون على القواعد الفقهيّة ، فلو
عرفوا مدخلاً للاحتياط لَما جازوا سواء ذلك الصراط.
فانْ
قيل : إنّ ما نحن
فيه مندرج تحت هذين الأصلين ، وجزئي من جزئيات ذينك الكليّين.
أمّا
الأوّل ؛ فلأنّ ما دلّ
بإطلاقه على الجهر بالبسملة معارض بما دلّ بإطلاقه على وجوب الإخفات في الأخيرتين.
وأمّا
الثاني ؛ فلأنّ شغل
الذمّة بالصلاة الصحيحة معلومٌ ، فيتوقّف يقين الفراغ منها على المصحّح المعلوم ،
وهو بالنسبة للإخفات معدوم.
__________________
قلنا : أمّا الأوّل فقد مرّ عليك الجواب عنه مجملاً ، وسيأتي الجواب عنه
أيضاً في المبحث السادس مفصّلاً.
وأمّا
الثاني فتعرف الجواب
عنه أيضاً ممّا مرّ مراراً متعدّدة في مواضع متعدّدة ، إلّا أنّا نزيده هنا
إيضاحاً ، ونفصح عنه إفصاحاً ، ليتّضح الحقّ صراحاً ، فنقول :
الجواب عنه : أمّا بالنقض
بوجهين :
الأوّل
: أنّه يلزم
مثله في جهر المنفرد بالأُوليين ، لما علم من منع ابن الجنيد منه ، فلم يكن فراغ
الذمّة بالجهر فيهما يقينيّاً. والجواب الجواب ، إجماليّاً وتفصيليّاً.
الثاني
: أنّه رحمهالله كما جعل الاحتياط في الإخفات جعل غيره الاحتياط في
الجهر ، فكما لا يقين بالإجهار كذا لائقين بالإسرار ، لصيرورة المسألة حينئذٍ من
باب دوران الشيء المشكوك فيه بين الشرطيّة والمانعيّة ، فلا يكفي فيه الاحتياط
بالإخفات فقط ، بل ؛ إمّا أن يحكم بالتخيير بين الجهر والإخفات ، بمعنى الصلاة
بأحدهما لا بقيد الخصوصيّة ، كما لعلّه ظاهر الأكثر ، أو بتكرارها مرّتين كما صرّح
به شيخنا المرتضى قدسسره في ( فرائد الأُصول ) في الوجه
الأخير بعد التخيير ، أو بتكرار البسملة خاصّة ، كما ذكره شيخنا وأستاذنا المبرّء
من الشين الشيخ محمّد حسين الكاظمي منبعاً ، والنجفي موضعاً ، وسيأتي وجههما في
المبحث السادس.
وأمّا
بالحلّ في ما سيأتي
إنْ شاء الله في المبحث السادس أيضاً مفصّلاً.
وأمّا
قوله : ( لأنّه لا خلاف بين أصحابنا بل بين المسلمين في صحّة
صلاة من لا يجهر بالبسملة في الركعتين الأخيرتين ).
ففيه من الغرابة ما لا يخفى على أديب ، ومَنْ حاز من المعرفة
أوفر نصيب ، لما عرفت من أنّ ابن البرّاج وأبا الصلاح وجماعةً أوجبوا الجهر بها في ما يخافت فيه مطلقاً ،
فتكون البسملة عندهم من المواضع الجهريّة ، وهم قد حكموا ببطلان
__________________
صلاة مَنْ أخفت فيها ، كما هو المشهور قديماً وحديثاً بين الإماميّة ، وليس
دعواه الإجماع هنا بأغرب من دعواه إيّاه من عدم تحقّقه في مواضع :
منها
: دعواه الإجماع
على وجوب إخراج الفطرة عن الزوجة غير الواجبة النفقة. مع أنّه لم يقل به
من علماء الإسلام أحد سواه ، كما صرّح به جملة منهم المحقّق وغيره ،
والأصحاب على التقييد بحال العيلولة تبرّعاً.
ومنها
: دعواه الإجماع
على استحباب الغسلة الثانية في الوضوء مطلقاً. مع مخالفة الجمّ الغفير من
الأصحاب كالشيخين الجليلين : ثقة الإسلام ، والصدوق ، وقَبْلهما الثقة الجليل أحمد بن محمّد بن أبي نصر
البزنطي في جامعه .
ومنها
: دعواه الإجماع
على المضايقة في قضاء الفوائت ، حتى إنّه قال : ( أطبق الإماميّة عليه خلفاً عن
سلف ، وعصراً بعد عصر ، وأجمعت على العمل به ) . مع انتشار صيت هذا الخلاف ، الذي ليس له ائتلاف قديماً
وحديثاً بين العلماء الأشراف.
ومنها
: دعواه الإجماع
كما نقل عنه على نزح البئر أجمع بموت الكافر ، مع أنّه لم ينقل عن غيره.
ومنها
: دعواه الإجماع
من المؤالف والمخالف على طهارة الماء النجس بإتمامه كرّاً ، وعلى قوله صلىاللهعليهوآله : « إذا بلغ
الماء كرّاً لم يحمل خبثاً ».
مع أنّ المحقّق
قدسسره قال في ردّ الدعوى الأُولى : ( لم نقف على هذا في شيء
من كتب الأصحاب ، ولو وجد كان نادراً ، بل ذكره المرتضى في مسائل متفرّقة ، وبعده
اثنان أو ثلاثة ممّن تابعه ، ودعوى مثل هذا إجماعاً غلطٌ ).
__________________
وفي ردّ الدعوى
الثانية : ( إنّا لم نروه مسنداً ، والذي رواه مرسلاً المرتضى ، والشيخ أبو جعفر ،
وآحاد ممّن جاء بعده ، والخبر المرسل لا يعمل به ، وكتب الحديث عن الأئمّة خالية
عنه أصلاً. وأمّا المخالفون فلم أعرف به عاملاً سوى ما يُحكى عن ابن حيّ ، وهو
زيديّ منقطع المذهب ، وما رأيت أعجب ممّن يدّعي إجماع المخالف والمؤالف في ما لا
يوجد إلّا نادراً ) . انتهى.
وبمثل هذا جرى
قلم ثالث المحقّقين في ( المعالم ) قائلاً : ( إنّ الخبر غير مرويّ في كتب الأخبار
، بل هو من الأحاديث المرسلة ، التي لا تعويل عليها ، ودعواه الإجماع على العمل
بمضمونه من المخالف والمؤالف عجيبة ) انتهى.
ومنها
: دعواه الإجماع
على منع قتل المسلم المعتاد لقتل أهل الذمّة بالذمي ، بعد ردّ فاضل ديته ،
محتجّاً بالإجماع على عدم قتل المسلم بالكافر. مع أنّ الشهيد الأوّل قال في شرح
الإرشاد بعد نقله الإجماع عن المرتضى قدسسره ما لفظه : ( والحقّ أنّ هذه المسألة إجماعيّة ، فإنّه
لم يخالف فيها أحد سوى ابن إدريس ، وقد سبقه الإجماع ، ولو كان هذا الخلاف مؤثّراً
في كلّ الإجماع لم يوجد إجماع أصلاً ، والإجماع على عدم قتل المسلم بالكافر يختصّ
بغير المعتاد ). انتهى كلامه ، زِيد إكرامه.
إلى غير ذلك من
الإجماعات التي لا يلتئم لها شتات ، وذلك لأنّ الظاهر من طريقته في نقل الإجماع
البناء على المقدّمات النظريّة والاجتهادات الحدسيّة ، فإنّ الظاهر منه أنّما
اعتمد في إخباره بإجماع العلماء على وجوب إخراج الفطرة عن الناشز والصغيرة على
تدوينهم الروايات الدالّة على وجوب فطرة الزوجة معلّقاً الحكم على الزوجة ، من حيث
هي زوجة ، من غير نظر إلى تعليقه على العيلولة ، أو وجوب الإنفاق.
وفي الإجماع
على عدم قتل المسلم المعتاد لقتل أهل الذمّة على الإجماع على
__________________
العمل بعموم القرآن ، كنفي السبيل للكافر على المؤمن ، والعمل بالعامّ أو
المطلق من الأخبار ، مع أنّه معارض بإجماعهم على حمل العامّ على الخاصّ ، والمطلق
على المقيّد.
وكما نقل إطباق
الإماميّة على المضايقة ؛ اعتماداً على إيرادهم الروايات الدالّة على ذلك ، وأنّهم
ذكروا : أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته ، بناءً على استلزام ذكر الخبر عمل
الذاكر ، وعلى ظنّه دلالة تلك الأخبار عند أُولئك الأخيار على الوجوب ، وأنّ رواة
تلك الروايات موثوق بهم عند أُولئك السراة.
ولا يخفى أنّ
هذه المقدّمات الثلاثة لا تستلزم هذا المطلوب بالإثبات :
أمّا
الأُولى ، فهي وإن كانت
غالبةً ، لكن لا تستلزم القطع ؛ للقطع بتخلّفها في كثير من الموارد ، فمرجعها إلى
الاستقراء الناقص ، وحاله غير خفيّ على أهل الفن. على أنّ كثيراً ممّن ذكر أخبار المضايقة
قد أورد أخبار المواسعة ، فلو استلزم مجرّد الإيراد للعمل لزم الجمع بين النقيضين.
وأمّا
الثانية ؛ فلأنّ دلالتها
على الوجوب عنده لا تستلزم دلالتها عندهم عليه ، إذ لعلّهم فهموا منها بالقرائن
الخارجيّة تأكّد الاستحباب.
وأمّا
الثالثة ؛ فلأنّ وثوقه
بأُولئك الرواة لا يستلزم الوثوق بهم عند أُولئك السراة.
وكما نقل
الإجماع على نزح البئر كلّه لموت الكافر ؛ استناداً إلى فتواهم بنزحه لو وقع حيّاً
، مع أنّ القائلين بذلك الحكم هم الفارقون بين الموت والحياة ؛ وقوفاً على ظاهر
النصّ المقتضي للفرق ، ولا يخفى أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ إجماعهم على
وجوب الإخفات في الأخيرتين لا يستلزم دخول البسملة في ذلك ؛ لتصريح أُولئك
المجمعين بخروج حكم البسملة من البين.
وما أحسن ما
قاله بعض الأعلام في هذا المقام ، حيث قال : ( إنّ الاتّفاق على لفظٍ مطلق شامل
لبعض أفراده الذي وقع فيه الكلام لا يقتضي الإجماع على ذلك الفرد ؛ لأنّ المذهب لا
يصار إليه من إطلاق اللفظ ما لم يكن معلوماً من القصد ، لأنّ الإجماع
مأخوذ من قولهم : أجمع على كذا ، إذا عزم عليه ، فلا يدخل في الإجماع على
الحكم إلّا مَنْ علم منه القصد إليه ، كما إنّا لا نعلم مذهب عشرة من الفقهاء
الذين لم ينقل مذهبهم لدلالة عموم القرآن وإنْ كانوا قائلين به ) انتهى ، وهو كلام
متين ، بل جوهر ثمين.
والحاصل
: أنّ من تتبّع
إجماعات ابن إدريس وجدها من هذا القبيل ؛ لاستناده في كشف الإجماع عن قول المعصوم
إلى الملازمات غير المعلومة اللزوم ، والمقدّمات النظريّة ، والاجتهادات الحدسيّة
، الذي لا يخفى خطأ كثير منها على ذي رويّة ، وإذا كان هذا حاله في نقل الإجماعات
، كيف يركن إلى إجماعاته المدّعاة بغير شاهدٍ قويّ ، ودليل جليّ؟! ولا حول ولا
قوّة إلّا بالله العليّ.
وأمّا
قوله : ( فمن ادّعى استحباب الجهر في بعضها وهو البسملة فعليه
الدليل ).
ففيه
: أنّ ما دلّ
على الإخفات في الأُوليين دلّ عليه في الأخيرتين ؛ لعدم المصحّح أو المرجّح
للتخصيص بأحد الموضعين.
وأمّا
قوله : ( فإنْ قيل : عموم الندب باستحباب الجهر بالبسملة ، قلنا
: ذلك في ما تتعيّن وتتحتّم فيه القراءة ).
ففيه
: ما مرّ من عدم
مدخليّة التعيين للتخصيص والترجيح ، فترجيحه الأوليين وتخصيصهما ترجيح لأحد
المتساويين بلا مرجّح ، وتخصيص للعامّ بلا مخصّص ، وكلاهما من البطلان بمكان ، كما
يحكم به الوجدان ومستقيم الأذهان ؛ لما شاع وذاع ، وملأ الأسماع ، وطبق الأصقاع
والبقاع ، من أنّ جمّا غفيراً من أصحاب الأئمّة عليهمالسلام ومنهم الأربعة آلاف من أصحاب الصادق عليهالسلام ، غير سائر الأئمّة عليهمالسلام ، كانوا ملازمين لهم عليهمالسلام في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكانت همّتهم وهمّة
أصحابهم إظهار شعائر الدين ، وترويج شريعة سيّد المرسلين ، وكانوا يكتبون كلّ ما
يسمعونه من أئمّتهم في دفاترهم ، خوفاً من آفة النسيان ، وحرصاً على ما يرشح من
تيّار أُولئك الأعيان.
وكانوا عليهمالسلام يحثّونهم على سلوك تلك المسالك ، وترويج تلك المدارك ،
فلو وجد
المخصّص لنقل ، ولو نقل لوصل ، والاستناد إلى تلف تلك الأُصول منهار
القواعد والأصول ، ولا يرجع إلى محصول ؛ إذ التلف أنّما حدث بعد جمع ما يحتاج إليه
منها في هذه الكتب المتداولة ، والاستغناء بها عنها ؛ لكونها أسهل للمتناول ،
وأقرب ليد المتطاول ، كما صرّح به جمع من الأفاضل من الأواخر والأوائل. ولقد بقي
جمٌّ غفير وغدير من ذلك اليمّ الغزير إلى زمن جمال الدين الطاووسي قدسسره القدّوسي ، بل إلى زمن هذا الناقل ، وقد استطرف جملة
منها في آخر كتابه ( السرائر ) ، الذي أقبل عليه حال تأليفه بالشراشر ، ولم يذكر
ما نقله في جملة ما استطرفه.
وليت شعري ما
المرجّح لنقلهم : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان إذا صلّى جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وإنّ الصادق
عليهالسلام إذا كانت صلاة لا يجهر فيها بالقراءة جهر ببسم الله
الرحمن الرحيم .. إلى غير ذلك ممّا يدلّ على التعميم ، دون أنْ ينقلوا
التخصيص بما تعيّنت فيه القراءة ، مع أنّ هذا الحكم ممّا تعمّ به البليّة بين
الفرقة الناجية الإماميّة ، لتكرّره في الأوقات الليليّة والنهاريّة. فلو فرض
اشتمالها على ما يدلّ على ذلك الحكم المخصوص ولم ينقلوه مع توفّر الدواعي عليه ،
ومسيس الحاجة إليه ، بل توقّفِ امتثال التكليف عليه ، لزم ما لا يجوز نسبته إلى
الفرقة الإماميّة ، والإغراء بالجهل بلا مِرية لذي رويّة ، ما هذا إلّا جُزاف
وخُراف ، خارج عن جادّة الإنصاف.
فظهر أنّ نقله
عنهم عدم الاستحباب في الاخريات ، ناشئٌ ممّا قرّره من حدسه ، وقدّره في نفسه من
الأشكال العقيمة ، والنتائج السقيمة ، بتوهّم دلالة الصحيحين المذكورين في آخر
كلامه ، ممّا لا دلالة فيه على مرامه ، إذ قصارى ما دلّا عليه ألّا قراءة في
الآخريّين. وخروجه عن محلّ النزاع ممّا شاع وذاع ، فإنّا لا نقول بالبسملة حال عدم
القراءة ، فضلاً عن الجهر بها ، وليس ذلك من باب الكذب والافتراء ، ولا انتقاص به
ولا إزراء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
__________________
وأمّا
قوله : ( لأنّهم قالوا يستحبّ الجهر بالبسملة في ما يجب القراءة
فيه في الإخفات ، والركعتان الآخرتان خارجتان عن ذلك ).
ففيه
: أنّ اعترافه
بقولهم باستحباب الجهر في ما يجب فيه الإخفات كافٍ في العموم للآخريّات ، وأمّا
إخراجه الركعتين الآخرتين ففيه مضافا لما مرّ ما عرفت ممّا مرّ مراراً من تصريح
الفاضلين والشهيدين وغيرهما من المحقّقين بتفرّده بهذا التخصيص ، وأنّ الإجماع قد
سبقه ولحقه ، والسبر والوجدان أعدل شاهد لهذا العنوان ، إذ لو وجد المخصّص لنقل ،
ولو نقل لوصل ، كما وصل النصّ العامّ بالجهر ؛ لتساويهما في مسيس الحاجة إليهما ،
وتوفّر الدواعي عليهما ، وكلّ ما تمسّ الحاجة إليه ويتوقّف التكليف عليه مع عدم
المانع يجب إبرازه ، وحيث لم ينقل لم يبرز ، وإذ لم يبرز فلا تكليف ؛ إذ لا تكليف
إلّا بعد البيان : « الناس في سعة ما لم
يعلموا » « كلّ شيء
مطلق حتّى يرد فيه نهي »
، ولو برز ولم ينقل
لزم منه إخلال الرواة والأصحاب ، أو العلماء الأطياب ، واتّصافهم بكتمان العلم
المذموم في السنة والكتاب ، الموعود عليه فيهما بشديد العقاب وأليم العذاب.
واطّلاع هذا
الشيخ وتبحّره غير منكور ، إلّا إنّه معارض باطّلاع مَنْ كان سابقاً عليه
كالمحمّدين الثلاثة الأوائل ، ومَنْ تأخّر عنه كالمحمّدين الثلاثة الأواخر ، وغيرهم من
الأفاضل ، مع حرصهم على جمع شتات الأخبار ، وجدّهم في طلبها آناء الليل وأطراف
النهار.
وبانضمام ما
قرّروه في الأُصول من عدم جواز العمل بالعامّ إلّا بعد الفحص عن
__________________
الخاصّ ، تقضي الضرورة بعدم وجود المخصّص ، وإلّا لزم ارتفاع الحقّ عن أهله
إلى زمن التخصيص.
واحتمال عدم
وقوفهم على المخصّص مع قربهم من زمن أئمّتهم ومعرفتهم بعرفهم غير سديد ، وقد تحقّق
ألّا تخصيص بعد استقرار العمل بالعامّ ؛ لعدم المخصّص.
وأمّا
قوله : ( وقد قال شيخنا أبو جعفر الطوسي قدسسره في جمله وعقوده ، في قسم المستحبّ : ( والجهر ببسم الله
الرحمن الرحيم في الموضعين ) ، يريد بذلك الظهر والعصر ).
ففيه
: أوّلاً : أنّ هذا ليس له ، بل عليه ، كما لا يخفى على فطن نبيه ، فإنّ الشيخ قدسسره حكم باستحباب الجهر بها في الموضعين ، وهو قد فسّر
الموضعين بالظهر والعصر ، فينطبق على فتاوى الأصحاب باستحباب الجهر بها في المواضع
الإخفاتيّة. وغير خفي على ذكي ما في العبارة من العموم لموضع النزاع ، من غير
تخصيص بالأُوليين ؛ إذ لا قائل بالفرق بين آخرتي السريّة المحضيّة والمركّبة.
وأمّا على ما فسّرهما شهيد ( الذكرى ) ، وعلّامة ( المختلف ) بأوّل الحمد
وأوّل السورة ، وعلى ما احتملناه من إرادته بالموضعين ما تعيّنت فيه القراءة وما
يخيّر فيه بينها وبين التسبيح ، فظهوره في الدلالة على المطلوب لا يخفى على ذي
فكرٍ صحيح.
وثانياً
: أنّه إنّما
يدلّ على مرامه بمفهوم اللقب ، وهو ليس حجّة في صحيح المذهب ، وأمّا القول
باعتباره في كلام الفقهاء فهو على إطلاقه ممنوعٌ ، بل الحقّ دورانه مدار قرينة
المقال أو المقام ، وهي هنا مفقودة ، بل في حيّز الانعدام.
وأمّا
قوله : ( فلو أراد الآخرتين من كلّ فريضة لَمَا قال : الموضعين
، بل كان يقول : المواضع ).
ففيه
أوّلاً : أنّ ما ذكره
لا يدلّ على المراد ، ولا يبلّ غلّة صادٍ ، أمّا على تفسيره
__________________
الموضعين بالظهر والعصر على تقدير تسليمه فهو راجع إلى فتوى الأصحاب كما
مرّ آنفاً ، فإنّ الظهر والعصر إخفاتيّتان ، فكأنه قدسسره قال : ويستحب الجهر بالبسملة في المواضع السرّيّة ،
فيكون ذكر الظهر والعصر تمثيليّاً لا حصريّاً ، فيعلم منه حكم المواضع الباقية ؛
لتساويها في الإخفات فيها. فهو مع ما عرفت من عدم القائل بالفرق ، وأمّا على ما
احتملناه فلا إشكال.
وثانياً
: أنّ جملة من
أفاضل الأذكياء نقلوا عنه قدسسره إطلاق القول بالمدّعى من غير تقييد بأحد كتبه ولا نقل
العدول عنه ، فيقتضي القول به في ذينك الكتابين ، فهل يليق نسبة الخطأ إلى ذلك
الجمّ الغفير من أُولي الفهم والعلم الغزير في عدم فهم مراد الشيخ قدسسره إلى زمن ابن إدريس.
وأمّا
قوله : ( وأيضاً : فلا خلاف في أنّ مَنْ ترك الجهر بالبسملة في
الأخيرتين لا يلحقه ذمّ ) .. إلى آخره.
ففيه
: أنّا نمنع عدم
الخلاف ؛ لما عُلم من ثبوت القول بالوجوب قديماً وحديثاً ، فيثبت الذمّ على الترك
، كما هو علامة الوجوب.
وأمّا
قوله : ( وما لا ذمّ في تركه ويخشى في فعله أن يكون بدعة ومعصية
يستحقّ بها الذمّ ومفسداً لصلاته ، فتركه أوْلى وأحوط في الشريعة ).
ففيه
: أنّ ما نحن
فيه غير داخل في البدعة بوجهٍ ، لأنّها ؛ إمّا ما ليس له أصل في كتاب ولا سنّة ،
كما في ( مجمع البحرين ) ، أو ما لم يكن في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله ، أو كلّ عبادة لم تشرّع أصلاً ثمّ أُحدثت بغير دليل شرعي ، وكلّ من هذه
المعاني غير صادق على المتنازع فيه ، كما لا يخفى على نبيه.
وأمّا الاحتياط
فقد عرفت أنْ لا موضع له في ما نحن فيه.
وأمّا
قوله : ( وأيضاً : فقد ورد في لفظ الأخبار ) .. إلى آخره.
فقد تقدّم ما
فيه مراراً ، بل الصحيح الأوّل ممّا يناقض غرضه ، بل يدلّ على
__________________
المدّعى ويرجّحه ، فإنّ مقتضى تبعيّة الأخيرتين للأُوليين استحباب الجهر
بالبسملة في الأخيرتين تبعاً لاستحبابه في الأُوليين ، قضاءً لحقّ التبعيّة ،
خصوصاً على قراءة ( تبع ) بالرفع ، وجعل الجملة استئنافيّة ، بل قد قيل : إنّ
ظاهره جواز الجهر في الأخيرتين تبعاً للأُوليين ، قضاءً لحقّ التعليل في قوله ك « فإنّ
الله عزوجل يقول
للمؤمنين ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) » .. إلى آخره.
فإنّ نهيه عن أنْ يقول شيئاً فيهما وأمره بالإنصات للقراءة ، إنّما يكون مع الجهر
بالقراءة. وقوله « والآخرتان تبعاً
للأُوليين » علّة ثانية للنهي عن القراءة ، فينقض غرضه من عدم جواز الجهر في الأخيرتين
أصلاً.
وهذا أحد
الوجهين في دلالة الخبر ، وبه استدلّ بعض المتأخّرين على جهر الإمام حتّى بالقراءة
في الآخرتين ، ولا يخفى ما فيه من الرين.
والوجه
الثاني : أنّ قوله عليهالسلام : « فإنّ الله عزوجل يقول .. » علّة لترك القراءة في
الأُوليين ، وقوله : « والآخرتان تبعاً
للأُوليين » علّة لتركها في الآخرتين.
هذا ، وقد
احتجّ له أيضاً بعض الفضلاء المعاصرين تبعاً لبعض الفضلاء من متأخّري المتأخّرين بإشعار بعض
الأخبار بالإخفات بها في الأخيرتين ، كخبر ابن سنان المتقدّم ، في حكم قراءة
المأموم خلف الإمام ، وفيه : « إذا كنت
خلف إمام في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة حتّى يفرغ ، وكان الرجل مأموناً على
القراءة ، فلا تقرأ خلفه في الأُوليين ». قال : « ويجزيك
التسبيح في الأخيرتين ». قلت : أي شيء تقول أنت. قال : « اقرأ
فاتحة الكتاب » . قال : ( فخفاء فعل الإمام على عبد الله بن سنان ، الذي
هو ممّن أكثر الصحبة للإمام ، دليلٌ على أنّ الإمام لا يجهر بشيء في الأخيرتين ،
مع أنّه يقرأ فاتحة الكتاب ). وصحيحة زرارة المتقدّمة في كلام ابن إدريس ، حيث قال
« والأخيرتان تبعاً
للأُوليين » ،
__________________
قال : ( فقوله عليهالسلام : « والأخيرتان
تبع للأُوليين »
بعد حكمه بالإنصات
لقراءة الإمام في الأُوليين يعطي أنّ الأخيرتين لا جهر فيهما بشيء أبداً ، وإنّما
ينصت المأموم فيهما ؛ لكونه يجب عليه الإنصات في الأُوليين ، لأنّهما تابعتان
لهما.
أقول والله الموفّق لارتقاء سلّم الوصول ـ : أمّا الرواية الأُولى
فالجواب عنها :
أمّا
أوّلاً ؛ فبما تقدّم في
حكم قراءة المأموم خلف الإمام ، وهو تخييره بين القراءة والتسبيح ، وأفضليّة
الأوّل ، كما ذكره الشهيد في ( شرح نكت الإرشاد ) ، وقال
المحقّق الثالث الشيخ حسن نقلاً عنه ـ : ( إنّه صار إلى العمل بمضمونه جماعةٌ من
قدماء الأصحاب ، ووافقهم عليه بعضُ مَنْ تأخّر ) .
والتقريب
فيه : ما مرّ هناك
من جعل ( اقرأْ ) فعل أمر مسوقاً لبيان ما فوق المجزي ، فإنّ الإمام عليهالسلام لمّا نَهاه عن القراءة خلف الإمام في الأُوليين ، وقال
: إنّه يجزيه التسبيح في الأخيرتين ، استشعر السائل أنّ هنا شيئاً فوق المجزي ،
فسأل عنه ، قائلاً : أيّ شيء تفتي به غير هذا المجزي ، فأجابه بأنّه قراءة
الفاتحة.
ويؤيّد هذا الوجه أُمور :
منها
: مجيء بعض
الأخبار بموافقته ، كصحيح سالم بن مكرّم الجمّال ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « إذا كنت
إمام قومٍ فعليك أنْ تقرأ في الركعتين الأُوليين ، وعلى الذين خلفك أنْ يقولوا :
سبحان الله والحمد الله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، وهم قيامٌ ، وإذا كنت في
الركعتين الأخيرتين فعلى الذين خلفك أنْ يقرءوا فاتحة الكتاب » .
وهذه الرواية
صحيحة على الأظهر ؛ إذ محمّد بن عيسى فيها وإنْ كان غير مقيّد بالعُبَيْدي إلّا
إنّ رواية محمّد بن علي بن محبوب عنه قرينة على أنّه هو. والأظهر توثيقه كسالم بن
مكرّم ، إذ قد جزم النجاشي بتوثيقه مرّتين ، والعلّامة قال : أتوقّف
__________________
فيه ، والشيخ مدحه وذمّه ، فيتعارضان فيتساقطان ، فيبقى توثيق
النجاشي بلا معارض. وخطّابيّته لم تثبت ؛ إذ الناقل لها ابن فضّال ، ولأنّ طريق
الشيخ إلى محمّد بن علي بن محبوب صحيح ، فلا مناص عن التصحيح.
ومنها
: فَهْمُ جملة
من القدماء هذا المعنى ، وعملهم عليه ، وإفتاؤهم به ، كما مرّ نقله عن الشيخ حسن ، وهم أعرف من
غيرهم بعرف أئمّتهم ، سيّما مع موافقة بعض المتأخّرين لهم.
وأمّا
ثانياً ؛ فلأنا لو
تنزّلنا وسلمنا جعل ( أقرأُ ) فعلاً مضارعاً ، فلا دلالة فيه على مطلوبهم ، لأنّ
مورد الرواية تبيين أحكام المأموم ، فلمّا بيّن أنّ المأموم يجزيه التسبيح في
الأخيرتين ، عَرَف الراوي أنّ هنا شيئاً فوق المجزي فسأله عمّا يفعله حال كونه
مأموماً لوالده عليهالسلام ، أو على فرض أنّه لو كان مؤتمّاً بمرضيٍّ ؛ لعِلْمِهِ
بمواظبتهم عليهمالسلام على ما كان الفضل فيه أكثر ، وعلى ما كان أرجح وآثر ،
فأخبره أنّه يقرأ الفاتحة. واحتمال كون السؤال عمّا يفعله عليهالسلام حال صلاته معهم بعيدٌ ، بل غير سديد ، مع أنّ هذا
الاحتمال يسقط أصل الاستدلال.
وأمّا
ثالثاً ؛ فلأن تقريبهم
أنّما يتمّ على تقدير السؤال عمّا يفعله حال كونه إماماً ، والسوْقُ يأباه ،
والأُسلوب يدفعه ؛ لأنّه إنّما يتمّ على جعل قوله : ( وقال : « يجزيك
التسبيح في الأخيرتين » ) خبراً مستقلا ، ولا يخفى أنّ اقتطاع بعض الحديث
وإفراده عن باقيه لمجرّد ظنّ الاستقلال بعيدٌ عن مذاق الأبدال ، موقعٌ للخطإ في
الاستدلال ، والفصل بكلمة ( قال ) لما بين حكم الأُوليين والأخيرتين من الاختلاف
لا للانتقال ، بل لو صحّ كونُ السؤال عمّا يفعله حال كونه إماماً كما يقال ، لكانت
دلالته على المراد أظهر من الشمس في ساعة الراد ، وذلك بجعل ( تقول ) متضمّناً
معنى ( تقرأ ) ، أو بمعناه.
__________________
ويؤيّده مجيء الجواب به قصداً لمطابقة الجواب للسؤال ، فكأنه
لمّا قال عليهالسلام : « يجزيك
التسبيح في الأخيرتين » سأله عمّا يقرأ فيهما ؛ لكونه يسمع البسملة ولا يدري
بسملة أي سورة ، أهي الفاتحة ، أم غيرها؟ فأجابه عليهالسلام بأنّه يقرأ سورة الفاتحة.
وأمّا
رابعاً ؛ فلأنّ مجرّد
السؤال لا يستلزم خفاء فعل الإمام ، ولا ينافي كثرة الصحبة له عليهالسلام :
أوّلاً
؛ لعدم المانع
من جعل الغرض من السؤال طلب معرفة حقيقة الحال ، وأنّ قراءته عليهالسلام هل هي موافقة لمعتقده المطابق لنفس الحكم الواقعي ، أم
لنوع من التقيّة ، أو غير ذلك ؛ لاختلاف الأحكام باختلاف الأشخاص والأحوال ،
وتفويض أمر الشريعة لهم عليهم سلام ذي الجلال لإطلاق القول إطلاقا شائعاً ذائعاً
على الرأي والاعتقاد ، لا أنّ الغرض من السؤال طلب معرفة مطلق الماهيّة ، ومطلق
الإيجاد.
ويؤيّده اختلاف الإماميّة الاختلاف الكثير في حكم قراءة المأموم
خلف الإمام ، كما مرّ الكلام فيه مستوفى في مقدّمة الرسالة ، وهذا ظاهر لمن أصلح
الله باله.
وثانياً
؛ لأنّ كثرة
الصحبة لا تستلزم معرفة الأحكام في أوّل جزء من أجزاء زمان صحبته للإمام ، وإنّما
تتعدّد المعرفة بتعدّد الصحبة آناً فآناً ، ومكاناً فمكاناً ، فإنّ عمّار الذي هو
جلدة بين عيني المختار قد تمعّك في التيمّم كما تتمعّك الدابّة ، مع ما هو
عليه من الإجلال والإعظام والصحبة للنبيّ صلىاللهعليهوآله في كلّ موطن ومقرٍّ ومقام ، وكذا داود بن النعمان الذي
هو من أفاضل الرواة والأعيان قد سأل الصادق عليهالسلام عن كيفيّة التيمّم ، كما في الخبر المتضمّن لقضيّة
عمّار ، واحتمال أنّ القائل : ( فقلنا له : فكيف التيمّم؟ ) هم الصحابة الحاضرون
مع عمّار ، والمقول له هو الرسول صلىاللهعليهوآله ، بعيدٌ غاية البعد ، إذ لو كان كذلك لقيل : ( فقالوا )
لا : ( فقلنا ). مع أنّه أيضاً كافٍ في الردِّ.
ونرى عليّ بن
جعفر مع طول صحبته لأخيه موسى عليهالسلام ، وزرارة ومحمّد بن مسلم
__________________
وأضرابهما من أوتاد الأنام ، قد يسألون الإمام عمّا لا يجهله سائر العوامّ
من أحكام الشكوك والطهارة والصلاة والصيام ، حتّى إنّ جميل بن درّاج الذي أجمعت
العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه قد جهل كميّة السعي ، فسعى أربعة عشر شوطاً ، مع
جعلهم إيّاه في عداد الفقهاء كعبد الله بن مسكان ، وحمّاد بن عيسى ، وحمّاد بن
عثمان ، حيث قال : ( حججنا ونحن صرورة فسعينا بين الصفا والمروة أربعة عشر شوطاً )
.
ولا وجه لحملة
على النسيان ؛ لأنّ قوله : ( ونحن صرورة ) يقتضي الجهل ضرورة. هذا ، مع أنّه لم
يؤثّر نقصاً في جلالتهم وفقاهتهم وطول صحبتهم للإمام ، كما لا يخفى على ثاقبي
الأفهام.
وإنّي ليعجبني
كلامٌ لبعض الأعلام يحسن إيراده في هذا المقام ، حيث قال في حكم الصلاة في الأماكن
الأربعة ما لفظه : ( والقول بالتخيير وأفضليّة التمام قول علمائنا كلّهم أو جلّهم
، وخلافه شاذّ نادر .. إلى أنْ قال ـ : ولا ينافي ذلك كون راوي التقصير من أجلّة
أصحابنا ؛ لجواز كون روايته وقت ضعفه ، وقبل ارتقائه إلى الجلالة ) .. إلى آخره.
وأمّا
خامساً ؛ فلعدم الجزم
بكون ابن سنان هو عبد الله ، واحتمال كونه محمّداً أخاه ، وهو مهملٌ في رجال
الصادق عليهالسلام ، وروايته عن الصادق عليهالسلام غير عزيزة في الأخبار ، ففي كتاب ( العلل ) في باب
كراهة أكل الثوم والبصل والكرّاث : ( أخبرني علي بن حاتم ، قال : حدّثنا محمّد بن
جعفر الرزّاز ، قال : حدّثنا عبد الله بن محمّد بن خلف ، عن الحسن بن علي الوشّاء
، عن محمّد بن سنان ، قال : سألت : أبا عبد الله عليهالسلام عن أكل البصل والكرّاث ) .. إلى آخره.
وفي الجزء
الحادي عشر من كتاب ( الأمالي ) المنسوب للشيخ الطوسي ، برواية
__________________
ابنه أبي علي ، بإسناده إلى أبي محمّد الفحّام ، قال : حدّثني عمّي ، قال :
حدّثني أبو العباس أحمد بن علي بن عبد الله الراسي ، قال : حدّثنا أبو عبد الله
عبد الرحمن بن عبد الله العمري ، قال : حدّثنا أبو سلمة يحيى ، أنّ المغيرة قال :
حدّثني أخي محمّد بن المغيرة ، عن محمّد بن سنان ، عن سيّدنا أبي عبد الله جعفر بن
محمَّد عليهالسلام ، قال : « قال أبي
لجابر بن عبد الله : لي إليك حاجة أُريد أخلو بك فيها » . ثمّ ذكر حديث
اللوح المشتمل على أسماء الأئمّة عليهمالسلام.
بل في ( طبّ
الأئمّة عليهمالسلام ) : حدّثنا عبد الله بن سنان ، عن أخيه محمّد بن سنان ،
قال : قال جعفر بن محمَّد عليهالسلام
: « ما من أحد تخوّف
البلاء فتقدّم قبله بالدعاء ، إلّا صرف الله عنه ذلك البلاء » .. إلى آخره.
وفيه أيضاً :
حدّثنا الحسن بن علي الوشّاء ، عن عبد الله بن سنان ، عن أخيه محمّد ، عن جعفر
الصادق عليهالسلام ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن مولانا الحسين بن علي بن أبي
طالب عليهالسلام ، قال : « عاد أمير
المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام سلمان
الفارسي » .. إلى آخره.
ونحوه في مقدار الثواب من كلّ علّة ، من الكتاب المذكور في موضعين ، قال فيه :
حدّثنا أبو عتاب ، قال : حدّثنا محمّد بن خلف ، وأخوه الحسين أيضاً عنه ، عن
الوشّاء ، عن عبد الله بن سنان ، قال : سمعت محمّد بن سنان يحدّث عن الصادق عليهالسلام ، قال : « سهر ليلة
في العلّة التي تصيب المؤمن خيرٌ من عبادة سنة » .
وعنه ، عن جعفر
بن محمَّد عليهالسلام ، عن أبيه ، عن علي عليهالسلام ، قال : « سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوآله يقول
: حمّى ليلة كفّارة سنة » .
وهذه الروايات
صريحة في رواية محمّد بن سنان أخي عبد الله عن الصادق عليهالسلام مشافهة ، وليس هو محمّد بن سنان الزاهري ، لأنّه لم
يروِ عن الصادق عليهالسلام أصلاً.
نعم ، في (
الطب ) أيضاً سندٌ فيه : ( قال : حدّثنا عبد الله بن سنان ، عن أخيه
__________________
محمّد بن سنان ، عن المفضّل بن عمر ، قال : سمعت الصادق عليهالسلام ) .. إلى آخره.
فيستفاد من
مجموع ما ذكرنا أنّ محمّد بن سنان يروي عن الصادق عليهالسلام تارةً مشافهة ، وتارةً بواسطة ، وفي رواية أخيه الثقة
الجليل عنه إشعارٌ بوثاقته ، والاعتذارُ بأنّ محمّداً نادرُ الروايةِ فلا ينصرف
الإطلاق إليه غيرُ خفيٍّ ما فيه على نبيل نبيه ، اللهمَّ إلّا أنْ يقال : إنّ
رواية صفوان قرينة على كونه عبد الله بن سنان ، فليتأمّل ذوو الأذهان.
ومن الغريب ما
وقع للشيخ أبي علي في ( منتهى المقال ) من الخطب العظيم في هذا المجال ، الذي لا يخفى على
الماهر في علم الرجال ، الناشئ من توهّمه اتّحاد محمّد بن سنان الزاهري المشهور
بمحمّد بن سنان بن طريف الهاشمي المذكور.
وأنت بعد
الإحاطة بما قلناه والإنصات لما تلوناه تعلم إلّا دلالة في هذا الخبر على مدّعاه ،
إذ مبناه على مجرّد الاستبعاد ، والمغالطات التي لا تروّي غلّة صادٍ ، وما الله
يريد ظلماً للعباد.
وأمّا الرواية الثانية : فالجواب عنها :
أوّلاً
: بما مرّ في
البحث مع ابن إدريس ، من أنّها ليست نصّاً في المدّعى ، بل كما تحتمل ما ذكره
تحتمل ما ذكرناه احتمالاً مساوياً إنْ لم يكن راجحاً ، فيلزم من ترجيح أحدهما على
الآخر ترجيح أحد المتساويين بلا مرجّح ، وهو باطل ، وجِيدُهُ عن عِقْد القبول
عاطل.
وثانياً
: أنّ قصارى ما
يدلّ عليه على تقدير تقريبه فيها أنّ النهي عن قراءة المأموم في الأخيرتين ليس
لسماعة قراءة الإمام ، وإنّما هو لتبعيّتهما للأُوليين ، وهو لا يدلّ على الإخفات
بالبسملة ؛ لأنّها سالبةٌ بانتفاء الموضوع ؛ لقوله عليهالسلام : « ولا
تقرأنَّ شيئاً في
__________________
الأخيرتين » ، بل قد تقتضي الجهر بها في الأخيرتين كما مرّ قضاءً
لحكم تبعيّتهما في الجهر والإخفات للأُوليين ؛ فأمّا أنْ يجهر الإمام عليهالسلام في الأُوليين فيلزم أيضاً جهرة في الأخيرتين ، وأمّا
ألّا يجهر بها فيهما فيرد عليه أيضاً ؛ لحكمه بالاستحباب في الأُوليين ، إلّا إنّ
عدم جهره عليهالسلام خلاف الظاهر ؛ لما عُلِم من ملازمتهم له في جميع
الأوقات والصلوات ، على أنّ هذا الإشعار معارضٌ بإشعار بعض الأخبار بجهر الإمام
بالبسملة وإنْ كانت القراءة بالإسرار ، كخبر جميل بن درّاج ، قال : سألت أبا عبد
الله عليهالسلام عمّا يقرأ الإمام في الركعتين في آخر الصلاة؟ فقال : « بفاتحة
الكتاب » .
والتقريب
فيه : أنّ الداعي
للسؤال إنّ جميلاً يسمع الأئمّة يبسملون ، لكنّه لم يعلم أنّ البسملة للفاتحة أم
لغيرها من السور ، فأجابه عليهالسلام بأنّها بسملة الفاتحة ، ولا ينافي ذلك احتمال كونه
سؤالاً ابتدائيّاً عن حكم الإمام في الأخيرتين ؛ لكونه من الاحتمالات المساوية إنْ
لم تكن راجحة ، وهو كافٍ في ضعف ذلك التأييد. وإنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو
ألقى السمع وهو شهيد ، وخلَعَ رِبْقة الاعتساف عن الجِيد ، ومَنِ امتطى عمياء
الصدّ من غير تدبّر ، وركب متن عشواء الردّ من غير تفكّر ، فحين تقف على مجادلته
قُلْ : كلّ يعمل على شاكلته ، وعلى الله قصد السبيل ، وهو حسبي ونعم الوكيل.
__________________
المبحث الرابع
في الاستدلال على القول الرابع
وقد استدلّ له
بعض الفضلاء بما يقرب من استدلال ابن إدريس ، وهو أنّ البسملة جزءٌ من السورة التي
يجب الإخفات بها في الإخفاتيّة ، فيجب الإخفات بها ، خرج من ذلك الإمام بالنصّ
والإجماع ، فيبقى الباقي .
وإليه يرجع ما
شاع في تقريره على لسان الأكثر حتى من بعض مشايخنا الغرر ، من أنّ الأصل وجوب
الإخفات بها في محلّه ؛ لأنّها بعض الفاتحة ، خرج الإمام ، فيبقى ما عداه على
الأصل ، أو فيبقى المنفرد للاختلاف في قراءة المأموم.
أقول
: لا يخفى على
موفّقٍ مصيبٍ ، ومَنْ ظفر من العناية بأوفر نصيب ، ما يتوجّه على التقرير وأصل
الدعوى من المنع والتثريب.
أمّا
التقرير ؛ فلعدم انطباقه
على ما نقلوه عن ابن الجنيد ، من قوله بعدم وجوب الجهر والإخفات في مواضعهما ،
وأنّه لو جهر بالقراءة في ما يخافت بها أو خافت في ما يجهر بها جاز ، كما مرّ نقله
عن كتابه ( الأحمدي ) . ولم ينقل خلافه عنه ، ولم يناقشوا في صحّة النسبة إليه
، كما ناقش بعض المتأخرين في نسبة ذلك للسيّد المرتضى وإنْ كان ما ناقش به غير
المرتضى.
فالمناسب في
التقرير لهذا المنهج أنْ يقال : الأصل استحباب الإخفات بها في محلّه خرج ما خرج ،
اللهمَّ إلّا أنْ يريدوا الوجوب الشرطي المجامع للوجه الندبي ، إلّا أنّه خلاف
ظاهر هذا القائل.
__________________
وأمّا
الدعوى ، فأمّا أوّلاً ؛ فلمنع الأصل المذكور ؛ لأنّ الأصل الثابت في البسملة المستفاد ممّا مرّ من
الأدلّة على استحباب الجهر بها من حيث كونها بسملة ، وكونها من شعار الشيعة ،
وعلامات المؤمن أنّما هو الجهر ، كما في ( المدارك ) ، وعن غيرها ،
فدخولها في حكم الأصل وعموم الإخفات غير معلوم.
وأمّا صحيحا
زرارة عن الباقر عليهالسلام اللذان هما الأصل في وجوب الجهر والإخفات كما قيل
اللذان أحدهما : في رجل جهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه ، وأخفى في ما لا ينبغي
الإخفاء فيه ، فقال : « أيّ ذلك فعل متعمّداً
فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإنْ فعل ذلك ناسياً أو ساهياً [ أو لا ] يدري
، فلا شيء عليه » . وثانيهما في رجل جهر بالقراءة في ما لا ينبغي الجهر
فيه ، وأخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه ، أو ترك القراءة في ما ينبغي القراءة فيه
، أو قرأ في ما لا ينبغي القراءة فيه. فقال : « إنْ
فعل ذلك ناسياً أو ساهياً فلا شيء عليه » .
فقصارى
دلالتهما وجوب الإخفات في ما ينبغي الإخفات فيه ، ولا دليل على أنّ البسملة ممّا
ينبغي الإخفات فيه ، بل الدليل على خلافه ، وإنّ الثابت هو رجحان الجهر فيها. وقد
مرّ أنّ جمعاً من فضلاء المجتهدين والمحدّثين قد صرّحوا باستثناء البسملة من
المواضع الإخفاتيّة وعدّها من المواضع الجهريّة ، كما مرّ أنّ بعضهم جعل الأصل في
الصلاة هو الإجهار لا الإخفات.
وأمّا
ثانياً ؛ فلوجوب الخروج
عن الأصل بما مرّ من الأدلّة على الاستحباب والوجوب ، والأخبار المستفيضة المعتبرة
القويّة المترجّحة والمعتضدة بالشهرة المحقّقة بين الإماميّة ، بل الإجماعات
المحصّلة والمحكيّة ، فإنّها بين عامّ للمنفرد ، وبين خاصّ به وللدلالة عليه
متجرّد ، وبين ما كان ذكر الإمام فيه من قبيل المورد ، بل قد يتّجه الاستدلال به
على العموم بضميمة أدلّة التأسّي ، إلّا في ما علم كونه من
__________________
خصائص الإمام دون المنفرد والمأموم. وبمراجعة ما ذكرناه سابقاً من الأدلّة
يتّضح للمتأمّل ما في هذا التخصيص من العلّة ، وإنّما طويناها على غرّها ؛ لعدم
الحاجة للإفادة بإعادة ذكرها.
وأمّا قوله : (
خرج الإمام بالنصّ والإجماع ) .. إلى آخره.
ففيه
: ما عرفت من
الدخول في معاقد الإجماعات والعمومات والإطلاقات. وأمّا ما ورد من الأخبار
الفعليّة المشتملة على حكاية فعل الإمام ، فلا يدلّ على الاختصاص به عند التأمّل
التامّ ؛ لما مرّ آنفاً أنّه من قبيل المورد ، أو لأنّه من جملة الأفراد وموافقة
حكم الخاصّ حكم العامّ ، وكلّ منها ليس مخصّصاً بإجماع علمائنا الأعلام. نعم ،
يستفاد من خبري الثمَالي تأكّد ذلك للإمام ، والله العالم بحقائق الأحكام.
المبحث الخامس
في الاستدلال على القول الخامس
وهو وجوابه
يعرفان من الاستدلال على قول ابن البرّاج وجوابه ، وعلى قول الحلّي وجوابه إنْ ثبت
موافقته في قوله بتحريم الجهر في الأخيرتين ، وإلّا فمن دليل ابن البرّاج وجوابه ،
ومن دليل القول المشهور.
وكيف كان ، فلا
يخفى ما فيه من الضعف والقصور ، إذ الفرق بين الأُوليات والأُخريات لا يخلو من
تحكّم وفتور ، بل خرق للإجماع المخالف للمذهب ، إذ الظاهر انحصار الإماميّة في
قولين ؛ أمّا الاستحباب في الجميع ، أو الوجوب في الجميع. فالقول بالوجوب في بعض
والاستحباب في بعض ، أو الاستحباب في بعض والتحريم في آخر ، خرق للإجماع وقولٌ
بالفصل بلا داعٍ.
ومن هنا ينقدح
قوّة ما استظهرناه من رجوع هذا القول لقول ابن البرّاج ، فيرتفع النزاع ، ولعلّ
هذا القائل إنْ ثبت نظر للجمع بين الأخبار ، وقد عرفت ما فيه وعدم الحاجة له ، كما
لا يخفى على نبيه ، والله العالم بظاهر الأمر وخافيه.
المبحث السادس
في الاستدلال على القول السادس
فأمّا الاحتياط
بالإخفات فقد مرّ عليك وجهه مع ما يرد عليه في البحث مع ابن إدريس.
وقد استدلّ له
أيضاً المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح في ( منية الممارسين ) ، وتبعه عليه
الفاضل الأوحد الشيخ سليمان بن الشيخ أحمد آل عبد الجبار في ( شرح المفاتيح ) ،
حيث قال بعد إيراد بعض الأخبار الدالّة على استحباب الجهر بالبسملة ما لفظه ( وقد
يقال : إنّ ههنا إطلاقين تعارضا : إطلاق الجهر بالبسملة كما تضمّنته الروايات
المذكورة ، وإطلاق وجوب الإخفات بالقراءة في الأخيرتين كما تضمّنته الروايات
الدالّة على ذلك ، وقد مرّ ذكرها ، والبسملة من جملة القراءة ، فحينئذٍ يكون الحكم
فيها وجوب الإخفات فيهما ، فلا يعدّل عمّا يبرئ الذمّة بيقين إلّا بيقين ، ولا
يقين بإطلاق معارض مثله ، فيتعيّن الاحتياط هنا ؛ لتعارض الدليلين ).
أقول
: لا يخفى على
مَنْ رقى مدارج العرفان ومعارج الإتقان أنّ ما ذكراه متداعي البنيان ، ساقط
الأركان :
أمّا
أوّلاً ؛ فلمنع تساوي
الإطلاقين في الدلالة ؛ لكون إطلاق الجهر بها لا سيّما ما دلّ على الأمر بالإجهار
في جميع الصلاة أظهر في الدلالة على شمول الاخريات من إطلاق أوامر الإخفات ،
فيترجّح العمل بالأظهر ؛ لكونه الأرجح ، فيضعف المعارض ، فينتفي التعارض ؛ لكون
الجانب المخالف بالمعارضة غير ناهض.
وأمّا
ثانياً ؛ فلأنّ كثيراً
من الأخبار لا سيّما ما دلّ على أنّ الجهر بها من حيث هي شعار الشيعة ، ومن علامات
المؤمن فيه إشعار بالخصوص ، حيث أفاد أنّ لها
خصوصيّة على غيرها من أجزاء القراءة اقتضت الجهر بها حيثما وقعت دون غيرها
، فهي متخصّصة وخارجة عن موضوع الإخفات ، فتستغني عن المخصّصات والمقيّدات.
وأمّا
ثالثاً ؛ فلأنّ البسملة
على فرض عدم التخصّص وإنْ كانت آية من القراءة الإخفاتيّة ، إلّا إنّها خرجت
بالدليل الخارجي المقتضي لإخراجها عن حكم القراءة في الأُوليين ، مع وجوب الإخفات
بها ، فالكلام الكلام ، والجواب الجواب.
وأمّا
رابعاً ؛ فلأنّ النسبة
بين هذين الإطلاقين هي العموم من وجه ، ولا ريب أنّ المفزع فيه أنّما هو بالرجوع
إلى المرجّحات ، وقد علم ممّا مرّ مراراً تكثّرها في جانب الجهر ، وفقدها في جانب
الإخفات.
وأمّا
قوله : ( فيتعيّن الاحتياط هنا لتعارض الدليلين ).
ففيه
: ما مرّ من أنّ
الترجيح بالاحتياط إنّما هو مع التساوي في جميع المرجّحات ، والأمر هنا ليس كذلك ؛
لبقاء الترجيح بالعرض على مذاهب العامّة وما كان قضاتهم وحكّامهم إليه أمْيل ، مع
أنّ بعض المحقّقين جعل الاحتياط في الجهر كما مرّ ، فترجيح أحد الفتويين لا بدّ له
من مرجّح ، والمرجّح لما لدينا موافقة شعار الشيعة قِوَام الشريعة ، والشهرة
المحقّقة ، والإجماعات المستفيضة المحكيّة ، وقد تقدّم في البحث مع ابن إدريس ما
فيه غُنْيةٌ وتأسيس.
وأمّا الاحتياط
بتكرار الصلاة مع الجهر والإخفات ، فقد احتجّ له شيخنا المرتضى بعد ترجيحه التخيير
على القول بإجراء أصل البراءة في الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ، وعلى القول بوجوب
الاحتياط فيه أيضاً بأنّ مرجع الشكّ هنا إلى المتباينين ، فيترجّح الاحتياط هنا
حتّى مع القول بعدم وجوبه في الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ؛ لمنع جريان أدلّة نفي
الجزئيّة والشرطيّة هنا ، والالتزام بإلغاء الجزم بالنيّة في مثله .
ويمكن
الجواب عنه :
__________________
أوّلاً
: بأنّ الاحتياط
لو قيل به موقوفٌ على ثبوت القول بالوجوب وصحّة دليله ، كي يندرج في قاعدة الدوران
بين الشرطيّة والمانعيّة ، ومع العلم بانتفائه أو العلم بقصور مستنده ينتفي
التفريع بالكلّيّة.
وثانياً
: بمنع وجوب
الاحتياط هنا بالتكرار ؛ أمّا على القول بعدم إجراء قاعدة الاحتياط في صورة الشكّ
في الشرطيّة والجزئيّة كما هو الظاهر فظاهر ، وأمّا عليه ؛ فلوضوح الفرق بينه وبين
المتباينين ؛ لانصراف أدلّة الشرائط للعينين المتباينتين دون الصفتين ، وللشرائط
المعلومة الشرطيّة الخالية عن شائبة المانعيّة ، ولانتفاء القطع بالمخالفة
العمليّة ، والالتزامُ بقبح المخالفة الالتزاميّة ممنوعٌ في مثل هذه القضيّة.
ولضعف وجه الاحتياط
هنا بهذا الوجه صرّح شيخنا المشار إليه في ما كتبه على ( الإرشاد ) في قبال
الاحتياط بالإخفات بأنّ الاحتياط في اختيار المصلّي التسبيح في الأخيرة والأخيرتين
، من دون تعرّض للاحتياط بالتكرار بأثرٍ ولا عين.
وأمّا الاكتفاء
في الاحتياط بتكرار خصوص البسملة ، دون الصلاة ، فاحتجّ له شيخنا الأُستاذ الكاظمي
النجفي مشافهةً بدوران شرط الصحّة في البسملة بين الجهر والإخفات ، فيحصل الاحتياط
بفعلها مع كلّ منهما.
وفيه أيضاً ـ : ما مرّ من عدم شمول أدلّة الشرائط لمثل
المقام ؛ لظهور الشرط عرفاً في ما كان خارجاً عن حقيقة الشروط ، بخلاف ما نحن فيه
؛ إذ الجهر والإخفات عرضان لذات حروف الكلمات ، لا تتقوّم إلّا بأحدهما ، فلا يلزم
من الإتيان بأحدهما مخالفةٌ قطعيةٌ عملية. وبسط الكلام بالتمييز بين جَزْله
وهَزْله موكولٌ إلى محلِّه.
والوجه الجامع
بين أخبار الهداة هو تأكّد استحباب الجهر في الأوّليّات من مواضع الإخفات ، وزيادة
ذلك التأكّد للإمام ، كما هو مورد كثير من أخبار الأئمة الأعلام ، والتخيير في
الأُخريات ، مع أولويّة اختيار الإخفات وإنْ كان الجهر أفضل كالمشهور ، والله
العالم بحقائق الأُمور ، وإليه الرجعى في الورود والصدور.
خاتمة
ختامٌ
به الإتمام ، يشتمل على التنبيه على أمرين من أهمّ المهام :
الأوّل
: غير خفيّ على
النبيه النبيل أنّ ما تقدّم نقله عن الثقة الجليل الحسن بن أبي عقيل ، من تواتر
الأخبار عن الأئمّة الأبرار بعدم التقيّة في الجهر بالبسملة من أُولئك الأشرار ،
وما رواه غائص ( بحار الأنوار ) ، عن الصادق عليه أفضل السلام المدرار ، أنّه قال
: « التقيّة ديني ودين
آبائي ، إلّا في ثلاث .. »
وعدّ منها : الجهر
ببسم الله الرحمن الرحيم ، ينافي ما هو المشهور من عموم التقيّة للأُمور الكليّة
والجزئيّة ، كما هو مقتضى عموم الأخبار المعصوميّة.
ويدلّ عليه
بالخصوص حسن زكريا بن إدريس القمّي ، قال : سألت أبا الحسن الأوّل عليهالسلام عن الرجل يصلّي بقوم يكرهون الجهر ببسم الله الرحمن
الرحيم ، فقال لا يجهر .
ويمكن الجمع
بوجوه :
الأوّل
: أنْ يكون
المراد نفي التقيّة في الفتيا دون العمل.
الثاني
: أنْ يراد
نفيها إذا لم يبلغ الخوف على النفس والمال ، لا مع الضرر اليسير ، وإنّما تجوز
التقيّة عند الخوف الشديد على النفس والمال.
الثالث
: أنْ يكون
المراد تخصيص عدم التقيّة به وبآبائه عليهمالسلام ، لا لسائر الناس ، وهو الظاهر من حاقّ اللفظ وسياق
الكلام.
__________________
ويؤيّده قول
أبي الحسن الرضا عليهالسلام : « لا تنظروا
إلى ما أصنع أنا ، انظروا إلى ما تُؤمرون » ، ولا يخفى ما فيه من الدليل التامّ. هذا مع أنّ أخبار
نفي التقيّة فيها ولو نقل تواترها لكنّها آحاداً بالنسبة إلينا غير قابلة لمعارضة
تلك الأخبار القويّة المعتبرة العظام ، والله العالم بحقائق الأحكام.
الثاني
: هل المستحبّ
إيقاع الجهر نفسه فيكون مستحبّاً عيناً وواجباً تخييراً ، أو أنّ المستحبّ اختيار
ذلك الفرد بعينه والقصد إليه ، فيكون فعله واجباً ، واختياره مستحبّاً؟.
قال الأكثرون
بالأوّل ، وبعضٌ بالثاني.
لنا
على الأوّل : أنّ المنصوص عليه في الأخبار ، والمأمور بالإتيان به في الآثار من الأئمّة
الأطهار ، هو إيقاع نفس الإجهار دون القصد إليه والاختيار ، كما لا يخفى على مَنْ
جاس خلال الديار ، ضرورة مغايرة الشيء للقصد إليه ، فلا يتصوّر نسبة الاستحباب
اليه عند أُولي الأفكار. ولو تعلّق الاستحباب بالقصد لجاز تعلّق الشيء بغير ما
علّق به من غير ذكره ، وهو محالٌ بلا إنكار.
نعم ، إنّ
المراد بذلك الاستحباب كون الجهر أفضل الفردين للواجب المخيّر فيهما ؛ لِتَأدّي
الواجب بكلّ منهما ، لا الاستحباب بالمعنى المتعارف لِتَأَدّي الواجب في ضمنه ،
فلا يكون مستحبّاً ، وكونه كيفيّةً له ، فلا يكون واجباً استقلاليّاً بصحيح
الأنظار ، مع أنّ استحباب القصد والاختيار فرعُ استحباب المقصود والمختار ،
فاعتبروا يا أُولي الأبصار.
احتجّ الآخرون
بأنّ قراءة البسملة واجبة ، والجهر صفة من صفاتها وهي تابعة لموصوفها ، فيلزمها من
وجوب البسملة وجوب الصفة جهراً أو إخفاتاً ، فلا يكون الجهر مستحبّاً.
والجواب
: أنّا إذا
فسّرنا الاستحباب بجعله أفضل الواجبين المخيّر فيهما ، لا يلزمنا
__________________
ذلك ولا تحصل المنافاة في ما هنالك ؛ لعدم التنافي بين الاستحباب العيني
الخصوصي والوجوب التخييري ؛ لاختلاف الحكمين باختلاف الاعتبارين ، مع أنّ فعله لو
كان واجباً لم يجز تركه ، وإلّا لخرج الواجب عن وجوبه وليس مشترك الورود ؛ لجواز
ترك المخيّر إلى بدله.
فإنْ أرادوا
هذا المعنى فمرحباً بالوفاق ، وإلّا فهو ضعيف كضعف ما قيل من أنّ التخيير إنّما
يتمّ لو قيل بتباين الصفتين ، لا بأنّ الإخفات جزء الجهر ؛ لأنّ الجهر وإنْ حصل به
إسماع النفس مع الغير لكنّه يحصل دفعة ، فيتخيّر بين إسماع النفس وحدها وإسماعها
مع غيرها. وبهذا اتّضح فجر الحال وزال غَيْهب الإشكال ، والله العاصم العالم
بحقائق الأحوال ، ومنه التسديد في الأفعال والأقوال.
فيا أيّها
الخائض في بحار التحصيل ، والمقتفي أثر ما يقتضيه الدليل ، انظر إلى ما قيل لا إلى
مَنْ قال ، واعرف الرجال بالحقّ ، لا الحقّ بالرجال.
وقد
استتمّ تحرير هذه الرقوم ، واستتبّ تحبير هذه الرسوم ، باليوم الثاني عشر من شهر
رجب الأصبّ الأصمّ الأغرّ لسنة ١٢٧٤ الرابعة والسبعين بعد المائتين والألف من
الهجرة النبويّة ، على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والتحيّة ، بقلم مؤلّفها المتعطّش
لفيض ربِّه السيحاني : أحمد بن صالح بن طعّان البحراني ، جعل الله خير يوميه غده ،
ورزقه من العيش أرغده ، وأيّده وسدّده وأرشده ، والمأمولُ ممّن يقف عليها أنْ
ينظرها بعين الحقّ والإنصات والإنصاف ، وأنْ يتنكّب طريق التعنّت والاعتساف ، وأنْ
يسدل ذيل العفو على ما يجده من الهفو ، فإنّ الخطأ والنسيان كالجبلّة الثانية
للإنسان ، والحمد لله ربِّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
فهرس
مقدمة
التحقيق........................................................... ٧
الحقّ
الواضح في أحوال العبد الصالح..................................... ٣٣
مقدّمة المؤلّف............................................................... ٣٥
وفاة المترجم................................................................. ٣٦
تشييعه ودفنه................................................................ ٣٧
مأتمه....................................................................... ٣٨
مولده ومبدأ اشتغاله......................................................... ٣٩
سفره إلى النجف الأشرف................................................... ٣٩
رجوعه إلى البحرين.......................................................... ٤٠
نزوله في القطيف............................................................ ٤١
تلامذته ودراسة
المترجِم على يده.............................................. ٤٢
ذهابه إلى البحرين في
بعض الأشهر............................................ ٤٣
مؤلّفاته..................................................................... ٤٤
شعره...................................................................... ٤٨
خلاصة القول............................................................... ٤٩
المراثي...................................................................... ٥٠
مصادر التحقيق :........................................................... ٥٩
علم
الكلام............................................................. ٦١
الرسالة الاولى : العقل وأقسام............................................ ٦٣
العقل لغة................................................................... ٦٦
العقل اصطلاحاً............................................................. ٦٦
الأوّل : العقل
الهيولاني....................................................... ٦٦
الثاني : النفس
الناطقة الإنسانية............................................... ٦٧
الثالث : القوّة التي
بها يُدرِكُ الإنسانُ الخيرَ والشرّ................................ ٦٧
الرابع : القوّة
الدّاعية لاختيار الخير والمنافع ، واجتناب الشرور والمضارّ............. ٦٧
الخامس : القوّةُ التي
يستعملها النّاس في نظام معاشهم ومعادِهم.................... ٦٨
السادس : العقلُ
بالمَلَكَةِ...................................................... ٦٨
السابع : العقلُ
بالفعل........................................................ ٦٩
مدّة دوام العقل.............................................................. ٦٩
ثمرة عقول الكفّار
والفجّار.................................................... ٧٠
منشأ دهاء الدهاة............................................................ ٧٥
مراتب عقل المؤمن........................................................... ٧٧
الزيادة والنقصان في
العقل.................................................... ٧٨
ممّا قاله السائلُ
المستطاب ، في مدحِ هذا الجواب................................. ٨١
الرسالة الثانية : مسألة في إبطال الدور المتوهّم في إثبات
الإمامة من الكتاب... ٨٣
الرسالة الثالثة : مسألة في الشفاعة......................................... ٨٧
الإيراد الأوّل من
السائل وردّه................................................. ٩٣
الإيراد الثاني من
السائل وردّه................................................. ٩٥
علم
الفقه............................................................ ١٠٣
الرسالة الرابعة : هداية البريّة إلى أحكام اللمعة الدمشقيّة.................. ١٠٥
مقدّمة المؤلِّف............................................................. ١٠٧
حياة الشهيد الأول......................................................... ١٠٨
موطنه.................................................................... ١٠٩
كلمات العلماء فيه......................................................... ١٠٩
مقتله..................................................................... ١١٠
شرح خطبة الكتاب........................................................ ١١٤
شرح البسملة............................................................. ١١٤
معنى الباء................................................................. ١١٧
الكلام على معنى الاسم
واشتقاقه............................................ ١١٩
في لفظ الجلالة............................................................ ١٢٢
معنى الرحمن والرحيم....................................................... ١٢٦
وجه تقديم الرحمن على
الرحيم.............................................. ١٣٠
شرح الحمد............................................................... ١٣١
الجمع بين خبري
البسملة والحمدلة.......................................... ١٣٣
الحمد لغة................................................................. ١٣٥
الحمد عرفاً................................................................ ١٣٧
ليس بين الحمد والنعمة
فرق................................................ ١٣٩
معنى النعمة................................................................ ١٤٠
القول في أفعال العباد....................................................... ١٤٢
معنى الشكر وفلسفته....................................................... ١٤٤
الشكر لغة................................................................ ١٤٤
الشكر عرفاً............................................................... ١٤٦
النسبة بين الحمد
اللغوي والحمد العرفي....................................... ١٤٧
النسبة بين الشكر
اللغوي والشكر العرفي..................................... ١٤٧
النسبة بين الحمد
والشكر اللغويّين........................................... ١٤٩
النسبة بين الحمد
والشكر العرفيَّين........................................... ١٤٩
النسبة بين الحمد
العرفي والشكر اللغوي...................................... ١٥٠
تبصرة ................................................................... ١٥١
مراتب العلم وفضله........................................................ ١٥٢
كلمة التوحيد............................................................. ١٥٥
بحث في النبوّة............................................................. ١٦٦
مستند النبوّة............................................................... ١٦٦
تعريف النبوّة.............................................................. ١٦٧
الفرق بين الرسول
والنبيّ................................................... ١٦٨
معنى الروح............................................................... ١٧٠
تفضيل النبيّ وأهل
بيته عليهمالسلام................................................ ١٧٢
الصلاة على النبيّ
وآله...................................................... ١٧٤
الصلاة على النبيّ
وآله واجبة ومستحبة....................................... ١٧٩
كتاب
الطهارة........................................................ ١٩١
الرسالة الخامسة : حكم الماء المتقاطر من السقف حال نزول المطر.......... ١٩٣
اشتراط الكريّة............................................................ ١٩٥
اشتراط الجريان............................................................ ١٩٦
الأخبار الدالّة على
كونه كالجاري........................................... ١٩٨
خلاصة القول............................................................. ٢٠١
الرسالة السادسة : مسألة فيما لو ماتت الأمُّ وقد خرج نصف الولد........ ٢٠٥
خروج الولد والأُمّ
ميّتة..................................................... ٢١٠
كتاب
الصلاة......................................................... ٢١٣
الرسالة السابعة : قرّة العين في حكم الجهر بالبسملة في ما عدا
الأوليين..... ٢١٥
الفهرس التفصيلي.......................................................... ٢١٧
مقدّمة المؤلِّف............................................................. ٢٢٩
المقدّمة الأولى : في تأسيس الأصل في الصلوات........................... ٢٣١
الاستدلال على أصالة
الجهر................................................. ٢٣١
هذا وقد أُيِّدت أيضاً
أصالة الجهر بأُمورٍ :.................................... ٢٣٧
الاستدلال على أصالة
الإخفات............................................. ٢٣٩
الاستدلال على أصالة
كلّ من الجهر والإخفات............................... ٢٤٠
المقدمة الثانية : في تحرير محلّ النزاع...................................... ٢٤٢
ذكر الخلاف في قراءة
المأموم خلف الإمام.................................... ٢٤٣
المسألة الأُولى : في
الصلاة الجهريّة وسماع تمام القراءة........................... ٢٤٦
مبنى الخلاف في
المسألة الأُولى............................................... ٢٤٧
المسألة الثانية : في
سماع الهمهمة............................................. ٢٤٨
تنبيه على خلل في
السند في ( التهذيب )..................................... ٢٤٩
المسألة الثالثة : في
عدم سماع القراءة......................................... ٢٤٩
المسألة الرابعة : في
سماع بعض القراءة........................................ ٢٥١
المسألة الخامسة : في
أخيرتي الجهريّة أو أخيرتها................................ ٢٥٢
المسألة السادسة : في
أُوليي الإخفاتيّة......................................... ٢٥٤
المسألة السابعة : في
سماع المأموم القراءة في أُوليي الإخفاتيّة..................... ٢٥٧
المسألة الثامنة : في
جهر الإمام نسياناً في الإخفاتيّة............................. ٢٥٧
المسألة التاسعة : على
القول برجحان الذكر ، ماذا يكفي منه؟.................. ٢٥٨
المسألة العاشرة : في
أخيرتي الإخفاتيّة......................................... ٢٥٩
ذكر الأقوال والمناقشة
في بعض الأنقال....................................... ٢٦١
بحث مع صاحب ( مجمع
الأحكام ).......................................... ٢٦٨
المسألة الحادية عشرة
: في الصلاة المركّبة من الجهر والإخفات.................. ٢٧٠
المسألة الثانية عشرة
: في حكم المسبوق...................................... ٢٧٠
بحث مع صاحب ( مجمع
الأحكام ).......................................... ٢٧٠
التنبيه على معنى : « ولا تجعل أوّل صلاتك آخرها ».......................... ٢٧٢
بحث مع صاحب ( المدارک
)............................................... ٢٧٥
بحث آخر مع صاحب (
مجمع الأحکام )..................................... ٢٧٦
المسألة الثالثة عشرة
: دوران الأمر بين إكمال الفاتحة المفوِّت للقدوة وبين قطعها المحصِّل لها ٢٧٦
المسألة الرابعة عشرة
: حكم المسبوق على القول بعدم وجوب القراءة............ ٢٧٨
المسألة الخامسة عشرة
: حكم الإخفات في قراءة المسبوق في الصلاة الجهريّة...... ٢٧٩
المقام الأوّل : في ذكر الأقوال في حكم الجهر بالبسملة في مواضع
الإخفات. ٢٨٢
القول الأوّل :
استحباب الجهر بها فيها مطلقاً.................................. ٢٨٢
القول الثاني : وجوب
الجهر بها في ما يخافت فيه من غير فصل بين الأُوليين والأخيرتين. ٢٨٦
القول الثالث : الفرق
بين ما تتعيّن فيه القراءة ، وبين ما يخيّر فيه بينها وبين التسبيح ، فيستحبّ
الجهر بها في الأوّل ، ويحرم في الثاني......................................................................... ٢٩٢
القول الرابع :
استحباب الجهر بها للإمام خاصّة في الأُوليين والأخيرتين ، وأمّا المنفرد فيجهر
بها في الجهريّة ، ويخفت بها في الإخفاتيّة......................................................................... ٢٩٣
القول الخامس : وجوب
الجهر بها في أُوليي الإخفاتيّة ، ووجوب الإخفات في ما عداهما ، وتخصيص الوجوب
بأُوليي السريّة للاتّفاق على وجوب الجهر بها في الجهريّة من حيث الجزئيّة................................. ٢٩٤
القول السادس :
استحباب الجهر بها مطلقاً ، لكن الإخفات في الأخيرتين أحوط.. ٢٩٥
المقام الثاني : في ما يصلح للاستدلال على تلك الأقوال.................... ٢٩٦
المبحث الأوّل : في الاستدلال على القول الأوّل.......................... ٢٩٦
الدليل الأوّل.............................................................. ٢٩٦
الدليل الثاني............................................................... ٣٠١
الدليل الثالث.............................................................. ٣٠٤
الأخبار الدالّة على القول الأوّل.............................................. ٣٠٥
أخبار العامّة الدالّة
على القول الأوّل.......................................... ٣٦٧
المبحث الثاني : في الاستدلال على القول الثاني........................... ٣٧١
الجواب عن الدليل
الأوّل إجمالاً.............................................. ٣٧٣
الجواب عن الدليل
الأوّل تفصيلاً............................................ ٣٧٣
الجواب عن خبر سليم بن
قيس.............................................. ٣٧٣
الجواب عن خبر الأعمش................................................... ٣٧٥
الجواب عن مرسل (
الأزهار ).............................................. ٣٧٦
الجواب عن صحيحي زرارة................................................. ٣٧٦
الجواب عن إجماع (
الأمالي )............................................... ٣٧٧
الجواب عن قاعدة الشغل................................................... ٣٨٠
الجواب عن التأسّي......................................................... ٣٨١
المبحث الثالث : في الاستدلال على القول الثالث......................... ٣٨٣
المبحث الرابع : في الاستدلال على القول الرابع.......................... ٤٠٨
المبحث الرابع : في الاستدلال على القول الخامس........................ ٤١١
المبحث الرابع : في الاستدلال على القول السادس........................ ٤١٢
خاتمة.................................................................. ٤١٥
فهرس................................................................. ٤١٩
|