باسمه تعالى

كتابهايى كه توسط كنگرهء بزرگداشت ملا مهدى نراقى (ره) وملا محمد نراقى (ره) با بودجه وزارت ارشاد اسلامى در ده مجلد در سال ١٣٨٠ ش چاپ شده است :

١ ـ معتمد الشيعة في أحكام الشريعة. تأليف ملا مهدى نراقى (ره) ، فقه است وفقط كتاب طهارت آن تأليف شده.

٢ ـ شهاب ثاقب. تأليف ملا مهدى نراقى (ره). بحث امامت وفارسي است.

٣ ـ جامعة الأصول. تأليف ملا مهدى نراقى (ره) أصول فقه است.

٤ ـ الحاشية على الشفاء. تأليف ملا مهدى نراقى (ره) حاشية الهيات شفاء ابن سينا است.

٥ ـ رسائل ومسائل. تأليف ملا احمد نراقى (ره). سؤال وجواب فقهى وغيره است بضميمه چند رساله ( فارسي وعربي ) در سه مجلد.

٦ ـ مشارق الأحكام. تأليف ملا محمد بن ملا احمد نراقى (ره). قواعد فقهى است.

٧ ـ شعب المقال في درجات الرجال. تأليف ميرزا أبو القاسم بن ملا محمد بن ملا احمد نراقى (ره). رجال حديث است.

٨ ـ كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء. تأليف ملا محمد حسن قزوينى (ره). در علم اخلاق است. وشايد بتوان آن را مختصر جامع السعادات ملا مهدى نراقى (ره) بشمار آورد.

٩ ـ شرح أحوال وآثار ملا مهدى نراقى وملا احمد نراقى وخاندان ايشان بضميمه برخى از رساله‌هاى مختصر آن.

١٠ ـ ضمناً جامع الأفكار ملا مهدى نوافى (ره) ( كلام وفلسفه است ) نيز توسط يكى از دانشگاهيان در دست تحقيق وانتشار است.


المؤلف :

هوا لعالم المحقق المدقّق الممجد عبد الصاحب عليه السلام الحاجّ المولى محمّد بن الفاضل النراقي الحاج المولى أحمد

قال صاحب لباب الألقاب : وقد عاصرناه وتشرفنا بخدمته كان عالماً فاضلاً فطيناً ، جامعاً للمعقول والمنقول ، رئيساً على علماء كاشان ، معروفاً بحجة الاسلام في البلدان وكان متولّياً على المدرسة السلطانية التي بناها السلطان فتح علي شاه في كاشان.

وكان مجازاً عن والده المعظم ، ومسلّم الفضل بين أحبائه وأعدائه ـ والفضل ما شهدت به الأعداء ـ

ومن مصنفاته :

١ ـ كتاب مشارق الأحكام في جملة من القواعد المهمّة الفقهية

٢ ـ وكتاب المراصد في مهمّات المسائل الأصولية

٣ ـ وكتاب أنوار التوحيد في الكلام

ولد في سنة ١٢١٥ وتوفّى في سنة ١٢٩٧ وطوبقت مع « يا غفور ». ـ انتهى ـ

أقول : ومن تأليفاته ايضاً :

٤ ـ رسالة حجية المظنّة


٥ ـ رسالة اجتماع الأمر والنهي

٦ ـ مناسك الحجّ

٧ ـ خلاصة المسائل

٨ ـ فهرست سيف الامّة لوالده

٩ ـ شرح حديث رأس الجالوت

١٠ ـ الإجازات

١١ ـ ديوان الاشعار

طريق التحقيق

اعتمدنا في تصحيح هذا الكتاب على النسخة المطبوعة باطبع الحجري في سنة ١٢٩٤ ق في حياة المؤلف ، وعلى نسختين مخطوطتين :

إحداهما محفوظة في مكتبة آية الله المرعشي النجفي بقم ـ وهي ناقصة ـ وقد رمزنا لهذه النسخة بحرف « م ».

والأخرى محفوظة في مكتبة المدرسة السلطانية في كاشان وقد رمزنا لهذه النسخة بحرف « س ».

ولتتميم الفائدة بذلنا غاية الجهد في استخراج المصادر الروائية وما تيسر من المصادر الفقهية.

ونقدم بالشكر إلى الأعزة الذين آزرونا في هذا المشروع :

مرتضى موسوى نژاد ، احمد رضا فيض پور ، حسن حسينى ، مجتبى سلطاني ، مصطفى هاشمي ، محمود مدنى بجستانى. والحمد لله رب العالمين


دليل الكتاب

المشرق الأول : في بيان ما يقتضيه الأصل في المعاملات............................... ١١

المشرق الثاني : في بيان حكم العقد الفضولي......................................... ٥٩

المشرق الثالث : في حكم العقود المتبعضة............................................ ٧٩

المشرق الرابع : في شروط ضمن العقد............................................... ٨٥

المشرق الخامس : في بيان حكم المعاملات الإضرارية................................ ١١٩

المشرق السادس : في بيان حكم المال المجهول مالكه................................ ١٢٧

المشرق السابع : في أحكام الأموال الخراجية........................................ ١٣٣

المشرق الثامن : فيما يتعلق بالعدالة الشرعية......................................... ١٥٧

المشرق التاسع : في أحكام الغناء................................................... ٢٠٩

المشرق العاشر : في صحة صلح الزوج عن حق رجوعه............................ ٢٣٣

المشرق الحادي عشر : في بيان تعارض الاستصحابين وأقسامه...................... ٢٤٣

المشرق الثاني عشر : في أن الأحكام تابعة الأسماء................................... ٢٥٧

المشرق الثالث عشر : في تداخل الأسباب الشرعية.................................. ٢٦١

المشرق الرابع عشر : في بيان نفي الضرر........................................... ٢٦٥
المشرق الخامس عشر : في بيان قاعدة نفي الغرر................................... ٢٩٧

المشرق السادس عشر : في خيار المجلس............................................. ٣١٥

المشرق السابع عشر : في خيار الحيوان.............................................. ٣٢١

المشرق الثامن عشر : في خيار الشرط.............................................. ٣٢٩

المشرق التاسع عشر : في خيار الغبن................................................ ٣٢٩

المشرق العشرون : في الأحكام الملحقة بالخيارات................................... ٣٥٩

المشرق الحادي وعشرون : في الشبهة الموضوعية التحريمية.......................... ٣٧٩

المشرق الثاني وعشرون : في بيان كيفية الاحتياط................................... ٤٠٣

المشرق الثالث وعشرون : في حكم الإعراض عن الملك............................ ٤٠٩

المشرق الرابع وعشرون : في بيان قاعدة الضمان................................... ٤١٩

المشرق الخامس وعشرون : في الوكالة............................................. ٤٣٩

المشرق السادس وعشرون : في اقتضاء اليد الملكية.................................. ٤٥٩

المشرق السابع وعشرون : في وجوب ترتب الحواضر على الفوائت................ ٤٧١

فهرس الموضوعات.......................................................................

فهرس أهمّ مصادر التحقيق..............................................................


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ، فيّاض عوارف المعارف والمتفضّل بفوائد الأيادي وحقائق اللطائف ، المتوحّد في ذاته فلا يدركه انسان (١) كلّ عارف ، والمتجلّي بصفاته فلا يغيب عن المشاهد والمواقف ، والصلاة على من أرسله بالكتاب المبين ونسخ به الصحائف محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهرين ، الذين فضّلهم على العالمين وخصّهم بما لا يلحقه لاحق ولا سالف.

وبعد فيقول الفقير إلى ربّه الباقي عبد الصاحب محمّد بن أحمد بن محمّد مهدي النراقي ، أنالهم الله سبحانه من فضله يوم التلاقي :

هذه فوائد جمّة ومطالب مهمّة في تنقيح نبذ من الضوابط الكلّية الشرعيّة ، وتحقيق مدارك لجملة من أمّهات المسائل الفرعية التي لا مناص عنها للفقيه الراشد والطالب المسترشد ، ممّا زلّت فيه أقدام أقوام واتّسع فيه ميدان النظر لفرسان الكلام ، وضاق منه المخرج على من دخله ودار المقام ، استطرفتها من غنائم الدهر واقتطفتها من ثمار عوائد الأيّام.

__________________

(١) انسان العين : ما يرى في سواد العين أو هو سوادها. ( المنجد )


وأرجو من الله تعالى أن يكون بيانا لكنوز حقائقها وتبيانا لرموز دقائقها ، وإن كنت معترفا ـ والصدق منجاة ـ بأنّ الباع قصير والبضاعة مزجاة ، جعلتها تذكرة لنفسي وتبصرة لمن أراد ، وسمّيتها بمشارق الأحكام والله الموفّق للسداد.


[ المشرق الأوّل ]

[ في بيان ما يقتضيه الأصل في المعاملات من الصحّة أو الفساد ]

مشرق : في بيان ما يقتضيه الأصل في المعاملات من الصحّة أو الفساد ، وتعيين مواردهما وما يتبع ذلك ، وفي هذا البحث تحقيق أمور :

الأوّل : ما يقتضيه الأصل الأوّلي من الصحة والبطلان في الشبهة الحكمية ، سواء كان الشكّ في شرعية أصل المعاملة أو في شرائطها وموانعها.

الثاني : ما ثبت خروجه منه وانقلب إلى أصل ثانويّ شرعيّ ، وفيه تحقيق معنى آية ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١).

الثالث : ما يتحصّل من الأصلين ، من لزوم الصيغة أو عدمه في العقود ، وشرائط الصيغة فيما تحقّق لزومها ، فهنا مطالب ثلاثة :

المطلب الأوّل : فيما يقتضيه الأصل الأوّلي الحكمي من الصحّة والفساد في المعاملات. فاعلم أنّه قد استمرّت بين الناس منذ استقرّت العادات ووضعت السياسات ، معاملات بينهم في العقد والحلّ والربط والفكّ فيما يحتاجون إليه في تمدّنهم وانتظام معاشهم ، من التجارات والمناكحات والعطيّات والعهود والمواثيق

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.


وأشباهها ، وأكثرها غير مختصّة بالشرائع والديانات ، فضلا عن شريعة الإسلام ، بل تعمّ الأديان والعادات ، واختلف حكمها فيها في بعض الخصوصيات والشرائط وأسباب الانعقاد والآثار والأحكام المترتّبة عليها ، كالبيع الشائع في الكلّ المختلف أحواله فيها بالانعقاد بالصيغة أو بالصفقة أو بمثل الملامسة أو المنابذة أو الحصاة ، والاشتراط بعدم الغرر وعدمه ونحو ذلك ، فمهيّات أمثال تلك العقود غير مخترعة ولا موضوعة بالأصل في شريعتنا ، بل أمضاها الشارع بشرائط قرّرها. نعم ، يختصّ بعضها بالشرائع أو بشريعتنا.

وجملة تلك المعاملات والعقود المعتبرة هي المعهودة المتداولة المدوّنة التي ضبطها الفقهاء سلفا وخلفا في كتبهم ومسفوراتهم ، ووضعوا لها أبوابا ولها أسماء معروفة ، كالبيع والصلح والرهن والإجارة والمزارعة والمضاربة والضمان والحوالة والكفالة والوكالة والنذر والوقف والنكاح والطلاق والظهار واللعان وغيرها.

ثم إنّ ماهيّات تلك المعاملات كيفيات خاصّة وروابط معهودة في الشرع والعرف والعادة متمايزة بأنفسها ، سواء كانت متباينة بالآثار المترتبة عليها أيضا ، كالبيع والإجارة والنكاح والطلاق ، أو متناسبة بالعموم والخصوص المطلقين ، كالبيع والصلح ، أو من وجه كالصلح والضمان ، أو بالتساوي كالبيع والهبة المعوّضة.

ويظهر ثمرة الفرق حينئذ بالاختلاف في بعض الأحكام المتفرّعة عليها ، بل قد يتفق بحسب تعاهد المتعاقدين في القيود والشروط توافق اثنين منها في فرد في جميع الآثار والأحكام المترتّبة عليها ، فتميّزها حينئذ بمجرّد نفس مفهوم المعنى المعهود من المعاملة الحاكي عنه اسم المعاملة المخصوص بها ، بحيث لا يصحّ ولا ينعقد أحدهما بقصد معنى الآخر منه.

ومن هذا ينقدح عدم كفاية قصد إنشاء مجرّد الآثار المترتّبة عليها بالألفاظ


والقرائن الدالّة على تلك الآثار ، بل يجب قصد مفهوم العقد المعهود ماهيّته. وحيث إنّ الدال على تلك الماهيّة هو اللفظ المخصوص الذي يسمّى به فينعقد به. ويظهر منه اختصاص انعقاده به ، دون مطلق ما دلّ على ما يفيد أثره وأحكامه ، من التجارات الغير المتداولة فيه ولو مع القرائن المنضمّة ، وسيجي‌ء تفصيله إن شاء الله تعالى.

ثم العقد إن علم صحّته شرعا فهو ، وإن شك فيها سواء لم يعلم كونه مما تداول بين الناس ، أو علم ولم يعلم كونه من الموظّفة الشرعية ، أو علم ولم يعلم اشتراطه بما وقع فيه الشك ، فمقتضى الأصل الأوّلي فساده بمعنى عدم ترتّب الأثر المقصود منه شرعا ، لأنّ الصحّة من الأمور الشرعية المتوقفة على التوظيف الذي هو أمر حادث ، ينفيه الأصل إلى أن يثبت بدليل.

وما أفاده بعض المحققين من تصحيح المعاملة بأصل البراءة ، باعتبار اقتضاء إباحة ما تعاقد عليه المتعاملان وإن لم يفد اللزوم ، من الغرائب ، فإنّ الإباحة الشرعية هنا فرع ترتّب الأثر شرعا المتوقف على الجعل الشرعي المسبوق بالعدم ، ولو هو إمضاء الشارع ما تداول عليه عادة الناس في ترتّب الأثر عليه ، والاستصحاب يقتضي عدمه ، ولا يعارضه أصل البراءة ، لأنّ متعلّقه نفي السبب ومتعلّقها ثبوت السبب ، والأوّل مزيل للثاني ومقدّم عليه ، بل لا تعارض بينهما حقيقة كما حقّقناه في الأصول ويأتي الإشارة إليه هنا في بعض الفوائد ، وعليه عمل الفقهاء وسيرتهم في الفقه حتى الفاضل القائل وإن خالفه قولا في أصوله.

ونظيره في الشك الموضوعي ما إذا شكّ في إذن المالك ، فلا يجوز حينئذ تناول مال الغير بأصل الإباحة ، أو شكّ في التطهير أو التذكية فلا يتناوله بأصل الطهارة أو البراءة.

ولا يتوهّم أنّ الإباحة الشرعية في كلّ مورد يتمسّك بها بالأصل حكم شرعي


مسبوق بالعدم ، فيعارضه الاستصحاب فلم يبق للأصل مورد أصلا ، إذ ليس تعارض الاستصح‌اب لأصل البراءة بالمزيلية في جميع صور التعارض ، كما إذا شك في الإباحة الاستقلالية الغير المترتّبة على حدوث سبب ، فإنّ مقتضى الاستصحاب ليس هنا نفي السبب بل يمكن القول بكون الأصل حينئذ مزيلا للاستصحاب ، نظرا إلى ثبوت التوظيف للإباحة الاستقلالية الظاهرية بمثل قوله عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي » (١) و « الناس في سعة مما لا يعلمون » (٢) ، وغيرهما من أدلّة البراءة المقتضية للعلم الشرعيّ الرافع للاستصحاب كما بيّناه في مقامه.

المطلب الثاني : في بيان ما ثبت خروجه من الأصل الأوّلي وانقلب فيه بالأصل الثانوي المقتضى للصحّة.

فاعلم أنّ ظاهر أكثر الأصحاب بل المعروف منهم ، انقلاب أصل الفساد في أغلب صور الشك في اشتراط شي‌ء أو مانعيّته لمعاملة من المعاملات الموظفة ، إلى أصل ثانوي اجتهادي يقتضي صحّة جميع ما صدق عليه اسم تلك المعاملة الموظفة عرفا ، بل ربما يظهر من بعضهم أصالة الصحة عند الشك في شرعية أصل المعاملة وتوظيفها بالخصوص أيضا ، وبها يستدلّ على تأسيس عقد المعاوضة المطلقة بلفظ « عاوضت ». ومنشأ هذا الأصل في المشهور عموم قوله سبحانه في سورة المائدة :

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣١٧.

(٢) لم نظفر على رواية بهذا التعبير في الجوامع الروائية ، بل الوارد فيها تعبيران آخران : أحدهما رواية السكوني بهذا التعبير : « هم في سعة حتّى يعلموا ». ( المحاسن للبرقي : ٤٥٢ ؛ وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٣ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الرواية ٤٢٧٠ ).

والآخر ما نقل مرسلا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا التعبير : « الناس في سعة ما لم يعلموا ».

( مستدرك الوسائل ١٨ : ٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب مقدمات الحدود ، الرواية ٢١٨٨٦ ).


( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ، فيستدلّون به على صحة العقود أو لزومها ، وتداولوا عليه حتى قيل أنه المجمع عليه بينهم وقد يتأمّل فيه.

وجملة القول في الاستدلال بالآية أنّهم بين من يستدلّ بها على تأسيس العقود مطلقا ، أي كلّما كان عقدا لغة وعرفا سواء كان من الموظفة الشرعية بخصوصها ، كالعقود المدوّنة في كتب الفقه ، أو غيرها فيتمسّك بها على ترتّب الأثر المقصود من وضعه عليه ، وعلى تصحيح العقود الموظفة إذا شكّ في اشتراط شي‌ء أو مانعيّته فيها إلّا ما ثبت فساده من أصل كالمغارسة أو لفقدان شرط معلوم كالرباء والمحاقلة والشغار ومشاركة الأبدان ونحوها ، وبين من يستدلّ بها على تصحيح الموظفة خاصّة حملا للعقود عليها ، فيستدلّ بها على نفي اشتراط ما شكّ فيه ، وبين من ترك الاستدلال بها على الصحّة مطلقا ، سواء كان من الموظفة أم لا ، زعما لإجمال العقود في الآية ، وهو الظاهر من والدي العلّامة (٢) ، ويظهر منهم خلاف آخر في دلالتها على لزوم العقد وعدمه يأتي الإشارة إليه.

وجه استدلال الأوّل :

دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم حقيقة الشامل لكلّ ما صدق عليه العقد لغة أو عرفا ، فثبت توظيفه في الشرع بهذا العموم.

واستشكل باستلزامه خروج الأكثر إذا كثر ما يسمّى عقدا في اللغة أو العرف مما لا يجب الوفاء به إجماعا ، والباقي في جنب المخرج كالمعدوم.

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

(٢) مستند الشيعة ٢ : ٣٦٦.


وأجيب عنه بأنّ تخصيص الأكثر إنّما يلزم لو كان المقصود من عموم العقود العموم النوعيّ وهو خلاف التحقيق ، بل المراد العموم الأفرادي فإذا لوحظ الأفراد فلا شكّ أنّ أفراد العقود المتداولة أكثر من أفراد غيرها ، سيّما في مثل البيع والإجارة والنكاح وأمثالها.

وفيه أنّ المناط في الأكثرية إنّما هو بالنسبة إلى أفراد المدلول الوضعيّ من حيث كونها أفرادا له ، فإنّها مورد تعلّق الحكم ، ولا شكّ أنها غير مختصّة بالأفراد الواقعة في زمان الخطاب ، بل يعمّ المتوقّعة الفرضية ، بل كلّها أو أكثرها متوقّعة من وقت الصدور ، وأكثريتها بأكثرية الأنواع والأصناف التي هي تحتها ، إلّا أن يقال بأنّ الجهة المقتضية لأكثرية وقوع الأفراد الواقعة مطّردة وحاصلة بحكم الحدس والوجدان للمتوقعة أيضا ، كما يشهد به العيان في الأفراد المتجدّدة بعد نزول الآية ، ولكنه غير مفيد أيضا ، لأنّ أكثرية وقوع تلك المعاملات الموظفة إنّما هي باعتبار فساد غيرها شرعا ، فلا يناط بها الاستعمال الموجب لتلك الكثرة الذي به تأسيس الصحة ، مع أنّ أكثرية المتداولة الشرعية بالنسبة إلى غيرها من الواقعة بين جميع فرق الأنام في العالم في أزمنة الخطاب وقبلها وبعدها إلى الآن غير مسلّمة ، بل خلافها معلوم.

وجه استدلال الثاني :

بطلان الحمل على العموم لما ذكر ، فيتعين حمل اللام على العهد والإشارة إلى جنس العقود المتداولة في زمان الصدور التي هي المدوّنة في الكتب ، لا خصوص أشخاص كلّ عقد متداول فيه بكيفياتها المخصوصة ، فيصحّ الاستدلال بها على الأفراد المشكوكة لدخولها في الجنس.

ويرد عليه أنّه لو سلّم صحّة الإشارة بلام العهد إلى أنواع الجنس دون فرده ،


فدعوى كونه المعهود في الآية يطالب بالدليل ، لاحتمال كونها الأفراد الصحيحة بكيفياتها المخصوصة ، بل هي أقرب بمعنى العهد المعروف في كتب الأدب. وحيث يحتمل كان متعيّنا في الاستدلال ، اقتصارا على القدر المتيقن ، مضافا إلى احتمال كون المعهود غير ذلك من المعاني الآتية.

وبهذا يظهر وجه ترك الثالث للاستدلال بالآية على الصحة رأسا ، وهو مشكل أيضا بملاحظة مخالفته لسيرة العلماء ومتفاهمهم قديما وحديثا ، بحيث يكاد أن يكون إجماعا منهم على الاستدلال بها ، بل صار من المسلمات بين جمهور الأصحاب. فاللازم تحقيق الحال وتصحيح الاستدلال على وجه لا يرد عليه الإشكال ، فأقول فاستمع وكن من الشاهدين :

وليعلم أوّلا أن العقد أصله لغة وعرفا الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال ، كما ذكره غير واحد ، وهو يشمل الحسّي كعقد الحبل وشدّ العناج ، وغير الحسّي وهو الذي يطلق عليه العهد الموثّق المتناول لمثل عقود المعاملات.

قال الجوهري (١) : عقدت الحبل والعهد والبيع وانعقد. وفي القاموس (٢) : عقد الحبل والبيع والعقد يعقده اشتدّه. وفي المصباح (٣) : عقدت الحبل فانعقد ، والعقد ما يمسكه ويحبسه ويوثقه ، ومنه قيل عقدت البيع ونحوه وعقدت اليمين ، والفرق بين العقد والعهد كما في المجمعين وآيات الأحكام وغيرها أنّ في العقد معنى الاستيثاق والشدة ، فلا يكون إلّا بين اثنين ، والعهد قد يتفرد به الواحد.

ومنه يعلم أن إطلاق العقد على العهد الموثق من باب الحقيقة لا المجاز ، وما

__________________

(١) صحاح اللغة : ٥١٠.

(٢) القاموس المحيط ١ : ٣٨٣.

(٣) في « س » : شدّه ؛ مصباح اللغة : ٤٢١.


يشعر به في الكشّاف (١) في قوله : « والعقد العهد الموثق شبه بعقد الحبل وغيره » من اختصاص الحقيقة بالأوّل (٢) إنّما هو إبداء للمناسبة بين الاستعمالات الحقيقية وربط الخفيّ بالجليّ ، كما هو دأب علماء اللغة في ربط المعاني المستعملة فيها تصاريف اللفظ بعضها إلى بعضها. ثم الظاهر اتفاق أئمة التفسير وغيرهم على أن المراد بالعقد في الآية العهد الموثق ، صرّح به في الكشاف (٣) والبيضاوي (٤) والطبرسي (٥) والطريحي (٦) والمحقق الأردبيلي في آيات الأحكام (٧) والمحدث الكاشاني في الصافي (٨) وغيرهم ، وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٩) بعد ذكر الآية عن الصادق عليه‌السلام : « أي العهود » ويشعر به الأمر بالإيفاء به ، فإنّه لا يناسب غير العهد ، نظير قوله تعالى ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ) (١٠).

ثم العهد الذي هو من معانى العقد من المعاهدة ، ما فيه شدّ وربط وتوثيق بين اثنين ، كما دلّ عليه كلام من ذكر وشهد به العرف ، لا من سائر إطلاقات العهد كالتقدم بالأمور والمعرفة والالتقاء والإصلاح والوصيّة. نعم ، بعض ما يطلق عليه

__________________

(١) الكشاف ٣ : ٥.

(٢) أي الحسّي.

(٣) الكشاف ٣ : ٥.

(٤) تفسير البيضاوي ١ : ٤٠٧.

(٥) مجمع البيان ٢ : ١٥٠.

(٦) مجمع البحرين ٣ : ١٠٣.

(٧) زبدة البيان في أحكام القرآن : ٤٦٢.

(٨) تفسير الصافي ٢ : ٥.

(٩) تفسير القمي ١ : ١٦٠.

(١٠) البقرة (٢) : ١٧٧.


كالضمان واليمين والأمان داخل فيما هو المراد من العهد الموثّق. وقال أمين الإسلام في المجمع (١) بعد تفسير العقود بالعهود : اختلف في هذه العهود على أقوال :

الأوّل : أنّ المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة والموازرة والمظاهرة على من حاول ظلمهم أو بغاهم سوء ، وذلك هو معنى الحلف عن ابن عباس ومجاهد والربيع وقتادة والضحاك والسدى (٢).

الثاني : أنّها العهود التي أخذ الله سبحانه على عباده للإيمان به وطاعته فيما أحلّ لهم وحرّم عليهم ، عن ابن عباس في رواية أخرى قال : هو ما أحلّ وحرّم وما فرض وحدّ في القرآن كلّه ، فلا تتعدّوا فيه ولا تنكثوا ، ويؤيّده قوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ) (٣) الآية.

الثالث : أنّ المراد بها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على نفسه كعقد الأيمان والنكاح وعقد العهد وعقد البيع وعقد الحلف ، عن ابن زيد وزيد بن أسلم.

الرابع : أنّ ذلك أمر من الله سبحانه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم بالعمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق نبيّنا وما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عند ربّه ، عن ابن جريح وأبي صالح.

ثمّ قوّى من هذه الأقوال القول الثاني ، وقال : يدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر فيجب الوفاء بجميع ذلك إلّا ما كان عقدا في المعاونة على أمر قبيح ، فإنّ ذلك محذور بلا خلاف ، انتهى.

ومثله في مجمع البحرين (٤) ، وهو كما ترى ظاهر بل صريح في أنّ المراد بالعقود

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ١٥٠.

(٢) مجمع البيان ٢ : ١٥٠.

(٣) البقرة (٢) : ٢٧.

(٤) مجمع البحرين ٣ : ١٠٣.


التي يتعاقدها الناس بينهم ، أي عقود المعاملات في القول الثالث ليس كلّما يعقده المرء ولو اختراعا منه ، بل العقود المجوّزة الموظّفة في الشرع مثل البيع والنكاح واليمين والنذر ، كما استشعره والدي العلّامة من كلامه (١) ، إذ ليس ما يخترعه المرء داخلا في القول الثاني الذي قوّاه وجعله جامع الأقوال أعني عقود الله التي أوجبها على العباد ، ولا ينافيه استثناؤه المعاملات المحظورة عنه لأنّه استثناء ما فيه المنع للمعاونة على أمر قبيح من المعاملات الشرعيّة الموظفة كالبيع للظلمة وبيع الخمر وآلات اللهو والنذر في المعاصي ونحوها ، فالعقود المخترعة الغير الموظفة بخصوصها خارجة عن تلك الأقوال.

نعم ، لو أريد من العقود العموم أي مطلق العهود الموثقة أو مطلق عهود المعاملات خاصّة كانت الغير الموظفة داخلة فيها. والإيراد عليه (٢) باتفاقهم على اشتراط الاستيثاق والشدّة في معنى العقد ولا يثبت ذلك إلّا بعد ثبوت اللزوم الشرعي ، إذ مجرّد بناء المتعاقدين ليس إلّا نفس العهد ، والتوثيق محتاج إلى موجب ، وليس في أمثال المقام إلّا إلزام الشرع ، فلا يكون المعاملات الغير الموظفة داخلا في العموم.

ويمكن المناقشة فيه بأنّ مجرد بناء المتعاقدين وإن لم يكف في صدق التوثيق بل هو نفس العهد ، إلّا أنّ تسجيله بما تداول بينهم وتصافقا به عليه من لفظ أو فعل لتوثيق العهد وأحكامه عند قصدهم به تأكيدا للعهد وتقرّره كاف في صدق التوثيق العرفي. وبالجملة مفاد هذا القول الذي اختاره الطبرسي هو الذي ذكره سائر من ذكر من المفسّرين.

__________________

(١) مستند الشيعة ١ : ٢٨٢.

(٢) كذا ، والظاهر هكذا : ويمكن الإيراد عليه.


وكيف كان فما يحتمل أن يكون مرادا من العهود الموثقة التي هي معنى العقود في الآية ، إمّا أحد الأقوال الأربعة المذكورة في المجمع ، أو خصوص عقود المعاملات ، وعليه إمّا مطلق ما يعم الشرعية والعرفية وصدق عليه المعاملات عرفا ، أو خصوص جنس المعاملات الموظفة أو أفرادها المشتملة على جميع شرائط الصحّة ، أو المراد غير ذلك من معاني العهد المناسب لصدق العقد عليه كالوصية أو الأمر أو الضمان أو اليمين.

وما يفيد المدّعى من الاستدلال به من تلك الاحتمالات ، إمّا الحمل على العموم أو على خصوص عقود المعاملات مطلقا أو أجناسها الموظفة من باب العهد ، كما استظهره بعض الأجلّة في توجيه الاستدلال بالآية.

والأوّل وإن كان مقتضى الحقيقة إلّا أنّ فيه ما تقدّم من لزوم تخصيص الأكثر ، والآخر غير معلوم بحجّة ، مع قيام احتمال غيره من المحتملات المذكورة ، بل بمقتضى لزوم الاقتصار على المتيقن حينئذ يتعيّن احتمال الأفراد الصحيحة ، إلّا أنّ هنا دقيقة غفلوا عنها ، مقتضاها الحمل على المعنى الثاني الذي قوّاه الطبرسي أو ما يقرب منه.

وبها يتمّ الاستدلال بالآية. وهو مطلق العهود الموثقة الشرعية ، سواء كانت بيننا وبين الله كالنذور ونحوها ، أو من الله إلينا كالإيمان به المعقود في عالم الذرّ وبعده في أداء أمانة التكليف التي حملها الإنسان كما قال الله تعالى ( أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) (١) و ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ) (٢) الآية ، أو بين أنفسنا بعضنا مع بعض كالبيع والنكاح والصلح وغيرها من عقود المعاملات ، ومعنى الأمر وجوب الوفاء بكلّ عهد من تلك العهود الموثقة الشرعية.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٤٠.

(٢) البقرة (٢) : ٢٧.


ولبيان ذلك نذكر مقدّمة هي أنّ تخصيص الحكم المتعلّق في الجمع المحلّى ببعض الأفراد لدليل مخرج لغيره يمكن على وجوه ثلاثة :

الأولى : حمل اللام على الاستغراق وإخراج البعض من باب التخصيص.

الثانية : حملها على العهد والإشارة بها إلى الباقي إذا كانت هناك قرينة على العهد.

الثالثة : كون اللام للاستغراق من غير تخصيص ولكن خروج البعض من باب تقييد المدخول بالثاني لا بتخصيص العموم.

وفرق الأخير مع الثاني ظاهر ، لكون اللام هنا للاستغراق وفيه للعهد.

وأمّا مع الأوّل فهو أنّ التجوّز عليه في الهيئة المركبة الموضوعة للعموم وعلى الأخير في المدخول خاصّة باستعماله في بعض أفراد الماهيّة ، ودخول اللام عليه بمعناها الاستغراقي فهي لاستغراق جميع ما استعمل فيه المدخول من غير تخصيص ، فلا تجوّز في اللام ولا في الهيئة التركيبية ، فإنّ حقيقة اللام المحلّى بها الجمع استغراق جميع أفراد المعنى المستعمل فيه المدخول ، سواء كان حقيقيا أو مجازيا ، حتى أنه لو كان من غير جنس معناه الحقيقي ، فهي لاستغراق أفراد هذا المعنى المجازي ، نحو : « الله وليّ الأيادي » أي النعماء ، فلا تجوّز في العموم ولا تخصيص بل التجوّز في المدخول ، بل لو أريد بالمدخول ما يعمّ معناه الحقيقي ، فاللام الداخلة عليه يفيد التعدّي عن أفراد الحقيقة.

وبهذا القياس ما إذا أريد به بعض أفراد الحقيقة ، كقوله تعالى ( فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوّابِينَ غَفُوراً ) (١) ، فإنّه لاستغراق التوّابين الذين هم بعض أفراد المعنى الحقيقي ، ومن هذا قولهم جمع الأمير الصاغة ، أي صاغة بلده أو مملكته ، فلا تجوّز في الاستغراق بل التقييد في الصاغة بقرينة العادة.

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٢٥.


فالوجه الأخير يشارك الأوّل في استغراق أفراد ما استعمل فيه المدخول واستدعاء إخراج المشكوك فيه عن الاستغراق الدليل ، على خلاف الثانى ، فإنّ إدخاله يطالب الدليل اقتصارا على القدر المعلوم من العهد. وإذا كان المعهود نوعا يقتصر فيه على النوع المعلوم ، إلّا أنّه يفيد العموم بالنسبة إلى النوع المعلوم ، ولكنّه أيضا عموم إطلاقيّ لا وضعيّ.

ويشارك الثانى في جواز خروج أكثر أفراد معنى المدخول ، نظرا إلى كونه من باب التقييد الغير الممتنع منه ذلك لا التخصيص ، على خلاف الأوّل.

ثمّ إنّ تشخيص كون إرادة البعض من لفظ الجمع المحلّى من أيّ تلك الوجوه يمكن بملاحظة الدليل المخرج على حسب فهم العرف.

فإنّه على العهد لا بدّ أن يكون ذلك عهدا بين المتكلم والسامع ، بحيث يصلح لانصراف اللفظ إليه مع متفاهم أهل العرف والإشارة باللام إليه ، سواء كان هو حضور المعهود نحو ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (١) ، أو ذكره صريحا كقوله تعالى : ( الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ) (٢) ، أو مكنيّا عنه كقوله تعالى ( لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ) (٣) ، والعهد الذكري يعمّ المتصل وغيره.

ومنه ما إذا قال المولى لعبده : اكنس كلّ يوم البيت الفلاني والفلاني إلى خمسة مثلا وفي داره عشرون بيتا ، ثم قال له يوما : اكنس البيوت فاذهب إلى السوق ، فإنّه ظاهر في الخمسة المعهودة ، والمناط فهم العرف ، فلو لم يفهم منه العهد وإن سبق ذكره لا ينصرف إليه ، كقوله تعالى ( جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ

__________________

(١) المائدة (٥) : ٣.

(٢) النور (٢٤) : ٣٥.

(٣) آل عمران (٣) : ٣٦.


زَهُوقاً ) (١) ، باعتبار ظهوره في العلة المناسبة للعموم.

وعلى التقييد يلزم أن يكون علّة خروج البعض عدم انصراف لفظ المدخول إليه عرفا عند الإطلاق ، إمّا مطلقا ، كما إذا غلب استعماله في البعض الآخر ، ولو مع وقوعه في صيغ العموم باعتبار شذوذ غيره ، أو في خصوص المورد ، كما في جمع الأمير الصاغة ، فإنّ المفهوم منه عرفا صاغة بلده أو مملكته لا جميع أهل الدنيا ، ولعلّه لهذا يسمّيه أهل البيان بالاستغراق العرفي.

وفي غير الصورتين يكون خروج البعض من باب التخصيص.

ولو شكّ في مورد أنّ خروج البعض من باب العهد أو تقييد المدخول فمقتضى الأصل كونه من الثاني ، لاشتراكهما في تجوّز لفظ المدخول ولزوم التجوّز في اللام على العهد أيضا دون التقييد.

وإذ علمت ذلك نقول : فقد عرفت أنّه لا يصحّ البناء على العموم والتخصيص في الآية ، لاستلزامه تخصيص الأكثر ، فلا بدّ إمّا حمل اللام على العهد أو على الاستغراق وارتكابه التقييد في المدخول ، والظاهر كما ذكره والدي العلّامة ، أنّ تقدّم طلب بعض أفراد الجمع المحلّى على إظهار الطلب ثانيا باللفظ الدال على الجميع ممّا يظنّ معه إرادة الأفراد المتقدّمة ، ولا أقلّ من صلاحيّة كونه قرينة لإرادتها ، كما في الأمر بكنس البيوت في المثال المتقدّم ، والآية من هذا الباب ، لأنّها في سورة المائدة وهي على ما ذكره المفسّرون آخر السور المنزلة ، أو المنزلة في أواخر عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد علم من الشارع قبل نزولها في جملة عهود الله سبحانه عقود مقرّرة منه تعالى بين الناس بعضهم مع بعض من معاملاتهم المتداولة ، فتقدم طلب الوفاء بتلك العقود يورث الظن بإرادتها خاصة من بين مطلق العقود ، ولا أقلّ من كونه قرينة

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٨١.


لتعيين المعنى المجازي بعد صرف اللفظ عن العموم المحذور فيه ، سيما مع تعاضدها بقرينة تعقبها بقوله تعالى ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) (١) ، الآية ، فإنّه يشعر كون المراد بالعقود أمثال تلك الأحكام المفصّلة الموظفة قبل الخطاب ، كما في الكشاف.

ويؤيّده أيضا عدم ذكر عقد آخر في الروايات المرويّة عن الحجج الطاهرة من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ما هو المتداول عند الفقهاء الموظف بخصوصه ، فبملاحظة أمثال ذلك يتعيّن حمل العقود بعد تعذّر الحقيقة على ما تقدّم توظيفه قبل الآية.

فأمّا أنّه هل هو من باب التقييد واللام على الاستغراق ، أو من باب العهد ، فيه احتمالان ، والقرينة العرفية المذكورة صالحة للأمرين ، حسب ما مرّ ، لإمكان جعل اللام إشارة إلى هذا البعض بقرينة سبق العهد ، أو كونها على حقيقتها أي الاستغراق وتقييد المدخول بقرينة انصراف اللفظ إليه ، إلّا أنّ أصل الحقيقة في اللام يرجّح التقييد ، ويكون معنى الآية وجوب الوفاء بجميع أفراد العهود الموثقة المقررة قبل الخطاب ، فصحّ الاستدلال بها على نفي ما شك في اشتراطه أو مانعيته في العقود الموظفة ، دون غير معلوم التوظيف.

فإن قلت : الموظفة هي الجامعة للشرائط فلا يتمّ تقريب الاستدلال.

قلت : توظيف الشرائط لا يمنع عن توظيف الماهيّة أعني جنس الموظفة ، فيرجع الشك إلى أنّ المراد جنس الموظّفة أو هي منضمّة إلى الشرائط المقرّرة ، فليقتصر على القدر المتيقّن من القيد ، وهو الأوّل على البناء على التقييد الذي عرفت أنه مقتضى الأصل ، والقرينة العرفية لا يقتضي أزيد منه ، فمقتضى الأمر الوفاء بجميع أفراده ، إلّا ما ثبت خروجه بدليل.

فإن قلت : لا شكّ في حصول العلم بكثير من الأفراد الصحيحة قبل نزول الآية ،

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.


ولازمه حمل الأمر بالنسبة إليها على التأكيد ، من قبيل الأمر بالمعروف ، وإلى غيرها من سائر الأفراد على التأسيس ، فيلزم استعمال الأمر في المعنيين ، وهو غير معلوم الرخصة ، بل صرّح بعضهم بعدم جوازه من قبيل استعمال المشترك في معنييه.

قلت : تجدّد الأمر ولو من باب التأكيد لا يوجب خروج الأمر عن حقيقته ، ولا ينافيه تعلق الطلب به سابقا ، فلا يتعدّد المعنى بتعلّق الأمر به وبغيره ثانيا ، وهل تجد محذورا في قول الآمر : أكرم زيدا وعمروا ، بعد ما قال قبله : أكرم زيدا.

واختلاف جهة التعلق بهما من التأسيس والتأكيد لا يوجب تعدّد المستعمل فيه واختلافه ، ولا يثبت منعه ، ومقتضى الأصل صحّة الاستعمال على مقتضى الوضع ، مع أنّه يمكن الحمل على التأسيسي بالنسبة إلى المعلوم ، فيكون كلّه من باب التأسيس.

هذا ويمكن تصحيح الاستدلال على نفي الاشتراط في محلّ الخلاف على حمل اللام على العهد أيضا ، بأن يقال : مجرّد التوظيف قبل الخطاب غير كاف لكونه قرينة العهد ، بل يشترط علم جميع المخاطبين بالآية بالمعهود ، ليصلح للقرينة ، وهو غير معلوم إلّا بالنسبة إلى أجناس تلك العقود الموظفة في الجملة ، لا بجميع كيفياتها المخصوصة وشرائطها الواقعية ، بل الظاهر بحكم الحدس والاعتبار مضافا إلى الأصل عدم علم الجميع بها ، كيف وهي بعد معركة الآراء ومختلف العلماء ، ولو كانت شائعة عند جميع الناس من العوام والخواص لكانت معروفة في الأنظار المتلاحقة ومتداولة في الأيدي المتواصلة من الأصحاب فالتابعين فالعلماء إلى الآن ، واشتهرت في الأخبار الواردة عن الأطهار ، مع توفّر الدواعي على النقل والانتشار ، ولم يكن موردا للخلاف بين الأسلاف والأخلاف.

فالقدر المعهود من العقود الذي صحّت الإشارة إليه باللام هو أجناسها الموظفة ، دون الكيفيات والخصوصيات ، وتعلّق الأمر بها لا يوجب حملها على الصحيحة ،


كجواز تعلق الأمر بالأعمّ وبيان الشرط في خطاب آخر. كما هو الجواب عن اعتراض الصحيحي على القائل بالأعم في أسامى العبادات والمعاملات المتعلّقة للأوامر الشرعية ، فإنّ صدق العام لا ينافي ثبوت الخاصّ ، فيستدلّ بالأمر بها على صحّة جميع أفراد الماهيّة.

فإن قلت : يصحّ ذلك في الماهيّة العامة لا المجملة المبهمة ، فلا يمكن الاستدلال بها على الفرد المشكوك فيه.

قلت : نعم ، ولكنّ الماهيّة المبهمة داخلة في مطلق الماهيّة لصدقه عليها ، كما يصدق على المطلقة والمشروطة ، فلا ينافي صدق الماهيّة على المبهمة مع عدم ملاحظة الشرط ، وإن كانت مشروطة في الواقع ، كما يصدق قولنا : جاء الرجل ، أي ماهيّته إذا جاء زيد ، وحيث إنّ المفروض تعلّق الأمر في الآية بالمعهود ، وهو مجرّد الجنس دون الخصوصيات والشرائط ، وإن احتمل ثبوت الشرط وبيانه في خطاب آخر ، فمقتضاه بضميمة أصل عدم الاشتراط ، تأسيس صحّة جميع ما صدق عليه الجنس المعهود ، وصحّ الاستدلال به على مورد الشك ، فليتأمّل.

وكيف كان فحاصل الكلام مما تلوناه صحّة الاستدلال بالآية على صحّة العقود الموظفة إذا شك في شرطية شي‌ء أو مانعيته ، إلّا إذا رجع الشك إلى المعنى الأعمّ وصدق نفس الماهيّة ، فلم يصحّ الاستدلال حينئذ.

تتميم : ما ذكرنا هو الكلام في كيفية الاستدلال بالآية على صحّة العقود ، وأمّا على لزومها باعتبار الأمر بالإيفاء ، فيظهر منه الاختلاف فيه أيضا من كلام جماعة ، فعن بعضهم تفسير الأمر بالإيفاء على لزوم نفس العقد ووجوب الالتزام به إلّا ما ثبت خروجه بدليل ، فيكون منافيا لجواز العقد ، وعن آخر بالعمل على مقتضى العقد ما دام باقيا ، فلا ينافي جواز بعض العقود ، كالشركة والمضاربة وغيرهما ، وعن


ثالث بوجوب اعتقاد لزوم اللازم وجواز الجائز ، وعن رابع حمله على الرخصة ونفي الحظر.

أقول : قد علمت أن المراد بالعقود أجناس العقود الموظفة بخصوصها ، فمعنى الوفاء بها الذي تعلّق به الأمر ترتّب الأثر على العقد على حسب توظيفه ، فقد يكون الأثر مقيّدا بمدّة معينة كالإجارة والنكاح المنقطع ، وقد يكون مستداما بحيث لا ينقطع بسبب متجدّد ، كالتحرير والوقف على الجهة ، وقد يكون مستداما إلى أن يتجدّد السبب ، فقدره (١) على أن يزول به ، وهذا السبب إمّا مما هو ليس لقصد المتعاقدين مدخل في زوال الأثر به ، كالارتداد للزوجية في النكاح الدائم ، أو له مدخل ، إمّا من أحدهما كالطلاق والفسخ من ذي الخيار ، أو بشرط توافقهما كالإقالة ، فمعنى الوفاء بالعقد ترتّب الأثر على حسب ما قدر في الشرع من أحد هذه الوجوه ، فلا ينافي وجوب الوفاء بمقتضى العقد لشرعية السبب الرافع وزوال الأثر به ، وينقدح من هذا أن الآية لا تدلّ على لزوم العقد ، بل على مجرّد تأسيس الصحّة ، وإن أفاده الاستصحاب عند الشك في السبب المزيل ، وأنّ الصواب هو التفسير الثاني مع ما في الأخيرين من تجوّز بعيد يدفعه الأصل.

المطلب الثالث : في بيان ما يقتضيه الأصل من لزوم الصيغة أو عدمه في المعاملات ، ثم ما يقتضيه على تقدير اللزوم في شرائطها من الخصوصيات والكيفيات الخاصّة ، فهنا بحثان :

البحث الأوّل : في أنّه هل يلزم الصيغة أو يكفي المعاطاة.

فنقول : قد تبيّن في المطلب الأوّل أصالة فساد العقود والمعاملات أوّلا ، وفي الثاني انقلاب هذا الأصل في العقود الموظفة المعلومة بأجناسها إلى أصل الصحّة ، وعلى هذا فالشكّ إن رجع

__________________

(١) كذا.


إلى نفس الماهيّة وصدقها على محلّ الشكّ يحكم بالفساد ، لعدم ما يخرج به عن الأصل الأوّلي ، وإن رجع إلى الخصوصيات والكيفيات الزائدة يحكم بالصحة.

فالمعاملة الشرعية ، إمّا يكون ممّا علم مدخلية الصيغة المخصوصة في انعقاده كالنكاح والطلاق ونحوهما ، أو يعلم عدمها كالعارية ونحوها ، فلا كلام. وإن شكّ فيها أو في مطلق اللفظ ، فإمّا يعلم أن ماهيّته الموظفة غير معناه اللغوي كاللعان والظهار ونحوهما ، سواء علم لها حقيقة شرعية أم لا ، أو لا يعلم ذلك. وعلى الثاني ، فإمّا ليس هنا إطلاق لفظي من الكتاب أو الأخبار دلّ على شرعيته ، أو فيه إطلاق كذلك.

مقتضى الأصل في جميع الصور الفساد عدا الأخيرة ، إذا الشكّ في غيرها يرجع إلى نفس الماهيّة وصدق الموظفة على المجرّد عن الصيغة ، سيما على قول من يجعل المعاملة نفس الإيجاب والقبول ، وفي إطلاق العقد على المعاملة في عرف المتشرعة إشعار بالمدخلية ، فإنّ الصيغة بمنزلة عقدة الحبل يشدّ به عهد المتعاملين ، ولذا شاع استعمال العقد في الصيغة.

ويؤيده ما ذكره بعض المحققين في حكمه بتوقّف انعقاد المعاملات عليها ، من قصور الأفعال عن المقاصد الباطنية ، كالتمليك والتملّك والإنشاء والرضا ، وغايتها إفادة مطلق الظنّ ، ولا يغني (١) بعموم المنع (٢) والاتّفاق على توقف الأسباب الشرعية على العلم أو الظنّ المعتبر شرعا ، ومن أنّ المعاملات شرعت لنظام أمر المعاش ، وهي مثار الاختلاف ومنشأ التنازع والتراجع ، فيجب ضبطها بالأمر الظاهر الكاشف عما في الضمير ، وإن كان نقضا للغرض الداعي إلى وضعها في الشريعة ، والقيّم بذلك هو البيان المعبّر عمّا في الضمير بسهولة دون غيره ، ولذا قرن سبحانه هذه النعمة بنعمة الإيجاد في محكم الكتاب وقد جرت عادة الشارع في جميع المواضع

__________________

(١) مطلق الظنّ ( خ ).

(٢) أي بسبب عموم المنع.


بإناطة الأحكام بأسبابها الظاهرة ، والكشف عنها في مقام الالتباس بالطرق المعهودة الميسّرة لعامة الناس ، وجعل المدار في المعاملات على العقود ، انتهى.

وأمّا في الأخيرة فمقتضى أصل الحقيقة الحمل على المعنى اللغوي على كون بيان الشرع بتقرير ما تداول بين الناس قبل الشرع ، كما تقدّم بيانه ، فيقتضي الإطلاق عدم اشتراط الصيغة إلّا أن يدلّ دليل على الاشتراط في الصحّة أو اللزوم ، كما لعله الإجماع في اللزوم ، كما سنشير إليه ، وذلك كالبيع الذي دلّ على شرعيته إطلاق قوله سبحانه ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) ونحوه ، المحتمل لكونه باقيا على معناه اللغوي والعرفي ، الذي يعمّ مجرّد التقابض لقصد البيع الخالي عن الصيغة ، للتبادر وعدم صحّة السلب المثبت للغة ، بضميمة أصل عدم النقل.

ومن هذا نشأ الخلاف المشهور في صحّة المعاطاة في البيع وعدمها ، بل مال بعض المحققين إلى لزومها ، وحيث طال فيها التشاجر والتنازع ، رأيت أن أبيّن جليّة الحال فيها ، فنقول : اختلفوا في التقابض والمعاطاة على وجه المعاوضة من دون صيغة على أقوال :

الأوّل : أنّه بيع لازم نسب إلى المفيد فيما قال : « وينعقد البيع على تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعا ورضيا بالبيع وتقابضا وافترقا بالأبدان » (١).

وفي المسالك (٢) إلى بعض معاصريه إلّا أنّه اشترط كون الدال على الرضا لفظا.

واختاره من متأخري المتأخرين المحقق الأردبيلي (٣) ووالدي العلّامة (٤) ، وفاقا

__________________

(١) المقنعة : ٥٩١.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ١٤٧.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٨ : ١٣٩.

(٤) مستند الشيعة ٢ : ٣٦١.


من أهل الخلاف لأحمد بن حنبل ومالك مطلقا ، ولبعض الحنفية والشافعية وابن شريح في الحقير (١).

وأنكر بعضهم كونه قول المفيد ناقلا هو وغيره الإجماع بل ظاهر المذهب على خلافه ، بل وربما نسب إليه اعتبار اللفظ المخصوص في البيع وعدم كونه بيعا عنده.

وفي المختلف (٢) : « للمفيد قول يوهم الجواز » ، ثم حكى كلامه المتقدّم ، وقال : « ليس في هذا تصريح بصحّته إلّا أنّه يوهم ». والإنصاف أنّه غير خال عن الظهور في الصحّة وإن لم يكن صريحا.

الثاني : أنّه بيع غير لازم ، ذهب إليه المحقق الكركي (٣) وجماعة (٤) ، بل ظاهر الأوّل الإجماع عليه ، حيث قال : « المعروف بين الأصحاب أنّها أي المعاطاة بيع ، وإن لم يكن كالعقد في اللزوم ، خلافا لظاهر عبارة المفيد ، ولا يقول أحد من الأصحاب أنّه بيع فاسد سوى المصنف في النهاية (٥) وقد رجع عنه في كتبه المتأخرة عنها ، وقول الله تعالى ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٦) يتناولها ، لأنّها بيع ، للاتفاق حتى من القائلين بفسادها ، وعليه يتنزّل القول بإفادتها الإباحة لوجوه ذكرها في جامع المقاصد (٧).

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ٢ : ١٥٦ ؛ الروضة للنووي ٣ : ٣٣٦ ؛ فتح القدير ٦ : ٢٥٢ ؛ المغني لابن قدامة ٣ : ٥٦٢ ؛ حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء ٤ : ١٣.

(٢) مختلف الشيعة ٥ : ٥١.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٤) تحرير الأحكام ١ : ١٦٤.

(٥) نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٩.

(٦) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٧) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.


الثالث : أنّه ليس بيعا وإنما يفيد إباحة محضة ، اختاره في المبسوط (١) والخلاف (٢) والسرائر (٣) والتنقيح (٤) والغنية (٥) والمسالك (٦) والدروس (٧) والروضة (٨) وفي الخامس : الإجماع عليه ، وفي المستند (٩) : المشهور عدم كونه بيعا ، وفي الأوّلين : كاد أن يكون إجماعا ، وإن لم يتحقّق منهم منع إفادته الملك.

الرابع : أنّه بيع فاسد ، نسب إلى الفاضل في النهاية (١٠).

الخامس : أنّه معاملة مستقلّة مفيدة للملك المتزلزل ، مال إليه بعضهم وهو محتمل به.

هذا ما تحقق لي من الأقوال ، وقال بعض مشايخ من عاصرناه : « إنّ محلّ النزاع غير محرّر ، وكلماتهم فيه مشتبهة أو مختلطة ، بل ربما ترى منهم نقل الإجماع على طرفي الضدّ حتى من فقيه واحد ، فإنّ النزاع إن كان في المعاطاة مع قصد البيع ، فهي على القول باشتراط الصيغة معاملة فاسدة ، كما نسب القول بها إلى النهاية (١١) ، لأنّها

__________________

(١) المبسوط ٢ : ٧٦.

(٢) الخلاف ٣ : ٧.

(٣) السرائر ٢ : ٢٤٤.

(٤) التنقيح الرائع ٢ : ٢٢.

(٥) غنية النزوع ١ : ٢١٤.

(٦) مسالك الأفهام ١ : ١٣٣.

(٧) الدروس الشرعية ٣ : ١٩٢.

(٨) الروضة البهية ٣ : ٢٢٢.

(٩) مستند الشيعة ٣ : ٣٦١.

(١٠) نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٩.

(١١) نفس المصدر.


تابعة بما اتفقاه ، فلا يفيد الإباحة ، كما أشار إليه الكركي (١) في نفي الاشتراط ، قائلا : « بأنّ المقصود من المتعاطيين إنّما هو الملك ، فإذا لم يحصل كانت فاسدة ، ولم يجز التصرف في العين ، وكافة الأصحاب على خلافه ». انتهى.

وعلى القول بعدم اشتراط الصيغة كانت بيعا صحيحا ، فلم يبق للقول بالإباحة المشهور بينهم محلّ في المسألة.

وإن كان الخلاف فيها مجرّدا عن قصد البيع فهي ليست بيعا قطعا ، ويفيد الإباحة قولا واحدا ، إذ الظاهر عدم الخلاف في مشروعيته حينئذ ولو على جهة المبادلة ، وأيضا لم يتحقّق منهم أنّ الخلاف في المعاطاة هو فيما يتحقّق فيه سائر شرائط البيع عدا الصيغة ، كما هو صريح المسالك (٢). ولازم كونه بيعا ، أو يعمّ غيره ، كما هو لازم تعليقهم الإباحة بحصول التراضي ، مضافا إلى ما نقل عنهم من عدم اشتراط قبض المجلس في معاملة النقدين في المعاطاة.

وعن الشهيد في القواعد (٣) تجويز جهالة العوضين فيها ، وأيضا قولهم بأنّ المعاطاة بيع صحيح أو فاسد أو إباحة مطلق في المقام ، مع أنّ جماعة ذكروا فيه وغيرهم في غيره : أنها تأتي في غير البيع أيضا من العقود المعوضة العينية كالصلح والهبة المعوّضة ، ونحوهما. انتهى كلامه. أقول : هذه الإشكالات لا محلّ لها ، فإنّ النزاع في إمكان إيقاع البيع على وجه المعاطاة وعدمه ، فمن قال بالأوّل ، وهو من لم يشترط الصيغة ، يقول باشتراط قصد البيع وسائر الشروط عدا الصيغة عند إرادة البيع بها ، ومن قال بالثاني لا يجوز قصده منها ، ويقول : لا يصلح لغير الإباحة ، وإن لم يستجمع شرائط البيع فلا يقصد منها البيع ، وهكذا في سائر العقود.

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ١٤٧.

(٣) لم نقف عليه ، ولكن بحث عن الغرر في القواعد والفوائد ٢ : ٦١.


نعم ، هنا كلام آخر ، هو أنّه على كفاية التقابض في البيع ، فهل يلزم قصد البيع منه ، أو ينصرف إليه مجرّدا عن القصد؟ وسنشير إليه في آخر البحث. وكيف كان ، فالأقوى عدم اشتراط الصيغة في الصحّة ، وإفادة مطلق الملك ، واشتراطها في اللزوم.

أمّا الأوّل ، فلوجوه :

أحدها : إطلاق البيع في العرف والعادة على التقابض بقصد التمليك بغير الألفاظ المخصوصة المقصودة بها إنشاء البيع إطلاقا شائعا لا يصحّ سلبه عنه ، فيثبت به الحقيقة عرفا ، وبضميمة الأصل ، لغة ، فيحمل عليه ما في الكتاب والسنّة ، لعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، بل الظاهر كما عليه الإجماع في المصابيح عدمها ، فيتناوله عموم قوله تعالى ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (١) ونحوه ، مثل ما في صحيح جميل وغيره : « من ابتاع شيئا فهو له » (٢).

وثانيها : جريان السيرة القطعية المستمرّة على معاملة المأخوذ حسب المعاطاة معاملة الأملاك عينا وثمنا في جميع التصرّفات التي منها ما لا يصحّ وقوعه إلّا من المالك ، كالنقل والعتق ووطء الجارية ونحوها ، وغير التصرّفات ، كالإرث والفقر والغنى واستطاعة الحج والزكاة والخمس وغيرها ، معتضدا بنقل الإجماع المتقدّم عن الكركي (٣) والظاهر من غيره على كونه بيعا.

وثالثها : الإجماع القطعي على إباحة التصرف بها ، ولم ينقل الخلاف فيها إلّا عن الفاضل في النهاية (٤) ، وقد رجع عنه في كتبه المتأخرة (٥).

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٢) لم نقف عليه بهذه العبارة.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٤) نهاية الإحكام ٣ : ٤٤٩.

(٥) مختلف الشيعة ٥ : ٣٤٨.


والإباحة هنا دليل الملك ، إذ المالك إنما أباحه بقصد الملك ، فلو لم يحصل الملك لم يبق الجواز.

واحتمال كونها معاملة مستقلّة يدفعه الأصل ، كما ستعلم ، مضافا إلى عدم قصده المتعاطي ، بل المعلوم من أحوال الناس في المعاملات المتداولة بينهم على سبيل المعاطاة في الأسواق وغيرها قصدهم التمليك على جهة المبايعة.

ومن هذا يظهر وجه آخر ، وهو أنّ الصيغة لو كانت شرط الصحّة شرعا كانت تلك المعاملات المعاطاتية بيوعا فاسدة غير مجوّزة للتصرف ، لعدم كون الصيغة دخيلا في تحقّق المسمى اللغوي ، كما تبين ، ولا له حقيقة شرعية ، وكونها كذلك غير منقول من أحد من العلماء كما مرّ.

ورابعها : أنّه لو لم تفد المعاطاة الملك مع ما فيها من الشيوع واشتهار العمل على الملك بما لا مزيد له في جميع الأعصار والأمصار قديما وحديثا لوجب صدور المنع عنه من الأئمة ، بل تكرّره وتوافره ، ولو صدر لوصل إلينا ، لتوفر الدواعي ، فعدمه دليل العدم ، بل الثابت منهم بتقريرهم المعلوم لنا قطعا خلافه.

وخامسها : أنّه لو كانت المعاطاة للإباحة المحضة دون الملك لما اشترط فيها تعيين المبتاع ، كما في الإباحة المجّانية ، مثل نثار العرس ، والظاهر أنّهم لا يقولون به ، ويؤيّد المطلوب بل لا يبعد جعله دليلا اتفاقهم على اللزوم بعد التصرف المتلف ، لاستبعاد كون تلف المال مملّكا للعوض المسمّى ، خصوصا مع حصرهم النواقل المملّكة فيما ليس هو منه.

وأمّا الثاني ، أي اشتراط الصيغة في اللزوم ، فلوجهين :

أحدهما : ظهور الإجماع المعتضد بسيرة الأصحاب في المحافظة على ذكر الصيغ الخاصّة وضبط ألفاظها والمداقة فيها واهتمامهم في ذكر الخلاف في


خصوصيات الصيغة ، من غير إشارة إلى الخلاف في أصلها ، ولا ذكر دليل عليه ، المشعر بكونه منزلا عندهم منزلة المسلّمات القطعية ، بل قيل أنّه من الضروريات التي استغنت بذلك عن ذكرها في النصوص وغيرها ، كما يؤمي إليه خلوّه عن ذكره فيما لا إشكال في اعتبارها فيه ، كالنكاح والطلاق ونحوهما.

ولم ينقل الخلاف فيمن تأخّر إلّا عمّن ذكر (١) ، والإجماع منعقد من قبله ، وعن بعض معاصري الشهيد الثاني ، وهو مع شرطه مطلق اللفظ محافظة على حصر التمليك والتحريم بالكلام ، للخبر الآتي القاصر عن إفادته ، لا شريك له ظاهرا ، ومتروك بالشذوذ فيمن تقدّم عن غير المفيد ، وكلامه كما ترى غير صريح فيه لظهوره في بيان شرائط صحّة البيع ولزومه ما لا ينعقد به (٢) ، وترك تعرّضه للتعويل على معلومية اعتبارها ، كما لم يتعرّض لها في مثل النكاح والطلاق أيضا ، ويقوّي ذلك نقل بعضهم (٣) عنه اعتبار اللفظ في البيع.

وثانيهما : استصحاب عدم اللزوم ، فإنّ اللزوم قيد وجوديّ زائد على مطلق الملك ينفيه الأصل ، ولا هكذا تزلزل الملك ، فإنّه لازم الماهيّة أعني مطلق الملك ، من قبيل الماهيّة في مسألة المرة والتكرار في الأمر الموافقة للمرّة.

لا يقال : إنّ الملك بنفسه مقتض لبقائه ، لا يرتفع إلّا برافع ، فارتفاعه به ـ وهو معنى التزلزل ـ أمر جديد يحتاج إلى جعل شرعيّ ينفيه الأصل.

لأنّا نقول : زوال الملك وانفساخه برجوع المالك ، قد يكون من جهة تزلزل الملك وعدم تماميته وعدم ارتفاع سلطنة المالك بالمرة في مقابل المستقر ، فكان

__________________

(١) المقنعة : ٥٩١.

(٢) لا ما ينعقد به ( صح ظ ).

(٣) مسالك الأفهام ٣ : ١٤٧.


بحيث له الرجوع متى شاء ، كما في محل البحث ، ويؤمي إليه إطلاق التزلزل عليه دون الخيار ، وإلى ما ذكرنا ينظر ما قيل من أنّ الملك مقول بالتشكيك قابل للشدة والضعف ، وقد يكون لدليل خارج عن مقتضى المعاملة من شرط أو جبر ضرر أو تعبد ، كما في الخيارات.

والمقتضي لجواز الرجوع في الأوّل هو نقصان الملك ، فليس بأمر زائد عن مطلق الملك ، وإن كان زواله من أثر الرجوع ، بخلاف الثاني.

فإن قلت : لا شبهة في أنّ زوال مطلق الملك أمر متجدّد مسبّب عن الرجوع ومقتضى الاستصحاب بقاؤه وعدم زواله به عند الشك.

قلت : حيث ثبت بالاستصحاب المتقدّم اقتضاء الملك المستفاد من المعاطاة جواز الرجوع وزواله به ، ينتقض به استصحاب البقاء ، ويكون تعارض الاستصحابين من باب تعارض المزيل والمزال ، إذ الأوّل سبب لزوال مقتضى الثاني دون العكس ، بل هو على تقدير ثبوته كاشف عن خلاف السبب مقدّم على الكاشف كما حقّقناه في مقامه ، فهو من قبيل ما إذا وجدت رطوبة في الثوب محتملة للقلّة التي يتجفّف في ساعة ، والكثرة التي لا يتجفّف فيها ، فشكّ بعد الساعة في حصول الجفاف ، فإنّه يبنى فيها على استصحاب عدم الكثرة المقتضي للجفاف ، لا استصحاب الرطوبة الكاشفة عن الكثرة.

واحتجّ من اشترط الصيغة لمطلق الملك بوجوه :

منها : ما في عدة أخبار باختلاف يسير ، إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام (١).

والجواب : أنّ المقصود بالاستدلال ، إن كان مطلق الحلّ ، فهو يحصل بالإباحة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٤٨ ، الباب ٨ من أبواب أحكام العقود ، الرواية ٢٣١١٤ ؛ الكافي ٥ : ٢٠١ ؛ التهذيب ٧ : ٥٠.


التي يكتفي فيها بالأفعال وإذن شاهد الحال إجماعا ، وإن كان الحلّ على وجه الملك فلا يساعده اللفظ ، وموارد التعليل به في الأخبار غير دالّة عليه ، بل هي في إرادة دوران اللزوم بالكلام دون الصحة ، كما فهمه صاحب الوافي (١) أوفق وأظهر ، مضافا إلى أنّ مطلق الكلام أعمّ من الصيغة الشرعية ، وتخصيصه بها ليس أولى من التقييد بما إذا انحصر طريق فهم المراد والقصد باللفظ ، ويمكن أن يكون ذكر الكلام من باب التغليب ، والمقصود ما يفهم منه القصد والرضا.

ومنها : ظهور الاتفاق على جريان حكم البيع الفاسد على البيع بالصيغ الباطلة ، ولو أنّ المعاطاة كانت بيعا لزم كونه صحيحا بالصيغة الباطلة ، لخروج الصيغة عن حقيقته.

والجواب : أوّلا أنّ إفادة المعاطاة الملك على القول بها إنّما هي إذا قصد بالتقابض البيع ، فإذا اقترن بالصيغة لم يقصد به إنشاء البيع فلا يحصل الملك بالتقابض حينئذ قولا واحدا ، سيما إذا تأخّر التقابض عن الصيغة ، فإنّه يكون حينئذ من باب تسليم مال الغير إليه ، بل يقصد البيع حينئذ بنفس الصيغة ، فإذا فسدت لم يؤثر هي في الملك أيضا ، فلا يحصل الانتقال أصلا.

والحاصل : أنّ البيع عند القائل بالمعاطاة قسمان :

قسم فيه إنشاء النقل بالصيغة وآخر بالتقابض ، فإذا قصد الإنشاء بالأوّل لزم كون الصيغة صحيحة.

وثانيا أنّه لو سلّم ذلك فهو يرد على القول بالملك اللازم ، إذ على القول بالمتزلزل كان اللزوم أثر الصيغة ، فإذا فسدت لم يلزم ، وحيث إنّ المقصود بالمعاملة إذا اقترنت بها ، الملك اللازم وعليه التراضي ، فإذا بطلت بطل أصل المعاملة.

__________________

(١) الوافي ١٨ : ٧٠٠ ، الرواية ١٨١٤٤.


ومنها : إطلاق كلامهم في تحقّق البيع بإشارة الأخرس ونحوه على وجه يكون كالبيع بالصيغة من غير إشارة إلى تبعيتها للعقد كالمعاطاة.

والجواب أنّ إشارة الأخرس تابعة لقصده ، فإن قصد بها العقد يتبعه حكمه ، ويكون البيع لازما ، وإلّا يتبع المعاطاة ، وغرضهم من الإطلاق بعد ذكر العقد هو الأوّل.

ومنها : فحوى ما دلّ على عدم جواز المعاطاة في النكاح والطلاق.

والجواب أنّه قياس باطل ، كما أنّه يجوز شرط الخيار فيه دونهما ، مع أنّه يعارضه القياس بالعقود الجائزة.

ومنها : ما في الدعائم (١) : « ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) في البيع والشراء والنكاح والخلع والصدقة ».

والجواب قصوره عن المدّعى سندا ودلالة من وجوه لا تخفى.

ومنها : معلومية اشتراط الصيغة من سيرة الأصحاب على ما أشرنا إليه.

والجواب أنّ المعلوم منها اشتراطها في البيع اللازم دون الصحيح المتزلزل.

حجّة من ذهب إلى إفادة المعاطاة اللزوم ، ولم يشترط الصيغة صدق البيع والتجارة عن تراض على المعاطاة في قوله عزوجل ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٢) و ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (٣).

وإطلاق الأخبار النافية للخيار ، منطوقا ومفهوما عما يصدق عليه البيع ، كقوله عليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » وقوله : « وإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما » ، أو « فقد وجب البيع » (٤) ونحوها من أخبار خيار الشرط والعيب.

__________________

(١) دعائم الإسلام ٣ : ٥٣ ، الفصل ٥ من كتاب البيوع والأحكام فيها.

(٢) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٣) النساء (٤) : ٢٩.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ : ٦ ، الباب ١ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠١٣.


والجواب عن الآيتين عدم الدلالة على اللزوم ، بل على مجرد الصحّة ، وعن إطلاق الأخبار بظهوره في إرادة الخيار من حيث المجلس أو الشرط أو العيب ، وبالجملة هو في بيان سببية تلك الأسباب للخيار ، وهو لا ينافي ثبوته في بعض أفراد البيع لجهة أخرى ، فهو من قبيل إن قبضت في المجلس صحّ الصرف ، مع أنّه يمكن فساده من جهة أخرى ، فإنّ غرض المتكلّم من مثل هذا الكلام على ما هو المتبادر والمنساق إلى الأذهان من السياق بيان مجرد شرطية الأوّل للثاني ، مع الفراغ عن وجود سائر أجزاء العلّة.

تتميمات :

الأوّل : المعاطاة يمكن تصويرها على وجوه :

أحدها : أن يقصد بها الإباحة بعوض والتسليط على التصرف كيف شاء ، ولو بالإتلاف من غير تضمين ، دون الملك ولا شبهة في مشروعيتها حينئذ على وجه المبادلة ، لعموم « الناس مسلطون » (١) وحلّية مال المرء بطيب نفسه ، ولا خلاف فيه ظاهرا ، ولا في عدم إفادتها الملك ، ولا في عدم ضمان العوض مع التلف ، كما في الإباحة المجانية في نثار العرس ، ومقتضاها عدم صحة التصرفات المتوقفة على الملك ، كالعتق والوطء والبيع لنفسه ونحوها ، فإنّ مجرّد تسليط المالك ولو على أمثال تلك التصرفات لا يوجب صحّتها شرعا ، بل يتوقف على التوقيف الشرعيّ ، واتفاقهم على صحّته في المعاطاة لا يوجبها في محلّ الفرض ، فإنّ من المجمعين من يقول بإفادتها الملك لكونه بيعا أو معاملة مستقلّة ، وهو مناط صحّة هذه التصرفات الملكية عنده ، فلا يقول بصحّتها في مثل تلك المعاطاة التي لا تفيده اتفاقا.

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ ؛ عوالي اللآلي ١ : ٤٥٧ ، الحديث ١٩٨.


وتوجيه الجمع بين صحّة هذه التصرفات في المعاطاة على القول بعدم إفادتها الملك ، وبين ما دلّ على أن لا بيع ولا عتق إلّا في ملك ، بتقدير الملك ضمنا ، كما يقدّر في : اعتق عبدك عنّي ، وانعتاق العمودين على المشتري لا شاهد له أصلا ، بل مقتضى الأصول وانحصار النواقل الشرعية في كتب الجماعة فيما ليس منه إرادة التصرف الناقل في مثل محل البحث يدلّان على خلافه ، مع عدم انصراف الملك في قوله : « لا بيع إلّا في ملك » إلى مثل هذا الملك الضمني الذي تقديره بمجرد التقدم الذاتي ، بل المتبادر منه الملك المتعارف في العرف والعادة.

وثانيها : أن يقصد البيع بالمعاطاة أي إرادة النقل البيعي تفصيلا ، كما إذا وقعت المساومة عليه ، أو إجمالا على ما هو المعهود المركوز في المقصود غالبا في معاملات الناس المتداولة في الأسواق على سبيل المعاطاة ، والمتّجه حينئذ كونها بيعا صحيحا غير لازم ، على ما اخترناه بالأدلّة المتقدمة ، فيعتبر فيها جميع ما يعتبر في البيع ، لعموم ما دلّ عليه الشامل لمحل الفرض ، وبيعا فاسدا على المحكيّ عن الفاضل في النهاية (١) ، بل هو لازم قول جميع القائلين بمدخلية الصيغة في صحّة البيع ، فإطلاق كلام هؤلاء في إفادتها الإباحة الشامل للفرض ، خصوصا على تسليم بعضهم صدق البيع عليها لغة وعرفا ، غفلة واضحة ، بل عليهم حجّة صريحة ، كما مرّت إليه الإشارة. فإنّ حرمة التصرف في المأخوذ بالمعاملة الفاسدة وضمان ما يقبض بها من المسائل الإجماعية ، والتعاطي مع تقييده بقصد البيع لا يفيد الإذن المطلق المجوّزة للتصرف ، مع فرض عدم حصول المقصود ، سيما مع الجهل بالفساد.

ومن هذا يظهر فساد ما قيل ، بل نسب إلى المتأخرين من أنّ محل النزاع ومجرى الأقوال من الإباحة والبيع المتزلزل والبيع الفاسد ما قصد به البيع ، مع وجود جميع شرائطه عدا الصيغة.

__________________

(١) نهاية الإحكام ٣ : ٤٤٩.


وثالثها : ما قصد به المعاوضة على وجه مطلق ، من غير قصد البيع أو الإباحة المحضة ، بمعنى عدم الالتفات إليهما لا تفصيلا ولا إجمالا ، والظاهر أنّ حكمه حكم الأوّل ، فيحصل به الإباحة دون الملك ، أمّا على عدم اشتراط الصيغة في الصحّة ، فلحصول الإباحة على الوجهين ، وتوقّف الملك على قصد البيع ، وأمّا على اشتراطها ، فلحصول الإذن المجوّز للتصرف والمنافي له عند المشترط قصد البيع ولم يقع ، وإن لم يقصد عدمه أيضا ، ومن هذا يظهر عدم اشتراط وجود سائر شرائط البيع حينئذ في حصول الإباحة مطلقا.

ورابعها : أن يقصد بها الملك المطلق ، وهو كما قيل لا ريب في فسادها عند من يشترط الصيغة الخاصّة في تلك المعاوضة لإفادة الملك ، لانتفاء الشرط ، فينتفي به المشروط ، فلا يحصل به الإباحة أيضا حسب ما مرّ ، وأمّا عند من لم يشترطها ، ففي صحّته وتنزيله على البيع بناء على أنّه الأصل في نقل الأعيان ، ولا يخرج عنه إلّا بقصد غيره ، كما أنّ الإجارة أصل في نقل المنافع مقدمة على الصلح والجعالة ، كما عن بعضهم ، أو تنزيله على الهبة المعوضة ، كما عن آخر ، أو هو معاوضة ناقلة مستقلة ليست تحت شي‌ء من المعاوضات المعروفة ، كما يظهر عن ثالث. أو إفادته الإباحة دون الملك ، أو فساده مطلقا ، احتمالات ، أظهرها الأخير ، لإمكان المناقشة ؛ في الأوّل : بمنع الأصل وخلوه عن الدليل ، فلا ينزل العام على الخاص إلّا بقصده ، ولذا لا يكتفي في صيغة البيع بمثل ملكتك.

نعم ، لمّا كانت المعاملات العينية المعاطاتية بين الناس يقصد بها البيع غالبا في عاداتهم ، كما أشير إليه إذا قصد بالنقل ما تداولت عليه تلك المعاملات جريا على عادتهم ، وإن لم يلتفت إلى خصوص البيع تفصيلا ، أمكن التنزيل عليه ، وما ذكرناه من الفساد في تلك الصورة إنما هو إذا لم يمكن تطبيق القصد ، ولو جريا على العادة المتداولة في المعاطاة على البيع ، فكان القاصد كالمتردّد بين خصوصيات المعاوضات.


ومن هذا يظهر فساد الثاني أيضا.

وفي الثالث : باستدعائه التوظيف الشرعي والدليل عليه ، بل قيل : حصر الأصحاب النواقل في ما ذكروه من الأمور المخصوصة يقتضي خلافه ، والاستناد إلى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يندفع بما عرفت من كونه محمولا على العهد ، ومع ذلك صدق العقد على المعاطاة محلّ إشكال ، ودعوى السيرة المستمرّة على استقلال المعاطاة في التمليك واهية ، لما عرفت من صدق البيع عليها مع القصد لغة وعرفا ، فالسيرة لو كانت ، فمن تلك الجهة ، وإلّا فلا سيرة على الملك.

وفي الرابع : بكونها مقيّدة بقصد الملك فينتفي بانتفائه.

الثاني : هل يختصّ المعاطاة بالبيع ، أو يعمّ سائر العقود اللازمة ، عدا مثل النكاح والطلاق وأشباههما المتفق على بطلانها فيها؟

صرّح بالعموم المحقق القمي (١) لدخولها في عموم ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (٢) ، و « الناس مسلطون على أموالهم » (٣).

وقد يلحق به بعض ما هو إيقاع كالشفعة والإبراء وفسخ الخيار ونحوها مما يصدق على المعاطاة فيها اسم تلك المعاملة ، لإلحاق المعاطاة بها حينئذ بصدق الاسم ، فيلحقها حكمها عدا ما كان من لوازم الصيغة كاللزوم.

وحكي عن تعليق الإرشاد (٤) : أنّ من المعاطاة الإجارة ونحوها ، بخلاف النكاح والطلاق ونحوهما ، فلا يقع أصلا ، وبه صرّح في الإجارة بعض أجلّة من عاصرناه.

__________________

(١) جامع الشتات ١ : ١٧٣.

(٢) النساء (٤) : ٢٩.

(٣) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٢ ، الحديث ٩٩.

(٤) حاشية الإرشاد للمحقق الثاني ( مخطوط ) : ٢١٦.


وعن جامع المقاصد (١) : أنّ في كلام بعضهم ما يقتضي اعتبار المعاطاة في الإجارة ، وكذا في الهبة ، وذلك إذا أمره بعمل على عوض معين عمله واستحقّ الأجرة ، ولو كانت هذه إجارة فاسدة لم يجز له العمل ولم يستحق أجرة ، مع علمه بالفساد.

وظاهرهم الجواز بذلك وكذا لو وهب بغير عقد فإنّ ظاهرهم جواز الإتلاف ولو كانت هبة فاسدة لم يجز ، بل يمنع عن مطلق التصرف.

وفي المسالك (٢) ، بعد نقل ذلك : لا بأس به ، إلّا أنّ في مثال الهبة نظرا من حيث إنّ الهبة لا يختصّ بلفظ.

أقول : دعوى جواز المعاطاة في جميع العقود عدا ما استثنى مشكلة ، فإنّ صدق التجارة والسيرة المعتبرة ـ وهما العمدة من أدلّة المعاطاة في أكثرها ـ ممنوع ، وعدم القول بالفصل غير معلوم ، بل في المحكيّ عن الجامع (٣) ـ كما رأيت ـ تخصيصها بالإجارة والهبة ، وعموم : « الناس مسلطون » ، لا يفيد أزيد من الإباحة دون الملك واللزوم بالتلف ، فعدم العموم أقرب ، اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد الدليل ، وهو ما صدق عليه اسم التجارة ، أو علمت فيه السيرة ، أو استحقت المعاطاة اسم المعاملة في العرف واللغة ، مع وجود ما يقتضي صحّة مطلق تلك المعاملة ، كما في معاطاة الهبة ، فإن صحّتها مقتضى الدليلين الأخيرين (٤) ، فيجوز فيها العمل بمقتضى الملك ، كوطء الجارية ، كما في هدايا السلاطين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنها المارية القبطية ، ونحوها القرض والإجارة على احتمال قويّ ، فيستحق بها الأجرة المسمّاة ،

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٥٩.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ١٥٢.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٥٩.

(٤) وهما ما علمت فيه السيرة أو استحقّت المعاطاة اسم المعاملة في العرف واللغة.


كما عليه السيرة في الأجراء والأكرة (١) ، ولو كانت إجارة فاسدة لم يستحقّ الأجرة مع علمه بالفساد ، ولا المسمّاة مطلقا ، وكذا معاطاة الصلح والهبة المعوضة والرهن ونحوها ، مما يصدق عليه اسم التجارة أو المعاملة عرفا ، على إشكال في الأخير ، بل لا ينبغي ترك الاحتياط في الجميع ، وفي مثل الوقف ونحوه يتّجه العدم ، وتفصيل الحال في كيفية الاستدلال في كلّ معاملة موكول إلى بابها في الفقه.

وكيف كان ، فالظاهر عدم اللزوم في جميع ما صحّت المعاطاة فيه ، للأصل المتقدّم.

الثالث : لا خلاف ظاهرا ، تحقيقا ونقلا في لزوم المعاطاة بتلف العين من الجانبين ، وأمّا من جانب فهو صريح جماعة ، منهم المحقق الكركي (٢) ، بل قيل : لا أجد فيه مخالفا.

وجعله في المسالك (٣) أقوى ، مشعرا بوقوع الخلاف فيه ، ومنعه والدي العلّامة (٤) وفصّل الفاضل القمي (٥) بلزومها على القول بإفادتها الملك المتزلزل دون الإباحة.

وفي المسالك (٦) والروضة (٧) كغيرهما فيما حكي عنه : أنّ في معنى التلف نقلهما عن الملك بوجه لازم ، بل مطلقا كما للوالد الماجد والفاضل المتقدم (٨) وغيرهما ممن عاصرناه.

__________________

(١) جمع الأكّار ، بمعنى الحرّاث.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٣) مسالك الأفهام ٣ : ١٥١.

(٤) مستند الشيعة ٢ : ٣٦١.

(٥) جامع الشتات ١ : ١٧٥.

(٦) مسالك الأفهام ٣ : ١٥١.

(٧) الروضة البهية ٣ : ٢٢٢.

(٨) جامع الشتات ١ : ١٧٥.


وفي إلحاق تلف بعض العين بالكلّ كما عن جامع المقاصد (١) وتعليق الإرشاد احتمالات في المسالك (٢) ، ثالثها اللزوم من العين الآخر في مقابل التالف ، وبقاء الباقي على أصل الإباحة ، وفي الروضة (٣) مال إلى الأوّل.

أقول : الذي يقتضيه النظر لزوم المعاملات المعاطاتية المتداولة بتلف العوضين ، أو الكلّ من البعض ، أو البعض من الكلّ ، ولكن فيما يقتضيه من الملك أو الإباحة على اختلاف القولين.

بيان ذلك : أنّ شرعية تلك المعاطاة على ما وقعت عليه المراضاة معقد إجماع الفريقين ، ومعنى شرعيتها ترتّب الأثر من الإباحة أو الملك شرعا عليها ، على حسب ما تعاهد المتعاطيان عليه وحيث إنّ مقصودهما الواقع عليه المراضاة ، تسليط كلّ منهما الآخر على التصرف فيما صار إليه كيف شاء ، وإتلافه على ضمان العوض المسمّى ، وكلّ من العوضين مأخوذ بهذا العنوان ، فيقتضي شرعيتها كونه المتعيّن في مقابل الآخر دون عوضه ، مثلا كان أو قيمة ، مع أن التسلط على المطالبة بالعوض ، مع كون التلف بتسليطه ، ينفيه الأصل ، وعلى هذا يصير الملك أو الإباحة على الخلاف لازما بالتلف.

نعم ، إن ثبت الإجماع على حصول الملك بالتلف على القول بالإباحة أيضا ، كما عساه يظهر من القائلين بها ، فيصير ملكا لازما أيضا ، وإلّا فلزم الإباحة.

ومن هنا ينقدح أنّ التصرف المغيّر للعين ، كالمزج والطحن وقصر الثوب وأمثالها يوجب اللزوم أيضا من الجانبين ، إن تغيرت العينان ، ومن جانب من تغيّرت عنده إن

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ١٥١.

(٣) الروضة البهية ٣ : ٢٢٢.


كانت من جانب ، سواء كان التغيّر موجبا للنقص أو لا ، لقضية الشرط بينهما المقتضي للزوم ، وأصالة بقاء الملك للمالك الأوّل على الإباحة ، وبقاء تزلزله على الملك لا تستلزم بقاء سلطنة الرجوع المنافي لغرضهما.

وما عسى ما يتوهّم من الإشكال في المجال ، أمّا على الإباحة فهو أنّها مجرّد الإذن في التصرف والإتلاف على المبادلة ، وهو لا يقتضي رفع التسلط على مطالبة ملكه ، غاية الأمر رجوع صاحب التالف إلى عوضه دفعا للضرر ، وشرعيته لا يقتضي أزيد من جواز التصرف والإتلاف.

ويندفع بأنّ الإباحة الحاصلة من المعاملة المعاطاتية المتداولة عند القائل بها ليست على حدّ مطلق الإذن في التصرفات الثابت جوازه بمثل : « الناس مسلطون » ، بل هي بمعنى صحّة ما وقع بينهما التراضي عليه في المعاملة من آثار الملك وملك النماء وغيرهما ، غير ملك العين ولذا يشترط في صحّتها تعيّن العوضين ونحوه ، وهو غير لازم في مطلق الإذن ، والدليل على شرعيتها بهذا الوجه هو الإجماع القطعي والسيرة المعلومة في جميع الأعصار والأمصار في تلك المعاملات المعاطاتية المتداولة بين الناس ، فإنّهم يعاملون فيها معاملة الأملاك من غير نكير ، غاية الأمر الخلاف في حصول ملك العين أو الإباحة المخصوصة على هذا الوجه ، ومنه اتفاقهم على حصول الملك بالتلف ، والتجأ بعضهم في توجيهه على القول بالإباحة بحصول الملك الضمنى ، من قبيل ملك من ينعتق عليه ، فلا مجال لإنكار شرعيتها وترتّب الآثار عليها ، حسب ما اشترطاه إلّا على القول بكونها بيوعا فاسدة ، وعرفت شذوذه ولا هكذا مطلق الإذن ، فإنّه لا يفيد غير الحلّ في التصرف ، دون ملك الآثار ، وصحّة ما وقع عليه المراضاة.

ومن هذا يظهر أنّ الإباحة التي ذكرناها في الصورة الأولى من صور المعاطاة ،


أي ما إذا قصد بالتعاطي مجرد الإباحة على المبادلة بغير ملك هي من مطلق الإذن ، والمتجه فيها عدم اللزوم مع بقاء أحد العينين أو بعضهما ، وإن علم من قصد المتعاطيين فيها التسليط على التصرّف في ماله على ضمان العوض المسمّى ، لعدم ثبوت شرعيتها بهذا الوجه ، ولا صحّتها على حسب جميع ما وقع الإذن عليه ، إذ ليست معدودة من وجه المعاملات الشرعية ، ولا إجماع ولا سيرة فيها ، فإنّها من الفروض النادرة.

وأمّا على الملك فالإشكال من وجهين :

الأوّل : أنّه كيف يلزم الملك بالتصرف الناقل ويسقط تسلّط المالك على الرجوع مع فرض بقاء العينين ، فيرجع إلى المشتري الثاني بعين ملكه.

وهو مندفع بأنّ المراضاة في المعاطاة وقعت على تسليط كل منهما الآخر على جميع التصرفات حتى التصرف الناقل اللازم ، كما هو المعلوم من الرجوع إلى أنفسنا ، والمفروض صحّتها وشرعيتها كما مرّ ، كيف وإلّا لم يحصل أصل النقل بوقوع الرضا به على هذا الوجه ، مع أنّه خلاف الإجماع والسيرة ، ولازم ذلك على القول بالملك لزوم النقل الثاني.

الثاني : أنّه كيف يلزم الملك المتزلزل بالتلف أو نحوه مع أنّ غاية الأمر أنّ المعاطاة حينئذ كالبيع بالخيار من الجانبين ، ومن المعلوم عدم اللزوم فيه بذلك ولذا ربما يجعل هذه الأحكام المسلمة في المعاطاة من أقوى الشواهد على أنّها للإباحة دون البيع.

وهو مدفوع (١) بأنّ شرعية المعاطاة كما أشرنا إليه إنّما هي على ما وقع عليه التراضي والتعاطي ، وهو المراضاة بعين على عين ، فعلى إفادته الملك المتزلزل إذا

__________________

(١) عبارة النسختين هنا مختلفة وما أثبتناه في المتن موافق لنسخة « س ».


تلف أحدهما ، فتجويز الرجوع ، إمّا مع ضمان عوض التالف ، أو بدونه ، وأيّهما كان فهو خلاف المراضاة والمواضعة من كون العين في مقابل العين لا العوض أو بدونه فالخيار في المعاطاة تابع للعوضين ، ويبقى ما بقيا ، نظير الرجوع في الهبة المنتفي بتلف الموهوب بخلاف سائر الخيارات ، فإنّها تابعة للعقد ، ولازمه رجوع كل من المتعاقدين إلى ماله ، أو ضمان العوض عند وقوع الفسخ المزيل لأثر العقد من حين وقوعه ، وبعبارة أو وجه آخر أثر المعاطاة هو الملك المتزلزل ، بمعنى عدم زوال تمام حقّ المالك من العين ، ولذا قلنا مقتضى الأصل فيها عدم اللزوم وعدم حصول الملكية التامّة المنافية لبقاء حقّ المالك ، غير أنّ العين في مقابل العين ، ومقتضى ذلك عدم جواز رجوع صاحب التالف ، لفوات محلّه ، ولا صاحب الباقي لفوات ما يقابله الموضوع عليه ، بخلاف خيارات العقود ، فإنّ أثر العقد الملك التامّ وإنّما الخيار في فكّ العقد بدليل خارج عن مقتضى العقد ، من شرط أو تعبّد أو جبر ضرر ونحوها ، ولازمه سقوط الأثر من حين الفسخ ورجوع كلّ إلى ماله عند بقائه وضمان من عنده عند تلفه ، فإنّ دليل هذا الخيار لا يختصّ بصورة وجود العين بل يتّبع العقد.

الرابع : المحكيّ عن الشهيد (١) والكركي (٢) وصريح غيرهما كفاية قبض أحد العوضين بالفعل في حصول المعاطاة ، وهي كذلك ، لصدق البيع والتجارة ، فيجري حكم البيع على قبض أحدهما ، بل قيل بجوازها بالألفاظ المقصود بها إنشاء البيع ، غير الصيغة المخصوصة وإن لم يقع قبض من أحدهما ، فيجري فيها حينئذ حكم البيع الغير المقبوض.

__________________

(١) الروضة البهية ٣ : ٢٢٢.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.


وفيه إشكال ، لعدم ظهوره من الدليل المذكور ، وفي المسالك (١) والروضة (٢) التأمل فيها عند عدم التقابض ، لعدم صدق المعاطاة ، لأنّها معاملة يتوقّف على الإعطاء من الجانبين ، وردّ بعدم وجود هذا اللفظ في النصوص ، فلا يتبعه الحكم ، مع أنّه يكفي في صدق المفاعلة المشاركة في الجملة ، وإن لم يتحقّق المبدأ في كل منهما مستقلا ، كما في المتابعة والمرابحة ، فإنّ الفعل يحصل باجتماعهما ، بل لا يبعد القول بحصول التعاطي بمقابلة ما في ذمّة أحدهما الملتزم به للمدفوع.

البحث الثاني : في بيان ضابطة صيغ العقود اللازمة على ما يقتضيه الأصول وعموم الأدلّة.

وليعلم أوّلا أنّ العقد صيغة شرعية لا بدّ لها من متخاطبين ولو حكما يترتّب عليها نقل ملك أو سقوط حقّ أو حلّ فرج أو تسلّط على تصرف ، وهو على ثلاثة أصناف :

لازم من الطرفين باعتبار أصله ، وهو الذي لا يتسلّط على فسخه إلّا لسبب أجنبيّ من شرط أو جبر ضرر أو تعبد على وجه مخصوص ، وذلك البيع والإجارة والصلح والضمان والكفالة والحوالة والسبق والرمي والمزارعة والمساقاة والصدقة والعمرى والحبس والوقف والنكاح والهبة على بعض الوجوه والمكاتبة على الأشهر.

ولازم من أحدهما خاصّة بالأصالة ، وهو الذي لا يتسلّط على فسخه من طرف اللزوم إلّا بسبب أجنبيّ ، وذلك الرهن ، فإنّه لازم من طرف الراهن جائز من طرف المرتهن ، ويوافقه الخلع والمباراة ، حيث إنّ للزوجة الرجوع في البذل ، ومعه كان للزوج الرجوع في النكاح ، فهو في قوّة الفسخ لازم من طرفه جائز من طرفها.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٣ : ١٥١.

(٢) الروضة البهية ٣ : ٢٢٢.


وغير لازم من أحد منهما ، وهو الجائز في أصله ، وحكمه تسلّط كل منهما على الفسخ ، ولا يعرضه اللزوم إلّا بنذر أو شرط وهو القرض والوديعة والعارية والوكالة والجعالة والشركة والمضاربة والوصية والهبة على وجه.

والإيقاع صيغة شرعية يكفي فيها الواحد ، يترتّب عليها قطع أو صلة أو نقل ملك أو استحقاق حقّ أو عقوبة أو سقوط حقّ وهي الطلاق والرجعة والظهار والإيلاء واللعان والعتق والتدبير والأيمان والنذور والعهود والحجر والشفعة والحكم.

وفي مقابل العقد المعاطاة فيما صحّت فيه من المعاملات ، فينعقد بمجرّد التقابض والقبض من طرف على ضمان العوض من الآخر ، فمن لم يقل بإفادتها أثر المعاملة ، كالقول بالإباحة المحضة في البيع ، فعنده ليست من تلك المعاملة ؛ ومن يقول بإفادتها مفاد العقد لزوما أو جوازا فحكمها عنده حكمه ، ومن يقول بإفادتها الملك المتزلزل ، كما هو المختار ، فهو من أقسام المعاملة في مقابل العقد ، وفرقها حينئذ مع العقد اللازم ظاهر وأمّا مع الجائز ، فهو أنّ أثر الجائز هو الملك المستقر ، وللمالك الفسخ ، لدليل خارج ، وأثر المعاطاة الملك المتزلزل ولا يستقرّ إلّا بتلف العين كما تبيّن.

ثم الظاهر الإجماع على أنّ العقد الجائز لا يتعين له لفظ ، بل كل لفظ دال على معناه كاف فيه ، وإن لم يكن عربيا وماضيا ولا من الألفاظ الصريحة في بابه ، ويكفي فيه القبول الفعلي ولا يشترط فيه الاتصال والفورية ونحوها ، ولعلّه يتأتّى فيه الخلاف المتقدم من كفاية المعاطاة وعدمها ، وإن اكتفي بها في الحلّ على اشتراط الصيغة أيضا فيما يفيد التسليط على التصرف أو الانتفاع مطلقا أو مع بقاء العين ، كالوكالة والعارية والهبة الجائزة والقرض ونحوها ، لحصول مطلق الإذن ، وإن لم يترتّب عليه سائر ثمرات العقد ولم يشترط بشروطه ، كما في الوكالة ، فإنّها حيث كانت عقدا يشترط فيها التنجيز والقدرة على الموكّل فيه عند التوكيل وغيرهما ، ولا


يشترط في الإذن المطلق ، وفي الفرض فلا يفيد المعاطاة فيه الملك ، كما لعلّه المشهور ، وإن أفادت الإباحة.

وإذا علمت ذلك نقول : النظر في صيغ العقود اللازمة ، تارة في موادّ الألفاظ ، وأخرى في الهيئات والتراكيب المعتبرة فيها.

أمّا الأوّل : فكلماتهم فيه في جليل النظر لا يخلو عن إجمال ، بل تدافع حتى من فقيه واحد ، كما ستطلع عليه.

قال العلّامة رحمه‌الله في التذكرة (١) : « من شروط الصيغة الصراحة ، فلا يقع بالكناية بيع البتة ، مثل قوله : أدخلته في ملكك ، أو جعلته لك ، أو خذه منّي ، أو سلّطتك عليه بكذا ، عملا بأصالة بقاء الملك ، ولأنّ المخاطب لا تدري بم خوطب » ، انتهى.

ونحوه عن غيره.

قيل مستظهرا من آخرين : إنّ المراد بالصريح ما كان موضوعا لعنوان ذلك العقد لغة أو شرعا ، ومن الكناية ما أفاد لازم ذلك العقد بحسب الوضع ، فيفيد إرادة نفسه بالقرائن ، وقد يبدّل الصريح والكناية بالحقيقة والمجاز ، بل ينسب ذلك إلى العلماء أو أكثرهم ، فيقال : لا ينعقد بالمجازات ، وعن بعضهم عدم الفرق في الجميع بين المجاز القريب والبعيد ، ومقتضى ذلك اشتراط الدلالة الوضعية في انعقاد الصيغة ، وربما يعلّل ذلك بأنّ تشريع العقود لكشف القصود ، بحيث لا يبقى معها مجال التخالف والتجاذب في المعنى المراد ، ولا يتأتّى هذا الفرض إلّا بإيراد الألفاظ الصريحة دون المجاز والكناية ، كالدفع والإعطاء والتسليم والتسليط وأمثالها في البيع ، وإن قصد بها البيع ، ووقعت عليه المساومة ودلّت عليه القرينة ، وأنت خبير بأنّ المجاز مع القرينة الصريحة سيما اللفظية قد يبلغ في الصراحة حدّ الحقيقة.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٦١.


نعم ، إن توقّف في مورد تمايز المعاملات المتشابهة بألفاظ مهياتها الموضوعة لها وأسماءها المتداولة فيها ، كما إذا فرض اشتراكها لغيرها في جميع الآثار المترتبة عليها ، كما أشرنا إليه فيما تقدّم ، كان المتعين حينئذ المعاملة بمقصوده ، إلّا أنه ليس كلّيا ، فيمكن الإشارة في غيره إلى المقصود بآثاره المختصّة.

وربما يظهر من بعضهم بل كثيرهم الاكتفاء في كثير من العقود ـ بل عن قائل في جميعها ـ بالألفاظ الغير الموضوعة لذلك العقد ، وانعقادها بالمجازات والكنايات مع القرائن الدالّة.

وقال في التحرير (١) : « الإيجاب اللفظ الدال على النقل ، مثل بعتك أو ملّكتك أو ما يقوم مقامهما » ، ونحوه المحكيّ عن التبصرة (٢) والإرشاد (٣) وشرحه لفخر الإسلام (٤) ، وظاهره كما قيل حصول النقل بكلّ لفظ دال عليه ، مثل نقلته إلى ملكك وجعلته ملكا لك بكذا ، فيشمل الكنايات ، وقد سبق منعه عنها في التذكرة.

وفي المحكيّ عن المحقق أنّ عقد البيع لا يلزم فيه لفظ مخصوص (٥) ، وعن الشهيد في بعض تعليقاته أنّه جوّز البيع بكلّ لفظ دلّ عليه ، مثل أسلمت إليك وعاوضتك (٦) ، بل قد يدّعى أنّه ظاهر كلّ من أطلق اعتبار الإيجاب والقبول اللفظيّ من دون لفظ خاص ، كالشيخ وأتباعه.

__________________

(١) تحرير الأحكام : ١٦٤.

(٢) تبصرة المتعلمين : ٣١٦.

(٣) إرشاد الأذهان : ٣٥٩.

(٤) الظاهر أنّ المراد من شرح الإرشاد ما هو لبعض تلاميذ فخر المحققين ينقل فيه عن شيخه فخر المحققين. راجع الذريعة ١٣ : ٧٥ ، وهذا الشرح مخطوط حتّى الآن.

(٥) حكاه عنه في كشف الرموز ١ : ٤٤٦.

(٦) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ٤ : ١٥٠.


وعن ظاهر جماعة في الفرض الذي هو عقد لازم عدم اختصاصه بلفظ خاص ، فجوّزوه بقوله : « تصرّف فيه وانتفع به وعليك ردّ عوضه » ، أو « خذه بمثله ».

وعن جماعة في الرهن أنّ إيجابه يؤدّى بكلّ لفظ يدلّ عليه ، مثل قوله هذه وثيقة عندك أو أمسكه بمالك ، وفي الضمان بلفظ تعهّدت المال وتقلّدته وشبه ذلك ، والمزارعة بكلّ لفظ تدلّ على تسليم الأرض للمزارعة.

وعن مجمع البرهان (١) : « لا خلاف في جوازها بكلّ لفظ يدلّ عليه مع كونه ماضيا » ، وعن المشهور جوازها بلفظ الأمر ، نحو : ازرع ، والوقف بلفظ حرمت وتصدّقت ، مع القرينة الدالّة على إرادة الوقف ، مثل أن لا يباع ولا يورث ، مع أنها من الكنايات ، وغير ذلك مما هو ظاهر في الاكتفاء بغير الحقائق في العقود.

وجعل بعض أفاضل من عاصرناه ، الضابط في جميع العقود اللازمة الحقيقة ، ولكن ما تعمّ (٢) لفظ المعاملة ولفظ قرينة المجاز ، وجعله وجه الجمع بين اعتبارهم الحقائق وعدمه ، فيكون المعتبر الدلالة اللفظية الوضعية ، سواء كان اللفظ الدال على إنشاء العقد موضوعا له بنفسه أو مستعملا فيه مجازا بقرينة لفظ موضوع آخر ليرجع الإفادة بالآخر إلى الوضع ؛ إذ لا يعقل الفرق في الموضوع الذي هو مناط الصراحة بين إفادة لفظ للمطلب بحكم الوضع أو إفادته له بضميمة لفظ آخر يدلّ بالوضع على إرادة المطلب من ذلك ، وهذا بخلاف الذي يكون دلالته على المطلب لمقارنة حال أو سبق مقال خارج عن العقد ، فإن الاعتماد عليه في متفاهم المتعاقدين ـ وإن كان من المجازات القريبة جدّا ـ رجوع عما بني عليه من عدم العبرة بغير الأقوال في إنشاء المقاصد ، ولذا لم يجوّزوا العقد بالمعاطاة ولو مع سبق مقال أو اقتران حال يدلّ على إرادة البيع جزما ، انتهى.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٠ : ٩٦.

(٢) كذا.


واستشكل به الاقتصار على المشترك اللفظي ، اتّكالا على القرينة الحالية المعيّنة وكذا المشترك المعنويّ ، لأنّ الانكشاف بغير الأقوال لا يؤثر في النقل والانتقال فلم يحصل هنا عقد لفظيّ يقع التفاهم به.

أقول : لا يخفى ما فيه.

أمّا أوّلا : فلأنّ أكثر ما ذكروه من أمثلة الكنايات الممنوعة يأبى عن هذا الجمع والإناطة بما ذكر ، كيف وقد سمعت من التذكرة التفريع على عدم الانعقاد بالكناية عدم وقوع البيع بقوله أدخلته في ملكك أو جعلته لك.

ومن التحرير وغيره وقوعه بملكتك أو ما يقوم مقامه ، وفي غير البيع انعقاده بما هو أدون من ذلك دلالة عليه ، مع أنّ عبارات المشترطين ظاهرة في كون العبرة بالصراحة والحقيقية باللفظ المستعمل في نفس المعاملة المقصودة الذي يلزم ويقع الإنشاء به ، وكونه دالا عليه بنفسه لا بمعونة قرينة ولو كانت لفظية.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الفرق بالانعقاد وعدمه في المجازات بكون القرينة لفظية أو حالية مما لا يساعده دليل ، فإنّ المناط في الانعقاد ، إن كان إنشاء المعاملة باللفظ الموضوع لها ، فهو غير ما قيل في شي‌ء منهما ، لتجوّز اللفظ المستعمل فيهما ، وإن كان فهمه في الأوّل بمعونة القرينة اللفظية وفي الثاني بالحالية ، وإن كان حصول إنشاء المعنى المقصود باللفظ دون مجرّد النيّة ، فهو ما قيل فيهما ، لحصوله بما استعمل فيه اللفظ واقعا ، لا بما هو طريق فهم المخاطب إياه ، فلا ينتقض بالمعاطاة ، إذ الإنشاء فيها بالفعل دون القول.

ثم أقول : تحقيق الحال على ما يختلج بالبال أنّه لا شك ولا خلاف في أنّ صيغ العقود من الأسباب الشرعية لانعقاد المعاملات وترتّب الآثار والأحكام عقيبها ، وكذا لا خلاف في اعتبار ظهور اللفظ فيها في المعنى المقصود ، وإن اختلفوا في


الاكتفاء بكلّ لفظ دلّ عليه ، كالمحكيّ عن جماعة ، أو لزوم لفظ أو ألفاظ مخصوصة ، كما في المشهور ، بل لعلّه الظاهر من مطاوي كلمات الأصحاب في أبواب العقود ، وإن اختلفوا في بعض الشروط ، بل بعض العقود معقد الإجماع في ذلك ، وكيف كان فمقتضى الأصول فيها كما تقدّم في أوائل البحث الاقتصار على موارد الدليل ، استصحابا لعدم السبب وعدم ترتّب الأثر ، وليس في النصوص ما يعمّ السببية لمطلق الألفاظ المفهمة ولو بالقرينة ، عدا ظاهر عموم قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، وقد علمت أنّه محمول على استغراق أجناس العقود الموظفة المعهودة ، من باب اختصاص مدخول اللام بالمعهود ، أو إشارة اللام إلى العهد بها ، مثل : جمع الأمير الصاغة ، المستغرق في صاغة ملكه أو بلده ، وما يصلح قرينة للعهد لعموم المخاطبين في زمان الخطاب هو شيوع الاستعمال ، وهو مختصّ بالألفاظ الخاصّة الموضوعة لتلك المعاملات لغة أو شرعا ، أو المتداولة فيها بحسب الاستعمال في ألسنة العرف ولو مجازا ، فيقتصر في الاستدلال بالآية على تلك الألفاظ.

ولعلّه يشير إلى ذلك ما حكي عن المحقق الثاني (١) في باب السلم والنكاح في الجمع بين كلمات المانعين عن المجازات والمجوّزين لها ، بحمل المجازات الممنوعة على المجازات البعيدة.

وأظهر منه ما عن المسالك من أنّه يجب الاقتصار في العقود اللازمة على الألفاظ المنقولة شرعا ، المعهودة لغة ، والظاهر أنّ مراده بالمنقولة شرعا هي المأثورة في كلام الشارع.

وعن المحقق الأردبيلي في باب النكاح أنه حكم شرعي حادث ، فلا بدّ له من دليل يدلّ على حصوله ، وهو العقد اللفظي المتلقّى من النص ، ثم ذكر لإيجاب

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٢٠٧.


النكاح ألفاظا ثلاثة ، وعللها بورودها في القرآن.

وعلى هذا فالضابط وجوب إيقاع العقد بإنشاء الألفاظ الدائرة في عرف المتشرّعة في زمان الشارع ، تبعا للسان الشرع ، وهي بعينها عنوانات تلك المعاملات ، فلا ينعقد عقد بلفظ آخر ليس مما يختص به ، والظاهر أنّه المقصود من الصريح الذي اشترطوه ، وتتضح منه أنه لا ينعقد مثلا بيع المنفعة أو الإعارة ، ولا البيع بالهبة المعوّضة ، ولا الوقف بالصدقة وأشباه ذلك ، ولا ينعقد معاملة بما دلّ على لوازمها المختصّة ، ولا بالألفاظ المشتركة ، ولو مع القرينة اللفظية المعينة ، إلا مع تداوله وشيوع استعماله فيه.

ولا يبعد جواز الضمان بالتعهد وما يشبهه ، وبهذا الضابط يتميّز الصريح المعهود ، والذي يتوقّف عليه الانعقاد في كلّ عقد من غيره.

ويمكن الاستدلال على ما قلناه ، أيضا بما ذكرناه فيما تقدّم ، من أنّ تمايز مهيات المعاملات التي جعل الشارع كلّا منها بالأصالة موردا لأحكام كثيرة ، ـ وإن اتّفق اشتراكه في مورد لمعاملة أخرى منها ، على حسب شرط المتعاملين وتعاهدهما ـ يعرف بتمايز ألفاظها المختصّة وعنواناتها المعروفة ، فانعقادها بحقائقها يطلب بإنشاء تلك الأسماء والعنوانات المختصّة بها.

وأمّا الثاني : أعني الكلام في هيئات الصيغ وتراكيبها ، كالعربية والماضوية وتقدم الإيجاب وأمثالها ، فمجمل القول فيها ، أنّ ما شكّ منها في مدخليته في الماهيّة الأعمّ لجنس ما تداول عليه في زمان الخطاب ، لزم الحكم باشتراطه ، اقتصارا بالمتيقّن وعملا بالأصل ، وما علم عدم مدخليته في نفس الماهيّة ، بل كان من الخصوصيات والمقارنات الزائدة المحتملة لكونه شرطا للصحّة ، وكان اسم الماهية صادقا على فاقده منفيّ اشتراطه ؛ لعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وهذا يختلف باختلاف العقود


والشروط ، ولا عناية لنا هنا لخصوص أفراد العقود ، بل هو موكول إلى أبوابها.

والظاهر أنّ ماضوية اللفظ من القسم الأوّل ، فيكون شرطا ، إلّا فيما ثبت خلافه بإجماع ونحوه ؛ لجريان العادة باستعمال الماضي في الإنشاء في العقود ، وصراحته فيه ؛ فإنّ قصد الإنشاء بالمستقبل خلاف المتعارف.

وعن بعضهم الإجماع على عدم الوقوع بالمضارع والاستفهام ، وفي التذكرة (١) الإجماع على عدم وقوع البيع بلفظ أبيعك أو اشتر منّي. وكذا يشترط النطق ، فلا ينعقد بالكتابة والإشارة ، وقيل يصحّ مع العجز ، ولا دليل عليه.

ولا يبعد اشتراط العربية في أكثر العقود أيضا ، لما ذكر ، وعدم اللحن في الإعراب ، بل عربية جميع أجزاء العقد الداخلة في أجزائه في الإيجاب والقبول ، لأنّ غير العربية كالمعدوم ، فكأنّه لم يذكر ، فكان العقد غير تامّ ، ومن يكتفي بظهور اللفظ في المعنى المقصود يلزمه القول بعدم اشتراطه.

وهل يعتبر علم المتكلّم تفصيلا بمعنى الكلام ولو بتلقين غيره وعدم كونه من أهل اللسان ، فيكون فارقا بين معنى أبيع وبعت وأوجدت البيع وغيرها ؛ أو يكفي مجرّد علمه بأنّ هذا اللفظ لإنشاء المعاملة المقصودة ، فيقصد إنشاءها به؟ الظاهر الأوّل ، لأنّ التلفّظ بالعقد ليس من باب التعبّد من قبيل تلاوة القرآن ، كالتلفّظ بمعجمات أوائل السور مثلا ، لأنّ المقصود من تشريع العقد استعمال المتكلّم هذا اللفظ المخصوص في معناه المقصود ، وإرادته منه ، ولا يتمّ ذلك إلّا بفهم المعنى وانطباقه للفظ ، فلا يقال للجاهل بالمعنى المستعمل فيه أنه استعمل اللفظ فيه وأراده منه.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٦٢.


[ المشرق الثاني ]

[ في بيان حكم العقد الفضولي ]

مشرق : في بيان حكم العقد إذا صدر عن غير المالك ومن في حكمه أعني الفضولي وبعض ما يتعلّق بالمقام ، واختلفوا في صحّته ولزومه بالإجازة على قولين : المشهور جوازه في النكاح ، بل عن المرتضى (١) وغيره الإجماع عليه والأخبار فيه مستفيضة ، وهو الأشهر في البيع بين من تأخر ، بل عن جماعة مطلقا ، بل قيل كاد أن يكون إجماعا.

وفي التذكرة (٢) : عندنا ، مشعرا بالإجماع ، وقيل به في سائر العقود أيضا ، بل يظهر من الشهيد في الروضة (٣) عدم القائل بالفرق حيث قال : ولا قائل باختصاص الحكم بهما أي بالبيع والشراء والنكاح فإذا ثبت فيهما ثبت في سائر العقود. نعم ، قيل باختصاصه بالنكاح وله وجه لو نوقش في حديث عروة. انتهى. وقيل باختصاصه بالنكاح وحيث إنّ غرضنا بيان ما تقتضيه القاعدة في عموم العقود ، فلا

__________________

(١) الانتصار : ١٢٢.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٨٦.

(٣) الروضة البهية ٥ : ١٤١.


بحث لنا هنا عن خصوص عقد إلّا فيما صحّ التعدي عنه بعدم القول بالفصل ، فنقول : الأظهر صحّته في العقود مطلقا ، لوجوه :

أحدها : أنّه لا شكّ في عدم توقف صدق اسم المعاملة على مباشرة المالك بنفسه للعقد ، بل يكفي النيابة كما في الوليّ والوكيل. غاية الأمر اشتراط إذنه في الصحة أو في الصدق وهو حاصل بالإجازة ولا فرق في صدق الماهية على فعل النائب في تقدم الإذن وتأخره ، وحيث ثبت صدق الماهية عليه ولو بعد الإجازة كان مقتضى الأصل المتأصّل فيما سبق صحّته إلى أن يخرج عنه بدليل دلّ على الاشتراط.

وثانيها : أنه يصدق عليه تجارة عن تراض فيندرج تحت عموم الآية (١) ، ويتمّ المطلوب في غير عقود التجارة بالإجماع المركب ، لظهور عدم قائل بالفصل وإن قلنا به في خصوص البيع ، بل عرفت من كلام الشهيد عدمه مطلقا. والإيراد عليه بأنّ مدلول الآية كون التجارة ناشئة عن التراضي فيلزم سبقه عليها ، بل ربما يجعل الآية باعتبار الحصر المستفاد من الاستثناء دليلا على البطلان مردود ، بمنع ذلك وصدق التجارة عن تراض على العقد بعد لحوق الإجازة عرفا ؛ إذ نقول التجارة هي مجموع العقد والإجازة ، لكونها من أجزاء علّة الانتقال وإن كانت مؤثرة له بعد حصولها من حينه لا من حينها ، كما تقف عليه عند بيان معنى الكشف ، ولا شك أنّ المجموع المركّب مسبوق بالتراضي ومنه يظهر فساد الاستدلال بالحصر على الفساد مع أنّ الاستثناء منقطع فلا يفيد الحصر.

وثالثها : خبر عروة البارقي (٢) المنجبر ضعف سنده بالشهرة رواية وفتوى تحصيلا ونقلا ، وهو أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاه دينارا ليشتري به شاة ، فاشترى شاتين ، ثم باع

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٩.

(٢) سنن الترمذي ٣ : ٥٥٩ ، الحديث ١٢٥٨ ؛ سنن أبي داود ٣ : ٢٥٦ ، الحديث ٣٣٨٤ ؛ مستدرك الوسائل ١٣ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب عقد البيع ، الرواية ١٥٢٦٠.


أحدهما بدينار في الطريق. قال : فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدينار والشاة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بارك الله لك في صفقة يمينك » وتجويز كون الشراء لنفسه والدينار مأخوذا على وجه القرض اتكالا على الفحوى كما في الإقباض ، أو كون عبارة التوكيل ما يفيد الوكالة العامّة ولم ينقل إلينا مع أنّ الفحوى مجزية في الوكالة مردود ، بظهور كون الشراء بالوكالة سيما بملاحظة تفريع شرائه على توكيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولو لا الاستناد بأمثال هذا الظهور لانسدّ باب الاستدلال بظواهر الكتاب والسنّة ، إذ لا يمكن استقصاء الاحتمال ، وبه يظهر ما في الثاني أيضا ، فإنّ الظاهر كون المحكي تمام ما وقع بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعروة ، مع أنّا لو أغمضنا عنه في البيع الأوّل أو الاكتفاء بالفحوى في التوكيل فالبيع الثاني لا يحتمله ، والعلم بالرضا لا يخرجه عن الفضولي على ما هو المعروف بين الأصحاب ، وإن استشكله بعضهم. نعم ، يكتفى به في جواز الإقباض ، وأما قبض عروة الدينار فهو من جهة استنمائه المشتري.

وربما يناقش بظهور وقوع تلك المعاملة على جهة المعاطاة ، والمناط فيها مجرّد المراضاة ووصول كل من العوضين إلى صاحب الآخر بإقباض المالك أو غيره ولو كان صبيّا أو حيوانا. وإذا جعل التقابض بين فضوليين أو فضوليّ وغيره مقرونا برضى المالكين ، ثم دخل كل من العوضين الى صاحب الآخر ، كفي في صحّة التصرف ، وليس هذا من معاملة الفضولي ، لأنّ الفضولي صار آلة في الإيصال ، والعبرة برضى المالك المقرون به.

وفيه أنّ وصول العوض إلى صاحب الآخر جزء السبب الناقل في المعاطاة ، كما اعترف به المناقش قبل حصول العوض إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المعاطاة ، لم يتحقّق بيع (١) ، وهو ينافي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بارك الله لك في صفقة يمينك » الظاهر في حصوله قبل

__________________

(١) في العبارة إبهام كما لا يخفى.


الوصول ، وعدم كون عروة مجرّد آلة الإيصال ، بخلافه على البناء على الفضولي ، سيما على القول بكون الإجازة كاشفة فيه ، كما هو الحق المشهور.

ثمّ هذا الدليل يختصّ بالبيع ، إلّا أن يعمّم بالفحوى ، سيما مع ما تقدّم من الروضة من عدم القائل بالفرق بينه وبين سائر العقود مؤيّدا بما دلّ عليه النصوص والفتاوى في النكاح.

ويدلّ على البيع أيضا ظاهر الموثق أو الصحيح في قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام في وليدة باعها ابن سيّدها ، خلافا للمحكيّ عن الشيخ في المبسوط (١) والخلاف (٢) والحلّي (٣) والحلبي (٤) وابن زهرة (٥) وفخر الإسلام (٦) ومولانا الأردبيلي (٧) والحرّ العاملي (٨) وصاحب الحدائق (٩) ووالدي العلّامة (١٠) وغيرهم للأصل والإجماع المنقول عن الخلاف (١١) والغنية ، وقبح التصرف في ملك الغير ، واشتراط القدرة على التسليم في البيع المنتفية هنا ، والظواهر الناهية عن بيع ما ليس عنده وعن ما لا يملك.

__________________

(١) المبسوط ٢ : ١٥٠.

(٢) الخلاف ٢ : ١٦٨.

(٣) السرائر ٢ : ٢٧٤.

(٤) الكافي في الفقه : ٣٥٤.

(٥) غنية النزوع ١ : ٢٠٧ و ٢٠٨.

(٦) إيضاح الفوائد ١ : ٤١٦.

(٧) مجمع الفائدة والبرهان ٨ : ١٥٨.

(٨) حيث ذكر في عنوان الباب الأوّل من أبواب عقد البيع وشروطه : « اشتراط كون المبيع مملوكا أو مأذونا في بيعه وعدم جواز بيع ما لا يملكه ».

(٩) الحدائق الناضرة ١٨ : ٣٧٧.

(١٠) مستند الشيعة ٢ : ٣٦٦.

(١١) الخلاف ٢ : ١٦٨.


وخصوص صحيح صفار ، كتب إلى أبي الحسن عليه‌السلام رجل باع قرية فيها قطاع أرضين ، فهل يصلح للمشتري ذلك وقد أقرّ له بكلّها؟ فوقّع عليه‌السلام : « لا يجوز بيع ما ليس عندك وقد وجب الشراء على ما يملك ».

وصحيح محمد بن القاسم : « سألت أبا الحسن الأوّل عليه‌السلام : رجل اشترى من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم ، وكتب عليها كتابا بأنّها قد قبضت المال ولم يقبض فيعطيها المال أم يمنعها؟ قال : قل له ليمنعها (١) أشدّ المنع ، فإنها باعت ما لم تملكه (٢) » (٣). والمستفيضة الناهية عن شراء السرقة والخيانة.

وحيث ثبت بتلك الأدلّة فساد الفضوليّ في البيع ، ثبت في غيره بالإجماع المركب.

ويضعّف الأوّل بما مرّ.

والثاني بندرة القائل ، بل انحصاره في الناقل ، وقليل ممّن تأخّر عنه ، بل الشيخ نفسه على خلافه في النهاية (٤) ، كجماعة ممن تقدم عليه من عظماء الطائفة كالمفيد (٥) والإسكافي (٦) وغيرهما.

والثالث بمنع كون مجرّد الصيغة المعلّقة على إذن المالك تصرفا في ملك الغير ، مع أنّ التحريم ، حيث لم يتعلّق بنفس المعاملة من حيث هي ، كما في الفرض غير مقتضى للفساد على الحقّ.

__________________

(١) يمنعها ( خ ).

(٢) ما لا يملك ( خ ).

(٣) وسائل الشيعة ١٧ : ١٣٤ ، الباب ١ من أبواب عقد البيع وشرائطه ، الرواية ٢٢٦٩٣.

(٤) النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى : ٣٨٥.

(٥) المقنعة : ٥٩١.

(٦) مجموعة فتاوى ابن الجنيد : ١٧٠.


والرابع بوجود القدرة على التسليم بالقوّة القريبة بتحصيل الإجازة فيما إذا علم إمكانه ، وهي كافية ، كبيع الطائر المعتاد عوده ، ويتمّ بعدم القول بالفصل ، مع أنّ القدرة إنّما يشترط في البائع الذي بيده السلطنة والإقباض ، لا في من يجري العقد ، وإلّا لزم بطلان عقد الوكيل المجمع على صحّته ، وعليه ينزّل النهي عن بيع ما ليس عنده.

ويجاب به عن الخامس ، فيحمل على بيع ما قطعت عنه يد مالكه ، أو على عدم كونه ملكا لمن له البيع ، سواء كان عينا شخصيا أو كليا غير مقدور التحصيل عادة ، كما هو ظاهر أكثر ما اشتمل على تلك العبارة ، كالصحيح المتقدم ، وبالجملة المشروط له بحكم التبادر وملاحظة مظانّ الأخبار وسياقها هو من له السلطنة والإقباض ، لا من يصدر عنه لفظ العقد ، فلا يشمل الفضولي المتوقف على إجازة المالك.

وبه يضعف السادس أيضا لقوّة ظهوره في اشتراط الملك لمن له البيع ، لا للعاقد عنه ، بل لا يبعد اختصاص بعضه كقوله عليه‌السلام : « ولا بيع إلّا فيما يملك » (١) في بيع مثل الخمر والخنزير ، مع احتمال بعضه نفي اللزوم ، لا مجرد استعداد الصحة.

ومنه يظهر ضعف دلالة الصحيحين والنهي عن شراء السرقة ونحوها عن إفادة المنع في محلّ الفرض ، فإنّها ظاهرة في منع بيع مال الغير لنفسه ، مع أن الممنوع في صحيح محمد دفع المال قبل الإجازة ، ولا كلام فيه.

تتميمات :

الأوّل : قد اختلفوا في أنّ الإجازة على صحتها ، هل هي كاشفة عن الانتقال من حين العقد ، أو ناقلة من حينها.

__________________

(١) كنز العمال ٩ : ٦٤١ ، الحديث ٢٧٧٧٩ ؛ مستدرك الوسائل ١٣ : ٢٣٠ ، الباب ١ من أبواب عقد البيع وشرائطه ، الرواية ١٥٢٠٩ و ١٥٢١٠.


المحكيّ عن الأكثر الأوّل ، لأنها رضى بمقتضى العقد الذي قصده الفضولي ، وهو النقل من حينه لا حينها ، فلو كان النقل يحصل بالإجازة لما كانت إمضاء لمقتضى العقد.

وحاصله : أنّ حكم الإجازة اللاحقة حكم التوكيل السابق ، والسبب الناقل هو ما تعلّقت به الإجازة ، أعني العقد ، كما في التوكيل ، فالانتقال يحصل من حينه لا من حينها ، ويكشف بالإجازة كون العقد تام الشرائط مؤثرا حين ما وقع ، فيكون كاشفة عن وقوع النقل لا ناقلة.

واعترض عليه بتوقّف التأثير عليها ، فهي جزء السبب الناقل ، وأنّه لو لا الرضا جزئه لزم العلم بالصحّة بدون الرضا.

أقول : الاستدلال والاعتراض كلاهما محل نظر ؛ لإمكان المناقشة في الأوّل بأنّ كون الإجازة رضي بمقتضى العقد لا ينافي كونها جزء علّة للانتقال وحصول الأثر من حينها ، فلا يمنع عن كونها ناقلة ، كما أنّ القبول رضي بمقتضى الإيجاب ، مع أنّه جزء السبب.

والحاصل أنّ مقتضى العقد إنشاء النقل ، وهو لا يستلزم حصول الانتقال شرعا ، لجواز اشتراطه في التأثير بشرط متوقّع ، فإذا وقع يترتّب عليه الأثر ، كما في قبض الوقف ، فإنّه شرط الانتقال ، مع أن العقد قبله صحيح في نفسه.

وفي الثاني بأنّ توقّف تأثير العقد على الإجازة لا يستلزم حصول الأثر من حينها ، لإمكان توقف تأثيره من حينه على حصولها بعده ، فإذا حصلت حصل الأثر من حينه ، ولا استحالة في تأخّر شرط التأثير في الأسباب الشرعية ، كما في اشتراط صحّة غسل المستحاضة بأغسالها الليلية الآتية ، وتقديم غسل الجمعة قبلها عليها ، فالكشف هنا ليس كشفا علميا كما توهمه كلام بعضهم ، ضرورة مدخلية الإجازة في حصول الانتقال في نفس الأمر ، ولا خلاف فيه ، بل هو كشف وجوديّ.


وحيث علمت إمكان اعتبار كلّ من المعنيين في الإجازة ، مع توقّف تأثير العقد عليها ، فلا يصحّ الاستناد لإثبات أحدهما بما ذكر في إبطال الآخر ، بل اللازم طلب الدليل على المطلوب.

والذي يظهر من مطاوي الأخبار كونها كاشفة ، كما عليه المعظم ، لا لاطلاقات حلية البيع وجواز النكاح ـ كما قيل ـ لأنها مع عدم انصرافها إلى الفضولي قاصرة عن إفادته ، إذ لا كلام في مدخلية الإجازة في الانتقال من العقد على القولين ، ولا إشعار في الإطلاقات بشي‌ء منهما.

ومنه يظهر عدم صحّة التمسك بعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) مع ما فيه من الإجمال في المقام ، بل لظهور خبر عروة فيه ؛ فإنّه على كونه ناقلة من حينها لما حصل له ملك الشاة قبلها ، فكان بيعها الثاني الذي هو قبل إجازة الأوّل باطلا فإنّه من بيع ما لا يملكه من له البيع ، بل يشعر به خبر الوليدة أيضا ، حيث لم يرجع السيّد عليه بعد الإمضاء بأجرة خدمتها.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة أبي عبيدة في نكاح الصغيرين المشتملة على أنه لو بلغ أحدهما وأجاز ومات ، ثم بلغ الآخر وأجاز ورث منه ، وعمل بها الأصحاب ، ولا يتمّ التقريب إلّا على القول بالكشف.

ثمّ إنّ فائدة الخلاف يظهر في النماء المتخلّل ، وفيما لو ترتّب العقود على أحد العوضين أو كليهما فضولا ، فإنّه يختلف حكم الصحة والبطلان على الكشف والنقل بتنجيز الكلّ أو البعض أو بإجازة المبيع أو الثمن.

وقيل : يظهر الثمرة في عدم جواز فسخ الآخر قبل إجازة المالك على الكشف دون النقل. وردّ بوروده على النقل أيضا ؛ استصحابا لقابلية العقد على وجه لا يرتفع بفسخه.


والظاهر جواز الفسخ على تقديري الكشف والنقل معا ، لاختصاص دليل صحّة الإجازة ، أعني الخبرين المسطورين بصورة عدم الفسخ ، فغيرها يطالب دليلا آخر ، ويرجع الشكّ إلى وجود المقتضى الثانوي ، ولا يجري (١) فيه الاستصحاب.

ومنه يظهر المناقشة أيضا فيما قيل من ثمرة الخلاف ، فيما إذا انسلخت قابلية الملك من أحدهما بموته قبل إجازة الآخر ، أو بعروض ارتداد إذا كان المبيع مسلما أو مصحفا ، وصحّته على الكشف دون النقل ، وفيما إذا انسلخت قابلية المبيع بنقله أو انتقاله (٢) إلى النجاسة وتنجّسه مائعا ونحو ذلك ، وفيما إذا تجدّدت القابلية قبل الإجازة بعد فقدانها حال العقد ، كتجدّد الثمرة بعده وقبلها ، لمنع شمول دليل الصحّة لذلك كلّه.

نعم ، صحيح أبى عبيدة يفيد الأوّل ، إلّا أنّه يختصّ بالنكاح ، وعدم القول بالفصل غير معلوم.

وقال بعضهم : يظهر الثمرة أيضا في تعلّق الخيارات والشفعة ومبدأ زمان الخيار ومفترقه في مجلس الصرف والسلم ، وأنت خبير بأنّ أمثال تلك الثمرات مبنيّة على جعل مبدأ تلك الأحكام مبدأ الملك ، وأما على كونه مبدأ حدوث الانتقال فلا يختلف الحال ظاهرا ، لأنّه بعد الإجازة على القولين.

الثاني : لا يكفي في الإجازة السكوت مع الحضور ، وفي التذكرة الإجماع عليه ، إلّا في سكوت البكر في إجازة النكاح ، كإذنها فيه ، لدليل يختصّ به ، وكذا مع الغياب لو علم به ، ولا يكفي فيهما العلم بالرضا ، بل يجب اللفظ ، وقوفا فيما خالف الأصل على مورد النصّ ، فلا يخرج بالعلم بالرضا قبله من الفضولي.

__________________

(١) الذي لا يجري ( خ ).

(٢) في الأصل : إلقائه.


وهل يشترط اللفظ في الفسخ ، صرّح به بعض الأجلّة ، وفيه إشكال. نعم ، لا يبعد عدم الاكتفاء بمجرّد العلم بالكراهة الباطنية ، ما لم يفدها قول أو فعل.

ولو فسخ المعقود له بعد الاطلاع بطل العقد ، ولا ينفع إجازته ثانيا للأصل وعدم الخلاف ظاهرا ولا يفسخها الترديد ولا تأخير الإجازة ، كما هو ظاهر خبر الوليدة ، وخلاف بعضهم في الأخير ليس بشي‌ء.

الثالث : إذا باع الغاصب لنفسه فأجاز المالك لنفسه.

فالمحكيّ في الإيضاح (١) عن الأكثر صحّته إمّا مطلقا كما عن الدروس (٢) وشرح القواعد (٣) ، أو مع جهل المشتري كما عن المختلف (٤) والإيضاح (٥) والشهيد في حواشي القواعد (٦) والعلّامة الرازي (٧). وعن القواعد (٨) والتذكرة (٩) التردّد في العالم ، وعن ظاهر جماعة منهم صاحب المدارك في كتاب الزكاة (١٠) البطلان ، وهو لا يخلو عن قوّة للأصل واختصاص أخبار الصحة بغير محلّ الفرض ، وظهور آية التجارة في تجارة المالك ، إذ المتبادر منها وقوع العقد للمالك من حينه ، ولعموم النهي عن بيع ما لا يملك ، الظاهر بما مرّ في وقوعه لغير المالك ، كما في الفرض ، ونحوه النهي عن بيع

__________________

(١) إيضاح الفوائد ١ : ٤١٧.

(٢) الدروس الشرعية ٣ : ١٩٢.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٦٩.

(٤) مختلف الشيعة ٥ : ٥٥.

(٥) إيضاح الفوائد ١ : ٤١٧.

(٦) حاشية القواعد المعروفة بالحاشية النجّارية للشهيد الأوّل ( مخطوطة ) : ٥٧.

(٧) لم نقف عليه ، وفي نسخة : العلّامة الراضي.

(٨) قواعد الأحكام ٢ : ٢٤٢.

(٩) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٨٦.

(١٠) مدارك الأحكام ٥ : ٥ ، كتاب الزكاة.


السرقة والخيانة ، فيكون فاسدا لتعلّق النهي بنفس المعاملة ، ولو لوصف خارج ، كتعلّقه ببيع الغرر ، فمنعه بملاحظة كون الوصف خارجا غفلة واضحة ، مضافا في صورة علم المشتري إلى قصده تمليك الثمن للغاصب دون المالك ، فكيف يقع في ملك ربّ العين بإجازته.

نعم لو جهل أمكن تصويره بأنّ غرض المشتري تمليك البائع من حيث هو مالك باعتقاده ، فالمالك هو المقصود بالملك حقيقة ، كما في بيع الوكيل إذا زعمه المشتري مالكا ، فإنّ الظاهر عدم الخلاف في صحّته ، بل الظاهر أنّ مع العلم لا قصد للمشتري بالتمليك مطلقا ، وإنّما قصده مجرّد التسليط على التصرف دون الملك ، لأنّه غير معقول مع العلم بعدم وقوعه ، فما تصدى به بعض العلماء للتوفيق بين تسليط المشتري الغاصب على الثمن ، وبين حصول المعاوضة على الثمن في مقابل العين المتوقّف عليه تأثير الإجازة ، من أنّ تسليط المشتري عليه لا ينافي كونه عوضا عن المبيع بمقتضى البيع ، فإنّ المراد بالعوضية هو العوضية بمقتضى ظاهر العقد لا يصحّحه الإجازة (١).

ومن هنا يظهر اشتراط كون البيع بقصد النقل عن المالك في بيع ملك الغير مطلقا ولو في غير الغصب ، كما أنه إذا باع باعتقاد كون المبيع لنفسه ، فظهر أنّه لغيره ، فلا يفيد صحّته إجازة المالك ، إذا انتقل إلى البائع الفضولي قبل الإجازة ، ثمّ أجازه البائع أو مات المعقود له قبلها وأجازه الوارث.

وهل يشترط قصد المشتري للمعقود له أيضا.

الظاهر لا ، كما لا يشترط في بيع الوكيل علم المشتري بكونه للموكّل وقصده إيّاه ، ولعلّه لا خلاف فيه ، ويدلّ عليه السيرة القطعية. نعم ، لو علم أنّ المبيع للغير

__________________

(١) في « م » : فلا يصحّحه الإجازة.


يعتبر قصده نقل الثمن إليه ولو إجمالا لا إلى الفضولي أو الوكيل ، وعلى هذا لو سكت البائع عن تسمية الغير مع جهل المشتري بما قصده ، يقع البيع له باطنا مع الإجازة ، ولنفسه ظاهرا مع عدمها ، إلّا إذا صدقه المشتري فيقع باطلا ، بل نقل عنهم في باب الوكالة أن الوكيل لو اشترى بنية الموكّل بدون تسميته ، ثم أنكر الموكّل الوكالة ، يقع على الوكيل ظاهرا وباطنا ، وإن كان فيه إشكال ، كما نبّه عليه بعض الأجلّة.

الرابع : إذا لم يجز المالك فله أن يرجع إلى المشتري بعين ماله ونمائه ، متصلا أو منفصلا ، مع بقائهما ، أو بمثلهما أو قيمتهما مع التلف بنقل أو غيره ، وبعوض منافعها المستوفاة وغيرها ، وبأرش النقص والعيب ، عالما كان المشتري أو جاهلا ، إجماعا ظاهرا في جميع ذلك ، تحقيقا ونقلا له ولمستفيضة الأخبار في خصوص أكثر تلك الأحكام ، مضافا في غير عوض المنافع إلى عموم « الناس مسلّطون » (١) مع بقاء العين ، وإلى قوله عليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي » (٢) مطلقا.

ولا كلام في ذلك كله ، إنما هو في رجوع المشتري بما أغرم على البائع ، وتحقيقه أنّ المشتري ، إن كان عالما بكونه مغصوبا في يده ، لم يرجع بما اغترم بغير الثمن إلى البائع ، قولا واحدا ؛ للأصل ووقوع التلف في يده العادية ، مع أنّ من الفرض ما لم يسبق بتصرّف البائع فيه وإثبات يده عليه ، وأمّا بالثمن ؛ فإن كان موجودا بعينه رجع به ، وفاقا لجماعة منهم الفاضل في المختلف (٣) والتذكرة (٤)

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٢ ، الحديث ٩٩.

(٢) مستدرك الوسائل ١٣ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب الخيار ، الرواية.

(٣) مختلف الشيعة ٥ : ٥٦.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٨٦.


والشهيدان (١) والمحقق الثاني (٢) ؛ لعدم موجب للانتقال بعد فرض بطلان البيع واستصحاب الملك ، فيتسلّط عليه ؛ للعموم المشار إليه ، مع أنّه لم يدفع إليه مجانا ، بل عوضا عن شي‌ء لم يسلم له ؛ وإن لم يكن موجودا ؛ فإن دفعه المشتري ليسلم [ إلى ] المالك توقعا لإجازته ، فله الرجوع أيضا بعوضه ، ووجهه ظاهر ؛ وإلّا كما في بيع الغاصب لنفسه ، فالمشهور عدم الرجوع ، بل في المختلف (٣) والتذكرة (٤) الإجماع عليه ظاهرا ، وربما يتأمّل في كونه إجماعيا ، وينسب الرجوع إلى المحقق في بعض تحقيقاته ، وقوّاه في الروضة (٥) ، وفي المسالك (٦) ، لو لا الإجماع على خلافه ، وعلّل بتحريم تصرّف البائع فيه لأنّه أكل مال بالباطل ، فيكون مضمونا عليه.

وفي المسالك (٧) جمع بين تحريم التصرف في الثمن وعدم جواز الرجوع على تقدير وقوع الإجماع ، بأنّه « من الجائز أن يكون عدم جواز رجوع المشتري العالم عقوبة له ، حيث دفع إليه ماله معاوضا له على محرّم ، فلم يجز له مطالبة العوض وإن كان له في ذمّة البائع ، ووجبت عليه دفعه إليه ، نظير ما لو حلف المنكر على عدم المال في ذمّته » ، انتهى.

وفيه من البعد غايته ، بل التحقيق منع استلزام حرمة التصرف في محل الفرض الضمان ؛ فإنّ حرمة التصرف في مال الغير قد يكون منشأها عدم إذن المالك ، وقد

__________________

(١) الشهيد الأوّل في الدروس ٣ : ١٩٢ ؛ والشهيد الثاني في الروضة ٥ : ١٤١.

(٢) جامع المقاصد ٣ : ٦٩.

(٣) مختلف الشيعة ٥ : ٥٦.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٨٦.

(٥) الروضة البهية ٣ : ٢٢٦.

(٦) مسالك الأفهام ٣ : ١٦١.

(٧) نفس المصدر.


يكون عدم إذن الشارع ، وإن كان مأذونا من قبل المالك ، كمن أذن في صرف ماله في المعصية وأكل طعامه في نهار رمضان ، والضمان إنّما يحصل في الأوّل ، وأمّا على الثاني ، فغير مسلم ، بل مقتضى الأصل مع إذن المالك البراءة عن العوض ، وصرفه على الوجه المحرم لا يوجب الضمان ، والمفروض من الثاني ، لحصول الأذن من المشتري في التصرف في ماله وإتلافه على هذا الوجه ، غاية الأمر كونه مشروطا بالمعاوضة المحرّمة ، وقد أتي بها وإن كانت معصية ، فحصل به شرط الإذن ، فلا ضمان ، وإن لم يحصل به الملك الشرعي والآية لا تدلّ على الضمان ، بل على مجرّد حرمة الأكل بالباطل.

وما قيل من أنّ المشتري أذن في التصرف بشرط عدم استرداد العوض منه ولو من قبل غير البائع ، وحيث انتفى الشرط ينتفي المشروط ويتحقّق الضمان ، مدفوع بمنع هذا الشرط ، فإنّ غرض المشتري العالم بالغصب وبعدم حصول الملك الشرعي له من دفع الثمن إلى البائع هو مجرد تسليط البائع إياه على المبيع ورفع يده عنه من غير رجوع منه إليه ، لا من المالك ، إذ التقدير علمه بعدم رضى المالك وانتظاره الفرصة ، وبالتمكن عن أخذه ، فكيف يكون شرطه الضمني عدم رجوعه عند التمكن.

وكون إذنه مشروطا بالضمان على تقدير رجوع المالك إليه ـ لو سلّم صحّة مثل هذا الضمان ـ غير معهود بينهما ، مع فرض العلم ، مع أنّ الأصل ينفيه.

فالأقوى عدم الضمان مع التلف في الصورة المزبورة.

وإن كان المشتري جاهلا فله الرجوع إلى البائع بالثمن ، عينا مع بقائه ، وعوضا مع تلفه ، قولا واحدا ، وله الرجوع عليه بكل ما اغترم ، ولم يحصل في مقابله نفع من نقص القيمة ، وعوض النماء التالف ، والأجرة ، وقيمة الولد المستولد من الأمة ـ حيث يجب على والده فكاكه ببذل قيمته إلى المالك ـ وما صرفه في المبيع.


وجاز له كلّ ذلك بظهور الإجماع وموثقة جميل (١) في الرجل يشتري الجارية من السوق ، فيولدها ، ثم يجي‌ء مستحقّ الجارية ، فقال : يأخذ الجارية المستحقّ ، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد ، ويرجع على من بايعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه ، وقريب منهما خبر زرارة (٢).

ويتمّ المدّعى بالإجماع المركب ، بل يدلّ عليه عموم التعليل للرجوع بالتدليس في رواية رفاعة (٣) ، المطابق لقاعدة رجوع المغرور إلى من غرّه ، المعروفة بينهم في أبواب كثيرة.

وأمّا ما اغترمه بما حصل له في مقابله نفع ، كعوض الثمن وأجرة السكنى ، فالرجوع به عليه لا يخلو عن قوة أيضا ، للتغرير في الانتفاع والإتلاف مجانا ، كما في إطعام الغاصب الضيف المالك بما له مع جهله ، وفاقا للمحقق في تجارة الشرائع (٤) والتنقيح (٥) خلافا للشيخ في جملة من كتبه (٦) ، والحلّي (٧) للأصل المقدوح بما ذكر.

نعم ، لا يبعد تخصيص الرجوع بما إذا كان البائع عالما ، كما استظهره بعض المحققين ، لظهور اختصاص صدق التغرير والتدليس به ، وعدم ثبوت الإجماع المركب.

وفي حكم جهل المشتري علمه إذا ادّعى البائع إذن المالك وكان متصرّفا فيه ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢١ : ٢٠٥ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الرواية : ٢٦٩٠٤.

(٢) نفس المصدر ٢١ : ٢٠٤ ، الباب ٨٨ ، الرواية : ٢٦٩٠٣.

(٣) نفس المصدر ١٨ : ٧٢ ، الباب ١ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الرواية ٢٣١٧٨.

(٤) شرائع الإسلام ٢ : ١٤ ، كتاب التجارة.

(٥) التنقيح الرائع ٤ : ٧٥.

(٦) المبسوط ٣ : ٨٨.

(٧) السرائر ٢ : ٤٨٦.


لكونه مسموعا منه شرعا ، فيحصل به التغرير ، بل يشمله عموم الأخبار المتقدمة ، فيرجع عليه بجميع ما اغترمه.

وفي رجوعه بغير عوض الثمن في هذه الصورة إذا لم يكن في تصرّف البائع إشكال. نعم ، إذا حصل العلم للمشتري من قوله كان له وجه.

ثم إنّ المالك له أن يرجع إلى البائع في جميع ما ذكر من الغرامات إذا كان غاصبا ولو في مجرّد دفعه إلى المشتري ، ووجهه ظاهر ، ولو لم يكن الدفع منه بل كان بتغريره ، ففيه وجهان ، والرجوع إليه مع حصول العلم للمشتري من تغريره بكونه المالك أو مأذونا فيه غير بعيد ، وحيث رجع المالك إلى البائع فيما له أخذه منه ، فالمشتري إن كان عالما بالحال رجع البائع إليه بالمبيع عينا أو عوضا ، وبعوض النماء والنقص وغيرهما مما كان للمالك الرجوع إليه لكون التلف في يده العادية ، فيغرم البائع المغترم مقام المالك فيما اغترمه ؛ وإن كان جاهلا بالحال لم يرجع البائع إليه ، لما تقدم ، إلّا في عوض المنافع المستوفاة ، ففيه قولان.

بقي الكلام في كيفية الغرامة وتقدير القيمة. وتفصيله : أنّ التالف ، إن كان مثليا ، فلا خلاف في ضمان المثل إلّا باتفاقهما على القيمة.

وهل يعتبر زمان الغصب ومكانه في دفع المثل إذا اختلف بهما القيمة ، له وجه قوي إذا كان الاختلاف معتدّا به ، كما إذا غصب الماء في فلاة قفر ، والثلج في الصيف ، فلا يدفع مثل الماء في شاطئ البحر ، ومثل الثلج في الشتاء ، إذ المقصود من المثل عوض التالف ، ولا يعدّ ذلك عوضا عرفا ، وعموم حكم الإجماع الشامل لمثل المقام غير معلوم ولا مظنون ، وإن أعوز المثل فلم يوجد في البلد وما حوله يبدّل بالقيمة. وفي كونها قيمة يوم البذل ، أو يوم الإعواز ، أو أعلى القيم من حين الغصب إلى دفع العوض ، أو من حينه إلى وقت الإعواز ، أو من حين الإعواز إلى


الدفع ، أقوال : أشهرها وأقواها الأوّل ، إذ بالإعواض إلى القيمة تبرأ الذمّة عن المثل ، ويعدل إليها فقيمة حال الإعواض والتبديل تكون معتبرة.

والقول بأنّ التبديل يحصل وقت الإعواز ، فهو المعتبر ، مردود ، بأنّ الإعواز لا يوجب البراءة عن المثل ، وإنّما يبيح مطالبة عوض المثل ، فمتى طلبه يعاوض بالقيمة ، وهو وقت الدفع.

وإن كان قيميا ففي القيمة المعتبرة أقوال أيضا ، المحكيّ في الشرائع (١) عن الأكثر اعتبار قيمة يوم الغصب ، وهو لموضع من المبسوط (٢) والنافع (٣) ، واختاره والدي العلّامة في المستند (٤) ، وعن القاضي (٥) والمختلف (٦) اعتبار قيمة يوم التلف ، وفي الدروس (٧) عزّاه إلى الأكثر ، وقوّاه المحقق القمي (٨) واختار الشهيدان في الدروس (٩) واللمعة والروضة (١٠) ، والسبزواري أعلى القيم من التصرف إلى التلف ونسبه في

__________________

(١) شرائع الإسلام ٢ : ١٨٩.

(٢) المبسوط ٣ : كتاب الغصب ، حكم في الصفحة ٦٠ بضمان القيمة يوم التلف وفي الصفحة ٨٨ و ٨٥ و ٧٠ حكم بأكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف.

وفي كتاب الإجارة ، الصفحة ٢٢٥ ، قال : « وإن تلفت فإنّه يضمن بالغا ما بلغ من وقت التعدّي إلى حين التلف ».

(٣) المختصر النافع : ٢٥٦.

(٤) مستند الشيعة ٢ : ٣٦٨.

(٥) المهذب البارع ٤ : ٢٥١.

(٦) مختلف الشيعة ٦ : ٨١.

(٧) الدروس الشرعية ٣ : ١١٣.

(٨) جامع الشتات ٣ : ٤٦٩.

(٩) الدروس الشرعية ٣ : ١١٣.

(١٠) الروضة البهية ٧ : ٤٤.


المختلف (١) إلى الأكثر ، وعن بعض المتأخرين أعلاها من التصرف إلى الدفع ، والأظهر الأوّل ، لصحيح أبي ولّاد (٢) في حكاية كراية البغل ، وفيها أنّ أبي ولّاد بعد تعيين كري البغل والمسافة خالف وجاوز الحد ، سأل مولانا الصادق عليه‌السلام عن حكمه ، فقال عليه‌السلام : إنّه ضامن للكري ، فقال : أرأيت لو عطب البغل أو لغى أليس كان يلزمني؟ قال : نعم ، قيمة بغل يوم خالفته. فقلت : إن أصاب البغل كسرا أو دبرا أو عقرا. قال : عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم تردّه عليه. قلت : فمن يعرف ذلك. قال : أنت وهو إمّا أن يحلف على القيمة فيلزمك ، وإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين أكرى كذا وكذا ، الحديث.

موضع الدلالة قوله عليه‌السلام : نعم ، قيمة بغل يوم خالفته.

واستشكل بأنّ ذلك إنّما يتمّ لو كان المراد من القيمة قيمة يوم المخالفة ، وأمّا إن جعلنا الظرف لغوا متعلّقا بقوله عليه‌السلام يلزمك المستفاد من قوله : نعم ، يعني أنّ اللزوم في يوم المخالفة ، فلا يتمّ التقريب ، لأنّ حدّ القيمة على هذا غير معين يجب الرجوع فيه إلى ما يقتضيه الدليل.

ويندفع بأنّ الضمان بالقيمة لم يتحقق يوم المخالفة ، بل هو بعد التلف ، واعتبار التعلق به فيه ينافي إطلاق اللفظ ، فلا يلائم الإجمال ، مع أنّه على احتمال المستشكل يلزم حمل الضمان في الجواب على الضمان التعليقي المسبب عن المخالفة ، أي عليه يوم المخالفة قيمته متى حصل بعده التلف ، وهو مع بعده في نفسه لا يطابق

__________________

(١) مختلف الشيعة ٦ : ٨١.

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ١٧ ، الباب ١٧ من أبواب الإجارة ، الرواية ٢٤٢٧٢ ؛ و ٢٥ : ٣٩١ ، الباب ٧ من أبواب الغصب ، الرواية ٣٢١٩٩.


السؤال عن الضمان التنجيزي بعد التلف ، بل قوله : قيمة بغل ، مبيّن لقوله عليه‌السلام : نعم ، المصدّق للمسئول عنه الآن من الضمان بعد التلف ، فلا يلائم ما ذكره على أنّ تنكير بغل على جعل يوم ظرفا لغوا ركيك في الغاية ، بل بعيد عن المقصود ، إذ المعتبر قيمة البغل المكتري بخصوصه ، بل الظاهر أنّه مضاف إلى يوم ، من باب التخصيص ، إشارة إلى اختلافه بحسب القيمة في الأزمان ، وإنّ المعتبر قيمة بغل يوم المخالفة دون سائر الأحوال ، والأوقات.

ويدلّ على المطلوب أيضا قوله عليه‌السلام أخيرا ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا ، فيلزمك ؛ فإنّه يفيد لزوم حين الكري دون وقت التلف أو الدفع أو أعلى القيم ، والاعتماد عليه مع كونه قبل المخالفة الغير المعتبر إجماعا ، إنّما هو باعتبار عدم فاصلة معتدّ بها بين وقتي الإكراء والمخالفة ، كما يومئ إليه صدر الحديث ، ويقضي العادة والمشاهدة بعدم تفاوت قيمة سوقية لمثل البغل في هذه المدة القليلة غالبا ، خصوصا مع التأيد بالاستصحاب.

وحجج سائر الأقوال وجوه ضعيفة ، عدا ما يقتضيه الاعتبار للثاني ، إلّا أنّه كغيره محجوج بالخبر الصحيح المذكور هذا.

ثم إنّ ما ذكرناه من اعتبار القيمة السوقية على الخلاف المزبور ، إنما هو في تلف العين ، وأمّا مع بقاءها ، فالواجب ردّ العين من غير ضمان للتفاوت إجماعا. وكذا قيمة يوم الغصب على ما اخترناه مع التلف ، إنّما هو إذا لم يتفاوت القيمة باعتبار زيادة عينية كسمن ، أو وصفية كتعلم صنعة ، ولو هي بفعل الغاصب ، وأمّا معها ، فيضمن قيمة الأصل يوم الغصب ، وإن كانت أقلّ من قيمة يوم التلف (١) أو الدفع ،

__________________

(١) الغصب ( صح ).


وقيمة الزيادة معا ، فلو كان فرسا مهزولا ، قيمته يوم التلف ثلاثون ، فسمن وتلف ، وكان قيمته السوقية عند التلف عشرين ، عشرة منها للسمن ، لزمه أربعون.


[ المشرق الثالث ]

[ في حكم العقود المتبعّضة الصادرة بصيغة واحدة ]

مشرق : في تحقيق العقود المتبعّضة.

إذا انتقل ماله ولغيره صفقة ، ببيع أو نحوه.

قالوا : يقف البيع أو نحوه في غير مملوكه على الإجازة ، على القول بصحّة الفضولي ، وهو بإطلاقه على اشتراط قصد الفضولي كما مرّ غير سديد ، بل يقتصر على صورته.

والظاهر عدم الإشكال والخلاف في صحّته في المملوك ، على تقدير الإجازة ، وصحّة الفضولي.

وهل يصحّ في المملوك على تقدير بطلانه في غير المملوك ، لعدم الإجازة ، أو ظهور فساده لجهة أخرى؟ الظاهر عدم الخلاف فيه في خصوص البيع ، وإن تأمّل فيه أيضا بعض من تأخر ، وعن الغنية (١) والتذكرة (٢) الإجماع عليه ، وعن بعضهم نفي الخلاف فيه.

__________________

(١) غنية النزوع ١ : ٢٠٩.

(٢) تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٦٣.


ويدلّ عليه صحيح صفار (١) ، في رجل له قطاع من أرضين ، وعرف حدود القرية ، فقال للشهود : اشهدوا أنّى قد بعت من فلان جميع القرية ، وإنّما له بعض هذه القرية ، وقد أقرّ له بكلّها ، فوقّع عليه‌السلام : لا يجوز بيع ما لا يملك ، وقد وجب الشراء على البائع على ما يملك ، الدال على صحّة البيع فيما يملك ، ولو بعموم ترك الاستفصال.

وأمّا في سائر العقود ، فلم أر من تعرّض بقول صريح يشمل الجميع ، وإن تعرّضوا لبعض ، كوقف ما يملك وما لا يملك ، ويظهر من الأكثر الحكم بالصحة فيه ، ولعلّ مأخذه يعمّ الجميع ، وكيف كان فلنبيّن ما يقتضيه الأصل وعموم الدليل على وجه كلي ينضبط به حكم التبعّض في جميع العقود.

فنقول : العقد إمّا يكون مما لا يقبل أثره التجزّي ، كالنكاح والطلاق ، فلا تبعيض ، أو يقبل التجزّي ، بأن يتعلق أثره بكلّ جزء من المتعلّق ، كالبيع والصلح والهبة والإجارة وأمثالها ، حيث إنّ الانتقال بها يتعلّق بكلّ جزء من متعلقاتها ، فمقتضى النظر الدقيق فيه عدم استلزام فساد بعضه فساد الآخر ، لوجود مقتضى الصحّة وعدم المانع. أمّا الأوّل ، فلدلالة عموم دليل شرعية المعاملة عليه ، كقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٢) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (٣) و ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٤) و « كلّ صلح جائز » (٥) و « الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها » (٦) ، وغير ذلك ، لصدق معنى المعاملة على كلّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٣٣٩ ، الباب ٢ من أبواب عقد البيع ، الرواية ٢٢٧٠٤.

(٢) المائدة (٥) : ١.

(٣) النساء (٤) : ٢٩.

(٤) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٥) وسائل الشيعة ١٨ : ٤٤٣ ، الباب ٣ من أبواب الصلح ، الرواية ٢٤٠١١ و ٢٤٠١٠ ؛ « الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ».

(٦) نفس المصدر ١٩ : ١٧٥ ، الباب ٢ من أبواب الوقوف والصدقات ، الرواية ٢٤٣٨٧.


جزء ، فيقال : إنّه باع أو وهب أو وقف ، فإنّ البيع مثلا ليس إلّا نقل الملك ، وهو يحصل بالنسبة إلى كلّ جزء ، وإلّا لم يحصل له به الانتقال. وأمّا الثاني ، فلأنّ ما يتصوّر كونه مانعا ، انضمام غير المملوك إليه ، وهو لا يصلح للمنع ، فإنّ ما يستظهر به للمنع لا يكاد أن يتمّ وهو وجوه :

منها : أنّ دلالة العقد على الجزء دلالة تبعية ، وهي فرع بقاء المتبوع ، أعني الكلّ وحيث انتفى ينتفي التابع.

ومنها : أنّ العقود تابعة للقصود ، والقصد تعلّق بالعقد على المجموع دون الجزء.

ومنها : أنّ التراضي الذي هو شرط الصحّة حصل على المجموع ، وهو لا يستلزم حصوله في الجزء.

ومنها : أنّ الجزء لم يقع عليه المعاملة ، فلا يوصف بها.

ومنها : أنّ اللفظة الواحدة ، أعني العقد لا يمكن تبعيضها ، فإمّا يغلب الصحيح على الفاسد ، أو بالعكس ، والثاني أولى ، لأنّ تصحيح العقد في الفاسد ممتنع ، وإبطاله في الصحيح غير ممتنع.

ومنها : أنّ أسماء العقود موضوعة للمعاني الشرعية ، وهي توظيفية لا نعلم دخول المركّب من الصحيح والفاسد فيها ، فيجب الاقتصار في تحققها على ما علم كونه منها شرعا.

ويرد على الأوّل : إنّ التبعية في الدلالة اللفظية لا يستلزم التبعية في تعلّق الحكم ، كما إذا قال : أكرم عشرة ، أو صم شهرا ، فالدلالة على كلّ واحد تبعية ، والحكم الثابت منها له أصلي ، لا ينتفي عنه بانتفاء الكلّ ، إلّا لدلالة خارجة دلّت على قصد الارتباط ، ومثله ما إذا قال : اكنس الدار ، وتعذّر كنس بيت منها ، فلا يتأمّل في الباقي ، ويصحّ أن يقال : بعت داري ، وإن باع كلّ جزء منها ببيع مستقلّ ، مع أنّ من


الفرض ما كان الدلالة اللفظية على الأبعاض مطابقة ، كما إذا قال : بعت أو وهبت أو وقفت هذا وهذا.

وعلى الثاني : أنّ المراد إن كان عدم تعلق القصد بالجزء مطلقا ، ففساده ظاهر ، وإن كان عدم تعلّقه به أصالة ، بل على الوجه الجزئية والارتباط ، فهو غير معلوم ، لا من اللفظ ، كما عرفت ، بل هو أوفق لعدمه نظرا إلى صدق نسبة اسم المعاملة كالبيع والصلح وغيرهما حينئذ إلى الأجزاء ، ولا من غيره ، لفرض عدم القرينة.

ولا يتوهم أنّ إيقاع العقد كالبيع مثلا على المجموع صفقة ، مقتضاه إنشاء نقل واحد متعلق بالمجموع بما هو مجموع بحيث يعد في العرف بيعا واحدا فاللفظ يدلّ على قصد إنشاء بيع المجموع بالأصالة ، ويجب حل قصد المتكلم على ما يقتضيه اللفظ ، فيبنى على قصد البائع إنشاء النقل كذلك ، ولازمه قصد الجزئية في أجزاء البيع.

لاندفاعه بتسليم كون اللفظ دالّا على إنشاء واحد متعلق بالمجموع ، وأنّه يعدّ في العرف بيعا واحدا ، ولكن إنشاء نقل الكلّ وبيعه يتحلل إلى إنشاءات وبيوع متعددة ، بالنسبة إلى أجزاء البيع ، ووحدته وحدة نوعية بالنسبة إليها ، لا تأبى عن صدقه على كلّ فرد ، وتعلّق حكم هذا الواحد النوعي بآحاد الأفراد ، تعلّقا أصليا استقلاليا ارتباطيا تبعيّا ، لا وحدة شخصية ، من قبيل المركب الشخصي بالنسبة إلى أجزائه ، فهو كسائر الصفات أو الأفعال التي يصحّ نسبتها إلى كلّ جزء من أجزاء متعلّقاتها ، كالغصب مثلا ، فإنّ من غصب دارا ولو بغصب واحد ، يصحّ نسبة الغصب إلى كلّ بيت منها ، ويقال : إنّه مغصوب ، ويترتّب عليه آثار الغصب وأحكامه ، أصالة واستقلالا ، لا ارتباطا بسائر البيوت ، بحيث إذا خرج بعضها عن الغصبية خرج الكلّ ، ونحوه الطهارة والنجاسة والتطهير والتنجيس وغيرها.


نعم ، وحدة اللفظ الدال على الإنشاء شخصية لا تصدّق على أبعاضه ، وأين هو من المدلول بالنسبة إلى مصاديقه.

ومن هذا يظهر إمكان التجزئة في أحكام إنشاء واحد ، فيما علم فيه فساد البعض ، وإن كان اللفظ الدال على إنشاء الكلّ واحدا غير قابل للتجزئة.

فإن قلت : قصد إنشاء الكلّ كيف يتصور مع فرض العلم بفساد البعض.

قلت : قصد الإنشاء لا يستلزم العلم بالصحة الشرعية وترتّب الأثر ، ولا ينافي العلم بعدمه ، كما في إنشاء الفضولي الذي يجب أن يقع على البتّ والجزم دون التعليق ، وإلّا كان باطلا اتفاقا ، مع احتمال عدم إجازة المالك ، وبالجملة الإنشاء فعل العاقد ، وليس هو إلّا إيقاع اللفظ بالقصد والالتفات إلى معناه على وجه السببية ، والانتقال أمر شرعي ، ولا يلزمه العلم بحصوله غاية الأمر علمه حينئذ بكونه عبثا.

وعلى الثالث : أنّ ما يناط به العقد هو الرضا بما تعلّق به الإنشاء الذي دلّ عليه لفظ العقد ، وقد سمعت أنّه تعلّق بكلّ بعض على وجه الاستقلال ، تعلّق حكم الكلّي وأمّا الرضا الخارج عن ذلك ، فهو من الدواعي ، لا يؤثر في بطلان العقد ، مع أنّ وقوع التراضي على المجموع من حيث هو مطلق. ممنوع ، فقد يعلم من مساومة المعاملة أو شاهد الحال أو اعتراف العاقد خلافه.

وعلى الرابع : ما عرفت مفصّلا ، وكفاك شاهدا ما تكرّر ذكره من صحّة توصيف كلّ جزء باسم المعاملة ونسبتها إليه ، كمن باع قطيعة غنم يصدق على كلّ غنم أنّه باعه واشتراه المبتاع.

وعلى الخامس : أنّ وحدة اللفظ لا يستلزم وحدة المدلول ، ووحدانية السبب لا يستلزم وحدانية الأثر ، كما مضى ، فوجود المانع عن تأثيره في بعض المسبّبات لا يمنع عن تأثيره في غيره.


وعلى السادس : بأنّه مبنيّ على ثبوت الحقيقة في أسماء العقود ثمّ كونها موضوعة للمعاني الصحيحة ، والأوّل غير معلوم ، والثاني خلاف التحقيق.

ثم مما ذكرنا يتضح حكم ما إذا كان فساد بعض المعقود عليه لا لعدم الملك ، بل لجهة أخرى في نفسه ، كما لو باع مع ماله ما لا يملكه المسلم كالخمر ، أو مطلقا كالحرّ ، وما لا يصحّ بيعه كالمنفعة ، أو في متعلقه كما لو وقف على حرّ ومملوك أو حيّ وميّت ، فإنّه يحكم في جميع ذلك بالصحة في البعض الصحيح ، دون الفاسد ، ممّا صدق اسم المعاملة بمعناه الأعمّ على الجملة ، وإلّا فيتّجه فساد الكلّ لعدم تناوله حينئذ مقتضى الصحّة من الأدلّة.


[ المشرق الرابع ]

[ في شروط ضمن العقد ]

مشرق : في البحث عن شروط ضمن العقد وفيها مطالب :

المطلب الأوّل : في بيان معنى الشرط.

اعلم أنّ للشرط في العرف إطلاقين :

أحدهما : ما ينتفي المشروط بانتفائه ، وتوقف عليه وجود المشروط ، سواء استلزم وجوده الوجود أيضا كما هو مفاد القضية الشرطية ، أم لا ، كما هو مصطلح أصحاب الأصول.

وثانيهما : ما يلزم ويلتزم به ، كما هو معناه المعروف من اللغة ، قال في القاموس : الشرط إلزام الشي‌ء والتزامه في البيع ونحوه ، والمراد به في المقام ـ على ما نصّ به جمع من المحققين ـ هو المعنى الثاني ، فإنّه المناسب لاستدلالهم عليه بمثل :« المؤمنون عند شروطهم » (١) ولأنّ الأوّل يوجب التعليق في العقد ، بخلاف الثاني ، وإن قلنا فيه بتوقّف لزوم العقد على الوفاء بالشرط ، وثبوت الخيار للمشروط له مع عدمه ، كما في المشهور ، إلّا أنّه غير التعليق في نفس العقد ، فلا محذور فيه ، وأمّا

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢١ : ٢٧٦ ، الباب ٢٠ من أبواب المهور ، الرواية ٢٧٠٨١.


التعليق في نفسه ، كما يرد على الفرض ، فهو مبطل له بلا خلاف في أكثر فروضه ، وتفصيله أنّ التعليق إن كان بصفة متوقعة ، وإن كانت متيقّن الحصول ، كمجي‌ء رأس شهر ، فالظاهر من كلامهم الاتفاق على بطلانه ، وإن أنكر الدليل عليه في المسالك (١) والكفاية (٢) ، وإن كان على أمر واقع ، كقوله : بعت إن كان اليوم الجمعة ، ففيه الخلاف ، وفي الكفاية (٣) وبعض آخر صحّته إذا كان عالما بوقوعه ، والحقّ أنّه مبطل أيضا مطلقا ، كما صرح به بعضهم.

بيانه : أن هنا أمورا ثلاثة ، مقتضى النظر اشتراط الجميع في صحة العقود.

أحدها : استقلال العقد في سببية الأثر المترتب عليه من حين وقوعه ، ووجهه ـ بعد الأصل المقتضي للاقتصار على معلوم الصحّة ، والإجماع عليه ، محققا (٤) ومنقولا (٥) ـ كونه مفاد الأدلة الدالّة على سببيته للآثار ، ولازم ذلك بطلان تعليقه على أمر متوقع بعد حين ، وإن كان معلوم الوقوع ، لأنّه خروج عن مقتضى السببية المستفادة من تلك الأدلّة ، ولا ينافيه قولهم بأنّ الشرط بمعنى الالتزام بما سيوجد المتفق على صحّته في حكم جزء العقد ، لأنّ الجزء هو الالتزام والإلزام ، وهو أمر واقع حين العقد ، وإن كان متعلقه أمرا خارجا عنه ، بل ينقدح من ذلك ـ مضافا إلى الأمرين الآتيين ـ عدم صحّة التعليق على أمر واقع أيضا ، لاستلزامه إدخال ما ليس من العقد في السببية ، في غير ما دلّ على صحته دليل ، كالتدبير والنذر ونحوهما.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٥ : ٢٣٩.

(٢) كفاية الأحكام : ٨٨.

(٣) نفس المصدر.

(٤) المبسوط ٢ : ٣٩٩ ؛ الخلاف ٢ : كتاب الوكالة ، المسألة ٢٣ : تحرير الأحكام : ٢٣٢ ؛ تذكرة الفقهاء ٢ : ١١٤.

(٥) مسالك الأفهام ٥ : ٢٣٩ ؛ المكاسب للشيخ الأنصاري : ٩٩.


وثانيها : قصد إنشاء أثر العقد ، كإنشاء النقل في البيع ، والتزويج في عقد النكاح ، وغيرهما ، لكونه جزء السبب المؤثّر إجماعا ، ولازم ذلك اشتراط البتّ والقطع في العقد ، والترديد يضاد الإنشاء القطعي ، فلا يصحّ التعليق على أمر واقع غير معلوم الوقوع ، لمنافاته الإنشاء البتّي ، وبه صرّح جماعة كثيرة من أساطين الفقه ، مضافا إلى كونه معقد الإجماع.

وثالثها : دلالة لفظ العقد على هذا الإنشاء القطعيّ ، لغة وعرفا ، ولا يكفي مجرد القصد الخالي عن اللفظ الدال عليه ، ضرورة وجوب مطابقة صورة اللفظ للمعنى المقصود ولازم ذلك عدم صحّة التعليق على أمر واقع وإن كان معلوم الوقوع للعاقد لأنّ مدلول اللفظ على ما يتبادر منه عرفا ولغة (١) ، الترديد وعدم القطع في الإنشاء.

المطلب الثاني : في بيان مشروعية الشرط الواقع في ضمن العقد وصحته ، بمعنى استحقاقه المشروط له ، ولزوم الوفاء به على المشروط عليه إلّا ما استثنى.

والأصل فيه ـ بعد الإجماع عليه ، المتظافر نقله (٢) في الجملة [ الأخبار ] المعتبرة المستفيضة.

منها الصحيح (٣) : « من اشترط شرطا مخالفا لكتاب الله عزوجل ، فلا يجوز له ، ولا يجوز على الذي اشترط عليه والمسلمون عند شروطهم فيما وافق كتاب الله عزوجل ».

ونحوه الصحيح الآخر (٤) : « المسلمون عند شروطهم إلّا كل شرط خالف كتاب

__________________

(١) في بعض النسخ : ولغة فلا يكفي إلّا بعد القطع بل مفاده الترديد.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٤٣١ : كفاية الأحكام : كتاب البيع ، الفصل الخامس في الشروط : عوائد الأيام : ١٢٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ١٦ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠٤٠.

(٤) نفس المصدر : الرواية ٢٣٠٤١.


الله تعالى فلا يجوز ».

والحسن (١) عن الشرط في الإماء أن لا يباع ولا يوهب ، قال : « يجوز ذلك في غير الميراث ، فإنّها يورث ، وكل شرط خالف كتاب الله عزوجل فهو ردّ ».

ومرسل جميل (٢) : في رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيع ولا يهب ولا يورث ، قال : « نعم ، ذلك لهم إلّا الميراث ».

ونحوه مرسل آخر منه (٣).

وموثق ابن عمار (٤) : أنّ عليا عليه‌السلام كان يقول : « من شرط لامرأته شرطا ، فليف لها به ، فإنّ المسلمين عند شروطهم ، إلّا شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما ».

وموثق منصور (٥) : المتضمن لوجوب الوفاء بشرط الرجل للمرأة على عدم طلاقها وعدم التزويج عليها ، معلّلا بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « المسلمون عند شروطهم ».

وخبر عمّار (٦) : قلت : جاء رجل إلى امرأة ، فسألها أن يزوّجها نفسه ، فقالت : أتزوّجك على أن تلتمس منّي ما سألت من نظر أو التماس ، وتنال : منّي ما ينال الرجل من أهله ، إلّا أنّك لا تدخل فرجك في فرجي ، وتلذّذ بما شئت ، فإني أخاف الفضيحة ، قال : « لا بأس ، ليس له إلّا ما شرط ».

والمصرحة بأنّه لا يخرج الرجل امرأته من بلدها إذا شرط لها.

والدالّة على وجوب الوفاء بالوعد.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٦٧ ، الباب ١٥ من أبواب بيع الحيوان ، الرواية ٢٣٦٤٦.

(٢) نفس المصدر ٢١ : ٣٠٠ ، الباب ٤٠ من أبواب المهور ، الرواية ٢٧١٢٨.

(٣) نفس المصدر ١٨ : ١٧ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠٤٤.

(٤) نفس المصدر ٢١ : ٣٠٠ ، الباب ٤٠ من أبواب المهور ، الرواية ٢٧١٢٩.

(٥) نفس المصدر ٢١ : ٧٣ ، الباب ٣٦ من أبواب المتعة ، الرواية ٢٦٥٦٥.

(٦) نفس المصدر ٢١ : ٢٩٥ ، الباب ٣٦ ، الرواية ٢٧١١٧.


والمستفيضة (١) المصرّحة بأنّ رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ بأنّ من باع نخلا قد أبره ، فثمرته للّذي باع ، إلّا أن يشترط المبتاع.

إلى غير ذلك.

وجه دلالة تلك الأخبار من وجهين :

أحدهما : إنها تدلّ على مشروعية كل شرط على حسب ما اشترط ، ومنه المأخوذ في ضمن العقد ، لصدقه عليه ، وحيث إنّه مأخوذ فيه على وجه الاستحقاق ، وانعقد العقد عليه ، فحكمه حكم أحد العوضين ، لعدم رضى المشروط له بما يعطى عوضا عن متاعه إلّا مع هذا الشرط ، ووقع إنشاء العقد على كونه منه وجزءا لما هو بإزاء متاعه ، ولا فرق في ذلك بين ما إذا باع بدينارين ، أو بدينار وشرط عليه دينارا ، أو أن يفعل كذا. نعم ، يفترق عن الثمن والمثمن في أحكام أخر ، كجواز كونه منفعة في البيع دونهما ، واغتفار بعض الجهالات ، ونحو ذلك.

وبالجملة ، فلازم مشروعيته في ضمن العقد ـ على حسب ما اشترط ـ كونه لازما كنفس العوضين لعين ما دلّ على لزوم العقد بأجزائه ، كالأمر بالوفاء به ، وخصوص العموم الوارد في كلّ عقد.

ومن هذا يظهر ما في كلام بعض الأفاضل ، من كون الشرط بمنزلة الداعي ، وقسم من الملزمات مستقلّ برأسه ، وإن اعتبر في إلزامه وقوعه في ضمن عقد لازم ، والعجب منه استدلاله ـ مع ذلك ـ على وجوب ضبط المدّة ، بحيث لا يحتمل الزيادة والنقصان ، كقدوم الحاجّ في الخيار المشترط ، بأنّ للشرط قسطا من الثمن ، فيدخل فيما نهي عنه من الغرر.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٩٢ ، الباب ٣٢ من أبواب أحكام العقود ، الرواية ٢٣٢٢٣ و ٢٣٢٢٤.


وثانيهما : إنها تدلّ على وجوب الوفاء بما التزم به المسلم ، إلّا ما استثنى ، للتبادر المعتضد بفهم العلماء في جميع الأعصار ، في أبواب الفقه ، من غير نكير ، ولكونها جملة خبرية مستعملة في الإنشاء بقرينة الاستثناء ، ولزوم الكذب لولاه ، وظاهرها الوجوب ، ولاستدلال الإمام عليه‌السلام على وجوب الوفاء ، بكون المسلمين عند شروطهم ، في جملة منها ، وتصريح بعضها بالوجوب ، كما في قوله عليه‌السلام في موثق عمار : « فليف به » ، فالاستشكال في دلالتها على الوجوب لا وجه له.

المطلب الثالث : في أنّ انعقاد الشرط يختصّ بالمذكور في متن العقد ، لا بما لا يقع في العقد أصلا ، أو المذكور في أحد طرفيه قبله أو بعده.

أمّا الأوّل : فلاختصاص دلالة الأخبار بالوجهين المذكورين به دون غيره.

أمّا بالوجه الأوّل : فلأن الاستحقاق له عليه من جهة جزئية العقد ، فلا يتناول الفاقد للعقد.

وأمّا بالثاني : فلأنّ مقتضاه مجرد وجوب الوفاء ، وهو حيث لا يتعلق بما في ضمن المعاملة لا يفيد غير مطلق التكليف والعصيان في الترك ، لا اشتغال الذمة بحقّ الغير ، على سبيل سائر الحقوق المالية التي يمكن استيفاؤها من ماله مع المخالفة ، وهذا غير المبحوث عنه في المقام ، بل الظاهر الاتفاق على أنّ وجوب الوفاء في باب الشرط من القسم الثاني ، مضافا إلى إمكان منع صدق الشرط على مجرّد القول الخالي عما يوجب اللزوم من سبب شرعي أو عرفي ، ولا أقلّ من الشكّ في صدقه القادح في الاستدلال بها على مطلق الوجوب أيضا ، بل القدر المتيقّن في الصدق كونه مقترنا بعقد ونحوه ، ومعه يحصل الاستحقاق للمشروط له ـ أيضا ـ بما مرّ من وقوع الالتزام على هذا الوجه. والظاهر أنّ هذا سرّ تخصيصهم الشرط بما في ضمن العقد ، دون الواقع في خارجه ، ومنه ينقدح وجه عدم لزوم الوفاء بالشرط الواقع في ضمن العقد الفاسد أو المنفسخ بالتقايل ؛ لانتفاء حكم الجزئية الموجب للزوم بانتفاء الكلّ.


وأمّا الثاني : أي المذكور في أحد طرفي العقد ، فعدم لزومه ظاهر عبائر الأكثر ، من التعبير عنه بالمذكور في ضمن العقد ، وقد يصرح بما يذكر بين الإيجاب والقبول ، فلا يعتدّ بما ذكر قبله ، وإن بني العقد عليه أو بعده ، بل نفي عنه الخلاف ـ ظاهرا ـ بعض الأجلّة.

نعم ، يظهر من بعض من عاصرناه الاعتداد بما بنى عليه ، وإن لم يذكر في العقد ، ومن الشيخ في النهاية (١) الاكتفاء بما ذكر بعد العقد.

وكيف كان ، فوجه عدم الاعتداد به ما ذكرنا آنفا وسابقا ، من أنّ انعقاد الشرط ولزومه باعتبار جزئيته للعقد وتقريب دلالة الأخبار ، فلا يتناول الخارج عن العقد ، ووجه القول بشموله للبعد غير معلوم ، خصوصا مع الاختصاص دون القبل ، ولذا ربما يتكلّف في توجيهه بتنزيله بما بعد الإيجاب خاصّة ، وللقول بما قبل العقد بأنّه في حكم المذكور في العقد ، فلا يصحّ بدونه.

ويضعف بأن ما يحصل به الرضا بالعقد على وجهين :

أحدهما : ما هو مجرد الداعي ، بحيث لو لم يثق به لم يبادر بالعقد.

وثانيهما : ما تعلّق به إنشاء العقد ، مضافا إلى كونه داعيا.

وما يختلف به صحّة العقد وفساده هو الثاني لتعليق إنشاء العقد عليه ، من قبيل العوضين بخلاف الأوّل ، فإنّه ليس متعلق الإنشاء إيجابا وقبولا ، فلا تأثير له في العقد ، وتقدّم البناء عليه لا يوجب جزئيته له (٢) ، مع عدم دلالة لفظ العقد عليه بوجه ،

__________________

(١) النهاية ونكتها ٢ : ١٣٥.

(٢) ولا يتوهّم أنّ المراضاة والمساومة فيهما وقع على الشرط وإقدام المشروط له إنّما حصل لوعد الشرط وتقرير المشروط عليه فمع التخلّف يحصل الضرر ، وهو منفيّ في الشريعة ، فيجب عليه الوفاء به أو ثبوت الخيار للآخر. لاندفاعه بأنّ التقرير الموجب للضرر ، إنما يحصل عند اعتقاد المشروط له لزوم الوفاء على المشروط عليه وهو غير معلوم له ، فإقدامه على ما لا يؤمن ضرره حصل بتقصيره وهو غير منفيّ كما سننبّه عليه في بعض المشارق الآتية. منه ـ دام ظله.


غاية الأمر كونه قرينة لوقوع التراضي لغة بوفائه عليه ، ومجرد ذلك بدون المراضاة الإنشائية بينهما ، الحاصلة بنفس العقد ، غير كاف في التأثير على وجه الجزئية.

نعم ، لو أشعر به في العقد على وجه صحّ تعلّق إنشائه بما يتركب منه ، كان دخيلا في العقد ، ومجرد النيّة الخالية عما دلّ على إنشاء المنويّ في عقد المعاملة غير مفيد.

المطلب الرابع : في حكم الشرط إذا امتنع عنه المشروط عليه ، وفيه أقوال :

الأوّل : وجوب الوفاء به على المشروط عليه ، وإن امتنع أجبر عليه ، كسائر أجزاء العقد ، وليس لأحدهما الفسخ قبل تعذّر الشرط وفواته ، إلّا برضى الآخر ، والظاهر أنّه المشهور ، واختاره في السرائر (١) والغنية (٢) والمسالك (٣) والكفاية (٤) ، بل في الأوّلين الإجماع عليه.

الثاني : وجوب الوفاء ، وإن امتنع فللمشروط له التخيير بين الإجبار ولو بالرفع إلى الحاكم ، والفسخ.

الثالث : وجوبه ، وإن امتنع فللمشروط له الفسخ ، دون الإجبار ، نقل عن ظاهر الدروس (٥) بقوله : يجوز اشتراط سائغ في عقد البيع ، فيلزم الشرط من طرف المشروط عليه ، فإن أخلّ به ، فللمشترط الفسخ ؛ وهل يمكن إجباره عليه؟ فيه نظر. انتهى.

__________________

(١) السرائر ٢ : ٢٤٣.

(٢) غنية النزوع ١ : ٩٧.

(٣) مسالك الأفهام ٣ : ٢٧٤.

(٤) كفاية الأحكام : ٩٧.

(٥) الدروس الشرعية ٣ : ٢١٤.


الرابع : عدم وجوب الوفاء على أحد منهما ، وإنما فائدة الشرط جعل العقد عرضة للزوال عند فقد الشرط ولزومه عند الإتيان به.

الخامس : التفصيل المنقول عن الشهيد وهو أنّ الشرط الواقع في العقد اللازم ، إن كان العقد كافيا في تحققه ، ولا يحتاج بعده إلى صيغة ، فهو لازم لا يجوز الإخلال به ، كشرط الوكالة في عقد الرهن ونحوه ، وإن احتاج بعده إلى أمر آخر ، كشرط العتق فليس بلازم ، بل يقلب العقد اللازم جائزا.

والأظهر الأوّل ، لتعلّق الحقّ عليه ، بل لوقوعه جزء العقد ، فحكمه حكم أحد العوضين ، فعلي المشروط عليه أداؤه لذي الحقّ ، وعلى المشروط له مطالبة حقه ، ولو بالإجبار عليه ورفع الأمر إلى الحاكم ، وثبوت الخيار مع كون العقد لازما يحتاج إلى دليل ينفيه الأصل ، ويحتاج إلى دليل ، مع كون الفرض لزوم العقد من أصله ، ويتضح من ذلك ضعف سائر الأقوال.

والاستدلال الأخير بأنّ اشتراط ما العقد كاف في تحققه ، كجزء من الإيجابين ، فهو تابع لهما في اللزوم والجواز ، واشتراط ما سيوجد أمر منفصل من العقد ، وقد علّق عليه العقد ، والمعلّق على الممكن ممكن ، مخدوش بمنع التعليق ، بل هو التزام في نفس العقد بأمر مقدور ، وإن كان الملتزم به منفصلا ، فله الإجبار عليه.

المطلب الخامس : في حكم ما إذا تعذر الشرط لفوات وقته ونحوه ، وإن لم يكن بتقصير من المشروط عليه ، كما اذا شرط تسليم العوض في يوم معين ، ولم يف به ، أو سكنى دار في مدّة معينة ، فانهدمت قبلها ، أو منفعة ملك آخر ، فانطمس بالسيل ونحو ذلك.

والمشهور تخيير المشروط له بين فسخ العقد وإمضائه ، بل عن جماعة الإجماع عليه ، بل بلا خلاف فيه يعرف ، وهذا الذي سمّوه في الخيارات بخيار الاشتراط ، وصرّحوا به في كثير من صور التدليس في النكاح ، كتزويج المرأة على أنّها بنت


مهيرة (١) فبانت بنت سرية ، وعلى أنّها بكر فبانت ثيّبة ، وغير ذلك.

واستدلّوا عليه بأنّ الخيار مقتضى الشرط ، ولعلّ وجهه أنّ التراضي على سبيل اللزوم وقع على هذا الشرط ، فإذا انتفى كان له الرجوع إلى ماله.

ومنعه بأنّ الظاهر من العقد الرضا بالانتقال مع التزام الشرط ، وقد وقع الالتزام ، وأمّا تحققه فهو أمر خارجيّ لا دخل له بالعقد ، بل قد لا يلتفت في العقد على عدم تحققه ، وإن كان باعثا على العقد ، فهو من قبيل سائر دواعي العقد المتخلفة عنه ، مخدوش بأنّ تقييد العقد بالشرط ـ أي الإلزام ـ يدلّ ظاهرا على تعليق رضى المشروط له عليه.

وحيث إنّ مقصود المشروط له من الإلزام ليس مجرده ، بل إيجاد الملتزم به وحصوله ، فلفظ الشرط المقيد به العقد يدلّ بالدلالة العرفية الالتزامية على تعليق رضاه على تحقق الملتزم به ، ولما كان تعليق رضاه بنفس العقد على تحققه غير معلوم ، لحصول الغرض بالتعليق في مجرد اللزوم واستمرار العقد ، على أنّه لو لم يحصل كان له الفسخ ، فهو القدر المحقق من التعليق ، سيما بملاحظة أن التعليق في نفس العقد يوجب البطلان ، فلا موجب لحمل اللفظ على المعنى الفاسد ، مع عدم ما يقتضيه ، بل يتعين الحمل على تعليق اللزوم الذي لا يوجب البطلان ، ويعمل بمقتضاه ، لأدلّة جواز الشرط المقتضي لصحة لوازمه التي منها انتفاء اللزوم بانتفاء الملتزم به ، فإذن ، فالمعتمد ما عليه المعظم من ثبوت الخيار بتعذّر الشرط ، مضافا إلى أدلّة نفي الضرر المقتضي للخيار في غالب موارد الفرض ، كما استدلّوا بها على كثير من الخيارات.

__________________

(١) بنت مهيرة على فعيلة بمعنى مفعولة : بنت حرّة تنكح بمهر وإن كانت متعة على الأقوى ، بخلاف الأمة فإنّها قد توطأ بالملك.


المطلب السادس : في بيان الشروط الفاسدة.

قد استثنيت من الشروط الجائزة شرائط ، اختلفت كلماتهم في تحريرها ، وجملة ما ذكروه خمسة : الشرط المنافي لمقتضى العقد ، والشرط المخالف للكتاب والسنة ، والشرط الذي أحلّ حراما أو حرّم حلالا ، والشرط المؤدّى إلى جهالة أحد العوضين ، والشرط الغير المقدور.

وربما يرجع بعضها إلى بعض ، فيقتصر به عن ذكره ، كما يقال : إن المخالف للكتاب والسنة ، يغني عن المؤدّى إلى الجهالة ، لكونه معاملة غررية منهيّ عنها في السنة ، وكما عن جماعة من تفسير المخالف لهما بما يخالف مقتضى العقد ، نظرا إلى مخالفته لما جعله الشارع مقتضاه.

ونحن نبيّن جليّة الحال في كلّ منها بعنوانه ، ونكشف حجاب الارتياب عما هو المعنى المقصود منه ، الذي وقع فيه الإشكال والخلاف بين الأصحاب. فنقول :

أمّا الأوّل : فالمراد به الشرط المنافي لمدلول العقد لذاته ، أي لما هو ماهيّته عرفا أو شرعا ، أو لماله مدخلية في صحّته شرعا ، أو لما يلزمه كذلك ، بحيث لا ينفكّ منه ، فإنّ جميع ذلك مناف لما هو مقتضى العقد بذاته الغير المتخلف عنه.

ووجه بطلانه ما سمعت من أنّ استحقاق الشرط ولزومه إنّما هو باعتبار وقوعه جزء العقد ، وهذا فرع بقاء العقد على مقتضاه الذي هو معنى صحّته وترتّب الأثر الموضوع له عليه ، فإذا كان الشرط مخالفا له ، كانت صحّة الشرط مقتضية لفساد العقد المقتضي لفساد الشرط ، فيلزم من صحته عدمها ، فيكون باطلا ، فعلى هذا لو شرط عدم تملك العوضين ، أو عدم تسليمه ، كان باطلا ، لأن العوض من أركان ماهيّة البيع ، فإذا انتفى ينتفي.

ومن أمثلته ما ذكروه من شرط عدم الانتفاع به أو كون المنفعة للبائع ، وربما


يناقض ذلك بما اتفق على صحته من شرط المنفعة ، كسكنى الدار للبائع في مدّة معينة ، وشرط المرأة على زوجها أن لا يخرجها من بلدها ، كما هو المنصوص عليه ، مع أنّ مقتضى البيع ملك المنفعة مطلقا ، ومقتضى الزوجية تسلط الزوج على السكنى.

ومنه اشتراط سقوط خيار المجلس وخيار الحيوان ، مع أنّ عقد البيع يقتضيهما.

واختلفوا في بعض الشروط ، كشرط أن لا يبيع المبيع ، أو لا يعتقه ، أو لا يطأها ، فقد يذكرونها في أمثلة كون الشرط منافيا لمقتضى العقد ، لأن مقتضاه الملك وهو يقتضي جواز أنحاء المتصرفات ، فالملك الذي هو مقتضى العقد ينافي هذا الشرط.

واستشكله في التذكرة (١) في شرط عدم البيع وعدم العتق ، بل في جملة من الصحاح (٢) ـ بعد السؤال عن الشرط في الأمة لا يباع ولا يوهب ، فقال : يجوز ذلك غير الميراث ، فإنّها تورث ، لأنّ كلّ شرط خالف الكتاب باطل ـ كما في بعضها ـ ومردود ، كما في آخر.

وربما يذبّ عن هذه الإشكالات بوجوه قاصرة غير حاسمة لمادة الإشكال ، والذي يختلج ببالي في تحقيق المقام أن مقتضى العقد على قسمين :

أحدهما : ما كان داخلا في حقيقته وماهيته ، بحيث لا يتحقق العقد بدونه ، شرعا أو عرفا ، من غير توسط جعل آخر في ترتبه عليه ، كالعوضين للبيع والنقل بالمعاوضة.

وثانيهما : ما ليس داخلا في حقيقته ، ولكن رتّبه الشارع على مقتضاه بتوسط دليل غير دليل شرعية العقد ، بواسطة أو وسائط ، كالتسلط على المبيع الذي جعله

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٨٩.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ١٦ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠٤٢ ؛ و ٢٦٧ ، الباب ١٥ من أبواب بيع الحيوان ، الرواية ٢٣٦٤٦.


الشارع أثر الملك الذي هو مقتضى البيع ، بقوله عليه‌السلام : « الناس مسلطون على أموالهم » ، ونحوه ، وخيار المجلس الذي رتبه على النقل الحاصل بالبيع ، وجواز الوطء المترتب على الزوجية الحاصلة من النكاح ، والتسلط على سكنى الزوجية المترتب عليها ، ونحو ذلك.

فما كان من الأوّل فلا شبهة ولا خلاف في بطلان المنافي له ، ووجهه ظاهر مما مرّ. وأمّا الثاني ، فاللازم فيه ملاحظة الدليل المقتضي لترتّبه على مقتضى العقد ، فإن علم بإجماع أو نحوه عدم انفكاكه وعدم تخلفه عنه مطلقا ، كحرمة أمّ الزوجة اللازم للزوجية ونحوها ، فالشرط المنافي له باطل أيضا ، لعين ما مرّ ، وإن علم تخلفه بسبب الشرط ، وإن لزمه عند الإطلاق ، كخيار المجلس وخيار الحيوان الذي دلّ الإجماع على تخلفه عنه بالشرط ، كما يتخلّف عنه بغيره أيضا ، كإسقاطه بعد العقد والتصرف ، فلا كلام فيه أيضا ، ويصحّ الشرط ، وإن لم يعلم شي‌ء منها ، سواء علم إمكان التخلّف بسبب غير الشرط لدليل دلّ عليه بخصوصه ، أو لم يعلم ذلك أيضا ، فهو على حسب نظر الفقيه ، فإن لم يثبت له دليل عامّ على سببية العقد لهذا الأمر ، واحتمل اختصاص اقتضاء العقد خلافه بالمجرد عن الشرط ، فيحكم بصحّة الشرط عملا بعموم أدلّة الوفاء به ، وإن ثبت له دليل كذلك ، فمقتضى النظر بطلان الشرط ، خصوصا مع اعتضاده بأصل الفساد ، مضافا إلى كون الشرط ـ حينئذ ـ مخالفا للسنة المقتضية للترتب والسببية ، ولا يلاحظ فيها التعارض مع أدلّة الشرط ، لاختصاص الأخيرة بما لا ينافي مقتضى العقد ، حسب ما مرّ ، وعلى الفقيه تدقيق النظر في كلّ مجال ، لكي لا يشتبه عليه حقيقة الحال.

وبهذا يرتفع الإشكال عن الأمثلة التي ذكروها ، من عدم جواز شرط عدم انتفاع المشتري بالمبيع ، وجوازه في زمان معين ، وعدم جواز شرط عدم الوطء في


النكاح الدائم ، وجوازه في المتعة ، وجواز أن لا يخرج الزوجة عن بلدها ، وأمثال ذلك ، لكون الإجماع هو الفارق بينهما.

ويشبه أن يكون مبنى الإجماع ما يقتضيه الاعتبار ، من أنّ غرض الشارع من البيع حصول الملك ، والغرض منه الانتفاع به ولو في الجملة ، فشرط عدمه مطلقا ينافي الغرض من وضعه ، ومنه النهي عن بيع الغرر ، ممّا يعدّ سفها ، بخلاف شرط في زمان معيّن ، وبه يوجه المنع فيما ذكروا من اشتراط أن لا يبيعه ولا يعتق ولا يطأها واستشكله في التذكرة ، وورد جوازه في الإماء ، وكذا الغرض من وضع النكاح الدائم التوالد والتناسل ، فشرط عدم الوطء ينافيه ، بخلاف المتعة ، فإنّ المقصود من وضعها مطلق التمتع ، وهو يحصل بغير الوطء أيضا ، ولذا لا يجوز شرط عدم التمتع مطلقا فيها.

فإن قلت : قوله عليه‌السلام : « الناس مسلطون على أموالهم » (١) ، يدلّ على جواز جميع التصرفات في جميع الأحوال في الملك الذي هو مقتضى البيع ، فلا يصحّ شرط عدم التسلط ولو على بعضها ، كعدم العتق أو سكنى الدار في زمان معين ، وهو خلاف ما ذكروه.

قلت : صحة الإلزام والالتزام بالشرط في ترك بعض التصرفات من مقتضى عموم : « الناس مسلطون على أموالهم » ـ أيضا ـ ولسبقه يقدم ، كمن أوجب على نفسه بنذر أو شبهه أن يبيع أو لا يبيع ملكه ، مع أنّ دلالة الإطلاق المذكور على جواز جميع أنحاء التصرفات في جميع الأحوال غير ظاهرة ، ولذا لا يستدلّ به على جواز الوطء في دبر الأمة ، في مقابل أدلّة المنع (٢) وكيف كان فلس المقصود في

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٤٥٧ ، الحديث ١١٨ ؛ بحار الأنوار ٣ : ٢٧٢ ، الحديث ٧.

(٢) وأيضا مدلول خيار الشرط وارد ومزيل لمدلول قاعدة التسليط على الملك ، فإنّ الثاني في مقام بيان الحكم الأصليّ ، والأوّل في بيان تشريع السبب المزيل لبعض السلطنة ، من قبيل ما ورد من حرمة الأكل من ماله في التخمة في مقابل القاعدة المذكوره وسننبّه على تفصيل ذلك في بعض المشارق الآتية منه ـ دام ظلّه.


المقام خصوص الموارد ، بل تعيين المناط فيما ليس له دليل خاصّ ، وهو ما بيّنا.

وأمّا الثاني : أي الشرط المخالف للكتاب والسنة ، فلا خلاف في عدم الاعتداد به ، ـ أيضا ـ واستفاضت عليه النصوص :

منها ، مضافا إلى كثير مما تقدم رواية ابن فضّال (١) ، في امرأة نكحها رجل ، فأصدقته المرأة ، واشترطت عليه أن بيدها الجماع والطلاق ، قال : « خالف السنة ، وولّى الحقّ من ليس أهله ، وقضى أنّ على الرجل الصداق ، وأنّ بيده الجماع والطلاق ، وتلك السنة ».

وقريب منها رواية محمد بن قيس (٢) ، ومرسلة مروان بن مسلم (٣) ، عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : ما تقول في رجل جعل أمر امرأته بيدها؟ قال : فقال : « ولّى الأمر من ليس أهله ، وخالف السنة ، ولم يجز النكاح ».

وفي الصحيح (٤) : قضى عليّ عليه‌السلام في رجل تزوّج امرأة ، فإن جاء بصداقها إلى أجل مسمّى فهي امرأته ، وإن لم يجي‌ء بالصداق فليس له عليها سبيل ، شرطوا بينهم حيث أنكحوا ، فقضى أنّ بيد الرجل بضع امرأته ، وأحبط شرطهم.

وغير ذلك من مستفيضة الأخبار ، فلا شبهة في عدم جواز هذا الشرط ، وإنّما الكلام فيما يراد منه ، فإنّه لا يكاد يسلم ظاهره عن مناقشة ومناقضة بأمثلة اتفاقية ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٢ : ٩٨ ، الباب ٤٢ من أبواب مقدمات الطلاق ، الرواية ٢٨١٢٢.

(٢) نفس المصدر ٢٢ : ٩٣ ، الباب ٤١ من مقدمات الطلاق وشرائطه ، الرواية ٢٨١٠٧.

(٣) نفس المصدر ٢١ : ٢٦٥ ، الباب ٤٠ من أبواب المهور ، الرواية ٢٧٠٥٢.

(٤) المصدر السابق مع اختلاف في العبارة ، فراجع.


فإنّه إن أريد بمخالفته مخالفة لزومه ، فالشروط السائغة كلّها غير لازمة ، قبل الشرط بمقتضى الكتاب والسنة ، ولزمت من جهة الأمر بالوفاء بعد الشرط ، فلا معنى لاستثنائها ، وإن أريد مخالفة متعلق الشرط ، لما ثبت من الكتاب والسنة ، سواء كان ثبوته منهما بأصل الشرع ، كما قيل ، كشرط استرقاء الحرّ ، واستباحة بضع محرّم وشرب الخمر وترك التزويج والتسري ونحوها ، أو بتوسّط العقد ، كشرط عدم انتفاع المشتري من المبيع ، وعدم انتقاله بالإرث ، وكون الطلاق بيد الزوجة ، وأمثالها ، فينتقض بشروط أخرى جائزة ، إجماعا ونصّا ، كشرط سقوط خيار الحيوان والمجلس ، وثبوت الخيار والمنفعة للبائع إلى زمان معلوم ، وعتق المبيع ، وعدم إخراج الزوجة عن بلدها ، وغير ذلك مما لا يحصى ، فلا يتحصّل مناط التفرقة بذلك بين الشرط الجائز وغير الجائز ، ولم يتّضح الفرق بين تعيين المدّة وعدمه في شرط المنفعة.

وقد تصدّى جمع من المحقّقين دفعا لهذه الإشكالات ، وضبطا لمناط الفرق بينهما لتوجيه الحديث وتنزيله إلى محامل بعيدة ، وهي ـ مع بعدها ـ غير حاسمة لمادّة الإشكال.

فمنهم من جعل الضابط في الشرط الجائز ما لا يخالف مقتضى السنة بأصل الشرع ، لا بتوسّط العقد ، استشهادا له باتفاقهم على صحة شرائط يخالف مقتضى السنة بتوسّط العقد ، كشرط عدم الانتفاع مدّة معينة ، وشرط سقوط خيار المجلس ، ونحوهما.

وهو منتقض بصحة شرط عدم الانتفاع من مال آخر له غير المبيع مدّة معلومة ، وعدم تزويج امرأة معينة ، ونحوهما المتفق على صحته مما لا يحصى.

وقال آخر : الفارق بين الجائز وغير الجائز ورود النصّ بخصوصه على جواز


خلاف الشرط ، فلا يجوز شرط عدمه ، كتزويج الزيادة على الواحدة ، بقوله تعالى : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) (١) ؛ أو بالعموم ، فيجوز ، كتزويج المرأة الفلانية ، وهو كما ترى مجازفة صرفة.

وقال المحقق القمي (٢) : المناط في مخالفة السنة اشتراط ترك مباح على وجه القاعدة الكلّية دون خصوصية فرد ، نظرا إلى أنّ متعلّق الحكم الشرعي هو الكلّي ، وتعلّقه بالجزئيات باعتبار تحقق الكلّي في ضمنها ، فشرط ما يخالف الكلّي يخالف السنة ، مثل ترك التزويج والتسري وجعل الخيرة في الطلاق والجماع بيد الزوجة ، المخالف لقوله تعالى ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) (٣) ؛ وأما ما يخالف الجزئي ، كعدم تزويج امرأة معينة ، فليس مخالفا لما تعلّق به الكتاب والسنة.

وفيه المناقشة ـ أيضا ـ : أمّا أوّلا ، فلأنّه لا شاهد للفرق بهذه الاعتبارات مع التساوي في صدق تعلّق الحكم الشرعي بهما لغة وعرفا ، ولو هو بواسطة الكلّي أيضا ، وأمّا ثانيا فلأنّ انتفاء الحكم عن الجزئى بالشرط ينافي كلّية الحكم الشاملة له الثابتة بالشرع ، فيخالف الشرط الحكم الكلّي ـ أيضا ـ ، وأمّا ثالثا ، فلأنّ كلّ شرط لا ينفكّ عن خصوصية لم يعتبر في الحكم الكلّي ، ولو هي خصوص المشروط له ، فلم يبق مورد للاستثناء ، والتفرقة بين الخصوصيات تحكّم.

وقال والدي العلّامة (٤) : إنّ المراد بالشرط المخالف للكتاب والسنة أن يشترط حكما خالف حكمها ، سواء كان من الأحكام الطلبية أو الوضعية ، وذلك كما أنّه

__________________

(١) النساء (٤) : ٣.

(٢) رسالة الشروط المطبوعة مع غنائم الأيّام : ٧٣٢.

(٣) النساء (٤) : ٣٤.

(٤) عوائد الأيام : ١٤٤.


ثبت منهما أنّ أمر المرأة ليس بيدها ، فشرط كونه بيدها ، وثبت أن الطلاق بيد الزوج ، فيشترط أن لا يكون بيده ، وثبت أنّ الناس مسلطون على أموالهم ، فيشترط أن لا يكون مسلطا على أمواله أو على مال معيّن ، وثبت أنّ الخمر حرام ، فيشترط أن يكون حلالا ، إلى غير ذلك ، وأمّا اشتراط أن لا يتصرّف المشتري في المبيع مدّة معلومة ، فهو ليس مخالفا للكتاب أو السنة ، إذ لم يثبت منهما تصرّفه ، بل إنّما ثبت جواز تصرّفه ، والمخالف له عدم جواز تصرّفه ، فلو شرطه كان باطلا.

فإن قلت : شرط عدم تصرّفه يستلزم عدم جواز تصرّفه ، فيخالف السنة ـ أيضا.

قلت : لا نسلّم أنّ الشرط يستلزم عدم جوازه. نعم ، إيجاب الشارع للعمل بالشرط يستلزم عدم جواز التصرف ، وليس المستثنى شرطا خالف إيجابه أو وجوبه الكتاب أو السنة ، انتهى خلاصة ما أوردناه.

وحاصله : أنّ المراد من الاستثناء بطلان شرط كان متعلّقه حكما طلبيا أو وضعيا خالف ما ثبت قبله من الكتاب والسنة ، لا نفس الفعل ، وإن صار بعد إنفاذ الشرط مخالفا لحكمه السابق ، وبه فسّر الشرط الآتي ـ أيضا ـ أي ، ما حلّل حراما أو حرّم حلالا ، كما سنشير إليه ، وهذا التفسير وإن كان أقرب بالاعتبار ، وأوفق بأكثر الأخبار من غيره ، إلّا أنّه غير مسلم عن بعض المناقضة أيضا ، لانتقاضه طردا بمثل شرط سقوط خيار المجلس أو الحيوان ، وثبوت الخيار مدّة معلومة ، المجمع على صحّته ، ونحو ذلك ، مما ليس بفعل العبد ، وعكسا بشرط فعل ثبت حرمته بالكتاب أو السنة ، أو ترك ما ثبت وجوبه ، كشرط شرب الخمر ، واسترقاق الحرّ ، وترك فريضة ، وأمثالها ، وبشرط فعل مباح أو ترك مباح كان لزومه ولو بالشرط مخالفا للسنة ، كشرط عدم التزويج والتسري ، فإنّه غير جائز على ما تكرّر عليه نقل الإجماع.


ودفعه بأن شرط فعل الحرام وترك الواجب ليس من جهة مخالفة السنة أو تحليل الحرام وعكسه ، بل بوقوع التعارض ـ حينئذ ـ بين ما دلّ على حرمة الفعل أو الترك ، وبين أدلّة وجوب الوفاء بالشرط.

يمكن المناقشة فيه بأنّ هذا التعارض واقع غالبا في المباحات ـ أيضا ـ كشرط عدم تزويج امرأة مدّة معيّنة ، دلّ على إباحته قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ) ، ونسبة التعارض بين أدلّة وجوب الوفاء بالشرط وبينه مثل النسبة بينها وبين أدلة الوجوب والحرمة في الأوّل ، وكون الإجماع مرجّحا في الأوّل لا ينضبط به القاعدة الكلّية ، بل يقتصر به على مورد اليقين ، فلا يرتفع به الإشكال ، بل وجب الرجوع في الثاني في غير ما علم صحّته بالخصوص بالإجماع إلى ما يقتضيه الأصل ، لكون التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه ، فلا يحصل بذلك الضابط الكلّي في الشروط الجائزة وغير الجائزة ، والتفرقة بين الأمور المحرّمة ، إلّا أن يجعل الإجماع مناطا فيهما ، وهو ـ مع كونه منافيا لمقتضى الخبر ـ غير مطرد في موارد الخلاف والشبهة ، ومع ذلك كلّه فحمل المخالفة للكتاب أو السنة على معنى اشتراط حكم يخالف حكمها مما يستدعي الدليل.

هذا ما وقفت عليه من كلماتهم في توجيه الحديث ، وهو ـ مع بعده غالبا ـ لا يهتدي إلى أمر محصّل مضبوط حاسم لمادّة الإشكال ، والذي يختلج ببالي وأظنّه أسلم ، بل سالما عن النقض والإيراد ، أنّ فائدة الشرط المقصود من قولهم : المؤمنون عند شروطهم ، ما تعاهد عليه المشترطان ، وحيث إنّ هذا يعمّ جميع ما تعلّق به الشرط ووقع عليه الإلزام ، استثنى عليه‌السلام منه ما يخالف مقتضى الشرع من الأفعال والأحكام.

وتفصيل ذلك : أن ما يلتزم به بالشرط : إمّا من باب الأفعال والتروك ، أو من قبيل


الأحكام الطلبية أو الوضعية. والأوّل : إمّا عمل سائغ شرعا أو محرّم ، من فعل معصية كشرب الخمر ، أو ترك فريضة كترك الصوم ، أو تشريع حكم يلتزم بفعله بعد الشرط ، ونحو ذلك ، والثاني : أي اشتراط الحكم إمّا يكون مما يتحقّق شرعا باشتراط الفعل الجائز ، ويلزمه كاشتغال الذمة بالمبلغ للمشروط له اللازم للالتزام بإعطائه ، وعدم تسلط الزوج على إخراج الزوجة من بلدها اللازم للالتزام بعدم إخراجها ، وسقوط الخيار اللازم بشرط عدم الفسخ ، والخيار اللازم بشرط الفسخ متى شاء ، ووجوب الكون اللازم بشرط ترك الحركة ، وحرمة الإقامة اللازمة للالتزام بالسفر ، وأمثال ذلك ، من الأحكام التي يكفي في تحققها شرعا مجرد الالتزام بالفعل الجائز ، أو لا يترتّب شرعا على مجرد الإلزام بالفعل السائغ ، بل هو إمّا لا يتغيّر عما هو في أصل الشرع باختيار من المكلّف ، كالتوريث والطهارة والنجاسة ونحوها ، أو يتغيّر بسبب اختياري من المكلّف في الكتاب والسنة ، غير مجرد الشرط ، كحرّية الرقّ المسببة شرعا عن تحريره بالعتق ، والرقية المسببة عن الاختلاس من دار الحرب ، والوقفية المسببة عن صيغة الوقف ، وأمثال ذلك.

فهذه اقسام أربعة لا شك في دخول الأوّل ـ أي الفعل السائغ ـ في المستثنى منه ، وكونه شرطا جائزا. نعم ، إذا كان الفعل واجبا كصلاة الفريضة ، كان الشرط يؤكّد وجوبه ، ولا ضير في الواجبات الشرعية ، كما في نذر الواجب ، ولا ينافي لزوم الشرط مقتضى الكتاب والسنة الدال على عدمه قبل الشرط ، كقوله تعالى : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (١) ؛ المنافي للزوم عدم تزويج امرأة بالشرط ، و ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) (٢) ؛ المنافي لشرط عدم إخراجها من البلد ونحو

__________________

(١) النساء (٤) : ٣.

(٢) النساء (٤) : ٣٤.


ذلك. لأن لزومه ليس متعلّق الشرط ، بل هو مقتضى دليل وجوب الوفاء به ، والمفروض هو ترجيحه على ما ينافيه ، والفراغ عنه بما مرّ في المطلب السابق ، بل لا تعارض بينهما حقيقة ؛ فإنّ الأحكام الشرعية يتغيّر بتجدّد الأسباب ، كحكم إباحة الفعل قبل الشرط ، فإنّه كان حكمه الأصلي ، وصار لازما بسبب الشرط ، وهل النسبة بينهما إلّا كنسبة « الناس مسلّطون على أموالهم » ، و « أحلّ الله البيع » ، الرافع للتسلط ، فلا يلاحظ الترجيح في خصوص الموارد ، بل هما من باب الوارد والمورود.

وكذا لا شكّ في دخول الأخير في المستثنى ، أي المخالف للكتاب أو السنة ، كشرط عدم الإرث ، ورقّية الحرّ ، وحرّية العبد.

والظاهر أنّه لا ينبغي الشك في دخول الثاني ـ أي شرط فعل الحرام ـ في المستثنى ـ أيضا ـ ، ولكونه المتبادر بالأذهان ومتفاهم الأصحاب ، فإنّه يصدق على شرب الخمر المتعاهد فعله والإلزام به كونه مخالفا لمقتضى الكتاب والسنة.

وأمّا الثالث : أي شرط نفس الحكم المترتّب على إلزام فعل جائز ، كشرط اشتغال الذمّة وسقوط الخيار ونحو ذلك ، فالظاهر جوازه ـ أيضا ـ ؛ لعموم أدلّة الشرط ، وعدم مخالفته للكتاب أو السنّة ، بل هو موافق للسنة الواضعة لحكم الشرع بالسببية الرافعة للحكم السابق ، كما علمت ، ومنع اشتراط القدرة على نفس متعلّق الشرط ، بل يكفي القدرة على سببه الذي هو الإلزام الذي هو المقدور له ، فهو من قبيل التعبير عن الملزوم باللازم ، فلا يخرج الحكم المشروط عن قدرته حقيقة.

ولا يتوهم أنّ اشتغال الذمّة إنّما يحصل بعد الشرط والإلزام واعتبار المتعلّق قبله ، فجعله متعلّقا لا يخلو عن دور ، لأنّ ذلك يستحيل فيما كان من باب الأخبار والقضايا ، دون ما هو من الإنشاء الذي يعتبر في العقود الشرعية ، فإنّ تحقق المتعلّق إنّما هو بنفس الإنشاء كما في الرهن بنحو جعلته مرهونا ، وفي الطلاق بقوله هي


طالق ، وفي الضمان بأنا ضامن ، وغير ذلك ، والشروط الشرعية من باب الإنشاء أيضا.

وأمّا الشرط الثالث ، أي الذي أحلّ حراما أو حرّم حلالا ، فقد وقع التصريح بعدم الاعتداد به في موثق إسحاق بن عمّار (١) ، بل لا كلام في عدم جوازه ، والإشكالات الواردة في الشرط السابق يتأتّى هنا أيضا ، نظرا إلى أنّ بناء الشرط على تحريم ما استبيح وإباحة ما حرّم ، لكونه مقتضى الإلزام ، فإنّه يحلّ للمشروط له المطالبة بالشرط ولو جبرا ، ويحرم على المشروط عليه الامتناع عنه على عكس حكمهما قبل الشرط ، وكذا يرد عليه ظاهرا النقض بكثير من الأمثلة المتقدمة ، وتكلّفوا في تفسيره بما تكلّفوا به في الشرط السابق ، ولا يخلو شي‌ء منه عن النقض والإشكال. والصواب ما حقّقنا فيه من أنّ المراد به الإلزام بفعل محرّم كاسترقاق الحرّ وشرب الخمر وتزويج الخامسة ، أو بترك حلال لا يجوز في الشرع الإلزام بتركه ، كترك وطء الزوجة ، أو الالتزام بحكم يستلزم العمل بأحد هذين المحذورين ، ويظهر لك بالتأمل الصادق تطبيق ذلك على التفصيل السابق في فقه الحديث.

وأمّا الرابع : أي الشرط المؤدّى إلى جهالة أحد العوضين ، وفي حكمها الجهل الغير المغتفر في العقد وإن لم يؤدّ إليها ، فالتحقيق فيها أنّ الجهل المتعلّق بالشرط على وجوه :

أحدها : كونه مؤدّيا إلى جهالة أحد العوضين ، بمعنى تردّده بحسب الواقع في أحد الأمرين أو أكثر سواء كانت في عينه ، كأن يبيع بدينار عراقي وشرط : « إن حدث كذا كان الثمن فرس كذا » ، أو في قدره ، كأن شرط : « إن حدث كذا كان الثمن دينارين » ، أو في صفة ، كأن شرط : « إن حدث كذا ، كان الدينار روميا » ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٧ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠٣٤.


وهذا الشرط باطل اجماعا ، ووجهه ـ مضافا إلى استلزامه في الأكثر الغرر المنهيّ عنه غالبا ـ أمران :

أحدهما : كونه منافيا لمقتضى العقد ، وقد عرفت فساده.

والثاني : أنّه يوجب عدم تعيّن العوض حال العقد ، وتوقف تعيينه على أمر سيوجد ، وهو ينافي استقلال العقد في السببية ، الذي هو مقتضى الأدلة ، حسب ما تقدّم.

ومنه ما إذا باع إلى سنة وشرط : « إن حدث كذا كان الثمن معجّلا عنده » لمدخلية المدّة في العوض ، ولا يذهب عليك أنّه أن شرط هبة بعض الثمن أو إعطاء دينار مضافا إليه إذا حدث كذا ، أو إعطاؤه معجّلا عنده ، ليس هو مما يؤدّى إلى جهالة العوض.

ولا يتوهم اتحاد مآل الشرطين بما تقدّم بيانه في تفصيل الشرط المخالف للكتاب ، فلازمه بطلان الثاني ـ أيضا.

لأنّ وجوب الإعطاء أو الإبراء بالشرط في الثاني ، لازمه اشتغال الذمّة بالمشروط به أو التزامه عنه ، لا صيرورة الثمن زائدا أو ناقصا ، والمبطل هو التردد والتعليق في الثمن ، لا في حصول المشروط به.

وكون الشرط قسطا من العوض لا يوجب الجهل به ، إذ القسط منه هو الاشتراط ، وهو الإلزام بالمبلغ أو نحوه عند حدوث كذا ، لا نفس المبلغ ، وشتّان ما بينهما.

وثانيها : كون الجهل مستلزما للغرر المنهيّ عنه ، وإن لم يرجع إلى الجهل بأحد العوضين بعينه ، بل إلى ما يتعلّق بالعقد ، مما يتفاوت به النفع والضرر ، ويختلف فيه الأغراض عرفا المجهول (١) عند المتعاقدين ، وإن تعيّن بحسب الواقع ، وسيجي‌ء تحقيق القول في الغرر والشرط الغرري ، ودليل فساده في بعض المشارق الآتية ـ

__________________

(١) في نسخة : عرفا أو المجهول.


إن شاء الله تعالى ـ (١).

ومن هذا الباب ما اتفقوا على بطلانه من شرط الخيار في مدّة مجهولة أو محدودة بحدّ غير مضبوط يحتمل الزيادة والنقيصة ، كقدوم الحاجّ وإدراك الثمرات ، ونحوه التحديد بما لم ينضبط به مبدأ الخيار ، كإتيانه إلى سنة من حين التفرق. نعم ، إذا كانت المدّة مضبوطة ، ولكن علّق الخيار على اقتران الفسخ بأمر لا نعلم وقت حصوله في أثناء المدّة المعينة ، سواء كان من فعل المشروط له أو غيره ، صحّ الشرط ، كقسط (٢) المدّة إلى سنة ونحوها ، بشرط أداء الثمن فيها ، كما ورد في النصوص المستفيضة (٣).

ومنه يظهر الفرق بين تعليق الفسخ على قدوم الحاجّ إلى سنة ، أو على حياة المشروط له فيها فصحّ الشرط ، وبين تحديد المدّة بقدومه أو حياته ونحوها فبطل ، وإن اشتركا في الجهل بزمانه ، وسنذكر وجه الفرق بينهما في البحث الآتي ـ إن شاء الله تعالى ـ وأنّ الجهالة في أصل المدّة يرجع الغرر فيه إلى نفس العقد ، بخلاف الثاني ، فانتظر.

وثالثها : كون الجهل واقعيا ، بمعنى عدم تعين المشروط المجهول في نفس الأمر ، وإن لم يرجع إلى أحد العوضين ، كأن يبيع بمائة وشرط له سكنى هذا الدار ، من غير تعيين المدّة.

__________________

(١) عبارات هذا المشرق مختلفة في النسختين في بعض المواضع وما أثبتناه في المتن موافق لنسخة « س ».

(٢) كبسط ( خ ).

(٣) كرواية سعيد بن يسار ؛ أنظر وسائل الشيعة ١٨ : ١٨ ، الباب ٧ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠٤٥.


والتحقيق فيه : أنّ الجهل ـ حينئذ ـ إن كان مؤدّيا إلى العوض أو الغرر ، فحكمه ما مضى من البطلان ، وإلّا فالمشروط : إمّا نفس الفعل الملتزم به ، كإعطاء دينار أو إسكان دار ونحوهما ، فالمتّجه فيه الصحّة ، لعموم الأدلّة ، وعدم احتمال مانع سوى لزوم تعين متعلق الشرط على ما سيجي‌ء ، وهو مدفوع بتعيّنه على الوجه الكلّي ، وهو ما صدق عليه فعل الشارط على حسب ما تعلّق به لفظ الشرط ، ولزوم تعيينه بالفرد عند الوفاء به من باب المقدمة ، وهو موكول بحسب دلالة اللفظ إلى خيرة الفاعل.

وبالجملة متعلّق الشرط ـ حينئذ ـ غير متعلق الفعل ، والأوّل متعين ، والثاني غير لازم التعيّن في الشرط ، والفرق بينهما ظاهر ، ولذا لا يصحّ الرهن بما يعادل من ماله الدين من غير تعيين ، ويصحّ ذلك في الشرط ، كأن يقول : بعتك هذا بعشرة دنانير ، وشرطت عليك أن تجعل لى مرهونا يعادلها من مالك.

أو يكون متعلّق الشرط غير فعل الشارط ، وهو : إمّا كلّي تساوت أفراده ، كأن يشترط له دينارا عراقيا أو رطلا من الحنطة ، فالوجه فيه الصحة ـ أيضا ـ لتعيين الحقّ الذي تعلّق به الشرط ، وهو الكلّي بما هو كلّي ، وعرفت أنّ لزوم التعيين بالفرد عند الوفاء به إنّما هو من باب المقدمة ، وحيث لا اختلاف في خصوصيات الأفراد المختلف به الأغراض ، لا يضرّ عدم تعيّنه في الشرط ، بل على الشارط الواجب عليه الوفاء تعيينه بواحد منها ، كما لا يضرّ عدم تعيينه في العقد إذا كان أحد العوضين ، كبيع رطل من الحنطة بهذا ، أو بيع هذا بدينار.

أو هو كلّيّ مختلف الأفراد ، كأن يشترط له فرسا ، فلا يبعد فيه البطلان ، فمتعلّق غرض المتعاقدين في مثل ذلك إلى الخصوصية ـ أيضا ـ عادة ، وهي غير متعينة ، وليس في لفظ الشرط ما دلّ على كونه بتعيين الشارط ، فيستحيل تعلّق الحقّ بها.

نعم ، لو فرض كون المقصود مجرّد الماهيّة بأي فرد تحققت ولو على تفاوت مراتبها ،


لم يبطل بذلك ، وإن بطل من جهة الغرر.

أو جزئيّ مردّد بين شيئين أو أكثر ، كأن يشترط له أحد هذين العبدين ، فإنّه ظاهر في عدم تعلّق الشرط بالمفهوم الكلّي ، بل بالخصوصية الغير المتعينة ، فيتّجه فيه البطلان لما ذكر ، كما يبطل العقد إذا جعل ذلك أحد العوضين.

ورابعها (١) أن يكون الجهالة بغير ما ذكر من الوجوه الثلاثة مقتضى عموم الأدلّة صحة الشرط حينئذ وعدم بطلانه بها إلّا إذا ثبت بطلانه بها بدليل فيقتصر على مورده كما في وجوب ضبط آخر المدّة في خيار الشرط بما لا يحتمل الزيادة والنقصان الثابت بالإجماع وبطلانه بالتحديد بقدوم الحاجّ وادراك الثمرات ونحوهما ولا هكذا ضبط أوّل المدّة كما في شرط حصول اختيار للبائع بردّ الثمن ودلّ عليه النصوص كالموثّق عن رجل مسلم احتاج إلى بيع ولو لا مشى إلى أخيه فقال : أبيعك داري هذه وتكون لك أحبّ إليّ من أن يكون لغيرك على أن تشترط لي أن جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّها عليّ. قال : لا بأس بهذا إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه.

ونحوه الصحيح.

وينقدح من هذا أنّه لو شرط الخيار إلى مدّة حياة أحدهما أو ثالث بطل ولو شرط إلى عشرين سنة بشرط حدوث كذا أو بشرط موت فلان يصحّ ولو شرط إلى عشرين بشرط حياته ففيه إشكال لوقوع (٢) الجهل إلى آخر المدّة حقيقة حيث يفيد تحديد الغاية بأمرين :

أحدهما مجهول هو ثبوت المشروط له ، والأخرى معيّن هو انقضاء العشرين.

__________________

(١) ليس في النسخة المطبوعة ونسخة « س » قوله : « رابعها » إلى قوله : « وأمّا الخامس » ، وأوردناه من نسخة « م » في المتن.

(٢) لرجوع ( خ ).


نعم ، إن قصد من شرط الحياة عدم الانتقال إلى الوارث يبطل من جهة أخرى هي مخالفته للسنّة. ولو شرط الفسخ بلفظه إلى عشرين ففيه وجهان : من انقطاع اللفظ بالموت الذي هو مجهول فرجع الجهل إلى الغاية ومن عدم تقييد المدّة به ، بل هو قيد للشرط. ولعلّ الأوجه فيه الصحة ومراعاة الاحتياط أولى ، بل ينبغي الاحتياط بالاحتراز عما كان الجهل فيه مثار النزاع مطلقا وإن لم يكن منع الغرر فيه ثابتا ، بل قيل بالمنع ، لأنّه لم يعهد نظيره في الشرع بل المعلوم منه خلافه.

وأمّا الخامس : أي الشرط الغير المقدور ، فلا خلاف في بطلانه واشتراط القدرة عليه ولو في بعض المدّة بقدر ما أمكن الوفاء به. ووجهه ـ مضافا إلى الإجماع وظهور الأخبار فيه ـ أنّ المراد بالشرط ـ كما عرفت ـ هو الإلزام والالتزام ، ومعنى شرعيته تحقّق اللزوم ، ووجوب الخروج عن عهدته مطلقا ، أو إنشاء بقاء لزوم العقد على المشروط له ، كما ربما يظهر عن بعضهم ، من أنّ فائدته جعل العقد اللازم جائزا ، كما سيجي‌ء ، وهو فرع القدرة عليه أو على سببه ، كان يكون فعلا مقدورا أو حكما يكفي في ثبوته مجرد الالتزام به حسب ما مرّ ، فلا ينعقد اللزوم بما ليس بمقدور.

ثمّ عدم المقدورية إمّا من جهة تعذّر الفعل مطلقا ، أو بالنسبة إلى المشروط عليه ، أو من جهة كونه فعل الغير ، كمجي‌ء زيد يوم كذا ، من غير أن يكون سببه مقدورا لمن شرط عليه ، ومنه بيع الزرع على أن يجعله الله تعالى أو المشتري سنبلا ، والرطب على أن يجعله تمرا ، إلّا أن يقصد به إبقائه إلى بلوغه سنبلا أو تمرا ، مع أنّه لا يخلو عن شناعة ـ أيضا ـ ، لخروجه عن صورة الشرط المقدور ، وعن المطابقة بين اللفظ والمقصود ، على ما أشرنا اليه في بعض ما تقدّم ، ولا بأس به مع وضوح المراد ، أو كونه من الأحكام المخالفة للكتاب والسنة ، أو المتوقّفة على سبب خارج من الشرط ، كاشتراطه حلية بضع أو فرقة زوجته أو حرّية عبده ،


من غير قصد سبب إيجاد سببهما من الشرط ، فهذه كلّها من الشروط الغير المقدورة ، وتكون باطلة.

ويقع الإشكال في بعض الأمثلة ، إلا أنّه بعد ما اتضح المناط يمكن دفعه بتأمّل دقيق فيه ، كما إذا اشترط البيع من ثالث باعتبار توقّفه على رضاه ، فهو من غير المقدور ، والظاهر أنّه يبنى على الخلاف في معنى البيع ، فإن قلنا أنّه نفس العقد المركّب من الإيجاب والقبول ، لم يصحّ الشرط ، لأنّ المركّب من فعله وفعل الغير ليس من فعله ، فليس مقدورا ، وتنزيله على الإيجاب خاصّة خروج عن حقيقة اللفظ ، وإن قلنا بأنّه نقل الملك بعوض معلوم ـ كما هو المشهور ـ صحّ ، لكونه من فعله ، وإن كان من شرط تحققه قبول الغير. نعم ، يتوقّف صدق القدرة على العلم أو الظنّ بحصول القبول من الغير مطلقا ، إن لم يعيّن المشتري أو خصوص شخص إن عيّنه ، فإذا اتّفق أن لا يرضى بالقبول كان للمشروط له الخيار.

المطلب السابع (١) في حكم العقد إذا فسد الشرط وفيه قولان : الصحة والبطلان ، والحقّ الثاني ، وفاقا للمحكيّ عن الأكثر.

ولنبيّن :

أوّلا لتحقيق المرام ، ما تداول بينهم من أنّ العقود تابعة للقصود ، وما اشتهر من أنّ الأصل في المعاملات الصحة ، والتوفيق بينه وبين أصل الفساد الذي هو معقد الإجماع.

فنقول : العقود أسباب شرعية لآثار مخصوصة جعلها الشارع مترتّبة عليها ، واللازم على الفقيه في ذلك معرفة أمور ثلاثة : العقد الذي هو السبب والأثر المسبّب له ، وشرائط تأثيره وكيفية ترتّبه عليه ، فإن علم الثلاثة بدليل خاص ، أو عام فهو ،

__________________

(١) في الأصل : المطلب الثامن ، والصحيح ما أثبتناه.


وإلّا يجب الاقتصار في كلّ منها على المعلوم ، عملا بأصل الفساد المتّفق عليه ، واستصحاب عدم ترتّب الأثر ، وقد يكون الأثر الثابت من الشرع مما يختلف كيفيته باختلاف إطلاق العقد ، أو تقييده بشرط ، أو خصوصية للعوضين أو أحدهما ، ككونه حيوانا أو نقدا ونحوهما ، كما أن نقل الملك الذي هو أثر البيع يختلف لزوما وتزلزلا إلى مدّة من طرف أو الطرفين ، ومستتبعا للمنافع أو مجردا عنها إلى مدّة معينة ، إلى غير ذلك من الوجوه والاعتبارات ، واللازم في جميع ذلك الاقتصار في الصحة على القدر الثابت بالأدلّة الشرعية.

ثمّ إنّه مما ثبت بالإجماع ويطابقه الأصل المذكور ، اشتراط قصد إنشاء الأثر الذي رتّبه الشارع عليه ، فلو صدر بلا قصد ، أو بقصد الإخبار أو إنشاء أثر آخر ، كان باطلا.

ويعتبر في هذا القصد أمران :

أحدهما : أن يكون من لفظ العقد ، فقصد به إنشاء الأثر المترتّب عليه ، فلا أثر لقصد لم يتعلّق بإنشاء العقد به ، وإن كان الرضا بالعقد معلقا عليه ، وكان من العلل الداعية عليه ، سواء كان هو من بعض الأحكام المترتبة على أثر العقد ، كأن يكون غرضه من التزويج مجرد حلّية النظر إلى أمّ الزوجة ، أو من الأمور الخارجة ، كأن تزوّجها طمعا في مالها أو استخدامها ، أو من بيع داره شراء دار المشتري باعتقاد كونه وسيلة له ، بل وإن وقعت المساومة بينهما عليه ، فأمثال هذه الأغراض والقصود لا دخل لها بقصد الإنشاء المعتبر في العقود ، ولا يتبعها العقد ، وإن كان الرضا معلقا عليها ، بل لا يؤثر في العقد ، وإن كان اعتقاد المتعاقدين أو أحدهما ترتّبه على العقد شرعا ، على خلاف الواقع ، كما إذا رضيت المتمتعة بعقد الانقطاع ، بظنّ استحقاقها القسم والنفقة كالدائمة ، بحيث لو لا هذا الاعتقاد لما رضيت بالتمتع.


ولعلّه لم يتأمل في ذلك أحد من أهل العلم ، فما قد يستشكل ـ بأنّ العقود تابعة للقصود ، وما قصد به هو التزوّج حال كونها مستحقة للقسم والنفقة ، فلا يصحّ العقد ـ مردود ، بأنّ مرادهم من تلك العبارة ، هو المقصود من العقود ، أي القصد المعتبر في لفظ العقد الذي يتحقّق به الإنشاء ، لا مطلق القصد.

وتوهّم أنّ الرضا بالعقد يتوقف عليه ، فمع عدمه لا مراضاة ، ولا هو تجارة عن تراض ، ولأجله يكون باطلا ، مدفوع بأنّ الرضا الفعليّ حاصل على الفرض ، وهو كاف في صدق التراضي المشروط في العقد ، وحصول الإنشاء على الرضا ، وما ليس فيه هو الرضا الفرضي ، وحصول الضرر في بعض الفروض غير مانع عن الصحة ، بل عن اللزوم أيضا ، لإقدام نفسه عليه ، ومثله غير منفيّ ، وإن كان للجهل بالمسألة ، كما في نظائر الفرض من موارد الأحكام ، وقد أشبعنا الكلام فيما يتعلّق بذلك في مسألة نفي الضرر ، في بعض الفوائد الآتية.

وثانيهما : قصد إنشاء الأثر الذي جعله الشارع بالأصالة مسبّبا له ، فلو قصد إنشاء غيره بالعقد ـ وإن كان من لوازم هذا الأثر ـ كان العقد باطلا ، لخروجه عن السببية الشرعية التي وضعها الشارع ، وهو من مقتضى قولهم : العقود تابعة للقصود ، فإن المراد عموم السببية في الصحة والبطلان ، فلو قصد بعقد النكاح إنشاء محرّمية أمّ الزوجة ، وبعقد البيع استحقاق المنفعة ، كان باطلا وبالجملة صحة العقد تابعة لما قصد إنشاؤه.

ولو كان العقد بإطلاقه سببا لأثر شرعا ، وبتقيّده بشي‌ء سببا لأثر يخالف الأوّل نوعا أو وصفا (١) ، وإطلاقا وتقييدا ، أو بغير ذلك من الاعتبارات وجب تطبيق العقد (٢)

__________________

(١) في « م » : وضعا.

(٢) في النسخة المطبوعة : القصد.


عليه ، ومع تخلفه لم يكن صحيحا ، كأن يقصد بالنكاح المجرد عن ذكر المدّة الزوجية المنقطعة ، أو بالعكس ، وبالبيع المطلق إنشاء الملك المتزلزل بالخيار ، وفي بيع الحيوان إنشاء الملك اللازم ، من غير ذكر الخيار في الأوّل ، وسقوطه في الثاني ، فمقتضى قاعدة السببية الموافق للأصل المتقدّم فساد العقد إلّا فيما خرج بدليل ، لأن الأثر المقصود غير ما يقتضيه العقد شرعا.

ثمّ العقد إن كان مدلوله اللغويّ والعرفيّ متعيّنا ولو بتوسط القرائن المنضمّة ، لزم كونه المقصود بالإنشاء ، ولا يصحّ لو قصد به غيره ، للأصل المذكور ، ولعلّه لا خلاف فيه أيضا ، وإن لم يكن متعيّنا ، بل قابلا بحسب الدلالة اللفظية لوجوه أو أفراد مختلفة ، كان تعيّن أحدهما منوطا بقصد العاقد ، فترتّب الأثر الشرعيّ للعقد عليه ـ حينئذ ـ موقوف على تعيّنه في القصد ، وإلّا بطل العقد ، لاستحالة تعلق الحقّ بغير المعيّن وبطلان الترجيح بلا مرجّح ، كما إذا قال : زوّجتك ابنتي ، ولم يعيّنها من بين بناتها ، وإن عيّنه فهو المتعيّن ، ويلزم عدم التدافع بين قصدي المتعاقدين.

وهل يشترط اطلاع القابل على ما قصده الموجب؟

لا شك في الاشتراط فيما يكون الغرر فيه منهيا عنه ، وأمّا في غيره ففيه إشكال ، من كون القبول واقعا على ما قصده الموجب ، وهو متعيّن وإن لم يعلمه بعينه ، ومن كونه مثار النزاع المرغوب عنه في الشريعة في أكثر نظائر الفرض ، وعلى الجملة فمما بيناه في المقامين تبيّن ما هو المراد من قولهم : العقود تابعة للقصود.

وإذا اختلف المتعاقدان في ما قصدا به ، فالمعتبر ، وإن كان قول القاصد ، لأنّ القصد من الأمور القلبية التي لا يطّلع عليها غيره ، إلّا أنّ اللفظ إن كان له دلالة ظاهرة بحسب العرف واللغة ، ولو لأجل القرينة ، كما في القسم الأوّل ، نقدم قول من يطابق دعواه مدلول اللفظ ، لأنّ الشارع أقام الألفاظ الظاهرة في معانيها مقام العلم


به إجماعا ، وإن كان مقتضى أصل الفساد فيما يخالفه عدم ترتّب الأثر إلّا مع العلم بقصده ذلك الأثر ، وإلى هذا ينظر قولهم : الأصل في المعاملات الصحة ، فلو قال : بعتك هذا وادّعى قصد الإجارة ، لم يسمع دعواه بمجردها إلّا بقرينة شاهدة عليه ، مثله ما إذا قال : بعتك هذا بدرهم على أن تكريني دابّتك هذه يوما ، فظهرت الدابّة مستحقّة للغير ، فمقتضاه نقل الملك منضمّا مع الإكراء ، فيبطل باستحقاق الدابّة للغير ، فلو ادّعى قصده إطلاق البيع لم يسمع ، وإن احتمل صدقه إلّا إذا فرض تساوي الاحتمالين بحسب الدلالة ، والقول بعدم سماع دعواه مع فرض التساوي ـ أيضا ـ مدفوع بما ذكرناه.

واذا عرفت هذا ، فلنرجع إلى المقصود ، أعني بطلان العقد بفساد الشرط ، ونقول : قد عرفت أنّ الشرط المأخوذ في ضمن العقد جزء له ، والعقد هو المركّب منه ، وعرفت أنّ اللفظ يحمل على مدلوله ، وكونه مقصود اللافظ ، فهذا التركيب ظاهر في قصد إنشاء الأثر ، مقيّدا بالالتزام بالشرط ، فالالتزام جزء الأثر المقصود بالإنشاء في هذا التركيب ، فإذا ظهر فساد الجزء فسد الكلّ ، لتعلّق القصد على وجه الجزئية ، فلم يبق الباقي مقصودا بالانفراد ، فلا يترتّب على العقد التركيبي أثر شرعيّ ، بل على ما سمعت ، من لزوم تطابق المدلول للقصد لو قصد الصحيح منفردا من مثل هذا التركيب ، لقلنا بفساده أيضا (١).

فإن قلت : ذكرت في بعض ما تقدم عدم فساد العقد بفساد بعض العوض ، بل لعلّه المتّفق عليه في البيع ، مع أنّ متعلّق القصد فيه المركّب أيضا.

قلت : ما ذكرنا ثمة ، لا تتأتّى في الشرط ، لأنّ وجهه فيما مرّ أنّ دلالة لفظ العقد

__________________

(١) عبارات هذا المشرق مختلفة في النسختين في بعض المواضع وما أثبتناه في المتن موافق لنسخة « س ».


على الأبعاض ـ وإن كانت تبعية ارتباطية ـ إلّا أنّها لا يستلزم التبعية في الحكم المدلول بها ، كما في قولنا : أكرم عشرة ، فإنّ دلالة العشرة على الوحدات بالتبعية التضمّنية ، ولا هكذا تعلّق وجوب الإكرام بها ، بل كلّ واحد منها مقصود بإنشاء الحكم عليه منفردا مستقلا ، ولذا لا ينتفي حكم الكلّ بانتفاء البعض ، وهو من قبيل قول الآمر : اكنس الدار ، وهي موضوعة للماهية المركبة من البيوت ، فلا يسقط الحكم عن بعضها بانهدام بعض ، إلّا مع قرينة ظاهرة.

وكون المراضاة على الكلّ ـ لو سلّم ـ لا يستلزم قصد الجزئية في إنشاء نفس النقل والانتقال ـ مثلا ـ في مثل البيع والصلح ونحوهما ، غاية الأمر حصول المقصود بوقوع الخيار عند ظهور التبعض ، لا بطلان العقد ، وكيف كان ، فلا يبطل البيع ـ مثلا ـ بالنسبة إلى الجزء الصحيح بما يقابله من العوض.

وأمّا الشرط ، فإنّ الإلزام بما اشترط ليس مقصودا بالانفراد قطعا ، وليس (١) في مقابله للمشروط عليه عوض ، فكيف يلتزم به مجانا ، وبالجملة ظاهر اللفظ كون المعاوضة مقيدة ومرتبطة بالإلزام بالشرط فينتفي بانتفاء القيد ، ولو قصد منه إنشاء النقل لا على وجه التقييد ، فهو خروج عن مقتضى اللفظ. وبه يحصل إشكال آخر في صحة العقد.

فالفرق بين جزء العوض والشرط كالفرق بين قولنا : أكرم زيدا وعمروا ، وقولنا أكرم زيدا بشرط أن يكون معه عمرو ، فإنّه لا ينتفي حكم إكرام زيد بفقدان عمرو في الأوّل ، بخلافه في الثاني.

واتضح مما ذكرناه فساد الاحتجاج للقول الأوّل ، بأنّ كلّ واحد من العقد والشرط مستقلّ في إفادة معناه.

__________________

(١) في نسخة : كيف وليس ..


ثمّ إنّ ما ذكرناه من فساد العقد والشرط إنّما هو من باب الأصل والقاعدة ، فلا ينافيه ما إذا ثبت في مورد صحة العقد مع فساد شرطه ، كما هو المشهور في شروط عقد النكاح ، مثل أن لا يتزوّج عليها ، أو لا يتسري ، أو شرط تسليم المهر إلى أجل ، عدم كون العقد باطلا مع التخلّف ، بل في المسالك ظاهرهم ـ هنا ـ الاتفاق على صحة العقد ، وورد فيه أخبار معتبرة ، وقيل لا يتمّ في النكاح أيضا قاعدة يعتمد عليها في هذا المطلب ، والله العالم بحقائق أحكامه.


[ المشرق الخامس ]

[ في بيان حكم المعاملات الإضرارية ]

مشرق : في بيان حكم المعاملات الإضرارية ، وأعني بها الانتقالات المحاباتية الصادرة عمّن له دين لا يفي ماله به ، وإن كان الدين من قبيل المظالم.

فنقول : لا إشكال في صحّة تمليكاته بعوض المثل ، لعدم المانع مع وجود المقتضي ، وهو الملك. وكذا تمليكه بأقلّ منه أو مجانا ، إذا تمكّن من تحصيل ما يؤدّي به دينه ولو بالاستدانة ، إنّما الكلام في تمليكه كذلك ، أو إباحته ، مع عدم العلم أو الظنّ المعتدّ به بالتمكن منه ، ولو بعد حين.

وتحقيق المقام ، أنّ الكلام إمّا في جواز إتلاف المالك ماله بنفسه زائدا على قدر مئونته ، أو إباحته للغير وتسليطه على الإتلاف ، أو في حصول الحلّية للغير بإباحة المالك ، وجواز قبول جائزته وتصرّفاته وإتلافه له ، أو في صحّة العقد الناقل وحصول الانتقال الشرعي به ، فهنا مطالب ثلاثة :

أمّا الأوّل : فلا ينبغي الريب في حرمته ، لوجوب أداء الدين عليه ، وانحصار مقدمته على الفرض بصرف ما في يده من المال فيه ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به واجب ، فيحرم ضدّه ، وهو إتلافه وصرفه في غيره ، وكونه ضدّا خاصّا ولا يقتضي


الأمر النهي عنه ، ـ على ما هو المختار المشهور ـ غير نافع ، لاندفاعه باختصاص ذلك بما إذا لم يكن الضدّ الخاصّ رافعا للتمكّن من فعل المأمور به ثانيا مع بقاء وجوبه ، وإلّا ـ كما في محلّ الفرض ـ فمقتضى التحقيق حرمته ، كما بيّناه في الأصول ، ولا يعارضه عموم الناس ، لأنّ حرمته عقلية لا ينفكّ عن وجوب أداء الدين ، فلا ينتفي إلّا بانتفائه الباطل بالإجماع القطعي ، فلا يخصّص به ، ومع ذلك فالعموم المذكور ظاهر في الجواز الذاتيّ الأصليّ ، وهو لا ينافي الحرمة العرضية المسببة عن سبب متجدّد ، كما في نظائر المقام مما لا يحصى ، ويأتي بيانه فيما سيأتي.

وأمّا الثاني : فتفصيله أنّ من أباح له المالك ، إمّا يعلم عدم تمكّن المالك عن أداء الدين من غير هذا المال ، ومع هذا يحتمل صرفه فيه إن لم يقبل منه ، أو أخذ الدائن عنه جبرا أو تقاصّا ، أو لا يعلم ذلك ، وإن علم لا يحتمل صرفه في الدين أو اقتدار صاحب الدين عن استيفائه منه.

فعلى الأوّل : فالظاهر أنّه لا يحلّ له قبوله وإتلافه من غير التزام عوضه للدائن ، لا لما استدللنا به على المنع على المالك ، لعدم وجوب ذي المقدّمة على غيره حتى يحرم عليه ضدّ مقدّمته ، بل لصدق كونه مضارا على الدائن ـ حينئذ ـ بإتلاف ما ينحصر أخذ حقّه فيه ، وتفويت تمكّنه من وصول الحقّ ، وتمكّن المالك عن إيصاله ، وشهادة العرف بكون ذلك ضرر الدائن ، والضرر منفيّ ومحرّم بعموم أدلّته.

نعم ، لو عصى ـ حينئذ ـ وأتلف بإذن المالك فمقتضى النظر عدم ضمانه ، لعدم اقتضائه نفي الضرر ، كما يأتي تفصيله في قاعدة نفي الضرر ، ولأنّ قاعدة الإتلاف بعدم الضمان مع إذن المالك ، وإن كان التصرف محرّما ، كما في أكل طعامه بإذنه في نهار رمضان.


فإن قلت : في الأخبار الكثيرة تجويز أخذ جوائز السلطان ومظالمه مستوعبة لما له عادة ، ولا أقلّ من شموله له ، وكذا دلّت عليه السيرة المستمرّة المعلومة في قبول الناس جوائز السلاطين والحكام وأضرابهم من غير نكير ، وبهما يخصّص عموم نفي الضرر ، لكونهما أخصّ منه مطلقا.

قلت : أوّلا ، تلك الأخبار منساقة لبيان حلّية أموالهم وجوائزهم باعتبار الشبهة في أعيانها ، ولا دخل له بمحلّ الفرض الذي يرتفع المانع عنه بالتزام العوض ، وثانيا أنّ موارد تلك الأخبار والسيرة من القسم الثاني الذي نذكر حلّيته.

وعلى الثاني : فمقتضى النظر حلّيته له بإباحة المالك ، وله إتلافه حيث يشاء ، أمّا مع عدم علمه بعدم تمكن المالك فظاهر ، واحتماله غير كاف ، إذ غايته احتمال الضرر وهو غير منفيّ ، وأمّا مع عدم احتماله صرف المالك إيّاه في الدين ولا تمكن صاحب الدين عن أخذه ، فلعدم استناد الضرر ـ حينئذ ـ إليه بل إلى المالك ، فلا يتوجّه إليه النهي ، وغالب موارد الفرض سيما بالنسبة إلى أرباب المظالم من هذا القسم.

ولا يتوهّم حرمة الإتلاف من جهة كونه تفويتا للواجب أو عدم تأثير إباحة المالك في الحلّ ، لعدم جواز تسليطه الغير عليه وترخيصه كما مرّ ، لاندفاع الأوّل بعدم دليل على حرمة تفويت الواجب عن الغير ، بل عليه وزره إن كان بتقصيره ، كما في الفرض ، والثاني بأنّ الموجب للحلّية في المقام رضي المالك وإذنه في التصرف المتلف ، نظرا الى كونه صاحب المال وعدم حقّ للدائن فيه بعد لا جواز إباحته وترخيصه ، ولا ملازمة بينهما ، كما في من شرط على نفسه بنذر وشبهه أن لا يأذن زيدا في أكل طعامه فأذنه ، فإنّه يعصى بالإذن دون المأذون فيه في الأكل.

وأمّا الثالث : فلم أر من تعرّض لبيانه وتحقيقه عدا والدي العلّامة في بعض


إفاداته (١) ، حيث حكم ببطلان العقود الناقلة بأقلّ من عوض المثل عمّن له دين مستوعب ، وهو مقتضى التحقيق ، لا لما استدلّ به على مختاره من اقتضاء النهي في المعاملة الفساد ، نظرا إلى حرمة صرف المال في غير الدين ـ حينئذ ـ على المالك على ما عرفت ، لعدم استقامته ـ على ما اخترناه (٢) ـ من اختصاص الاقتضاء بما إذا تعلّق النهي بنفس المعاملة أو جزئه أو وصفه لأجل المعاملة الظاهر في المانعية دون غيره ، كما في محلّ البحث ، حيثما (٣) يتعلّق بها كذلك ، بل بمطلق الإضرار أو سببية الحرام ، مضافا إلى أنّ الفساد ـ على هذا التقدير ـ يختصّ بصورة العلم والعمد ، لعدم العصيان في غيرهما.

بل لأنّ صحة العقود المملّكة بغير عوض كالأوقاف والهبات ونحوهما ، أو بأقلّ من العوض كالعقود المعوّضة المحاباتية ، ممن استوعب دينه ماله الغير المتمكن عن أدائه بغيره ، إضرار على صاحب الدين ، وتفويت لما يمكن له أدائه ، ويصدق عليه أنّه ضرر عرفا على صاحب الدين ، لزوال تمكّنه به عن أداء حقّه ، وهو ضرر على ذي الحقّ قطعا ، ألا ترى أنّ صاحب الفاقة إذا استدان ألف دينار ليكتسب به فوهبه لغيره يقال في العرف أنّه أضرّ بصاحب المال ، وهبته ضرر عليه ، والضرر منفي في الإسلام ، بمعنى عدم تشريع حكم يتضمّنه ، وضعيا كان أو طلبيا ، كما يأتي بيانه ، ولا يعارضه عموم « الناس مسلّطون » لما ستعرف من تقدّم نفي الضرر. نعم ، يعارضه إطلاق أدلّة تلك العقود ، وهو بالعموم من وجه ، فيرجع إلى الأصل ومقتضاه الفساد.

ويشعر بما قلناه بعض النصوص المعتبرة الواردة في صدقة من استوعب دينه

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٦٣.

(٢) في « م » : لعدم تمامية هذا القول عندي واختصاص الاقتضاء ..

(٣) حيث لا ( خ ).


ماله ، الدال على عموم المدّعى ، لعدم القول بالفصل ، كمكاتبة أحمد بن حمزه (١) إلى أبي الحسن عليه‌السلام : مدين أوقف ، ثم مات صاحبه وعليه دين لا يفي ماله ، فكتب عليه‌السلام : « يباع وقفه في الدين ». ونحوها مكاتبة أخرى ، رواها ابن محبوب (٢) إلّا أنّه فيها إذا وقف ، بعد قوله : وعليه دين لا يفي ماله.

وفي رواية أخرى في عتق من عليه دين (٣).

وأمّا ما في خبر عجلان (٤) ، من صحّة عتق من عليه دين ، فهو أعمّ من استيعاب الدين ، فيخصّص بما سبق.

فإن قلت : تعليق الفقهاء ممنوعية المفلس عن التصرف في أمواله على حجر الحاكم يقتضي جوازه قبله ، بل هذا فائدة الحجر.

قلت : الأحكام الشرعية تختلف باختلاف العنوانات ، فلا يدافع بعضها بعضا ، وما ذكره الفقهاء في باب الحجر إنّما هو للمنوعية من جهة منع الحاكم عن التصرف ورفع سلطنته مطلقا ، وهو يعمّ جميع التصرفات ، سواء كانت من العقود المعوّضة بعوض المثل أو بأقلّ منه ، بل وبما زاد عنه أو غيرها ، كدفع المال إلى بعض الديان أو إلى الجميع ، من غير ملاحظة النسبة ، وكذا لا يحلّ معه تصرّف الغير بإباحة المالك مطلقا.

وأما الممنوعية فيما ذكرناه إنّما هي من جهة الضرر على الديان ، من قبيل منع المالك من التصرف المضرّ بالجار ، فلا يمنع به عن مطلق التصرف ، ولا عن مطلق

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٩ : ١٨٩ ، الباب ٦ من أبواب الوقوف والصدقات ، الرواية ٢٤٤١١.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر ١٩ : ٣٥٤ : الباب ٣٩ من أبواب أحكام الوصايا ، الرواية ٢٤٧٥٢.

(٤) نفس المصدر ٢٣ : ٩٠ ، الباب ٥٤ من أبواب العتق ، الرواية ٢٩١٧٠.


النقل ، ولا عن الإباحة ، ولا يمنع عن صرفه في بعض الديون دون بعض ، كما سننبه عليه ، فلا يختصّ فائدة الحجر بما يفيده نفي الضرر.

تتميمات :

الأوّل : هل له صرف جميع ماله في بعض الديون أو في الكلّ من غير رعاية النسبة؟

الظاهر : نعم ، لأنّ وجوب أداء كلّ دين غير مرتبط بالآخر ، فلا منع له عن امتثال بعضه ، سيما مع عدم إمكان امتثال الجميع ، كما على الفرض ، وإيجابه الضرر على الآخر يعارضه ضرر الأوّل ، فيتعارض الضرران ، ويبقى السلطنة المالكية بلا معارض. نعم ، مقتضى ما سنذكر في تعارض الضررين من ترجيح الأخفّ ، منعه عن اختيار الأكثر ، فهو الأشبه لو لا ـ الإجماع على خلافه ـ قبل الحجر ، وكيف كان فالأولى بل الأحوط ملاحظة النسبة.

الثاني : هل يلحق بالعقود الناقلة الإبراء ، فلم يجز إن كان عليه دين يستوعب إبراء حقّه على من عليه ولم تبرأ ذمّته؟

فيه إشكال ، ولا يبعد الإلحاق ، لاتحاد المناط وأصالة بقاء الحقّ.

الثالث : إذا أقرّ المديون المذكور بدين آخر أو بما في يده للغير فالظاهر قبوله

قبل الحجر لظهور الإجماع ، ولأنّ الإقرار ليس سببا ناقلا بل إخبار عن الواقع ، وهو مسموع بالأدلّة القطعية فيما يتعلّق بالضرر على النفس أصالة ، وإن كان من لوازمه ما يؤدّى إلى ضرر الغير ، كما في نظائر المقام من الأقارير النافذة.

الرابع : هل يختصّ ما ذكرناه بالديون العاجلة ، أو يعمّ الآجلة؟

الظاهر : الثاني ، إذا علم عدم التمكن من أدائه عند الأجل ، لصدق الضرر على المدين بإتلافه عرفا ، كما إذا استدان من له بضاعة مائة ألف دينار إلى شهر أو سنة ،


فوهب المجموع لغيره ، فيشمله أدلّة نفي الضرر ، بل تقتضيه دليل المقدّمة بالتقريب المتقدّم أيضا ، لوجوب إبقاءها لعين ما دلّ على وجوب إتيانها إذا كان ذو المقدّمة واجبا مطلقا ، كما في الفرض ، فإنّ اشتغال ذمّة المديون بالدين غير مشروط بحلول الأجل ، بل ولا وجوب أدائه ، فإنّه واجب مطلق ، وإنّما الأجل وقت امتثال الفعل ، لا وقت تعلّق الوجوب ، وفرق بيّن بينهما ، كما في قول الآمر : أوجبت عليك أن تفعل غدا كذا ، وقوله : سأوجبت عليك أو يجب غدا عليك أن تفعل كذا.

وما نحن فيه من الأوّل ، حسب ما يقتضيه الأدلّة ، فيجب عليه بعد تعلّق الوجوب قبل حلول الوقت تحصيل مقدّمات الفعل في وقته ، أو إبقاء المقدّمة الموجودة مما يعلم فوته في الوقت ولم يتمكّن منه ، فهو من قبيل الأمر بضيافة زيد في المساء ، المتوقّفة على تحصيل القرى أو إبقاءها في النهار ، والله العالم.



[ المشرق السادس ]

[ في بيان حكم المال المجهول مالكه ]

مشرق : في بيان حكم المال المجهول مالكه.

اعلم أنّ المال إن كان له مالك معروف فهو ، وأسباب الملك كثيرة ، كالإحياء والحيازة ، والإرث ، والعقود الناقلة والاختلاس من أهل الحرب ، والاغتنام ، والاصطياد ، والوصية ، والوقف ، والصدقة ، والنذر ، وقبض الزكاة ، والخمس ، والدين ، وتحليل الإمام عليه‌السلام وإقطاعه ، وغير ذلك. ولا يجوز التصرّف فيه إلّا بإذنه ، إلّا فيما ورد الإذن فيه من الشرع قهرا ، كالشفعة ، والمقاصّة للمماطل ، وبيع مال الممتنع عن الحقّ الواجب ، ورجوع البائع في عين ماله للتفليس مقدّما على سائر الديان ، ونحو ذلك ، وإن لم يكن له مالك معروف فله أقسام كثيرة أكثرها مضبوطة في كتب الفقهاء بعنواناتها الخاصّة ، لها أحكام مخصوصة ، كاللقطة ، والكنز والمال المختلط بالحلال والحرام وغيرها ، ولا كلام لنا هنا فيها ، بل المقصود هنا بيان ما ليس له عنوان خاصّ من تلك العنوانات ، وهو الذي يعبّر عنه بالمجهول المالك على وجه الإطلاق. والنظر إمّا في من يملكه ، أو في مصرفه.

أمّا الأوّل : ففي بقائه على ملك مالكه المجهول ، أو كونه للفقراء ، أو للإمام عليه‌السلام


وجوه بل أقوال ، أوجهها الأوّل ؛ للاستصحاب وعدم الدليل المخرج ، والأخبار الآمرة بالتصدّق به غير منافية له ، كما لا ينافيه في اللقطة مع بقاءها على ملك مالكها على المعروف بينهم ، بل في رواية عليّ بن حمزة (١) الآمرة بالتصدّق للمالك إشعار ببقائه على ملكه كأكثر كلمات القوم ، ودلالة ظاهرة على عدم كونه للإمام عليه‌السلام.

والقول بأنّ الأمر بالتصدق لا يلزمه ، لاحتمال كونه من باب التصرف بالمالكية ، لأنّ له أن يضع ملكه حيث يشاء ـ مع ما فيه من أن الاحتمال لا يرفع حكم الاستصحاب ـ مخدوش بأنّ الأصل في الأوامر وتصرّفات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحجج في الخطابات الشرعية ، سيما في أمثال أجوبة المستفتين كونها على سبيل التبليغ والفتوى ، دون الإمامة والرئاسة أو القضاء والحكومة ، كما صرح به الشهيد في قواعده (٢) ، لأنّه الأغلب في الخطابات ، وقلّ ما يتّفق خلافه فيها ، وهو المعهود من طريقة السلف من أصحابهم وتابعيهم ومن لحقهم من العلماء في فهم مرادهم وبناء عملهم عليه فالأغلبية ـ خصوصا بملاحظة طريقة الحاضرين وسيرة العلماء ـ قرينة ظاهرة على إرادة التبليغ ، فحيث لا قرينة بالخصوص يحمل الخطاب عليه. وكون القرينة ظنّية لا ضير فيه ، لصدق كونه ظنا مستفادا من كلام المعصوم عليه‌السلام ، وصلاحية الغلبة المذكورة لاستناده إليها في تفهيم مراده ، وهو حجّة. بل لا يبعد القول بأنّ إرادة خلافه مع ظهوره في الفتوى إغراء قبيح.

__________________

(١) الظاهر أنّه رواية عليّ بن أبي حمزة الذي استأذن من أبي عبد الله عليه‌السلام لصديق له من كتّاب بني أميّة ؛ راجع الوسائل ١٧ : ١٩٩ ، الباب ٤٧ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢٣٤٣.

(٢) القواعد والفوائد ١ : ٢١٥.


ولأمر ما أفرط بعضهم (١) وقال : قوله عليه‌السلام : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » (٢) ، تبليغ أو إفتاء ، فيجوز الإحياء لكلّ أحد في زمان الحضور ، أذن الإمام عليه‌السلام فيه أم لا. وأجيب عنه بأنّ اشتراط الإذن يعلم من دليل خارج ، لا من هذا الدليل. وقال آخر : قوله عليه‌السلام لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان ـ حيث قالت له : إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني ـ : « خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف » (٣). افتاء. فيجوز المقاصّة للمماطل ولو بغير إذن الحاكم.

ومما يؤيّد بل يدلّ على عدم كونه مال الإمام عليه‌السلام عدم ذكره في كلماتهم في عداد الأنفال ، المشعر باتفاقهم عليه ، سيما مع عدم إشعارهم في الحكم بالتصدّق به لكونه له عليه‌السلام ، كما ذكروه في إرث من لا وارث له ، ومنه ينقدح ظهور النصوص الحاصرة للأنفال بغير المال المجهول في خروجه عنها.

وما في جملة منها من الأرض التي جلى أو باد أهلها ، فالمراد به ما من الأرضين التي انقطعت عنها أيدي الكفار ، كما يدلّ عليه سوق الأخبار ، فإنّ منها ما يعمّ المسلمين ، وهي المأخوذة عنهم قهرا وعنوة ، ومنها من الأنفال المختصّ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام ، وهي ما لم يكن فيها هراقة دم ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، بأن جلى أهلها أو صولحوا وأعطوا بأيديهم. فمقتضى النصوص أنّ تلك الأرض بهذا العنوان من الأنفال ، لا من حيث كونه مجهول المالك ، ولذا اختصّت

__________________

(١) كذا ، والظاهر : ولهذا الأمر أفرط بعضهم ؛ والقائل على ما في حاشية القواعد والفوائد ( المصدر السابق ) هو ابن سعيد الحلّي في الجامع.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١١ : الباب ١ من أبواب إحياء الموات ، الرواية ٣٢٢٤٠ و ٣٢٢٤٤.

(٣) بحار الأنوار ٧٥ : ٢٣١.


بالأرض ، ويعمّ معروف المالك ، ويومئ إليه تقييدها بعدم حمل خيل ولا ركاب عليها ، أو بعدم هراقه دم فيها ، والعطف عليها في أكثرها بقوله : « أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم » ، ونحو ذلك مما هو ظاهر بل صريح في كون المقصود منها أرض الكفار ، فلا يتمّ الاستدلال بتلك الأخبار على كون مال المجهول المالك من الأنفال.

ونحوه التمسّك عليه برواية داود بن أبي زيد (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إني قد أصبت مالا ، وإنّي قد خفت فيه على نفسي ، فلو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلّصت منه ، فقال عليه‌السلام : « لو أصبته كنت تدفعه إليه »؟ قلت : أي والله ، فقال عليه‌السلام : « والله ما له صاحب غيري » ، قال : فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره ، قال : « فحلف » قال : « فاذهب وقسّمه في إخوانك ولك الأمن مما خفت فيه » ، قال : فقسّمه بين إخوانه ، نظرا إلى عمومه بترك الاستفصال الشامل لمجهول المالك.

ويضعف بشموله اللقطة أيضا ، وهي ليست للإمام عليه‌السلام اتفاقا ، فيحتمل قريبا أن يكون المراد منه ما هو العائد إليه من ديوان السلاطين والولاة الذين كانوا في عصر الإمام عليه‌السلام ، أو كان ينتهي إليه على ما يقتضي الاعتبار من شيوعه في أزمنتهم ، وهو غالبا للإمام عليه‌السلام لكونه من الأخماس أو الأنفال أو مال الخراج الذي ولايته له عليه‌السلام بل في عدّة من المعتبرة أنّ كلّما في يد الناصب مال الإمام عليه‌السلام.

وأمّا الثاني : فالمعروف بين الأصحاب أنّه يتصدّق به على فقراء الشيعة بعد الجهد في طلب المالك واليأس عنه ، للمستفيضة من الأخبار (٢).

ومنها صحيحة يونس ؛ كنّا مرافقين لقوم بمكّة وارتحلنا عنهم وحملنا ببعض متاعهم بغير علم ، وقد ذهب القوم ولا نعرفهم ولا نعرف أوطانهم وقد بقى المتاع

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٥٠ ، الباب ٧ من أبواب اللقطة ، الرواية ٣٢٣٣١.

(٢) الكافي ٥ : ٣٠٩ ، الرواية ٢٢.


عندنا فما نصنع به؟ قال : فقال : « يحملونه حتّى يلحقوهم بالكوفة ». قال يونس : فقلت له : لست أعرفهم ولا ندري كيف نسأل عنهم ، فقال عليه‌السلام : « نعم وأعط ثمنه أصحابك » قال : فقلت : جعلت فداك ، أهل الولاية؟ قال : « نعم ».

ورواية على بن حمزه (١) ، وفيها : إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم ـ يعني بني أميّة ـ فأصبت من دنياهم مالا كثيرا ، وأغمضت من مطالبه ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ : « فاخرج من حيث اكتسبت من ديوانهم ، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ، ومن لم تعرف تصدقت له » الحديث. وغيرهما.

وما في جملة من الأخبار من الأمر بتركه على حاله ، فهو ظاهر فيما لم يعلم له مالك ، وهو للإمام عليه‌السلام من باب ميراث من لا وارث له ، يفعل به ما يشاء ، أو فيما لم يحصل اليأس عن مالكه بعد عادة ، وتلك الأخبار وإن اختصّت بغير الأرض ولكن يتمّ العموم بالإجماع المركّب في جواز التصدّق.

وهل يشترط التصدّق في زمان الغيبة بإذن الحاكم وتعيينه المستحقّ؟

مقتضى الأصل وإطلاق الأمر في غير الأراضي عدمه ، كما في اللقطة ، وإن كان الأحوط كونه بتعيينه أو إذنه مطلقا ، بل لا يبعد المصير إليه فيما ليس عليه يد أحد ، لخروجه عن موارد الأمر.

ومستحقّه جنس الفقير ، كما في الزكاة والوقف العامّ ، لا الكلّ على الإشاعة ، فلا بدّ من تعيينه للدفع إليه ، ولا دليل على جوازه للفقير نفسه ، ولا لأحد آخر غير الفقيه المأمون ، لكونه المتيقّن ، فيقتصر عليه.

ومن هذا يظهر قوّة احتمال اشتراط إذن الحاكم في الأراضي العامرة المجهول مالكها مطلقا ، وإن كانت في تصرّف غيره ، لخروجه عن موارد الأخبار ، وعدم

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ١٩٩ ، الباب ٤٧ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢٣٤٣.


ثبوت الإجماع المركّب هنا ، فيقتصر على موضع اليقين ، وهو التصدّق بإذن الحاكم.

وهل للحاكم أو المتصرّف استرباح المال وإجارته والتصدّق بالمنفعة؟

مقتضى النظر عدم جوازه في غير الأراضي والعقار ، بل يجب المبادرة بالتصدّق بالعين ، بعد بذل الجهد في طلب المالك وحصول اليأس عنه ، إلّا لضرورة ، كعدم وجود المستحقّ ونحوه ، لا للأمر بالتصدّق ، لعدم اقتضائه الفور ، بل لأنّ إبقاء اليد على مال الغير والتصرف فيه زائدا على قدر ما يتصدّق به من المدة يحتاج إلى إذن المالك أو الشارع ، والأوّل متعذّر ، والثاني غير ثابت.

وأمّا الأرض المجهول المالك فالأخبار خالية عن ذكرها ، والإجماع البسيط أو المركب لم يثبت إلّا على جواز التصدّق به دون وجوبه ، فما لم يتصدّق به كان للحاكم ، بل عليه حكومة أو ولاية إجارتها ونحوها من وجوه الاستنفاع والتصدق بالمنفعة ، صونا عن فوتها ، وحفظا عن ضياع المال المحترم.

ثمّ إن تصدّق بالعين وظهر المالك ، فإن رضي بما فعل فهو ، وإلّا ففي الضمان وعدمه قولان ، أحوطهما الأوّل ، وأشبههما الثاني.


[ المشرق السابع ]

[ في أحكام الأراضي الخراجية ]

مشرق : في أحكام الأموال الخراجية ، وهي من مهمّات المسائل وفروعها سيما بالنسبة إلى زمان الغيبة كثيرة ، والحاجة إليها شديدة ، ووقع في كثير منها الخلاف بين أصحابنا ، وقلّ منهم من استقصاها ، فرأيت أن أبيّن جلية الحال فيها.

فنقول : المراد بالخراج ارتفاع تلك الأراضي ، وكثيرا ما يطلق ويراد به خصوص ما يضرب عليها من المال ، كالطسق والقبالة ، وبالمقاسمة الحصّة المعينة من الحاصل ، كالعشر ونحوه ، وهما بمنزلة الأجرة يضربان على الأرض الخراجية وأشجارها.

وفي المقام أبحاث :

البحث الأوّل : في بيان المعنى المقصود من الأرض الخراجية وشرائطها ، وهي المفتوحة أي المأخوذة عنوة وقهرا عن الكفار ، أو المأخوذة بالصلح من أيديهم ، بأن يكون الأرض للمسلمين ولهم السكنى ، وحكمها أنّها من المسلمين قاطبة ، يصرف ارتفاعها في مصالحهم ، كما سيأتي. ويشترط في المفتوحة عنوة أمران


أحدهما : كون الأرض عامرة وقت الفتح ، صرّح به أكثر الأصحاب ، ولعلّ من أطلق أراد العامرة ، تعويلا على بيان الباقين ، أو تنزيلا على الغالب مما في اليد ، وعن بعضهم نفى الخلاف عنه ووجه التخصيص أنّ البائرة من الموات ، فلا هي قبل الفتح ملك الكفار ، ولا بعده للمسلمين ، بل هي من الأنفال المختصّة للإمام عليه‌السلام مطلقا ، حلّلها لمن أحياها.

وثانيهما : كون القتال والاستغنام بإذن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام الحقّ ، وإلّا فهي من الأنفال. حكي عن المبسوط (١) والفاضل ونجله لرواية مرسلة (٢).

واستشكله في الكفاية (٣) لضعف المستند ، مع أنّه لو سلّم أنّ المفتوح بغير إذنه للإمام ، فهو أباحه لشيعته.

وقال والدي العلّامة (٤) : إنّ الأصل فيما فتح بغير إذن الإمام ، وإن كان كونه من الأنفال ، إلّا أنّ الإمام عليه‌السلام المالك للأنفال ، أجرى على الأراضي المفتوحة عنوة بعد زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأجمعها حكم المفتوحة بإذنه ، كما في الصحيح عن سيرة الإمام عليه‌السلام (٥) في الأرض التي فتحت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قد سار في أهل العراق بسيرة ، فهي إمام لسائر الأرضين بضميمة ما في صحيح الحلبي عن السواد : ما منزلته؟ فقال : هو لجميع المسلمين ، لمن هو اليوم ، ولمن

__________________

(١) المبسوط ٢ : ٣٤.

(٢) قال في المبسوط ( نفس الموضع ) : « وعلى الرواية التي رواها أصحابنا أنّ كلّ عسكر أو فرقة غزت بغير أمر الإمام فغنمت يكون الغنيمة للإمام خاصّة .. » ونقل رواية بهذا المضمون في التهذيب ٤ : ١٣٥ ، الرواية ٣٧٨.

(٣) كفاية الأحكام : ٧٥ ، كتاب الجهاد.

(٤) مستند الشيعة ٢ : ٣٥٤.

(٥) وسائل الشيعة ١٥ : ١٥٣ ، الباب ٦٩ من أبواب جهاد العدوّ ، الرواية ٢٠١٩٣.


دخل في الإسلام بعد اليوم ، ولمن لم يخلق. الحديث (١).

وربما ينزّل على هذا قولهم بأنّ أرض السواد مفتوحة عنوة ، أي في حكمها بترخيص الإمام وإباحته ، لا أنّها مفتوحة بإذنه.

واستظهر في الكفاية كون الفتح بإذنه عليه‌السلام ، لأنّ الفتوح التي وقعت في زمن عمر ، كان بإذن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنّ عمر كان يشاور الصحابة ـ خصوصا أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في تدبير الحروب وغيرها ، وكان لا يصدر (٢) عن رأي علي عليه‌السلام ، ونقل مصاحبة الحسنين عليهما‌السلام للعسكر. وكيف كان ، فالظاهر بمقتضى النصّ الصحيح ، أنّ حكم تلك الأراضي المفتوحة بغير إذن الإمام عليه‌السلام حكم المفتوحة عنوة ، سواء قلنا باشتراط إذنه في صدق العنوان أم لا.

البحث الثاني : لا خلاف في أنّ قبالة الأراضي الخراجية لعموم المسلمين ، ولا يختصّ بها المقاتلين ، بل يشاركهم غيرهم ، يصرف في مصالحهم العامّة ، أي الجهة الغير المقصورة على أحد أو طائفة منهم ، وإن لم يستوفها الجميع ، كسدّ الثغور وتقوية المجاهدين وبناء القناطر والمساجد ومئونة القضاء وتعمير المدارس وأمثال ذلك ، مما لم يتعلّق الغرض فيه بمصلحة أعيان طائفة دون أخرى.

وبه صرّح مرسلة حماد (٣) الطويلة ، وهذا هو المراد من قولهم : يختصّ تلك الأراضي بالمسلمين في الأخبار المستفيضة وكلمات الطائفة ، كما صرّح به بعضهم قائلا بأنّ المراد بكونها للمسلمين أنّ الإمام عليه‌السلام يأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالحهم على حسب ما يراه ، لا أنّها ملك الجميع بالإشاعة ضرورة بطلانها ، ولا أنّها من قبيل

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٣٦٩ ، الباب ٢١ من أبواب عقد البيع وشرائطه ، الرواية ٢٢٧٦٧.

(٢) الظاهر كلمة « لا يعدو » بدل كلمة « لا يصدر ».

(٣) التهذيب ٤ : ١٢٨.


ملك الزكاة للفقراء فيملكها من عيّنه الإمام عليه‌السلام ؛ لمنافاته لظاهر الإجماع وظواهر الأخبار ، ولا من قبيل الوقف على الفقراء الذي يملكها الجنس ، فتعيينه للناظر في ضمن من شاء من الأفراد ، لجواز تخصيصه المنفعة للبعض كيف شاء ، ولا هكذا مورد البحث ، بل يشبه أن يكون نظير الوقف على الجهة ، كالوقف على المسجد وعلى المشاهد المقدّسة ونحوهما ، على ما هو مختارنا فيه ، من عدم كونه ملكا لأحد ، بل هو محبوس على صرف منفعته على الجهة الموقوفة عليها العائدة لعامّة المسلمين.

وهل يجب الخمس في ارتفاع تلك الأراضي ، كما في المحكي عن ظاهر جماعة وصريح الحلّي (١) وخمس الشرائع (٢) والفاضل في المنتهى (٣) والمحقق الأردبيلي (٤) ووالدي العلّامة (٥) فيه وجهان.

البحث الثالث : تولية أرض الخراج والنظر فيها مع ظهور الإمام عليه‌السلام واستقلاله ، له عليه‌السلام يصنع فيها على حسب ما يراه ، ويقبلها من يريد بالإجماع والنصوص ، كصحيحي البزنطي ومحمد (٦) ، ورواية صفوان (٧) وغيرها.

__________________

(١) السرائر ١ : ٤٧٧.

(٢) شرائع الإسلام ١ : ٢٠٥.

(٣) المنتهى ٢ : ٩٣٨.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ٧ : ٤٧١.

(٥) مستند الشيعة ٢ : ٣٥٩.

(٦) وسائل الشيعة ١٥ : ١٥٧ ، الباب ٧٢ من أبواب جهاد العدوّ ، الرواية ٢٠٢٠٤ ؛ و ١٥٦ ، الباب ٧١ : الرواية ٢٠١٩٨.

(٧) نفس المصدر : الرواية ٢٠٢٠٣.


وأمّا في زمان الغيبة أو عدم استقلال الإمام الحقّ عليه‌السلام ، ففي توقّف التصرف على إذن السلطان الجائر مطلقا ، كما قيل ، بل في الكفاية (١) عن بعضهم اتّفاق الأصحاب عليه ، وعلى تولّي الجائر لأخذ الخراج والمقاسمة والتصرف فيهما ، أو عليه مع عدم الإمكان والتمكّن بدون إذنه كما في المسالك ، أو جواز التقبيل بإذنه مطلقا كما هو ظاهر الأكثر ، أو جوازه كذلك مع عدم الإمكان بدون إذنه ، بحيث لا يمكن الاستنقاذ من أيديهم والتخلّص من ذمّتهم ، وإلّا فيحرم ، كما عن بعضهم ، أو عدم جواز ذلك في حال ، كما مال إليه مولانا الأردبيلي (٢).

ثمّ على القول بعدم التوقّف على إذنه أو عدم جوازه مطلقا ، أو مع عدم الإمكان ففي توقّفه على إذن الحاكم نيابة عن الإمام عليه‌السلام مطلقا أو مع تمكّنه في صرفها على وجهها ، كما ذهب إليه الشهيد الثاني (٣) وغيره ، أو عدم التوقّف عليه ، ولكن جاز له ولكلّ من الشيعة خاصّة التصرف فيها وتقبيلها مع الإمكان وإلّا فللشيعة التقبيل من الجائر أيضا ، كما اختاره والدي (٤) ، ونقل جواز تصرّف الشيعة مطلقا عند استتار الإمام عليه‌السلام عن ظاهر الشيخ في التهذيب (٥) ـ أقوال.

وحقّ المقال في تحقيق الحال : أنّه لا شكّ ولا خلاف في أنّ النظر والتولية لهذه الأملاك حقّ الإمام الحقّ عليه‌السلام أصالة. ويدلّ عليه ـ مضافا إلى الإجماع ـ ما في المعتبرة ، كصحيح البزنطي (٦) : « ما أخذ بالسيف ، فذلك للإمام عليه‌السلام ، يقبله بالذي يرى ،

__________________

(١) كفاية الأحكام : ٧٥.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٧ : ٤٨٨.

(٣) مسالك الأفهام ٣ : ١٤٢.

(٤) مستند الشيعة ٢ : ٣٥٤.

(٥) التهذيب ٤ : ١٤٣.

(٦) وسائل الشيعة ١٥ : ١٥٧ ، الباب ٧٢ من أبواب جهاد العدوّ ، ٢٠٢٠٤.


كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخيبر قبّل سوادها وبياضها » ، وغيره.

وكذا لا شك ، بل لا خلاف ـ ظاهرا ـ في أنّ الأصل فيما فيه الولاية للإمام عليه‌السلام إذا دعت الضرورة إلى مداخلة غيره في غيبته ، كونها للفقيه العدل بحقّ النيابة ، إلّا ما خرج بدليل ، بل في تضاعيف كلمات أكثرهم عدم الاستثناء.

ويدلّ عليه ـ مضافا إليه ـ عمومات النيابة ولو بتراكمها وتعاضد بعضها بعضا ، ككونه وارث الأنبياء (١) وأمين الرسل (٢) وخليفة الرسول (٣) ، وحصن الإسلام (٤) ومثل الأنبياء وبمنزلتهم (٥) والحاكم (٦) والقاضي (٧) والحجة من قبلهم (٨) ، وأنّه المرجع في جميع الحوادث (٩) ، وأنّ على يده مجاري الأمور والأحكام (١٠) ، وأنّه الكافل لأيتامهم (١١) ، وأمثال ذلك. كلّ ذلك في الروايات المتكثرة التي أكثرها معتبرة ، والباقي بالشهرة منجبرة.

فينقدح من هذين الأمرين : أنّ الأصل كون التولية والتقبيل للنائب العامّ في غيبة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٧٨ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الرواية ٣٣٢٤٧.

(٢) الكافي ١ : ٤٦ ، الحديث ٥.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الرواية ٣٣٤٢٢.

(٤) بحار الأنوار ٨٢ : ١٧٧ ، الباب ٢٠ ، الحديث ١٨.

(٥) « علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل » ؛ عوالي اللآلي ٤ : ٧٧ ، الحديث ٦٧ ؛ وعنه البحار ٢ : ٢٢ ، الحديث ٦٧ ؛ ونقله في المستدرك ١٧ : ٣٢٠ ، الحديث ٢١٤٦٨ ؛ نقلا عن العلّامة الحلّي في التحرير.

(٦) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الرواية ٣٣٤١٦.

(٧) نفس المصدر : ١٣٩ ، الرواية ٣٣٤٢١.

(٨) نفس المصدر : ١٤٠ ، الرواية ٣٣٤٢٤.

(٩) نفس المصدر.

(١٠) تحف العقول : ٢٣٨ ؛ وعنه البحار ١٠٠ : ٨٠ ، الحديث ٣٧.

(١١) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣١٨ ، الرواية ٢١٤٦١ ؛ و ٣٢٠ ، الرواية ٢١٤٦٦.


الإمام عليه‌السلام ، إلّا إذا ثبت الإذن لغيره بدليل ، ومن يحتمل له الإذن بملاحظة أقوال المسألة ، إمّا آحاد الشيعة أو السلطان الجائر ، والأوّل غير ثابت لعدم دليل معتبر عليه ، وإن قلنا بكون من في يده أحقّ من غيره كما سيجي‌ء. وبه صرّح في المسالك (١) قائلا : وليس هذا من باب الأنفال التي أذنوا لشيعتهم في التصرف فيها حال الغيبة ، لأنّ ذلك حقّهم ، فلهم الإذن فيه مطلقا ، بخلاف المفتوحة عنوة ، فإنّها للمسلمين قاطبة ، ولم ينقل منهم الإذن في هذا النوع.

والاعتراض عليه بأنّ ما للمسلمين هو منافع هذه الأرضيين أو مع رقبتها ، وأمّا التصرف والتقبيل فحقّ الإمام عليه‌السلام ، ويكون له الإذن في هذا الحقّ للشيعة ، وثبت الإذن منهم بالعمومات الدالّة على أنّ ما كان لنا فهو لشيعتنا (٢) ، وأنّ كلّ من والى آبائي فهم في حلّ ممّا في أيديهم من حقّنا ، وأنّا أحللنا شيعتنا من مظلمتنا التي يعيش الناس في فضلها (٣) ، ونحو ذلك ، حيث إنّ التصرف في تلك الأراضي كان لهم وحقّ لهم ، وتقبيل الناس بها مظالم للأئمة عليهم‌السلام ، فيكون حلالا للشيعة بمقتضى تلك النصوص.

يندفع بأنّه لو سلّم جواز الإذن لهم لجميع آحاد الشيعة في مثل هذا الأمر الذي هو من باب الرئاسة والولاية العامّة ، فيما يتعلّق بمصلحة جميع المسلمين ، فتلك العمومات قاصرة عن إفادة هذا الإذن ، لظهورها بحكم التبادر في الحقوق المالية من الأعيان والمنافع ، لا فيما يشمل حقّ الولاية والرئاسة.

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ١٢٢.

(٢) الكافي ١ : ٤٠٩ ، الرواية ٥.

(٣) وسائل الشيعة ٩ : ٥٣٩ ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، الرواية ١٢٦٦٨ ؛ و ٥٤٩ ، الباب ٤ ، الرواية ١٢٦٨١ و ١٢٦٨٢.


وأمّا السلطان الجائر ، فلا ينبغي الريب في حرمة تصرّفه وتقبيله ، ولعلّه إجماعي ، كما حكاه بعضهم ، كيف وهو حقّ الإمام ، وقد تولّاه غصبا وعدوانا ، مانعا لمستحقّه وأهله عنه ، فما في الكفاية ـ من منع الحرمة بعدم ثبوتها إذا كان غرضه جمع حقوق المسلمين ـ في غاية الحزازة ، فإنّ أصل الجمع حقّ إمام المسلمين أيضا ، لا يجوز لغيره التصدّي له إلّا بإذنه ، بل لو سلّم الإذن ، فالحكم بجواز عمل الجائر مشكل أيضا ، لاختلاف وجوه العمل وأحكامه باختلاف النيّات ، ومن الظاهر أنّ عمل الجائر ليس من باب الوكالة والرخصة من صاحب الحقّ ، بل من جهة الاستحقاق والاستخلاف ، فهو متفرّع على الخلافة المغصوبة ، وجواز التقبّل منه في غير صورة الاستنقاذ وتخليصه من يد الغاصب غير مسلّم ، ولو سلّم فهو لا يستلزم جواز التقبيل له ، كما في إطعام الغاصب الطعام المغصوب لمالكه مع جهله به ، فهو خارج عن عموم حرمة المعاونة على الإثم ، مع أنّ إبقاء الجائر يده عليه إثم أيضا ، فالإثم واقع على كلّ حال.

وأمّا التقبّل من الجائر مع إمكان التصرّف لمن له الحقّ أو لنائبه ، فالحكم بجوازه مشكل أيضا ، بل الظاهر عدمه ، للأصل وعدم ثبوت المخرج ، كما قاله جمع من الأجلّة ، وفي بعض الصحاح حرمة كسب غير الشيعة ممّا في يده من الأرض (١). وما في عدّة من الروايات (٢) من جواز أخذ الخراج منه بالبيع والشراء والحوالة وغيرها ، المشعر بجواز التقبّل منه ، ظاهر الاختصاص بصورة عدم التمكّن ، كما ستعرف.

ومثلها الأخبار المجوّزة المطلقة ظاهرا بشهادة الواقع في زمن الأئمة ، بصورة عدم تمكّن الغير ، مع أنّ في دلالة أكثرها على العموم تأمّل ، لعدم كون الإطلاق فيها

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٣٧.

(٢) نفس المصدر ٦ : ٣٣٦ ، الرواية ٩٣٢ و ٩٣٣ ؛ و ٣٧٥ ، الرواية ١٠٩٢ و ١٠٩٤.


منساقا لبيان جواز التقبّل من السلطان ، بل وقع في جواب السؤال عن حكم الإجارة بعد الاستيجار من السلطان ونحوه ، فلا يفيد العموم.

وبالجملة ما دلّ على عموم التقبّل من الجائر ولو مع الإمكان عن أهله غير معلوم الثبوت ، فلا يجوز المصير إليه ، مع مخالفته للأصول القطعية ، سيما مع ما فيه من المعاونة على المعصية وإعانة الظالم وقبح إقامة الباطل.

وأمّا مع عدم إمكان التصرّف بدون التقبّل منه فالظاهر أنّه جائز ، بل لعلّه معقد الإجماع ، وفي الأخبار المتكثرة عليه دلالة ظاهرة.

ودلّ عليه تقريرهم عليه المعلوم من الآثار ، بل صحيح الحلبي (١) ورواية عبد الله بن محمد (٢) تدلّان عليه بتقرير الإمام عليه‌السلام. ويؤيّده ، بل يدلّ عليه أنّه لولاه لوقع الشيعة غالبا في الحرج وضاع حقوقهم ، كما ذكروه.

فالمعتمد في المسألة أن تولية هذا الأراضي والنظر فيها حال الغيبة للنائب العامّ مع تمكّنه وإمكان التصرّف بدون إذن الجائر ، فيتوقّف التصرّف على إذنه ، وللجائر مع عدم التمكّن بدون إذنه فيمضى ـ حينئذ ـ تقبيله ، وحكم تصرّفه فيها حكم تصرّف الإمام العادل عليه‌السلام بالنسبة إلى الرعية.

البحث الرابع : المعروف بين الأصحاب أنّ ما يأخذه السلطان الجائر باسم الخراج والمقاسمة والزكاة يحلّ أخذه

وتناوله وشراؤه منه ، وإن كان ظالما في أخذه ومحرما عليه التصرّف فيه. وهو في الجملة لا خلاف فيه ظاهرا ، كشفا ونقلا فاستشكال المحقّق

__________________

(١) التهذيب ٧ : ١٤٧ ، الرواية ٦٥٢.

(٢) عبد الله بن محمد هو أبو عبيدة الحذّاء والرواية في التهذيب ٦ : ٣٧٥ ، الرواية ١٠٩٣.


الأردبيلي (١) مندفع به ، مضافا إلى لزوم العسر والحرج للشيعة لولاه ، وظهوره من فحاوي الأخبار ومطاوي الآثار وخصوص النصوص.

منها : صحيح الحذّاء (٢) عن الرجل منّا يشتري عن السلطان من إبل الصدقة وغنمها ، وهو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم ، قال : فقال : « ما الإبل والغنم إلّا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك ، لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه » قيل له : فما ترى في مصدّق يجيئنا فيأخذ صدقات أغنامنا ، فنقول بعناها فيبيعناها ، فما ترى في شرائه منه؟ قال : « إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس » فقيل له : فما ترى في الحنطة والشعير ، يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا فيأخذ حظّه فيعزله بكيل ، فما ترى في شراء ذلك الطعام منه فقال : « إن كان قد أقبضه بكيل وأنتم حضور ذلك فلا بأس به منه بغير كيل ».

والإيراد : بعدم دلالة قوله : « لا بأس حتى تعرف الحرام بعينه » (٣) على جواز شراء الصدقة ، بل غايته جواز شراء غير معلوم الحرمة فلا يفيد المطلوب ، مدفوع ؛ بظهور رجوع الضمير إلى شراء إبل الصدقة المسؤول عنه ، مع أنّه لولاه لم يطابق الجواب السؤال.

وربما يناقش أيضا ، باختصاصها بالزكاة ، فلا يشمل الخراج ، ومنع ظهور لفظ القاسم في المقاسمة ، سيما بقرينة المقابلة للمصدق ، لتحقّق القسمة في صدقات الغلّات أيضا ، واحتمال اختصاص لفظ المصدّق عندهم بمن أخذ صدقات الأنعام ،

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٧ : ٤٧.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٢١٩ ، الباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ، باب جواز شراء ما يأخذه الظالم ، الرواية ٢٢٣٧٦.

(٣) الكافي ٥ : ٢٢٨ ، الرواية ٢.


أو كون المأخوذ مال مقاسمة مالك الأرض ، حيث قاسمها الزارع لا السلطان ، والسؤال باعتبار البيع ، اعتمادا على الكيل السابق ، وباحتمال كون المصدّق من قبل الإمام العدل أو هو الفقير المستحقّ.

ويضعف الأوّل : بأنّه لو لم نقل بتبادر القاسم سيما في أزمنة المعصومين عليهم‌السلام ، بحكم الحدس والاعتبار في المنصوب من قبل السلطان لأخذ المقاسمة ، فيشمله قطعا ، فيعمّه الحكم بترك الاستفصال ، مع أنّ الظاهر عدم القائل بالفصل بين الزكاة والخراج.

والثاني : بكونه بعيدا ـ كما قيل ـ بملاحظة حال الأئمّة عليهم‌السلام في زمان صدور الرواية ، لاشتداد التقيّة ، مع أنّ عموم اللفظ كاف في الدلالة.

ومنها : الحسن (١) « وما منع ابن أبي سمان أن يخرج شباب الشيعة فيكفونهم ما يكفي الناس ويعطيهم ما يعطى الناس » ثمّ قال للراوي : « لما تركت عطاءك »؟

قلت : مخافة على ديني ، قال : ما منع ابن أبي سمان أن يبعث عليك بعطائك ، أما علم أنّ لك في بيت المال نصيبا »؟ (٢) دلّ على جواز أخذ الراوي من بيت المال الذي في أيديهم ، الغالب فيه اجتماع وجوه الخراج والمقاسمة ، وإنكاره على ابن أبي سمان من منعه عنه.

ومنها : ما دلّ على احتساب ما يأخذه السلطان من الزكاة الدال على حكم الخراج بعدم القول بالفصل ، كصحيح يعقوب بن شعيب (٣) ، عن العشور التي يؤخذ من الرجل أيحتسب به من زكاته؟ قال : « نعم ، إن شاء الله ».

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٣٦ ، الباب ٢٢ ، الرواية ٥٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٢١٤ ، الباب ٥١ من أبواب المستحقين ، الرواية ٢٢٣٦١.

(٣) نفس المصدر ٩ : ٢٥١ ، الباب ٢٠ من أبواب المستحقين ، الرواية ١١٩٥٢.


وصحيح الحلبي (١) : عمّا يأخذه السلطان من صدقة المال ، فقال : « لا أمرك أن تعيد ».

ومرسل محمد (٢) : عن الرجل يؤخذ منه هؤلاء زكاة ماله أو خمس غنيمته أو خمس ما يخرج له من المعادن ، أيحسب ذلك في زكاته وخمسه؟ قال : « نعم ».

وغير ذلك من النصوص.

ومنها : موثق سماعة (٣) ، عن شراء الخيانة والسرقة ، قال : « إذا عرفت أنّه كذلك فلا ، إلّا أن يكون شيئا تشتريه من العمال ».

وخروج أفراد معلوم السرقه والخيانة من العمل أيضا غير ضائر للباقي ، بل الظاهر أنّ مفروض البحث هو الفارق الموجب للتفصيل ، وإلّا كان الفصل خاليا عن التحصيل ، ومنع صدق الخيانة على المفروض سخيف ، فإنّه لا خيانة أعظم من التصرّف في حقّ الإمام بغير حقّ ومال جميع المسلمين.

ومنها : حسن محمّد وأبي بصير (٤) ، قالا له : هذه الأرض التي تزارع أهلها ، ما ترى فيها؟ فقال : « كلّ أرض دفعها إليك سلطان فما حرثته لها ، فعليك فيما أخرج الله تعالى منها الذي قاطعك عليه ، وليس على جميع ما أخرجه الله سبحانه فيها العشر ، إنّما العشر عليك ، فيما تحصل في يدك بعد مقاسمته لك ».

ومنها : رواية محمد (٥) عن الرجل يتكاري الأرض من السلطان بالثلث أو

__________________

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٢٥٣ ، الباب ٢٠ من أبواب المستحقين ، الرواية ١١٩٥٦.

(٢) نفس المصدر : ٢٥٤ ، الرواية ١١٩٥٨ ؛ و ٥٠٨ ، الباب ١٢ ، الرواية ١٢٥٩٩.

(٣) الفقيه ٣ : ٢٢٧ ، الباب ٢ ، الرواية ٣٨٤١.

(٤) وسائل الشيعة ٩ : ١٨٨ ، الباب ٧ من أبواب زكاة الغلات ، الرواية ١١٨٠٦.

(٥) التهذيب ٧ : ٢٠٢ ، الباب ٢٢ ، الرواية ٣٥.


النصف ، هل عليه في حصّته زكاة؟ قال : « لا » ، دلّ على خروج ما قاطعه عليه السلطان من ملكه ، وإلّا كان عليه زكاته.

ومنها : صحيح الحلبي (١) : لا بأس أن يتقبّل الرجل الأرض وأهلها من السلطان.

وقريب منه ما رواه الثلاثة مسندا إلى إسماعيل بن فضيل وغيره.

وقد يستدلّ أيضا بإطلاق ما دلّ على جواز الشراء من الظلمة ، وخصوص الموثّق : عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم ، فقال : « يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحدا » (٢) حملا للظلم على الزائد عن المتعارف عرفا ، وإطلاق المستفيضة (٣) الدالّة على إباحة جوائز الظلمة.

ويضعّف بأنّ الحمل المذكور والصرف عن الظاهر ، مع ما فيه من الركاكة ، لا وجه له ، فهي ظاهرة في غير معلوم الحرمة.

ثم إنّ المستفاد من تلك الأدلّة حلّية المأخوذ من الجائر من مال الخراج في الجملة. ويقع الإشكال في مقامات :

منها : أنّ جواز رفع المالك مال الخراج إلى الجائر ، هل هو مخصوص بصورة عدم التمكّن من المنع ، أو يجب عليه مطلقا ، فلا يجوز له جحد شي‌ء منه ، ولا منعه ولا سرقته.

نقل المحقّق الثاني في الرسالة الخراجية (٤) : القول بالإطلاق عن كثير من معاصريه ،

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٢٠١ ، الرواية ٣٤.

(٢) نفس المصدر ٦ : ٣٧٥ ، الباب ٢٢ ، الرواية ٢١٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٧ : ٢١٤ ، الباب ٥١ من أبواب المستحقين ، الرواية ٢٢٣٥٩ و ٢٢٣٦٠.

(٤) رسائل المحقق الكركي ١ : ٢٦٧.


وهو ظاهر جمع آخر.

وفي الكفاية (١) عن بعضهم : الاتفاق عليه ، وتأمّل هو فيه.

وعن آخرين براءة الذمّة بالدفع إجبارا ، ومقتضاه عدم جوازه مع التمكّن ، وبه صرّح الشيخ إبراهيم القطيفي فيما نقل عنه ، واختاره والدي العلّامة والمحقّق القمّي ؛ اقتصارا فيما خالف الأصل والنقل على ما ثبت فيه الإجماع والنصّ ، وهما في الفرض غير معلومين ، بل معلوم العدم.

أمّا الأوّل : فظاهر ، بل عن ظاهر الشيخ المتقدّم دعوى الضرورة الدينية على خلافه. وإطلاق كثير من الفتاوى محمول على صورة عدم التمكّن بحكم الغلبة بل الاطّراد ، ولا أقل من عدم ثبوت الاتفاق به ، سيما مع مخالفة هؤلاء.

وأمّا الثاني : فلعدم الدلالة إلّا باعتبار ظاهر العموم المستفاد من ترك الاستفصال في بعضه ، وإفادته في المقام بعد ظهور المسؤول عنه في صورة الخوف وعدم التمكّن ، بل انحصار الواقع فيها ممنوعة ، مع أنّ صحيح العيص (٢) في الزكاة الدالّة على حكم الخراج بعدم القول بالفصل على ما ذكره بعض الأجلّة « ما أخذ منكم بنو أميّة فاحتسبوا به ولا تعطوهم شيئا ما استطعتم » يخصّصه بها على فرض العموم ، كما يخصّص به عموم صحيح الشحام (٣) المانع عن الاحتساب ـ مطلقا ـ بصورة التمكّن.

وهل يجوز الأخذ من الجائر بعد دفع المالك إليه اختيارا؟ فيه إشكال ، وإن كان مقتضى ما ذكر عدمه ظاهرا ، ولعلّه لا إشكال في جوازه إذا كان المالك متديّنا بدين

__________________

(١) كفاية الأحكام : ٧٥.

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٢٥٢ ، الباب ٢٠ من أبواب المستحقين ، الرواية ١١٩٥٤.

(٣) نفس المصدر : الرواية ١١٩٥٧.


الجائر ، أو لم يعلم حال المالك من الاختيار والاضطرار والتمكّن من الجحد وعدمه.

ومنها : أنّه هل يشترط رضى المالك والاستيذان منه؟

الظاهر لا فيما يحتسب لخروجه عن ملكه في مال الخراج ، وإلّا لم يحصل له البراءة منه.

ومنها : أنّه هل يختصّ جواز الأخذ والحلّ بغير الشراء لمستحقّ الخراج ، كما هو صريح الوالد والفاضل المتقدّم ومحتمل بعضهم ، أو يعمّ غيره كما هو ظاهر جماعة؟ (١) المعتمد الأوّل ، للأصل وعدم الدليل ، والحسن المتقدم ليس بذلك الصريح ، بل ولا الظاهر في العموم في مقابل ما دلّ على خصوص مصارفه ، وأمّا بالشراء فيعمّ المستحقّ وغيره من غير خلاف.

ومنها : أنّه هل يقتصر في الحكم بالصحّة بالشراء من الجائر الذي هو مورد النصوص وبما بعد قبضه أو قبض وكيله الذي اشترطه في صحيح الحذاء المخصّص لإطلاق غيره ، واحتمله المولى الأردبيلي ، وتوقف فيه بعضهم ، أو يعمّ غير الشراء من المعاوضات وما قبل القبض ، كما هو ظاهر جماعة؟

مقتضى الأصل الأوّل ، إلّا إذا ثبت الإجماع على العموم ، كما عزّاه بعضهم إلى الأصحاب من غير خلاف ، وآخر إلى إجماع علمائنا وروايات أصحابنا.

وكيف كان فالأحوط الأوّل ، نعم ، في حكم القبض الحوالة والدلالة على المالك في الإعطاء بغير معاوضة ، لإطلاق الحسنة الأولى وغيرها ، لكن بشرط استيلاء الجائر وعدم تمكّن المالك من منعه عنه.

ومنها : أنّه هل يجوز أخذ الزائد على القدر المعتاد في ذلك الزمان أو المعتبر في

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٥٨.


أصل الشرع أم لا ، بمعنى حرمة الجميع ، كما يظهر من جماعة ، لخروجه بالزيادة عن المسمّى فيحرم الجميع أو يحرم القدر الزائد خاصة ، وهو الأشبه.

ومنها : أنّه هل يشترط أن يكون الجائر مخالفا لمذهب الحق ، كما مال إليه الشهيد الثاني (١) وجماعة أو يعم الموافق كما للآخرين؟

الأصحّ الأوّل ، اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد النصوص ، وهي مخصوصة بالمخالف ، لأنّه المسؤول عنه والمدلول عليه بالقرائن التفاتا إلى ما وقع في الواقع أو الغالب.

البحث الخامس : اختلفوا في جواز بيع الأراضي الخراجية على أقوال :

أحدها : صحّته للمتصرّف مطلقا ، حكي عن الشيخ في التهذيب (٢) ، لتحقّق القسمة فيها للبائع ، لأنّها أراضي المسلمين.

وثانيها : عدمها كذلك ، نسب إليه في المبسوط (٣) قائلا فيه : لا يصحّ بيع شي‌ء من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تمليكه ولا وقفه ولا رهنه ولا إجارته ولا إرثه ولا يصحّ أن يبنى عليها دور ومنازل ومساجد وسقايات وغيرها من أنواع التصرف الذي يتّبع الملك ، ومتى فعل شي‌ء من ذلك كان التصرف باطلا وهو باقيا على الأصل.

وثالثها : صحّته في بنيانها وحقّ تصرّفها لا في نفس رقبتها ، لا مستقلة ولا تبعا لآثار المتصرف ، اختاره الحلّي ويظهر من الفاضلين ، واعتمده والدي العلّامة (٤) ، إلّا

__________________

(١) مسالك الأفهام ٣ : ١٤١.

(٢) التهذيب ٧ : ١٤٧ ، الحديث ٦٥٢.

(٣) المبسوط ٣ : ٣٤.

(٤) السرائر ١ : ٤٧٨ ؛ المنتهى ٢ : ٩٣٤ ؛ إيضاح الفوائد ١ : ٣٦٥ ؛ الشرائع ١ : ١٨١ ؛ مستند الشيعة ٢ : ٣٥٨.


أنّه قال : يملك المشتري بتبعيّة بيع الآثار حقّ التصرف فيها إذا تبعت (١) الآثار كائنة فيها ، وكان مقصودهما بقاء الآثار فيها.

ورابعها : صحّته في نفس الرقبة تبعا لآثار المتصرّف من بناء أو غرس أو زرع ونحوها ، لا مستقلة بل مستدامة بدوامها فإذا ذهبت انقطع حقّ المشتري في البيع والموقوف عليه في الوقف وغيرهما ، استقواه الشهيد الثاني (٢) ونسبه إلى جمع من المتأخّرين.

وخامسها : منع البيع والوقف وغيرهما فيها حال ظهور الإمام عليه‌السلام وجوازها في الغيبة. ذهب إليه الشهيد في الدروس (٣).

ويظهر من تلك الأقوال وقوع الخلاف في جواز وضع الآثار فيها أيضا ، ومنشأ اختلاف الأقوال اختلاف الروايات وإجمال كثير منها ظاهرا.

والذي يظهر لي من تضاعيف الأخبار أنّ تلك الأراضي وإن كانت للمسلمين كافة ، إلّا أنّه يملكها المتصرف بالتعمير والقيام عليها ووضع الآثار فيها ، نظير أرض الموات التي هي ملك الإمام عليه‌السلام ويملكها المحيي ، لكن ملكيتها للمتصرف ليست على حدّ ملكية سائر الأملاك ، بل هي ممتدّة إلى زمان العمارة ، فإذا زالت انقطع حقّه ، وهو ما صرّح به شيخنا الشهيد ، وعليه خراجها ما دام في يده ولو بعد التملك ، فيجوز له بيعها وشراءها.

__________________

(١) بيعت ( خ ).

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ٥٦.

(٣) الدروس الشرعية ٢ : ٤١ ؛ وأيضا جامع المقاصد ٧ : ١٠.


فمن الأخبار الظاهرة في ذلك صحيح محمد (١) عن الشراء من أرض اليهود والنصارى فقال : « ليس به بأس ، وقد ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أرض أهل خيبر فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها ، وما بها بأس إذا اشتريت شيئا منها ، وأيّما قوم أحيوا شيئا وعملوها فهم أحقّ بها وهي لهم ».

وصحيح آخر (٢) عن شراء أرضهم فقال : « لا بأس أن يشتريها ، فيكون إذا كان ذلك بمنزلتهم يؤدّى منها كما يؤدّون منها ».

وعن أبي بصير (٣) في الصحيح عن شراء الأرضين من أهل الذمّة ، فقال : « لا بأس أن يشتري منهم إذا عملوها وأحيوها فهي لهم ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين ظهر على خيبر وفيها اليهود وخارجهم على ترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمّرونها ».

ورواية محمد بن شريح (٤) عن شراء الأرض من أرض الخراج فكرهه ، وقال : « إنّما أرض الخراج للمسلمين » ، فقالوا له : فإنّه يشتريها الرجل وعليه خراجها ، قال : « لا بأس إلّا أن يستحيي من عيب ذلك ».

وعن محمد بن مسلم وعن عمر بن حنظلة (٥) قال : سألته عن ذلك فقال : « لا بأس بشرائها ، فإنّها إذا كانت بمنزلتها في أيديهم يؤدّى عنها كما تؤدّى عنها ».

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ١٥٦ ، الباب ٧١ من أبواب جهاد العدوّ ، الرواية ٢٠١٩٩ ، مع اختلاف يسير في الألفاظ.

(٢) نفس المصدر ١٧ : ٣٦٩ ، الباب ٢١ من أبواب عقد البيع وشرائطه ، الرواية ٢٢٧٧٠.

(٣) نفس المصدر ٢٥ : ٤١٦ ، الباب ٤ من أبواب إحياء الموات ، الرواية ٣٢٢٤٨.

(٤) نفس المصدر ١٧ : ٣٧٠ ، الباب ٢١ ، الرواية ٢٢٧٧٢.

(٥) نفس المصدر ١٥ : ١٥٦ ، الباب ٧١ ، الرواية ٢٠١٩٩.


وعن حريز (١) رفع إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام رجل مسلم اشترى أرضا من أراضى الخراج ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « له ما لنا وعليه ما علينا ، مسلما كان أو كافرا ، له ما لأهل الله سبحانه وعليه ما عليهم ».

ورواية أبي بردة (٢) : كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال : « ومن يبيع ذلك وهي أرض المسلمين؟ » قال : قلت : يبيعها الذي في يده ؛ قال : « ويصنع بخراج المسلمين ما ذا؟ » ثم قال : لا بأس أن يشتري حقّه منها ويحول حقّ المسلمين عليه ، ولعلّه يكون أقوى عليها وأملى بخراجهم لله تعالى ».

ورواية الهاشمي (٣) المتضمّنة لتقرير الإمام عليه‌السلام عن رجل اشترى أرضا من أراضي الخراج ، فيبنى فيها أو لم يبن غير أنّ أناسا من أهل الذمّة نزلوها أله أن يأخذ منهم أجور (٤) البيوت إذا أدّوا جزية رءوسهم؟ قال : « يشارطهم فما أخذ بعد الشرط ؛ فهو حلال ».

وصحيح الحلبي (٥) عن السواد ما منزلته ، فقال : « هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ولمن لم يخلق بعد » ، فقلنا : الشراء من الدهاقين ، قال : « لا يصلح إلّا أن يشترى منها على أن يجعلها للمسلمين ، فإن شاء وليّ الأمر يأخذها أخذها » ، قلنا : فإن أخذها منه ، قال : « يردّ إليه رأس ماله وله ما أكل من ثمنها ».

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ١٥٧ ، الباب ٧١ من أبواب جهاد العدوّ ، الرواية ٢٠٢٠٢.

(٢) نفس المصدر : الرواية ٢٠١٩٤.

(٣) نفس المصدر ١٧ : ٣٦٩ ، الباب ٢١ من أبواب عقد البيع وشرائطه ، الرواية ٢٢٧٦٧.

(٤) في الوسائل : أجرة البيوت.

(٥) نفس المصدر ١٧ : ٣٧١ ، الباب ٢١ ، الرواية ٢٢٧٧٣ ؛ و ٢٥ : ٤٣٥ ، الباب ١٨ من أبواب إحياء الموات ، الرواية ٣٢٢٩٣.


والمناقشة في الصحيح الأخير وأمثاله بل جعلها دليلا للمنع بأنّ المستثنى ليس شراء حقيقيا مملّكا للرقبة وإلّا لم يجز لوليّ الأمر أخذها منه ، ولم يجب جعلها للمسلمين ، فهما قرينتان على عدم إرادة الشراء الحقيقيّ ؛ مخدوشة بأنّ الشراء الشرعيّ لا ينافي سلطنة الإمام عليه‌السلام على أخذه منه وقطع ملكه عنه ، فإنّ له السلطنة الكبرى يتصرّف كيف يشاء ، وفي النصوص ما له أعظم من ذلك من السلطنة والاستيلاء على تمام الأرضين وخصوص الأرض المحياة.

ويظهر من الأخبار أنّ للقائم ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ بعد ظهوره أن يأخذ الأراضي التي أحياها الناس من أيديهم ويأخذها (١) من أيدي المخالفين ويترك ما في أيدي الشيعة تفضلا عليهم ، مع أنّها لهم بالإحياء ، كما في النصوص والفتاوى ، فلا يصلح ذلك قرينة لصرف الشراء عن معناه الحقيقيّ ، وكذا قوله عليه‌السلام : « على أن يجعلها للمسلمين » لظهوره بعد التصريح بجواز شراء الرقبة في كون المراد منه قصد أداء خراج المسلمين منها ، سيما بملاحظة موافقته لروايات كثيرة أخرى.

البحث السادس : إذا علم أنّ الأرض مفتوحة عنوة حال عمارتها بخبر متواتر أو مقترن بقرينة علمية فهو ، وإلّا فالطريق في إثباته منحصر في الخبر المعتبر أو شهادة عدلين.

ومنه إقرار ذي اليد نظرا إلى أنّ من أقرّ له في حكم ذي اليد عرفا وشرعا بمقتضى المستفيضة الدالّة على أنّ من أقرّ بعين لأحد فهو له (٢).

وقول ذي اليد في دعواه الاختصاص لنفسه ملكا أو ولاية معتبر.

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٥٩.

(٢) لم نقف عليه بهذه العبارة ولكن هناك روايات يمكن الاستدلال بها ، راجع وسائل الشيعة ١٩ : ٣٢٦ ، الرواية ٢٤٧٠١ ؛ و ٢٣ : ١٨٤ ، الرواية ٢٩٣٤١ و ٢٩٣٤٢.


وذكر بعضهم من طرق الثبوت ضرب الخراج من الحاكم وإن كان جائرا ، حملا لتصرّف المسلم على الصحّة ، وردّ بأنّ هذا يتمّ إذا كان الحكم بكونه خراجيا مصحّحا لتصرّفه وأخذه ، وليس كذلك.

وقال والدي العلّامة (١) : الحمل على الصحّة ـ لو سلّم ـ فإنّما هو في أفعال الشيعة خاصّة ، ومع تسليم المطلق لا يثبت إلّا كون الأراضي خراجية عند من يأخذ الخراج أو مع من تقبّله عنه ، وهذا غير كاف للثبوت عند مجتهد آخر أو معتقد طائفة غير معتدّ به لغيرهم.

نعم ، لو كانت الأرض في يد السلطان يتقبّلها أو يوجرها لمن يشاء ، فهذا من باب اعتراف ذي اليد بكونها خراجية ، وهو كاف في الثبوت ، ولا حاجة الى تحمل الحمل على الصحّة ، وكذا إذا كانت في يد الرعية ويعطون الخراج معترفين بكونها حقّا ، وأمّا إذا أعطوا كرها من غير اعتراف منهم بالحقّيّة ، فالحمل على الصحّة في عمل السلطان يعارض حمل كراهة الرعية عليها.

أقول : وهاهنا أمر آخر غير حمل الفعل على الصحّة وإقرار ذي اليد ، وهو استمرار العمل في ظاهر الحال ولو من السلطان المخالف في الأرض ، على وجه كونها خراجية من تقبيلها لمن يشاء على هذا الوجه ، وأخذ طسقها وإقدام الرعية على تقبّلها منه ، وبالجملة : جريان الأمر واستمراره على آثار الخراجية ، فإنّه دليل للخراجية. وإن لم يظهر من ذي اليد إقرار أصلا ، بل هو نفس الخراجية الظاهرة كما في غيرها من الأوصاف الشرعية كالملكية والزوجية والوقفية.

فإنّها قسمان : واقعية ؛ وهي الثابتة في نفس الأمر مسبّبة عن أسبابها الواقعية ، وظاهرية ؛ وهي الحالة الظاهرة بحسب الآثار والأعمال ، والجري عليها مع عدم

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٥٩.


العلم بمخالفتها للواقع ، وعدم كونها ناشئة عن أسبابها النفس الأمرية ، نظير الحكم الظاهري في مقابل الحكم الواقعي في الأحكام الشرعية.

وتلك الظاهرية في أمثال ذلك متّبعة في ظاهر الشرع ، بل هي مناط الشهادات غالبا في الأملاك والمناكح والأنساب والأوقاف والولايات وغيرها ، فيشهد بالزوجية بالاطّلاع على كونها في حبالة الزوج وتوافقهما في آثار الزوجية مدة طويلة ، ويقطع الدعوى وحقّ الحلف بمثل تلك الشهادة ، وإلّا فكيف يمكن للشاهد غالبا الشهادة مع عدم علمه بأسبابها الواقعية ، فضلا عن كونها منتهية إلى حسّه المشروط في الشهادة. ومعلوم أنّ هذا غير مجرّد اليد الموجبة ، لتقدّم القول الغير المسقط للدعوى وحقّ الحلف ، وإن علمها ، بل وإن علم منه الجهل بالحال.

وقد يجعل مطلق الظنّ ـ كالحاصل من كتب السير والتواريخ ـ من طرق الثبوت أيضا ؛ لدوران الأمر بين كونها مفتوحة عنوة أو صلحا على كونها للمسلمين أو لمن في أيديهم من الكفار ، فإمّا يحكم ـ حينئذ ـ بانتفاء الخروج وكونها على سبيل الثاني فيما يخالف الظنّ ، ففيه ترجيح حكم بلا مرجّح ، أو يرجع الى الظنّ فهو المتعيّن.

وفيه أنّ هنا احتمالا ثالثا هو كونها مواتا أحياها المسلمون إذا أسلم (١) أهلها طوعا ونحو ذلك ، وأنّ الأصل فيما يقتضي عدم كونها خراجية دليل شرعيّ مقدّم على الظاهر في أمثال تلك الموضوعات.

نعم ، فيما انتفى فيه الأصل وانحصر الأمر في الاحتمالين المزبورين أمكن الترجيح بالظن.

ثمّ إذا انتفى الطريق المعتبر لإثباتها ، فإن كان على الأرض يد تملّك من مسلم أو

__________________

(١) في « م » : أو أسلم.


مسالم يلزمها حكمها ، وإن كان ذو اليد غير عالم بحقيقة الحال كما في غيرها.

وفي الكفاية (١) المنع من اقتضاءها الاختصاص الملكي في أمثال تلك الأراضي ، حيث لا يعلمه المتصرّف ولا يدّعيه ، بل لو ادّعى العلم ، مع علمنا بعدم علمه لا يصدق.

ويضعّف بأنّه إن أراد نفي الاقتضاء رأسا فعموم أدلّة اليد يدفعه ، وإن أراد نفيه ملكا لكون اليد أعمّ منه ، فمع فرض وقوع التصرّفات المالكية فيها كالمعاملات الاستقلالية لا وجه للمنع ، وعلم المتصرّف بالواقع غير لازم في الاقتضاء ، وإلّا لما دلّت اليد على الملك إلّا في نادر.

وإن لم يكن عليها يد كذلك ، فصور الشك ثلاث :

إحداها : أن لا يعلم وقوع الفتح عليها مطلقا وحينئذ يعمل بالأصل ويلزمها حكم مجهول المالك أو بلا مالك.

وثانيتها : أن يعلم كون البلده مفتوحا عنوة وهذه الأرض منه ، وشك في كونها عامرة حين الفتح ، ويلزمه حكم ما تقدّم أيضا لأصالة تأخّر الحادث.

وثالثتها : الصورة بحالها واشتبه العامر المعلوم وجوده إجمالا حين الفتح بين موضع هذه الأرض وغيره من الأراضي التابعة أو القرينة إلى البلد ، والحكم ـ حينئذ ـ بكونه مجهول المالك مشكل ؛ لتعارض أصل تأخّر الحادث مع أصالة بقاء العامر وعدم تغيّره بما عليه حال الفتح ، فإن كان ـ حينئذ ـ مرجّح ظنّيّ فهو كما مرّ ، وإلّا فالوجه التوقف والاحتياط ببذل الخراج ، ولعلّ كثيرا من الأراضي العامرة اليوم في البلاد المفتوحة عنوة من هذا القبيل.

فإن قلت : مقتضى تعارض الأصلين فيه الجهل بمالكه ، فيلزمه حكم مجهول المالك أيضا.

__________________

(١) كفاية الأحكام : ٧٦.


قلت : أخبار مجهول المالك لا ينصرف إلى مثل هذا المتردّد بين كونه مفتوحا عنوة أو لمالك معيّن ، لظهورها فيما له مالك مخصوص ولم يعلم به.


[ المشرق الثامن ]

[ فيما يتعلّق بالعدالة الشرعية ]

مشرق : فيما يتعلّق بالعدالة الشرعية التي اشترطها الشارع في الشهادة والإمامة وغيرهما. والنظر إمّا في معناها وحقيقتها وما يتألف منه من الأجزاء والشروط ، أو في كيفية البحث عن ثبوتها وما يكشف عن حصولها شرعا ، فهنا مطلبان :

المطلب الأوّل : في بيان حقيقتها وما يعتبر فيها ، وفيه أبحاث :

البحث الأوّل : اختلفت كلمات العلماء في بيان حقيقة العدالة ، أي فيما هو المقصود منه في الشرع في المقامات المذكورة ، لا في أمر وضعيّ ضرورة أنّ ليس هو وضعا لغويا أو عرفيا فإنّه بمعزل عن مختلف الفقهاء في المقام ومطرح آرائهم وأقوالهم ، ولا الوضع الشرعي ، لأنّه فرع ثبوت الحقيقة الشرعية ، وهي غير معلومة ، وعلى الجملة فتفاسيرهم وتعاريفهم للعدالة الشرعية مختلفة الأجناس ، وجملتها أربعة :

أحدها : أنّها الملكة الراسخة النفسانية الباعثة على ملازمة التقوى والمروّة.


ذكرها في المختلف (١) والقواعد (٢) والإرشاد (٣) والتحرير (٤) والمهذّب (٥) ونهاية الأصول (٦) والمنية (٧) والدروس (٨) والذكرى (٩) والتنقيح (١٠) والروضة (١١) والروض (١٢) وجامع المقاصد (١٣) والرياض (١٤) ، ونسبه مولانا الأردبيلي إلى المشهور في الفروع والأصول (١٥) ، والفاضل الهندي (١٦) إلى المشهور بين العامّة والخاصّة ، والذخيرة (١٧) إلى المتأخرين ، وفي التنقيح (١٨) إلى الفقهاء ، مشعرا بدعوى إجماعهم عليه وبها عرفها جماعة من محقّقي

__________________

(١) مختلف الشيعة ٨ : ٤٨٤.

(٢) قواعد الأحكام ٢ : ٢٣٦.

(٣) إرشاد الأذهان ٢ : ١٥٦.

(٤) تحرير الأحكام ١ : ٢٠٨.

(٥) المهذب البارع ٢ : ٥٥٦.

(٦) لم نقف عليه.

(٧) غنية النزوع ١ : ٢٨٩.

(٨) الدروس الشرعية ١ : ٢١٨.

(٩) ذكرى الشيعة ٤ : ٣٩١.

(١٠) التنقيح الرائع ٤ : ٢٨٩.

(١١) الروضة البهية ٣ : ١٢٨.

(١٢) روض الجنان : ٣٦٣.

(١٣) جامع المقاصد ٢ : ٣٦٢.

(١٤) رياض المسائل ٢ : ٣٨٦.

(١٥) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣١١.

(١٦) كشف اللثام ٢ : ١٩٢.

(١٧) ذخيرة المعاد : ٣٠٥.

(١٨) التنقيح الرائع ٤ : ٢٨٩.


العامّة كالغزالي والحاجبي والعضدي والآمدي (١).

وثانيها : نفس الأفعال والتروك ، بأن لا يكون مرتكبا للكبائر ولا مصرّا على الصغائر ، وهو ظاهر أكثر المتقدّمين. وفي البحار أنّه الأشهر في معناها وهو ظاهر الكفاية (٢).

وثالثها : المعروفية بتلك الأوصاف والتروك ظاهرا. فسّرها به الشيخ في النهاية (٣) ، والحلّي في السرائر (٤) ، وعزّى إلى أكثر متأخري المتأخرين (٥).

وفرقه مع سابقه اعتبار الواقع فيه ، والمعروفية الظاهرية هنا.

وهذا القول هو المعروف بحسن الظاهر ، على كون الظاهر في مقابل الواقع ، فهو في مقابل القول الثاني.

ولو أريد به المحسوس في قبال الباطن ، أي السريرة والملكة النفسانية ، يرجع إلى الثاني ، وكان في مقابل القول الأوّل.

ورابعها : عدم ظهور خلاف المذكورات مع ظهور الإسلام.

نسب إلى المفيد في الإشراف (٦) والإسكافي (٧) ، والشيخ في المبسوط (٨) والخلاف (٩).

__________________

(١) الغزالي في المستصفى ١ : ١٥٧ ؛ العضدي في شرح المختصر : ١٦٧ ؛ الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٠٨.

(٢) كفاية الأحكام : ٢٧٨.

(٣) النهاية : ٣٢٥.

(٤) السرائر ٤ : ١١٨.

(٥) الهداية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٢ ؛ المقنعة : ٧٥٢.

(٦) حكاه عنهم السبزواري في ذخيرة المعاد : ٣٠٥.

(٧) المصدر السابق.

(٨) المبسوط ٨ : ٢١٧.

(٩) الخلاف ٦ : ٢١٨.


ثمّ الظاهر أنّ مراد القائلين بالأخير الحكم بالعدالة من باب الأصل ، لا أنّه نفس حقيقتها ، كما نبّه عليه في البيان (١) والدروس (٢) والذكرى (٣) والجعفرية (٤) والمسالك (٥) والكفاية (٦) ، وجدّي الأمجد في المعتمد ، ووالدي العلّامة في المستند (٧) ، وغيرهم (٨) ، فإنّ كلمات القائلين به في غاية الظهور ، بل الصراحة في مغايرة حقيقة العدالة لذلك ، كقول الشيخ في المبسوط عند ذكره أقسام المعرفة والجهل بالعدالة :

« الثاني : أن يعرف إسلامهما دون عدالتهما ، لم يحكم بشهادتهما حتى يبحث من عدالتهما » ، إلى أن قال [ ما ملخصه ] : وبه قال قوم إن كان في قصاص أو حدّ ، وإن كان غير ذلك حكم بشهادتهما بظاهر الحال ، ولم يبحث عن عدالتهما بعد أن تعرف إسلامهما.

وقوله في الخلاف (٩) : الأصل في المسلم العدالة ، فإنها لو كانت نفس ظاهر الإسلام لم يصحّ جعلها أصلا فيه ، بل كان نفسها. ويؤمي إلى المغايرة أيضا كلام المفيد (١٠) والإسكافي (١١).

__________________

(١) البيان : ١٣١.

(٢) الدروس الشرعية ١ : ٢١٨.

(٣) ذكرى الشيعة ٤ : ٣٩١.

(٤) رسائل المحقق الكركي ١ : ١٢٦.

(٥) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

(٦) كفاية الأحكام : ٢٧٨.

(٧) مستند الشيعة ٢ : ٦١١.

(٨) بحار الأنوار ٨٨ : ٢٥ ؛ ذخيرة المعاد : ٣٠٤ ؛ الكافي في الفقه : ٤٣٥ ؛ الوسيلة : ٢٣٠ ؛ وحكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٣ : ٨١ ؛ جواهر الكلام ١٣ : ٢٨١.

(٩) الخلاف ٦ : ٢١٨.

(١٠) حكاه عن المفيد في الحدائق الناضرة ١٠ : ١٨ ؛ ورياض المسائل ٢ : ٣٩٠.

(١١) مجموعة فتاوى ابن الجنيد : ٣٢٨.


وكذا الظاهر أنّ القول الثالث أيضا مبنيّ على أنّ التعويل على حسن الظاهر والمعروفية بالستر والعفاف ، من باب الكشف عن العدالة والدلالة عليها ، لا كونه نفسها تنزيلا لحسن ظاهر الحال في المعاشرات منزلة الواقع ، أعني الاجتناب الواقعي عن القبائح الذي هو القول الثاني ، كما لا يخفى على المتأمل في كلام القائلين به. فيبقى الاحتمال في أصل معنى العدالة وحقيقتها بين أحد الأوّلين ، أعني الملكة النفسانية المشتهرة بين المتأخرين ، ونفس تقوى الجوارح من الأفعال والتروك المعروفة بين المتقدّمين.

ثمّ من الظاهر أن ليس المراد من الثاني مجرّد الفعل والترك من حيثهما ، ولو لعدم المقتضي أو وجود المانع ، كالعنين التارك للزنا واللواط ، والأخرس والأعمى والأصمّ بالنسبة إلى معاصي تلك الجوارح ، وغيرهم ممّن لم يتمكّن من آلات المعاصي ، بل المراد كونه لتقوى الله عزوجل وغرض ديني ، لا للرياء والسمعة أو الخوف من الناس أو مصلحة دنيوية أخرى ، لعدم كونه ممدوحا ـ حينئذ ـ فليس من العدالة المأمور بها المثاب عليها إجماعا ، بل العمل ـ حينئذ ـ في بعض تلك الوجوه بنفسه معصية يخالف العدالة ، فلا بدّ أن يكون العمل المزبور منوطا بنيّة خالصة وفضيلة نفسانية.

وكذا ليس المراد مجرّد التلبس بهذه الأوصاف الصادق على مثل ساعة أو يوم أو على زمان الشهادة ، بل مرادهم التلبّس بها دائما أو في زمان طويل ، كشهر بل أكثر ، من غير تخلّف عنه فيه.

ولعلّه إجماعيّ أيضا ، بل هو مدلول كلمات القائلين به ، فإنّه لا يصدق عرفا تلك الأوصاف التي ذكروها على الإطلاق إلّا على المواظب المداوم عليها.


ألا ترى أنّ من قال : اشتر لي عبدا عفيفا ورعا مجتنبا عن مجالسة الأراذل ، أو عابدا مصلّيا ساعيا إلى المساجد ، وأمثال ذلك من التروك والأفعال ، لا يفهم منه عرفا إلّا المواظب الملازم لها.

وحيث إنّ المواظبة على تلك الأوصاف في المدة الكثيرة بالنيّة الخالصة ، لا بدّ وأن يكون لها مبدأ في النفس باعثة على النية واستعمال الجوارح أو كفّها ، فلا ينفكّ عن صفة حسنة ثابتة نفسانية يمنع ما دام وجودها عن التخلف عن تلك الآثار ، سواء بلغت تلك الصفة الكامنة حدّ الملكة بالمعنى المذكور في القول الأوّل أم لا.

فبين هذين القولين عموم من وجه ؛ لاختصاص الأوّل بكون تلك الملكة مما يقتدر به على ترك المعاصي وملازمة التقوى بسهولة ، ولكن لا ينافيها التخلّف أحيانا بفعل معصية دفعة أو أكثر ، فإنّ تلك الملكة مما لا يحصل إلّا بمجاهدة وتكرير ومزاولة ، وبعد حصولها لا تزول بفعل خلافها مرّة أو مرّات عديدة ، واختصاص الثاني بكون الصفة النفسانية الباعثة على التقوى بحيث لم يتخلّف عنها الأثر ، فينافيها المعصية ، كأن يكون خوفا من الله عزوجل أو طمعا في ثوابه أو إجلالا له ، فإنّها يزول عند المعصية ، وإلّا لم يتخلّف عن أثرها الذي هو ترك المعصية ، وإن عادت ثانيا ، ولكن لا ينافيها كون ترك المعصية بمشقة ومجاهدة ، حيث لم يحصل بعد التكرار للبالغ حدّا يوجب حصول الملكة وسهولة التقوى ، نظير الخوض في الأحوال والمعارك المنبعث عن غيرة أو حميّة أو حبّ شخص أو بغضه ، لا عن ملكة الشجاعة والجراءة.

فيشترك القولان في كون الآثار منبعثة عن صفة راسخة في النفس ، ويختلفان في أنّ العدالة هل هي نفس تلك الآثار المنبعثة عن الهيئة النفسانية ، فينقضها التخلّف في الآثار ، أو هي نفس الملكة الباعثة على سهولة الآثار ، فلا ينقضها


المخالفة أحيانا على حدّ لا تزول به الملكة بل ينقضها زوال نفسها.

فالاختلاف في القولين من وجهين.

وهل الترجيح للأوّل أو الثاني؟

مقتضى عدّها في فنّ الأخلاق من الصفات والملكات ـ بل عرفوها فيه بما يناسب الملكة المذكورة كقولهم إنّها ملكة لزوم الاقتصاد في كلّ شي‌ء من الأعمال والصفات من غير ميل إلى طرفي الإفراط والتفريط ، أو هي ملكة يقتدر بها العقل العمليّ على ضبط جميع القوى تحت إشارة العقل النظريّ ـ كونها الأوّل ، إلّا أنّ الملكة ـ كما عرفت ـ لا ينافيها التخلّف مرّة في العمل أو مرّتين ، ولا تزول به ، وهو مناف للعدالة المعتبرة في الشرع إجماعا ، وجعل عدم التخلّف شرطا زائدا عن نفس العدالة ينافيه ظاهر كلماتهم بل صريحها ، من سقوط العدالة بفعل الكبيرة إلى أن يحصل العلم بعودها بالتوبة. وهذا يقوى كون الثاني عدالة ، مع أنّه أيضا يرجع إلى صفة راسخة نفسانية هي منشأ ظهور الآثار في الجوارح ـ كما سمعت ـ مع أنّه يستبعد في العقول إسقاط من تحمل نفسه على ترك محارم الله تعالى بالجهد والمشقّة طول السنة خوفا من الله سبحانه بحيث لا يبادر إليها ، عن حكم العدالة ، وجعله من عداد الفسّاق ، مع أن مثله قد يعدّ أعلى مرتبة وأكثر ثوابا وأعظم درجة من ذي الملكة المذكورة ، على أنّ الأخبار الواردة في الباب مفسّرة بها بنفس الأفعال والتروك ، ككلمات أكثر القدماء.

وقول الصادق عليه‌السلام في صحيح عبد الله بن أبي يعفور ، في جواب قول السائل : بم يعرف عدالة الرجل؟ : « أن تعرفوه بالستر والعفات وكفّ البطن والفرج واليد واللسان » (١) وقوله : « يعرف باجتناب الكبائر » (٢) لا ينافي كون حقيقة العدالة نفس

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٨ : ٣٧ ، الباب ٢ ، الحديث ١.

(٢) نفس المصدر.


العمل ، بل دلالته على المطلوب أشبه ، فإنّه من قبيل أن يقال : نعرف الكتاب الفلانيّ بالمسائل الفلانية.

وبالجملة بملاحظة الشواهد المذكورة تقوى القول الثاني.

ويوافقه في المعنى التفسير بالصفة الراسخة في النفس المقرونة بتلك الأعمال والتروك ، كما عرفت ، فمعنى العدالة مركّب منهما.

وكيف كان ، فهو غير الملكة ، والقول بها لا شاهد له من لغة أو حديث ، والتبادر العرفيّ الذي ادّعاه جمع من القائلين له ممنوع.

وإن سلّم كونها من الصفات في المتفاهم العرفيّ ، فغايته كونها صفة راسخة باعثة على التقوى ، ولو هي الخوف من الله سبحانه.

نعم ، يستلزم ذلك بعد تكرّر العمل حصول الملكة غالبا.

تتميم : لا خلاف في أنّ الفسق ضدّ العدالة الشرعية ، كما أنّ العدالة بالمعنى المصطلح عند أئمة الحكمة ـ أعني تعديل الملكات النفسانية ـ ضدّها الجور بمعنى الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط ، فلا يجتمعان.

وهل بينهما واسطة؟

والتحقيق أنّ الفسق إن فسّر بما يخالف العدالة ، فلا واسطة بينهما ، لكون التقابل بالوجود والعدم ، وإن فسّر بالخروج عن طاعة الله سبحانه وارتكاب الكبيرة والإصرار على الصغيرة ، أو بملكة ذلك وإن لم يتّفق له المعصية لمانع ، من تعذر أسباب المعصية أو خوف أو مرض ونحوها لا لورع دينيّ ، فعلى القول بكون العدالة ملكة ، ففاقد الملكتين المجتنب عن الذنوب ولو طاعة لله واسطة بينهما.


وكذا على القول بحسن الظاهر يكون غير ذي ملكة الفسق ، المجتنب عن الذنوب والمعاصي لعذر ، واسطة.

وحيث إنّ الظاهر المتبادر من الفسق أحد الأخيرين ، بل الأوّل منهما ، فالظاهر وجود الواسطة هذا بحسب الواقع ، وأمّا بحسب الحكم في الظاهر فسيأتي الإشارة إلى ما يقتضيه الأصل منهما.

البحث الثاني : قد علمت أنّ اجتناب المعصية جزء العدالة أو لازمها.

واختلفوا في أنّ المعتبر هو الاجتناب عن جميع المعاصي من الكبائر والصغائر ، أو من الكبائر فقط. وهذا الخلاف بعد اختلافهم في تقسيم الذنوب إليهما.

والمعروف بين أكثر المتأخّرين بل عامتهم الانقسام إليهما. وإليه ذهب كثير ممّن تقدم ، بل عن الصيمري والبهائي الإجماع عليه. وعن جماعة من القدماء كالحلبي والقاضي والشيخ في العدّة والطبرسي أنّ الذنوب كلّها كبائر ، بل عن الأخير نسبته إلى الأصحاب ، مشعرا بدعوى الإجماع عليه (١).

والظاهر أنّ مراد هؤلاء أن ليس للذنوب معيارا معيّنا محدّدا يعدّ به الكبائر والصغائر على الإطلاق ويختلف بهما الأحكام الشرعية ، كالقدح في العدالة ونحوه ، لا أن ليس لها اختلاف في الشدة والضعف وزيادة العقاب ونقصانه ، فإنّ من الضروريّ أن ليس عقاب ترك ردّ السلام كقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهدم الكعبة.

وبهذا يختلف الذنوب في الكبر والصغر بإضافة بعضها إلى بعض ، كما نبّه به

__________________

(١) الحلبي في الكافي : ٤٣٥ ؛ والقاضي في المهذب البارع ٣ : ٥٥٢ ؛ والشيخ في العدّة : ٣٧٩ ؛ والطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٣١.


الحلّي (١) بعد نفيه التقسيم ودعواه عدم الخلاف فيه بقوله : لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلّا بالإضافة إلى غيرها.

وعن بعضهم جعل الإضافة على أقسام ثلاثة :

أحدها : الإضافة إلى الطاعة ، فإن زاد عقابها على ثواب تلك الطاعة فهي كبيرة بالنسبة إليها ، وإن نقص فهي صغيرة.

وثانيها : بالإضافة إلى معصية أخرى ، فهي كبيرة بالنسبة إلى ما هي أشدّ عذابا منه ، وصغيرة بالنسبة إلى ما هي أقلّ منه.

وثالثها : بالنسبة إلى فاعلها ، فإن صدرت عن شريف عالم فهي كبيرة ، وإن صدرت عمن دونه فهي صغيرة.

وربما قيل : إنّ الصغيرة لا تطلق على الذنوب إلّا على القول بحبط الطاعة الكبيرة (٢) ، وأنت خبير بأنّ القسمة معروفة بين أصحابنا ، والقول بالإحباط خلاف المعروف بينهم ، فكيف يناط به عند أرباب القسمة؟

والحقّ في المسألة ما عليه المعظم ، لظاهر الآيتين ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (٣) و ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ) (٤).

والنصوص المستفيضة المتضمّنة للتقسيم بهما ، وإيعاده للكبائر بطائفة من

__________________

(١) السرائر ٢ : ١١٨.

(٢) في « م » هكذا : وربما قيل : إنّ الصغيرة قد يطلق على الذنب إلّا على القول بالإحباط ، وهو موازنة العمل الصالح والمعصية ، فكلّ ذنب يحبط بالطاعة فهي صغيرة وكلّ ذنب يحبط الطاعة فكبيرة.

(٣) النساء (٤) : ٣١.

(٤) الشورى (٤٢) : ٣٧.


المعاصي ، والمصرّحة ببعض الأوصاف للكبائر ، كمرسلة الفقيه : « من اجتنب الكبائر كفّر الله عنه جميع ذنوبه » (١).

وفي خبر آخر : « الأعمال الصالحة يكفّر الصغائر » (٢) وفي ثالث : « لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار » (٣). وأمثال ذلك ممّا دلّ على القسمة على الإطلاق.

واستدلّ النافون باشتراك الجميع في مخالفة أمره سبحانه ونهيه ، وبالاستشهاد بظهور بعض الأخبار فيه ، مثل ما دلّ على أنّ كلّ معصية شديدة ، وما دلّ على أنّ كلّ معصية قد توجب لصاحبها النار ، وما دلّ على التحذير من استحقار الذنب واستصغاره (٤) ، ونحو ذلك.

ويضعّف الأوّل بأنّه مبنيّ على كون الكبر والصغر باعتبار مجرّد المخالفة التي هي غير قابلة للشدّة والضعف ، وليس كذلك ، بل مناط الافتراق بهما المفسدة التي أوجب النهي ، وهي قابلة للشدّة والضعف بتفاوت العقاب كما أشرنا إليه ـ وإن اشتركا في النهي ـ كما يشاهد هذا الفرق في النواهي العرفية.

والثاني بعدم دلالة شي‌ء من تلك الأخبار على الاشتراك فيما عنوا به من معنى الكبيرة ، وهو كونه غير مكفّر بالأعمال الصالحة ، أو ما يوعد عليه النار مطلقا ، أو قادحا في العدالة.

وحيث تبيّن أنّ الذنوب ينقسم إلى الكبائر والصغائر ، على ما سننبّه على تفصيل

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ١٦ ، الباب ٥ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٦٢٢.

(٢) لم نقف عليه بهذه العبارة.

(٣) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٣٨ ، الباب ٨ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٦٨١.

(٤) الكافي ٢ : ٢٦٩ ، الحديث ٧ ؛ وسائل الشيعة ١٥ : ٢٩٩ ، الباب ٤٠ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٥٦٧ ؛ و ٣١٠ ، الباب ٤٣ ، الرواية ٢٠٦٠٤.


كلّ منهما ، فاعلم أنّه لا خلاف في توقّف العدالة على اجتناب الكبائر.

واختلفوا في توقّف اجتناب غيرها أيضا وترك الجميع. اختاره المفيد (١) والحلّي (٢) والحلبي (٣) والقاضي (٤) والشيخ في العدّة (٥) والطبرسي (٦) في المحكيّ عنهم ، بل عن ظاهر الثاني والأخيرين كونه مجمعا عليه بين الطائفة.

وذهب جمهور المتأخّرين ، بل عامّتهم وأكثر المتقدّمين ـ بل قيل عليه اتفاق كلّ من قسّم الذنوب إلى قسمين ـ إلى عدم قدح فعل الصغيرة فيها إلّا مع الإصرار الموجب لصيرورتها كبيرة ، وهو الحقّ ، لدلالة صحيح ابن أبي يعفور الآتي عليه في قوله : « ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله سبحانه عليها النار » (٧) الظاهر في عدم توقفها على غيرها ، باعتبار كونه في مقام التحديد والتعريف ، بل لو لا الاختصاص كان التخصيص به إغراء قبيحا ، مع أنّ مقتضى الأصل عدم تقييده بوصف غيره.

فإن قلت : قوله عليه‌السلام في جواب السائل : بم يعرف عدالة الرجل؟ « أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان » يعمّ جميع الذنوب ، وحصول القدح في العدالة ، سيما الصادرة عن الجوارح الأربعة ، وإن كانت صغائر ، ونحوه قوله عليه‌السلام بعده ، والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساترا لجميع عيوبه الشامل للصغير.

قلت : كلامه عليه‌السلام مقتض للمتعلّق ، ضرورة أن ليس المراد ما صدق عليه الستر

__________________

(١) مختلف الشيعة ٨ : ٤٩٨.

(٢) السرائر ٢ : ١١٨.

(٣) الكافي في الفقه : ٤٣٥.

(٤) المهذب البارع ٢ : ٥٥٦.

(٥) عدّة الأصول : ٣٧٩.

(٦) مجمع البيان ٣ : ٣١.

(٧) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٩١ ، الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الرواية ٣٤٠٣٢.


وكفّ الأعضاء ، فلا عموم له.

والحمل على العموم عند حذف المتعلّق فيما يحمل عليه ، إنّما هو لدليل الحكمة ، من عدم المرجّح ولزوم الإغراء لولاه ، وهي هنا منتفية ، لأنّ قوله عليه‌السلام عقيب ذلك : « ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار » قرينة ظاهرة بل صريحة مبيّنة للمتعلّق ، وإلّا لما صحّ التخصيص ، خصوصا مع ما فيه من التفصيل.

مضافا إلى أنّ فعل الصغيرة مرّة أو مرتين لا ينافي صدق وصف المعروفية بالستر والعفاف والكفّ على وجه الإطلاق ، كما سنشير إليه.

ولعلّ هذا وجه تخصيص اجتناب الكبائر بالذكر ثانيا ، تنبيها على قدحها في العدالة مطلقا ولو مرّة ، مع أنّه جعل في الصحيحة الستر والكفّ معرفا لاجتناب الكبائر ، والمعرّف يعتبر حيث لم ينكشف المعرّف ـ بالفتح ـ فلو فرض العلم بالاجتناب عن الكبائر لم يكن المعرّف معتبرا ، ولو مع صدور الصغيرة.

مضافا إلى أنّ اشتراط ستر العيب ولو كان صغيرة لا يستلزم قدح فعل الصغيرة ، فإنّهم جعلوا من أسباب صيرورة الصغيرة كبيرة عدم المبالاة بإعلانها ، واستدلّوا على المطلوب ـ أيضا ـ باستلزام قدح الصغيرة في العدالة للحرج العظيم ، وسقوط الشهادات ، وتعطيل الأحكام المسبّبة لوجود العدل ، وتضييع الحقوق.

وردّه الحلّي (١) بإمكان الرفع بالتوبة. واعترض عليه في المختلف (٢) : بأنّ من شرط التوبة العزم على ترك المعاودة ، ولا شكّ أنّ الإنسان لا ينفكّ عن الصغائر ، فلا يصحّ هذا العزم منه غالبا.

وأورد عليه بأنّه ينافي وجوب التوبة عنها على كلّ أحد.

__________________

(١) شرائع الإسلام ٢ : ١١٨.

(٢) مختلف الشيعة ٨ : ٤٨٤.


أقول : إمكان العزم وصحّة التكليف به لا يرفع المحذور ، فإنّ المعترض مستظهر بعدم وقوعه غالبا ، والمحذور ناش عن عدم الوقوع في الغالب ، لا عن عدم التكليف به ، إلّا أن يمنع غلبة عدم وقوع العزم على الترك ، وإن لم ينفكّ الإنسان غالبا عن الصغائر ، فإنّ حالة حصول العزم المصحّح للتكليف بالتوبة ممكن الوقوع للإنسان كثيرا ، وإن كان النقض له متكثر الوقوع أيضا.

كيف وإلّا لم يقع التكليف بترك الصغائر ، وبطلانه ظاهر.

وكيف كان ، فالاستدلال المذكور لا يخلو عن تأييد واعتضاد للأوّلين من وجوه :

منها : الأصل والاستصحاب.

وفيه الخروج عنهما بما مرّ من الدليل ، مع أنّ في جريان الأصل مطلقا ، تأمّل.

ومنها : فحوى ما دلّ على اشتراط المروّة التي لا إثم فيها.

وفيه منع الأولوية ، لعدم العلم بالعلّة.

ومنها : أنّ فعل المعصية خروج عن طاعة الله سبحانه ، وهو فسق ، كما في مجمع البيان (١) وكنز العرفان (٢) والقاموس (٣) ، والفاسق يضادّ العادل ، للاتفاق على عدم صدقه على من صدق عليه العادل.

وفيه منع كون الفسق مطلق الخروج عن الطاعة ، واحتمال إرادة من ذكر [ ه ] الخروج المطلق ، لا مطلق الخروج ، بل لعلّه الظاهر ، لظهور العبارة المطلقة في الاستمرار ، كما أشرنا إليه في نحو الستر والاجتناب ، مع أنّ التعويل في المقام على ظاهر كلام من ذكر ، مع معارضته بتخصيص غيره الفسق بفعل معصية مخصوصة

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٣١.

(٢) كنز العرفان ٢ : ٣٨٤.

(٣) القاموس المحيط ٣ : ٣٩٩.


كظاهر السيوري والشهيد الثاني غير مقبول ، سيما بملاحظة مصير المعظم إلى عدم كون الصغيرة قادحة ، مع كونها منافية عندهم للفسق ، خصوصا بملاحظة تبادر الغير وصحّة سلب الفاسق عن المطيع الصالح الصادر عنه صغيرة في عرض سنة.

ومنها : أنّ فعل الصغيرة تعدّ عما حدّه الله تعالى ، والمتعدّي عنها ظالم ، والظالم غير مقبول الشهادة ، فهو غير عادل.

أمّا الأوّل ، فظاهر.

وأمّا الثاني ، فلقوله تعالى ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (١).

وأمّا الثالث ، فلقوله تعالى ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (٢) ، والركون مطلق الاعتماد.

وأمّا الرابع ، فللاتفاق عليه.

وفيه منع كون كلّ متعدّ ظالما ، والآية تدلّ على صدق الظالم بالتعدّي عن جميع حدود الله سبحانه ، فهو بالمفهوم دلّ على خلاف المدّعى ، ومنع صدق الركون على مجرّد قبول الشهادة ما لم يتضمّن الميل والرضا بالفعل الغير المرضي ، كما نصّ به بعض اللغويين.

ومنها : أنّ المقصود من جعل العدالة شرطا ليس إلّا حصول الاطمئنان ، وهو لا يحصل مع ظهور المعصية.

وفيه منع اطّراد القضيتين.

ومنها : مفهوم ما روي في عرض المجالس : « من لم تره بعينك يرتكب ذنبا ، ولم يشهد عليه بذلك شاهدان ، فهو من أهل العدالة والستر ، وشهادته مقبولة ، وإن كان

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٢٩.

(٢) هود (١١) : ١١٣.


في نفسه مذنبا » (١).

وفيه ضعفه سندا ، مع خلوّه عن الجابر ، سيما مع تضمّنه لما ليس له قائل ، ودلالة ، لأنّها بالمفهوم وهو نكرة مثبتة غايتها الإطلاق ، وهو في المقام غير مفيد للعموم ، لظهوره في بيان حكم آخر ، وهو عدم العلم بالذنب ، فتأمّل.

ومع التسليم فهو أعمّ مطلقا من الصحيح المتقدّم ، فيخصّص به.

تتميمات :

الأوّل : اختلفوا في تفسير الكبائر تحديدا وتعديدا على مذاهب شتّى ، أكثرها خال عن الدليل. والمشهور بين أصحابنا : أنّها ما توعّد عليه بالخصوص.

والنصوص الواردة في المقام بين قسمين :

أحدهما : المفسّر بها بالوصف ، وهو ما أوعد الله سبحانه عليه بالنار ، كصحيح ابن أبي يعفور (٢) الآتي ، وفيه : « يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عزوجل عليها بالنار ، من شرب الخمر والزنا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك ».

ورواية الحلبي (٣) في قوله تعالى ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) الآية.

قال : « الكبائر التي أوجب الله عليها النار ».

وصحيح أبي بصير (٤) في بيان من يؤتي الحكمة ، قال : « معرفة الإمام عليه‌السلام واجتناب الكبائر التي أوعد الله سبحانه عليها النار ».

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ : ٢ ، الباب ٣٩ ، الحديث ٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٩١ ، الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الرواية ٣٤٠٣٢.

(٣) نفس المصدر ١٥ : ٣٢٦ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٦٤٨ ( الرواية عن عليّ بن جعفر ).

(٤) نفس المصدر ١٥ : ٣١٥ ، الباب ٤٥ ، الرواية ٢٠٦١٩.


وصحيح السرّاد (١) عن الكبائر كم هي وما هي؟ فكتب : « الكبائر ما أوعد الله عزوجل عليها النار ، وكفّر عنه سيّئاته إذا كان مؤمنا ، والسبع الموجبات : قتل النفس الحرام ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا ، والتعرّب بعد الهجرة ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ».

وصحيح محمّد (٢) : « الكبائر سبع : قتل المؤمن متعمّدا ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وأكل الربا بعد البيّنة ، وكلّما أوجب الله سبحانه عليه بالنار ».

ورواية عباد (٣) عن الكبائر قال : « كلّما أوعد الله تعالى عليه بالنار ».

وثانيهما : ما اشتمل على عدّها من غير تحديد بوصف ، كصحيح عبيد (٤) : وفيه أنّها الكفر والقتل والعقوق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف والتعرّب.

وموثق أبي بصير (٥) ورواية عبد الرحمن (٦) ، على اختلاف يسير في بعض المعدودات. ونحوها رواية مسعدة (٧) ، إلّا بزيادة القنوط من رحمة الله تعالى والأمن من مكر الله. وفيما رواه الصدوق في العيون (٨) عن الفضل بن شاذان ، فيما كتب به مولانا الرضا عليه‌السلام للمأمون في عدّ الكبائر ما يزيد عن ذلك إلى ما بلغ ثلاث وثلاثين

__________________

(١) نفس المصدر ١٥ : ٣١٨ ، الباب ٤٦ ، الرواية ٢٠٦٢٨.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٣١٥ ، الباب ٤٥ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٦٢٠.

(٣) نفس المصدر : الرواية ٢٠٦١٩.

(٤) نفس المصدر : الرواية ٢٠٦٢٨.

(٥) نفس المصدر : الرواية ٢٠٦٥٤.

(٦) نفس المصدر.

(٧) نفس المصدر : الرواية ٢٠٦٤٠.

(٨) نفس المصدر : الرواية ٢٠٦٦٣.


آخرها الإصرار على الصغائر ، وخبر عبد العظيم (١) المشتمل على ما تجاوز العشرين ، ونحوهما.

ويمكن الجمع بين القسم الأوّل والأوّل من الثاني ، بحمل الأخير على إرادة أعظم الكبائر ، بشهادة الأخبار الأخيرة المعتضدة بصحيحي السرّاد ومحمّد المتقدّمين المصرّحين للسبع بالخصوص ، بعد ذكر تعريف الكبيرة أو قبله ، بما أوعد الله سبحانه عليه النار ، وصحيح عبيد المصرّح بأنّ هذا السبع أكبر المعاصي ، نظرا إلى ظهوره في الأكبرية الإضافية.

ويدلّ على ذلك صريحا رواية أبي الصامت (٢) : « أكبر الكبائر سبع : الشرك بالله العظيم ، وقتل النفس التي حرّم الله عزوجل إلّا بالحقّ ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين ، وقذف المحصنات ، والفرار من الزحف ، وإنكار ما أنزل الله تعالى ».

ويخصّص (٣) عموم النفي المستفاد من الحصر في تلك الأخبار بالأخبار المفسّرة بما أوعد الله ، وبإيعاده لها بأزيد من ذلك ، وبهذا يرتفع التعارض ، ويكون المناط في الكبيرة ما عليه المعظم ، من كونه ما أوعد الله عزوجل عليه.

نعم ، يبقى الإشكال فيما هو المراد من هذه العبارة ، وفي شموله لجميع ما ذكر في رواية العيون وغيرها من الذنوب. وكلماتهم مختلفة في بيان كيفية هذا الإيعاد.

ففي النهاية (٤) والقواعد (٥) والإرشاد (٦) والمسالك (٧) : إنّها ما أوعد الله عليها بالنار.

__________________

(١) نفس المصدر : الرواية ٢٠٦٢٩.

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٣٦ ، الباب ٢ من أبواب الأنفال ، الرواية ١٢٦٦١.

(٣) في « م » : أو بتخصيص.

(٤) نهاية الإحكام : ٣٢٥.

(٥) قواعد الأحكام ١ : ٢٢٤.

(٦) إرشاد الأذهان ٢ : ١٥٦.

(٧) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.


وفي التنقيح (١) ـ نفلا عن الأكثر ـ إنّه ما يوعد عليه بعينه وبخصوصه. وفي الدروس (٢) : كل ذنب يوعد عليه بخصوصه العقاب. وفي قواعد الشهيد (٣) ؛ كلّما توعّد الشرع عليه بخصوصه. وقريب منه ما في الروضة (٤).

وفي الكفاية : إنّها كلّ ذنب أوعد الله عزوجل عليه بالعقاب في الكتاب العزيز ، ونسبه إلى المعروف بين أصحابنا ، قائلا بعدم وجدان اختيار قول آخر في كلامهم.

وعن بعض المحقّقين أنّ ما ذكره في الكفاية هو مراد الكلّ.

وظاهر تلك الكلمات يشير إلى الاختلاف في اشتراط كون الإيعاد منه ـ سبحانه ـ أو بما يعمّ إيعاد الحجج.

وعلى الأوّل ، هل يعتبر إيعاده بما في كتابه العزيز خاصة ، أو بما يعمّ كلامه مطلقا ، أو به وبإخبار الحجج عليهم‌السلام ـ عنه سبحانه وتعالى ـ بأنّ الله أوعد كذا؟

وعلى الأوّل ، هل يعتبر إيعاده فيه ـ سبحانه ـ بالخصوص ، أو بما يعمّ العموم مثل قوله تعالى ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ) (٥).

وعلى التقادير ، هل يعتبر الإيعاد بالنار أو بمطلق العقاب أو مطلقا؟

والتحقيق : أنّ ما في الأخبار المفسّرة بالإيعاد هو ما أوعد الله سبحانه عليه النار ، فهو المناط في ذلك. اللازم بيان ما يصدق عليه تلك العبارة.

فنقول : الظاهر منها الإيعاد بالخصوص ، كما هو المتبادر المتفاهم للأصحاب فلا

__________________

(١) التنقيح الرائع ٤ : ٢١٩.

(٢) الدروس الشرعية ٢ : ١٢٤.

(٣) القواعد والفوائد ١ : ٢٢٤.

(٤) الروضة البهية ٣ : ١٢٩.

(٥) الجنّ (٧٢) : ٢٣.


يشمل ما أوعد عليه عموما ، كيف وجميع المعاصي من الكبائر والصغائر داخل في عموم قوله تعالى ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ). وكذا الظاهر أنّ الإيعاد بالنار يعمّ الإيعاد بها صريحا أو التزاما وضمنا ، فيشمل ما دلّ عليه بالالتزام ، كما جعل الله سبحانه وتعالى العاق ( جَبّاراً شَقِيًّا ) (١) وأوعد الشقيّ بالنار في قوله عزوجل ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) (٢). أو بالظهور الإطلاقيّ ، كالعذاب والعقاب ونحوهما.

بل لا يبعد جعل أكثر إيعادات الكتاب في الآخرة من هذا الباب ، كاللعنة وسوء الدار والخسران وبئس المصير ونحوها ، إذ الغالب على ما يستفاد من مطاوي الأخبار كون الجزاء بالسوء في الآخرة بالنار ، فينصرف إليه الإطلاق.

ويشهد به الاستشهاد في رواية عبد العظيم إيعاده للكبائر التي هي بالنار في حدّ الكبائر على ما في مستفيضة الأخبار بالآيات الدالّة على مطلق الذمّ عليها.

نعم ، مثل قوله تعالى ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (٣) غير ظاهر في الإيعاد.

وأما كون الموعد هو الله تعالى ، فالظاهر أنّه لا يصدق هذا على إيعاد.

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام ولو بالإخبار عن الله عزوجل ، أو في السنّة المتواترة ـ كما عن بعضهم ـ أو مطلق الحديث الصحيح ، كما عن آخر. إذ المتبادر من تخصيص ذلك به سبحانه ، مع أنّ جميع الشرائع صدرت منه ، كون الإيعاد بالنار مذكورا في كلامه ، بل في كتابه فارقا بذلك بين الكبائر والصغائر ، كيف والصغيرة كثيرا ما يوعد بالنار في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام ، بل هو لازم العصيان ، غاية الأمر كونها

__________________

(١) مريم (١٩) : ٣٢.

(٢) هود (١١) : ١٠٦.

(٣) الزلزال (٩٩) : ٨.


مكفّرة بترك الكبائر.

ومن هذا صار المعظم إلى ذلك ، وفي الكفاية (١) ظهور الاتّفاق عليه ، وعرفت من بعضهم إرجاع الكلّ إليه.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من كون الإيعاد بالنار يلزم أن يكون على الوجه الذي بيّناه من التصريح به في الكتاب أو التعريض ، إنّما هو على التعويل على متفاهمنا منه ، وإلّا فإذا استنبطه الإمام عليه‌السلام منه على وجه لا نعلمه ظاهرا ودلّ عليه خبر معتبر فهو المتبع ، ويعمل به ، كشرب الخمر المعلّل في رواية عبد العظيم ، لكونه كبيرة بأنّ الله سبحانه نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان ، استنباطا له من مقارنته لها في النهي موافقته لها في العقوبة ، وحيث إنّها النار في الشرك في موضع آخر من الكتاب ، فكانت له أيضا.

بل لو دلّ حديث معتبر على أنّ الذنب الفلاني كبيرة ، من غير ذكر علّة ، ولم نجد مصرّحا عليه بالإيعاد بالتدبّر في الكتاب ، لزم اتّباعه تعويلا على ثبوت الوعيد بها فيه على وجه لا نعلم ، للتوفيق بينه وبين الأخبار المتقدمة المعرّفة للكبائر بالتوعيد بالنار في الكتاب ، أو تخصيصا به بعموم مفهوم حصر تلك الأخبار النافي للكبيرة عن غير ما أوعد الله تعالى.

وعلى هذه الجملة ، فالصواب جعل المتّبع في معرفة الكبائر ما عدّ في حديث الفضل الذي أشرنا إليه ، المرويّ في عيون الأخبار بأسانيد متعدّدة ، فيما كتب به مولانا الرضا عليه‌السلام : أنّ الكبائر هي : قتل النفس التي حرّم الله تعالى ، والزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به من غير ضرورة ، وأكل الربا بعد

__________________

(١) كفاية الأحكام : ٢٧٨.


البيّنة والسحت ، والميسر وهو القمار ، والبخس في المكيال والميزان ، وقذف المحصنات ، واللواط ، وشهادة الزور ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، ومعونة الظالمين ، والركون إليهم ، واليمين الغموس (١) ، وحبس الحقوق من غير عسر ، والكذب ، والكبر ، والإسراف ، والتبذير ، والخيانة ، والاستخفاف بالحجّ ، والمحاربة لأولياء الله سبحانه ، والاشتغال بالملاهي ، والإصرار على الذنوب (٢).

وفي بعض النسخ (٣) : والإصرار على الصغائر من الذنوب ، فإنّ هذه الرواية أكثر جمعا من غيرها ، فيخصّص بها عموم النفي المفهوم من الحصر في غيرها ، أو يبنى على كون الجميع مما أوعد عليه بالنار في القرآن ، وإن لم نعلمه. وفي رواية أبي خديجة (٤) المعلّلة للكبائر بذكر آيات التوعيد لها ، بعض ما ليس في تلك الرواية ، وهو السحر ، معلّلا بقوله تعالى ( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) (٥) وترك الصلاة متعمّدا ، أو شيئا مما فرض الله سبحانه ، وكتمان الشهادة.

وفي مرسلة الفقيه (٦) : إنّ الحيف في الوصية من الكبائر.

فيعتدّ (٧) بذلك كلّه.

الثاني : قد علمت من خبر الفضل أنّ من الكبائر الإصرار على الصغائر.

ويدلّ

__________________

(١) اليمين الغموس ( بفتح الغين ) ، أي الكاذبة التي يتعمّدها صاحبها.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٢٩ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٦٦٠.

(٣) نفس المصدر ١٥ : ٣٢٤ ، الرواية ٢٠٦٤٠.

(٤) نفس المصدر ١٥ : ٣١٨ ، الرواية ٢٠٦٢٩.

(٥) البقرة (٢) : ١٠٢.

(٦) نفس المصدر ١٥ : ٣٢٧ ، الرواية ٢٠٦٥٠.

(٧) فيعتمد ( خ ).


عليه ـ أيضا ـ ما في رواية الحسين (١) : لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار.

وصرح به كثير من أعيان الطائفة ، بل قال مولانا الأردبيلي (٢) : لا خلاف فيه. وبه يجبر قصور سند الخبرين.

واختلفوا في حدّ الإصرار ، فعن بعضهم : أنّه المداومة على نوع واحد.

وعن الذخيرة (٣) والبحار (٤) والرياض (٥) : أنّه المناسب للمعنى المفهوم من الإصرار.

وعن آخر : أنّه الإكثار من جنس الصغائر بلا توبة ، سواء كان من نوع واحد أو أنواع مختلفة ، وبه صرّح في المسالك (٦) والروضة (٧) وكشف الرموز (٨) ، قائلين بتحقق الإصرار به.

وفي الكفاية (٩) والروض (١٠) ، وعن الذخيرة (١١) والبحار (١٢) ، وكونه قادحا في العدالة ، بل في المحكيّ عن الأوّل ، الإجماع عليه.

وعن الثاني : عدم الخلاف فيه.

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٨ : ٣٠ ؛ أصول الكافي ٢ : ٢٨٨ ، كتاب الإيمان والكفر ،

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٣٥١ ، كتاب القضاء ، الشروط العامة للشاهد.

(٣) ذخيرة المعاد : ٣٠٤.

(٤) بحار الأنوار ٨٨ : ٣٠.

(٥) رياض المسائل ٢ : ٣٩٠.

(٦) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

(٧) الروضة البهية ٣ : ١٣٠.

(٨) كشف الرموز ٣ : ٥١٧.

(٩) كفاية الأحكام : ٢٧٩.

(١٠) روض الجنان : ٢٨٩.

(١١) ذخيرة المعاد : ٣٠٤.

(١٢) بحار الأنوار ٨٥ : ٢٥.


وكلام هؤلاء لا يدلّ على كونه داخلا في معنى الإصرار ، بل في التحرير (١) : ما يدلّ على التغاير واشتراكهما في القدح ، حيث قال : وعن الإصرار على الصغائر والإكثار منها.

وعن ثالث : حصوله بالعزم على فعل الصغيرة بعد الفراغ. صرّح بتحقّق الإصرار به المحقق الأردبيلي (٢) ؛ حاكيا إياه عن الأكثر. وصرّح بدخوله فيه في المسالك (٣) والروضة (٤) والكشف (٥) ، وقواه في البحار (٦).

وعن رابع : تحقّق الإصرار بالثلاثة ، ذهب إليه الشهيد في قواعده (٧) ، جاعلا للأوّلين إصرارا فعليا ، والأخير حكميا.

وعن خامس : أنّ المراد بالإصرار عدم التوبة ، نقله في الذخيرة (٨) وغيره عن بعضهم.

للأوّل ، تصريح أهل اللغة. قال في الصحاح : صررت على الشي‌ء : أي أقمت ودمت عليه ، نحوه ما في النهاية الأثيرية (٩) والقاموس.

وللثاني صدق الإصرار عليه عرفا ، بل صدق المداومة على الإكثار.

__________________

(١) تحرير الأحكام : ٢٠٨.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٣٥١.

(٣) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

(٤) الروضة البهية ٣ : ١٣٠.

(٥) كشف الرموز ٣ : ٥١٧.

(٦) بحار الأنوار ٨٨ : ٢٩.

(٧) القواعد والفوائد ١ : ٢٢٧.

(٨) ذخيرة المعاد : ٣٠٤.

(٩) النهاية لابن الأثير ٢ : ٢٢.


وللثالث تبادره من الإصرار. وفي البحار : ويقال في العرف : فلان مصرّ على هذا الأمر ، إذا كان عازما على العود إليه ، مضافا إلى فحوى خبر الجابر الآتي.

وللرابع ما للثلاثة.

وللخامس رواية جابر عن الباقر عليه‌السلام في قول الله عزوجل ( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا ) (١) قال : « الإصرار أن يذنب ولا يستغفر ولا يحدث نفسه بالتوبة » (٢) ، مضافا إلى أنّ ترك التوبة معصية أيضا ، فيتحقق به الإصرار بعد المعصية.

أقول : وللنظر في الكلّ مجال :

أمّا الأوّل : فلمنع انحصار الإصرار به ، ومنع لزوم كون متعلّق الإصرار نوعا واحدا ، حيث لا يساعده عرف ولا لغة ، بل مقتضى كون المتعلق جنسا ، أي مطلق الصغيرة حصول الإصرار على الجنس بأفراده ، ولو من أنواع مختلفة.

وأمّا الثاني : فلمنع صدق الإصرار على مطلق ما يصدق عليه الإكثار ، ولذا جعله في التحرير (٣) مغايرا للإصرار.

نعم ، إن أريد من الإكثار حدّا كاملا من الكثرة ، كما لعلّه الظاهر من ظاهر لفظ الإكثار من الذنوب. وجعل تحديده في الذخيرة (٤) والكفاية (٥) والبحار (٦) والرياض (٧) ،

__________________

(١) آل عمران (٣) : ١٣٥.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٣٩ ، الباب ٤٨ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٦٨٢ ؛ بحار الأنوار ٦ : ٣٢ ، الباب ٢٠ ، الرواية ٤٠.

(٣) تحرير الأحكام : ٢٠٨.

(٤) ذخيرة المعاد : ٣٠٤.

(٥) كفاية الأحكام : ٢٨٠.

(٦) بحار الأنوار ٨٨ : ٣٠.

(٧) رياض المسائل ٩ : ٤٤٧.


فيما لم يكن من نوع واحد ، بكون ارتكابه للذنب أغلب من اجتنابه عنه من غير توبة ، لم يكن بعيدا.

وأمّا الثالث : فلأنّ صدق الإصرار عليه عرفا غير معلوم ، كما يظهر التأمّل فيه من الذخيرة والرياض والمستند ، ولو قلنا بقدحه في العدالة ، فليس من جهة صدق الإصرار. ومنه يظهر ما في الرابع.

وأمّا الخامس : فلما في الحجة الأولى من مخالفة الرواية للشهرة العظيمة وندرة القول به ، بل قيل بعدم معلومية القائل به ، فيسقط به عن الحجيّة ، ومع ذلك مخالف للعرف والعادة ، بل في الحديث المشهور (١) : « لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار » إيماء بأنّ الإصرار لا يحصل بعدم الاستغفار ، وبقرينة المقابلة ، فلعلّ الخبر في تفسير الآية والإشارة باللّام إلى خصوص الإصرار المذكور فيها.

وفي الثانية ، فإن ترك التوبة بنفسه معصية أخرى ، لا دخل له بفعل الصغيرة ، وصيرورتها كبيرة. مع أنّ الظاهر المتبادر من الإصرار على الذنوب أو الصغائر المذكور في الرواية تكرّر فعلها وتجدّده ، فلا يصدق على الاستمرار على ترك التوبة عن ذنب ، لعدم صدق تعدّد الترك على الترك المستمرّ ، كما لا تعدّ ترك إزالة النجاسة عن المسجد في كلّ آن ذنبا على حدّة ، فكان استمراره في نصف يوم مثلا كبيرة باعتبار كونه إصرارا.

وبالجملة : الظاهر اعتبار تعدّد متعلّق ترك التوبة من الذنوب المتعدّدة في صدق التعدّد والتكرّر على الترك ، لا مجرّد الاستمرار على ترك واحد ، وهذا هو المستفاد من كلمات القوم.

نعم ، لا يبعد القول به في الأفعال الوجودية ، كلبس الرجل الحرير المحض طول

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٨ : ٣٠.


النهار ، وإدامة النظر على أجنبية في ساعة أو أكثر ، وإن كان فيه تأمّل أيضا ، لاحتمال عدّه في العرف فعلا واحدا ، إلّا إذا انقطع ثم فعل ثانيا ، ولذا لو ورد أن عقاب لبس الحرير كذا ، أو النظر إلى الأجنبية كذا ، فالظاهر عدم تعدّد الجزاء بفعل أحدهما ممتدا في زمان ، فلا يجعل فعله في كل آن معصية مستقلة ، بخلاف ما إذا انقطع وتجدّد.

واختلاف الأمر الشرعي بأمثال تلك الاعتبارات غير مستبعد ، كما في غسل الثوب مرّتين ، فإنّه لا يعدّ امتداد وقوعه في الماء بقدر المرّتين غسلتان ، ولا يحصل به التطهير فيما يشترط فيه التعدّد.

وكيف كان ، فلا يحصل الإصرار بامتداد فعل صغيرة واحدة ، فلا يصير لأجل الإصرار كبيرة.

نعم ، لا يبعد كونه ـ حينئذ ـ قادحا للعدالة وصيرورتها كبيرة ، إذا كان البقاء عليه ناشئا عن عدم المبالاة ، واستصغار الذنب ، والعزم على بقائه ، كما عسى أن يظهر دعوى الاتفاق من بعض الكلمات.

وفي الذخيرة (١) والرياض (٢) ، بعد منع كون العزم على العود إلى فعل الصغيرة إصرارا ، قالا : ففي كونه قادحا تأمّل ، إن لم يكن اتفاقيا.

وقال بعض الأجلّة : ويستفاد من جماعة حصول القدح ببعض ما لا يصدق عليه الإصرار حقيقة ، ويستفاد من بعضهم دعوى الإجماع عليه ، انتهى.

والتحقيق : أنّ مناط معرفة معنى الإصرار العرف واللغة ، والظاهر منهما أنّ مطلق الإكثار غير كاف في صدقه ، فلا يكتفي بمجرّد فعلها مرات عديدة كثلاثة ، بل

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٣٠٤.

(٢) رياض المسائل ٩ : ٤٤٧.


يشترط فيه الملازمة والمداومة العرفية في الإكثار ، بل الظاهر اعتبار بقاء الحالة الباعثة على الملازمة له في النفس أيضا ، أي النيّة الحكمية الكائنة فيها ، وإن لم نقل باشتراط العزم الفعليّ على العود إليه ، فلا يصدق ظاهرا مع العزم على الترك ، وإن لم يكن توبة شرعية ، كما إذا كان لمصلحة دنيوية.

وكذا الظاهر عدم اشتراط كون الإصرار على نوع واحد على ما أشرنا إليه من صدق الإصرار على الصغار أو الصغيرة على المداومة على جنسها ، ومراعاة الاحتياط في مطلق الإكثار ، بل في المرّة مع العزم على العود أولى ، بل جعل الشهيد في قواعده (١) الثاني إصرارا ، وإن كان فيه تأمّل.

البحث الثالث : اختلفوا في توقّف العدالة الشرعية على المروة على قولين.

ومرادهم من التوقف عليها ، يحتمل كونه على وجه الجزئية ودخولها في الماهيّة ، كالمعاصي ، أو على الشرطية ، لا بمعنى كونها شرطا لمشروط العدالة ، فكانت شرطا آخر لقبول الشهادة في قبال العدالة ، كما ربما يحكى عن بعضهم ، بل شرطا لمقبولية العدالة ، وترتّب الأثر عليها في مشروط العدالة. وجعلهم الفسق في مقابل العدالة ، واتفاقهم على عدم كون التخلّف عن المروّة فسقا يوافق الثاني.

وعلى الجملة ، فالقول الأوّل للشيخ في المبسوط (٢) ، والحلّي (٣) والفاضل (٤) في كتبه

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ٢٢٧.

(٢) المبسوط ٨ : ٢١٧.

(٣) السرائر ٢ : ١١٧.

(٤) مختلف الشيعة ٧ : ٧١.


في الفروع والأصول ، والشهيد الأوّل (١) ، والمحقّق الثاني (٢) ، وصاحب المعالم (٣) ، وعن البحار (٤) والرياض (٥) : أنّه المشهور.

بل عن الكشف (٦) أنّه المشهور بين الفريقين ، وعن الذخيرة (٧) والمدارك (٨) نسبته إلى المتأخرين ، مشعرة باتفاقهم عليه ، وعن كنز العرفان (٩) إلى الفقهاء.

والقول الثاني للمحكيّ عن المفيد (١٠) ، والشيخ في العدّة (١١) ، والروض (١٢) ، والمحقّق الأردبيلي (١٣) ، والذخيرة (١٤) ، والمدارك (١٥) ، والبحار (١٦) ، والرياض (١٧).

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ٢٢٧.

(٢) جامع المقاصد ٢ : ٣٧٢.

(٣) معالم الأصول : ٢٠٤.

(٤) بحار الأنوار ٨٥ : ٣٠.

(٥) رياض المسائل ٢ : ٤٩٢.

(٦) كشف اللثام ٢ : ٣٧٤.

(٧) ذخيرة المعاد : ٣٠٥.

(٨) مدارك الأحكام ٤ : ٦٨.

(٩) كنز العرفان ٢ : ٣٨٤.

(١٠) المقنعة : ٧٢٥.

(١١) العدّة : ٣٧٩.

(١٢) روض الجنان : ٣٦٣.

(١٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣١٢.

(١٤) نفس المصدر : ٣٠٤.

(١٥) مدارك الأحكام ٤ : ٦٨.

(١٦) بحار الأنوار ٨٥ : ٣٠.

(١٧) رياض المسائل ٢ : ٤٩٢.


وقوّاه والدي العلّامة (١) وبعض من عاصره ، بل قيل : يمكن استفادته من نهاية الشيخ (٢) والحلّي (٣) والقاضي (٤).

ثمّ المراد بالمروّة على ما هو المتحصّل من عباراتهم المختلفة المتقاربة في تفسيرها ، كونه مجتنبا عمّا لا يليق بأمثاله ، مما يؤذن بخسة النفس والدناءة ، من المباحات والصغار من المحرّمات التي لا يبلغ حدّ الإصرار المسقطة للعزّة من القلوب ، ومنه ما يستهزء ويستسخر به لأجله.

استدلّ الأوّلون بالأصل والشهرة وتوقف المقصود من اشتراط العدالة عليها ، إذ عدمها إمّا لخبل أو ضعف عقل أو لقلّة حياء ، وعدم الوثوق مع الأوّل ظاهر. ومع الثاني ، فلأنّ من لا حياء له يصنع ما يشاء ، كما في الخبر المرويّ (٥) عن الكاظم عليه‌السلام : « لا دين لمن لا مروّة له ، ولا مروّة لمن لا عقل له ».

ويضعف الأوّل بإطلاق ما مرّ من إطلاق الأخبار المفسّرة للعدالة بما ليس فيه إشعار بمدخلية المروة فيها ، لا شطرا ولا شرطا.

والثاني بعدم الحجّية ، سيما مع خلو الأخبار عنه ، مع وجود الداعي ، وقبح تأخير البيان الموجب لقوة الظن بعدم الاشتراط المنافي للظنّ الحاصل من الشهرة الذي هو مناط الحجّية عند القائل بها.

والثالث بمنع كلّية المقدّمة الأولى ، ومنع الثانية ، إذ المفروض وجود ما يقتضي

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٦٢٩.

(٢) النهاية : ٣٢٥.

(٣) مختلف الشيعة ٧ : ٧١.

(٤) المهذب البارع ٢ : ٥٥٦.

(٥) بحار الأنوار ١ : ١٤١ ؛ و ٧٨ : ٣٠٣.


التكليف من العقل والورع عن المعصية المانع عن الكذب ، وإلّا فأصل العدالة كان منتفيا.

والرابع بضعفه سندا ودلالة ، لعدم العلم بما هو المراد من المروّة فيه ، بل قيل : إنّ استعمال المروّة بالمعنى الذي ذكره الأصحاب غير معروف في كلامهم ، وحينئذ فالأظهر حمله على بعض المعاني المرويّة عنهم في تفسيرها. انتهى.

قال والدي العلّامة (١) : ورد تفسيرها في الأخبار بغير هذا المعنى ، ففي مرسلة الفقيه (٢) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ المروّة استصلاح المال ».

وفي أخبار أخر (٣) : إنّها إصلاح المعيشة. وفي ثالث (٤) : إنّها ستّة ، ثلاثة في الحضر : تلاوة القرآن ، وعمارة المساجد ، واتّخاذ الإخوان ، ومثلها في السفر ، هي : بذل الزاد ، وحسن الخلق ، والمزاح في غير معاصي الله سبحانه.

وفي رابع (٥) : إنّها أن يضع الرجل خوانه بفناء داره ، إلى غير ذلك. وليس في شي‌ء من هذه المعاني المروية ما يوافق ما ذكره الأصحاب في معنى المروّة. انتهى.

نعم ، روي في الموثّق (٦) : « من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروّته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته » إلّا أنّ غايته الدلالة على توافق العدالة وكمال المروة في حصولهما باجتناب تلك المعاصي الثلاث.

فإن قلنا : بكونها جميعا من الكبائر ، فهي من تلك الجهة قادحة في العدالة ، وأين

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٦٢٩.

(٢) وسائل الشيعة ١١ : ٤٣٦ ، الباب ٤٩ من أبواب آداب السفر ، الرواية ١٥١٩٣.

(٣) روضة الكافي : ٢٤١ ، معنى الشرف والمروة والعقل ، الحديث ٣٣١.

(٤) وسائل الشيعة ١١ : ٣٢٠ ، الباب ٤٩ ، الرواية ١٥١٨٤.

(٥) نفس المصدر : الرواية ١٥١٩٦.

(٦) نفس المصدر ٨ : ١١٦ ، الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة ، الرواية ١٠٧٧٢.


هو من معنى المروّة الذي ذكره الأصحاب.

وإن لم نقل به فمقتضى مفهومه أنّ من لم يجمع الثلاثة لا يجمع الأربعة ومنها كمال المروّة ، وأين هو من اشتراطها في العدالة؟

واستدلّ الآخرون بوجوه :

منها : الأصل. قال في مجمع الفائدة (١) : دخول المروة في العدالة غير بيّن ؛ للأصل ، ولعدم ثبوتها معها ، لا شرعا ولا لغة.

ومنها : خلوّ الأخبار عن بيان توقّف العدالة على المروّة.

أشار اليه في مجمع الفائدة (٢) ، والمدارك (٣) ، والذخيرة (٤) ، والكفاية (٥) ، والرياض (٦).

ومنها : أن عدم قدح ارتكاب الصغائر في العدالة يستلزم عدم قدح ارتكاب خلاف المروّة فيها بطريق أولى.

أقول : حقّ المقام أنّ مراد القائلين بتوقّف العدالة على المروّة ، إن كان بحسب نفس الأمر ، فهو مجرّد دعوى لا دليل عليها ، وإطلاق الأدلّة حجّة عليها ، بل عدم الدليل مع توفر الدواعي وقبح ترك البيان في الأخبار المفسّرة مع تكثر الحاجة يؤمي إلى عدمه واقعا.

مضافا إلى الفحوى المشار إليها في الدليل الأخير ، في أقل ما يصدق عليه خلاف المروّة بالمعنى الذي ذكروه ، الذي يتعدّى عنه إلى غيره بعدم القول بالفصل.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣١٢.

(٢) نفس المصدر.

(٣) مدارك الأحكام ٤ : ٦٨.

(٤) ذخيرة المعاد : ٣٠٥.

(٥) كفاية الأحكام : ٢٧٩ ، كتاب الشهادات.

(٦) رياض المسائل ٩ : ٤٥٢.


وإن كان مرادهم كون المروّة متوقّفا عليها في طريق معرفة العدالة ، فعلى القول بحصول الكشف بحسن الظاهر أو عدم ظهور الفسق ، فعدم التوقف ظاهر ، وعلى القول بالاختبار الباطني العلمي عن الملكة ، فاطراد التوقف ـ أيضا ـ ظاهر العدم.

نعم ، يمكن التوقف في بعض الموارد باعتبار عدم حصول العلم بملكة الاجتناب عن المعاصي مع عدم المبالاة ، فلأنّ المروّة و [ عدم ] ارتكاب القبائح العرفية المنافية للحياء ممدوح في الشريعة ، كما أنّه يقدح خلافها على الأوّلين ـ أيضا ـ إذا بلغ حدّا يوجب ارتكاب ما هو مخالف للشرع أو ينبئ عن جنون ، أو يقدح في معرفة صفة الستر والعفّة.

وكيف كان ، فالتوقّف ليس كليا ، فلا يناط العدالة بها ، بل بعدم العلم بالفسق ، أو بما ينافي حسن الظاهر على الأوّلين ، وبما يزول معه العلم بالملكة على الأخير ، فإذن فالمعتمد عدم اشتراط المروّة في العدالة ، ومراعاة الاحتياط أولى.

تتميمات :

الأوّل : عدّوا من منافيات المروّة الموجبة لسقوطها أمورا كثيرة ، كالأكل في الطرقات ، ومدّ الرجلين في مجالس الناس ، كما عن المبسوط (١) والمدارك (٢).

ولبس الثياب المصنعات للنساء ، كما عن الأوّل.

والأكل في السوق ، كما عن الفاضل في القواعد (٣) وفخر الإسلام (٤) والشهيدين (٥)

__________________

(١) المبسوط ٨ : ٢٧.

(٢) مدارك الأحكام ٤ : ٦٨.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ٢٣٧.

(٤) إيضاح الفوائد ٤ : ٣٢١.

(٥) الدروس الشرعية ٢ : ١٢٥ ؛ الروضة البهية ٣ : ١٣٠.


والكركي (١) والأردبيلي (٢) والخراساني (٣) والمجلسي (٤) على اختلاف في التقييد له بالغالب ، أو في أكثر البلاد ، أو بغير سوقي أو بدوي ، إلّا إذا غلبه العطش.

والأكل في المجامع ، كما عن الروض (٥).

واللعب بالحمام ، كما في القواعد (٦).

ولبس الفقيه لباس الجندي أو بالعكس مطلقا ، أو بحيث يستسخر منه ، أو في البلاد التي لم تجر عادة الفقهاء لبس هذا النوع من الثياب ، كما في الدروس (٧) والمسالك (٨) والذخيرة (٩) والبحار (١٠).

ولبس التاجر لباس الحمالين ونحوهم ، بحيث يصير مضحكة ، كما في المسالك (١١).

وفي القواعد (١٢) : لبس الفقيه من القباء (١٣) والقلنسوة غالبا في غير محلّ العادة.

__________________

(١) جامع المقاصد ٢ : ٣٧٢.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣١٢.

(٣) ذخيرة المعاد : ٣٠٣.

(٤) بحار الأنوار ٨٥ : ٣٠.

(٥) روض الجنان : ٣٦٣.

(٦) قواعد الأحكام ١ : ٢٣٧.

(٧) الدروس الشرعية ٢ : ١٢٥.

(٨) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

(٩) ذخيرة المعاد : ٣٠٤.

(١٠) بحار الأنوار ٨٥ : ٣٠.

(١١) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

(١٢) قواعد الأحكام ١ : ٢٣٧.

(١٣) العباء ( خ ).


وكشف الرأس بين جمهور الناس ، أو عند من ليس كذلك ، كما في الإيضاح (١) والروض (٢) والمسالك (٣) والروضة (٤) ومجمع الفائدة (٥).

والسخرية أو كثرتها ، كما في الدروس (٦) والتنقيح (٧) والروضة (٨).

وكشف العورة التي يتأكّد استحباب سترها في الصلاة ، كما في الدروس (٩) والمفاتيح.

والبول في الشوارع وقت سلوك الناس ، كما في جامع المقاصد (١٠) والروض (١١) والذخيرة (١٢) والبحار (١٣) مطلقا ، أو فيمن يوجب انحطاط مرتبته عادة.

وكثرة الحكايات المضحكة ، كما في المسالك (١٤) والروضة (١٥) والذخيرة (١٦)

__________________

(١) إيضاح الفوائد : ٤٢١ / ٤.

(٢) روض الجنان : ٣٦٣.

(٣) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

(٤) الروضة البهية ٣ : ١٣٠.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣١٢.

(٦) الدروس الشرعية ٢ : ١٢٥.

(٧) التنقيح الرائع ٤ : ٣٢٩.

(٨) الروضة البهية ٣ : ١٣٠.

(٩) الدروس الشرعية : ١٩٠.

(١٠) جامع المقاصد ٢ : ٣٧٢.

(١١) روض الجنان : ٣٦٣.

(١٢) ذخيرة المعاد : ٣٠٤.

(١٣) بحار الأنوار ٨٥ : ٣٠.

(١٤) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

(١٥) الروضة البهية ٣ : ١٣٠.

(١٦) ذخيرة المعاد : ٣٠٤.


ومجمع الفائدة (١).

وتقبيل أمته وزوجته في المحاضر وبين الناس أو حكاية ما يجري بينه وبينها في الخلوة للناس ، كما في أكثر الكتب المذكورة.

والمضايقة في اليسير الذي لا يناسب حاله ، كما في الذخيرة (٢).

وأن يخرج من حسن العشرة مع الأهل والجيران والمعاملين ، كما في المسالك (٣) ومجمع الفائدة (٤) ، وفي الثاني مثل ذلك مع مخالطيه ومعامليه ، بأن يضايق معهم في الطعم القليل ، ويأكل وحده أطعمة طيّبة يطعمهم أقلّ ما يجزي شرعا وله مال كثير ولا يلتفت إلى الجيران بإطعام وماء ونار ويضايقهم في الأمور المشتركة ، ويضايق معامليه في الشي‌ء الدون الذي لا ينبغي المسامحة عن مثله من مثله. ونحو ذلك أن يفعل مالا يليق بأمثاله بالنسبة إلى الناس. انتهى.

وأن يبتذل الرجل المعزّ بنقل الماء والأطعمة إلى بيته ، إذا كان ذلك عن شحّ وظنّة ، ولو كان عن استكانة أو اقتداء بالسلف لم يقدح ذلك في المروّة ، كما في المسالك (٥) ومجمع الفائدة (٦).

ثم إنّ سقوط المروّة بأمثال ذلك على ما صرّح به جماعة ويشير إليه كلام جمع من هؤلاء الأجلّة يختلف باختلاف الناس ، وتفاوت مراتبهم وأزمنتهم وأمكنتهم ، وعادات البلاد والأعصار ، فقد يكون شي‌ء مطلوبا في وقت ، مرغوبا عنه في وقت

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣١٢.

(٢) ذخيرة المعاد : ٣٠٤.

(٣) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣١٢.

(٥) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣١٢.


آخر ، وكذا بالنسبة إلى شخص دون غيره وفي بلد دون غيره فالمناط هو استهجان الفعل في نظر أهل الشرف والديانة وذوي العقول الصافية.

نعم ، بعض ما ذكروه مما اتفقت عليه العادات في جميع الأحوال ، فيسقط به المروة مطلقا ، إلّا إذا كان لعذر ، كتقبيل الزوجة في المحاضر ، وحكاية الخلوة فيها ، ونحو ذلك.

ومما يختلف به الحال ، اختلاف القصد والنية ، كما سمعت في بعض ما ذكر ، مثل نقل الماء والأطعمة إلى بيته إذا كان ذلك عن شحّ دون الاستكانة والاقتداء بالسلف.

قال المقدّس الأردبيليّ بعد ذكر عدم منافات قصد الاستكانة فيه للمروة ، فذلك ليس من ترك المروّة في شي‌ء ، بل من الطاعات والقربات والامتياز بالقصد ، ويعرف ذلك من أفعال الناس وأعمالهم وأخلاقهم ، مثل أن يكون عادته أن يأكل ما يجد ويلبس كذلك ، ويفعل ما تيسّر ، ويجلس على الأرض والتراب ، ويأكل عليها من غير سفرة ، ويجلس جلسة العبيد ، ويأكل أكلهم ، كما نقل عن فعل النبيّ (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جواب من سأل عن ذلك : « ويحك من أولى منّي بالعبودية حتّى لا أفعل أنا فعل العبيد ، ولا أجلس جلستهم ، ولا آكل أكلهم » (٢) ، انتهى.

ومن هنا يظهر ما في تعليل المحدّث المجلسي لنفي اشتراط المروة مطلقا ، بظهور خلافه من الأخبار ، بقوله : ومن كان أشرف من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يركب الحمار العاري ، ويردف من خلفه ، ويأكل ماشيا إلى الصلاة ، كما روي (٣) ، انتهى.

فإنّ فعله المنزّه عن القبائح لا يقاس عليه فعل غيره ، مع إمكان الاختلاف في الحسن والقبح عن مثله مطلقا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ : ٣٧٢ ، الباب ٦٨ من أبواب آداب المائدة ، الرواية ٣٠٨١١.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣١٤.

(٣) بحار الأنوار ١٦ : ٢٨٥ ، الباب ٩ ، الحديث ١٣٦ ؛ و ٨٨ : ٣٠ ، الباب ٢ ، الحديث ١.


الثاني : قال في الروضة (١) ، والروض (٢) ، والذخيرة (٣) : لا يقدح في المروة فعل السنن وإن استهجنها الناس ، كالكحل والحناء والحنك في بعض البلاد ، وإنّما العبرة بغير الراجح شرعا.

أقول : هذا مع قصد الامتثال والقربة ، كما لعلّه ظاهر كلامهم لا شبهة فيه وأمّا إذا قصد بها غيره ، فالظاهر أنّه كذلك أيضا ، لوجوب اشتمالها للحسن الخالي عن القبح والمهانة قبل تعلّق الأمر وحصول القربة به.

واختلاف الحسن والقبح باختلاف النيّات في غير السنن ـ كما سمعت ـ لا يقاس به السنن ، لوجوب ثبوت الحسن فيها قبل النية ، بل قبل الأمر ، وإلّا لزم الدور.

نعم ، إذا كان معه نية زائدة قبيحة ظاهرة يستهجن معها ، كالرياء في الحنك مثلا ، أمكن القول بكونه معها خلاف المروّة.

الثالث : ترك جميع المستحبّات ما لم يبلغ حدّ التهاون ليس منافيا للمروّة من حيث ترك الاستحباب ، فلا يسقط بها العدالة عند مشترطها ، كما نصّ به جماعة ، بل عليه ظاهر الإجماع ، كما في الكفاية وغيره له (٤) ، ولإطلاق الأدلّة وفحوى ما دلّ على أنّ الصغيرة ليست قادحة وعموم أدلّة قبول الشهادة وإن بلغ حدّ التهاون ، فعن صريح الشرائع (٥) والتحرير (٦) والدروس (٧)

__________________

(١) الروضة البهية ٣ : ١٣٠.

(٢) روض الجنان : ٣٦٣.

(٣) ذخيرة المعاد : ٣٠٥.

(٤) في الأصل : الإجماع ، كالكف وغيره له.

(٥) شرائع الإسلام ٤ : ١٢٩.

(٦) تحرير الأحكام ٢ : ٢٠٨.

(٧) الدروس الشرعية ٢ : ١٢٥.


والروضة (١) والكشفين (٢) قدحه فيها ، بل عن المسالك (٣) قدح ترك صنف منها كالنوافل منها أيضا ، استنادا إلى كونه خلاف المروّة ، كما في الروضة (٤) ، بل ربما يحتمل كونه معصية ، لدلالته على قلة المبالاة بأمر الدين ، فيكون قادحا ، وفيه نظر. والأمر سهل ، إذ لا يتّفق عادة ترك جميع المستحبّات ، كما نبّه عليه بعضهم.

ومن هذا يظهر عدم قدح ترك خصوص الجماعة في العدالة أيضا ، إلّا إذا بلغ حدّ الاستهانة والاحتقار والاستخفاف.

وعن السبزواري والأردبيلي والمجلسي قدحه فيها للخبرين :

أحدهما : رواية ابن أبي يعفور (٥) عن الصادق عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا غيبة لمن صلّى في بيته ورغب عن جماعتنا ، ومن رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته ، وسقط عندهم عدالته ، ووجب هجرانه ، وإذا رفع إلى إمام المسلمين أنذره وحذره ، فإن حضر جماعة المسلمين ، وإلّا أحرق عليه بيته ، ومن لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته ، وثبتت عدالته ».

والآخر المرويّ في البحار (٦) عن الشهيد الثاني عن الباقر عليه‌السلام : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من سمع النداء فلم يجبه من غير علّة فلا صلاة له » (٧) ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين ، إلّا من علّة ، ولا

__________________

(١) الروضة البهية ٣ : ١٣٠.

(٢) كشف اللثام ٢ : ١٩ ؛ وكشف الغطاء ١ : ٢٦٦.

(٣) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

(٤) الروضة البهية ٣ : ١٣٠.

(٥) وسائل الشيعة ٨ : ٣١٩ ، الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة ، الرواية ١٠٧٧٨.

(٦) بحار الأنوار ٨٥ : ٥.

(٧) وسائل الشيعة ٨ : ٢٩١ ، الباب ١١ ، الرواية ١٠٦٩٤.


غيبة إلّا لمن صلّى في بيته ، ورغب من جماعتنا ومن رغب عن جماعة المسلمين سقطت عدالته ، ووجب هجرانه ، وإن رفع إلى إمام المسلمين أنذره (١) ، الحديث.

وهما مدفوعان : أوّلا بضعف السند ، مع عدم الجابر ، سيما مع ندرة القائل ، واشتمالها على ما لم يقل به أحد.

وثانيا بضعف الدلالة ، ضرورة أنّهما ليسا على ظاهرهما ، للإجماع على عدم كون ترك الجماعة فسقا ومجوّزا للغيبة وسببا يوجب الهجران ، مضافا إلى ما في الأوّل من التعذيب والحرق في جوف بيته المنافي للاستحباب ، وفي الثاني من نفي الصلاة عن من لم يجب النداء ولم يصلّ في المسجد مع المسلمين من غير علّة.

فلا بدّ من تنزيلهما ، إما على الاستهانة والإعراض والاحتقار ، كما أشار إليه الشهيد في الذكرى (٢) ، ويشعر به سياق الخبرين ، من قوله : « رغب عن جماعتنا وعن جماعة المسلمين » وظهور ذيلهما سيما الأوّل ـ في المداومة على الترك الناشئة غالبا عن الاستهانة والتبغّض ، أو تقييدهما بترك الجماعة الواجبة ، كالجمعة والعيدين. وحمل الأخير على مجرّد المداومة على الترك ، وحمل نفي الصلاة على نفي الكمال ، ووجوب الهجران والإنذار على مجرد المبالغة ، لا يخرجه عن الإجمال المنافي للاستدلال.

وثالثا بمعارضتهما لبعض ما تقدّم ، كموثق سماعة (٣) : « من عامل الناس فلم يظلمهم » ، الحديث ، بالعموم من وجه ، والترجيح للأخير بوجوه شتّى.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٣١٧ ، الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة ، الرواية ١٠٧٧٦.

(٢) ذكرى الشيعة ٤ : ٣٧٢.

(٣) وسائل الشيعة ٨ : ٣١٩ ، الباب ١١ ، الرواية ١٠٧٧٨.


البحث الرابع : يتوقّف العدالة الشرعية على صحّة المذهب ، فيشترط فيها الإسلام والإيمان ، كما صرّح به العلّامة (١) ، وصاحب المعالم في المنتقى (٢) ، ووالدي العلّامة (٣) وغيرهم ، وإن لم نقل بتوقّف معناها المعروف في علم الأخلاق ـ أعني تعديل القوى النفسانية ـ عليه ، مع أنّ فيه كلاما أيضا ، إذ من القوى القوّة العاقلة ، وتعديلها بحصول ملكة العلم الذي هو الاعتقاد المطابق. والدليل عليه من وجوه :

منها : الأصل ، فإنّ العدالة بهذا المعنى أمر توقيفيّ يقتصر فيه على موضع الاتفاق والنصّ ، والأوّل ظاهر الاختصاص بالمسلم والمؤمن ، وكذا الثاني ، لاختصاص الأخبار المتقدّمة ـ باعتبار تضمّنها لوجوب الأخوة وقبول الشهادة ـ بأهل البصيرة في الدين ، ويمكن إجراء الأصل في المشروط له أيضا.

ومنها : أنّ فعل الكبيرة قادح في العدالة ، وأيّ كبيرة أعظم من الكفر ، أو متابعة الإمام الجائر ، والردّ على المنصوب من قبل الله سبحانه ، مع تواتر الكتاب والسنة في خلود المتّصف بهما في النار ، بل يدلّ عليه خصوص ما في جملة من الأخبار من عدّ الشرك والكفر بالله سبحانه من الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار ، بل من أكبر الكبائر ، وما في روايتي أبي الصامت المروية في التهذيب (٤) ، وعبد الرحمن بن كثير المروية في الفقيه (٥) ، من عدّ إنكار حقوقهم ، من الكبائر السبع.

__________________

(١) مختلف الشيعة ٨ : ٤٩٨.

(٢) منتقى الجمان ١ : ٥ وأيضا في معالم الأصول : ٢٠٤.

(٣) مستند الشيعة ٢ : ٢٢٦.

(٤) التهذيب ٤ : ١٥٠ ، الباب ١ ، الرواية ٣٩.

(٥) الفقيه ٣ : ٥٦١ ، الباب ٢ ، الرواية ٤٩٣١ ؛ ورواه في الوسائل ١٥ : ٣٢٦ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٦٤٩.


وما يقال : إنّ كونه معصية كبيرة ، إنما هو على فرض التقصير في التحقيق وعدم حصول العلم ، وإلّا فلا يكلّف الله نفسا فوق معلومها ، مدفوع ، بأنّ قول الإمام عليه‌السلام بكونها على الإطلاق كبيرة أوعد الله سبحانه عليها النار ، واستفاضة الآيات والأخبار على عقوبة المتّصف بهما وخلوده في النار ، مع ضرورة العقل بعدمه عند عدم التقصير والعلم بالخلاف ، منبئ عن عدم تخلف البصيرة في الإيمان وحصول الاعتقاد الصحيح عن بذل المجهود في تحقيق الدين ، ولا ينبّئك مثل خبير ، سيما مع اعتضاد ذلك بمثل قوله تعالى ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (١) وسائر الاعتبارات العقلية والشواهد الذوقية ، فليس لتعرض عدم التقصير وحصول الجزم بالخلاف الخالي عن شبهة الترديد ، مع تذكر الخلاف مورد أصلا. وثانيا بما ذكره والدي العلّامة (٢) بأنّه لا يقول أحد بعدالة غير المؤمن أو الكافر الذي لم يعلم في حقّه بذل الجهد في تحقيق الدين ، بحيث لم يمكن فوق ذلك ، وحصول العلم لنا في حقّ المخالف أو الكافر أنّه باذل جهده وسعيه ، وحصل له العلم بحقّية دينه ، إمّا غير ممكن ، أو نادر جدّا.

ومنها : أنّ مقتضى كثير مما تقدّم من الأخبار ، سيما صحيح ابن أبي يعفور ، في قوله عليه‌السلام (٣) : « ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى ، عليها النار وكفّ الجوارح » الظاهر في الكفّ عن محرّمات دين الإسلام « وبتعاهد الصلوات الخمس وحفظ مواقيتها » اشتراط الإسلام ، لعدم شموله للكافر وقوله عليه‌السلام فيه : « وإذا سئل عنه في قبيلته ومحلّته قالوا ما رأينا منه إلّا خيرا » اشتراطه واشتراط الإيمان أيضا

__________________

(١) العنكبوت (٢٩) : ٦٩.

(٢) مستند الشيعة ٢ : ٦٢٦.

(٣) بحار الأنوار ٨٨ : ٣٧ ، الباب ٢ ، الحديث ١.


ضرورة أن ليس الكفر والردّ على الإمام ومتابعة الإمام الغاصب خيرا قطعا.

البحث الخامس : قالوا : لا يقدح الذنب إذا تاب عنه ، وهذا في قبول الشهادة لعلّه لا خلاف فيه ، بل عليه الإجماع عن غير واحد. ويدلّ عليه المعتبرة المستفيضة المصرحة بقبول شهادة القاذف والسارق والمحدود بعد التوبة. ويتمّ المطلوب بعدم القول بالفصل ، بل قال المولى الأردبيلي (١) بإمكان التعميم بتنقيح المناط.

وقد يستدلّ عليه بالصحيح المزبور ونحوه مطلقا ، حتّى في الساعة التي تاب فيها. وفيه تأمّل ، لما أشرنا إليه من توقّف صدق الاجتناب عن الكبائر والستر والعفاف ونحوها على الإطلاق على تمادي زمان واستمرار مدّة عليه.

وأمّا في حصول العدالة فصرّح به ـ أيضا ـ جماعة ، بل في مجمع الفائدة (٢) لا يبعد أن يكون إجماعيا. وفي إطلاقه على القول بكون العدالة ملكة راسخة إشكال ، لأنّ التائب إن كان مسبوقا بالملكة ، فإن لم يزل ملكته بالذنب لا يسقط عدالته ، إلّا بجعل عدم المفارقة للذنب شرطا زائدا ، كما أنّ الظاهر كونه إجماعيا ، وسنشير إليه. وإن لم يسبق بالملكة ، أو سبق وزالت بالتمادي في الذنب ، فلا يحكم بمجرّد التوبة بعود العدالة مطلقا ، إلّا بعد مزاولة الآثار وتكريرها إلى أن تمدّدت وعادت الملكة. وحيث إنّ ظاهر كلماتهم الاتفاق على عود العدالة بمجرّد التوبة ، فهذا حجّة أخرى على القائل بالملكة ، كما أشار إليه في مجمع الفائدة (٣) والمستند (٤). إلّا أن

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣٢١.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

(٤) مستند الشيعة ٢ : ٦٣٤.


يقال باختصاص الاتفاق المذكور بصورة سبق الملكة ، كما يشعر به قولهم في المقام بعود العدالة وقضاء العادة بعدم زوالها بمجرّد الذنب ، ولكن يتّجه عليه ظهور الإجماع على قبول الشهادة بعد التوبة مطلقا ، وتفكيكه عن أصل العدالة ينافي إطلاق كلماتهم. وأمّا على القول بحسن الظاهر ، فيصحّ القول به.

وتوقّف صدق الأوصاف المذكورة في الصحيحة على وجه الإطلاق ، كالاجتناب عن الكبائر والستر والعفاف على الاستمرار ، حسب ما ذكر وسنذكر ، فلا يصدق بمجرّد التوبة ، غير متّجه هنا ، إذ الظاهر صدقه عرفا ، مع العلم بالتوبة الصحيحة ، وحصول الهيئة الصالحة في النفس الباعثة على العزم على الاستمرار على تلك الأوصاف ، كما نبّه عليه المقدّس الأردبيلي ، ووالدي العلّامة وهذا هو الدليل على ثبوت العدالة بالتوبة ، على القول بحسن الظاهر ، المختار عندنا فيما سيأتي ، لكونه المعيار لها في الصحيحة.

ثمّ إنّه هل يكتفى في ثبوت التوبة بمجرّد إظهاره ، كقول المذنب : تبت ، أو أستغفر الله وأتوب إليه ، أم يشترط العلم بتحقّق شرائطها القلبية ، من الندامة عن المعاصي (١) والعزم على الآتي وغيرهما بظهور آثارها في الخارج في مدّة أمكن العلم بها والاجتناب عنها؟

الظاهر الثاني ، وحمل فعل المسلم على الصحة لا يكتفي به في مثل المقام ، وإلّا اكتفى في الشاهد بقوله : أنا عادل ، بل لم أجد مصرّحا به ، فإنّ السبب المتوقّف عليه العدالة هو التوبة ، وهي الندامة والعزم القلبيان ، فيجب العلم بهما ، دون قوله : تبت أو أستغفر الله.

المطلب الثاني : في بيان ما يكشف عن العدالة وكيفية البحث عن ثبوتها.

قد

__________________

(١) في « م » : عن الماضي.


علمت اختلافهم في حقيقة العدالة في أنّها الملكة أو نفس التقوى. وأشرنا إلى أنّه على الأوّل يشترط مقارنة الملكة لعدم التخلّف في العمل عن الاجتناب عن الكبيرة أيضا. ثم اختلفوا ثانيا فيما يكشف شرعا عن ثبوت هذا المعنى على أقوال ثلاثة :

أحدها : أنّه البحث عن الباطن والمعاشرة التامّة ، والصحبة المتأكّدة الموجبة لمعرفة الحقيقة ، حتّى أنّه على القول بالملكة يلزم الاختبار العلمي عنها المميّز بين الخلق والتخلّق ، والطبع والتكلّف ، أو ثبوتها بالشياع العلمي أو شهادة العدلين ، اختار ذلك أكثر المتأخّرين ، بل نسبه في المسالك (١) إلى المشهور.

وثانيها : الاكتفاء في ذلك بحسن الظاهر ؛ ذهب إليه جمع من المتأخرين ، وفي الذكرى (٢) عن بعض الأصحاب ، وحكي عن الشيخ (٣) أيضا. والمراد به كما عرفت ما هو في قبال الواقع ، فلا يلزم البحث عن الباطن ، كما على الأوّل ، بل يكتفي بمعرفة الظاهر المشهود للناس.

وثالثها : الاقتصار فيه على ظهور الإسلام ، وعدم ظهور الفسق ؛ حكي عن الإسكافي (٤) والمفيد في الإشراف (٥) والشيخ في الخلاف (٦) والمبسوط (٧) والاستبصار (٨).

والظاهر أنّ مراد هؤلاء أن ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق من الأمارات التعبّدية

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ : ١٦٥.

(٢) ذكرى الشيعة ٤ : ٣٧٢.

(٣) المقنعة : ٧٣٠.

(٤) مجموعة فتاوى ابن الجنيد : ٣٢٨.

(٥) المقنعة : ٧٢٦.

(٦) الخلاف ٦ : ٢١٧.

(٧) المبسوط ٨ : ٢١٧.

(٨) الاستبصار ٢ : ١٤ ، كتاب الشهادات ، الباب ٩ ، الحديث ٣.


التي جعلها الشارع دليلا للعدالة ، من قبيل اليد للملك ، لا من باب الأصل والاستصحاب ، كما اشتبه الأمر على بعضهم من نسبة أصالة العدالة إلى الشيخ في الخلاف (١) ، لأنّ الكلام فيما يقتضيه الأصل من العدالة أو الفسق بحث آخر ، ومقتضى النظر فيه كونهما على خلافه ، لتوقّف كلّ منهما على صفة وجودية.

وكيف كان ، فالأوسط القول الوسط ، لا لما استدلّ عليه من النصوص الدالّة على ثبوت العدالة بوجود الأوصاف العملية ككونه خيرا ومعلوما بخير وعفيفا أو عدم الخلف عن الوعد وعدم الكذب ، أو عدم الظلم في المعاملة ، كما في الموثّق المصرّح بأنّ من له تلك الأوصاف الثلاثة كان ممّن حرمت غيبته وظهر عدله ووجبت أخوّته ، لأنها ظاهرة في الأوصاف والأعمال النفس الأمرية ، وإن كانت من أعمال الجوارح ، فيجب العلم بها ، ولا يحصل العلم إلّا باختبارها الواقعيّ ، مضافا إلى عدم انحصار الوصف المعتبر في العدالة بما وصف في أكثرها إجماعا ، وعدم دلالة الموثّق على توقّف العدالة خاصّة عليها ، بل هي مع وجوب الأخوة ، بل للمعتبرة المصرّحة بالاكتفاء في ثبوت العدالة بمأمونية الظاهر ، كمرسلة يونس (٢) : « خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحال : الولايات ، والمناكح ، والمواريث ، والذبائح ، والشهادات ، فإذا كان ظاهره مأمونا جازت شهادته ، ولا يسأل عن باطنه » أو بالمعروفية بالصلاح في نفسه ، كصحيحة ابن المغيرة (٣) : « كلّ من ولد على الفطرة وعرف بصلاح في نفسه جازت شهادته » أو بالمعروفية بالستر

__________________

(١) الخلاف ٦ : ٢١٨.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٨٩ ، الباب ٢٢ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الرواية ٣٣٧٧٦.

(٣) نفس المصدر ٢٧ : ٣٩٨ ، الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الرواية ٣٤٠٥٢.


والعفاف ، وكفّ الأعضاء ، والساترية للعيوب ، والتعاهد لأوقات الصلاة ، كصحيحة ابن أبي يعفور.

ويؤيّد بل يدلّ على المطلوب ما رواه مولانا العسكري عليه‌السلام (١) ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في كيفية قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واكتفائه في استركاء الشاهدين إذا لم يعرفهما بالرجوع إلى قبائلهما ، فإن أثنوا عليهما بجميل ذكر صالح ، قضي بشهادتهما ، فلم يكتف بمجرّد الإسلام ، ولم يبالغ في معرفة الحقيقة الواقعية والاختبار الباطني ، لظهور أنّ مجرّد هذا النبأ لا يوجب العلم بالواقع ووجود الملكة.

استدلّ الأوّلون بوجوه :

أحدها : أنّ العدالة أمر واقعيّ ، ووصف نفس أمري ، ومقتضى تعلّق الحكم عليه لزوم مراعاته ، والبحث عن ثبوته وعدمه في نفس الأمر.

وثانيها : أنّ العدالة خلاف الأصل ، وكذا المشروط بها ، فلا يكتفي فيها بغير العلم.

وثالثها : أنه لا يجوز الاتّكال على شهادة من لا يفيد قوله العلم ، للعمومات المانعة عن العمل بغير علم ، خرج معلوم العدالة بالإجماع ، ولا دليل على خروج غيره.

ورابعها : ما رواه محمّد بن هارون (٢) : « إذا كان الجور أغلب من الحقّ ، لا يحلّ لأحد أن يظنّ بأحد خيرا حتّى يعرف ذلك منه ».

والجواب عن الأوّل : أنّ هذا يصحّ ، لو لا الدليل على الاكتفاء في المعرفة بالصلاح

__________________

(١) الاستبصار ٣ : ٢٤٠ ، كتاب القضاء ، الباب ٦ من أبواب كيفية الحكم ، الرواية ٣٣٦٧٨.

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب الوديعة ، الرواية ٢٤٢١٦.


الظاهري ، وقد سمعته. وتعليق الحكم على العدالة النفس الأمرية لا ينافيه ، إذ الاكتفاء بالظاهر فيما دلّ عليه ليس من حيث هو ، حتّى ينافيه التعليق بالواقع ، بل من حيث كونه طريقا له ، كما لا ينافي الاكتفاء في معرفة العدالة بشهادة العدلين.

غاية الأمر أنّ الأوّل يقتضي التعليق على نفس الأمر مطلقا ، والثاني بما إذا أصاب الطريق المذكور ، ويطابقه الصلاح الظاهري ، فيقيّد به للزوم تقديم المقيّد على المطلق عند التعارض.

وعن الثاني : بالخروج عن الأصل بما مرّ من الدليل.

وعن الثالث : بعد الإغماض عن بعض ما يرد عليه : أنّ النصوص المتقدّمة ظاهرة في عدم حصول العلم بما يكتفي به فيها من دليل العدالة ، بل بعضها صريحة فيه ، كمرسلة يونس ، فيخصّص بها العمومات المانعة عن غير العلم.

وعن الرابع : أنّ النهي عن الظنّ في مثل مورد الرواية ، إنّما هو للإرشاد والتنبيه على عدم الاغترار بموجب الظنّ في بدو النظر عند غلبة الجور ، حملا لفعل المسلم على الصحّة ، وإلّا فليس متعلق الاختبار عند موجبه ، ولزم الانتقال من سبب الشك إلى سبب العلم ، وهو كما ترى.

واحتجّ الآخرون بالإجماع المحكيّ في الخلاف (١) ، والمستفيضة من الأخبار المكتفية في معرفتها بظاهر الإسلام ، كصحيحة حريز ، وفيها : « وعلى الوالى أن يجيز شهادتهم ، أي المسلمين ، إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق » (٢) وحسنة العلاء ،

__________________

(١) الخلاف ٦ : ٢١٨ ؛ انظر في الأخبار الكافي ٧ : ٣٩٥ ، باب ما يردّ من الشهود ؛ الفقيه ٣ : ٢٥ ، باب ما يجب ردّ الشهادة ؛ التهذيب ٦ : ٢٤٢ ، الحديث ٥٩٨ ؛ دعائم الإسلام ٢ : ٥٠٩ ، الحديث ١٨٢٠.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٩٧ ، الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الرواية ٣٤٠٤٩.


من شهادة من يلعب بالحمام : « لا بأس إذا لا يعرف بفسق » ورواية سلمة (١) : « واعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض ، إلّا مجلودا في حدّ لم يتب عنه ، أو معروفا بشهادة زور ، أو ظنينا ».

والمرويّ في عرض المجالس : « كلّ من كان على فطرة الإسلام ، جازت شهادته » إلى أن قال : « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا » ، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان ، فهو من أهل العدالة والستر ، وشهادته مقبولة » وما في الأخبار المتكثرة من الأمر بوضع أمر أخيك على أحسنه ، وعدم اتّهام أخيك.

والجواب عن الإجماع المحكيّ : كونه موهونا بمصير المعظم على خلافه ، بل يظهر من أكثر من نسب هذا القول إليهم ما يوافق المشهور ، بحيث يمكن دعوى شذوذه.

وأمّا الأخبار : فهي مع ضعف أكثرها سندا ، وعدم الجابر ، ودلالة بوجوه لا يخفى على المتدبّر ، يعارضها ما تقدّم من المعتبرة المستفيضة المشترطة لأوصاف صالحة وجودية في تعريف العدالة ، وهي أخصّ مطلقا منها ، فيخصّص بها. وعلى فرض تساوي النسبة ، فهي أرجح بكونها أكثر عددا ، وأصحّ سندا ، وأظهر دلالة وأشهر فتوى ، ولأهل الخلاف خلافا ، وللأصل وفاقا. ومع فرض التكافؤ وعدم الترجيح ، فلموافقته الأصل يتعيّن العمل به أيضا.

تلخيص وتتميم :

الأخبار الدالّة على الاكتفاء في معرفة العدالة بحسن الظاهر على ما تراه مختلفة في الأوصاف المعتبرة فيه زيادة ونقصانا ، والمشتمل على الأكثر لما كان أخصّ من المكتفى بالأقلّ ، يقدّم الأوّل ، ويخصّص غيره به ، وحيث إنّه صحيح عبد الله بن أبي يعفور المشتمل على قيود ليست في غيره ، واشتهر الاعتماد عليه في الباب عند

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٩٩ ، الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الرواية ٣٤٠٥٤.


الأصحاب ، فهو المعوّل عليه ، والمناط في معرفة العدالة ودليلها.

وربما يظهر منهم الاختلاف في فهم الضابط المستفاد منه. والذي أراه على ما هو ظاهر سياق الحديث وذيله ، أنّه لمّا سأله الراوي عن طريق معرفة عدالة الرجل التي هي هيئة راسخة نفسانية غير محسوسة ، وأجاب عليه‌السلام : بمعرفته بالستر والعفاف ، وكفّ الجوارح الأربع ، واجتناب الكبائر ، تعويلا على لازمها في الأعمال الحسنة ، ثم هي ـ أيضا ـ لما كانت أمورا واقعية نفس أمرية يصعب العلم بها ، وإن كان طريق دركها الحسّ ، فأخذ في بيان الاكتفاء في معرفة هذا اللازم بظاهر الحال ، وعدم لزوم البحث عن العلم بها بقوله عليه‌السلام : « والدلالة على ذلك كله : أن يكون ساترا لجميع عيوبه ، على حدّ يحرم التفتيش لما ورائه على المسلمين ، وكونه بحيث إذا سئل عنه في قبيلته ومحلته ، قالوا : ما رأينا فيه إلّا خيرا ، فلم يطّلعوا على ظاهر معاشرتهم له على فسق منه » مضافا إلى تعاهده ومواظبته للصلوات وحفظ مواقيتها ، تعليلا له بأنّها ستر وكفارة للذنوب.

وجعل السبيل إلى معرفة التعاهد لها كذلك الحضور إلى جماعة المسلمين ، وعدم التخلّف عنها إلّا من علّة ، مشيرا إلى وجهه ، بأنّ تشريع الجماعة والاجتماع للصلاة لمعرفة من يصلّي ممّن لا يصلّي ، ومن يحفظ مواقيتها ممّن يضيع.

فحاصل مدلول الصحيح في دليل عدالة مجهول الحال بحسب الواقع اجتماع أمور ثلاثة :

أحدها : الساترية للعيوب على حدّ يحرم التفتيش لما ورائه.

وثانيها : كونه بحيث إذا سئل عن قبيلته ومحلّته ، قالوا : ما رأينا منه إلّا خيرا ، أي كان معروفا بالصلاح والتقوى في المعاشرة الظاهرية.

وثالثها : التعاهد للصلوات الخمس والمواظبة عليها.


فيجب العلم بتلك الثلاثة في معرفة العدالة. وأمّا عدم التخلّف عن الجماعة ، فالظاهر من سياق الخبر الموافق لظاهر الإجماع : أنّ لزومه إنّما هو عند توقّف العلم بالمواظبة على الصلاة وحفظ المواقيت عليه ، لا لدرك فضيلة الجماعة من حيث هي ، فلو علم بها من حال شخص لا من جهته ، يكتفى به. نعم ، لو ترك الجماعة على حدّ ينبئ عن الإعراض والاستخفاف ، فهو كما أشرنا إليه فيما تقدّم معصية موبقة.

وهل يشترط الساترية لجميع العيوب أو الكبائر؟ الظاهر الأوّل ، وفاقا لصريح والدي العلّامة في المستند (١). والمراد بها عدم رضاه بظهور معصية منه ، واتصافه بصفة الحياء ، وهو أمر غير ترك المعصية في الواقع ، فلا يوجب نقض الصغيرة إيّاها.

وربما يظهر من الرياض (٢) عدم التنافي بين القول باشتراط المعرفة بالمعاشرة الباطنية ، والقول بالإناطة بحسن الظاهر ، لعدم حصول المعرفة بكونه ساترا مواظبا إلّا بعد نوع معاشرة واختبار يطلع على باطن الأحوال ، وهو كذلك إن أراد الغالب ، وإلّا فهو غير مطرد ، ويمكن التخلّف.

فالظاهر ـ حيث لا ينكشف الواقع ـ حصول الظنّ بالهيئة النفسانية الباعثة على استمرار التقوى بحسن الظاهر بالمعنى المتقدّم.

ثمّ إنّ البحث عن خصوص المعاصي القادحة في العدالة لما كان خارجا عن مقصودنا من الكتاب ، فلنطوه طيّا. نعم ، لما كان الغناء كثيرا ما مما يشتبه حقيقة الأمر فيه حدّا وحكما ، وزلّت فيه أقدام أقوام ، ولم أر من الأعلام من استوفي فيه المرام ، رأيت البحث عنه في مشرق ، لكشف الحجاب عن مشكلاته ، مع ما له من عموم البلوى أهمّ وأحرى.

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٦٢٨.

(٢) رياض المسائل ٢ : ٣٩٢.



[ المشرق التاسع ]

[ في أحكام الغناء ]

مشرق : في أحكام الغناء ، والكلام إمّا في ماهيته ، أو في حرمته. فهنا بحثان :

البحث الأوّل : في بيان حقيقته وموارده.

اختلفت كلمات الفقهاء واللغويين في تفسير الغناء.

وهو بالكسر والمدّ ، ككساء. فعن بعضهم (١) : أنّه هو مدّ الصوت.

وفي محكي النهاية (٢) : أنّ كلّ من رفع صوتا ووالاه ، فصوته عند العرب غناء.

وعن الشافعي : أنه تحسين الصوت ، وفي معناه ما عن جماعة : أنه تزيين الصوت.

وفي شهادات القواعد (٣) ، وبعض كتب اللغة ، أنه ترجيع الصوت ومدّه ، وقريب منه ما عن آخر : أنه الصوت المشتمل على الترجيع.

__________________

(١) لم نظفر على قائله وجعله المحقق النراقي ثامن الأقوال من دون إسناد إلى قائل معين ، انظر المستند ٢ : ٣٤.

(٢) النهاية ٣ : ٣٩١.

(٣) قواعد الأحكام ٢ : ٢٣٦.


وعن التحرير (١) والإيضاح (٢) : أنه الصوت المطرب. ونحوه ما في القاموس (٣) : أنّه من الصوت ما طرب به.

وقال جماعة (٤) : إنّه الصوت المشتمل على الترجيع المطرب ، أو مدّه المشتمل عليهما. وعزاه مولانا الأردبيلي (٥) إلى الأشهر. وقيل ما يسمّى في العرف غناء ، واختاره الشهيد الثاني (٦) ، واستحسنه بعض المحققين.

وربما اعتبر في صدق الغناء لهو الكلام ، فقيل : من يقرء القرآن أو المرثية لا يقال : إنّه يغنّي ، بل يقال : إنه يقرء القرآن ، أو يقرء المرثية.

والتحقيق : أنّ شيئا من هذه التفاسير غير واف لحقيقة المعنى ، بل لا يخلو عن إيراد وإشكال أو إجمال ، لظهور أنّ مجرد مدّ الصوت ورفعه ليس غناء ، فضلا عن كونه محرّما ، وكذا مطلق تحسين الصوت المتناول لمثل حسن الجوهر والرعونة وحسن اللحن وطيب اللهجة ، كيف وكان الأئمة أحسن الناس صوتا بالقرآن.

ففي رواية النوفلي (٧) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : ذكرت الصوت عنده ، فقال : « إنّ عليّ بن الحسين عليهما‌السلام كان يقرء القرآن ، فربما يمرّ به المارّ ، فصعق من حسن صوته » وعن الصادق عليه‌السلام (٨) : « كان عليّ بن الحسين عليهما‌السلام أحسن الناس صوتا بالقرآن ، وكان

__________________

(١) تحرير الأحكام ١ : ١٦٠.

(٢) لم نجد هذا التعبير فيه ولكنه بحث عن الغناء في المجلّد الأوّل : ٤٠٤.

(٣) القاموس المحيط ٤ : ٣٧٢.

(٤) مفاتيح الشرائع ٢ : ١٢.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ٨ : ٥٧.

(٦) الروضة البهية ٣ : ٢١٢ ؛ ومسالك الأفهام ٣ : ١٢٦.

(٧) بحار الأنوار ٤٦ : ٧٠ ، الحديث ٤٥.

(٨) نفس المصدر.


السقّاؤون يمرّون ، فيقومون ببابه يسمعون قراءته » ونحوه عنه في أبي جعفر عليه‌السلام.

وورد في الأخبار مدح الصوت الحسن والترغيب فيه في قراءة القرآن ، كما في رواية عبد الله بن سنان (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ من أجلّ الجمال الشعر الحسن ، ونغمة الصوت الحسن » وفي رواية (٢) : « لكلّ شي‌ء حلية ، وحلية القرآن الصوت الحسن » وفي أخرى (٣) : « ما بعث الله نبيا ، إلّا حسن الصوت » وفي أخرى (٤) عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله سبحانه ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) (٥) قال : « أن تمكث فيه ، وتحسن به صوتك » وعن الرضا عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حسّنوا القرآن بأصواتكم ، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا » إلى غير ذلك.

فلا ينبغي تعريف الغناء المشتهر حرمته مطلقا بتحسين الصوت وتزيينه ، إلّا أن يراد به تحسينا خاصّا موكولا إلى ما هو المعهود في العرف.

ونحوه مطلق الترجيع الحسن ، فإنّ الحكم بكونه غناء مما لا شاهد له ، ولا دليل يساعده من لغة أو عرف أو حديث ، بل في قوله عليه‌السلام في رواية ابن سنان (٦) : « اقرءوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الفسق والكبائر ، فإنه سيجي‌ء بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء » دلالة ظاهرة على أنّ مطلق الترجيع ليس غناء ، بل هو كيفية خاصة من الترجيع والألحان يستعملها أهل الفسوق.

كيف وقد اشتهر حرمة مطلق الغناء عند العلماء ، بل ربما ادّعى عليه الإجماع ،

__________________

(١) ومثله في البحار ٥٩ : ١٥٥ ، الباب ٢٣.

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٢١١ ، الباب ٢٤ من أبواب قراءة القرآن ، الرواية ٧٧٥٦.

(٣) بحار الأنوار ١١ : ٦٦ ، الحديث ١٢.

(٤) وسائل الشيعة ٦ : ٢٠٧ ، الباب ٢١ ، الرواية ٧٧٤٦.

(٥) المزّمّل (٧٣) : ٤.

(٦) وسائل الشيعة ٦ : ٢١٠ ، الباب ٢٤ ، الرواية ٧٧٥٤.


مع عدم خلوّ غالب الأصوات في قراءة القرآن والخطب والمناجاة وتعزية الحسين عليه‌السلام ، في جميع الأعصار والأمصار ، من العلماء وغيرهم ، عن تحسين وترجيع في الجملة ، بل هو من المهيّج غالبا لما يقصد منها من الشوق إلى العالم الأعلى ، والاستشعار لعظمة ربّه وتوحيده ، والرغبة إلى الخيرات والجنّة والحزن والبكاء ، فيظهر من ذلك أنّه ليس كلّ ترجيع وتحسين صوت عندهم غناء.

وأما الترجيع المطرب : فإن أريد به مطلق التلذّذ والملائمة للطبع ، فهو لازم مطلق حسن الصوت ، وقد سمعت فساده. وإن أريد به ترجيع خاصّ وطرب مخصوص ، فلا بدّ من بيانه.

وأما التفسير بما يسمّى في العرف غناء ، فلا يفيد معنى محصّلا ، إذ لا عرف للعجم فيه ، ومرادفه في لغة الفرس غير معلوم ، ولو كان كالتعبير عنه بـ « سرود » كما في الصحاح (١) ، أو « خوانندگى وآوازه ودو بيتى » ونحو ذلك ، فهو كعرف العرب فيه غير مضبوط. غاية الأمر حصول القطع بالصدق العرفي في بعض الموارد ، كبعض الألحان الذي يستعمله أهل الفسوق غالبا في المعازف والملاهي.

وأمّا ما قيل أخيرا من اختلاف صدق ماهيّة الغناء باختلاف الكلام ، كالقرآن وغيره ، فلا محصّل له ، فإنّ الغناء من مقولة الأصوات باعتبار كيفياتها من الألحان ، لا متعلّقاتها من الألفاظ وأنواع الكلام ، كما يشهد به كلام أهل اللغة والفقهاء. وكفاك شاهدا ما مرّ من الأمر بقراءة القرآن بألحان العرب ، دون ترجيع الغناء الذي هو من لحون أهل الفسق والكبائر. فلا مدخل لخصوص الألفاظ الباطلة في ماهيّة الغناء ، وإن قلنا بإباحته في بعض الكلمات ، كما لا مدخل لخصوص مجالس الملاهي واقترانه بمحرّم خارجي ، كضرب العود والتكلّم بالباطل فيه ، وإن احتمله كلام بعضهم.

__________________

(١) صحاح اللغة : ١٧٢.


فالتحقيق في المقام ، أنّه لا شكّ ولا خلاف ظاهرا في مدخلية الترجيع المطرب في حقيقة الغناء ودخوله فيها ، كما سمعت ، بل لا ينفكّ حسن الصوت عنهما غالبا ، كما ذكره في الكفاية ، وكذا الظاهر ، بل لا ينبغي الشك فيه ، أنّ كلّ ترجيع حسن ليس غناء ، كما أشرنا إليه أيضا ، بل هو كما نبّه عليه بعض المحقّقين : كيفية خاصّة من التراجيع والألحان ، مثيرة لسرور ووجد وانشراح أو حزن وانقباض ، وهي غالبا متداولة بين أهل الطرب في العصيان ، يستعملونها في الملاهي والعيدان.

ثم هذا الأثر الحاصل منها في القلوب يختلف غالبا ، صلاحا وفسادا ، خيرا وشرا ، باختلاف الكلمات والنيّات والمقامات ، فإذا كان متعلّقها من غير الفضائل سيما من الأباطيل ، ومثل ذكر القدود (١) والخدود ووصف النساء يهيّج القوى الحيوانية ، ويثير وجدا شهوانيا ، ويفسد القلب ، وينبت النفاق ، وينجذب النفوس إلى الميل إلى اللهو والعشرة (٢) ، ويضمر خواطر السوء ، سيما بالنسبة إلى البواطن المملوّة بالهوى ، من قبيل حالة السكر الذي يفعله المسكر ، ويشتدّ تلك الحالة إذا كان مقترنا بمحرّم خارجيّ من الخمور والفجور وضرب الدفّ والقصب والمزامير ، بل لاختلاف أوزان الكلام ، وبحور العروض من قبيل التصانيف المتداولة بين أهل الطرب ، والأوزان التي يستعملها الناس في المعازف مدخل تامّ فيها أيضا.

وإن كان متعلقه من الفضائل ، كذكر توحيده سبحانه ، ونعوت جلاله وجماله ، وتذكير قربه وحبّه وأنسه ، ووصف الجنة والنار والكلمات المشوقة إلى دار القرار ، وتوصيف نعم الملك الجبار ، والترغيب بالخيرات والعبادات ، يثير غالبا ما لم يبلغ هذا الترجيع حدّ الإفراط بحيث يستهلك فيه المقروّ حزنا دينيا وشوقا إلهيا وفرحا

__________________

(١) القدود بضمّ القاف جمع القدّ بالفتح ، أي قامة الرجل.

(٢) العثرة ( خ ).


روحانيا لأهل الإيمان وأرباب القلوب والإيقان ، فإذا أثار هذه الصفات وأصاب حرارتها برد اليقين ، فتارة يظهر أثره في الجسد ويقشعرّ منه الجلد ، قال الله تعالى : ( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) (١) وتارة يعظم وقعه ، ويتصوّب أثره إلى الدماغ ، فيندفق منه العين. وتارة يتصوّب أثره إلى الروح ، فيتموّج منه الروح موجا يكاد يضيق عنه يطاق (٢) القلب ، فيكون من ذلك الصياح والاضطراب ، ويختلف هذه الأحوال شدة وضعفا باختلاف مراتب الإيمان وصلاح القلب.

وحاصل الكلام ، أن الألحان على وجوه ثلاثة :

منها : ما يعلم أنّه من تلك الكيفية الخاصّة من الترجيع ، فيعلم كونه غناء ويصدق عليه عرفا ، فلا كلام في حرمته في غير ما اختلف فيه من المستثنيات من الفضائل أو غيرها ، كما سيأتي.

ومنها : ما يعلم عدمه ، فلا بحث في إباحته.

ومنها : ما يضطرب فيه متفاهم العرف ، فيشكّ في كونه من الكيفية المخصوصة ، لاشتباه بينه وبين غيره من الصوت الحسن ، وهو يلحق بالثاني أيضا ، فيكون مباحا.

البحث الثاني :

في بيان حكمه. ولا خلاف بين أصحابنا ، بل بين المسلمين ، في حرمته في الجملة ، بل عدّ من ضروريّ الدين. ويدلّ عليه الآيات والأخبار المستفيضة التي سننبّه على جملة منها ، بل عليه الإجماع ظاهرا ، تحقيقا ونقلا مستفيضا ، فيما عدا المستثنيات الخلافية ، وهي الحداء للإبل ، وغناء المغنية لزفّ العرائس ، والتغنّي بالفضائل ، سواء اقترن باللعب بالملاهي وضرب العيدان ونحو ذلك من المحرّمات ، أم لا.

__________________

(١) الزمر (٣٩) : ٢٣.

(٢) نطاق ( خ ).


وتخصيص الحرمة بالأوّل ، كما يظهر من المحدّث الكاشاني في الوافي (١) ، بل فيه استفادة ذلك من عبارة الاستبصار (٢) ، شاذّ جدّا ، والإجماع منعقد قبله ، وكلام الاستبصار غير دال عليه ، بل الظاهر منه : اختصاص حرمة الغناء بالمقترن بالملاهي في خصوص زفّ العرائس ، لا مطلقا ، فإنّه قال بعد نقل أخبار حرمة الغناء وكسب المغنّية : والوجه في هذه الأخبار ، الرخصة فيمن لم يتكلّم بالأباطيل ، ولا يلعب بالملاهي والعيدان أو أشباهها ، ولا بالقصب وغيره ، بل كان ممن يزفّ بالعروس ، ويتكلّم عندها بإنشاد الشعر والقول البعيد عن الفحش والأباطيل ، وأمّا ما عدا هؤلاء ممن يتغنى بسائر أنواع الملاهي ، فلا يجوز في حال ، سواء كان في العرائس وغيرها. انتهى.

وأما في المستثنيات المذكورة فظاهر جماعة كالمفيد (٣) والحلبي (٤) والديلمي (٥) : التحريم مطلقا ، من غير استثناء ، بل عن ظاهر الأوّل : دعوى الإجماع عليه ، والمشهور سيما بين من تأخر ذلك فيما عدا الأوّلين ، خلافا فيهما لجماعة ، بل في الكفاية نسبة الخلاف في الحداء إلى المشهور ، وعن غيره في زفّ العرائس.

وممّن صرّح بالإباحة في الثاني ، ما سمعت من كلام الشيخ في الاستبصار ، ونحوه ما في النهاية (٦) ، وأحلّ فيه أجرة المغنّية فيه ، اذا لم يقرء فيه بالباطل ، ولا

__________________

(١) الوافي ٧ : ٢١٨ ـ ٢٢٣.

(٢) الاستبصار ٢ : ٦٢.

(٣) المقنعة : ٥١٨.

(٤) الكافي في الفقه : ٢٨١.

(٥) المراسم : ١٧٠.

(٦) النهاية : ٣٦٧.


يدخلن على الرجال ، ولا الرجال عليهنّ. والمحقق في النكت (١) ، والفاضل في المختلف (٢) وكرهه ابن البراج. وقال ابن إدريس (٣) : لا بأس بأجر المغنّيات في الأعراس ، إذا كان لم يتغنّ بالباطل ، على ما روى ، وهو مختار جمع آخر.

وأمّا في غيرهما مما استثنى ، فيظهر من بعضهم : دعوى الإجماع على الحرمة ، ومن آخر وقوع الخلاف فيه أيضا. قال في الكفاية (٤) بعد نقل كلام عن الشيخ الطبرسي في مجمع البيان : إنّ هذا يدلّ على أنّ تحسين الصوت بالقرآن والتغنّي به مستحبّ عنده ، وأنّ خلاف ذلك لم يكن معروفا عند القدماء ، وقال : كلام سيّد المرتضى في الغرر والدرر لا يخلو عن إشعار واضح بذلك ، ويظهر منه نسبة عدم التحريم في القرآن إلى الكليني أيضا.

وفي مجمع الفائدة (٥) ، جعل ترك الغناء في مراثي الحسين عليه‌السلام أحوط ، مشعرا بميله إلى الجواز. وفي كفاية الأحكام : وفي عدّة من الأخبار الدالّة على حرمة الغناء (٦) إشعار بكونه لهوا باطلا ، وصدق ذلك في القرآن والدعوات والأذكار المقروءة بالأصوات الطيبة المذكرة للآخرة المجتمعة للأشواق إلى العالم الأعلى ، محل تأمّل ـ إلى أن قال : ـ فإذن ، لا ريب في تحريم الغناء على سبيل اللهو والاقتران بالملاهي ونحوها.

ثمّ إن ثبت الإجماع في غيره ، كان متبعا ، وإلّا ففي حكمه على أصل الإباحة.

__________________

(١) النهاية ونكتها ٢ : ٩٩.

(٢) مختلف الشيعة ٥ : ٤٩.

(٣) المراسم : ١٧٠.

(٤) كفاية الأحكام : ٨٥.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ٨ : ٦١ ـ ٦٣.

(٦) وسائل الشيعة ٦ : ٢١٠ ، الباب ٢٤ من أبواب قراءة القرآن ، الرواية ٧٧٥٤.


وقال في موضع آخر : واستثنى بعضهم مراثي الحسين عليه‌السلام إلى أن قال : وهو غير بعيد.

وقال صاحب الوافي (١) في باب كسب المغنّية وشراءها : لا بأس بسماع التغنّي بالأشعار المتضمّنة ذكر الجنّة والنار ، والتشويق إلى دار القرار ، ووصف نعم الله الملك الجبار ، وذكر العبادات ، والترغيب في الخيرات ، والزهد في الفانيات ، ونحو ذلك.

بل ربما يظهر منه اختصاص الحرمة بما اقترن على فعل محرّم ، دون ما سوى ذلك ، كما أشرنا إليه.

واختار والدي العلّامة (٢) ؛ إباحته في جميع ما ذكر من المستثنيات ، من القرآن والذكر والمناجاة والدعاء والرثاء.

ونحن نبحث أوّلا عما استدلّوا به على حرمة مطلق الغناء ، ثمّ عما هو حقّ القول في المستثنيات ، فقد استدلّوا على حرمة الغناء مطلقا بوجوه :

منها : الإجماع المحكيّ عن المفيد (٣) وغيره.

ومنها : قوله تعالى ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) (٤) بضميمة ما ورد في تفسير القمي (٥) عن الباقر عليه‌السلام : أنّه الغناء ، وشرب الخمر ، وجميع الملاهي. وفي معاني الأخبار (٦) عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام : عن قول الله تعالى ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي

__________________

(١) الوافي ٧ : ٢١٨ ـ ٢٢٣.

(٢) مستند الشيعة ٢ : ٣٤٤.

(٣) المقنعة : ٥٨٨ ؛ قال : « وكسب المغنّيات حرام وتعلّم ذلك وتعليمه محظور في شرع الإسلام ».

(٤) لقمان (٣١) : ٦.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١٦١.

(٦) معاني الأخبار : ٣٤٩ ، الحديث ١.


لَهْوَ الْحَدِيثِ ). قال : الغناء. وفي صحيح محمّد (١) : الغناء ممّا قال الله تعالى ( وَمِنَ النّاسِ ). الحديث. ونحوها رواية مهران بن محمد (٢) ، ورواية الوشاء (٣) ، عن الغناء ، قال : هو قول الله عزوجل ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي ) ورواية الحسن بن هارون : « الغناء مجلس لا ينظر الله تعالى إلى أهله ، وهو ممّا قال الله ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي ) الآية وفي الكافي (٤) ، عن الباقر عليه‌السلام : « الغناء مما أوعد الله سبحانه عليه النار » وتلى هذه الآية. وقريب منه الرضوي (٥).

ومنها : قوله تعالى ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (٦) والمراد به الغناء ، كما في رواية أبي بصير (٧) والشحام (٨) ، وابن أبي عمير (٩).

ومنها : قوله تعالى ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) (١٠) وفسّر بالغناء في صحيح محمد (١١).

ومنها : الأخبار المستفيضة المانعة عن بيع المغنّيات وشرائهنّ وتعليمهنّ ، كرواية

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٣٠٥ ، الباب ٩٩ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢٥٩٩.

(٢) نفس المصدر : الرواية ٢٢٦٠٠.

(٣) نفس المصدر : الرواية ٢٢٦٠٤.

(٤) نفس المصدر : الرواية ٢٢٥٩٩ ؛ وفي الكافي ٦ : ٤٣١ ، الحديث ٥.

(٥) نفس المصدر : الرواية ٢٢٦٠٤.

(٦) الحجّ (٢٢) : ٣٠.

(٧) نفس المصدر : الرواية ٢٢٦٠٢.

(٨) نفس المصدر : الرواية ٢٢٥٩٤.

(٩) نفس المصدر.

(١٠) الفرقان (٢٥) : ٧٢.

(١١) نفس المصدر : الرواية ٢٢٥٩٨.


الطاطري (١) ، عن بيع الجوار المغنّيات ، فقال : بيعهنّ وشراؤهنّ حرام ، وتعليمهنّ كفر ، واستماعهنّ نفاق. وقريب منها خبر ابن أبي البلاد (٢) ، وفي معناه ما ورد من اللعن على المغنّية ، وعلى من أكل من كسبها أو ثمنها (٣).

ومنها : الروايات الدالّة على ذمّ فاعل الغناء ومستمعه وبيته ومجلسه ، كصحيح الشحام (٤) : بيت الغناء لا يؤمن فيه الفجيعة ، ولا يجاب فيه الدعوة ، فلا يدخله الملك » ومرسلة المدني (٥) : سئل عن الغناء وأنا حاضر ، فقال : « لا تدخلوا بيوتا الله معرض عن أهلها » ورواية الشحام (٦) : « الغناء مثير النفاق » والخبر (٧) : « استماع الغناء ينبت النفاق في القلب » وفي الخصال (٨) : « الغناء يورث النفاق ويعقّب الفقر » وفي جامع الأخبار ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يحشر صاحب الغناء من قبره أعمى وأخرس وأبكم » وفيه عنه عليه‌السلام : « ما رفع أحد صوته بغناء إلّا بعث الله سبحانه شيطانين على منكبه ، يضربون بأعقابهما على صدره حتّى يمسك » ورواية يونس (٩) : أنّ العياشي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ١٢٤ ، الباب ١٦ من أبواب ما يكتسب به. الرواية ٢٢١٥٥.

(٢) نفس المصدر : الرواية ٢٢١٥٢.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر ١٧ : ٣٠٥ ، الباب ٩٩ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢٥٩٤.

(٥) نفس المصدر.

(٦) نفس المصدر.

(٧) نفس المصدر.

(٨) الخصال : ٢٤ ، الحديث ٨٤ ؛ ورواه في الوسائل ١٧ : ٣٠٩ ، الرواية ٢٢٦١٦.

(٩) ونقل في حاشية الوسائل عن عيون الأخبار هكذا : إذا جمع الله تعالى بين الحقّ والباطل مع أيّهما يكون الغناء؟ فقال الرجل : مع الباطل ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : حسبك فقد حكمت على نفسك ، فهكذا كان قولى له. ( وسائل الشيعة ١٢ : ٢٢٧ و ٢٢٨ ـ طبع تهران ، المكتبة الإسلامية ـ ).


ذكر أنّك ترخّص الغناء ، قال : كذب الزنديق ، ما هكذا قلت له ، سألني عن الغناء ، فقلت له : إنّ رجلا أتى أبا جعفر عليه‌السلام ، فسأله عن الغناء ، فقال : يا فلان إذا ميّز الله تعالى الحقّ من الباطل ، فأين يكون الغناء؟ فقال : مع الباطل ، فقال : قد حكمت. ومرسلة الفقيه (١) : سأل رجل عليّ بن الحسين عليهما‌السلام عن شراء جارية لها صوت ، فقال : « ما عليك لو اشتريتها ، فذكرت الجنة ، يعنى بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء ، وأمّا الغناء فمحظور » ورواية ابن سنان (٢) : « اقرءوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإيّاكم ولحون أهل الفسق والكبائر ، فإنّه سيجي‌ء بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية لا يجوز تراقيهم قلوبهم مقلوبة » الحديث.

أقول : في دلالة تلك الأدلّة على حرمة الغناء مطلقا نظر :

أمّا الإجماع ، فالمحقّق منه غير ثابت في المستثنيات المذكورة ، بل كلام المقدّس الأردبيليّ (٣) ، والمحقق الخراساني (٤) ، ووالدي العلّامة (٥) كما عرفت ، يشعر بل يدلّ على وقوع الخلاف فيها ، بل سمعت نقل الشهرة في إباحته في الحداء ، ومخالفة جمع من أعيان الطائفة في زفّ العرائس ، واشتهار فعله في مراثي سيّد الشهداء ، في جميع الأعصار والأمصار من غير نكير غالبا ، حدّا يحصل الجزم بعدم وقوع مثل ذلك الاشتهار ، مع عدم الاستنكار في خلاف الإجماعيات ، بل كان ينبغي أن يكون في الاستنكار مثل ضرب العيدان والقصب والمزامير في مجالس المؤمنين

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٦٠ ، الباب ٢ ، الرواية ٥٠٩٧.

(٢) الكافي ٢ : ٦١٤ ، الحديث ٣ ؛ كان في الأصل : « فقلوبهم مقلوبة » وفي الكافي كما أثبتناه وفي بعض المصادر : « قلوبهم مفتونة » مكان « قلوبهم مقلوبة ».

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٨ : ٦١.

(٤) كفاية الأحكام : ٨٦.

(٥) مستند الشيعة ٢ : ٣٤٤.


والمساجد والمنابر.

وكيف كان ، لا يحصل ـ بملاحظة جميع ما ذكر ـ العلم بالاتّفاق على حرمته في مثل المراثي والفضائل وغيرهما ، إلّا إذا بلغ حدّا خرج عن هذا العنوان ، وصدق عليه اللهو المستعمل عند أهل الفسوق والطرب.

ومنه يعلم حال المنقول من الإجماع ، على تسليم حجيته أيضا ، مع أنّ نقله غير معلوم ، وعلى ثبوته فمع ما عرفت من وقوع الإجمال والخلاف في معنى الغناء ، لا يعلم مراد القائل الناقل منه ، بحيث يشمل جميع موارد الكلام. وأما الآية الأولى ، فمع تعارض الأخبار المفسّرة لها بالغناء ، مع ما روي في مجمع البيان (١) ، عن الصادق عليه‌السلام : إنّ لهو الحديث في الآية : الطعن بالحقّ ، والاستهزاء به بقوله تعالى : ( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً ) (٢) يدلّ على كون الفعل بقصد الإضلال والاتخاذ هزوا ، فلا يدلّ على حرمة ما يتّخذ لترقيق القلب ، لتذكر الجنة ، وتهييج الشوق إلى العالم الأعلى ، وتأثير الدعاء والقرآن والمناجاة في القلوب.

ولا ينافيه التفسير بالغناء ـ مطلقا ـ في الأخبار المتقدّمة ، لأنّه إمّا تفسير للمقيّد ، فلا ينافيه التقييد في الحكم أو للمجموع ، فالتقييد إمّا مأخوذ في أصل المعنى ، فيكون مطلق الغناء ما استعمل في مقام اللهو ، كما عسى يلوح من بعض الأقوال أو في المعنى المراد في الآية ، فيكون مأخوذا في الغناء المحرّم ، ويكون التفسير مخصوصا به.

مضافا إلى أنّ لهو الحديث لا يصدق لغة وعرفا على التغنّي بالقرآن والدعاء ومراثي سيّد الشهداء عليه‌السلام وأمثالها ، إذا اتّخذ للتشويق إلى الله سبحانه ، والترغيب

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ١٦٢.

(٢) لقمان (٣١) : ٦.


للخيرات ، والإبكاء ، لأنّ الإضافة إن كانت بمعنى من ، كما قيل ، أي : باطل الحديث ، وما يلهى عن ذكر الله تعالى ، فظاهر أن القرآن ونحوه ليس منه مطلقا ، أو بمعنى في ، أي : اللهو الواقع فيه ، أعني الغناء ، فإطلاق اللهو الذي هو بمعنى الغفلة والتشاغل عن الله سبحانه والآخرة ، على ما يوجب التذكر لهما ، مجاز قطعا. ونحوه ما إذا أريد بلهو الحديث مطلق الأفعال الملهية ، كما في تفسيره فيما رواه القمّي (١) بالغناء وشرب الخمر وجميع الملاهي.

وهذا التجوّز ليس بأدنى من تخصيص الغناء في الأخبار المفسرة ببعض أفراد ، وهو المستعمل في الباطل ، بل الترجيح للثاني ، لشيوع استعماله في زمن المعصومين ، فيما استعمله بنو أميّة وبنو العبّاس وأتباعهم وأذنابهم في مجالس الخمور والفجور ، حتى أنّ المغنّي والمغنّية كانا ظاهر الاختصاص في من اتّخذ شغله وحرفته التغنّي في أمثال تلك المحافل ، من الجواري والغلمان ، ولأنّ مدلول أكثر الأخبار المفسّرة كون الغناء فردا من لهو الحديث ، وأنّه بعض المراد ممّا قال سبحانه ، كروايات القمّي ، ومحمّد ، ومهران ، والحسن بن هارون.

وفي هذا إشعار بأنّ المراد من لهو الحديث معناه اللغوي والعرفيّ الذي فرد منه الغناء المستعمل فيه ، بل في الأخيرة زيادة إيماء به ، لظهوره في أنّ الغناء الذي أريد من لهو الحديث مجلس ، وهو ظاهر في محافل المغنّيات.

ونحوه الأوّل المفسّر بالغناء وشرب الخمر وجميع الملاهي ، الظاهر في كون الأخير من باب عطف العام على الخاصّ ، وكون الأوّلين من أفراده مع ما في رواية الوشّاء من احتمال كونها تفسيرا لمعنى الغناء ، لا بيانا لحكمه ، فلا يتناول ما لا يصدق عليه لهو الحديث عرفا. ولما في رواية أبي بصير ، في كسب المغنّيات ،

__________________

(١) التفسير القمّي ٢ : ١٦١.


فقال : « التي دخل عليهنّ الرجال حرام والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس وهو قول الله عزوجل ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي ) ـ الآية ـ من كونه قرينة مرجّحة للثاني ، فإنّها ظاهرة في أنّ لهو الحديث هو غناء المغنّيات التي يدخل عليهنّ الرجال » (١) لا مطلقا.

ومن هذا يظهر ضعف التمثّل بإطلاق ما في المرويّ في الكافي ، المذكور أخيرا ، على حرمة مطلق الغناء ، لكونه منزلا على ما فيه من التعليل بالآية ، حسب ما عرفته.

مضافا إلى قوة احتمال نفي إطلاقه بظهوره في بيان حكم كون المحرّم من الغناء كبيرة أوعد الله سبحانه عليها النار ، لا في بيان تحريمه. ونحوه الكلام في الرضويّ.

وأمّا الآية الثانية : فمع أنه لا يبعد كون الغناء المقصود من قول الزور على التفسير به هو الغناء بالباطل أيضا ، كما يشعر به لفظ الزور الذي هو بمعنى الكذب والباطل ، يعارض المفسّرة لها بالغناء ، مع ما تفسيرها بشهادة الزور المعتضد باشتهاره بين المفسرين ، ومع ما رواه الصدوق في معاني الأخبار (٢) عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عن قول الزور ، قال : « منه قول الرجل للّذي يغنّي أحسنت » فإنّه ينافي ما دلّ على اختصاصه بالغناء ، بل فيه إشعار بكون المراد منه معناه اللغوي ، أي : الكذب والباطل الغير الصادقين على مثل القرآن والخطب والدعاء والرثاء.

وأمّا الأخبار : فالروايات المانعة عن بيع المغنّيات وشرائهنّ غير دالة على حرمة مطلق الغناء. ضرورة أن ليس مطلق بيع من يقدر على التغنّي ـ وإن علم وقوع التغنّي منه ـ حراما ، إلّا بتقييد البيع بقصد التغنّي ، استظهارا بإشعار وصف الموضوع بالغلبة ، وهو ليس دلالة وضعية ، بل مجرّد ظهور عرفيّ ، وهو ليس بأكثر من ظهور

__________________

(١) فقه القرآن ٢ : ٢٥ ، باب المكاسب المحظورة.

(٢) معاني الأخبار : ٣٤٩ ، باب المغنّي.


المغنّي والمغنّية بحكم الغلبة في أزمنة الخطاب ، على ما سمعت في من يعدّ للتغنّي بالباطل من الجواري والغلمان في مجالس اللهو من الأعراس وغيرها ، بل كان تداول فيها دخول الرجال على النساء ، وتعارف فيها التكسب بها ، كما يظهر من الآثار والأخبار ، وخصوص الصحيح : « أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس ، ليست بالتي تدخل عليها الرجل » المشعر بمعهودية دخول الرجال عليهنّ.

فالكلام ظاهر في بيع من ذكر ، بقصد تغنّيه بالباطل في مجالس اللهو.

وأما سائر الأخبار الذامّة للغناء ، فغير الثلاثة الأخيرة بكثرتها ، خالية عما دلّ على الحرمة ، وأمثال ما فيها من الذم يذكر كثيرا ما في المكروهات.

وأمّا الثلاثة : فأمّا رواية يونس ، فوجه الدلالة : إمّا تكذيب الإمام عليه‌السلام نسبة الرخصة في الغناء إليه ، أو جعله الغناء من قسم الباطل ، والأوّل لا يستلزم المنع ، لاحتماله عدم الإذن ، والإجمال في الجواب لمصلحة ، ولو سلّم ، فغايته الدلالة على المنع في الجملة ، فإنّ نقيض الإيجاب الكلّي السالبة الجزئية ، والثاني غير صريح في الحرمة ، لصحّة إطلاق الباطل على مطلق الهزل ، بل اللغو.

وأما مرسلة الفقيه ، فمدلول ذيله وإن كان حرمة المطلق ، إلّا أنّ قوله عليه‌السلام قبله : « والفضائل التي ليست بغناء » الظاهر في كون الوصف سيما باعتبار تعبيره بلفظ الماضي ـ توضيحيا ، خصوصا مع عدم وجه لتخصيص التجويز بالفضائل لولاه ، قرينة على أن المراد بالغناء الذي في مقابله هو الغناء بالباطل ، لا مطلقا.

ومنه يظهر ما في رواية ابن سنان (١) ، فإنّها ظاهرة في أنّ المراد بالغناء المنهيّ عنه في القرآن ، بعض أفراده ، وهو لحون أهل الفسق والكبائر ، المتداولة في الملاهي الغير المذكّرة للآخرة ، بل المخرجة لها عن صدق التلاوة ، ويشعر به آخر الحديث ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦١٤.


سيما بملاحظة ما ورد من استحباب الترجيع بالقرآن ، بل يدلّ عليه الأمر بالقراءة بألحان العرب ، فإنّ اللحن كما في اللغة هو التطريب والترجيع والغناء. قال في النهاية الأثيرية : اللحون والألحان جمع اللحن ، وهو التطريب وترجيع الصوت ، وتحسين القراءة والشعر ، والغناء (١).

وقال في الصحاح : ومنه الحديث « اقرءوا القرآن بلحون العرب » ، وقد لحن في القراءة ، إذا طرب وغرّد. وهو ألحن الناس ، إذا كان أحسنهم قراءة وغناء (٢).

وفيه : الغرد بالتحريك ، التطريب في الصوت والغناء (٣).

فالنهي في الرواية عن لحون أهل الفسق ، وذمّ أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والرهبانية ، تحذير عن الغناء المتداول بين أهل الطرب والفسق لا مطلقة. فالرواية أشبه بخلاف المدّعى.

فتبيّن من جميع ما ذكرناه ، أنّ القدر الثابت من تلك الأدلّة حرمة الغناء في الجملة ، وأنّه لو سلّم إطلاق بعضها ، فشيوع استعمال الغناء في الأخبار ، فيما يستعمله الفسّاق في أزمنتهم في الملاهي والتغنّي بالباطل في مجالس الفجور ، كما نبّهنا عليه ، وقال في الكفاية (٤) والمفاتيح ويشعر به بعض الصحاح ، حسب ما أشرنا إليه ، وأمثال ذلك مما يمنع التمسّك بإطلاقه.

وإنّها لو لم يكن قرينة لحمل الغناء ، ـ حيث يستعمل مطلقا ـ على المستعمل في الملاهي ، فهي مانعة لا محالة عن جريان أصل الحقيقة في الإطلاق.

__________________

(١) النهاية لابن الأثير ٤ : ٢٠٢.

(٢) صحاح اللغة ٦ : ٢١٩٣.

(٣) صحاح اللغة ٢ : ٣١٦.

(٤) كفاية الأحكام : ٨٦.


نعم ، الظاهر ثبوت الحرمة من تراكم الجميع في غير الفضائل ، والقرآن ، والمراثي ، ونحوها ، مما يذكّر الآخرة ، ويرغّب في الخيرات مطلقا ، وإن لم يقترن بمحرّم خارجي ، ولم يكن تكلّما بالأكاذيب والأباطيل. وأما فيها فلا ، سيما مع معارضة أدلّة الحرمة ، مع ما رواه الحميري في قرب الإسناد ـ الذي نفى البعد في الكفاية عن إلحاقه بالصحيح ـ عن عليّ بن جعفر ، عن أخيه ، قال : سألته عن الغناء ، هل يصلح بالفطر والأضحى والنوح؟ قال : « لا بأس ، ما لم يعص به » (١) وما دلّ على جوازه في بعض المستثنيات ، كما سننبّه عليه.

وأمّا الكلام في حرمة ما استثنى من الغناء ، فتفصيله : أنّ ما وقع الخلاف في استثنائه أمور :

منها : غناء المرأة في زفّ العرائس. والحقّ جوازه للأصل ، والصحيح المتقدّم في حلّية أجر المغنية التي تزفّ العرائس ، والخبرين : أحدهما عن كسب المغنّيات.

فقال : « التي يدخل عليهنّ الرجال حرام ، والتي تدعى إلى الأعراس ، ليس به بأس » (٢) والآخرة : « المغنّية التي تزفّ العرائس لا بأس بكسبها » (٣).

والإيراد عليها بالمعارضة بإطلاق أدلّة الحرمة ، ونفي الملازمة بين الإباحة وثبوت الأجرة ، مدفوع ، بتخصيص الإطلاق بتلك الأخبار المشتملة على الصحيح وغيره ، والملازمة ثابتة بعدم القول بالفرق مع أنّ المنفيّ عنه البأس في الأخيرين ، نفس الكسب ، وهو عين المدّعى.

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٩٤ ، ح ١١٥٨.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٥٨ ، الحديث ١٠٢٤ ؛ وسائل الشيعة ١٧ : ١٢٠ ، الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢١٤٤.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٥٧ ، الحديث ١٠٢٣ : وسائل الشيعة : نفس الموضع.


هل يتعدّى الحكم إلى المغنّي؟ الظاهر لا ، كما هو ظاهر كلمات المجوزين ، لاختصاص أدلّة الاستثناء بالمغنّية. والتمسّك بعموم العلّة في الصحيح مخدوش ، باختصاصها بالمرأة المسؤول عنها وإلّا جاء (١) تفصيل الحلّ والحرمة في الرجل أيضا في عدم دخوله على الرجال (٢) دخولهم (٣) عليه ، وهو كما ترى.

ومنه يظهر اختصاص الحكم بالزفاف أيضا ، كما هو ظاهرهم ، نظرا إلى ظهور العلّة في أفراد المسؤول عنها ، التي هي من تزفّ العرائس ، فمفادها تقسيم من يزفّ إلى من يدخل عليها الرجال ومن لم يدخل ، بل الظاهر الإجماع على الحرمة في غير الأعراس.

ومنها : الحداء ، وهو سوق الإبل بالغناء ، واشتهر استثناؤه ، إلّا أنّي لم أقف على دليل دلّ عليه ، سوى الخبر العامّي (٤) المرسل ، وهو غير صالح للحجّية ، فلا موجب للخروج عن الإطلاق في حرمته ، وفاقا لصريح جماعة.

ومنها : الغناء في مراثي سيد الشهداء ، وغيره من الحجج عليهم‌السلام وأولادهم ، وأصحابهم والحقّ فيه الإباحة ، ما لم يخرج عن حدّ الرثاء ، وصدق المرثية ، وقصد الحزن والبكاء ، والتحزين والإبكاء ، بوقوعه في الملاهي ، والإفراط في الترجيع ، حدّا يخرج عن الإعانة على البكاء ، وصدق الرثاء للأصل وقصور أدلّة الحرمة عن الإطلاق الشامل له ، حسب ما مرّ مع معارضتها للمرويّ في قرب الإسناد (٥) ومرسلة

__________________

(١) كذا في النسخة المطبوعة وفي نسخة « م » : « والأخبار » بدل « وإلّا جاء ».

(٢) النساء ( خ ).

(٣) ودخولهنّ ( خ ).

(٤) عوالي اللآلي ١ : ٢٦١ ؛ مستدرك الوسائل ١٣ : ٢١٥ ، الباب ٧٨ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ١٥١٥٩.

(٥) قرب الإسناد : ١٢١ ؛ وسائل الشيعة ١٧ : ١٢٢ ، الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢١٤٨.


الفقيه (١) ، مضافا إلى كونه إعانة على البرّ ، ورجحانها ثابت بالكتاب والسنة.

والاعتراض عليه أوّلا : بمنع كون الغناء معينا على البكاء ، وإن سلّم إعانة الصوت عليه ، ولو لاشتماله عليه ، لكونه غير الغناء.

وثانيا : لو سلّم فكونه على البكاء على شخص معيّن غير مسلّم ، وإنّما هو لأجل تذكر أحواله ، ولا دخل للغناء فيه.

وثالثا : لو سلّم ، فعموم رجحان الإعانة على البرّ ـ ولو بالحرام ـ غير ثابت.

ورابعا : لو سلّم ، فيعارض أدلّته أدلّة حرمة الغناء ، والترجيح للثانية بالأظهرية والأكثرية ، بل ربما يظهر من بعض أفاضل معاصرنا ، نفي أضل التعارض ، وبقاء دليل الحرمة سالما عما يعارضه ، قائلا بعدم وقوع المعارضة في أمثال تلك العنوانات المختلفة ، ولذا لا يتعارض ما دلّ على استحباب قضاء حاجة المؤمن ، لما دلّ على حرمة الزنا واللواط ، إذا طلبه المزني بها.

مدفوع ، أمّا الأوّل : فلمخالفته الوجدان ، وظهور الفرق في الإبكاء بين الأصوات والألحان. ووجه ما أشرنا إليه من أنّ الغناء في مثل ذلك يثير حزنا ، إذا أضاءت أثره إلى الدماغ ، يدمع العين ، ويحصل البكاء ، وإذا أضاءت الى الروح ، يتموّج ويظهر منه الصياح والاضطراب. فالغناء له مدخل في البكاء ، وهو كاف في صدق الإعانة عليه ، وإن لم يكن سببا تامّا.

ومنه يظهر ما في الثاني : فإن تذكر الشخص الخاصّ ، وإن لم يكن لأجل الغناء ، ولكن كونه تذكرة موجبا للبكاء ، قد يحصل بإعانة الغناء المرقّق للقلب ، المهيّج للحزن على من يرثى عليه.

وأمّا الثالث : فرجحان الإعانة على البرّ أمر معلوم الإجماع والكتاب والسنة ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ١٢٢ ، الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢١٥٠.


عموما وخصوصا ، في المقام ، بما ورد في متظافرة الأخبار ، من استحباب البكاء والإبكاء على الحسين عليه‌السلام ، غاية الأمر ، يعارض دليله دليل الحرمة ، حيث وقع معينا ، فيرجع إلى الراجح.

وأمّا الرابع : فقد عرفت منع وجود دليل على عموم الحرمة الشامل لمحلّ البحث ، فضلا عن الأظهرية والأكثرية بالنسبة إلى ما استفاض من استحباب الإعانة على البرّ ، عموما وخصوصا.

وأما ما قاله الفاضل المعاصر ، فهو من الغرائب. والتمثيل بما ذكره غير صحيح.

بيان ذلك : أنّ اختلاف العنوان في الأمر والنهي ، لا يرفع التعارض ، إلّا إذا كان الرجحان توصليا تبعيّا ، من باب المقدمة لواجب أو مندوب ، فهو لا يعارض الحرمة الأصلية ، كما في العبور عن ملك الغير إلى المسجد.

ووجهه : أنّ رجحان المقدّمة من باب التوقف العقلي للمأمور به بحكم العقل ، وهو يكون حيث لم يكن المقدّمة مع إمكان حصول الغرض لغيرها ، لعدم الدليل ـ حينئذ ـ على رجحانها. وأمّا إذا كان الحكمان أصليين فالتعارض حاصل في مورد التخالف ، وإن اختلف العنوان ، لعدم إمكان الجمع بين الامتثالين.

والتعارض بالعموم من وجه ، كلّه من هذا الباب ، سواء كان مورد التعارض فردا لموضع كلّ من الدليلين المتعارضين ، أو لأحدهما ولازما للآخر ، كالأمر بالذهاب إلى المسجد ، والنهي عن التصرف في ملك الغير.

نعم ، إذا كان إطلاق الأمر منساقا لبيان حكم آخر ، تقدّم جانب الحرمة ، كالأمر بالمسافرة ، والنهي عن ركوب الدابّة المغصوبة ، والأمر بالإفطار ، والنهي عن أكل المتنجّس أو مال الغير ، فلا تعارض ـ حينئذ ـ أيضا ـ ، لعدم انصراف إطلاق الأمر إلى محلّ النهي ، فلا يحصل امتثال الأمر بالإتيان بالمنهيّ عنه ، إلّا إذا كان المقصود


من الأمر مجرّد حصول الأثر ، كالأمر بتطهير الثوب ، وإنقاذ الغريق ، فيسقط الأمر بفعل المحرّم ، لحصول الغرض ، وإن لم يترتّب عليه الثواب.

وكيف كأن ، فمن البيّن : أنّ محلّ البحث ليس من صورتي عدم التعارض ، بل هو من باب تعارض الحكمين الأصليين بالعموم من وجه ، إذ الأمر بالإعانة على البرّ ، هو الأمر بإيجاد ما توقّف عليه ، وهو في الفرض من أفراد الغناء المعين على البكاء أو الإبكاء ، فيحصل التعارض.

نعم ، لا يبعد الفرق بين الأمر بالإبكاء والإعانة ، بكون النظر في الأوّل حصول الأثر ، فلا ينصرف الإطلاق إلى خصوصيات أفراد السبب ، بخلاف الثاني ، لظهوره في كون المقصود منه الأمر بإيجاد أسباب البرّ وشرائطه ، ولا أقلّ من عدم ظهوره في غيره الكافي في صحّة التمسّك بإطلاقه.

وأمّا التنظير بالزنا ، في حصول قضاء حاجة المؤمن ، به فلا مناسبة له بالمقام ، فإنّ أصل الحاجة ـ وهي الزنا ـ محرّمة على المحتاج ، فكيف يحسن قضاؤها؟ بل يحسن من الغير الإعانة على منعها ، بخلاف البكاء.

ومنها : الغناء في قراءة القرآن ، وهو كسابقه دلّ على جوازه ما مرّ ، من الأصل ، وقصور الأدلّة المانعة من شمولها له ، مضافا إلى المعتبرة المستفيضة المتقدّمة. جملة منها المعتضدة بالأصل الآمرة بقراءة القرآن بالصوت الحسن ، الشامل للغناء ، بل هو أظهر أفراده أو بخصوص الترجيع ، كرواية أبي بصير الصحيحة (١) ، عن السرّاد ، المجمع على تصحيح ما يصحّ عنه ، وفيها : « ورجّع بالقرآن صوتك ، فإنّ الله سبحانه يحبّ الصوت الحسن ، يرجّع به ترجيعا ».

والإيراد على الأوّل : بأنّ الغناء هو الترجيع ، وهو وصف عارض للصوت الحسن ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦١٦ ، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ، الحديث ١٣.


يوجد بإيجاد مغاير لإيجاد الصوت ، فلا يدلّ الترغيب به على الترغيب به. وعلى الثاني : بمنع كون مطلق الترجيع غناء. وعليهما : بمعارضتهما للأخبار المانعة ، كخصوص رواية عبد الله بن سنان المتقدّمة ، الناهية عن لحون أهل الفسوق ، الذامّة لترجيع الغناء والرهبانية في القرآن (١).

مدفوع بما في الأوّل ، من أنّ الغناء في كلام جماعة من أصحاب اللغة ، هو الصوت المشتمل على الترجيح. ولو سلّم ، فتحسين الصوت غالبا بالترجيع ، ولا أقلّ من كون المشتمل عليه من أفراده ، فالأمر بالصوت الحسن أمر بالمركّب من العارض والمعروض ، وهو ينافي حرمة العارض ، مع أنّ في بعض الأخبار الأمر بتحسين الصوت ، والترجيع من أفراده.

وبما في الثاني ، من شموله للغناء قطعا ، لو لم يتّحد معه ، وهو كاف في الاستدلال.

وبما في الثالث ، أوّلا : فيما مرّ من ضعف دلالة المعارض في مورد البحث ، بل دلالة الخبر المذكور على الترغيب بنوع منه ، فلعلّ النهي عن نوع آخر مستعمل عند أهل المعصية ، من جهة خروج القراءة به عن صدق التلاوة عرفا ، كما أشرنا إليه.

وثانيا : على تسليم دلالة العمومات المانعة من التعارض مع المجوّزة بالعموم من وجه ، فيرجع إلى الأصل المقتضي للجواز أيضا.

وموافقة الأولى للكتاب ، بضميمة الأخبار المفسّرة ، لو أغمضنا عما فيه من المناقشات السابقة ، معارضة لموافقة الثانية له ـ أيضا ـ في قوله تعالى ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) (٢) بضميمة تفسيره في رواية أبي بصير : بأنّه المكث فيه ، وتحسين الصوت به.

ومنها : الغناء في سائر الفضائل ، من الخطب والمناجاة والدعاء وغيرها من الكلمات

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦١٤ ، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ، الحديث ٣.

(٢) المزّمّل (٧٣) : ٤.


الحقّة ، مما يقصد به الترغيب إلى الله تعالى ، والسوق الى الجنة ، ومذاكرة نعم الله سبحانه وفناء الدنيا وأمثال ذلك. والأوجه فيه الجواز أيضا للأصل السالم عن المعارض المعلوم ، مضافا إلى ظهور مرسلة الفقيه المتقدّمة (١) فيه بالتقريب المذكور.

تتميم : كما يحرم التغني ، يحرم استماعه اجماعا ، له ، وللمستفيضة المانعة عن بيع المغنّيات ، وشرائهن ، المحمول على قصد التغنّي به ، حسب ما مرّ.

وظاهر أنّ المقصود ـ حينئذ ـ استماع الغناء منهنّ ، لا التغنّي لأنفسهنّ ، لحصوله قبل البيع أيضا ، وخصوص رواية الطاطري (٢) المتقدّمة ، بما في آخرها من قوله عليه‌السلام : واستماعهنّ نفاق. وقريبة منها الأخرى ، ومرسلة المدني (٣) ، سئل عن الغناء ، وأنا حاضر. فقال : « لا تدخلوا بيوتا الله سبحانه معرض عن أهلها ، فإنّها ظاهرة في كون النهي باعتبار استماع الغناء ، في بيوت يتغنّى فيها.

ويؤيّده رواية عنبسة : « استماع الغناء واللهو ينبت النفاق في القلب » (٤) والخبر العامّي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من ملأ مسامعه من الغناء ، لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيين يوم القيامة » قيل : وما الروحانيون يا رسول الله؟ فقال : « قراءة أهل الجنة » (٥).

ولا يشترط في حرمة استماع الغناء حرمته على المغنّي ، فلا يجوز استماعه من غير المكلّف ، وإن لم يكن عليه إثم ، لصدق الغناء ، فيعمّه دليله.

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٩٤ ، الحديث ١١٥٨.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ١٢٤ ، الباب ١٦ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢١٥٥.

(٣) نفس المصدر ١٧ : ٣٠٦ ، الباب ٩٩ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢٦٠٥.

(٤) الكافي ٦ : ٤٢٤ ، باب الغناء ، الحديث ٢٣.

(٥) مجمع البيان ٨ : ٣١٤ ، ذيل الآية ٦ من سورة لقمان.


[ المشرق العاشر ]

[ في صحة صلح الزوج عن حق رجوعه في العدّة الرجعية ]

مشرق : قد اشتهر بين جمع من أفاضل من عاصرناه ، صحّة صلح الزوج عن حق رجوعه في العدّة الرجعية ، فيصير به الطلاق بائنا. ولم أر في كتب الفقهاء من تعرّض لهذه المسألة بخصوصها ، عدا الفاضل الكامل القمّي (١) ، حيث أفتى بصحّته ، وتبعه غيره ممن جوّز. وأنكره والدي العلّامة وهو في محلّه.

ولبيان جليّة الحال ، لا بدّ من بيان حقيقة الصلح وأقسامه ، وتحقيق المناط لما صحّ فيه الصلح. فنقول : الصلح عقد دلّ على شرعيته إجماع المسلمين ، واستفاضت عليه أخبار المعصومين عليهم‌السلام ، ففي النبويّ ، والمرسل من طريق الخاصّة في الفقيه (٢) ، المنجبرين بالشهرة العظيمة ، رواية وعملا : « الصلح جائز بين المسلمين ، إلّا صلحا أحلّ حراما ، أو حرّم حلالا » ونحوهما الصحيح ، بغير استثناء (٣). وفي معناها غيرها من الصحاح وغيرها.

__________________

(١) جامع الشتات ٣ : ١٥٣.

(٢) الفقيه ٣ : ٥٢.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٤٤٣ ، الباب ٣ من أبواب الصلح ، الرواية ٢٤٠١١.


وبيان معنى الاستثناء ، ودفع ما أورد عليه من الإشكال ، ليطلب مما حقّقناه في استثنائه في الشرط ، فلا نعيده.

ثمّ الصلح لا يتوقّف على سبق الدعوى ، ولا توقعه إجماعا منا ، وإن كان في الأصل شرّع لدفع الخصومة ، فاطّرد في غيره ، مثل المشقّة في حكمة القصر ، ونقص القيمة في الردّ بالعيب ، واستبراء الرحم للعدّة ، ونحوها ، فيحكم به في غير مورد الحكمه ، مضافا إلى الإجماع بعموم النصّ.

وما قيل : باختصاص الإطلاقات بما تحقّق فيه التنازع ، ولو متوقعا ، والتعميم بعدم القائل بالفرق غير متجه ، لأنّ معنى الصلح الواقع في إيجاب العقد ، المحمول عليه الإطلاقات ، يوافق المصطلحين ، بما تسالما واصطلحا عليه ، وهو يشمل غير صورة التشاجر والتجاذب أيضا.

وكيف كان ، فهو عقد لازم ، يشترط فيه الصيغة الخاصّة من الإيجاب والقبول اللفظيين بشرائطهما ، كسائر العقود اللازمة ، كما مضى في بعض ما تقدّم ، وإن قلنا بجواز المعاطاة في صلح المعاوضة ، على غير وجه اللزوم.

وإيراد المحقق الأردبيلي (١) في اشتراط الصيغة ، بمخالفته للأصل وظاهر الأخبار ، غير مقبول. ضرورة أن ليس المراد بالصلح فيها مجرّد التسالم على ما اتفقا عليه ، الذي هو معناه اللغويّ ، بل ما يعمّ الإنشاء العقديّ ، ولذا كان من العقود إجماعا ، فهو محمول على المعاملة المعهودة في الشرع ، فلا يصحّ التمسّك في صحّة مطلق ما صدق عليه معناه لغة بالإطلاق ، وإن صحّ ذلك بالنسبة إلى سائر الشرائط ، حسب ما تقرر فيما مضى. مضافا إلى أنّ مدلول الإطلاقات ، مجرّد الصحة ، دون اللزوم.

ثم الصلح عقد مستقلّ لا يتفرّع على غيره من العقود ، وإن أفاد فائدته ، كما هو

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٩ : ٣٣٥.


المشهور ، بل عن التذكرة (١) والتحرير (٢) : الإجماع عليه ، بل من غير خلاف بيننا ، عدا المحكيّ عن الشيخ (٣) ، وفاقا له للشافعي ، من أنّه بيع ، أو اجارة ، أو هبة غير معوّضة ، أو عارية ، أو إبراء فهو الحجّة.

مضافا إلى أنّ الاستقلال مقتضى أدلّة الصلح بضميمة الأصل ، بل ظهور كثير منها فيه. نعم ، هو عقد واسع يقع في موارد أكثر العقود ، ومع ذلك متّسع باحتماله ما لا يحتمل غيره ، مما يفاد مفاده من وجوه كثيرة.

منها : أنّه يصحّ مع الإقرار والإنكار ، ففي الأوّل ظاهرا وباطنا ، وفي الثاني ظاهرا ، فيحرم على المبطل ما يدفعه إليه المحقّ ، أو بقى من ماله عنده ، ولو مقدار ما دفع إليه من العوض في المصالحة عن العين ، بفساد المعاوضة واقعا.

وإنّما يحكم بالصحّة في ظاهر الشرع ، إلّا على فرض رضى المحقّ بالصلح باطنا اجماعا في الجميع ، مضافا إلى أدلّة الصلح المعتضدة بعموم قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) في الصحّة الظاهرية ، وخصوص صحيح عمر بن يزيد (٤) ورواية علي بن حمزة (٥) في الفساد الواقعي في صورة الإنكار.

وربما يناقش تارة : في صحّته ظاهرا بأنّها غير متصوّرة ، مع القطع بكون أحدهما مبطلا ، فلا يكون الفساد الواقعيّ مشتبها ، فكيف يحكم بصحّته ظاهرا.

وأخرى : في فساده باطنا ، بأنّه إذا توجّهت الدعوى بالتهمة ، يتوجّه اليمين على المنكر ، من غير ردّ ، ولو كانت الدعوى مستندة إلى قرينة ، فصالحه على إسقاطها

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ١٧٧.

(٢) تحرير الأحكام ١ : ٢٢٩.

(٣) المبسوط ٢ : ٢٨٨ و ٢٨٩.

(٤) وسائل الشيعة ١٣ : ١٦٤ ، الباب ٣ من أبواب أحكام الصلح ، الرواية ٢٤٠١٤.

(٥) نفس المصدر : الرواية ٢٤٠١٦.


بمال ، أو على قطع المنازعة ، فاليمين حقّ للمدّعي ، يصحّ الصلح لإسقاطه. ومن هذا قوّى صحّته ـ مطلقا ـ في المسالك (١) ، واحتمله في جامع المقاصد (٢).

ويندفع الأوّل : بأنّ شرعية الصلح ، أوجبت صحّته الظاهرية ، عند عدم تعيّن المبطل. والثاني : بأنّ حقّ الدعوى وحقّ اليمين ، من الحقوق الظاهرية ، فلا ينافي وقوع الصلح على إسقاطه الفساد باطنا ، ولذا لو انكشف الحال بعد الصلح بإقرار ونحوه ، يحكم بفساد الصلح ظاهرا أيضا. ولا يتوهّم ذلك في الصلح ، في صورة الإقرار ، إذا انكشف أحد العوضين مستحقا ، كما في البيع ونحوه في المفروض ، لتسليم الفساد الواقعي فيه أيضا.

نعم ، في صورة التعمّد بالدعوى الكاذبة ، كما هي الغالب في الصلح الإنكاري ، لا يحلّ التصرّف للمدّعي عند نفسه ، فيما بينه وبين الله أيضا ، وإن جرى على الصحّة في ظاهر الحال ، بخلاف صورة خروج العوض مستحقّا ، مع جهل المتعاقدين.

ولعلّ هذا هو مقصودهم في المقام من الباطن في مقابل الظاهر دون الواقع.

ومنها : أنّه يصحّ الصلح عن عين بعين أو بمنفعة أو عن منفعة كذلك ، وعن الحقوق ، كحقّ الحيازة ، وحقّ التحجير ، وحقّ الشفعة ، بحقّ مثله أو بعين أو منفعة.

كلّ ذلك بالإجماع والعمومات ، لصدق عقد الصلح على ما يفيد إنشاء ما توافقا عليه من الأمور المذكورة.

ومنها : أنّه يصحّ مع العوض ، فيكون عقد معاوضة ، وبدونه ، كما عرفت من قول الشيخ : من صحّة قيامه مقام الهبة والعارية ، لصدق معنى الصلح على المجرّد عن العوض ، حسب ما ذكر ، فيشمله العمومات.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ : ٢٦٢.

(٢) جامع المقاصد ٥ : ٤٣٧.


قال بعض الأجلّة : والظاهر أن المسألة إجماعية ، ويشعر بالإجماع ما في التذكرة ، حيث قال : لو قال : صالحني بنصف دينك عليّ ، أو بنصف دارك هذا ، فيقول : صالحتك بذلك ، صحّ عندنا ، وهو قول أكثر الشافعية ، ثم قال : وإنّما يقتضي لفظ الصلح المعاوضة ، إذا كان هناك عوض ، وأمّا مع عدمه فلا. وإنّما معنى الصلح الرضا والاتفاق ، وقد يصلح من غير عوض. انتهى.

ولا ينافيه الاتفاق على بطلان الصلح المعوّض ، إذا بان أحد العوضين مستحقا الظاهر في كون العوض من أركان الصلح ، ولذا لا يفسد النكاح بفساد المهر ، نظرا إلى عدم كونه ركنا له ، إذ غايته كون العوض ركنا للصلح الواقع بقصد المعاوضة ، ولا يقتضي ذلك كونه ركنا لمطلق الصلح. وأما النكاح ، فليس المهر ركنا له مطلقا ، ولذا يصحّ بدون ذكره ، ويرجع إلى مهر المثل.

ومن هذا صلح الدين على بعضه أو العين كذلك ، ويسمّى صلح الحطيطة ، بأن يقال : صالحتك نصف ديني على أن تعطيني نصفه ، أو صالحتك داري على نصفها.

ومنها : أنّه يصحّ الصلح مع جهالة العوضين ، بلا خلاف فيه في الجملة ، بل عن المسالك (١) وغيره : الإجماع عليه لإطلاق الأدلّة ، وخصوص الصحيح ، في رجلين كان لكلّ واحد طعام عند صاحبه ، لا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ، ولي ما عندي. فقال : « لا بأس بذلك إذا تراضيا ، وطابت به أنفسهما » (٢) وفي معناه غيره.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ : ٢٦٣.

(٢) الكافي ٥ : ٢٥٨ ، الحديث ٢ ؛ الفقيه ٣ : ٢١ ، الحديث ٥٣ ؛ التهذيب ٦ : ٢٠٦ ، الحديث ٤٠٧ ؛ وسائل الشيعة ١٨ : ٤٤٥ ، الباب ٥ من أبواب أحكام الصلح ، الرواية ٢٤٠١٣ ؛ وفي المصادر : « به » محذوف.


واحتمال كون المراد منه الإبراء ، كما قد يناقش به عليه ، مدفوع ، بظهوره في المعاوضة الظاهرة في الصلح ، كما فهمه الأصحاب.

ومقتضى إطلاق العبائر ، كعموم الأخبار : عدم الفرق بين الجهل بالقدر والجنس والعين والدين ، بل عن التذكرة (١) : نسبة عدم اشتراط العلم بشي‌ء منهما في الصلح إلى علمائنا أجمع ، بل صرّح فيها حاكيا عليه إجماع الإمامية عدم الفرق في تعذّر العلم مطلقا ، أو في الحال لعدم مكيال أو ميزان أو نحوهما من أسباب المعرفة وعدمه.

ولا إشكال ، بل قيل : لا خلاف في الأوّل ، كما اقتضاه النصوص.

وكذا لا إشكال ظاهرا في الثاني ، لما ذكر ، كما عن الشهيدين (٢) والفاضل المقداد (٣) ، حيث تمسّكا بتعذّر العلم في الحال ، مع قضاء الضرورة والحاجة بوقوعه ، والضرر بتأخيره.

وأمّا الثالث : فقد استشكل فيه في الرياض (٤) ، من عموم الأدلّة المعتضدة بإطلاق كثير من العبائر ، ومن حصول الغرر ، مع إمكان التحرّز عنه ، ولذا قيّد الصحة في المسالك (٥) والتنقيح (٦) ، بما إذا تعذّر تحصيل العلم بالحقّ والمعرفة الكلّية ، ثمّ قدم الثاني ، ترجيحا لعموم النهي عن الغرر على أدلّة الصلح ، باعتضاده للاعتبار ، ورجحانه عند الأصحاب في كثير من المعاملات ، كالبيع والإجارة ونحوهما. ومع الإغماض عنه ، فالرجوع إلى أصل الفساد.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ١٧٨.

(٢) مسالك الأفهام ٤ : ٢٦٣.

(٣) التنقيح الرائع ٢ : ١٩٩.

(٤) رياض المسائل ٥ : ٤٢٥.

(٥) مسالك الأفهام ٤ : ٢٦٣.

(٦) التنقيح الرائع ٢ : ١٩٩.


وأنت خبير بأن لا عموم للنهي عن الغرر ، بحيث يشمل المورد ، بل هو مختصّ بالبيع ، ونحوه الإجارة الملحقة به ، لظاهر الإجماع. مع أنّ الصحيح المتقدّم ونحوه ، يختصّ بصورة الجهل والغرر ، فيخصّص به عموم النهي لو كان. ومساس الحاجة الشامل له الصحيح بإطلاقه ، لا يمنع عن صدق الغرر.

ثم على تسليم التعارض ، فالترجيح لأدلة الصلح ، لاعتضادها بالإجماع المحكيّ في التذكرة (١) وإطلاق الأكثر.

ثم إنّ الجهل المغتفر في الصلح ، إنّما هو إذا لم يرجع إلى الواقع ، وأمّا معه وإن خلى عن الغرر ، كصلح أحد العبدين المتشابهين المتحدين في القيمة ، فهو يمنع الصحة ، لمنافاته الإنشاء التنجيزي الذي هو شرط العقود مطلقا حسب ما تقدّم في الشرط.

ومنها : أنّه يصحّ الصلح عن الحقّ إسقاطا ، كصلح حقّ الدعوى للمدّعى عليه ، وحقوق الخيار لمن عليه الخيار ، ونقلا كصلح حق التحجير ، إلّا أنّه يجب الاقتصار فيما يصحّ الصلح عنه مما يطلق عليه الحق بهما دون غيرهما.

بيان ذلك : أنّ ما يطلق عليه الحقّ على أقسام :

منها : الحقّ المالي بلا واسطة ، كحق الملك لعين أو منفعة أو دين ، أو بواسطة ، كحقّ الخيار وحقّ الشفعة وحقّ التحجير وحقّ الدعوى وأمثالها ، فإنّ متعلّق الحقّ فيها ليس نفس المال ابتداء ، بل هو التسلط على ما يوجب حصوله.

ومنها : حقّ الانتفاع لغير المال بلا واسطة ، كحقّ الزوجية وملك البضع وحقّ الجلوس للسابق في المسجد ونحوها ، أو بواسطة ، كحقّ الرجوع في الطلاق الذي هو التسلط على ما يوجب الانتفاع.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٣ : ١٧٨.


وقد يطلق الحقّ على غير ذلك ـ أيضا ـ مما يؤول إلى هذا المعنى ، كحق المؤمن وحق الجار ، من التعظيم والإحسان والإجابة والإعانة.

وحيث إنّ مورد الصلح ـ كما أشرنا إليه ـ يختصّ بما يصلح للإسقاط أو النقل باختيار العبد ، بل لا معنى للصلح في غيره ، والقدر الثابت من الإجماع وغيره ، إنّ القابل لهما ما كان من الأوّلين ، أي الحقوق المالية دون غيرهما ، بل صرّح جمع من الفقهاء في وجه صحة صلح حق الشفعة بأنه من الحقوق المالية ، فيصحّ الصلح عنه وظاهر كلامهم هذا عدم صحّته في الحقوق الغير المالية. ودليل الصلح مع ما فيه من الاستثناء بقوله : « إلّا ما أحلّ حراما أو حرّم حلالا » غير معلوم الشمول ولا مظنونه لأمثال ذلك التي متعلّق الصلح فيها حقيقة الحكم الشرعي ، بل الثابت من مدلوله ، صحّته فيما ثبت من الشرع صلاحيته للنقل والإسقاط ، بأن كان للمكلّف الخيرة فيهما ، لا من قبيل الأحكام الستّة الوضعية والولايات القهرية الشرعية ، فيصطلحا على عدمها. ولذا لا يصحّ صلح الوصيّ عن وصايته ، والوليّ عن ولايته ، بل لا يجوز صلح المؤمن أو الجار عن حقوقهما الثابتة لهما في الشرع ، من الإحسان والتكريم والمواساة وحسن المعاشرة.

وبالجملة : كلما يطلق عليه لفظ الحقّ ، أو أمكن التعبير عنه به ، كحقّ الصلاة في المسجد والجلوس في الأرض المباحة وأمثال ذلك من وجوه الانتفاعات ، لا يلازم صحّة الصلح عنه ، بل يجب أن يكون متعلّقة ممّا يثبت من الشرع قابليته للنقل أو الإسقاط. وعموم « كلّ صلح جائز » ، لا يدلّ على صلاحية مورد الشك لهما ، كما لا يدلّ عموم ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) على قابلية العين للتملك والتمليك ، مما يشكّ فيه ذلك. ولو أبيت عن ذلك ، فالاستثناء المتعقّب له دلّ على عدم صلاحية ما يثبت له حكم شرعيّ ـ ولو بعموم أو إطلاق لفظيّ ـ لتغييره بنقل أو إسقاط بالصلح ، فاللازم


ـ أوّلا ـ ثبوت تلك القابلية من خارج أدلّة الصلح ، ثم الاستدلال بها على صحّة وقوعهما بالصلح. ومن ذلك ينقدح عدم جواز الصلح عن حق الرجوع في الطلاق الرجعي ، لعدم ثبوت اختيار الزوج شرعا في إسقاطه ، بل يقتضي أدلّة الرجوع من الكتاب والسنة عدمه ، لأنّها تدلّ على سببية رجوع الزوج في الطلاق الرجعي بأسبابه من الأفعال الدالّة عليه ، كالنظر إلى الزوجة ولمسها وتقبيلها ووطيها وإنكار الطلاق ونحوها ، لعود الزوجية على نحو تحقّقها بعقد النكاح ، وليس حقّ الرجوع غير هذا الحكم الوضعيّ الشرعيّ ، فلا يقع مورد الصلح حسب ما عرفت. ومجرّد إطلاق لفظ الحقّ لا يصحّح صلحه ، ولا يؤثر في الحكم الشرعيّ.

وهل تسلط الزوج على الرجوع إلّا كالتسلط على إحياء أرض الموات؟ فكما لا يصحّ صلح حقّ الإحياء قبل فعله ، ونحوه غيره من الأفعال التي جعلها الشارع أسبابا لآثار عائدة إلى الفاعل ، كذا لا يصحّ صلح حقّ الرجوع.

وإلحاقه بحقّ الخيار وحقّ الشفعة ونحوهما ، مما يصحّ الصلح عنه إجماعا ، قياس مع الفارق ، لما سمعت من كونهما من الحقوق المالية دونه ، مضافا إلى الإجماع الفارق بينهما.



[ المشرق الحادي عشر ]

[ في بيان تعارض الاستصحابين وأقسامه ]

مشرق : في بيان تعارض الاستصحابين وأقسامه ، وحيث إنّ المقام من مزلات أقدام ، واختلاف سهام نقض وإبرام من أقوام ، ومنشأ ذلك ـ غالبا ـ عدم تنقيح مناط التعارض ، فينبغي أن نفصّل الكلام فيما يضبط به محلّ التعارض وما يرجح به أو يعمل بهما ، أو يتساقطان.

ولنبيّن أوّلا : ضابطة في بيان ما يتبع استصحاب المستصحب من الأحكام والآثار وما لا يتبعه.

فنقول : ما يستلزم الحكم المستصحب الواقعي ـ وجوديا كان أو عدميا ـ على وجوه ثلاثة ، لأنّه إمّا يكون من توابعه ولوازمه في الوجود عقلا أو شرعا أو عادة ، فكان المستصحب مقدّما عليه ذاتا وملزوما له ، كأن يكون علّة له أو جزء علة أو تتميما لعلّته ، أو يكون عكس ذلك. فكان المستصحب لازما ومسبوقا له ، أو هما متلازمان في الصدق ، لجهة خارجة عن ذاتهما ، أو لكونهما لازمين لملزوم واحد.

فإن كان الأوّل ، فإذا أثبت الملزوم بالاستصحاب ، فالظاهر ـ بل لا ينبغي الريب فيه ـ وجوب الحكم به بتبعية اللوازم للملزوم ، والمستصحب يستتبعه ، سواء كان


الاستصحاب جاريا في نفس اللازم أيضا ، أم لا.

ففي استصحاب الملكية يحكم بتوابعها ، كصحّة البيع والإجارة والإعادة والانتقال إلى الوارث ، وغير ذلك مما يترتّب على الملك. وباستصحاب طهارة الماء ، بجواز شربه وصحّة الوضوء منه وتطهر ما يغسل به ، وغيرها من آثار الطهارة وتوابعها الشرعية.

والظاهر وقوع الإجماع عليه ، كما يستفاد من سيرة العلماء في الفقه والأصول ، وإن غفل عنه بعضهم في بعض صور تعارض الاستصحابين ، كما سننبّه عليه.

ومن تتبع كتب الأصحاب وروال طريقتهم في استنباط الأحكام ، لم يبق له تأمّل في اتفاقهم عليه. ووجهه ـ مضافا إلى الإجماع ـ أنه إذا علم سببية شي‌ء لأمر واستتباعه له وترتّبه عليه ، فعند الحكم بثبوته شرعا ـ ولو بدليل تعبديّ ـ يحكم بالسبب ـ ولو تعبّدا ـ أيضا ، تحقيقا لمعنى السببية والمتبوعية ، بل معنى استصحابه تعبّدا ليس إلّا ترتيب آثاره ولوازمه عليه ، بناء على بقائه.

ألا ترى أنه إذا قال الشارع : الماء الطاهر يرفع الحدث ، وإذا شككت في طهارة الماء ونجاسته فابن على طهارته ، يفهم منه كل أحد ثبوت الرافعية المذكورة له عند البناء على بقاءها.

ويدلّ عليه ـ أيضا ـ جملة من أخبار الاستصحاب ، كالمتضمّن لصحة الصلاة مع الثوب الذي شكّ في نجاسته بعد العلم بطهارته ، مع أن مقتضى الاستصحاب بقاء اشتغال الذمة بالصلاة ، وسيجي‌ء مزيد بيان فيه إن شاء الله.

وإن كان الثاني ، فالذي يقتضيه النظر عدم ثبوته باستصحاب اللازم ، فلا يحكم بالملزوم بمجرّده ، إلّا إذا أمكن الاستصحاب في نفس الملزوم ـ أيضا ـ فإذا نذر أن لا يجلس فاسقا ، صحّ استصحاب جواز المجالسة مع مجهول الفسق ، ولكن لا


يحكم به بكونه عدلا مقبول الشهادة ، وجائز الاقتداء في الإمامة ، وإن دار الاحتمال في حقّه في كونه عادلا أو فاسقا في الواقع. والظاهر كونه إجماعيا أيضا. وسرّه : أنّ وجود التابع اللازم ليس سببا لوجود المتبوع ، حتى يترتّب عليه ، بل دلالة اللازم على الملزوم ، إنّما هي باعتبار تابعيّته له في الوجود ، وكون وجوده مسببا عن وجوده وفرعا له ، تحقيقا لمعنى الملازمة والتابعية المقتضية للدلالة ، فيكشف وجوده عن سبق وجوده كشف الأثر عن سبق وجود المؤثّر.

وهذا يستقيم في الوجود النفس الأمريّ ، لا في وجوده الظاهريّ الاستصحابيّ المسبب عن دليل تعبديّ ، فإنّه بهذا الاعتبار ليس وجوده باعتبار لزومه وتبعيته للملزوم وترتّبه على وجوده ، بل هو محكوم في الظاهر بثبوته استقلالا ، تعبّدا شرعا ، بملاحظة نفسه من حيث هي مع قطع النظر عن لوازمه.

فجهة اللزوم النفس الأمريّ مرتفعة بينهما باعتبار هذا الوجود التعبديّ ، ولا دليل على ملازمة أخرى بينهما في هذا الوجود ، فلا يكشف وجوده التعبّديّ الاستقلاليّ عن وجوده ، ففي المثال المذكور ، جواز مجالسة الناذر لمجهول الفسق ، ليس باعتبار عدالته النفس الأمرية ، ولا لعدالته التعبّدية ، حتّى يكشف عنها ، بل لكونه غير معلوم الفسق. والجواز بتلك الجهة ليس لازما للعدالة ، فلا يكشف عنها.

ونحو الحكم الاستصحابيّ ما ثبت بأصل البراءة ، فلا يثبت به ملزومه الواقعيّ ، فلا يحكم بأصالة طهارة ما يشكّ في كونه ماء أو خمرا ، بصحّة الوضوء منه والتطهير به ، فإنّ تلك الطهارة ليست لازمة لمائيته ، بل يعمّ الماء والمشتبه بالخمر ، فلا يكشف عنه ، لعدم دلالة العام على الخاص ، بخلاف الطهارة الواقعية.

فإن قلت : الموضوع لا يخلو ، عن كونه ماء أو خمرا ، فحيث يحكم بكونه طاهرا يلزمه الحكم بعدم كونه خمرا ، لمنافاته الطهارة ، فيكون ماء لعدم احتمال ثالث.


قلت : لا يلزمه الحكم بعدم كونه خمرا ، بل يلزم عدم الحكم بكونه خمرا ، وهو يجتمع مع عدم الحكم بكونه ماء أيضا ، وما هو كذلك محكوم بالطهارة شرعا بحكم الأصل ، لا من جهة كونه ماء.

وإن كان الثالث ، أي كانا متلازمين في الوجود من غير ترتب وسببيّة بينهما ، فإن تلازما بحسب المفهوم ، بحيث لم يتعقّل انفكاك أحدهما عن الآخر مطلقا ، حتى في الوجود التعبديّ الظاهريّ ، كعدم المنع من الترك المدلول عليه بالأصل للاستحباب ، فيما دار الأمر بينه وبين الوجوب الذي يعلم فيه مطلق الرجحان ، أو ثبت التلازم في الوجود بينهما بدليل خارجي واقعا وظاهرا ، كما في القصر والإفطار ، يحكم بثبوت أحدهما باستصحاب ثبوت الآخر ، لفرض الدليل على التلازم بينهما بحسب الوجود الظاهريّ أيضا.

وإن لم يثبت ذلك ، فلا يحكم به ، كما في الثوبين المشتبهين بالنجاسة ، فلا يحكم باستصحاب طهارة أحدهما بنجاسة الآخر. وكما في جواز مجالسة مجهول الفسق في المثال المذكور ، فلا يحكم به بقبول شهادته ، لعدم دليل على الملازمة في الوجود الاستصحابيّ التعبديّ أيضا.

وإذا تحقّق ذلك نقول : التعارض بين الاستصحابين يقع حيث كان مقتضى أحدهما مستلزما لخلاف الآخر ، إمّا لذاتها شرعا أو عقلا أو عرفا ، أو بسبب خارجيّ ، كما إذا علم إجمالا زوال أحد المستصحبين المشتبهين وبقاء أحدهما ، كنجاسة الثوبين.

ثم الاستلزام : إمّا بالسببية من جانب ، كاليد القذرة إذا شك في زوال نجاستها ولاقت ثوبا طاهرا يحصل الشك به في نجاسة الثوب ، فيعارض ـ حينئذ ـ استصحاب طهارة الثوب استصحاب نجاسة اليد ، أو بالسببية من الجانبين ، كما إذا


وقع الكرّ تدريجا على الماء القليل المتنجّس ، فشكّ في حصول الطهارة للثاني أو النجاسة للأوّل ، نظرا إلى الخلاف في اشتراط الدفعة العرفية ، فإنّ طهارة الكرّ التي هي مقتضى استصحابها ، يزيل بعد اتصال المائين نجاسة القليل التي هي مقتضى الاستصحاب المعارض ، وبالعكس ، أو بالتلازم من غير سببية من الجانبين. فوجوه التعارض ثلاثة :

أمّا على الأوّل ، فالاستصحابان إمّا حكميان ، أي : متعلقهما أمر شرعيّ كالمثال المتقدّم ، أو أحدهما حكميّ والآخر موضوعيّ ، كما في الذبابة القذرة الرطبة التي طارت على الثوب الطاهر ، إذا شكّ في جفافها حين الملاقاة ، فيعارض ـ حينئذ ـ استصحاب الرطوبة مع استصحاب الطهارة ، والصيد المجروح إذا وقع في الماء القليل ، وعلم موته ، ولم يعلم أنّه قبل الوقوع ، فكان مستندا إلى الجرح ، أو بعده فمستند إلى الماء. ومنه استصحاب عدم التذكية ، واستصحاب الطهارة في الجلد المطروح ، لو قلنا بجريان استصحاب الطهارة.

نسب إلى بعض الفضلاء القول بالعمل بالاستصحابين في الصورتين. ويظهر من الفاضل القمّي ، ذلك في الصورة الثانية ساكتا عن الأوّل ، وعن بعضهم التوقف فيها.

وعن آخر دعوى الإجماع على العمل بالموضوعيّ.

واختار والدي العلّامة تقديم استصحاب الملزوم مطلقا ، وعبّر عنه باستصحاب المزيل ، ووافقه جمع من المحقّقين. وهو مقتضى التحقيق ، لوجوه :

الأوّل : ما سمعت من ثبوت اللوازم والمسبّبات باستصحاب الملزوم دون العكس ، فيكون استصحابه دليلا شرعيا على خلاف مقتضى الآخر. ومعه لا يجري فيه الاستصحاب ، لانتقاضه باليقين الشرعي. ولا ينعكس لعدم ثبوت الملزوم باستصحاب اللازم ، فلا ينتقض به.


فإن قلت : لا نسلم حجّية استصحاب الملزوم حينئذ ، فلا يكون دليلا شرعيا ، لاستلزامه نقض اليقين بالشك في اللازم ، فلا يشمله أخبار الاستصحاب ، إذ يلزم ـ حينئذ ـ من ثبوت مدلولها عدمه ، وهو باطل.

قلت : المنهيّ عنه في قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » نقض اليقين ، استنادا إلى الشكّ ، أو بشي‌ء باعتبار الشكّ في مزيليته ، لا باعتبار دليل شرعي دلّ على مزيليته ولو تعبّدا.

فإن قلت : من الأخبار ما دلّ على المنع عن النقض عند الشك مطلقا ، ولو بغيره ، كقوله عليه‌السلام في رواية ابن عمار : « إذا شككت فابن على اليقين » (١) وهو يشمل النقض بسبب استصحاب المزيل.

قلت : أوّلا سياق الكلام ظاهر ومتبادر في النهي عن هدم اليقين بسبب الشك ، كما في مثل قوله : « إذا سافرت للصيد فلا تفطر أو ابن على الصوم » أي : لا تجعل سفر الصيد ناقضا للصوم ، فلا يدلّ على حرمة الإفطار فيه لمرض ونحوه.

فلا يدلّ الخبر على البناء على اليقين عند الشكّ بسبب تعبديّ آخر ، سيما بملاحظة سائر أخبار الباب ، الناهية عن النقض بسبب الشكّ أو عدم الاعتناء بالشكّ ، كصحيح زرارة (٢) ، ورواية الخصال (٣) ، وغيرهما (٤).

وثانيا : أنه لو سلّم فيه الإطلاق ، فهو يعمّ ما إذا كان هنا مزيل مسبوق بالعلم

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣٥١ ، الرواية ١٠٢٥.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الرواية ٦٣١.

(٣) الخصال ١ : ١٦٠ و ١٦٥ ( في حديث الأربعمائة ) ؛ ورواها عنه في الوسائل ، نفس الموضع ، الرواية ٦٣٦.

(٤) وسائل الشيعة ٤ : ٢٢٢ ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، الرواية ٥٢٤٠.


بمزيليته أم لا ، فيخصّص بسائر الأخبار ، كالصحيح المزبور الدال على استصحاب المزيل دون المزال ، بالتقريب المذكور في مورد التعارض.

وثالثا : أنّ غاية الأمر عدم شمول هذا الخبر لشي‌ء من الاستصحابين المتعارضين ، لئلا يلزم التناقض والتدافع في مدلوله ، وحمله على غير صورة التعارض ، فيرتفع من البين في الفرض ، ويبقى ما أشرنا إليه من الصحيح وغيره ، الدال على استصحاب المزيل دون المزال ، عن المعارض.

الثاني : الاتفاق الظاهر من طريقة الأصحاب لمن جاس خلال الديار ، على العمل بمقتضى المزيل ، كما تقدمت الإشارة إليه.

وخلاف بعض من تأخّر في مورد أو موارد عديدة ، كمسألة الصيد والجلد المطروح ، لشبهة حصلت له فيه ، غفلة عن القاعدة الاستنباطية الاتفاقية ، غير قادح.

ألا ترى اتفاقهم على حصول الامتثال بالصلاة مع الطهارة الاستصحابية ، والتطهّر من الحدثين بالماء الطاهر الاستصحابي ، والبراءة عن العبادة في الوقت الاستصحابيّ ، وصحّة التصرفات الناقلة التي على خلاف الاستصحاب في الملك الاستصحابيّ إلى غير ذلك مما لا يحصى من موارد مثل هذا التعارض.

فمن تتبّع في أمثال ذلك ، يحصل له القطع بأن تقديم استصحاب الملزوم قاعدة مسلمة بينهم ، وسرّه ما أشرنا إليه في المقدّمة.

الثالث : أنّ كثيرا من الأخبار الدالّة على حجّية الاستصحاب متضمّنة لتقديم المزيل ، كما أشرنا اليه ، كصحيح زرارة (١) الذي هو العمدة في الباب ، المصرّح لصحّة الصلاة باستصحاب الطهارة ، مع أنّ الشكّ في الطهارة يوجب الشكّ في صحّة الصلاة المنافية لاستصحاب الاشتغال. ونحوها صحيحته الأخرى ، وصحيح ابن سنان ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الرواية ٦٣١.


وموثق ابن بكير. والتفريق بين الموارد تحكّم محض.

هذا ، ويظهر مما اخترناه ، وأصّلناه تقدّم استصحاب الموضوع على استصحاب الحكم ، والأصول اللفظية على الأصول الشرعية ، كما هو المعمول به عندهم ، لمكان المزيلية والملزومية.

وأما على الثاني ، فيسقط الاستصحابات عن الحجّية ، إذا لم يكن لأحدهما مرجّح ، ويبنى الحكم على ما يقتضيه أصل البراءة إن أمكن ، وإلّا فعلى ما يقتضيه الاستصحاب في خصوص نفس اللوازم والأحكام ، فلا يلاحظ فيها ترتّبها على استصحاب الملزوم ، بل المناط استصحاب أنفسها مستقلا.

أمّا طرحها ، فلأنّ الترجيح ممتنع ، والجمع غير ممكن ، والتخيير فرع الحجّية التي هي موقوفة على شمول الأدلّة لمورد الفرض ، وهو مع لزوم التدافع غير متصوّر.

وأمّا العمل بمقتضى الاستصحاب في نفس اللوازم ، فلخلوّه عن المعارض ، ولا يثبت باثبات اللازم بالاستصحاب وجود الملزوم الممنوع بالمعارض ، لما عرفت في المقدّمة.

وأما على الثالث ، أي التعارض بالتلازم من غير سببية ، فالظاهر الموافق لجماعة العمل بالاستصحابين فيما يترتّب على أحدهما خاصّة ، أي : البناء على بقاء كل من المستصحبين في جميع الأحكام المختصّة به ، دون ما يترتّب على اجتماعهما ، سواء كان التنافي في موضوع واحد ، كملكية المال المتردّد بين كونه لزيد أو عمرو ، أو موضوعين ، كطهارة أحد الثوبين المشتبهين. وسواء كان الثاني ذاتيا ، كما في الأوّل ، أو بسبب خارجيّ ، كما في الثاني.

أما وجه العمل بهما في الأحكام المختصّة ، فلانتفاء السببية والملزومية بين


مدلول أحدهما وخلاف الآخر ، فلا يوجب استصحاب أحدهما ثبوت الآخر ، لما مرّ من منع التلازم بينهما في الوجود الاستصحابيّ التعبّديّ.

وأمّا وجه ترك العمل بالأحكام المترتّبة على ثبوتهما مجتمعا ، فللعلم بانتفائها اللازم للعلم بانتفاء أحدهما في الفرض ، ففي المائين المشتبهين يحكم بطهارة ما لاقى أحدهما ، دون ما لاقيهما معا. وفي المشتبهين بالإضافة يحكم بعدم صحّة الوضوء من أحدهما دون الجميع. وفي المال المردّد بين زيد وعمرو يحكم بصحّة بيعهما معا. وهكذا.

ولا يتوهّم النقض بالحكم بالاستحباب فيما دار الأمر بينه وبين الوجوب ، مع أنّ كلّا منهما خلاف مقتضى الاستصحاب ، إذ ليس هو من باب ترجيح أحد الاستصحابين ، بل لثبوت الرجحان المشترك بينهما ، حسب ما مرّ ، ويحكم بخصوص الاستحباب ـ حينئذ ـ من باب أصالة البراءة عن حرمة الترك ، إذ الرجحان الغير الممنوع عن الترك هو معنى الاستحباب.

ومن هذا القبيل ـ المتفرّع على ما ذكرناه ـ الحكم بوجوب الأمرين المشتبهين المردّد بينهما الواجب ، فإنّه بالاستصحاب ينفي الوجوب الأصليّ المخصوص بكلّ منهما ، من حيث خصوصيته في الظاهر ، ولكن لا يمكن نفي وجوبه في الواقع ، لعدم العلم به ، وعدم كون الاستصحاب ناظرا إليه ، بل المعلوم من الواقع وجوب أحدهما معيّنا فيه ، غير معيّن عندنا ، وما هو المعلوم كذلك لم يثبت سقوط التكليف عنه ، بل مقتضى الأدلّة الشرعية المحمولة على مدلولاتها النفس الأمرية بقاء التكليف به ووجوب الأمرين معا (١) من باب المقدّمة ، تحصيلا للبراءة اليقينية عن الشغل المعلوم. ولا ينافي هذا نفي وجوب كلّ منهما أصالة ، إذ الوجوب المحكوم به من

__________________

(١) في الأصل : تبعا.


باب المقدمة ليس الوجوب الأصليّ ، للعلم بأنّ الواجب الأصليّ في نفس الأمر أحدهما خاصّة ، لا الأمران معا.

وتظهر الفائدة في الآثار الخاصة المترتّبة على الوجوب الأصليّ ، فلا يحكم به في شي‌ء منهما. فإذا نذر أحد أن يكرم زيدا العادل ، واشتبه بين رجلين ، يجب إكرامهما معا ، من باب أصالة الاشتغال لرفع البراءة اليقينية ، ولكن لا يقبل شهادة واحد منهما ، إلّا إذا شهدا معا ، فيقبل عدلا واحدا.

تتميمات :

الأوّل : إذا تعارض استصحاب مع استصحابين أو أكثر ، فإن كان الأقل مشتركا ، فهو المتعين ، وهو ظاهر ، وإلّا ـ كما إذا علم وقوع معاملة ولم يعلم أنها البيع أو الصلح أو الإجارة ، أو قدوم المسافر ولم يعلم أنه زيد أو عمرو أو بكر ، فظاهر جماعة ممن عاصرناه تقديم الأكثر ، لأقلّية خلاف الأصل فيه ، ولأنّ الأقلّ يعارض ما يساويه من الأكثر ، ويبقى الزائد بلا معارض ، فيعمل به.

وضعّفه والدي العلّامة ووجهه أنّ الفرار عما يخالف الأصل (١) ليس لقبح ذاتيّ ومفسدة عقلية ، حتى يقدّر بقدر الضرورة ، بل لمجرّد التعبّد الثابت من أخبار الاستصحاب ، ونسبتها إلى الجميع نسبة واحدة ، ولا يمكن شمولها للمتعارضين الذي لا يمكن العمل بها حسب ما مرّ لاستلزامه التناقض في مدلولها ، فإنّ قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، مخصوص ـ قطعا ـ بغير ما يوجب عدم نقض يقين آخر بالشكّ يساويه في النسبة والجهة ، فلا دليل على حجّية كلّ من الأقلّ والأكثر في محلّ الفرض ، إلّا إذا كان الترجيح لأحدهما بالمزيلية ، أو أمكن العمل بالجميع على ما عرفت.

__________________

(١) في « م » : وهو في محلّه ، لأنّ الاجتناب عما يخالف الأصل.


الثاني : إذا كان حكم مسبوقا بوجوده ووجوده بعدمه ، فلا شكّ في جريان استصحاب حال الموجود المتصل بزمان الشكّ ، فهو استصحاب حال الشرع.

وهل يصحّ استصحاب حال العقل ، أي العدم السابق عليه المنفصل من الحال ، فتعارض الاستصحابان ، أم لا؟

التحقيق : أنّ الفرض على ثلاثة أقسام ، لأنّ العدم السابق : إمّا هو بحيث لا يعود من حيث هو في السابق ، بحيث لو فرض حصوله بعد الوجود اللاحق كان أثرا لمؤثّر متجدّد ، كما في الشكّ في بقاء الطهارة بخروج المذي ، لأنّه لو فرض عدمها ـ حينئذ ـ فليس هو من الحدث السابق ، بل أثر خروج المذي ، أو يكون هو السابق على فرض حصوله ، بأن علم انقطاعه في مقدار زمان ، ثم كان على حالة العدم السابق.

وعلى الثاني ، فالفرض على وجهين أيضا ، لأنّ الحكم الوجوديّ المتيقّن بعد العدم السابق ، إمّا يكون متقوّما ومقيّدا بالزمان الثابت فيه ، كما في الشكّ في بقاء مدّة الإجارة ، فإنّ الثابت في زمان اليقين بعد العدم السابق ، هو ملكية منفعة تلك المدة من العين المستأجرة ، بحيث لو فرض بقاء الإجارة في الحال ، فالثابت في الزمان المتقدّم ، غير ما هو الثابت في الحال ، فإنّ الزمان جزء مفهوم المنفعة المقصودة من التمليك في الإجارة ، ومنفعة كل زمان متقوّمة ومتشخّصة بنفس الزمان الحاصل فيه ، فلا يمكن بقاؤها في الزمان المتأخر عنه ، بل لو كانت ثابتة فيه كانت منفعة أخرى.

أو لا يكون متشخّصا بنفس الزمان ، بل كان ـ على فرض بقائه في الزمان اللاحق ـ هو عين الموجود في السابق ، كالشكّ في الخيار المردّد بين الفور والاستمرار.


أمّا على الأوّل : فلا ينبغي الشك في عدم جريان استصحاب العدم المتقدم على الوجود ، لانقطاعه رأسا.

وعلى الثاني : فالظاهر تقديم العمل باستصحاب العدم ، لإمكان بقاء العدم السابق على الوجود في زمان الشكّ حسب ما ذكر ، وعدم صلاحية الحكم الوجوديّ الثابت في زمان اليقين للبقاء في الزمان اللاحق ، لتقومه بنفس الزمان السابق ، فلا يجري فيه الاستصحاب. وعلى هذا ، إذا وقع الخلاف بين المالك والمستأجر في مدّة الإجارة في الزيادة والنقصان ، يقدم الناقص ، وعلى مدعي الزيادة الإثبات.

وعلى الثالث : ففيه وجهان :

من جريان الاستصحابين ، لإمكان بقاء كلّ من المستصحبين على حسب ما ثبت في زمان حصوله ، فيتعارضان ، فيتساقطان ، لامتناع العمل بمقتضى الوجود والعدم بالنسبة إلى حكم واحد.

ومن قوة احتمال عدم انصراف الأخبار إلى اليقين المنفصل عن زمان الشكّ بيقين آخر يخالفه ، وظهوره في اليقين المتّصل به ، ففي الخيار المتردّد بين الفور والاستمرار يعمل بمقتضى استصحاب الخيار بعد الفور ، دون استصحاب عدمه السابق على وجوده.

الثالث : قالوا : أصل البراءة لا يعارض الاستصحاب.

والظاهر : أنّ مرادهم منه في غير ما إذا كان الأصل مزيلا للاستصحاب على التقرير الذي ذكرناه ، وإلّا فلا خلاف في البناء على مقتضى الأصل ، وتقدّمه على مقتضى الاستصحاب ، كما إذا حصل للمكلّف مال يوجب استطاعته للحجّ به لو لا الدين عليه ، وشكّ في الدين ، فإنّه يبنى ـ حينئذ ـ على أصل البراءة من الدين ، ولا يعمل باستصحاب عدم الاستطاعة.

ووجهه ما تقدّم بعينه في تعارض الاستصحابين.


وأما في غير الصورة ، فظاهرهم الاتفاق على تقديم الاستصحاب ، استنادا إلى أن العمل بالأصل إنّما يكون إذا لم يعلم الشغل بدليل شرعيّ.

وفيه : أنّه يعارض بالمثل. اللهمّ إلّا بإرجاع التعارض بينهما بالمزيل والمزال ، نظرا إلى أنّ مقتضى الاستصحاب ـ وهو بقاء شغل الذمّة ـ رافع للبراءة الأصلية السابقة ، ولا عكس ، لعدم كون البراءة الأصلية سببا لزوال الحكم وارتفاع الشغل ، بل يكشف عنه كشف اللازم عن الملزوم.

ولبعض المحققين توجيهه : بأنّ دليل الاستصحاب أخصّ من دليل الأصل ، لأنّه استصحاب كل شي‌ء بخصوصه ، وعدم نقض اليقين بالشك دليل الدليل ، فعموم « لا تنقض بالقياس إلى أفراد الاستصحاب » كعموم : « إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ » ، بالنسبة إلى آحاد الأخبار ، فكما أن ذلك لا ينافي كون الخبر خاصّا إذا اختصّ مورده ، لكون العبرة في العموم والخصوص بنفس الأدلّة ، لا بأدلّة الأدلّة ، فكذا هذا. انتهى. وفيه نظر يظهر بالتأمل.



[ المشرق الثاني عشر ]

[ في أنّ الأحكام تابعة للأسماء ]

مشرق : قد اشتهر بينهم : أنّ الأحكام تابعة للأسماء ، بمعنى أنّ الأحكام يتبدّل بتبدّل أسماء موضوعاتها. وإلى هذا ينظر قولهم باشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب. وفرّعوا عليه (١) طهارة الخمر إذا انقلب خلّا ، والعذرة إذا صارت دودا ، والميتة ترابا ، والكلب ملحا ، ونحو ذلك.

واعترض عليه (٢) : بالنقض بما إذا تبدّل اللبن المتنجس بالسمن.

وأجيب عنه : بأنّ المناط تبدّل اسم الموضوع بما هو موضوع ، وفي اللبن المتنجّس ليس موضوع النجاسة اللبن من حيث هو لبن ، بل من حيث كونه جسما لاقى النجاسة ، وهو باق. ولهذا حكموا (٣) بالفرق بين الأعيان النجسة والمتنجّسة ، وقالوا بزوال النجاسة في الأولى بتبدّل اسم الموضوع ، نظرا إلى عدم بقاء موضوع

__________________

(١) منهم : المولى أحمد النراقي في عوائد الأيام : ٢٠٦.

(٢) السيد بحر العلوم في فوائده : ١١٦ ، الفائدة ٣٤.

(٣) منهم الميرزا القمّي في قوانين الأصول ٢ : ٧٤ ؛ وصاحب الفصول الغروية فيها ٣ : ٣٨٧.


ما جعله الشارع موضوعا للحكم ، دون الثانية ، فيحكم بطهارة العذرة المتبدّلة بالرماد ، دون الخشب المتنجّس المتبدّل به.

أقول : ما ذكره المجيب ، إن صحّ في موارد ، لا نسلم في أخرى ، إذ للمعترض أن لا يسلم بقاء النجاسة في رماد الخشب النجس ، قائلا : بأنّ موضوع تلك النجاسة في خصوص المورد هو حقيقة الخشب ، وإن كان من جهة كونه جسما لاقى النجاسة ، فبتبدّل الحقيقة يرتفع الحكم ، بل هو معلوم البطلان في موارد كثيرة ، كالغذاء المتنجّس إذا صار جزء للحيوان الطاهر كالغنم ، فإنّه يصير طاهرا بالضرورة.

وكذا الماء المتنجّس إذا شربه وصار بولا. ونحوه : البقولات والمطابيخ الحاصلة من المياه المتنجّسة ، فلا يحسم به مادة الإشكال ، ولم ينضبط به القاعدة المشهورة المذكورة.

وقد يجعل المعيار تبدّل الحقيقة العرفية ، وهو ـ مع كونه غير منطبق على تلك القاعدة ، لعدم اطّراد كون الاسم دائرا مدار الحقيقة ، بل قد يتبدّل بتبدّل الوصف ، كالخمر إذا صار خلّا ـ غير سديد جدّا ، لانتقاضه بالخمر المنقلب بالخلّ ، كما ذكر ، فإنّه يطهر ، دون العنب المتنجّس المنقلب به ، فليس تغيّر اسم الحقيقة معيارا كلّيا مطلقا ، نفيا وإثباتا ، إلّا أن يدّعى الكلّية في منطوق القضية دون مفهومها.

والتحقيق في المقام على وجه ينضبط به قاعدة الموضوع الذي يتبدّل به الحكم ويرجع إليها عند حصول الاشتباه في الموضوع : أنّ الشارع إذا أثبت حكما كلّيا ، كقوله : الجسم الملاقي للنجاسة يتنجّس والخمر نجس ، فهذا الحكم يثبت لكل فرد شخصيّ موجود يصدق عليه هذا الموضوع الكلّي. فموضوع هذا الحكم على الوجه الكلّي ـ أعني المفهوم ـ أمر واحد ، وهو العنوان الذي جعله الشارع عنوان الموضوع ، ككونه جسما أو خمرا. وعلى الوجه الجزئي أمور كثيرة ، هي الأفراد


الشخصية الموجودة ، وموضوعية كلّ منها إنما هي بوجود نفسه من حيث كونه مصداقا لهذا العنوان الكلّي ، فيشترط في بقاء موضوعيته أمران :

أحدهما : وجود نفسه. وثانيهما : بقاء وصف العنوان له.

وحيث إنّ كل شي‌ء موجود ، فتشخّصه وبقاء نفسه إنّما هو بحقيقته النوعية ، دون مجرّد مادّته الهيولائية ، كما دلّت عليه الحكمة العقلية ، ويساعده الصدق العرفيّ ، فارتفاع الموضوع الذي تدور به الحكم في كل فرد ، إمّا بارتفاع عنوان الموضوع الكلّي ، وإن لم يتبدّل به حقيقة الفرد ، كصيرورة الخمر خلّا ، أو تبدّل الحقيقة الفردية ، وإن كان العنوان الكلّي باقيا ، كصيرورة الحطب المتنجّس رمادا ، أو الغذاء المتنجّس لحم الحيوان الطاهر.

وأمّا إذا لم يتبدّل الحقيقة ، ولا العنوان المذكور ، وإن انقلب له وصفا آخر إلى غيره ، كصيرورة اللبن النجس إقطا أو سمنا ، والحنطة النجسة دقيقا ، فالموضوع باق والحكم تابع له.

ومن هذا يظهر وجه الفرق بين الاستحالة والانقلاب المطهّرين ، فإنّ المقصود من الأوّل تبدّل الحقيقة ، ومن الثاني تبدّل الوصف الدخيل في الموضوعية.

وينقدح من هذا ـ أيضا ـ وجه الفرق في الحكم ببقاء النجاسة في تبدّل لبن نجس العين سمنا ، وزوالها بتبدّل عظمه رمادا ، كما عليها الاتفاق ، وليس الفارق إلّا تبدّل الحقيقة ، وإلّا فعنوان خصوص اللبنية أو العظمية غير دخيل في العنوان الكلّي من غير فرق بينهما.

ولعلّ قولهم : الأحكام تابعة للأسماء ، كان ناظرا إلى خصوص تغيّر الموضوع ، بالاعتبار الأوّل ، أعني اسم ما جعل عنوانا للموضوع الكلّي. وكيف كان ، فهو غير مناف لتبعية الحكم للجهة الثابتة أيضا ، والقاعدة الجامعة لهما ، ما اتّفقوا عليه من


اشتراط عدم تغير الموضوع في الاستصحاب ، وعدم جريانه عند تغيّره ، فإنّه يأتي في القسمين.


[ المشرق الثالث عشر ]

[ في تداخل الأسباب الشرعية ]

مشرق : اختلفوا في أنّ الأصل تداخل الأسباب الشرعية أو عدمه ، بمعنى أنّه إذا جعل الشارع أمرا واحدا مسبّبا لسببين مستقلين أو أكثر ، فهل يكتفي به مرّة عند ورود تلك الأسباب المتكثّرة دفعة أو بالتعاقب ، أم لا؟

حكى الأوّل عن جماعة (١) ، واختاره والدي العلّامة (٢) ، ونسب الثاني إلى غيرهم ، ولعلّه الأكثر (٣).

وربما فصّل بين اتحاد السببين نوعا ، كوقوع كلبين في بئر ، فالأوّل. واختلافهما بوقوع كلب وانسان فيه ، فالثاني.

وليعلم أنّ الكلام في هذا المقام ، غير البحث عن تكرر الأمر بتكرر الشرط ، فإنّ

__________________

(١) منهم : المحقق الخوانساري في المشارق : ٦١.

(٢) مستند الشيعة ١ : ١١٠ ، الفرع العاشر من فروعات الوضوء.

(٣) العلّامة في قواعد الأحكام ١ : ٣ ؛ وتحرير الأحكام ١ : ١٢ ؛ وإرشاد الأذهان ١١ : ٢٢ ؛ ابن فهد في الموجز ( الرسائل العشر ) : ٥٤ ؛ المحقق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٨٧ ؛ الشهيد الثاني في روض الجنان : ١٨ ؛ الفاضل الهندي في كشف اللثام ١ : ١٢.


الكلام ثمة في أمر لفظيّ هو اقتضاء القضية الشرطية استمرار السببية وعدمه ، والحقّ فيه اقتضاؤها الاستمرار ، إذا كانت الأدوات مما يقتضي العموم والدوام ، نحو مهما وأنّى وحيثما وكيفما وأشباهها ، وعدمه إذا كانت من أداة الإهمال نحو إن ولو وإذا وما في معناه من الأسماء المتضمّنة لمعنى الشرط ، نحو من وما وغيرهما.

وأما هنا ، ففيما علم استمرار السببية إن كان واحدا ، وتعدّد السبب إن كان مختلفا.

وكذا الخلاف فيما لم يتخلّل المسبّب بين السببين ، وإلّا فعدم التداخل اتفاقيّ ، كما إذا وقع الكلب في البئر ، فنزح ، ثم وقع فيه ثانيا.

وكذا الظاهر : اختصاص الخلاف بما كان المسبّب فعل المكلّف ، كالكفارات والأغسال والمنزوحات ونحوها لا من قبيل الأوصاف الشرعية ، كالزوجية والملكية والرقّية والطهارة والنجاسة وأمثالها ، فإنّه إذا حصل مثل ذلك بسبب ، يمتنع تأثير السبب اللّاحق فيه ، فإذا تملك بالبيع مثلا ، لا يملك بالصلح ثانيا ، بل يكون اللاحق لاغيا.

فالمسبّب هو الوصف عن عدمه لا عن وجوده ، فإنّ البول ينجّس الطاهر لا المتنجّس ، كما أنّ الغسل يطهر النجس لا الطاهر. فالسببية ـ حينئذ ـ يتبعه شرعا ، ولا هكذا الفعل ، كما سننبّه عليه.

وإذا علمت ذلك ، فقد استدلّ على التداخل بالأصل والبراءة عن الإتيان بفعل المسبّب ثانيا. وفيه : أنّ الأصل قد يقتضي التكرّر ، كما إذا كان وجوب المسبّب لرفع أمر واقع ، كما في المنزوحات ، على القول بكونها لتطهير البئر ، فالدليل أخصّ من المدّعى ، مع أنّ الأصل لا يقاوم الدليل ، والخصم مستظهر به.


واحتجّ الآخرون بوجوه :

الأوّل : أنّ المتبادر من السببية عدم التداخل ، واختصاص كل سبب بمسبّب لخصوص نفسه. وفيه : أنّ التبادر ـ لو سلّم ـ ففيما كان دليل السببية قضية شرطية ، والمقصود في المسألة ما يعمّ ذلك ، فقد يكون الدليل غير اللفظ ، كالإجماع ونحوه ، أو اللفظ ، وهو غير القضية الشرطية ، مع أنّ دعوى اطّراد التبادر في أمثال القضايا الشرطية ممنوع جدا ، بل لا يبعد تبادر التداخل فيما إذا كانت الأسباب مختلفة وتواردت دفعة ، كما إذا قال : إن جاء زيد فصم ، وإن جاء عمرو فصم.

نعم ، دعوى التبادر فيما إذا اتّحد السبب وتكرّر بالتعاقب ـ كما إذا قال : كلّما جاء زيد فأعطه درهما ، أو صم يوما ـ غير بعيدة.

الثاني : أنه لو تداخل السببان ، كإفطار يوم رمضان ، ومخالفة النذر في وجوب الكفارة ، فالسبب الثاني ، إمّا يوجب الكفارة التي أوجبها الأوّل بعينها ، فيلزم إيجاب الواجب ، وهو باطل ، أو لا يوجب سببا ، فهو خروج عن سببيته المعلومة ، أو يوجبان معا كفّارة واحدة ، فهو خلاف مقتضى السببية التامّة المستقلّة لكلّ منهما.

وفيه اختيار الأوّل ، ولا استحالة فيه ، فإنّ الأحكام الشرعية المسبّبة عن أسبابها ليست بمثابه المعلومات المترتبة على العلل العقلية التي يمنع تواردها على معلول واحد ، لجواز أن يكون شي‌ء مطلوبا من جهتين متعلّقتين (١) ، كما في نذر الواجب ، أو مبغوضا كذلك ، كحرمة وطء الأجنبية في نهار رمضان ، ونجاسة دم الكلب.

الثالث : أنّ مقتضى كل سبب الإتيان بمسبّبه ، لأجل أنّه سببه ، أي : لقصده ، ولازمه عدم التداخل. وفيه منع اللازم ، لإمكان جمع القصدين في فعل واحد ، وحصول الامتثالين به ، كما في تداخل الأغسال ، وهو جائز اتفاقا.

__________________

(١) كذا.


الرابع : اتفاق الفقهاء بحيث ربما تركوا لسببه الظواهر. وفيه : منع الاتفاق على الكلّية ، وإن عملوا بمقتضى عدم التداخل في موارد كثيرة.

ومنه يظهر ضعف التمسّك باستقراء الشرعيات ، وكون المدار فيها على تعدّد المسبّبات بتعدّد الأسباب ، كما في أسباب الصلاة والصوم والزكاة والحجّ والديات والحدود وغيرها.

وإذا عرفت ضعف أدلّة الطرفين ، فمقتضى النظر : أنّ مقتضى السببية ترتّب المسبّب على السبب ، فالمسبّب إن كان من الأحكام الطلبية ـ وفي حكمها ما يؤول إليها من الأحكام الوضعية ، من الشرطية والمانعية وغيرهما ـ أمكن حصول هذا المقتضى للسببين بمسبّب واحد ، ويكفى في الترتّب عليهما تعدّد الجهة ، كما في نذر الواجب ، وتداخل الغسلين لإمكان مطلوبية فعل واحد ومبغوضيته من جهتين. وكذا مانعيته أو شرطيته ، فالأصل فيه التداخل ، لإمكان الامتثال لهما بفعل واحد ، وأصالة البراءة عن الزائد ، ولا يوجب التداخل إسقاط المؤثّر عن التأثير ، فكان على خلاف الأصل ، كما توهّمه بعض الأجلّة.

وإن كان من غيرها ، فلم يكن موضوعه من فعل المكلّف ، بل من قبيل الأوصاف الشرعية ، كالملكية والزوجية والرقّية ، واشتغال الذمّة بحقّ الغير ، ونحوها مما يمتنع توارد العلل المتكثرة عليه ، ولا يتعقّل تعدّد السببية والتأثير إلّا بتعدّد الموضوع ، فالأصل فيه عدم التداخل تحقيقا لمعنى السببية المستقلّة لها ، فإن قلنا بالتداخل فيه ، كان هذا إسقاطا للمتأخّر عن التأثير ، وهو محتاج إلى دليل ، لكونه خروجا عما دلّ على سببية كلّ واحد منهما مستقلا.


[ المشرق الرابع عشر ]

[ في بيان قاعدة نفي الضرر ]

مشرق : في بيان قاعدة نفي الضرر (١) ، وهي من الأصول المهمّة الاجتهادية المعمولة بين الفقهاء ، يستدلّون بها على أحكام كثيرة ، طلبية ووضعية ، نفيا وإثباتا ، كحرمة السحر والغشّ والتدليس ، والاحتكار مع حاجة الناس ، وتفريق الأمّ عن الولد ، وثبوت خيارات الغبن والعيب والتدليس والتصرية وتبعّض الصفقة ، وشرعية التقاص ، وأمثال ذلك مما لا تحصى.

وقد كثر الكلام بين كثير من الأعلام ، في اندراج خصوص بعض الأحكام في تلك القاعدة ، وفي تعارض المضارّ ، وتعارض القاعدة مع قاعدة تسلّط الناس على أموالهم.

ونحن نبيّن أوّلا مدرك القاعدة ، ثمّ ما يصحّ الاستدلال عليه بها من الأحكام وما لا يصحّ ، ثمّ تعارض الضررين ، وتعارض قاعدة نفى الضرر لقاعدة الناس مسلطون.

__________________

(١) قد جاء هذه القاعدة في نسخة « م » بعد المشرق الرابع مع اختلاف كثير ، ونحن التزمنا بالنسخة المطبوعة وقابلناها مع نسخة « س ».


فهنا أبحاث ثلاثة :

البحث الأوّل : في مدرك القاعدة ، وبيان معناه المراد. وهو ـ بعد إجماع الأمة عليها في الجملة ، بين الخاصّة والعامّة ـ الأخبار المستفيضة ، بل عن فخر الإسلام (١) دعوى تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار.

منها : ما اشتهر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حكاية سمرة بن جندب ، وروى عنه بألفاظ مختلفة في أسانيد متكثرة.

ففي موثقة ابن بكير (٢) ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنّ سمرة بن جندب كان له عذق (٣) في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وكان يمرّ به إلى نخلته ، ولا يستأذن ، وكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة ، فلما أبى ، جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشكى إليه ، فأخبر الخبر ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخبر بقول الأنصاري وما شكاه ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا أردت الدخول فاستأذن! » فأبى ، فلما أبى ، ساومه حتى بلغ من الثمن إلى ما شاء الله ، فأبى أن يبيعه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لك بها عذق مذلّل في الجنّة » فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاري : اذهب ، فاقلعها وارم بها ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار ».

وفي رواية ابن مسكان (٤) ـ وهي قريبة من الموثقة ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر على مؤمن ».

وفي رواية الحذاء (٥) ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، مثل ذلك ، إلّا أنّه ليس فيها لفظ الضرر

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٤٨.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٨ ، الباب ١٢ من أبواب إحياء الموات ، الرواية ٣٢٢٨١.

(٣) العذق : النخلة بحملها.

(٤) الفقيه ٣ : ٥٩ ، ح ٢٠٨.

(٥) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٧ ، الرواية ٣٢٢٧٩.


والضرار ، بل فيها : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ما أراك إلّا مضارّا ، اذهب يا فلان ، فاقطعها واضرب بها وجهه ».

وفي أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلع العذق إشكال معروف ، لأنّه خلاف ما يقتضيه القواعد ، ونفي الضرر لا يوجبه ، مع أنه لو أوجبه يتعارض الضرران ، فما وجه الترجيح؟

وذكروا في توجيهه وجوها لا يخلو عن المناقشة. وما أظنه سالما عنها أن يقال : [ دار ] الأنصاري ، وإن كانت طريق عذقه ، وله حق الاستطراق ، إلّا أنّه يحرم على ذي الحقّ تصرفا مضرّا للجار لم يكن في تركه ضرر على نفسه ، كما سننبّه عليه.

ومن الظاهر أنّ في الإعلام بالدخول ، لتوقي أهل الدار عن الأجنبي ، لا ضرر على سمرة ، ويضرّ على أهل الدار ، فلا يجوز له هذا التصرف ، وحيث أبى بعد أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا على هذا الوجه المحرّم ، فقطع عنه ما بعثه على هذا التصرف بقلع العذق وغرسه في موضع آخر ، كما يشعر به بعض الروايات ، دفعا لتضرر الأنصاري. وكيف كان ، فهذا الإشكال لا يخلّ بالاستدلال.

ومنها : ما رواه عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مرسلا ـ في التذكرة (١) والنهاية الأثيرية : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ».

ومنها : رواية هارون بن حمزة الغنوي (٢) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، رجل يسمد بعيرا مريضا يباع ، فاشتراه رجل بعشرة دراهم ، فجاء وأشرك فيه رجلا بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضى أنّ البعير برئ ، فبلغ ثمنه دنانير. فقال : « لصاحب الدرهمين خمس

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٢٤٣ و ٢٧٧ ؛ تذكرة الفقهاء ١ : ٥٢٢ ؛ النهاية لابن الأثير ٣ : ٨١.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٣ ، الحديث ٤ ؛ التهذيب ٧ : ٧٩ ، الحديث ٣٤١ ؛ و ٨٠ ، الحديث ٣٥١ ؛ وسائل الشيعة ١٨ : ٢٧٥ ، الباب ٢٢ من أبواب بيع الحيوان ، الرواية ٢٣٦٥٩.


ما بلغ ، فإن قال : أريد الرأس والجلد ، فليس له ذلك هذا الضرار ، قد أعطى حقّه إذا أعطى الخمس ».

ومنها : رواية عقبة بن خالد (١) ، عن الصادق عليه‌السلام : « قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار ».

ومنها : روايته الأخرى عنه عليه‌السلام (٢) ، فيما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال في آخره : « لا ضرر ولا ضرار ».

ومنها : مكاتبة محمد بن الحسين (٣) ، وفيها فوقع عليه‌السلام : « يتّقى الله عزوجل ، ويعمل في ذلك بالمعروف ، ولا يضارّ بأخيه المؤمن ».

ومنها : صحيحة البزنطي (٤) : « من أضرّ بطريق المسلمين شيئا فهو ضامن ».

ومنها : صحيحة الكناني (٥) : « من أضرّ بشي‌ء من طريق المسلمين ، فهو له ضامن ».

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٨٠ ، الحديث ٤ ؛ الفقيه ٣ : ٤٥ ، الحديث ١٥٤ ؛ التهذيب ٧ : ١٦٤ ، الحديث ٧٢٧.

(٢) الكافي ٥ : ٢٦٣ ، الحديث ٦ ؛ وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٠ ، الباب ٧ من أبواب إحياء الموات ، الرواية ٣٢٢٥٧.

(٣) الفقيه ٣ : ١٥٠ ، الحديث ٦٥٩ ؛ الكافي ٥ : ٢٩٣ ، الحديث ٥ ؛ التهذيب ٧ : ١٤٦ ، الحديث ٦٤٧ ؛ وسائل الشيعة ٢٩ : ٢٤١ ، الباب ٧ من أبواب إحياء الموات ، الرواية ٣٢٢٥٨.

(٤) التهذيب ٩ : ١٥٨ ، الحديث ٦٥١ ؛ وسائل الشيعة ١٩ : ٢٣٨ ، الباب ٦ من أبواب أحكام الهبات ، الرواية ٢٤٤٩٧.

(٥) الكافي ٧ : ٣٥٠ ، الحديث ٣ ؛ الفقيه ٤ : ١١٥ ، الحديث ٣٩٥ ؛ التهذيب ١٠ : ٢٣١ ، الحديث ٩١١ ، و ٢٣٠ ، الحديث ٩٠٥ ؛ وسائل الشيعة ٢٩ : ٢٤٣ ، الباب ٧ من أبواب موجبات الضمان ، الرواية ٣٥٥٤٠.


ثمّ إنّ معنى الضرر معلوم عرفا ، ويوافق المعلوم فيه ما ذكره اللغويون ، كما في الصحاح (١) ، الضرر خلاف النفع. وقد ضرّه وضارّه بمعنى. والاسم : الضرر.

وفي القاموس (٢) : ضرّ به وأضرّه وضارّه مضارة وضرارا.

وفي المصباح (٣) : الضرّ ـ بالفتح ـ مصدر ضرّه يضرّه ، من باب قتل ، إذا فعل به مكروها وأضرّ به ، يتعدّى بنفسه ثلاثيا ورباعيا. والاسم : الضرر. وقد يطلق على نقص في الأعيان. وضارّه مضارة وضرارا بمعنى ضرّه.

وفي النهاية الأثيرية (٤) : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. الضرّ : ضدّ النفع ، ـ إلى أن قال : ـ فمعنى قوله لا ضرر ، أي : لا يضرّ أخاه ، ينقصه شيئا من حقّه. والضرار : فعال من الضرّ ، أي : لا يجازيه على إضراره. والضرر : فعل الواحد ، والضرار : فعل الاثنين. والضرر : ابتداء الفعل ، والضرار : الجزاء عليه. وقيل : الضرر ما تضرّ به صاحبك ، وتنتفع أنت به ، والضرار أن تضرّه من غير أن تنتفع. وقيل : هما بمعنى.

والتكرار للتأكيد. انتهى.

والتباس الفرق بين الضرر والضرار والإضرار ، لا يخلّ بالمقصود في المسألة ، بل المستفاد من مجموع ذلك كون الضرر ما يقابل النفع ، فكما أنّ النفع حصول الفائدة ، فالضرر فوتها ، من نقص في المال ، عينا أو منفعة ، أو في حق انتفاع ، أو في البدن ، من مرض أو بطوئه أو ألم ، أو في العرض ، من هتك حرمة محترمة في نفسه أو عياله أو من ينتسب إليه ، بحيث كان إيذاء عليه واستخفافا له عرفا ، وأشباه ذلك.

__________________

(١) صحاح اللغة ٢ : ٧١٩.

(٢) القاموس المحيط ٢ : ٧٧.

(٣) المصباح المنير ٢ : ٣٦٠.

(٤) النهاية لابن الأثير ٣ : ٨١.


وهل يصدق على عدم حصول منفعة متوقعة ، أو على ضرر يتوقع منه منفعة أو دفع مفسدة؟

أما الأوّل : فالتحقيق أنها إن كانت من توابع الملك عادة ، كثمرة البستان وماء البئر المتجدّد ونحوهما ، فنقصها ضرر قطعا ، ويصدق عليه ، فإنّه فوات أمر موجود ، هو قابلية النفع ، ويعدّ مانعه مضارا ، سواء كان منعه بإثبات اليد على الملك ، أو إحداث حدث فيه مانع عن النفع ، كهدم بئر القنات ، أو سدّ مجراها ، أو منعه عن تعمير ملكه الدائر كإصلاح خرابه الغير المنافي لصدق كونه ذا منفعة عرفا وأما إذا لم يصدق عليه ـ لخرابه ـ كونه ذا منفعة ، كقناة بائرة ، فليس منعه عن تعميره ضررا ، لعدم كونه تفويتا للمنفعة ، كما لا يعدّ منه حبس المالك عن الانتفاع بملكه ، كحبسه عن الزرع وسكنى الدار إضرارا ، فإنّه تفويت لمنفعة المالك لا الملك.

نعم ، لو حبسه من تسقية سنبله حتى فسد ، أو ترك زرع ملكه المعدّ له ، الذي فات به استعداده الفعليّ ، فالظاهر كونه ضررا أو إتلافا ، كمنفعة الملك ، بل لا يبعد صدقه على حبسه عن ترك الزرع ، قصدا لفواته ، بل مطلقا ، إذا كان المالك قادرا وعازما عليه ، وعدم امكان الاستنابة له عند حبسه عنه ، لصدق تفويت نماء ملكه.

وبالجملة : المناط الصدق العرفيّ في تفويت نفع ملكه التابع له عادة.

ومنه يظهر أنّ نقصان القيمة السوقية ، أو ذهاب المشتري لحبسه ، أو تغرير ، أو تدليس ، ليس إضرارا من الحابس ، لعدم نقص في شي‌ء موجود ، ولذا لا يضمنها الغاصب.

وأمّا الثاني : أي ما في مقابله نفع أو رفع ضرّ ، ففي صدق الضرر عليه وجهان ، بل قولان. والذي يشهد به الاعتبار ، أنّ العوض الذي في مقابل الضرر ، إن كان من الآثار القهرية ، كظهور الماء لحفر البئر ، وخروج السنبل لزرع البذر ، أو كان الضرر


مقدمة لتحصيله ، كالمسافرة للتجارة ونحوها ، مما يرتكبه العقلاء في معاشهم ومكاسبهم ، فلا يعدّ تلف المال أو تحمل المشاق فيه من أصله ضررا ، وخارج عن موضوعه عرفا ، وإن لم نقل بخروج العسر عن موضوعه حينئذ وبه يفترق العسر عن الضرر.

وإن كان العوض تداركا وجبرا للضرر الواقع ، فالظاهر عدم خروجه به عن موضوع الضرر ، ولو بعد درك العوض لظهور الفرق بين المنع عن الضرر وجبره ، كيف وإلّا لم يبق مورد لتحريم الإضرار عند تعلّق الضمان ، فلا تغفل.

ثم لا شك في أن قوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار » ليس على معناه الحقيقيّ ، ضرورة وقوع الضرر فوق ما لا يحصى ، فهو مقيّد بما يرجع إلى الدين ، كما يرشد إليه قوله عليه‌السلام : « في الإسلام » في بعض الروايات. وتوجيه الخبر ـ حينئذ ـ بأحد احتمالات ، قال بكلّ قائل.

أحدها : إرادة التحريم بحمل النفي على النهي أو نفي الجواز الأقرب إلى الحقيقة. قيل به لكون الخبر في مقام الحكم ، لا الإخبار عن صفة الإسلام.

وثانيها : إرادة نفي الضرر المجرّد عن التدارك الخارج به عن صدق الضرر عرفا ، تنزيلا لإلزام الشارع بتداركه منزلة وقوعه الرافع لصدق الضرر ، فالمعنى لا ضرر ، لم يلزم الشارع تداركه.

وثالثها : إرادة نفي ماهيّة الضرر في دين الإسلام ، بمعنى أنه لم يشرع فيه حكم يوجب الضرر ، فكان الإسلام ضارّا أو مضارّا. وبعبارة أخرى : نفي الحكم الشرعي الذي يوجب الضرر على العباد ، أي : يلزم من العمل به ضررهم ، سواء كان طلبيا أو وضعيا ، كما أنّ حكم الشارع بلزوم البيع مع الغبن ضرر على المغبون ، فهو منفيّ في الشريعة في حقّ الجاهل ، وأمّا العالم به ، فليس منشأ الضرر حكم الشارع.


والأوّل : فيه تجوّز أو تقدير ، لا دليل عليه. مع أنّ النهي لا يناسب قوله : « في الإسلام » المذكور في بعض الروايات ، الذي يصلح لكونه قرينة لتقييد غيره من المطلقات به ، مضافا إلى منافاته ـ سيما على النهي ـ لاستدلال الفقهاء ، بحيث يظهر منهم الاتفاق بنفي الضرر على ما يعمّ إضرار العباد بعضهم على بعض ، كعدم وجوب الحجّ مع خوف الطريق ، ونحوه.

وتوهّم تعميم التحريم بما يشمل صدقه على فعل الله سبحانه غير معقول ، سيما إذا قلنا بكون الخبر في مقام بيان الحكم لا الإخبار ، كما زعمه المتوهّم. وكذا ينافي استدلالهم به على الأحكام الوضعية المجرّدة عن الحكم التحريميّ ، كثبوت الخيار للمغبون. وتوجيه التحريم فيه بحرمة امتناع الغابن عن الردّ بعد فسخ المغبون غير صحيح ، إذ ليس هو للضرر ، بل لكونه من لوازم صحّة الفسخ ، وإلّا كان إقدام الغابن على البيع مع علمه بالتفاوت ، وعدم إعلامه المغبون الجاهل أولى بالتحريم. مع أنه لا قائل به.

وكذا الثاني ، بل هو أبعد من الأوّل ، في اشتماله على التقييد البعيد ، فالمعنى الأخير أظهر المحامل ، كما نصّ به والدي العلّامة (١) وتبعه غيره ، بل لعلّه يوافق الحقيقة. ولا تجوّز فيه أصلا ، لأنّ جعل الإسلام ظرفا للضرر المنفيّ ليس إلّا لعدم كون الإسلام مضرا ، وعدم تشريع حكم ضرريّ فيه ، فهو المتعيّن لما فيه نفي الضرر من الأخبار.

نعم ، قد يستلزم هذا المعنى الحكم التحريميّ وقد يستلزم الحكم بالضمان خاصة ، كما ستسمع. وأما سائر الأخبار ، فظاهر بعضها التحريم كالمكاتبة : « يتّقي الله ، ويعمل في ذلك بالمعروف ، ولا يضارّ بأخيه المؤمن » وبعضها تدلّ على مجرّد

__________________

(١) عوائد الأيام : ٤٩.


الضمان ، كالصحيحين الأخيرين.

البحث الثاني : في بيان موارد صحّة الاستدلال بقاعدة نفي الضرر ، من الأحكام الشرعية والوضعية ، نفيا وإثباتا.

قد علمت أنّ معنى نفي الضرر نفي الحكم الإضرارى في الإسلام ، وعدم تشريعه ، وصدق هذا المعنى المنفيّ مشروط بأمور ثلاثة :

الأوّل : أن لا يكون الحكم الإضراري مسببا عن فعله الجائز مع علمه بالضرر ، أو عن فعله المحرّم مطلقا ، إذ عليها كان الضرر بتقصيره ، لعلمه به في الأوّل ، وعصيانه في الثاني ، فلا اضطرار عليه من الشرع ابتداء ، لاستناد المعلول إلى الجزء الأخير من العلة ، وهو فعل نفسه ، فضرر المغبون مع علمه بالغبن صادر عن اختياره ، وإن كانت السببية للزوم بحكم الشارع. نعم ، مع الجهل يضعف المباشر ، ويقوّي السبب ، وكذا ضرر الجاني بالقصاص أو الدية ، والغاصب بالعوض ، مع علمها بحرمة الفعل ، عن فعله المقصّر فيه ، لا بإضرار الشارع ، فحكمه حكم الضرر السماوي. والاشتغال الفعلي بحق الغير ، الذي هو المناط في صدق الضرر ، حصل بفعله واختياره ، مع علمه به.

ومنه يظهر خروج أحكام القصاص والديات والحدود والضمانات والكفّارات وأشباهها عن قاعدة نفي الضرر ، بل يمكن إخراج الأحكام الإضرارية الجزائية عن موضوع القاعدة بالشرط الآتي أيضا ، أعني عدم كون الإضرار الحكميّ لرفع ضرر أقوى ، نظرا إلى أنّ الحكم بتلك المضار لرفع مفسدة العصيان ، أو تحقيقها الواقعة من نفسه على نفسه ، ( وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١).

الثاني : أن لا يقصد من الضرر جلب منفعة ، أو رفع مضرّة ، مساوية أو أقوى ،

__________________

(١) العنكبوت (٢٩) : ٤٠.


كما تقدّم والنفع المقصود يعمّ المنفعة الأخروية المتوقعة بمقتضى وعده سبحانه : ( مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ ) (١) منه ، بل النفع الأخرويّ أهمّ من الدنيوية ، وأجلّ وأبقى ، وببذل المال في تحصيله أحقّ وأحرى ، و ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ ) (٢) ، ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) (٣) فلا يعد مثله ضررا وإتلافا للمال.

وبهذا تصدّى والدي قدس‌سره للتفصّي عن النقض بالتكاليف الكثيرة الضررية الثابتة في الإسلام ، كالجهاد والحجّ والزكاة والخمس والصوم وغيرها ، حيث إنّها في مقابل المثوبات الأخروية ، فلا يكون ضررا (٤).

وأورد عليه بعض أفاضل المعاصرين (٥) بأنّ المراد بالضرر المنفيّ : الضرر الدنيويّ ، لا غير. وأمّا النفع الحاصل في مقابل الضرر الدنيويّ ، فهو إنّما يوجب الأمر بالتضرّر ، لا خروجه عن كونه ضررا ، فالأمر به مختصّ ومخصّص لعموم الضرر ، لا دافع لموضوعه ، فجميع ما أثبت التكاليف الضررية مخصّص لهذه القاعدة ، كيف ولو كان الأمر كذلك ، لغت القاعدة ، لأنّ كلّ حكم شرعيّ ضرريّ لا بدّ أن يترتّب على موافقته الأجر ، فإذا فرض تدارك الضرر وخروجه بذلك من الضرر ، فلا وجه لنفيه في الإسلام. إلى أن قال بعد تخصيصه الضرر بالدنيويّ : ـ وقد رفع الشارع الحكم في موارده امتنانا ، فيكون القاعدة حاكمة على جميع العمومات المثبتة للتكليف. نعم ، لو قام دليل خاص على وجوب خصوص تكليف ضرري ، خصّص به عموم القاعدة.

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٧٦.

(٢) البقرة (٢) : ٢٤٥.

(٣) البقرة (٢) : ٢٦١.

(٤) عوائد الأيّام : ٥٥.

(٥) هو الشيخ الأنصاري قدس‌سره في رسالة لا ضرر ؛ راجع المكاسب ( الطبعة الحجرية ) : ٣٧٣ ؛ وأيضا رسائل فقهية من منشورات المؤتمر المئوي للشيخ الأعظم الأنصاري : ١٢١.


أقول : لا يخفى ما فيه ، أمّا أوّلا : فلأن تخصيص الضرر بالدنيوي ، مع عموم اللفظ وصدقه على الأخرويّ لغة وعرفا ، يستدعي الدليل ، فكما يخرج الضرر المطلق عن موضوعه لداعي النفع الدنيويّ ، فلا يعدّ ضررا بعنوان الإطلاق عرفا ، كذا يخرجه عنه لداعي النفع الأخرويّ ، ولا يعدّ ضررا عرفا ، وإن صدق عليه الضرر الدنيويّ ، كما يصدق على الأوّل الضرر الأخرويّ والمطلق يتبع الغالب في صحّة النفي والإثبات في مثل ذلك.

قوله : لو كان كذلك لغت القاعدة ، فيه : أنّ مورد القاعدة لا ينحصر فيما بإزائه الأجر الأخروي ، كما في المعاملات الضررية والضمانات والغرامات ، بل غير العبادات من الواجبات.

وأمّا ثانيا : فلأنّ التكاليف الشاقّة الدينية التي عليها أساس الإسلام ، على حدّ من الكثرة ، يبعد ـ غاية البعد ـ أن يكون نسبتها إلى قاعدة نفي الضرر المسلمة على التعارض والترجيح والتخصيص ، بل يستلزم خروج أكثر أفراد العامّ ، سيما إذا قلنا بدخول التكاليف الاستحبابية الضررية التي أفضلها أحمزها في عموم النفي. وما أبعد هذا التخصيص ـ على كثرتها ـ عن دعواه ، وورود حديث نفى الضرر حاكما على عمومات التكاليف الضررية الشاقّة من غير حاجة إلى المرجّح.

وأمّا ثالثا : فلكونه خلاف ما جرت عليه طريقة الأصحاب في الاستدلال بتلك القاعدة ، فإنه لم يعهد من أحد أن تمسّك بنفي الضرر على عدم وجوب العبادة في محلّ الخلاف ، كعدم تعلّق الزكاة بالتمر والزبيب ، أو في مقدار النصاب ، أو في طهارة عرق الجنب من الحرام ، وأمثال ذلك. كما أنّك تريهم يستدلّون به على سقوط العبادة ، فيما كان الضرر بغير نفس العبادة أو جزئها الذي في مقابله ـ من حيث كونه واجبا ـ نفع أخرويّ ، كمقدّمة خارجة أو خصوصية زائدة ، في مثل


سقوط الحجّ بخوف الطريق ، والصوم بحدوث المرض ، ووجه الفرق ما ذكرنا.

وإن شئت تفصيل ذلك نقول : ربما يستصعب الأمر في جليل النظر ، بأنا نرى الشارع لم يرض لنا في بعض التكاليف بأدنى مشقّة أو ضرر ، كما في الرخصة في التيمّم بخوف طريق الوصول إلى الماء ، وسقوط الحجّ كذلك ، وإفطار المريض بأدنى مشقة أو طول برء ، والقعود والاضطجاع في الصلاة ، والرخصة في التقية بأدنى ضرر ، ويرضى بالمضارّ الكثيرة الشاقّة في مثل الزكاة والخمس ، والحجّ وصرف المال فيه ، والصوم في الصيف الحارّ ، والجهاد الذي فيه مظنّة تلف النفس ، وكفّ النفس عن المعاصي مع تزاحم دواعيها ، والتولّي عن أديان الآباء ، وإنفاق الأقارب وغير ذلك مما لا يحصى.

والبناء على التعارض والتخصيص في الثاني دون الأوّل ـ كما زعمه الفاضل المعاصر ـ مع ما فيه مما مرّ ـ لا يحسم مادة الإشكال ، ولا يظهر منه سرّ فرقهم بين القسمين ، مع أن الضرر الخارج بالتخصيص أفحش وأكثر من الثاني.

وربما تكلّف بعض الأجلّة في حلّه ، بأنّ المراد بنفي العسر والضرر ، نفي ما هو زائد على ما هو لازم طبائع التكليفات ، بالنسبة إلى طاقة أوساط الناس المبرّئين عن المرض ، والعذر الذي هو معيار مطلقات التكليف. ولا يخفى ما فيه من النظر ـ أيضا ـ من وجوه.

والذي يختلج ببالي في وجه الفرق ، هو دقيقة لطيفة يرجع إلى ما ذكرناه ، من اختلاف جهات الوجوب في قسمي التكاليف الضررية ، فإنّ الضرر إن كان نفس العبادة الموضوعة التي يستحق بها الأجر الأخرويّ ، فهو خارج عن موضوع الضرر المنفيّ ، وإن كان غيرها ، كالمقدمات الخارجة والمقارنات واللواحق الغير الموضوعة ، فداخل في عموم النفي.


وتوضيح ذلك : أنّ الواجب قسمان : ما لا يشترط فيه نية القربة ولا المباشرة ، بل المقصود منه التوصّل إلى غيره ، كردّ الوديعة ، وإنقاذ الغريق ، ومقدمات الواجب النقلية ، ونحوها. وما يشترط فيه القربة ، وهو العبادة.

أمّا الأوّل : فلا يخرج عن صدق الضرر عرفا. فينفيه القاعدة إذا كان متضمّنا للضرر ، إذ ليس له بما هو واجب عوض مقدّر وأجر مقرّر ، إذ الثواب فيه في مقابل القربة ، وهي غير واجبة على الفرض ، ووجوبه لأمر غير الثواب الأخرويّ ، وإلّا لم يحصل الغرض بأيّ وجه حصل ، مع أنّه يحصل به ، فليس تشريعه بما هو واجب معوّضا بأجر أخرويّ ، فيكون حكما ضرريا ينفيه القاعدة ، مثلا : مقدّمة الواجب ، من حيث كونها واجبة ليس في مقابلها نفع أخرويّ ، بل وجوبها للتوصّل إلى ذيها ، ولذا يحصل بدون القربة. وكذا ردّ الوديعة وإنقاذ الغريق ، حيث إنّ المقصود من وجوبها وصول الوديعة إلى المالك ونجاة الغريق ، فلا يعصى بفعلهما على غير جهة القربة ، وإن لم يكن له أجر أخرويّ. فهما بما هما واجبان ، ليس في مقابلهما نفع أخرويّ.

فإن قلت : تركه حرام يوجب العذاب ، ودفع العذاب ـ أيضا ـ منفعة يقابل الضرر ، كجلب النفع ، فيخرج الموضوع عن صدق الضرر.

قلت : حرمة الترك فرع وجوب الفعل ، وحيث إنّه منفيّ ، لكونه حكما ضرريا ليس في مقابله ثواب ، كما عرفت ـ فلا عذاب على تركه.

والحاصل : أنّ الواجبات التي لا يشترط فيها القربة يسقط وجوبها إذا تضمّنت الضرر ، كمقدمة الواجب ونحوها ، ولازمه سقوط وجوب ذي المقدمة أيضا ، إذا انحصرت مقدّميته في الضرريه ، لاستلزام جواز تركها جواز تركه ، وإلّا لما استلزم وجوبه وجوبها.


نعم ، لو أتى بها المكلّف إقداما على ضرر نفسه ، ولو محرما ، تعلق الوجوب بذي المقدمة ، لعدم توقفه ـ حينئذ ـ عليها.

فإن قلت : المقدّمة وسيلة إلى ذيها ، وهي إلى النفع الأخروي ، فهي موصلة إليه ، ولو بالواسطة. قلت : المقدمة موصلة إلى التمكن من ذيها ، لا إلى نفس فعله ، والثواب للفعل لا للتمكن عنه ، ومجرد التمكن ليس نفعا مانعا عن صدق الضرر ، وتحمل العقلاء مثله في معاشراتهم ، كضرر المسافرة للتمكن من التجارة ، إنّما يخرج به من موضوع الضرر إذا قصد بها التجارة وفعلها ، وما نحن فيه ليس كذلك ، لعدم اشتراط قصد الواجب من المقدّمة ، ولا فعلية الواجب بعد الوصول اليه في وجوبها ، فليس لها ثواب مقرّر إلّا بنيّة القربة ، وهي بهذا الوجه ليست بواجبة ، بل حكمها حكم سائر المستحبات الضررية التي لا تقتضي نفيها قاعدة الضرر ، كما سنشير إليه.

وأمّا الثاني : أي : العبادة الواجبة الضررية ، المشروطة بالقربة ، فلاستتباع فعله الثواب يخرج عن موضوع الضرر ، وإن تضمّن الضرر الدنيويّ ، والله سبحانه رضي به لعباده ، لما في مقابله من المثوبات ، فلا يكون وجوبه حكما ضرريا كما عرفت ، بل لله المنّة عليهم ، بما أعدّ لهم مما تقرّ به أعينهم من النعيم الباقي.

نعم ، إذا اقترنه أمر يتضرر به ، من وصف أو حال خارج عن ماهيّة العبادة الواجبة وأوصافها اللازمة ، كمرض أو مشقّة شديدة ، عرضية أو نفسية ، صحّ الاستدلال بقاعدة الضرر على سقوط أصل الواجب المقترن بتلك الحالة ، التي ليس في مقابلها ثواب مقرّر ، لأنّ وجوب العبادة بعين ما تقدّم في المقدّمة التوصّلية الضررية ، وترتّب الثواب على تحمل هذا الضرر ، زائدا على ثواب أصل العبادة ، إنما هو على تقدير قصد القربة به ، وهو غير واجب ، وإنما الواجب قصدها في نفس العبادة بما


هي واجبة خاصة ، فالصوم الواجب ـ مثلا ـ له من حيث كونه واجبا ثواب مقرّر ليس لحالة المرض مدخل فيه ، فإذا اقترنه المرض ، فالضرر الزائد الحاصل لأجل المرض من الصوم ليس له أجر مقرّر مقتض لوجوب تحمّله وإلّا لاشترط [ في ] تحمّله قصد القربة أيضا زائدا على القربة المشترطة في ماهيّة نفس الصوم ، مع قطع النظر عن الخصوصيات العارضة اللاحقة ، فصحّ نفي وجوب تحمل هذا الضرر المسبّب عن المرض بالقاعدة ، وبانتفائه ينتفي وجوب نفس الصوم. وهكذا الحال في الخوف للتقيّة ونحوها ، فتدبّر جيدا ، واجعلها ضابطة كلّية تقتضيها القاعدة ويوافقها عمل الفقهاء في مثل استدلالهم بنفي وجوب إخراج الزكاة عن المؤون ، دون نفي وجوب أصلها في الأجناس الخلافية ونحوه ، إلّا إذا دلّ دليل خاصّ في مورد على خلافه في كلّ من القسمين ، كما في وجوب شراء ماء الوضوء بأضعاف قيمته ، مع ما فيه من الضرر ، مع أنه لا يجب تحصيله مع خوف ضرر أقلّ في طريق الوصول إليه ، لصدق وجدان الماء في الأوّل ، فيخرجه النصّ عن القاعدة ، دون الثاني.

الثالث من شرائط صدق الحكم الإضراري : كونه بإضرار الشارع ، أو بتجويزه ضرر بعض العباد على بعض من غير جابر له. وأمّا الضرر الحاصل من غير الوجهين ، فليس عدم رفعه حكما ضرريا يقتضي القاعدة نفيه بإثبات حكم رافع له.

ولا يتوهّم أنّ تجويزه للمكلّفين عدم رفعه حكم ضرري ، لأنّ منشأ الضرر ـ حينئذ ـ ليس من جانب الشارع ، وبقاؤه ليس ضررا متجدّدا مستندا إلى الإسلام.

غاية الأمر عدم إفادته النفع له.

واذ علمت ما يصدق به الحكم الضرريّ ، نقول : كلّيات الأحكام الوجودية والعدمية التي تقتضيها قاعدة نفي الضرر ، وصحّ الاستدلال بها عليها ، خمسة


الأوّل : عدم حكم إلزاميّ يتضرّر بامتثاله المكلّف ، من غير أجر أخرويّ مقرّر له ، من وجوب ما في فعله [ ضرر ] ، أو حرمة ما في تركه ضرر ، ولا عوض ، لأنّ الضرر ـ حينئذ ـ وإن كان مستندا إلى فعله الاختياريّ ، إلّا أنّ إلزام الشارع بجعله محصورا بين ضرريّ المخالفة والامتثال ، يوجب استناد الضرر إلى الشرع.

ومن خصّ الضرر بالدنيويّ ، يلزمه عدم نفيه بقاعدة الضرر ، وهو لا يقول به ، لأنّه بفعل المكلّف نفسه ، لا من حكم الإسلام ، إلّا بتعميم الضرر بما يشمل العقوبة الأخروية ، فيجعل العذاب الأخروي ضررا ، ولا يجعل الثواب الأخروي نفعا جابرا ، وهو تحكّم ومجازفة صرفة.

وهل يشمل القاعدة نفي الطلب التنزيهيّ الضرريّ؟

فيه وجهان : من عموم النفي ، واستناد الضرر ـ حينئذ ـ إلى اختيار المكلّف ، من غير إلزام الشارع ، فلا يقع به محصورا بين ضررين ولعل الثاني أوجه.

وهل يعمّ الحكم الضرريّ المنفيّ ما صار المكلّف نفسه سببا له ، كما إذا أحدث بنفسه مرضا مضرّا لصومه ، أو عدوا في طريق حجّه؟

الظاهر : نعم ، لأنّ إيجاده السبب لا يوجب الضرر ، بل فعل الواجب بعده ، واضطراره بجعل الشارع.

الثاني : نفي حكم وضعيّ يتضرّر به ، كلزوم بيع المغبون الجاهل ونحوه.

الثالث : نفي جواز ما يتضرر به الغير ، سواء قصد به إضراره أم لا ، لأنّه حكم ضرريّ ينفيه القاعدة.

وربما يتوهّم أنّ تضمين الشارع يمنع عن صدق الضرر. وهو خطاء ، لأنّ الضمان جابر للضرر الواقع ، لا كاشف عن عدم وقوعه ، مع أنّ الجابر بذل العوض ، لا الحكم بالضمان ، فلا يكون مجرّد الحكم رافعا لكون التجويز حكما ضرريا. وأيضا


كلّ ضرر ليس مما يقابله ضمان المال.

ويدلّ على نفي الجواز أيضا ، الأخبار الناهية عن الإضرار ، كقوله عليه‌السلام : « لا يضارّ المؤمن أخاه المؤمن » (١) وقوله في مقام تهديد سمرة : « أنت رجل مضارّ. فاقلعه واضربه على وجهه » هذا إذا لم يعارضه ضرر نفسه ، وإلّا فهو من تعارض الضررين ، ويأتي حكمه.

الرابع : نفي حكم وضعيّ يتضرّر به غيره ، لتساويهما في نفي الضرر عند الشارع ، كمعاملة إضرارية للغير ، كهبة المديون جميع ما يملكه لغيره ، فرارا عن أداء دينه ، فيما إذا لم يتمكّن عنه بطريق آخر ، من استقراض ونحوه كما بيّناه مفصّلا في بعض مباحثنا (٢).

الخامس : ضمان المضارّ بما أضرّ بغيره صرّح به بعضهم ، قائلا : بأنّه يقتضيه قاعدة الضرر ، كما يقتضيه قاعدة الإتلاف. بل الظاهر اتفاقهم على ضمان من أجّج نارا ، أو أرسل ماء في ملكه ، زائدا على قدر الحاجة ، مع ظنّ التعدي ، كما سيأتي فهو في غير التصرف في ملكه أولى.

واختصاص الضمان عندهم بصورة حرمة الفعل غير معلوم ، وعن بعضهم اختصاصه بما إذا كان الفعل محرّما وخصّه آخر بما إذا كان ظلما وربما يدّعى إفادة القاعدة نفي الضمان ، لأنّه ضرر على المضارّ. قال به بعض الفحول.

ومقتضى التحقيق ـ ثبوت الضمان ، لكن لا على إطلاقه ، بل التفصيل : أنّ المضارّ

__________________

(١) ورد ذلك في مكاتبة محمد بن الحسين عن أبي محمد عليه‌السلام ؛ وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٢ ، الباب ١٥ من أبواب إحياء الموات ، الرواية ٣٢٢٨٦ ؛ في نقل الوسائل : « لا يضرّ » ، ولكن في الفقيه ( ٢ : ١٥٠ ، الحديث ٦٥٩ ) : « لا يضارّ ».

(٢) راجع المشرق الخامس في المعاملات الإضرارية.


إمّا يعلم أو يغلب على ظنّه ضرر الغير بفعله ، أو يعلم عدمه ، أو لا يعلم شيئا منهما.

فإن علم ، فهو إضرار محرّم عليه ، كما علمت ، سواء كان بالمباشرة أو بتوليد الفعل بالتسبيب ، بإيجاد ما يوجد معه عليه الضرر عادة ، ومضمون عليه ، لو لا يعارضه مباشر أقوى ، لأنّ بقاء الضرر ـ كحصوله ـ أثر فعل المضارّ أيضا ، ويدفعه بذل العوض ، فتجويز الشارع عدم رفعه به حكم ضرريّ على المتضرّر ، ينفيه القاعدة ، كما هو المتفاهم منها عرفا.

وأما إلزام المضارّ برفعه ، وإن كان ضررا عليه أيضا ، إلّا أنّه من أثر فعل نفسه عالما به ، وقد [ لا ] يقتضي القاعدة نفيه ، من قبيل الدية على الجاني ، ولزوم البيع على المغبون العالم ، مضافا إلى صحيحة الكناني ، وما في معناها ، المصرّحة بضمان المضارّ بطريق المسلمين ، الشامل بعمومها بالإضرار الواقع منه بالطريق ، من غير تصرّف له فيه ، المتعدي إلى غير الطريق ، بعدم القائل بالفصل.

وإن لم يحتمل الضرر ، فعدم حرمة الفعل من جهة الضرر ـ حينئذ ـ ظاهر.

فإن كان محرّما من جهة أخرى ، ككونه تصرّفا في ملك الغير ، فلا يبعد الضمان للمتضرّر أيضا ، لوقوع الضرر بعصيانه وتقصيره في مخالفة النهي ، وإن لم يكن جهة النهي علمه بالضرر ، لعدم الفرق بذلك بينهما في نسبة الضرر إلى تقصيره ، وعدم اغتفاره في الحكم الضرريّ.

وإن لم يكن محرّما ، فمقتضى قاعدة نفي الضرر ـ مضافا إلى الأصل ـ عدم ضمانه ، لكونه معذورا في الحكم التكليفيّ بالجهل المقتضي للجواز ، وفي الوضعيّ بعدم التقصير ، فإثبات الضمان عليه حكم ضرريّ منفيّ بالقاعدة ، إلّا إذا خرج بدليل ، كما في تلف النفس ، وتضرّر المتضرّر ، حيث لم يكن بحكم شرعيّ ، ولا بتقصير مضارّ لا يلزم على الشارع رفعه ، كما تكرّر ذكره. ولا يقتضيه عموم : « من


أضرّ بطريق المسلمين » لظهوره في العلم بالضرر.

وإن شكّ في الضرر ، فهو في جواز الفعل كالسابق ، للأصل.

وأما الضمان ، ففيه وجهان. والأوجه ثبوته ، لعدم اقتضاء الجهل ـ مع فرض الاحتمال ـ معذوريته ، فوجب عليه رفعه ببذل العوض ، بقاعدة الضرر ، كما مرّ ، وأصل عدم الضرر لا ينفي الضمان على تقدير ثبوته في الواقع ، لأنّ المناط في صدق اللفظ المقتضي للضمان هو الواقع ، فيما لا مانع لصدقه ، فإنّ ترخيص الشارع إضرار الغير من غير ضمان مع عدم كونه غافلا حكم ضرريّ على المتضرّر ، وجواز الفعل لا ينافي الضمان ، لتوقف الحرمة على العلم ، دون الضمان.

فإن قلت : تجويز الفعل بمقتضى الأصل ليس مقيّدا بالضمان في الأوّل ، على تقديره ، وتضمينه بعد ظهوره رفع ضرر لا يقتضيه القاعدة ، إذ ليس عدم تضمينه حكما ضرريا ، بل عدم حكم.

قلت : تقييد الجواز بالضمان على تقدير الضرر لا يستدعي العلم بالضرر ولا بالضمان ، بل يكفي الاحتمال في ثبوته واقعا. هذا كلّه إذا لم يتضرّر المضارّ بترك الفعل ، وإلّا فيأتي حكمه.

البحث الثالث : فيما إذا تعارض قاعدة الضرر مثلها ، فتعارض الضرران أو تصرف المالك في ملكه المسلّط عليه ، بقوله عليه‌السلام : « الناس مسلّطون على أموالهم » (١).

فهنا مقامان :

المقام الأوّل : في تعارض الضررين ، بأن دار الأمر بين حكمين ضرريين ، بحيث كان الحكم بأحدهما مستلزما للحكم بثبوت الآخر.

فنقول : الضرران إمّا يكونان بالنسبة إلى شخص واحد ، فمع التساوي في مقدار

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ ؛ عوالي اللآلي ١ : ٤٥٧ ، الحديث ١٩٨.


الضرر ، وعدم المرجّح ، يحكم بالتخيير ومع الاختلاف في القلّة والكثرة ، فمقتضى القاعدة نفي الأكثر ، لحصول الضرر الأقلّ على التقديرين ، سواء كان داخلا في الأكثر ، كما في الشكّ في مقدار الدية على العاقلة أنّه عشرة دنانير أو خمسة ، أو مباينا له ، كالشكّ في كونه عشرة دنانير أو عشرة دراهم.

فإن قلت : لا مرجّح للأقلّ مع التباين ، مع صدق القاعدة عليهما.

قلت : المنفيّ هو ماهيّة الضرر من حيث هو ضرر ، لا خصوصيات المضارّ ، فالاعتبار في القلّة والكثرة بنفس الماهيّة دون الخصوصيات ، والأقلّ بهذا الاعتبار داخل في الأكثر ، وإن باينه بحسب الخصوصية.

فإن قلت : المنفيّ في الحديث الأفراد ، لكونه عاما أفراديا ، فالعبرة بها دون الماهيّة ، وهي في الفرض متباينة.

قلت : الجنس الصادق على الجزء والكلّ من الأعيان ، كالماء الصادق على حوض ، وعلى كلّ غرفة وقطرة منه ، أو من الأوصاف ، كالمرض والضرر ونحوهما ، يكون فرض أفراده بالاعتبار ، فإنّ كلّ فرد فرد منه يمكن فرض جزئه فردا أيضا ، فكثرة أفراده وقلّتها يرجع إلى كثرة الجنس وقلّته ، فالعبرة فيهما به لا بالخصوصيات الزائدة.

أو يكون الضرران بالنسبة إلى شخصين ، بأن دار الحكم الضرريّ بينهما.

فكلماتهم فيه مختلفة ، بل لا يخلو كثير منها عن اضطراب ، قال في التذكرة (١) : لو غصب دينارا ، فوقع في محبرة الغير بفعل الغاصب أو بغير فعله ، كسرت لردّه ، وعلى الغاصب ضمان المحبرة ، وإن كان كسرها أكثر ضررا من تبقية الواقع فيها ضمنه الغاصب ، ولم يكسر. انتهى.

ووجه التفصيل بأكثرية الضرر وعدمها ، مع فرض الغصب غير ظاهر.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ٣٩١.


وقال في الدروس (١) : لو أدخل دينارا في محبرته ، وكانت قيمتها أكثر ، ولم يمكن كسره ، لم يكسر المحبرة ، وضمن صاحبها الدينار مع عدم تفريط مالكه ، انتهى.

وحمل على كون إدخال الدينار بإذن المالك ، على وجه يكون مضمونا ، إذ لو كان بغير إذنه تعيّن كسر المحبرة ، وإن زادت قيمتها. وإن كان بإذنه على وجه لا يضمن ، لم يتّجه تضمين صاحبها الدينار.

وقال بعض أجلّة من عاصرناه (٢) في خصوص المثال المذكور وغيره مما تعارض فيه الضرران : « يمكن أن يقال : بترجيح الأقلّ ضررا ، إذ مقتضى نفي الضرر عن العباد في مقام الامتنان ، عدم الرضا بحكم يكون ضرره أكثر من ضرر الحكم الآخر ، لأنّ العباد كلّهم متساوون في نظر الشارع ، بل بمنزلة عبد واحد. إلى أن قال : ـ لكن مقتضى ذلك ملاحظة الضررين الشخصيين المختلفين ، باعتبار الخصوصيات الموجودة في كلّ منهما ، من حيث المقدار ومن حيث الشخص ، فقد يدور الأمر بين ضرر درهم ودينار ، مع كون ضرر الدرهم أعظم بالنسبة إلى صاحبه من ضرر الدينار بالنسبة إلى صاحبه. وقد يعكس حال الشخصين في وقت آخر. انتهى.

ولا يخفى ضعفه ، أما أوّلا : فلأنّ هذا لا يتمّ فيما إذا كان الضرر الحكميّ من مجرّد تشريع الشارع ، فدار في أنّ المحكوم عليه به هذا أو ذاك ، كما إذا شكّ في العاقلة الملزمة بالدية شرعا ، هل هو هذا أو ذاك بدرهم (٣) ، فإنّه لا يختلف الحكم حينئذ قطعا باختلاف الأزمان والأحوال المتجدّدة ، بل إذا رجّح أحدهما بدليله لا يتعاكس فيه الضرر ، ولا يختلف باختلافها الحكم الضرريّ.

__________________

(١) الدروس الشرعية ٢ : ١١٠.

(٢) هو الشيخ الأنصاري قدس‌سره في رسالة لا ضرر ؛ راجع المكاسب ( الطبعة الحجرية ) : ٣٧٤ ؛ وأيضا رسائل فقهية من منشورات المؤتمر المئوي للشيخ الأنصاري : ١٢٥.

(٣) كذا.


وأما ثانيا : فلأنّ مقتضى تساوي العباد في نظر الشارع ، التعديل بينهما ، وينافي تعيّن الضرر الأقلّ ، لأنّ جعل الضرر كلّه على صاحب الأقلّ دون صاحب الأكثر خلاف التسوية ، بل مقتضى العدل تشريكهما في القدر الأقلّ ، ونفي الزائد ، مثلا : إذا وقع ديناره في مجرّة غيره ، فإن كان ضرر الكسر نصف الدينار ، فهذا النصف يقسم بينهما ، ويكسر المجرة ، وإن كان بالعكس يتعاكس. إلّا أن يقال : تجزئة الضرر عليهما إحداث قول ثالث.

ولكن الإنصاف : إنّ عدم القول بالفصل في أمثال ما ليس له عنوان مخصوص في المدارك الشرعية غير معلوم ، بل كلّ من حكم فيه بشي‌ء يدخله تحت قاعدة وأصل شرعي بزعمه ، كيف وليس هو أولى في إخراجه عن مقتضى القواعد ، بدعوى عدم الفصل ، من البناء على اختلاف الحكم الضرري والتعاكس فيه باختلاف الأحوال والأشخاص والخصوصيات المتجددة ، بملاحظة قاعدة نفي الضرر.

وأما ثالثا : فلأنّه لا يتمّ في المثال المتقدّم الذي جعله من أمثلة المقام ، مما يتعارض فيه الضرر الواقع لأحدهما والمتوقع للآخر عند دفعه ، فإنّ تجويز كسر المجرّة ـ مضافا إلى كونه تصرفا في مال الغير ـ ينفى بقاعدة الضرر ، دون دفع ضرر صاحب الدينار ، لعدم وجوبه على الشارع ، كما تقدّم. بل اعترف الفاضل المذكور في مقام آخر بذلك ، حيث قال : لا يجوز لأحد إضرار انسان لدفع الضرر المتوجه إليه.

ثمّ أقول : الذي يقتضيه النظر ، أنّ تعارض الضررين بالنسبة إلى شخصين ، إن كان في الضرر الحكمي الناشئ عن الشرع ، المخصّص لقاعدة الضرر ، كما في الترديد في العاقلة ، فظاهر عدم الترجيح باعتبار قاعدة الضرر ، وإن كان أحدهما أقلّ ، لتباينهما بتباين المتعلّقين.


إلّا ان يقال : مقتضى حديث نفي الضرر نفيه من حيث هو في الإسلام ، من غير ملاحظة خصوص من يتضرّر به ، فإنّ الأقلّ بهذا الاعتبار داخل في الأكثر ، وإن تباين المتعلّقات ، وهو مشكل.

وإن كان باعتبار ضرر خارجي ، دار الحكم بإلزامه بين شخصين ، فهو على وجهين :

أحدهما : أن يكون الضرر المفروض واقعا على إنسان ، وأمكنه دفعه عن نفسه بإضرار غيره.

وثانيهما : أن يكون متوجّها إلى أحدهما لا بعينه ، فدفع عن نفسه ما يوجبه ، فتوجّه إلى الآخر.

أمّا في الأوّل : فالظاهر أنّه لا يجوز له إضرار الغير ، بل عليه تحمل الضرر ، لأنّ تجويزه حكم ضرريّ ، فينفيه القاعدة. وأمّا

ضرر نفسه الواقع عليها ليس من حكم الشرع ، بل حكمه ترك ضرر الغير ، واستلزامه بقاء الضرر ليس بسبب حادث ، ولا هو ضرر متجدّد ، ولا مدخل للشرع فيه. غاية الأمر عدم حكمه بما يدفعه ، وعلمت أنّه ليس بواجب. ومن ذلك ما في المشهور ، من عدم جواز إسناد الحائط المخوف وقوعه على جذع الجار ، خلافا للشيخ. وحمل على ما إذا خاف من وقوعه تلف نفس محترمة ، لوجوب حفظها. غاية الأمر لزوم أجرة المثل ، للاستناد كأخذ الطعام لسد الرمق.

وأما في الثاني : فالظاهر جوازه ، ولا ضمان عليه ، لأن منعه الضرر عن نفسه ليس شيئا محدثا لضرر الآخر ، بل هو مستند إلى علّته الخارجة التي لا دخل له فيها ، وإنّما فعله منع ما يحدث الضرر عن نفسه ، كما إذا سدّ طريق السيل عن داره ، فمال إلى دار جاره.


نعم ، لو أطرقه إليها ، سيما إذا كان طريقه أوّلا إلى دار نفسه ، فهو من التسبيب المحرّم المتقدّم بيانه ، وظهر من ذلك : أنه لا يجب على الإنسان دفع ضرر الغير بإضرار نفسه ، ولعلّه لا خلاف فيه.

المقام الثاني : في تعارض قاعدة الضرر مع قاعدة التسليط ، الثابتة بالحديث النبويّ المشهور المرويّ في كتب الأصحاب ، المعمول به عندهم. وهو قوله : « الناس مسلّطون على أموالهم » كما إذا تصرف المالك في ملكه فاستلزم تضرّر جاره ، فالمشهور جوازه. صرّح به الشيخ في المبسوط (١) ، في باب إحياء الموات في حفر المالك بالوعة أو بئر كنيف يقرب بئر الجار ، وإن أدّى إلى تغيّر ماء البئر.

وفي السرائر (٢) في باب حريم الحقوق ، قائلا : بجواز حفر الإنسان في ملكه بئرا يقرب بئر الغير ، وإن نقص به ماء الغير.

والفاضل في التحرير (٣) والقواعد فيه ، وفي اتخاذ ملكه حماما أو موطنا للقصار والحداد والمدبغ وأمثالها ، قائلا : بأنّ لكلّ أحد أن يتصرف في ملكه على العادة ما شاء ، وإن تضرر صاحبه ، ولا ضمان ، والشهيد في الدروس (٤) نافيا للضمان. واختاره في الرياض (٥) ، بل في الأوّل نفي الخلاف فيه. وفي الكفاية (٦) نسبه إلى الأصحاب ، مؤذنا بدعوى الإجماع ، إلّا أنّه استشكل في الضرر الفاحش.

والظاهر أنّ إطلاق كلامهم ، سيما كلام النافي للخلاف ، محمول على صورة حاجة

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٢٧٢.

(٢) السرائر ٢ : ٣٧٤.

(٣) تحرير الأحكام ٢ : ١٣٦.

(٤) الدروس الشرعية ٣ : ٦٠.

(٥) رياض المسائل ٢ : ٣٢٠.

(٦) كفاية الأحكام : ٣٤٠.


المالك ، وتضرّره بترك التصرّف ، ولو بفوات المنفعة المقصودة منه عادة ، فإن منعه منه أيضا ضرر عظيم ، كما ذكره العلّامة (١) وغيره.

ويشعر به تقييد العلّامة والشهيد التصرف بما جرت به العادة ، وتصريح الشهيد (٢) ـ في غير الموضع ـ بالضمان في تأجيج النار زائدا على قدر الحاجة ، مع ظنّ التعدّي ، وإن كان منافيا للتصريح السابق.

وأصرح من ذلك كلام المحقّق الثاني (٣) قائلا : فإذا دعت الحاجة إلى إضرام نار أو إرسال ماء جاز فعله ، وإن غلب على ظنّه التعدّي إلى الإضرار.

وكيف كان ، فهذا أحد الأقوال في المسألة.

والثاني : تقديم قاعدة الضرر مطلقا ، يظهر من المحقّق القمّي (٤) ، وبعض آخر.

والثالث : تقديم الضرر إذا كان فاحشا ، والتسليط في غيره ، مال إليه في الكفاية (٥).

الرابع : منع التصرّف المتضمّن لضرر الغير في ماله ، إذا كان فعله توليديا للتصرّف في مال الغير وإتلافه ، بمعنى أن يسري فعله في ملكه إلى ملك صاحبه ، كإرسال الماء في ملكه ، الموجب لسراية النداوة أو الهدم في حائط الجار ، أو تأجيج النار الموجب لاحتراق متاعه ، لا في مثل رفع جدران داره المانع عن الشمس والقمر في دار الجار. مال إليه بعض مشايخ من عاصرناه.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ٤١٤.

(٢) الدروس الشرعية ٣ : ١٠٧.

(٣) جامع المقاصد ٧ : ٢٦.

(٤) جامع الشتات ٢ : ٥٦١.

(٥) كفاية الأحكام : ٣٤٠.


الخامس : البناء على التعارض ، والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل ، وهو المعروف من جماعة.

وأقول : والتحقيق في المقام ، بعد بيان مقدّمة ، هي : أنّ تعارض الأحكام الشرعية التي لا يجتمع منها اثنان في موضوع ، ولو بعنوانين مختلفين بينهما عموم من وجه ، إنما هو إذا كان تشريعهما في رتبة واحدة ، بحيث كان عموم أحدهما منافيا لعموم الآخر ، كقوله : يجب إكرام العلماء ، ولا يجب إكرام الفساق ، المتعارضين في العالم الفاسق. وأما إذا كان أحدهما واردا على الآخر ، وسببا مزيلا لمقتضاه ، فلا تعارض بينهما حقيقة ، بل يعمل بالمزيل ، نظير تعارض المزيل والمزال في الأصول العملية ، على ما بيّناه مستوفى في محلّه ، وسيجي‌ء مزيد بيان فيه ، كما إذا لاقى اليد المستصحبة النجاسة للماء الطاهر ، فحصل الشكّ في طهارته ، فإنّه يقدم استصحاب نجاسة اليد على استصحاب طهارة الماء [ و ] يحكم بزوال طهارته بسبب التلاقي ، بل هو مقتضى سببية الأسباب الشرعية ، سواء كانت من الأصول الظاهرية ، أو الأحكام الواقعية ، كعروض النجاسة للطعام المزيل لإباحته ، أو وجود مرض أو شبع ـ كذلك ـ وغليان العصير الموجب لحرمته ، وصيرورة المباح واجبا إذا صار مقدمة ، وإباحة الميتة بحصول المخمصة ، وأمثال ذلك.

وقد يتوارد على موضوع واحد أحكام مختلفة متعاقبة ، فلا تعارض بين دليليهما ، لعدم اجتماع الحكمين في وقت واحد.

نعم ، قد يحصل الإشكال في اختلاف المدلولين : أنه من باب التعارض أو السببية ، فإن دلّ على السببية دليل ، أو كان هو المنساق من دليل السبب ، فهو ، وإلّا يلتمس الترجيح لأحدهما ، ثمّ يرجع إلى الأصول.

وإذ علمت ذلك نقول : المنساق من حديث نفي الضرر كونه واردا على قوله


« الناس مسلّطون » وورود الثاني في مقام بيان مجرّد السلطنة المالكية الغير المنافية (١) لعروض سبب مانع لبعض التصرّفات ، مزيل للرخصة اللازمة للسلطنة ، سيما بملاحظة نظائره من الأسباب المحرّمة الطارية على الجواز الأصليّ ، كأمثال ما ذكر ، وبملاحظة استدلالات الفقهاء ، فإنّهم يستدلّون بنفي الضرر على خيار الغبن ، في مقابل عموم : « الناس مسلّطون » الدال على لزوم العقد ، وعدم تسلّط المغبون على إخراج ملك الغابن عن ملكه ، فالضرر يوجب تحريم الفعل الجائز ، كاقتضاء الواجب وجوب مقدّمته المباحة ، والإسراف حرمة ماله المباح.

كيف وإضرار الغير ليس بأهون في نظر الشارع من إضرار الشخص نفسه ، فكما لا يعارض عموم : « الناس مسلّطون » دليل حرمة تضييع مال نفسه ، كذا لا يعارض دليل حرمة تضييع مال الغير.

ثمّ نقول لتفصيل صور المقام : تصرف المالك في ملكه الموجب لضرر الغير ، إمّا لا يوجب تركه ضررا على نفسه ، ولو بفوات منفعة ملكه المقصودة منه عادة ، فإنّه ضرر أيضا ، كما مرّ. أو يوجبه.

فإن لم يوجبه وكان من قبيل اللغو ، فهو على وجهين :

أحدهما : أن يعلم أو يغلب على ظنّه ضرر الغير ، فالمتّجه ـ حينئذ ـ حرمة التصرّف ، وتعلّق الضمان ، كما صرّح به جماعة ، ويظهر من العلّامة (٢) والشهيد (٣) والمحقّق الثاني (٤) ، حيث قيّدوا جواز التصرّف المضرّ بالجار بما جرت به العادة ، أو

__________________

(١) غير منافية ( ظ ).

(٢) تذكرة الفقهاء ٢ : ٤١٣.

(٣) الدروس الشرعية ٣ : ٦٠.

(٤) جامع المقاصد ٧ : ٢٥.


دعاء الحاجة ، بل هو المستفاد من ظهور اتفاقهم على ضمان من أجّج نارا زائدا على قدر الحاجة مع ظن التعدّي.

والدليل عليه : ما تبين من تقدّم قاعدة الضرر المقتضية للحرمة والضمان ـ حسب ما مرّ ـ على قاعدة التسليط ، وورودها عليها.

فان قلت : مع الضمان لا ضرر ، فلا تحريم.

قلت : بذل العوض ـ فضلا عن مجرّد الحكم بالضمان ـ جبر للضرر الواقع ، فلا يخرج الفعل عن صدوره إضرارا ، فيكون محرما ، كما أشرنا إليه فيما تقدّم ، مضافا إلى أنّ مقاصد الناس غير منضبطة ، فقد يكون عين ما فاته أعود له من عوض المثل. مع أنّه يمكن أن نقول : إطلاق قوله « الناس مسلّطون » ، في مقام بيان حكم جهة المالكية ، فلا ينصرف إلى تعميم الجواز باعتبار سائر الجهات.

ويدلّ عليه أيضا ، أنّه على تسليم التعارض ، فحديث نفي الضرر ـ أيضا ـ أخصّ مطلقا من عموم الثاني ، لاختصاص مورد حديث سمرة بالضرر الناشئ عن التصرّف في ملكه ، فيخصّص به.

وما قد يتوهّم من أنّ الضرر المنفيّ فيه ليس لتصرف سمرة في ملكه ، بل لتعديه بدخوله من غير إخبار واستيذان ، ولا مدخل له في التصرف في الملك ، ضعيف ، لأنّ دار الأنصاري طريق عذقه ، فهو تصرّف في حقه ، غير أنه تصرّف إضراريّ ، ولو لا ذلك لما تمسّك للمنع بالإضرار ، بل بدخول ملك الغير بغير إذنه.

ويؤيّد ترجيح حديث الضرر ـ بل يدلّ عليه ـ أظهريته دلالة ، فإنّه بالعموم الاستغراقيّ الوضعيّ ، والآخر بالإطلاق الحملي ، فهو من باب تعارض النصّ والظاهر الموجب لحمل الظاهر على ما يوافق النصّ بقرينة النصوصية.

وربما يعلّل تقديم نفي الضرر بظهور الفتاوى ، ودلالة الاستقراء على غلبة الحرام


على الحلال ، وبأنّ قاعدة الضرر سارية مسرى العقليات الغير القابلة للتخصيص.

ويضعف الأوّل بمنع الاتفاق ، مع تصريح جماعة من أعيان الأصحاب بجواز تصرف المالك حيث شاء على ما مرّ ، الظاهر في عموم الحكم ، بل قد يشعر من بعضهم دعوى الإجماع عليه.

والثاني : بمنع غلبة الحرمة عند التعارض إذا لم يكن واردة على الحلّ ، بل يعمل ـ حينئذ ـ بمقتضى الترجيح ، كما إذا قال : يحرم إكرام الناس ، ويجوز إكرام العالم.

والثالث : بمنع كون قاعدة الضرر من قبيل العقليات. وكفاك شاهدا ورود التخصيص عليها في موارد كثيرة إجماعية ، ولا ينبّئك مثل خبير.

وثانيهما : أن لا يعلم ولا يغلب على ظنّه ضرر الغير بتصرّفه في ملكه ، فاتّفق فيه الضرر ، فلا إشكال في جواز التصرف ، كما مر ، للجهل المقتضي لنفي التكليف بالأصل.

وأمّا الضمان ، ففيه تفصيل ما تقدّم ، من أنّه إن لم يحتمل الضرر أوّلا ، فلا ضمان عليه ، لأنّ تضمينه مع جواز الفعل وعدم تقصيره عرفا في إضرار الغير ، حكم ضرريّ منفيّ بالقاعدة ، كما علمت ، مضافا إلى الأصل ، فلا يخرج عنها إلّا بدليل.

وبفرض استيفائه المنفعة بهذا التصرف ، لا يجبر ضرر الضمان ، لأنها نفع ملكه الغير المضمون عليه ، مع أنه قد يكون عوض الضرر أضعاف المنفعة المستوفاة ، كإرسال الماء في ملكه الموجب لانهدام عمارة عالية للجار.

ولا يعارضه ضرر الغير ، لعدم كونه مستندا إلى تقصيره ، ولا واقعا من الشرع ، فليس على الإسلام رفعه ، بل حكمه حكم سائر المضارّ الاتفاقية السماوية.

وإن احتمل الضرر ، فالظاهر ضمانه ، مثل ما تقدّم ، وكون فعله تصرّفا في ملكه لا يتفاوت به الحال ، بعد ما علمت من ورود قاعدة الضرر على عموم « الناس


مسلّطون » ، واقتضاءها الضمان بما أشرنا إليه ، من أنّ ترخيص الشارع في إضرار الغير من غير ضمان ـ مع صدق التقصير العرفيّ باعتبار عدم غفلته وعدم تضرّره بتركه ـ حكم ضرريّ على المتضرّر.

وإن كان تصرّف المالك لدفع ضرر يتوجّه إليه ، ولو هو فوات المنفعة المقصودة منه عرفا ، فالظاهر جوازه ، بل لعلّه لا خلاف فيه ، لأنّ حبسه عن ملكه وإلزامه بتحمّل الضرر لئلا يتضرر الغير حكم ضرريّ ، مضافا إلى عموم « الناس مسلّطون ».

فإن قلت : قد تقدّم في تعارض الضررين ، أنّ مقتضى قاعدة الضرر عدم جواز إضرار الغير لدفع الضرر عن النفس.

قلت : ما ذكر ثمّة كان باعتبار صدق الحكم الإضراريّ على تجويز إضرار الغير وعدم صدقه على بقاء ضرر الآخر ، لعدم حصوله بحكم الشارع ، وعدم وجوب دفعه عليه ، وهذا يتمّ في غير صورة التصرّف في ملكه ، وأمّا فيها ، فمنعه عن التصرّف في حقه لدفع الضرر عن نفسه ، وحبسه عن ماله ضرر عظيم ، وحكم إضراريّ منفيّ بالقاعدة. غاية الأمر تعارض الضررين فيها ، وسقوط قاعدة الضرر من البين ، لاستلزامها التدافع ، فيرجع إلى عموم « الناس مسلّطون » ، مضافا إلى أصل الإباحة.

وما قيل : يعارضه أصل إباحة المنع ، يدفعه ما مرّ ، من كون الأوّل مزيلا للثاني.

وعن بعضهم : وجوب ملاحظة مراتب ضرر المالك والغير ، فإن أريد به في حكم جواز التصرف وإباحته ، فيخالف كلمات الفقهاء ، ولعلّ اتفاقهم عليه ، إلّا إذا كان ضررا فاحشا يجب تحمل الضرر لدفعه على كلّ أحد ، ما لم ينجرّ إلى الحرج ، كإهلاك النفس المحترمة.

وإن أريد به في الضمان فغير بعيد ، ولعلّه مراد القائل به وعليه يحمل إطلاق قول الشهيد في موضع من الدروس ، بالضمان في تأجيج النار في ملكه على قدر الحاجة ، مع ظنّ التعدّي.


واستظهره الفاضل القمّي ورجّح أقوى الضررين مطلقا ، إلّا أنّ ترجيح جانب الغير في نفي الضرر مطلقا ، إذا كان ضرره أكثر ـ وتحميل الأقلّ كلّه على صاحب الملك ، مع كونه تصرفا في ملكه ـ ترجيح بلا مرجّح.

فما تقدّم من أنّ مقتضى العدل توزيع الأقلّ عليهما ، ونفي الزائد ، وقسمة المتساويين عليهما. فإن لم يثبت الإجماع على خلافه ، كما لعلّه الظاهر في أمثال تلك المسائل الراجعة إلى الأصول والقواعد ، ولا نصّ عليها بخصوصها ، فهو المتبع ، وإلّا فترجيح أقوى الضررين في الضمان لا يخلو عن قوة ، ولا ينبغي ترك الاحتياط ، عصمنا الله سبحانه عن الزلّة في الصراط.



[ المشرق الخامس عشر ]

[ في بيان قاعدة نفي الغرر ]

مشرق : من القواعد المسلّمة بين الفقهاء ، قاعدة نفي الغرر ، يستدلّون بها على فساد البيع الغرريّ ، بل ربما يستدلّ بها على فساد سائر المعاملات الغررية.

ولتحقيق مدرك القاعدة ومعنى الغرر وسائر ما يتعلق بها نذكر أبحاثا :

البحث الأوّل : في دليل القاعدة ومعنى الغرر المنهي عنه.

أمّا الأوّل : فالأصل فيها الخبر المشتهر بين الخاصّة والعامّة ، المرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه نهى عن بيع الغرر (١) ، بل قال بعض الأجلّة (٢) : إنّه المتفق عليه بين

__________________

(١) ومن طريق الخاصّة : وسائل الشيعة ١٢ : ٣٣٠ ، الباب ٤٠ من أبواب آداب التجارة ، الرواية ٢٢٩٦٥ ، و ١٧ : ٣٥٨ ، الباب ١٢ من أبواب عقد البيع ، الرواية ٢٢٧٤٧ ؛ مستدرك الوسائل ١٣ : ٢٨٣ ، الباب ٣٣ من أبواب آداب التجارة ، الرواية ١٥٣٦٣ ؛ دعائم الإسلام ٢ : ١٩ ؛ عيون أخبار الرضا ٢ : ٤٥ ، الرواية ١٦٨.

ومن طريق العامّة : ما رواه البيهقي في سننه ٥ : ٣٣٨ ؛ والترمذي في سننه ٣ : ٥٣٢ ؛ ومسلم في صحيحه ٥ : ٣ ؛ وأبو داود في سننه ٣ : ٢٥٤ ، كتاب البيوع ، الرواية ٣٣٧٦ ؛ والدار قطني في سننه ٣ : ١٥ ؛ وأحمد بن حنبل في مسنده ١ : ٣٠٢ ، والدارمي في سننه ٢ : ٢٥١ ؛ والنسائي في سننه ٧ : ٢٦٢ ؛ ومالك في الموطأ ٢ : ٦٦٤ ، الرواية ٧٥ ؛ وابن ماجة في سننه ٢ : ٧٣٩ ، الرواية ٢١٩٤.

(٢) لعلّه صاحب الجواهر في جواهر الكلام ٢٢ : ٣٨٦.


العلماء كافّة ، وأنت تراهم في مقامات غير عديدة يتمسّكون ويعملون به من غير نكير ، بحيث إنّه مقبول عند الكلّ (٣) فلا يقصر عن الخبر الصحيح ، بل في العوائد (٤) : أنّه أقوى منه.

ثمّ النهي ـ لتعلقه بنفس المعاملة الظاهر في المانعية ، في قبال الأمر بما يتعلّق بها الظاهر في الشرطية ـ يوجب الفساد ، على ما قررناه في محلّه ، فهو الدليل عليها.

مضافا إلى الإجماع على نفس القاعدة الظاهر من استدلال أصحابنا ـ بل الفريقين ـ بنفي الغرر على بعض شروط المعاملة كالقدرة على التسليم في البيع ونحوها ، فإنك تراها قاعدة مسلّمة عند الجميع.

وقد صرّح بخصوص الإجماع عليه بعضهم (٥) ، بل عن كلام الشهيد في شرح الإرشاد ، الإشعار بكونه من الضروريات.

وأمّا الثاني : ففي كلمات كثير من أهل اللغة والفقهاء ، تفسيره بعبارات متقاربة ومعان متوافقة.

ففي الصحاح : « الغرّة : الغفلة ، والغارّ : الغافل ». وقال : اغترّ بالشي‌ء ، أي : خدع به. والغرر : الخطر. ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر ، وهو مثل بيع السمك في

__________________

(٣) فإنّ ابن إدريس الحلّي مع أنّه لم يعمل بالخبر الواحد ، قد قبل هذا الحديث وردّ روايات معتبرة أخرى لمخالفتها مع مضمون الحديث ؛ راجع السرائر ٢ : ٣٢٥.

(٤) عوائد الأيّام : ٨٥.

(٥) لعلّه ابن زهرة في كتاب غنية النزوع ١ : ٢١١.


الماء ، والطير في الهواء.

وفي القاموس (١) : غرّه غرّا وغرورا وغرّة بالكسر فهو مغرور وغرير ، خدعه وأطمعه في الباطل ، إلى أن قال : غرّر بنفسه تغريرا وتغرّة ، أي : عرّضها للهلكة.

والاسم : الغرر ، محركه.

وعن النهاية (٢) : بعد تفسير الغرّة ـ بالكسر ـ بالغفلة : أنّه نهي عن بيع الغرر ، وهو ما كان له ظاهر يغرّ المشتري وباطن مجهول. وقال الأزهريّ : بيع الغرر ما كان على غير عهدة ، ولا ثقة ، ويدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان من كلّ مجهول ، وقد تكرّر في الحديث.

وحكي ـ أيضا ـ عن المصباح والمغرب والأساس والمجمل والمجمع : تفسير الغرر بالخطر (٣) ، ويمثّله الأكثر ببيع السمك في الماء ، والطير في الهواء.

وفي التذكرة (٤) : أنّ أهل اللغة فسّروا بيع الغرر بهذين ، ومراده من التفسير ـ كما قيل ـ التوضيح بالمثال.

وفيها أيضا الاستدلال على اشتراط القدرة على التسليم في البيع ، وعدم صحة بيع الطير في الهواء ، للنهي عن الغرر.

وفي موضع آخر : يجب العلم بالقدرة ثمنا كان أو مثمنا ، للغرر.

وفي آخر : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر ، كبيع عسيب الفحل وبيع ما ليس

__________________

(١) القاموس المحيط ٢ : ١٠٠.

(٢) النهاية ٣ : ٣٥٥.

(٣) المصباح المنير : ٤٤٥ ، مادّة « الغرّة » ؛ المغرب : ٣٣٨ ؛ أساس البلاغة : ٣٢٢ ، مادّة « غرر » ؛ مجمل اللغة ( لابن فارس ) : ٥٣٢ ، مادّة « غرّ » ؛ مجمع البحرين ٣ : ٤٢٣ ، مادّة « غرر » ، والحاكي هو صاحب الجواهر في الجواهر ٢٢ : ٣٨٦.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٨٥.


عنده وبيع الحمل في بطن أمّه ، لأنه غرر ، لعدم العلم بسلامته وصفته.

وفيها أيضا : ومن الغرر جهالة الثمن ، وتقدّم عليه الصدوق ، في معاني الأخبار : نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع حبل الحبلة ومعناه ولد ذلك الجنين الذي في بطن الناقة ، وذلك غرر.

والسيد في الانتصار ، مصرّحا فيه بصحة بيع العبد الآبق مع غيره ، لخروجه عن الغرر ، وجعله مما انفردت به الإمامية ، خلافا لباقي الفقهاء ، حيث ذهبوا إلى أنه لا يجوز بيع الآبق على كلّ حال ، تعويلا على أنّه بيع غرر.

وابن ادريس في السرائر (١) ، قال بعد ذكر حلب بعض اللبن وبيعه مع ما في الضروع أو يجعل عوض اللبن شيئا من العروض : والأقوى عندي المنع من ذلك كلّه ، لأنّه غرر وبيع مجهول ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن بيع الغرر (٢).

وقال الشهيد في قواعده (٣) : يشترط كون المبيع معلوم العين والقدر والصفة ، فلو قال : بعتك عبدا من عبدين ، بطل ، لأنّه غرر.

وعنه في شرح الإرشاد : التصريح بما يعترف بذلك في مواضع منه ، وفي بعضها : الغرر احتمال مجتنب عنه في العرف ، بحيث لو ترك وبّخ عليه.

وقال المحقّق الثاني في شرح القواعد (٤) في بيان صحّة بيع الصاع من الصبرة المجهول الصيعان : وذلك لأنّ البيع أمر كلّي والأجزاء متساوية فلا غرر ، بخلاف ما لو باع النصف ، فإنّه مع الجهالة لا يعلم قدره ، فيلزم الغرر.

__________________

(١) السرائر ٢ : ٣٢٢.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٤٤٨ ، الباب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢٩٦٥.

(٣) القواعد والفوائد ١ : ٢٩٤.

(٤) جامع المقاصد ٤ : ١٠٥.


ومن التنقيح ، بعد نقل عدم صحة بيع ما يراد طعمه وريحه من غير اختبار عن أبي الصلاح والقاضي وسلّار : لأنه مجهول ، فهو بيع غرر ، وقد نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر ، إلى غير ذلك من كلمات المتقدّمين والمتأخرين في موارد مختلفة.

ويظهر من كلمات هؤلاء الأعلام واللغويين وغيرهم : أنّهم متّفقون على أخذ الجهالة والخطر في معنى الغرر ، بل لولاه وجب الوقوف (١) عليهما أيضا ، أخذا بالمتيقّن من النهي ، مضافا إلى تبادره فيهما. إذ لا غرور ولا خداع مع الأمن من الضرر أو العلم به فيما علم البناء على التغابن فيه.

فإن قلت : فعلى هذا يلزم صحة بيع الضال والآبق والطير في الهواء عند العلم بعدم حصولها ، مع أنّ الظاهر اتفاق كلماتهم الشاملة بإطلاقها لصورة العلم في اشتراط القدرة على تسليم المبيع ، استنادا إلى نفي الغرر.

قلت : بطلان البيع فيما ذكر مسلّم ، ولكنّه مع العلم ليس لكونه غررا ، بل لأنّه من باب أكل المال بالباطل ، فإنّ مع العلم بعدم الحصول يخرج عن كونه مالا وإن كان ملكا ، ويكون في حكم عدمه وخلوّ الثمن عن العوض. نعم ، لو فرض له منفعة كعتق الآبق للكفارة ، فلا نسلّم بطلانه مع العلم.

وأمّا إطلاق تمسّكهم بنفي الغرر فيما ذكر ، فهو مبنيّ على الغالب من عدم انسداد باب الاحتمال.

وبالجملة : فلا غرر مع العلم بالضرر ، ولا مع الجهل بالمبيع وعدم المخاطرة ، كبيع أحد عبدين متساويين في القيمة والصفة ، وإن كان باطلا باعتبار الجهالة الواقعية ، والإطلاق في بطلان المجهول بنفي الغرر في بعض الكلمات مبنيّ على الغالب أو الغفلة والتسامح.

__________________

(١) كذا.


ومن هذا يظهر صحّة بيع صاع حنطة معيّنة مردّدة بين كونها من إحدى القريتين مع عدم اختلافهما في الوصف والقيمة. نعم ، إذا كان المبيع المعيّن مردّدا بين جنسين مختلفين وإن تساويا في القيمة ، كحنطة وحمص أو دهن وعسل ، فيشكل الحكم بالصحة ، لحصول الغرر ، لعدم انحصار الخطر في اختلاف القيمة ، بل يحصل ـ أيضا ـ باختلاف النوع والصنف وصفاتهما المقصودة باختلاف الأغراض والأعراض.

وبالجملة : لا إشكال في اشتراط الجهل والخطر في حصول الغرر ، وإنّما يجب التنبيه على تفصيله في أمور :

الأوّل : في متعلّق الجهل

والظاهر أنّه يعمّ الجهل بوجوده ، كبيع الغائب المتردّد في وجوده وبيع الحمل ، أو بحصوله في يد من انتقل إليه ، كالآبق والضال والمجحود والمغصوب ، أو بصفاته كمّا وكيفا ، لصدق الغرر في جميع ذلك.

وربما يحكى عن بعضهم اختصاصه بالجهل بصفات المبيع ومقداره ، لا مطلق الخطر الشامل له في تسليمه ، لحصوله في بيع كلّ غائب ، بل هو أوضح في بيع الثمار والزرع ونحوهما.

ويضعّف : بأن تقييد الخطر في كلام أهل اللغة بما ذكر ، مع أنّ الخطر أظهر بالنسبة إلى عدم الحصول مما لا وجه له ، سيما مع اشتهار التمثيل ببيع الطير في الهواء والسمك في الماء ، وخصوصا مع شيوع استدلال الخاصّة والعامّة باشتراط القدرة على التسليم بنفي الغرر كما عرفت.

وعن الشهيد في قواعده (١) عكس ذلك ، فخصّه بمجهول الحصول دون مجهول

__________________

(١) القواعد والفوائد ٢ : ١٣٧ ، القاعدة ١٩٩ ؛ غاية المراد في شرح الإرشاد ٤ : ٣١.


الصفة المعلوم الحصول ، وقال : وليس من الغرر كحجر لا يدري أنّه ذهب أو فضّة أم نحاس أم صفر. وهو ـ أيضا ـ ضعيف وتقييد بلا دليل عنه غريب. وعن شرحه على الإرشاد ما يظهر منه التعميم.

الثاني : في كيفية الخطر فيظهر من بعض الأساطين : أنّه باعتبار نقصان ما انتقل إليه عما يقابله من حيث ذاتهما بحسب القيمة ، فلو باع المتردّد بين الزائد والناقص قدرا أو صفة أو قيمة ، كالمجهول المردّد بين كونه ذهبا أو نحاسا بقيمة النحاس ، أو اشترى العبد الآبق بثمن قليل للعتق في الكفّارة ، لم يكن غررا ، لخلوّه عن المخاطرة للجاهل.

ولا يخفى أنّ إطلاق كلماتهم في بطلان بيع مجهول الصفة أو القدر أو العبد الآبق تمسكا بلزوم الغرر يعمّ بطلان جميع ذلك ، فضلا من مجهول الجنس ، كبيع ما في الصندوق المتردّد بين أجناس مختلفة متفاوته القيمة بقيمة الأقلّ. بل الظاهر عدم الخلاف في فساده وكونه غرريا ، فالتحقيق في توجيه المقام وسرّه أنّ مناط الخطر ليس نقصان ما بإزاء المنتقل إليه من العوض قدرا وقيمة ، بل العبرة بهما من حيث تعلّق العقد بهما وقصد المتعاقدين من عقد المعاوضة. ولا شكّ أنّه إذا اشترى ما يتردّد بين الجيّد والرديّ أو القليل والكثير ولو بأقلّ من الثمن ، فهو من حيث كونه مبيعا ومقصودا من العقد محلّ الخطر لجهالة قدره وصفته ، وإن كان الثمن الذي يبذله يكون أقلّ المحتملات وسالما عن الضرر من حيث هو ، مع قطع النظر عن تعلق القصد به من العقد ، فلا يخرج به عن الغرر ، كما أن الجهل بالقيمة مع العلم بالقدر والصفة لا يوجب الغرر ، ولا يبطل به البيع ، وإن كان متضمّنا للغرر فيجبر بالخيار ، لدليل آخر يقتضيه لعدم كونه من حيث القيمة متعلقا للعقد. فتفطّن ولا تغفل.


الثالث : في مقدار الخطر من جهة العرف

واختلف في المعيار المعتبر في صدقه عرفا ، ففي المحكيّ عن الشهيد في شرح الإرشاد : أنّ الغرر احتمال مجتنب عنه في العرف ، بحيث لو تركه وبّخ عليه.

واعترض عليه : أنّ مقتضاه أنّه لو اشترى الآبق والضال المرجو الحصول بثمن قليل لم يكن غررا ، لأنّ العقلاء يقدمون على الضرر القليل رجاء للنفع الكثير ، وكذا لو اشترى المجهول المردّد بين النحاس والذهب بقيمة النحاس ومجهول المقدار بثمن المتيقن منه ، فإنّ ذلك كلّه مرغوب فيه عند العقلاء ، مع إطباق كلماتهم وإطلاق عباراتهم في كونه غررا منهيّا عنه ، إلّا أن يحمل كلامه على الاجتناب الراجح (١) باعتبار الجهل به في نفسه لا الفعلي المرغوب فيه أحيانا لجهة خاصة به ، ولا عبرة بمسامحة العرف في بعض المقامات وإقدام العقلاء عليه أحيانا ، ولذا لا يغتفر شرعا في مدة الخيار الجهل ولو بساعة وساعتين المعلّل عندهم بنفي الغرر ، مع أن العرف لا يداقّون في مثل تلك الجهالات غالبا.

وربما يظهر من بعضهم أنّ الجهالة التي لا يرجع الأمر معها غالبا إلى التشاحّ ، بحيث يكون النادر كالمعدوم لا يعدّ غررا ، كتفاوت المكاييل والموازين ، وهو ـ أيضا ـ لا يخلو عن إجمال وإبهام.

والتحقيق : أنّ معيار الغرر في العرف هو الخطر الذي يجتنب عنه مطّردا أو غالبا كان خلافه نادرا في حكم المعدوم ، فلا عبرة بمجرّد المسامحة في بعض المقامات لجهة عارضة شخصية.

وتوضيح ذلك : أنّ تسامح العرف بالجهل على وجوه :

أحدها : أن يكون متعلّقه أمرا يسيرا لا يتعلّق به قصد يقيني به ، ولا يترتّب عليها فائدة معتدّة كتفاوت الكيل والوزن.

__________________

(١) في الأصل الرابع وهو تصحيف ظاهرا.


وثانيها : أن يكون مما يتعذّر أو يتعسّر معرفته إلّا نادرا ، فلا يعتبرها العرف في معاملاتهم ومكاسبهم ، كتفاوت أساس الجدران وبواطن العمارات في كونها من الطين أو الجصّ والساروج ، وأعماق منابت الأشجار والبساتين في كونها حجرا أو ترابا.

وثالثها : أن يكون التسامح دائرا مدار عدم فائدة مهمّة ، وهذا يختلف باختلاف الأغراض والمصالح ، كتفاوت يوم ـ بل ساعة ـ في اختلاف مدّة الخيار ، فقد يداقّون فيه بملاحظة لزوم البيع وعدمه به والمتسامح به المغتفر في الشرع ، فهو الأوّلان دون الأخير ، لما عرفت. ومن ذلك اتّفاقهم على اشتراط تعيين مدّة الخيار ، بحيث لا يحتمل زيادة ولا نقيصة ولو بزمان قليل تمسّكا بنفي الغرر.

البحث الثاني : كما أنّ الغرر يحصل في البيع الجزئيّ الشخصيّ ، يحصل في الكلّي ـ أيضا ـ إذا كان مبهما في أنواعه وأقسامه وأفراده المختلفة قيمة أو صفة يختلف بها الأغراض والفوائد ، فيفسد به البيع ، كما صرّح به غير واحد ، لعموم الدليل.

فإن قلت : الكلّي الطبيعيّ إذا كان متعيّنا بمفهومه فمشخّصاته النوعية أو الفردية غير داخلة في المبيع ، فلا يحصل بعدم تعيّنها الغرر في البيع ، ولزوم التخصّص بواحد فيها عند الإقباض من باب المقدّمة ، وهي على اختيار البائع ، وإلّا لم يصحّ بيع الكلّي مطلقا.

قلت : المبيع الكلّي وإن كان متعيّنا في نفسه ، إلّا أنّ تعلّق القصد ببيعه وشرائه لا ينفكّ عن تعيّنه بمشخصاته الخارجية المقوّمة لوجوده الخارجيّ ، ضرورة أنّ الموجود الخارجيّ هو مقصود المتبايعين بالمعاوضة حقيقة ، فلا يتسامح بتفاوته الفاحش لسائر أفراد الكلّي ، وإن كان بحسب الدلالة اللفظية مدلولا تبعيا ، فيصدق عليه الغرر والخطر عرفا إذا لم يتعيّن الشخص ، كما في بيع فرس كلّي صادق على


ما يسوى العشرة وما فوقها إلى مائة ونحوها.

نعم ، إذا كانت الكلّي خصوصياته الفردية متشابهة لا يختلف بها الأغراض والأوصاف المختلفة بها القيمة والرغبات يصحّ بيعه بإطلاقه ، لانتفاء الخطر ، ويكون التعيين ـ حينئذ ـ باختيار البائع من باب المقدّمة.

البحث الثالث : قد عرفت أنّ صدق الغرر مشروط بثبوت الخطر والجهل به ، ومجرد الجهل من غير خطر غير كاف في صدقه. نعم ، إذا كان الجهل واقعيا ، بمعنى عدم تعيّن المبيع في الواقع ، كان العقد باطلا ولو مع عدم الخطر ، لا لأجل الغرر ، بل لعدم إحراز الموضوع والمبيع وعدم تعلّق الإنشاء ـ حينئذ ـ بمبيع معيّن ، فلا يؤثر العقد في مقتضاه كالملك في البيع ، وتفويض تعيينه بعد العقد إلى اختيار العاقد ينافي سببية العقد المستقلّة بأدلّته.

لا يقال : إنّ مفهوم أحدهما الصادق على كلّ واحد معيّن منهما أمر كلّي متعيّن في نفسه ، فصحّ بيعه كسائر الكليات.

لأنّا نقول : الخصوصية غير داخله في بيع الكلّي ، بخلاف محلّ الفرض ، فإنّها داخلة فيه مردّدة بين فردين مبهمين.

وصرّح بذلك المحقق الثاني في شرح قوله في القواعد : ولو قال : بعتك صاعا من هذه الصيعان مما يتماثل أجزائه صحّ. ولو فرّق الصيعان وقال : بعتك أحدهما لم يصحّ. والفرق بين هذين الصورتين : أنّ المبيع في الثانية واحد من الصيعان المتميّزة المتشخصة غير معيّن ، فيكون تعيينه مشتملا على الغرر ، وفي الأولى المبيع أمر كلّي غير متشخص ولا متميّز بنفسه يتشخّص بكلّ واحد من صيعان الصبرة ويؤخذ به.

ومثله ما لو قسم الأرباع وباع ربعا منها من غير تعيين ، ولو باع ربعا قبل القسمة


صحّ ، ونزّل على واحد منها مشاعا ، لأنّه ـ حينئذ ـ أمر كلّي.

فإن قلت : المبيع في الأولى ـ أيضا ـ أمر كلّي. قلنا : ليس كذلك ، بل هو واحد من تلك الصيعان المتشخّصة منها ، فهو بحسب صورة العبارة يشبه الأمر الكلّي ، وبحسب الواقع جزئي غير متعيّن ولا معلوم ، والمقتضي لهذا المعنى هو تفريق الصيعان وجعل كلّ واحد برأسه ، فصار إطلاق أحدها منزّلا على شخص منها غير معلوم ، ولو أنه قال : بعتك صاعا من هذه ، شائعا في جملتها ، لحكمنا بالصحّة.

انتهى.

وهو في غاية الجودة ، إلّا أنّ جعله الصورة الثانية من الغرر ـ مطلقا ـ ليس في محله ، بل لما أشرنا إليه من إبهام الموضوع.

البحث الرابع : وحيث علمت أن مناط الخطر والجهل بالضرر في الغرر إنما هو من حيث المعاملة والمعاوضة

وإن كان مأمونا عنه بحسب الخارج ، يتضح لك أن اشتراط الخيار في مجهول الصفة الذي لم يبتن العقد فيه على الوصف لا ينتفي به الغرر ، كما هو ظاهر كلماتهم ، فيبطل به البيع وإن كان ضرره مجبورا بالخيار ، ولا يلام عليه عرفا. ومثله الخيار بعد ظهور العجز عن تسليم المبيع والانفساخ بالتلف قبل القبض ، فلا يدفع بهما الغرر المبطل.

وتوهّم سقوطه بالخيار وعدم لوم العرف بعد اطّلاعهم على الحكم الشرعي اللاحق للبيع من ضمان البائع وعدم التسلط على مطالبة الثمن ، مدفوع ، بأنّه حكم شرعيّ عارض للبيع الصحيح الذي لم يكن في نفسه غررا ، ولا يندفع به الغرر الذاتيّ المشتمل عليه البيع ، ولذا لا يصحّ شرط عدم هذا الخيار ، ولا يصحّ الإلزام (١)

__________________

(١) الالتزام ( خ ).


بالخطر والضرر الغرريّ ، كما في بيع الضال ، وكلّما لا يقدر على تسليمه.

ويظهر ـ أيضا ـ عدم انتفاء الغرر بوجود مصلحة أخرى في بيع المجهول الجابر لخطره وضرره على تقدير وجوده.

وكذا يظهر عدم الغرر في مجهول القيمة ، فلا يبطل به البيع ، لعدم كونه متعلّقا للبيع كما مرّ ، والضرر الحاصل متبعّضا بها يجبر بخيار الغبن بعد ظهوره ، وكذا عدم الغرر في مجهول الوصف مع البناء على الوصف في البيع ، فيجبر بالخيار ـ أيضا ـ بعد ظهور المخالفة ، لأنّ متعلق البيع متعيّن ـ حينئذ ـ لا جهالة فيه من حيث كونه مبيعا.

البحث الخامس : هل يلحق بالبيع في بطلانه بالغرر غيره من عقود المعاوضات؟

فيه وجهان : من عموم أدلّتها الدالّة على صحّتها واختصاص الغرر المنفيّ في الخبر بالبيع ، ومن أنّ الدائر في ألسنة الأصحاب وكلماتهم نفي الغرر على سبيل الإطلاق من غير اختصاص بالبيع ، وبه يستدلّون على اشتراط تعيين العوض والمدة في الإجارة والمزارعة والجعالة وغيرها. بل قد ترسل في كلماتهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه نهى عن الغرر ، وقد بحثوا بالخصوص عن الخلاف في ذلك في الصلح ، ولعلّه إشعار بعدم الخلاف في غيره واختصاصه به ، لكونه أوسع من غيره.

ولا إشكال في بطلانه إذا كان الجهل واقعيا كصلح أحد الحقّين أو أحد العبدين وإن لم يكن فيه غرر كما مرّ ، سواء كان فيه خطر أم لا. وأمّا إذا كان الجهل ظاهريا وعند المصطلحين أو أحدهما فما وقع عليه الصلح وكان من الحقوق السابقة ، وتعذّر العلم به فلا خلاف ظاهرا ـ تحقيقا ونقلا ـ في صحّة وقوعه مورد الصلح ظاهرا وباطنا مع استحقاق المدّعى وظاهرا خاصة مع كونه مبطلا ، سواء كان


المجهول المصالح عنه أو المصالح به أو كلاهما ، ويدلّ عليه عمومات الصلح والوفاء والتجارة.

وعن التذكرة : الإشكال فيما كان المصالح به مجهولا. ولعلّه في غير مقام التجاذب ، بل صدق الغرر عرفا مع تعذّر العلم مشكل ، وكذا إذا تعسّر العلم أو لم يمكن العلم في الحال مع الحاجة الحالية في قطع الدعوى ، كما عن صريح الشهيدين ، لعمومات الصلح بل نفي الغرر ، وفي بعض المعتبرة ما يدلّ عليه أيضا ، كالمرويّ في الرجلين كان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه ، لك ما عندك ولي ما عندي ، فقال : « لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت به أنفسهما » (١) وهو بإطلاقه يعمّ الدين ، بل لعلّه فيه أظهر من العين ، وظاهر أنه لا يستقيم ذلك في العين إلّا بالصلح ، مضافا إلى ما في الصحيح في الرجل يكون عليه الشي‌ء فيصالح ، فقال : « إذا كان بطيب نفس من صاحبه فلا بأس » (٢).

وإن أمكن المعرفة بالفعل من غير عسر ، ففيه إشكال ، من إطلاق أدلّة الصلح المقتضي للصحّة ، منها الخبر المتقدّم ، ومن لزوم الغرر.

ولا يبعد ترجيح الأوّل ، كما صرّح به بعض المحقّقين ، لعدم انصراف إطلاق كلماتهم في نفي الغرر إلى الدعوى القديمة ، سيما بملاحظة تصريحهم بالصحة عند تعذّر العلم أو الحاجة ، مع أنّهم لا يفرّقون في البطلان بينهما في غير ذلك ، وضعف إطلاق المرسل في المورد مع عدم الجابر.

وإن كان مورد الصلح ابتدائيا ، سواء كان العوضين معا كصلح قبة من الحنطة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٤٤٥ ، الباب ٥ من أبواب أحكام الصلح ، الرواية ٢٤٠١٢.

(٢) نفس المصدر : الرواية ٢٤٠١٤.


مجهول القدر بقبة مجهولة من الحمص ، أو أحدهما كالصلح من دعوى حقّ سابق بقبة مجهولة ، ففي اشتراط معلومية ما وقع عليه الصلح الابتدائيّ وجهان ، وأقوالهم فيه مختلفة ، بل بظاهرها متدافعة ، فإنّك تراهم يحكمون بصحّة الصلح الابتدائيّ في المجهول الذي لا يجوّزونه في البيع ، كالصلح عن لبن غنم في مدّة معلومة بغير اللبن والبعض فعلا كما أفتى به الشيخ ، مع أنّه غير معلوم المقدار ، سيما إذا كانت المدة طويلة تختلف مقاديره في أحيانها.

ومال إليه الشهيد في الدروس ، حاكيا عن الحلّي المنع عنه ، وجوّز فيه أيضا الصلح على سقي زرعه أو استيجاره بشرط معلومية المدّة ، والصلح عن إبقاء أغصان شجرة وأصوله في ملك الغير بعوض معيّن ، مع أنّه يختلف في إحاطة هواء صاحب الأرض بحسب قوّة نمائه وعدمها.

وقال العلّامة في الإرشاد : ويصحّ الصلح على الإقرار والإنكار ما لم يغيّر المشروع ، ومع علم المصطلحين وجهلهما بقدر المال المتنازع عليه دينا كان أو عينا ، لا ما وقع عليه الصلح ، ويكفي المشاهدة في الموزون ، وهو ظاهر في عدم تجويزه الجهالة في وجه المصالحة.

وقال المحقق الأردبيلي في شرحه : « وأمّا معلومية ما يقع عليه الصلح ، فالظاهر أنّه لا نزاع فيه إذا لم يكن هو مما يصالح عنه ، مثل ما تقدّم في صحيحتي محمد ومنصور ، لأنّه طرف لعقد مقدور المعلومية فلا بدّ أن يكون معلوما ليندفع به الغرر كما في سائر العقود » قال : « ولكن الظاهر أنّه يكفي العلم في الجملة إمّا بوصفه أو مشاهدته ولا يحتاج إلى الكيل والوزن ومعرفة أجزاء الكرباس والقماش والثياب وذوق المذوقات وغير ذلك مما هو معتبر في البيع ونحوه للأصل وعدم دليل واضح على ذلك وعموم أدلة الصلح المتقدّمة ، ولأنّ الصلح شرّع للسهولة والإرفاق بالناس


لتسهيل إبراء ذمّتهم ، فلا يناسبه الضيق ، ولأنّه مبنيّ على المسامحة والمساهلة ، وإليه أشار بقوله : ( ويكفي المشاهدة في الموزون ) ، وإن خالف فيه البعض ، قال في الدروس : والأصحّ أنه يشترط العلم في العوض إذا أمكن وقال في موضع آخر : ولو تعذّر العلم بما صولح عليه جاز ، إلى قوله : ولو كان تعذّر العلم لعدم المكيال والميزان في الحال ، ومساس الحاجة إلى الانتقال ، فالأقرب الجواز. وهو مختار شارح الشرائع أيضا ، ولا نعرف له دليلا ، وما تقدّم ينفيه ، ويؤيّده التجويز عند التعذّر ، فإنّ ذلك لا يجوز في البيع عندهم ، فتأمّل ». انتهى كلام الأردبيلي (١).

قوله : إذا لم يكن هو مما يصالح عنه ، مثل ما تقدّم في صحيحتي محمد ومنصور ، مراده : الحقّ السابق المجهول ، كما هو مورد الصحيحين ، وعرفت أنّه لا إشكال ولا خلاف ظاهرا في صحّة الصلح عنه ، وإلّا فلا فرق في الصلح الابتدائيّ بين المصالح عنه والمصالح به.

ثم أقول : الظاهر من تتبّع كلمات الفقهاء وصريح المحقّق المذكور في عدم الخلاف وعدم تخصيصهم اشتراط تعيين المدّة بالبيع وأمثال ذلك عدم الخلاف منهم في اشتراط العلم في الجملة في الصلح الابتدائيّ ، وبطلانه بالجهل المطلق ، وإن اختلفوا في حدّ العلم المشروط فيه.

وسمعت من الشهيد ، اشتراطه على حدّ البيع ، إلّا إذا تعذّر ، مع مسيس الحاجة في الحال ، فهو الدليل عليه ، مضافا إلى نفي الغرر المطلق فيما قد يرسل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، المنجبر في المورد بالشهرة المذكورة لو لا الإجماع المخصّص لعمومات الصلح ، لوروده عليها كورود دليل نفي الضرر على أدلّة المباحات الشرعية.

وتجويز الشيخ وغيره الصلح عن لبن الغنم في مدة معلومة مع جهالة مقداره ولو

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٩ : ٣٣٨.


بالمشاهدة وإبقاء الأغصان ونماءها في هواء الغير وأمثال ذلك ، فليس من المجهول المطلق من قبيل الصلح عن لبن عشرة أغنام من قطيعة غنم ، وما أظنّ أن يجوّزه أحد ، بل هو مما يناط بالاستعداد والقوة الممكنة معرفتها بالعرف ولو تقريبا ، كمعلومية قوّة الشجرة في الأرض المستأجرة.

وأما اشتراط العلم التفصيليّ كما في البيع ، فلا دليل عليه وإن تمكّن عن تحصيله ، لضعف المرسل المزبور ، وعدم الجابر له في المقام ، وعدم الإجماع لو لا على خلافه ، فيتعيّن العمل بعمومات الصلح ونحوها ، وخصوصا الأخبار الخاصّة الشاملة لمحلّ الفرض كما صرّح به جمع من المحقّقين.

فرعان :

الأوّل : هل يصحّ الصلح عما يملك مع جهل المصطلحين أو أحدهما بقدره أو جنسه أو صفته كما قد تداول بين الناس أم لا.

مقتضى ما ذكرنا من اشتراط العلم الإجماليّ وإن كان الثاني ، إلّا أنّ الظاهر كونه في غير مقام المحاباة ، إذ لا دليل على الاشتراط ـ حينئذ ـ مخصّص لعمومات الصلح والأخبار الخاصّة المشار إليها ، بل عدم صدق الغرر العرفيّ ـ حينئذ ـ وإن قلنا ببطلانه في البيع للإجماع ، بل صدق الغرر فيه بالخصوص لوضعه على المعاوضة المحضة والتبادل المبنيّ على التعادل ، وأما في غير مقام المساهلة والمحاباة ، فالظاهر عدم الصحة ، كصلح ما في الصندوق بما قصد به المعاوضة المالية.

الثاني : هل يلحق بالصلح الشرط الواقع في قيمته ، فدار مداره في الصحة كما في فساده أم لا؟

فيه وجهان : من كونه تابعا له ، بل هو على ما اشتهر في ألسن الفقهاء قسط من العوض ، فحكمه في ذلك حكمه ، ومن إطلاق كلماتهم في وجوب تعيين المدّة


المشترطة ولو في ضمن الصلح المحتمل لتلك الجهالات.

والأشبه البطلان ، لأن الشرط وإن كان في حكم قسط من العوض الذي ربما يغتفر فيه الغرر ، إلّا أنّه بنفسه معاملة شرعية غير تابع في جميع أحكامه للعقد المشترط في ضمنه ، ولا هو شرّع للسهولة والإرفاق ، فيلاحظ فيه بنفسه الغرر كسائر المعاوضات الممنوعة عنه ، لإطلاق الرواية النافية الجابر في المورد بإطلاق كلماتهم.

ومسامحة العرف في عدم تعيّن فرد من موارد الشرط لا يقتضي الاطّراد ، بل قد يتفق وقوعه مثارا للتشاجر المؤدّي إلى الفساد ، وإن كان المشروط صلحا عن الحقّ السابق أو مبنيّا على المحاباة ، فتأمل جيّدا ولا تترك الاحتياط.

تتميم : وحيث علمت أنّ دليل عموم المنع عن الغرر فيما يمنع هو الإجماع ، والمرسل المطلق فيما حصل فيه الانجبار ، فيلاحظ ذلك في غير الصلح من عقود المعاوضات ، فكلّ معاملة غررية دلّ على المنع فيه أحدهما بطل ، ولعلّ الشهرة متحقّقة في أكثرها ، وإلّا فإن كانت المعاملة ممّا اقتضى شرعيته دليل يعمّه يحكم بصحّته ، وإلّا بفساده ، عملا بالأصل.



مشارق في نبذ من مهمات مباحث الخيارات ومعضلاتها

[ المشرق السادس عشر ]

[ في خيار المجلس ]

مشرق : من الخيارات خيار المجلس ، أي موضع العقد ، ويختصّ بالبيع ، ويرتفع بانقضائه ، وانعقد عليه الإجماع ، إلّا فيما استثنى ، كالبيع المنعتق على المشترى.

ومع ذلك فالنصوص به مستفيضة ، كالمتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « البيعان بالخيار حتى يفترقا » (١).

وفي بعضها : « فاذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما » (٢).

« والمتبايعان بالخيار ثلاثة أيام في الحيوان ، وفيما سوى ذلك من بيع حتّى يفترقا » (٣).

وقوله عليه‌السلام : « أيّما رجل اشترى من رجل بيعا ، فهما بالخيار حتّى يفترقا ، فإذا افترقا فقد وجب البيع » (٤).

ثمّ لا إشكال في ثبوت الخيار إذا كان المالكان متبايعين ، وأما إذا باع وكيلهما ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٥ ، الباب ١ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠١١ ؛ الكافي ٥ : ١٧٠.

(٢) نفس المصدر ١٨ : ٦ ، الباب ١ ، الرواية ٢٣٠١٤ ؛ الكافي ٥ : ١٧٠.

(٣) نفس المصدر ١٨ : ١٠ ، الباب ٣ ، الرواية ٢٣٠٢٥ ؛ التهذيب ٧ : ٢٣.

(٤) نفس المصدر ١٨ : ٦ ، الباب ١ ، الرواية ٢٣٠١٤ ؛ الكافي ٥ : ١٧٠.


فهل يكون الخيار لهما ، أو للمالكين ، أو للجميع ، أو ليس لأحدهم؟ فيه أقوال ، ومنشأ الخلاف غالبا ، الاختلاف في مصداق المتبايعين ، هل هما الوكيلان اللذان أجرى منهما العقد ، أو المالكان.

ولعلّ الخلاف فيما اجتمع الجميع في المجلس ، وإلّا فلا خلاف ظاهرا في عدم ثبوته للمالكين عند غيابهما ، لقوله عليه‌السلام : « حتى يفترقا » المستلزم للاجتماع.

وقد يقال : الخيار تابع للملكية ، وإرفاق للمالك ، ولا حقّ لوكيل مجرّد العقد حتى كان له الخيار أصالة إلّا بتوكيل المالك ، فهذا قرينة لإرادة المالكين من المتبايعين ، وإن قلنا بكون البائع حقيقة مجري العقد ، غاية الأمر اشتراط حضورهما ، لظاهر النصوص.

ولا يخفى أنّ مقتضى ذلك نفي الخيار عن الوكيل ، لا إثباته للمالك ، مع عدم تلبّسه بالعقد ، وتسليم ظهور البائع في المتلبّس.

والتحقيق أنّ ما يمكن إرادته من البائع أحد المعاني الأربعة :

الأوّل : العاقد من حيث تلبّسه بالصيغة.

الثاني : المالك من حيث كونه مالكا.

الثالث : من بيده البيع ، ودار على مشيئته أمره ، وجودا وعدما وبقاء وزوالا ، سواء كان بالملك أو الولاية أو الوكالة المطلقة المستقلة ، نظير العامل في المضاربة.

الرابع : من له الوكالة في مجرّد المعاوضة ، ولو مع تعيين الثمن والمثمن ، وتوكيل الغير في إجراء العقد ، كما إذا قال : اشتر لي فرسا (١).

ثمّ الظاهر : عدم كون الأوّل مرادا ، بل لعلّه لا ينصرف لفظ البائع إليه ، لظهوره فيمن له سلطنة النقل الشرعيّ ، ومجرّد التلفظ بالعقد من حيث التلبّس غير كاف

__________________

(١) كذا.


فيه ، وإنّما هو من قبيل الآلة دون المؤثّر ، كالقلم للكاتب والمنشار للنجّار ، فلا ينسب الفعل المؤثر للانتقال الشرعيّ إليه ، كما لا ينسب المكتوب إلى القلم وهيئة السرير الى المنشار إلّا توسعا ، ويرشد بذلك ملاحظة بعض أخبار الباب المقترن هذا الخيار فيه بخيار الحيوان الذي ليس للعاقد قطعا.

وكذا الثاني ، لأنّ مجرّد المالكية الصادقة على مثل المولّى عليه والمفلس ، لا يوجب ملك البيع الذي يناط به ـ بحكم التبادر ـ صدق البائع.

ومن هذا يظهر بعد إرادة الرابع أيضا ، لعدم استقلال الوكيل بالمعنى المذكور في البيع ، مع أنّ الخيار لو كان له ، فالظاهر كونه من باب النيابة أيضا ، إذ لا سلطنة له فيه من حيث نفسه. وكون تلك النيابة تابعة لنيابة البيع ممنوع جدّا.

فتعيّن المعنى الثالث ، فإنّ الظاهر صدق البائع عليه ، وإن لم يجر الصيغة ، فإنّ من بيده زمام البيع ، وعلى اختياره أمره و

تعيينه والقبض والإعطاء ونحوها ، فهو قائم مقام المالك المتصرف ، في صدق ما يصدق عليه من النقل عرفا ، وأمّا بدون ذلك فيشكل صدقه ، كما صرح به والدي العلّامة (١). ولذا لا يقال لمن كان ماله بيد عامله في بلد آخر ويبيع ويشتري ، أنّه باع ملكه واشتراه ، بل ينسب البيع والشراء إلى العامل ، ويتبادر هو من البائع ، وإن لم يجر الصيغة ووكّل غيره فيه. فالمناط في الصدق العرفيّ ، السلطنة في التصرف في النقل والانتقال والردّ والإبقاء وغيرها ، سواء كان مالكا أو وكيلا أو وليّا.

نعم ، يشترط اجتماعهما في المجلس ، لما مرّ ، ومعه لا خيار للمالك ، وإن حضر المجلس ، لاستقرار الأمر على يده خاصة ، والمالك ـ حينئذ ـ في حكم الأجنبيّ.

ثم إنّه ليس للمالكين فيما ليس لهما الخيار ، توكيل العاقد من قبل العقد أو بعده

__________________

(١) مستند الشيعة ١٤ : ٣٦٦.


في الفسخ ، لأنّه فرع ثبوت الخيار لهما.

تتميم :

يسقط هذا الخيار بأمور :

أحدها : اشتراط عدمه في ضمن العقد. ولا خلاف فيه ظاهر. وعن الغنية (١) : الإجماع عليه ، لعموم أدلّة الشرط.

واعترض على الاستدلال بها ، أوّلا : بمعارضتها لأدلّة الخيار ، وثانيا : بكون هذا الشرط مخالفا للسنّة ، فيدخل فيما استثنى من الشروط. وثالثا : بكونه خلاف مقتضى العقد ، أعني الخيار. ورابعا : باستلزامه الدور ، لتوقّف لزوم الشرط على لزوم العقد ، فيدور على العكس. وخامسا : بأنّه إسقاط ما لم يجب ، إذ لا خيار قبل تمام البيع. نقل هذا عن بعض الشافعية.

والجواب عن الأوّل : ما مرّ في بحث الشرط ، من أنّه ليس هذا من التعارض ، بل من باب السببية الطارية المزيلة للخيار.

ومنه يظهر ما في الثاني : فإنّ مقتضى السنّة ، التسلط على الفسخ عند الإطلاق ، وهو لا ينافي إلزام عدم الفسخ على نفسه ، لشرط الذي هو من الأسباب الشرعية الواردة عليه.

وعن الثالث : بما حققناه في البحث المذكور أيضا ، من أنّ الممنوع الشرط المنافي لماهيّة العقد أو لازمه الذي علم من الشرع عدم انفكاكه عنه بالأسباب الملحقة ، بل كان في حكم الجزء.

وعن الرابع : بأنّ لزوم الشرط ينافي بقاء العقد على الجواز ، حيث إنّهما لا يجتمعان ، وهذا إذا كان متعلّق الشرط غير نفس اللزوم ، وأمّا إذا كان نفس اللزوم

__________________

(١) غنية النزوع ١ : ٢١٧.


الثابت وجوب الوفاء به بأدلّته ، فلا يبقى الجواز الذي ينافيه ، فلا دور.

وعن الخامس : بأنّ فائدة الشرط إبطال المقتضي ، لا إثبات الموانع بعد تمام العلّة ، كما هو حال أكثر الشروط.

وثانيها : الإسقاط بعد العقد ، اتفاقا ، له ، ولعموم العلّة في بعض أخبار خيار الحيوان ، بقوله : « فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثا قبل الثلاثة ، فذلك رضا منه ، فلا شرط له » (١).

ويمكن الاستدلال عليه ـ أيضا ـ بأنّ صحّة إسقاطه والالتزام به بالشرط يقتضي جوازه له وتسلّطه عليه ، والإسقاط تستلزم السقوط ، فلا يعود لمنافاة بقائه للإسقاط. وبالجملة بعد ملاحظة أمثال ذلك والإحاطة على أقوال العلماء وسيرهم ، لا يبقى شبهة في أنّه من الحقوق القابلة لإسقاطها من ذي الحقّ ، لا من الأحكام ، فيصحّ وقوعه مورد الشرط والصلح عليه ، بما دلّ عليهما وتقتضيه القاعدة المسلمة ، من أنّ لكل ذي حقّ إسقاط حقّه.

وثالثها : التصرّف على النحو الآتي في خيار الحيوان.

ذكره جمع من أعيان الأصحاب ، بل عن المتأخرين اتفاقهم عليه ، لعموم العلّة المشار إليها.

ورابعها : افتراق المتبايعين ، وإن لم يظهر منه رضاهما بالبيع ، بما يسمّى افتراقا ، وربما يعبّر عنه بخطوة ولو لإحداهما. وفي بعض المعتبرة ما يدلّ عليه بالخصوص ، لإطلاق الأدلّة. ولا اعتبار بافتراق لا عن اختيار ، لظهور الفعل المستند إلى الفاعل في كونه بالاختيار.

نعم ، الإكراه بالاختيار لا ينافيه ، فمع عدم المنع من التخاير يقوى السقوط. وأما

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٣ ، الباب ٤ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠٣٣ ؛ الكافي ٥ : ١٦٩.


مع المنع منه ففيه إشكال ، ولعل عدمه أقوى.

وتفصيل فروع المسألة ، كسقوط خيارهما بإكراه أحدهما وعدمه ، وامتداد الخيار بامتداد المجلس ، فخيارهما لا يسقط (١) ، أو كونه على الفور ، وغير ذلك ليس مما نقصده هنا ، بل هو موكول إلى كتب الفقه.

__________________

(١) في الأصل : فهما لا يسقط.


[ المشرق السابع عشر ]

[ في خيار الحيوان ]

مشرق : ومنها خيار الحيوان : وهو ثابت في كل ذي حياة ، حتى الجراد والزنبور والعلق والسمك ودود القز ونحوها ، ثلاثة أيام إجماعا.

وفي اختصاصه بالمبيع المعيّن ، أو شموله للكلّي الذي في الذمة وجهان : من أنّ المنساق من الإطلاقات والمناسب للحكمة التي ذكرها في التذكرة (١) ، وهي كون الخيار للاطّلاع على خفايا الحيوان ، الأوّل ، ومن إطلاق النصوص والفتاوى الشاملة للقسمين.

والمشهور اختصاصه بالمشتري. وعن الغنية (٢) الإجماع عليه اقتصارا في الخروج من عموم الوفاء بالعقود الدال على اللزوم ، مما ليس فيه خيار المجلس وما فيه ، بعدم القول بالفصل ، بالقدر المتيقّن ، واستنادا إلى ظهور النصوص في الاختصاص ، كصحيحة الفضيل ، قال : قلت : ما الشرط في الحيوان؟ قال : « [ إلى ] ثلاثة أيّام للمشتري ». قلت : وما الشرط في غير الحيوان؟ قال : « البيعان بالخيار ما

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٩١.

(٢) غنية النزوع ١ : ٢١٩.


لم يفترقا ، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا (١) [ منهما ] ».

والتعميم للخيار في غير الحيوان فيها بالنسبة إلى المتبايعين ، والتخصّص في الحيوان بالمشتري ، كالنصّ في الاختصاص. مع أنّ القيد مع إطلاق الحكم فيما ليس فيه نكتة جلية قبيح.

ونحوها سائر الأخبار من الصحاح وغيرها. بل في صحيحة ابن رئاب ، المروية في قرب الإسناد (٢) ، التصريح بنفيه عن البائع ، خلافا للسيد المرتضى (٣) ، والمحكيّ عن ابن طاوس (٤) ، فثبوته للبائع أيضا.

وعن الانتصار (٥) : الإجماع عليه ، لصحيحة ابن مسلم (٦) : « المتبايعان بالخيار ثلاثة أيام في الحيوان ، وفيما سوى ذلك من بيع حتى يفترقا » ، والمحكيّ عن جماعة من المتأخّرين ، فثبوته لمن انتقل إليه الحيوان ثمنا أو مثمنا ، لعموم صحيحة محمد بن مسلم : « المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا ، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام ».

أقول : مقتضى الصحيحة الأخيرة ، أنّه لو كان العوضان حيوانين ، كان لهما الخيار. ودعوى ظهورها في اتحاد صاحب الحيوان ، فيتعين المشتري لكونه المتيقن ، ممنوعة ، لظهور المفرد المضاف في العموم الجنسيّ ، مضافا إلى أنّه يتعيّن المشتري فيما فرض كون الثمن حيوانا. وكذا الاعتراض بمعارضتها للأخبار

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٧٠ ؛ التهذيب ٧ : ٢٤ ؛ وسائل الشيعة ١٨ : ٥ ، الباب ١ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠١١.

(٢) قرب الإسناد : ٢٦١.

(٣) الانتصار : ٢٠٧.

(٤) لم نقف عليه ولكن حكاه عنه الشهيد في غاية المراد ٢ : ٩٧.

(٥) الانتصار : ٤٣٣.

(٦) وسائل الشيعة ١٨ : ١٠ ، الباب ٣ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠٢٥.


المستفيضة المشار إليها ، الظاهرة بالتقريب المتقدم في اختصاص الخيار بالمشتري ، الراجحة عليها بالأكثرية والأشهرية ، بل الأصرحية ، بملاحظة ما في موثقة ابن فضال ، من تقييدها الحيوان بكونه للمشتري ، لظهورها بحكم الغلبة في كون صاحب الحيوان المشتري ، خصوصا بملاحظة الصحيحة المثبتة لصاحب الحيوان ، والموثّقة المصرّحة بكون المشتري صاحب الحيوان ، بل نقول : لو لا تنزيل الموثقة على مورد الغالب ، مع دعوى اختصاص الخيار فيه بصاحب الحيوان المشتري ، لزم نفيه رأسا ، حيث لم يكن هو صاحب الحيوان ، بل كان الثمن حيوانا ، وهو إحداث قول حادث.

مضافا إلى إمكان دعوى ظهور سياق الأخبار المتقدّمة المثبتة للمشتري ، في كون جهة الخيار انتقال الحيوان إليه ، لا مجرّد كونه مشتريا. وبهذا يظهر ضعف القول المشهور ، مضافا إلى تعارض أخباره الصحيحة.

وأمّا القول الثاني ، فمع ندرة قائله ، يضعّف بأنّ إطلاق قوله : « المتبايعان بالخيار ثلاثة أيّام » منساق إلى بيان مدة الخيار ، في مقابل خيار المجلس ، فشموله لجميع موارد الإطلاق غير ظاهر ، بل غايته الدلالة على الخيار لهما في الجملة ، الذي يتحصّل ثبوته لهما ، فيما كانا كلاهما صاحبي الحيوان ، أو هو خاصّة صاحبه ، فلا ينافي القول الثالث. نعم ينافي القول الأوّل ، لاقتضائه عدم بقاء مورد لخيار البائع أصلا ، مضافا إلى أنّ تلك الصحيحة أعمّ مطلقا من الصحيحة الأخيرة ، فيخصّص بها. وإذن ، فالأظهر القول الثالث ، وإن كان الأسلم رعاية الاحتياط ، بملاحظة عمومات اللزوم وغيرها.

تتميمات :

الأوّل : مدّة هذا الخيار مقدار ساعات ثلاثة أيّام من النهار ولو ملفّقا ، للتبادر ، كما


في نظائره ، ويتبعها الليالي المتوسّطة وليلة العقد ، لا لاستعمال اليوم فيما يتركب منهما في النصوص ، حتى يلزم اختلاف مفردات الجمع في استعمال واحد عند صدور العقد أوّل النهار ، بل للإجماع على عدم انقطاع الخيار بالليل في خلال الأيّام الثلاثة ، واتصاله بالعقد.

الثاني : يسقط هذا الخيار ـ أيضا ـ بالشرط ، ولو بالنسبة إلى بعضه ، وبالإسقاط بعد العقد ، وبالتصرّف في الحيوان إجماعا في الجملة ، مضافا إلى النصوص ، ففي صحيحة ابن رئاب (١) : « وإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثا قبل ثلاثة أيام ، فذلك رضا منه ، ولا شرط له ، قيل : وما الحدث؟ قال : « أن لامس أو قبل أو نظر إلى ما كان محرّما عليه قبل الشراء ».

وصحيحة الصفار (٢) ، كتبت إلى أبي محمد عليه‌السلام في الرجل اشترى دابّة من رجل ، فأحدث فيها من أخذ الحافر أو نعلها أو ركب ظهرها فراسخ ، له أن يردّها في ثلاثة الأيام التي له فيها الخيار بعد الحدث الذي يحدثها ، أو الركوب الذي يركبها ، فوقّع عليه‌السلام : « إذا حدث فيها حدث فقد وجب الشراء إن شاء الله ، وفي الصحيحة المروية في قرب الإسناد (٣) ، قلت : أرأيت إن قبّلها المشتري أو لامس أو نظر منها إلى ما يحرم على غيره فقد انقضى الشرط ولزم البيع.

وهل التصرف المسقط مطلقة أي كلّما لا يجوز لغير المالك إلّا برضاه ، فيعمّ الدال على الرضا باللزوم وغيره ، كما هو ظاهر إطلاق أكثر الفتاوى وصريح التذكرة (٤) في

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٣ ، الباب ٤ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠٢٣ ؛ الكافي ٥ : ١٦٩.

(٢) نفس المصدر.

(٣) قرب الإسناد : ٢٦١.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ٥١٩.


بيان تصرّف المسقط للردّ بالعيب الذي هو مع ما في المقام من باب واحد ، حيث جعل استخدامه بشي‌ء خفيف مثل : اسقني ، أو ناولني الثوب ، أو أغلق الباب ، مسقطا للردّ. وضعّف قول الشافعي بعدم المنع من الرد ، معلّلا بأن مثل هذه الأمور قد يؤمر به غير المملوك ، بأنّ مطلق التصرف مسقط ، تعليلا له في موضع آخر بأنّه استعمال وانتفاع.

أو المسقط التصرّف الدال على الرضا باللزوم فعلا وشخصا ، كما عن الدروس (١) وظاهر بعض كلمات الآخرين أو نوعا ، بمعنى اختصاص التصرف المسقط بما دلّ بنوعه غالبا على التزام العقد ، وإن لم يدلّ في شخص المقام ، مقيّدا بعدم قرينة يوجب صرفه عن الدلالة ، كما إذا دلّ الحال أو المقال على وقوع التصرف للاختبار أو اشتباهها بعين أخرى. صرّح به بعض أفاضل من عاصرناه. أو مطلق التصرف الذي كان لمصلحة نفسه دون ما للاختبار أو الحفظ ، كما عن المحقّق (٢) والشهيد الثانيين (٣). وربما يظهر من الأوّل التردّد في مورد الاستثناء وفي التعدّي عنه.

ومنشأ الخلاف وقوع الاختلاف في مفاد الأخبار.

من إطلاق لفظ الحدث المنوط به الحكم في الصحاح المتقدّمة الشامل لجميع التصرفات ، سيما بملاحظة الأمثلة المذكورة فيها الدالّة على الرضا بمطلق الملك دون اللزوم كلمس الجارية ونحوه ، وخصوصا ما في صحيحة ابن رئاب ، من التفسير بما كان محرما عليه قبل الشراء ، فيفيد كون السقوط بالتصرف حكما شرعيا تعبديا ، وإن لم يكن التزاما عرفا.

__________________

(١) الدروس الشرعية : ٢٧٢ / ٣.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٢٩١.

(٣) مسالك الأفهام ٣ : ٢٠٠.


ومن ظهور التعليل في الصحيحة بأن ذلك رضى منه في تقييد إطلاق الحكم بما دلّ عليه ، كما في قوله : لا تأكل الرمان لأنّه حامض ، نظرا إلى بعد كونه من باب إبداء الحكمة التي لا يجب فيها الاطّراد ، بل ظهوره في العلّية المتعيّنة (١) ، فيفيد إناطة السقوط بما يدلّ على الالتزام.

ومن حمل التعليل على الدلالة الذاتية النوعية ، أي : لو خلى وطبعه ، وإن لم يدلّ في شخص المقام ، حذرا عن مخالفة معاقد الإجماع وعموم الأمثلة المذكورة في النصوص وكلمات القوم ، فلا يشترط الدلالة على الالتزام الفعليّ ، إلّا أنّه يجب التقييد بما لا يدلّ دليل على وقوع التصرف بغير الرضا باللزوم ، بل لاختبار ونحوه ، كما سمعته ممن أشرنا إليه ، نظير حمل الألفاظ على معانيها الحقيقة الظاهرة فيها لو خلّيت وطبعها ، فلا يصرف عنها إلّا بدليل.

وعليه حمل قولهم بسقوط الخيار بما أحدث حدثا يدلّ على الرضا ، كما صرّح به كثير من الفحول ، نظرا إلى عدم اقتضاء أكثر الأمثلة التي ذكرها هؤلاء الأعلام في المقام العلم بالرضا الفعليّ ، فيكون المعتبر عندهم الدلالة النوعية على الرضا.

والأقرب عندي ، القول الأوّل الموافق لإطلاق كلام الأكثر ، وسقوط الخيار بمطلق التصرف الغير المجوّز لغير المالك ، كما هو صريح النصّ ، إلّا ما تعارف للاختبار في مقام المساومة قبل العقد الذي يشهد الحال برضى البائع به ، لعموم النصوص وإطلاق الحديث. ولا ينافيه التعليل ، سيما بملاحظة التمثيل فيه بالتصرّفات الغير الدالّة على الالتزام بوجه ، بل غايتها الدلالة على التملك الأعمّ من اللزوم ، فإنّ التنافي مبنيّ على جعل متعلّق الرضا اللزوم ، ولا دليل عليه ، بل إناطة الحكم فيه بمطلق الحدث وتفسيره المذكورات يشهد بخلافه ، فالظاهر كون متعلّق

__________________

(١) في الأصل كلمة يمكن أن تقرأ هكذا.


الرضا الملك ، إذ لولاه لما جاز له التصرف ، وهو من باب الإمضاء الفعليّ للملك بعد العقد اللفظيّ الدال عليه.

بيان ذلك : أنّ العقد يفيد الملك المطلق الشامل لما يكون للمشتري فسخه ورفع اليد عنه ، ولا بقائه [ و ] استعمال لوازم الملك وإجراء آثاره وتقبّل أحكامه ، والتصرف المذكور من آثار الملك ، فهو إمضاء فعليّ وقبول عمليّ للملك بعد العقد ، فهو التزام بأحد طرفي الخيار ، من قطع الملك وإبقائه ، ولو في حال هذا التصرف الذي لا يجوز لغير المالك ، فهو ملتزم بالملك ، بل لزومه في يده في حال هذا التصرف المقصود ، فلا يعود التزلزل.

أو نقول : جعل الشارع هذا الالتزام بالملك الذي فسّره بالتصرف المحرم على غير المالك قبل العقد مزيلا للخيار ، من قبيل إجازة الفضولي التي لا يعود بعدها التزلزل ، فالمعيار في التصرف المسقط للخيار ما لا يجوز لغير المالك إلّا برضاه ، وأما ما جاز له ولو بشاهد الحال بإذنه ورضاه من غير جهة الملك ، فلا يسقط به ، لعدم كونه من آثار الملك ، فليس إمضاء له ولا رضى بالملك. ومن الثاني : التصرف للحفظ والتعليف مع الضرورة والحاجة ، وما وقع اشتباها بدابة نفسه ، ونحو ذلك.

وهل يسقط بعرضه على البيع؟ الأقرب لا ، لعدم وقوع التصرف إلّا إذا دلّ على الالتزام باللزوم ، فيكون من قبيل إسقاطه الخيار باللفظ.



[ المشرق الثامن عشر ]

[ في خيار الشرط ]

مشرق : ومن الخيارات خيار الشرط ، أي الثابت بسبب العقد لأحدهما أو لكليهما أو لأجنبيّ عن أحدهما أو عنهما ، مع أحدهما أو معهما.

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : لا خلاف في صحّة هذا الشرط في العقود في الجملة ، بل عليه الإجماع ، محقّقا ومحكيا مستفيضا ، لعموم أدلة الشرط ، كقوله عليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (١).

وربما استشكل في الاستدلال به ، بأنّه من باب شرط حكم يخالف الكتاب والسنة ، ويحلّل الحرام ، وهما مستثنيان عن أخبار الشروط ، لأنّه تسليط على نقض سببية العقد الثابتة في الشرع.

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٣٧١ و ٣ : ١٥٠ ؛ الاستبصار ٣ : ٢٣٢ ، الحديث ٨٣٥ ؛ وسائل الشيعة ٢١ : ٢٧٦ ، الباب ٢٠ من أبواب المهور ، الرواية ٢٧٠٨١ ؛ سنن البيهقي ٦ : ٧٩ و ٧ : ٢٤٩ ؛ كنز العمال ٤ : ٣٦٤ ؛ بداية المجتهد ٢ : ٢٩٦ ؛ البحر الزخار ٥ : ٧٦ ، باب الضمان.


ويندفع بأنّ هنا أمرين : الأوّل : قبول العقد للفسخ شرعا ، وقابليته له بالتراضي والتقايل.

الثاني : تراضي المتعاقدين في العقد على سلطنة أحدهما أو كليهما على الفسخ بمعنى الالتزام بكون أمره بيده ، وما لا يصحّ الاستدلال عليه بأدلة الشرط هو الأوّل ، لأنّه تشريع حكم ليس بجعلهما (١) ، فلا يقع مورد الشرط ، كجعل الخيار في النكاح ـ إجماعا ـ والوقف ـ على المشهور ـ والإيقاعات ، وأما الثاني فحيث علم من الخارج شرعية التقايل فيه بالتراضي ، وصحته بعد العقد ، جاز بالشرط الالتزام به بجعله باختيار أحدهما ، كما في أمثال البيع والإجارة ونحوهما القابلة للتقايل.

والحاصل : أنّ مشروعية الفسخ لا بدّ له من دليل خارج من أدلّة الشرط ، وحيث علم مشروعية الفسخ فيه بالمراضاة بعد العقد ، صحّ التراضي في العقد بجعله باختيار أحدهما بأدلّة الشرط.

ومن هذا سيظهر أنّ الاستدلال بأدلّة الشرط على صحّة شرط الخيار في مطلق العقود إلّا ما خرج بدليل ، ليس كما ينبغي ، لاختلاف العقود في قابليتها للفسخ بالتقايل ، فمنها ما يمتنع فيه شرعا ، كالنكاح وغيره مما أشرنا إليه ، فلا يصحّ الشرط فيه ، ومنها ما ثبت فيه وجاز قطعا ، ومنها ما اختلف فيه ، كالوقف ـ على قول ـ والصلح المتضمّن لمعنى الإبراء ونحوهما. ولا يصحّ الاستدلال بأدلة الشرط فيه أيضا ، إلّا بإثبات (٢) قبوله الفسخ اختيارا.

المسألة الثانية : يشترط في صحة شرط الخيار ضبط المدّة ، فلو تراضيا بمدّة مجهولة بطل ، بلا خلاف ، بل نقل عليه الإجماع غير واحد ، فهو الحجّة. مضافا إلى

__________________

(١) كذا.

(٢) لعلّ الصحيح : أيضا لإثبات قبوله.


لزوم الغرر وصيرورة المعاملة غررية ، بل نفس الشرط مع قطع النظر عن غرر المعاملة يشمله دليل نفي الغرر أيضا ، كما تقدّم.

ولا عبرة بمسامحة العرف في بعض المعاملات ، كتحديدهم إلى الحصاد ونحوه ، إذ ليس هو على الكلّية ، ولذا يداقّون في مقام الحاجة وحصول الفائدة بساعة وساعتين ، ولا إشكال في ذلك.

وإنّما يختلط الأمر في حدّ انضباط المدّة ، فإنّك تريهم يجوزون التحديد بشهر أو سنة ، كما هو مدلول أخبار بيع الخيار ، ولا خلاف فيه ظاهرا ، مع أنّها يحتمل الزيادة والنقيصة بيوم أو أكثر ، ولا يجوّزون التحديد بقدوم زيد. ولو كان التفاوت المحتمل فيه هذا المقدار ، فما الفارق بينهما؟ بل الظاهر عدم تجويزهم التحديد بيوم معيّن لا يعرف ، كعيد المولود ، ويوم دحو الأرض ، مع اشتراك الجميع في التعين الواقعي والجهل الظاهري الذي يناط به الغرر.

ويمكن دفعه : بأنّ ضبط المدّة لا ينحصر في تعيّن الامتداد الزمانيّ ، وإلّا لزم أن لا يصحّ التقدير باليوم إذا لم يعلم عدد ساعاته ، بل بمطلق ما يقدر به المدة عرفا ويضبطونها به ، سواء كان من الساعات أو الأيام أو الشهور أو الأعوام ، فإنّ كلّ ذلك من مقادير المدة عرفا ، ويتسامحون في التفاوت الذي قد يتّفق بينها ، وبه ينتفي الغرر الذي مناطه العرف أيضا.

وأمّا تعيينها بسائر الأحوال ، كالعيد ووقت الكسوف ونحوهما ، فلا يصحّ إلّا مع العلم بوقتها من الشهر ، إذ لا فرق بينها وبين ما وقع الاتفاق على المنع فيه بقدوم حاج البلد وإدراك ثمراته.

ثم إنّه كما لا يصحّ ذكر المدّة المجهولة لا يصحّ إهمال المدّة أيضا على الأظهر الأشهر بين من تأخر ، لاشتراكهما في الغرر ، خلافا لكثير من القدماء ، تنزيلا لها


بثلاثة أيام ، لوجوه قاصرة.

وكما يشترط تعيين آخر المدة يشترط تعيين مبدأها أيضا ، ولو مع الفصل عن العقد الذي يقتضي صحّته عموم الأدلّة. وإن أطلق ، كان مبدأ الخيار من حين العقد ، لكونه المتبادر من الإطلاق. وعن الشيخ (١) والحلّي (٢) : أنّ مبدأه في البيع من حين التفرق ، ولا دليل عليه ، مع كونه مجهولا مؤدّيا إلى جهالة المدّة.

وثبوت خيار المجلس قبله غير مانع من ثبوته أيضا ، كما في اجتماع الخيارين في الحيوان المتفق عليه ، مضافا إلى أنّه حكم على المتعاقدين على خلاف قصدهما.

المسألة الثالثة : يجوز تقييد الفسخ المشروط خياره بالمدّة المعيّنة بشي‌ء يقترن به ، وإن جهل وقت حصول القيد في أثناء المدة ، ولا يتوهّم استلزامه الجهل بمدّة الخيار ، إمّا بدوا كشرط الخيار إلى سنة عند وقوع أمر كذا فيها ، أو غاية كشرطه إليها إذا لم يتفق الأمر فيها ، فلا يعلم متى يحصل الخيار أو ينقضي فيها ، لعدم الجهل بالمدة المقدّرة على حسب الشرط.

نعم ، يكون متعلّقه المختار فيه فسخ مقيّد بوصف مخصوص ، فمتى حصل الوصف في المدّة صحّ فسخه ، بخلافها على الأوّل. وفرق بين المقامين. وكم يختلف الأحكام الشرعية بموضوعاتها باختلاف العنوانات ، ويكفيك شاهدا على صحّته ، أخبار بيع الخيار بردّ الثمن إلى مدّة سنة ونحوها ، مع أنّ الظاهر عدم الخلاف في بطلان تعليقه بأداء الثمن من غير ضبط المدّة ، وتصريحهم ببطلان جعل مبدأ الخيار من حين التصرف إلى سنة ، مع أنّه لا ينبغي التأمل في صحّة جعله من

__________________

(١) الخلاف ٣ : ٣٣.

(٢) السرائر ٢ : ٢٤٧.


حين العقد إلى سنة بشرط التفرّق أو كون الفسخ بمحضر زيد الغائب الذي لا يعلم وقت حضوره فيها.

وكون القيد في مثل ردّ الثمن المنصوص علي صحّته في الفتاوى والأخبار ، ونحوه فعل ذي الخيار نفسه ، لا يتفاوت به الحال ، لإمكان عدم علمه بزمان قدرته ، وعدم تعيينه من الأزمنة المقدورة ، مع أنّه غير مقدور للمشروط عليه الذي هو أحد طرفي العقد ، ولا يعلم متى تؤدّيه المشروط له.

ومن هذا يظهر الفرق بين تقييد الفسخ بقدوم الحاجّ في المدّة المضبوطة كسنة ، وبين ضبط المدة بقدومهم ، فيصحّ الأوّل دون الثاني.

وينقدح ـ أيضا ـ عدم صحّة جعل الخيار إلى حياة المشروط له ، ويصحّ جعله إلى عشرة أو عشرين بشرط حياته ، ولازمه عدم انتقال الخيار ـ حينئذ ـ إلى الوارث.

فإن قلت : منشأ البطلان في عدم ضبط المدة كقدوم الحاجّ مثلا حصول الغرر ، وهو بعينه حاصل مع الجهل بوقت حصول قيد الفسخ ، كقدومه في السنة.

قلت : المنهيّ عنه هو البيع الغرريّ ، وهو فيما تعلّق بالمجهول ، ولو هو شرطه في الجهل بالمدة ، كما في الأوّل. وفي الثاني تعلق بأمر معلوم وشرط معلوم بوصف معيّن ، فلا غرر في نفس البيع وشرطه المقرّر ، وإن لم يعلم حصول أصل هذا الوصف ، فضلا عن وقت حصوله في المدة المعيّنة المعلومة. ألا ترى أنّه لا يصحّ بيع الفرس الشارد ، ويصحّ بيع فرس موصوف بمثل وصف هذا الفرس ، وإن لم يعلم قدرة البائع على تحصيله أو زمان حصوله له.

المسألة الرابعة : يصحّ أن يبيع شيئا ويشترط الخيار لنفسه مدّة معيّنة ، بأن يردّ فيها الثمن ، أو في آخرها ، ويرجع المبيع. ويسمّى البيع المضاف إليه مع الخيار ، لما


أشرنا إليه من العمومات (١) ، مضافا إلى خصوص النصوص (٢) المستفيضة الناطقة برجوع المبيع بردّ الثمن في المدّة المعيّنة إذا اشترط ذلك في العقد.

والأخبار المصرّحة (٣) بهذا الشرط لا يخلو في جليل النظر عن إجمال في حملها على كون الردّ شرطا لحصول الخيار ، فيتوقف الرجوع إلى المبيع على الفسخ بعد الردّ ، أو فسخا فعليا ، أو قيدا للفسخ ، بمعنى أنّ له الخيار في المدة المقرّرة على وجه مقارنة الفسخ لردّ الثمن أو تأخّره عنه.

ولعلّ ظاهرها الأخير كما فهمه أكثر الأصحاب. وحملها بعضهم على الثاني (٤) ، استظهارا لدلالة عود المبيع بمجرّد ردّ الثمن الذي هو مدلول الأخبار ، على كونه فسخا فعليّا. وهو غير بعيد ، بل على جعل الردّ شرطا لحصول الخيار يمكن القول بتحقق الفسخ بالفعل أيضا ، وهو قبض المبيع بعد الردّ.

وكيف كان ، فقيل : لا يكفي مجرّد ردّ الثمن في الفسخ في بيع الخيار. بل ربما نسب ذلك إلى ظاهر الأصحاب (٥) ، فإن أريد به الخيار المشروط بالردّ ، فله وجه ، إلّا أن يختصّ ذلك بما إذا جعل ثبوت الخيار مشروطا بالردّ. وأمّا إذا جعل قيدا مقترنا بالفسخ ، فلا ، لحصول الفسخ ـ حينئذ ـ بنفس الردّ الذي هو فسخ فعليّ ، فيتحقّق المقيد والقيد بوجود واحد ، كما عرفت ، سيما مع التصريح بذلك في شرط الخيار ، بأنّه من بيع الخيار قطعا.

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٣٧١ ، الحديث ١٥٠٣ ؛ الاستبصار ٣ : ٢٣٢ ، الحديث ٨٣٥.

(٢) جواهر الكلام ٢٣ : ٣٦.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ١٨ ، كتاب التجارة ، الباب ٧ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠٤٥ ، والباب ٨ من هذه الأبواب.

(٤) جواهر الكلام ٢٣ : ٣٨.

(٥) نفس المصدر.


وإن أريد أنّ مجرّد الردّ لا يدلّ على الفسخ مطلقا ، فهو من أغرب الأقاويل ، سيما مع دعوى ظهور اتّفاقهم عليه ، لاعترافهم بحصول الفسخ بفعل أخفى منه دلالة عليه ، فكيف يدعى النفي مطلقا ، سيما إذا اقترن الحال بما يشهد بقصده الفسخ منه.

ومع ذلك يدلّ عليه الأخبار المشار إليها ، كرواية معاوية بن ميسرة (١) ، الناطقة بعود الملك بمجرّد ردّ الثمن ، فإنّه لا يصحّ توجيهه إلّا بجعله فسخا فعليا.

نعم ، إذا كان المقام مما لا يدلّ فيه مجرّد الردّ على الفسخ عرفا أمكن منع حصول الفسخ به ، بل وإن علم قصده الفسخ به من غير دلالة ظاهرة عرفية له عليه ، لاشتراط كون الفعل الفاسخ كاشفا عنه بالقرينة الظاهرة ، وإلّا لاكتفى في الفسخ بالنيّة ، إذا علم منه ذلك ، من غير توقّف على الفعل الكاشف عنه ، وهو خلاف ما اتفقوا عليه.

وبالجملة : حكم الفعل في ذلك حكم ألفاظ العقود والإيقاعات التي صرّحوا باشتراط كونها دالة على المعاملة المقصودة وكاشفا عنها دلالة ظاهرة لغوية أو عرفية ، ولا يكفي مجرّد القصد بمطلق الألفاظ ، وإن علم ذلك ، وبالجملة : المانع عن حصول الفسخ بغير ما ذكر من الفسخ الفعليّ ستظهر (٢) ، كما هو كذا في الفسخ القوليّ.

المسألة الخامسة : إذا لم يقبض البائع الثمن في بيع الخيار حتى انقضت المدة ، معيّنا كان الثمن أو كلّيا في الذمّة ، فهل له الخيار في المدّة أو مطلقا ، أو ليس له خيار؟

فيه وجهان : من كون عدم القبض في حكم الردّ ، لاشتراكهما في الفائدة المقصودة ، فله الخيار ، ومن أنّ الخيار شرط على تقدير الردّ المستلزم للقبض

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٠ ، الباب ٨ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠٤٩.

(٢) كذا في النسخ.


ومعلّق عليه ، وحيث لم يتحقّق حتى انقضت المدة فلا خيار له.

ويشكل الوجهان بأنّ لازم الأوّل ثبوت الخيار منجّزا للبائع من حين وقوع العقد ، حيث لم يقبض الثمن بعد ، فيكون مسلطا على عدم قبول المثمن ، وفسخ البيع وإن أقبضه المشتري ، وهو خلاف التعاهد منهما المعقود عليه ، واستلزم الثاني كون ثبوت الخيار للبائع بعد العقد بيد المشتري ، لاستلزامه لزوم البيع على البائع إذا لم يقبضه المشتري ، وهو كما ترى.

والأوجه : أنّ له الخيار ، لكن لا خيار الشرط بل خيار الاشتراط بعد انقضاء المدّة ، نظرا إلى أنّ المتبادر ـ بل المعلوم ـ من قصد المتبايعين من إثبات الخيار للبائع بعد ردّه الثمن إرفاقا له التزام المشتري بهذا الشرط على إعطاء الثمن إيّاه في المدّة المقرّرة التي يتوقّف عليه الخيار ، ودلالته عليه التزاما لفظيا ومع عدم وفاء المشتري به كان للبائع بعد المدة خيار تخلفه عن الشرط.

المسألة السادسة : إذا امتنع في بيع الخيار ردّ الثمن في زمانه إلى المشتري بنفسه أو وكيله أو وليّه لغيبته اختيارا أو اضطرارا أو نحوها ، فهل يحصل الشرط بردّه إلى الحاكم ، كما يظهر من المحقق القمّي ، في أجوبة مسائله ، أم لا ـ كما عن بعض معاصريه في المناهل (١).

وربما يظهر من بعضهم كونه أمانة في يد البائع ، بل ادّعى اتفاقهم عليه. والأقوى أنّه إن صرّح في الشرط بردّ الثمن إلى بدل المشتري كوكيله المطلق أو الحاكم أو عدول المؤمنين ، فهو ، ويحصل الفسخ بردّه إليه ، وإن لم يصرّح به ، فالمعتبر قصد المتبايعين بملاحظة قرائن المقام وشواهد الحال ، فإن كان خصوص المشتري بنفسه ، كما عند التصريح به ، فلا يقوم غيره مقامه في حصول الشرط بردّه إليه ،

__________________

(١) المناهل : ٣٢٤.


وتضرّر البائع بسقوط خياره ـ حينئذ ـ حصل بإقدامه عليه ، وإن كان المقصود رجوع الثمن إلى ملك المشتري كيف اتّفق ، كما هو الظاهر من حال الناس في المبايعات الخياريّة غالبا ، فيقوم الوليّ مقامه عند تعذّر الردّ إليه ، إذ له التصرّف في حفظ مال الغائب.

قيل : إنّ الحاكم إنما يتصرّف في مال الغائب على وجه المصلحة ، وقبض الثمن الموجب لرفع تسلّط الغائب خلاف مصلحته.

وأجيب عنه : بأنّ هذا ليس تصرّفا اختياريا من قبل الوليّ حتى يناط بالمصلحة ، بل البائع حيث وجد من هو منصوب شرعا لحفظ مال الغائب صحّ له الفسخ إذ لا يعتبر فيه قبول المشتري أو وليّه للثمن ، حتى يقال : إنّ ولايته في القبول متوقفة على المصلحة ، بل المعتبر تمكين المشتري أو وليّه منه إذا جعل الفسخ.

ويمكن المناقشة فيه بأنّ الفسخ لا يحصل إلّا بقبض الوليّ الذي هو في حكم الردّ المتوقف عليه الفسخ ، وما لم يتحقّق لا يصير الثمن مال الغائب ، حتى كان على الوليّ حفظه بصيرورته ملكا له بعد تمكين الوليّ من قبضه ، وهو خلاف مصلحة الغائب.

اللهم إلّا أن يقال : إن قيام الحاكم مقام الغائب في اختيار قبضه ليس من باب ولايته على مصلحة الغائب وحفظ ماله ، حتى كان باختياره اللازم عليه رعاية المصلحة فيه ، بل لنفي الضرر عن البائع ، فكما وجب على المشتري التمكين من القبض ، كذا يجب على الحاكم عند غيبته. واختصاصه بتلك النيابة الشرعية القهرية لكونه المتيقّن ممن احتمل نفوذ عمله شرعا في أمثال ذلك.

ومنه يظهر أنّه مع عدم التمكن من الحاكم يصحّ من غيره من عدول المؤمنين ، حذرا عن المحذور المذكور.


المسألة السابعة : يجوز شرط البائع في بيع الخيار الفسخ في كل جزء بردّ ما يخصّه من الثمن كما صرّح به بعض الأجلّة ، لعموم أدلّة الشرط.

ولا يتوهّم عدم تجزي العقد فلا ينفسخ بعضه ويبقى بعض آخر ، لأن العقد وإن كان واحدا إلّا أن متعلقه أمور متعدّدة غير ارتباطية ، يستقلّ كلّ منها في حصول أثر العقد فيه ، كما أشرنا إليه آنفا وبسطنا الكلام فيه سالفا ، عند بيان عدم فساد العقد بفساد بعضه وحصول التبعّض منه ، فلا يستلزم حلّ العقد بالنسبة إلى بعض حلّ الكلّ ، فيصحّ وقوع الشرط عليه.

نعم ، عند إطلاق الشرط ينصرف إلى فسخ الكلّ ، فالتجزئة ـ حينئذ ـ خلاف مقتضى الشرط. والظاهر صحّة التجزئة بالنسبة إلى شروط سائر العقود ، إلّا إذا منعه مانع.


[ المشرق التاسع عشر ]

[ في خيار الغبن ]

مشرق : ومن الخيارات خيار الغبن ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الغبن ، تمليك ماله بما يزيد على قيمته عادة مع جهل الآخر.

ويسمّى المملّك غابنا ، والآخر مغبونا.

فيشترط في تحقّقه أمران :

الأوّل : صدق الزيادة عرفا وعادة ، بحيث لا يتسامح به في العرف ، بل كان التفاوت فاحشا ، كما صرّحوا به. وفرع عليه أنّ الواحد بل الاثنين في العشرين لا يوجب الغبن ، ووجهه ، أنّ المناط فيه الغرر ، وهو غير منضبط في الأغراض والمعاوضات عرفا باختلافات يسيرة فما يتسامح الناس فيه لا يبني عليه الغبن.

وقد يختلف القيم بلحوق بعض العوارض المتجدّدة في أشخاص الوقائع ، فهي أيضا معتبرة في تشخيص الغبن وعدمه ، كشرط خيار أو ضرورة ملجئة للمغبون ولو كانت شرعية ، كشراء ماء الوضوء بأضعاف قيمته ، والعبرة في ذلك بالضرر العرفيّ.

الثاني : عدم علم المغبون بالقيمة ، فلا خيار ـ بل لا غبن ـ مع العلم ، لكونه فيما فيه الانخداع ، كما هو مفهومه لغة ، وهو منتف إذا أقدم على ضرر نفسه.


ولا يتفاوت فيه الجهل البسيط والمركّب والغفلة مع سبق العلم به. وقد يستشكل في الشاك ، لأنه إذا أقدم كان بانيا على تحمله ، فهو في حكم العالم.

وفيه ـ مضافا إلى منافاته لإطلاق كلماتهم ـ أنه إذا أقدم عليه رجاء التساوي أو النفع ، واثقا بثبوت الخيار له على ظهور الخلاف ، فليس مثل العالم. نعم ، لو صرّح في العقد بالإلزام ـ ولو على ظهور الغبن ـ كان هذا إسقاطا للغبن.

والمعتبر : القيمة حال العقد ، فلا عبرة بالزيادة بعده ، ولا يسقط بها خياره ، ولو قبل اطلاعه بالغبن.

واحتمال سقوطه لحصول تدارك الضرر الموجب للخيار قبل الردّ مدفوع : بأنه حصل في ملكه ، لا من تمليك الغابن الذي هو منشأ الخيار.

ثمّ الجهل يثبت بإقرار الغابن ، والبيّنة ، وبقول مدّعيه مع احتماله ، ولو بيمينه : لأصالة عدم العلم ، ولا يعارضه أصل اللزوم ، لكونها موضوعية ، فهي واردة عليه ومزيلة له ، وهو حكمي كما قررناه في محلّه.

المسألة الثانية : يثبت الخيار مع الشرطين على المعروف بين الأصحاب والمحكيّ عليه الإجماع مستفيضا.

وفي التذكرة احتجّ عليه بقوله تعالى ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (١).

وفيه تأمّل لكونه حقيقة في التراضي الفعليّ الحاصل عند العقد.

وربما يستدلّ بقوله تعالى ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (٢) وهو مشكل أيضا ، بل الأصل في المسألة ـ كما علّل به في التذكرة (٣) وغيره ـ لزوم الضرر المنفيّ

__________________

(١) النساء (٤) : ٢١.

(٢) النساء (٤) : ٢٩.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٥٢.


لولاه فإنّ لزوم المعاملة الغبنية مع جهل المغبون حكم ضرريّ منفيّ في الإسلام ، ونفيه وارد على حكم لزوم البيع ، حسب ما تقرّر في مقامه وليس له إلزام الغابن بردّ الزائد ، لأنه ضرر عليه مع تمكنه الردّ. وإمكان نقض البيع وهل هو إلّا كإجبار الإنسان على بيع ماله ورفع تسلطه عنه؟

نعم ، مع بذله الأرش اختيارا يشكل الحكم بثبوت الخيار للمغبون ، لانجبار ضرره به ، كما عليه جماعة منهم والدي العلّامة (١).

وما في الإيضاح (٢) وجامع المقاصد (٣) من الاستدلال على عدم سقوط خياره مع الأرش ، بالاستصحاب ، وبأنّ بذل التفاوت لا يخرج المعاملة عن كونها غبنية ، لأنها هبة مستقلّة ، حتى أنّه لو دفعه على وجه الاستحقاق لم يحلّ أخذه ، يضعّف بمنع ثبوت الخيار أوّلا حتّى يستصحب ، لأن الضرر الموجب له يختصّ بصورة امتناع الغابن عن بذل التفاوت ، فالشكّ يرجع إلى المقتضى الثانويّ الممنوع عنه الاستصحاب ، ويمنع كون البذل هبة مستقلة ، كما ليس جزء للعوض ، بل كما قيل يمكن كونه غرامة لما فات على المغبون وتداركا لما فات عنه ، لئلا يحصل الخيار الناشئ منه.

المسألة الثالثة : الظاهر : أنّ الخيار منوط بالغبن واقعا وإن كان قبل ظهوره للمغبون وتوقف سلطنته الفعلية ، وتدارك هذا الحقّ الواقعي على ظهوره.

وما يظهر من بعض العبارات من أنّ ثبوته بعد ظهور الغبن ، يمكن حمله على التسلط الفعلي المشروط بالعلم ، من قبيل العلم بحكم خيار الحيوان ، ويشعر به

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٨٥.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ٤٨٤.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٢٩٥.


تعليلهم المنع من التصرفات الناقلة قبل ظهور الخيار بكونها مفوتة لحق ذي الخيار.

ويظهر الثمرة في صحّة إسقاطه في ضمن العقد.

المسألة الرابعة : يسقط خيار الغبن بأمور :

الأوّل : التصرف ، بلا خلاف فيه في الجملة.

وتفصيله : أنّ التصرف إمّا من الغابن ، فيما وصل إليه ، أو من المغبون.

أمّا تصرف الغابن : فالظاهر بقاء خيار المغبون معه ولو مع تلف العين ، للاستصحاب ، ولنفي الضرر الذي هو مناط الأصل. ولا ينافيه التلف ، لما سيأتي في البحث الآتي.

ودفع الضرر بإجبار الغابن على الأرش ضرر عليه ، كما مرّ ، فلا يصار إليه.

ثمّ تصرفه إمّا بإخراجه عن ملكه ، أو بتغيره العين ، أو بإتلافه ، أو بتلفه بآفة في يده.

فإن كان بإخراجه عن ملكه ، كالوقف والعتق والبيع اللازم ونحوها ، ففي تسلّط المغبون بخياره على إبطال المعاملة المتجدّدة ، كما في الرهن والشفعة ، نظرا إلى تعلّق حقّ الغير بالعين ، فيوجب تزلزله من رأس أو من حين ظهور الخيار ، أو على رجوعه إلى البدل ، وجهان : أجودهما الثاني ، لوقوع العقد الثاني في ملكه.

وتعلّق حقّ الغير بالعين إنما هو مع بقاءها على ملكه عند الفسخ ، ومع عدمه يتعلق حقه بالبدل الذي لا ينافيه الخيار ، كما أشرنا إليه ، ويأتي بيانه.

ولا يتوهم : أن حقّه إعادة العين إلى ملكه ، لأنه لو سلم ذلك ، فهو في الخيارات التعبدية ، لا الغررية ، مع أنه فيها على الإطلاق محل كلام أيضا.

وأما في الخيار الذي منشأه نفي الضرر ، كما في الفرض فلا يقتضيه ، لحصول جبره بالبدل ، فلا يعارض دليل الخيار أدلّة لزوم تلك المعاملات اللاحقة ، مع أن


لازم الخيار رجوع العين عن ملك الغابن إلى المغبون لا المشتري الثاني.

نعم ، عند بقاء العين ، لا يجبر ضرر المغبون بالبدل ، لأنّه ضرر على الغابن ، إلّا إذا أقدم نفسه عليه ، فيجبر بالأرش لا بالخيار ، كما سمعت.

ومن هنا يظهر احتمال قويّ للرجوع إلى البدل أيضا ، فيما إذا خرج بالعقد الجائز عن ملك الغابن ، وإن أمكن له تحصيل الغبن بفسخ الجائز وردّها إلى المغبون ، نظرا إلى عدم اقتضائه الخيار عند خروجه عن ملكه ، وملكه البدل.

ويحتمل وجوبه عليه ـ حينئذ ـ باعتبار دلالة شرط الخيار عليه دلالة التزامية عرفية ، فكان من قبيل الشرط الضمنيّ. نعم ، قبل فسخ المغبون [ لا ] يتعين عليه ردّ العين بلا إشكال.

وإن كان تصرّف الغابن بتغيّر العين ، فإن لم يكن له أرش يردّ العين ، ووجهه ظاهر ، وإن تغيّرت بنقيصة أو زيادة أو مزج ، ففي النقيصة يردّ العين بالفسخ ويعوض النقص ؛ لأنّ العين تردّ إلى المالك بالفسخ الموجب للتمليك. والفائت مضمون على الغابن ، لأنّه الجزء الفائت ، كما كان عليه عوض الكلّ عند تلف الكلّ.

وهل من ذلك ما لو آجره قبل فسخ المغبون؟ يظهر من بعض الأفاضل عدمه ، ولزوم الصبر على الفاسخ إلى انقضاء بقية مدة الإجارة ، من غير وجوب بذل عوض المنفعة المستوفاة بالنسبة إلى بقية المدة بعد الفسخ ، مستدلّا عليه بأنّ المنفعة من الزوائد المنفصلة المتخلّلة بين العقد والفسخ ، فهي ملك للمفسوخ عليه ، والمنفعة الدائمة تابعة للملك المطلق ، فإذا تحقق في زمان ملك منفعة العين بأسرها ، انتهى.

ويظهر من المحقق القمّي انفساخ الإجارة بفسخ البائع بخياره المشروط له في البيع ، لأنّ ملك منفعة الملك المتزلزل متزلزل ، ومنعه الأوّل بمنع تزلزل ملك المنفعة.


وعن العلّامة في القواعد (١) ، فيما إذا وقع التفاسخ لأجل اختلاف المتبايعين : أنه إذا وجد البائع مستأجرة كانت الأجرة للمشتري الموجود ، ووجب عليه للبائع أجرة المثل للمدّة الباقية بعد الفسخ.

وعن شراح الكتاب تقريره.

أقول : يمكن دفع الأوّل بأنّه لو سلّم تبعية ملك المنفعة الدائمة للملك المطلق ، لا يستلزم عدم وجوب بذل عوض المنفعة المتجدّدة بعد الفسخ ، بل غاية ذلك صحّة تمليكها ، كما صحّ تمليك العين ، وكون متعلّق الإجارة بالنسبة إلى منافع بقية المدّة ، من المنافع المتخلّلة بين العقد والفسخ ، التي هي غير مضمونة على الغابن ممنوع جدا ، كيف وخلوّ العين من المنفعة بعد الفسخ من النقص الحكميّ للعين ، فيكون مضمونا على الغابن ، ويقتضيه ما يقتضي ضمان نفس العين من نفي الضرر حسب ما مرّ.

نعم ، بما ذكره يمكن المناقشة على ما أفاده الثاني من بطلان الإجارة للغابن وضمانه للمغبون بأجرة المثل للمدّة الباقية.

وأمّا الزيادة : فإن كانت حكمية محضة ، كقصارة الثوب وتعليم الصنعة ، فقال الفاضل المتقدّم : الظاهر ثبوت الشركة فيه بنسبة تلك الزيادة ، بأن يقوّم معها ولا معها ، ويؤخذ النسبة.

ولا يخفى أنّه ، إن أراد الشركة في العين على حسب النسبة ، يرد عليه : أنّ الزيادة في الفرض ليست جزءا عينيا ، بل هي من أوصاف العين. وإن أراد الشركة في القيمة ، فله وجه.

ويحتمل قويا كون الوصف تابعا للموصوف ، فيملكه المغبون بالفسخ ، من قبيل النماء المتصل.

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ١٤٣.


نعم ، إن كان ذلك بعمل الغابن لا يبعد استحقاقه الأجرة ، لنفي الضرر ، كما احتمله والدي العلّامة (١).

وإن كانت عينية فهي للغابن ، وعليه تخلية العين عنها. فإن استلزم تفكيكها عنها ضررا عليه في عين الزيادة ، كالغرس ، ففيه وجوه بل أقوال :

من تسلّط المغبون على القلع بلا أرش ، كما عن المختلف (٢) في الشفعة ، نظرا إلى أن صفة كونه منصوبا المستلزمة لزيادة قيمته عبارة عن كونه في مكان صار ملكا للغير ، فلا حقّ للغارس ، مضافا إلى أنّ الفائت لما حدث في ملك معرض للزوال ، لم يجب تداركه.

ومن عدم تسلطه عليه مطلقا ، كما عن المشهور ، فيما إذا رجع بائع الأرض المغروسة بعد تفليس المشتري استنادا إلى أنّ الغرس المنصوب الذي هو للمشتري مال مغاير للمقلوع عرفا.

ومن تسلّط عليه مع الأرش ، كما عن المسالك (٣) ، لكون الغرس وقع في ملك متزلزل ، ولا دليل على استحقاق الغارس البقاء على الأرض.

أقول : لا شبهة في أنّ مال الغارس هو الغرس بهيئته المنصوبة ، لأنه ملكه شرعا بتلك الهيئة قبل الفسخ ، فلا وجه لخروج الهيئة الموجبة لزيادة القيمة عن ملكه بعد الفسخ ، وكذا الظاهر أنّ الأرض الفارغة عن الغرس مال صاحب الأرض ، لأنها بتلك الهيئة ملكه سابقا الذي يعود إليه بالفسخ ، ولا تنافي بين الملكين ، لأنّ استحقاق البقاء المنافي لملكية الأرض الفارغة غير الهيئة المنصوبة ، كما في البناء

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٨٥.

(٢) مختلف الشيعة ٥ : ٩٣.

(٣) مسالك الأفهام ٣ : ٢٠٧.


المستحدث عدوانا في أرض الغير ، فإن هيئة البناء مال الثاني ، وإن كان صاحب الأرض مسلّطا على تخريبه وإعدامها ، غير أنّه فيما نحن فيه إحداث الهيئة بإذن الشرع ، ويكون كغرس المستأجر في العين المستأجرة المالك لمنفعتها عند انقضاء مدة الإجارة ، فهو من باب تداخل شيئين يكون تخليص أحدهما من الآخر من غير بذل الأرش موجبا للضرر ، فيتعارض الضرران ، فلا بدّ من الحكم ببذل صاحب الغرس أجرة المغرس لصاحب الأرض وإبقائه لهيئة المنصوبة ، أو بذل صاحب الأرض أرش القيمة وقلع الغرس ، إلّا أنّ إلزام الثاني بالأرش ضرر عليه ، لا نفع له في مقابله ، لاستحقاقه الأرض الفارغة كما كانت قبل البيع ، ولا هكذا الأوّل ، لأنّ الأجرة عوض المنفعة التي يستوفيها بإبقاء ملكه ، أعني الهيئة المنصوبة ، لما عرفت أنها لا يستلزم استحقاق البناء ، وعدم التنافي بينهما ، فلازم ذلك تخيير صاحب الأرض في القلع مع تحمل ضرر الأرش ، وأخذ الأجرة وإبقاء الغرس.

والتخيير بين الحكم الضرري وغيره ليس ضررا منفيا ، لأنّه منوط باختياره وإقدامه.

وهل على صاحب الغرس قبول الأرش إن بذله صاحب الأرض؟

الظاهر : نعم ، لحصول جبر ضرره ـ حينئذ ـ بالأرش ، ورجوع منفعة البقاء إلى المالك بالفسخ ، فلا خيرة له في الإبقاء.

وإن كان التغيّر بالامتزاج ، فإن كان بغير الجنس مع الاستهلاك في مال الغابن ، كامتزاج ماء الورد بالسمن ، فالظاهر : أن حكمه حكم التلف ، ومع عدم الاستهلاك ، فلا يبعد كونه كذلك أيضا ، كما قال والدي العلّامة (١) ، لأنّه طبيعة ثانية ، ويحتمل الشركة بنسبته القيمة على إشكال.

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٨٥.


وإن كان بالجنس ، فبالمساوي يثبت الشركة ، وبالأردإ يحتملها ويحتمل التسلط على الأرش قيمة أو مثلا ، وبالأجود يثبت الشركة ، وعلى المغبون ما سيأتي في تصرفه بالزيادة.

وإن كان تصرف الغابن بالإتلاف ، أو حصل التلف عنده بآفة ، فالظاهر بقاء الخيار والرجوع إلى القيمة ، وإن كان بإتلافه الأجنبيّ ، فللمغبون الفسخ بعد ظهور الغبن ، سواء أتلفه قبله أو بعده ، وله الرجوع إلى الغابن ، وللغابن الرجوع إلى المتلف ، ويرد ما أخذه المغبون من المتلف ، ويرجع الغابن عليه بقيمة يوم التلف أو يوم الفسخ.

وإن كان المغبون أبرأه من العوض قبل الفسخ ، فلا يبعد كونه مضمونا عليه للغابن ـ أيضا ـ بعده ، لأنّ إبرائه في حكم القبض.

وهل يعتبر في البذل قيمته يوم التلف أو الفسخ.

لعل الأوّل أظهر ، كما عن الأكثر.

وأمّا تصرف المغبون : فإن كان بعد العلم بالغبن والخيار ، فيسقط خياره ، كما صرّح به غير واحد ، لعموم العلّة المستفادة من النصّ في خيار الحيوان ، من كون التصرف رضى فيه (١) ولو بمجرّد الملك ، على ما عرفت وجهه وبيانه ، وبه يرتفع الاستصحاب.

والاستدلال عليه بأنّ دليل هذا الخيار إن كان الإجماع ، فليس هنا ، أو نفي الضرر فلا يجري مع الرضا به ، كما لا يجري مع الإقدام ، مع أنّه يعارضه ضرر الغابن فيما يوجبه ضمان البدل : مخدوش بأن الخلاف لا ينافي انسحاب حكم الإجماع بالاستصحاب ، كما تقرّر في الأصول. ودلالته على الرضا بلزوم العقد يتمّ كما تقدم ،

__________________

(١) لعلّ الصحيح : رضى به.


فليس كالإقدام على الضرر ، سيما بالنسبة إلى التصرفات الغير المتلفة والمغيرة وغير الموجبة لاختلاف القيمة. وحصول الضرر على الغابن بعد الفسخ يجبر بضمان المغبون المتصرف له بالتفاوت الذي حصل التصرف (١) او العوض عند التلف.

وإن كان تصرفه قبل العلم بالغبن فلا يسقط به خياره ، وإن كان بإتلافه العين ، لما عرفت من عدم استلزام الخيار التدارك بردّ العين ، فعند الفسخ ـ حينئذ ـ يأخذ ماله من الغابن ويردّ على الغابن بدل التالف أو العين مع أرش النقص إن نقصت ، ومع الزيادة فحكمه ما مرّ في حصول الزيادة بتصرّف الغابن.

الثاني : من مسقطات خيار الغبن إسقاطه بعد العقد ، وهو على وجوه ، لأنّه إمّا بعد العلم بالغبن أو قبله ، وعلى التقديرين فإسقاطه إمّا لا بعوض أو بعوض صولح به.

فإن كان بعد العلم لا بعوض ، فلا إشكال في سقوطه مع العلم بمقداره أو إسقاطه بجميع مراتبه كيف ما كان من درجات الغبن ، ومع الجهل بالمقدار والإطلاق ، زعما بكونه عشرة فظهر مائة ، فاحتمل فيه الوجهان : من كونه بغير طيب نفسه ومن كون الخيار أمرا واحدا مسببا عن مطلق التفاوت الغير المتسامح به ، ولا تعدد فيه ، فيسقط بمجرّد الإسقاط.

والأشبه : الأوّل ، فلا يسقط لنفي الضرر الموجب لأصل الخيار ابتداء ، بل يمكن القول بعدم تعلق الإسقاط به واقعا ؛ لأنّ الغبن الذي تعلق به العقد ووقع عليه إنشاء الإسقاط في الإطلاق ـ حينئذ ـ هو العشرة ، باعتقاد كونها الغبن الواقعي المصروف إليه الإطلاق بزعمه ، القابل لكونه محمولا عليه لغة وعرفا. وبعبارة أخرى تعلّق بالغبن الواقعي على كونه عشرة ، فإذا انكشف الخطاء وظهر كونه مائة تبيّن عدم قصده.

__________________

(١) بالتصرف ( خ ).


وبالجملة : المقصود من اللفظ المطلق وإن كان هو الغبن الواقعي ، لكن بوصف كونه عشرة ، لا على كون الوصف تعليليا ، من قبيل الدواعي التي لا أثر لها في العقد ، بل على جهة كونه قيدا للواقع ، فلا يسقط به باقيه وذلك بخلاف ما إذا صرّح بالمائة أو بما يشمله صريحا ، وإن كان اعتقاده أنه عشرة ، بحيث لولاها لما أسقط ، كقوله : أسقطت الغبن وإن كان مائة ، أو : وإن بلغ أعلى المراتب ، فإن ما استعمل فيه اللفظ ـ حينئذ ـ هو الكثير أو ما يشمله قطعا ، فتعلق به الإنشاء ، وإن كان إقدامه عليه من جهة اعتقاد كونه الأقل ، فإنّه ـ حينئذ ـ من باب الداعي الغير المعتبر في القصد.

وما قيل : إنّ الخيار أمر واحد مسبّب عن مطلق التفاوت الغير المتسامح به ، فيسقط بمجرّد الإسقاط ، فهو كذلك بحسب الحكم الكلّي الشرعي ، وأما في خصوص الموارد ، فهو منوط بالتفاوت المنظور للعاقد.

ثم لو وقع التشاجر وتنازعا ، فادّعى ذو الخيار : أسقطت خياري لعشرة قصدته ، فظهر كونه عشرين مثلا ، فإن كان هذا المقدار داخلا في المقادير المحتملة من الغبن في تلك المعاوضة ، بحسب المتعارف بين الناس ، قدم قول الغابن ، عملا بإطلاق الإسقاط المقتضي للسقوط ، وإن كان زائدا عن الحدّ المتعارف لم ينصرف إليه الإطلاق ، فيقدم قول المغبون.

وإن كان الإسقاط بعد العلم بالغبن بعوض صولح عنه به ، فإن علم مقدار التفاوت ، أو صرّح بعموم المراتب ، فلا إشكال في السقوط ولزوم المصالحة ، وإن لم يعلمه ولم يصرّح بالعموم ، فإن لم يتجاوز عن الحدّ المتعارف في صلح خيار مثل هذا الغبن بهذا العوض ، يلزم الصلح ، كما إذا وقع الصلح عن الخيار بدرهمين ، وظهر التفاوت ثلاثة. وإن كان أزيد من الحدّ المتعارف في مثله ، كما إذا كان التفاوت


عشرين ووقع الصلح بأربعة ، فالظاهر ثبوت خيار الغبن في تلك المصالحة أيضا ، لعين ما دلّ عليه في خيار أصل المعاملة.

وإن كان إسقاط الغبن عند العقد قبل ظهور الغبن ، فالظاهر جوازه أيضا ، كما صرّح به غير واحد.

ولا يتوهّم كونه من إسقاط ما لم يجب ، لما أشرنا وسنشير إلى أنّ ظهور الغبن كاشف عن الخيار ، لا محدث له. ولا هو من باب التعليق الممنوع في العقود والإيقاعات ، لأنّ الممنوع ما كان من ألفاظ العقود والإيقاعات وصيغها ، سواء كان على أمر واقع أو متوقع ، ولا مانع منه في غيرها ، كطلاق مشكوك الزوجية ، وإعتاق مشكوك الرقّية ، وبيع مشكوك الملكية ، ما لم يوقع الصيغة فيها بصورة التعليق ، بل لا نسلم المنع أيضا في اللفظي في مثل الإسقاط والإبراء والإذن ، بل الفسخ ونحوها ، مما كان اشتراطها من جهة الإخبار عما في الضمير والإرادة القلبية ، لا من باب الأسباب التعبّدية ، ولذا يصحّ الإبراء بقوله : أبرأت ذمّتك إن كانت مشغولة لي ، ولا يصحّ أن يقال : بعتك إن كان ملكي ، وسرّه ما ستعرف [ من ] أنّه لا يعتبر في أمثال ما ذكر الإنشاء اللفظي ، كما يشترط في الصيغ الشرعية ، بل مطلق ما يكشف عن الإرادة الفعلية القلبية التي هي السبب المؤثر ، غاية الأمر اشتراط مقارنتها بقول أو فعل دال عليها ، وهذا هو التوجيه الصحيح لحصول الفسخ والتمليك معا بلفظ واحد في مثل بيع ذي الخيار ، كما مضى وستعرفه مما يأتي.

ثمّ الكلام في شمول الإسقاط لجميع مراتب الغبن حيث لم يصرّح بها ، مثل ما تقدّم في صورة الإسقاط بعد ظهور الغبن.

وإن كان إسقاط الخيار قبل العلم بالصلح عنه بعوض ، فقد يستشكل فيه بأنّ المصالحة العوضية لا بدّ لها من ثبوت شي‌ء بإزاء المصالح بها وهو غير معلوم.


ويمكن دفعه بأنّ الغبن المحتمل الموجب للخيار على تقدير كونه مما يبذل في مقابله عرفا ، فالمقابل للعوض هو الحقّ المحتمل ، وهو بهذا الاعتبار حقّ محقق ، فيصحّ الصلح عنه ، بل لو تبيّن بعده عدم الغبن لا يسترد العوض أيضا ، لأنّه حين المصالحة كان مما يبذل عنه ، ولم يكن مراعى ، فتفطن.

نعم ، لو ضمّ شي‌ء إلى المصالح عنه المجهول ، أو ضمّ سائر الخيارات إليه ، كان أولى ، ويكون دخول المجهول ـ حينئذ ـ على تقدير ثبوته ، لا متنجزا باعتبار الوجود.

الثالث من المسقطات : إسقاط حق الخيار بالشرط في ضمن العقد.

والإشكال في كونه مخالفا للسنّة ، والعدول عنه إلى شرط عدم الفسخ ، لئلا يرجع الشرط إلى نفي الحكم الشرعي ، قد تقدّم دفعه في بحث الشروط ، مع أنّ سقوطه بشرط عدم الفسخ مبنيّ ظاهرا على اقتضاء النهي في المعاملة الفساد ، وهو محلّ الكلام فيما لم يكن متعلّق النهي نفس المعاملة ، فتأمل.

وعن الصيمري في غاية المرام (١) : بطلان العقد والشرط وعن المحقق الكركي (٢) التردّد فيه مستظهرا للصحّة.

واستظهر الشهيد في الدروس (٣) بطلان العقد : للزوم الغرر ، وفيه : أنّ الجهل بالقيمة لا يوجب الغرر ، لأن الغرر المنفيّ إنما هو فيما إذا رجع الجهل بنفس المعاوضة في المتعاوضين ، كالبيع (٤) وجودا أو صفة أو حصولا وإلّا كان الجهل بالقيمة مبطلا للبيع

__________________

(١) غاية المرام ٢ : ٣٣.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٣٠٢.

(٣) الدروس الشرعية ٣ : ٢٧٥.

(٤) كالمبيع ( ظ ).


من أصله ، مع أنّه لو كان غرريا لم يخرجه الخيار عن موضع الغرر حتى كان اسقاطه موجبا لثبوته ، ولعلّه لذا احتمل ثانيا الصحة.

المسألة الخامسة : اختلفوا في كون هذا الخيار فوريا ، كما عن المشهور ، لعموم أدلّة اللزوم ، فيقتصر على المخرج بالقدر المتيقّن ، أو على التراخي ، للاستصحاب.

ونظر بعض أفاضل من عاصرناه في مستندي القولين : أما في الأوّل : فبأنّ الاقتصار على المتيقّن عند الشكّ إنّما هو إذا كان الشكّ في عدد الأفراد المخرجة. لا في كيفية افراد الخارج ، وما نحن فيه من الثاني ، لأنّ الزمان ليس من أفراد العموم ، بل هو ظرف لحكم الفرد الخارج ، فلا يعلم كونه آنيّا أو مستمرّا فيستصحب ، وليس من تعارض الاستصحاب والعموم.

نعم ، لو فرض إفادة الكلام العموم الزماني على وجه يكون الزمان يتكثر أفراد العام ، كقوله : أكرم العلماء في كلّ يوم ، بحيث كان إكرام كلّ عالم في كلّ يوم واجبا مستقلا غير إكرام ذلك العالم في اليوم الآخر ، فيقتصر في إخراج عالم على اليوم المعلوم من خروجه ، فيرجع الشكّ في المورد في استمرار حكم واحد وانقطاعه ، فيستصحب. وفي الثاني إلى خروج أحكام مستقلّة متكثّرة ، فعمل بالعموم.

وفيه نظر ، لأن أفراد العموم إن كانت متعيّنة بحسب المعنى اللغويّ والعرفيّ فهو ، ويقتصر في تخصيصه على المتيقّن منها ، كما في إكرام العلماء ، فإنّ أفراد العلماء : زيد وعمرو ، لا زيد في يوم وزيد في يوم آخر ، ولا مدخل للزمان في فردية أفرادها ، أو تكون اعتبارية ، بمعنى صلاحية العام بحسب مدلوله تشخيص الأفراد له بعنوانات ، كما في كلّ ماء طاهر ، فإنّ أفراد الماء قد تعتبر بعنوان المقدار ، كصاع وصاعين وثلاثة أصوع ، وهكذا الماء الكثير والقليل ، وقد تعتبر باعتبار الاجتماع والاتصال في محلّ ، كماء حوض كذا وغدير كذا وهكذا ، وبهذين الاعتبارين يكون


الأفراد متداخلة. وقد تعتبر باعتبار بعض الصفات العارضة ، كماء البئر والماء الجامد والجاري وماء البحر وهكذا.

والجهات التي يصحّ اعتبار الفردية بها تختلف باختلاف العمومات ، فلفظ العام بحسب مدلوله قد يكون صالحا لاعتبار العموم له بجهات كثيرة ، كما في عموم الخيار ، فقد يعتبر باعتبار السبب وأفراده خيار الغبن وخيار العيب وخيار الشرط ، وهكذا. وقد يعتبر باعتبار الزمان ، فالخيار الفوري فرد منه ، والخيار المستمرّ فرد.

وقد يعتبر باعتبار أشخاص ذوي الخيار ، فخيار البائع فرد وخيار المشتري فرد ، وهكذا.

والمناط في ذلك كلّه ملاحظة دليل العموم في الجهة الصالحة للعموم فيه ، من أنّها واحدة أو أكثر بحسب مدلوله المستعمل فيه اللفظ.

وإذ عرفت ذلك فنقول : دليل عموم اللزوم فيما نحن فيه : إمّا مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) فلا مدخل للزمان في تكثير الأفراد ، بل هي أشخاص العقود ، أو مثل قوله عليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » بعموم مفهومه الدال على اللزوم ، كما يصلح بالنسبة إلى الأسباب من خيار الغبن والرؤية والعيب ونحوها ، وبالنسبة إلى البيع ، كبيع الحيوان والصرف والثمرة وما يفسد ليومه ونحوها ، كذا يصلح عمومه بالنسبة إلى الزمان المشخص للأفراد من الخيار الفوريّ والاستمراريّ ، وإن كان أحد الفردين داخلا في الآخر ، كما في عموم الماء بالنسبة إلى أفراده باعتبار الاتصال والانفصال حسب ما مرّ.

واتحاد السبب كظهور الغبن لا ينافي تعدّد المسبّب باعتبار الجهات المذكورة.

وأما اعتراضه على مستند القول الثاني. أعني : الاستصحاب ، فحاصله : أن

__________________

(١) المائدة (٥) : ١


الاستصحاب يتبع بقاء الموضوع ، فلا بدّ من تشخيصه أوّلا حتى يستصحب حكمه ، والمتيقّن سابقا فيما نحن فيه ثبوت الخيار لمن يتمكن من تدارك ضرره بالفسخ ، فلا ينسحب في الآن اللاحق ، مع كون الشخص قد يتمكن من التدارك ولا يفعل ، فإنّ هذا موضوع آخر.

وفيه : أنّ هذا مسلم فيما كان الموضوع مشخصا بحدوده وقيوده في دليل الحكم ، فلا ينسحب بالاستصحاب بعد تغيّر بعض قيوده ، لرجوع الشكّ ـ حينئذ ـ إلى المقتضى الثانوي ، كما إذا قال ، الماء المتغيّر نجس ، فإنّه لا يجري استصحاب النجاسة بعد زوال هذا القيد ، مع عموم أدلّة حجيته. وإن علم اشتراط هذا القيد في حدوث الحكم أوّلا ، مع فرض الشكّ في اشتراطه للبقاء ، كما إذا قال : إذا تغيّر الماء فهو نجس ، فزال التغير من قبل نفسه ، فإنّه يصحّ الاستصحاب ـ حينئذ ـ وقد بيّنا ذلك مستوفى في الأصول ، ومورد البحث من الثاني ، إذ للقائل منع كون العجز عن تدارك الضرر شرطا لبقاء الخيار ، وإن كان شرطا لحدوثه.

نعم ، يمكن المناقشة في الاستصحاب لو كان مستند الحكم بالخيار في الأوّل مجرّد أدلّة الضرر ، إذ مدلولها نفي الضرر الواقع بحكم الشارع ، فالدليل مقيد بالضرر الشرعيّ لا الاختياريّ ، فحيث لم يتدارك المغبون ضرره بالفسخ مع تمكّنه عنه ، كان بقاؤه باختياره ، فالشكّ في بقائه كان في المقتضى الثانوي. ولعلّه إلى هذا ينظر ما في الرياض (١) من أنّ المستند في هذا الخيار : إن كان الإجماع المنقول ، اتّجه التمسّك بالاستصحاب ، وإن كان نفي الضرر ، وجب الاقتصار علي الزمان الأوّل ، إذ به يندفع الضرر. انتهى. فتأمّل.

وكيف كان ، فالاستصحاب ـ ولو سلّم جريانه ـ لا يعارض عموم دليل اللزوم

__________________

(١) رياض المسائل ٥ : ٤٢٥.


الذي قد تبيّن تقريبه وتحريره ، فيقتصر في التخصيص على مورد اليقين. فإذا المعتمد كون الخيار فوريا.

والاستدلال عليه بأصالة فساد الفسخ وبقاء الملك كما قاله الفاضل المتقدّم ، صحّ لو لم يصحّ الاستصحاب كما زعمه ، حسب ما مرّ ، وأمّا على صحّته فلا يبقى استصحاب الفساد لزواله باستصحاب السبب أعني : الخيار.

تتميمان :

الأوّل : هل الفور محمولة على الفورية الحقيقية ، اقتصارا على المتيقّن ، أو العرفية ، دفعا للحرج الحاصل على الاقتصار على الحقيقية ، أو ما هو أوسع من العرفي ، كما يستفاد من التذكرة في خيار العيب ، حيث وسّعه فيما لو اطّلع عليه حين دخل وقت صلاة أو أكل أو قضاء حاجة ، فاشتغل بها إلى أن يفرغ عنها إجماعا ، أو اطّلع على العيب ليلا ، فله التأخير إلى أن يصبح ، وإن لم يكن له عذر؟

إشكال : إذ الإناطة بالأولين كلّية مخدوشة بإمكان عدم الحرج والضرر في بعض الموارد ، وبالثالث بعدم دليل عليه ، فان تمّ الإجماع الذي ذكره في التذكرة فهو ، وإلّا فمقتضى الاعتبار : الاقتصار على الأوّل إلّا لحرج أو ضرر أو عذر آخر.

ومنه : إعلام الخصم بوقوع الاختلاف وقضاء المصلحة تقديم المحاكمة على الفسخ أو لاحتمال بذله الأرش المتقدّم على الخيار على المختار ومنه التروي والاختيار من غير تفكر وتدبر منه ينافي التخيير ، بل يؤدّي إلى ضرره.

الثاني : لا شكّ أنّ الجاهل بالخيار معذور في ترك المبادرة ، فله الخيار متى علم ، لنفي الضرر : وترك الفحص عن الحكم ليس منافيا للمعذورية ، كما ليس منافيا لها في الجهل بالغبن.

وهل الجاهل بالفورية معذور في تركه المبادرة أيضا. الظاهر : نعم ، كما عن بعضهم.


والاستشكال بعدم جريان نفي الضرر هنا لتمكّنه من الفسخ وتدارك الضرر : مدفوع ، بأنّ الاغترام بعدم العلم بالفورية من الأعذار ، وأيّ عذر أقوى من الجهل.

ولو ادّعى الجهل بالخيار ، فالظاهر : القبول ، إلّا أن يكون مما لا يخفى عليه هذا الحكم الشرعيّ إلّا لعارض. ولو ادّعى النسيان ففيه إشكال.

المسألة السادسة : يثبت خيار الغبن في غير البيع من المعاوضات أيضا ، كما عن فخر الإسلام (١) والتنقيح (٢) وإيضاح النافع وجامع المقاصد (٣) في الإجارة ، لعموم المدرك ، أعني : نفي الضرر ، وإن اختصّ الإجماع المحكيّ بالبيع.

وعن المهذّب (٤) عدم جريانه في الصلح.

وعن غاية المرام (٥) : التفصيل بين الصلح الواقع على وجه المعاوضة ، فيجري فيه ، وبين الواقع على إسقاط الدعوى أو على ما في الذمّة ، ثم ظهر الغبن فيهما.

وعن بعضهم : التفصيل بين عقد وقع على وجه المسامحة وعدم الالتفات إلى النقص والزيادة ، بيعا كان أو صلحا أو غيرهما ، ولعلّه لكون المعاملة ـ حينئذ ـ مبنية على عدم المغابنة والمكايسة.

والذي يقتضيه الاعتبار : أنّ صور الفرض أربع ، إذ المعاملة : إمّا وقعت على وجه المعاوضة ، أو على إسقاط الدعوى في مقام التشاجر.

وعلى الأوّل : فإمّا على محض المالية ، أو على التغابن والمحاباة ، أو على

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٤٨.

(٢) التنقيح الرائع ٢ : ٤٧.

(٣) جامع المقاصد ٧ : ٨٦.

(٤) المهذب البارع ٢ : ٥٣.

(٥) غاية المرام ٢ : ٢٢١.


المسامحة ، وإن لم يعلمه المغبون ، حيث علم من الخارج أنّ بناء المغبون عليه ، وإن فرض علمه بالغبن ، لحاجة عظيمة منه.

ففي الأوّل : يثبت الخيار. وفي الثانية : لا يثبت ، وإن كان الغبن زائدا عن المعلوم ، لأنه في حكم الإسقاط ، إلّا إذا كان فاحشا زائدا عن المتعارف في مثله في مقام المحاباة ، كما مضى في حكم الإسقاط.

وكذا في الثالثة على إشكال : من كونه إقداما على الضرر ، لبنائه عليه ولو على فرض علمه ، إلّا إذا كان زائدا عن المتعارف في مثل مصلحته المقصودة ، ومن عدم القول بالفصل عند الجهل بالغبن.

وفي الرابعة : لا خيار مع عدم ظهور الغبن ، ومعه فيه وجهان : من عدم كونه معاوضة مالية ، بل هو إسقاط على عوض ، فلا تزلزل لظهور الغبن ، ومن كونه ضررا منفيا. ولا يبعد التفصيل بين ما فيه الغبن زائدا على المتعارف في الإسقاط عند الجهل في مقام التشاجر ، فيجري فيه الخيار ، وبين ما لا يزيد عليه ، فلا خيار. والله العالم.



[ المشرق العشرون ]

[ في الأحكام الملحقة بالخيارات ]

مشرق : في جملة من الأحكام الملحقة بالخيارات. وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الفسخ كما يحصل باللفظ يحصل بالفعل أيضا ، بلا خلاف ظاهرا ، سواء كان عمليا ، كتقبيل الجارية ، أو قوليا كالبيع. ويشترط كون الفعل دالّا على إرادة الفسخ عرفا أو شرعا ، وإلّا فلا عبرة به.

وفي التذكرة (١) : لو قبّل الجارية بشهوة أو باشر فيما دون الفرج أو لمس بشهوة ، فالوجه عندنا أنّه يكون فسخا ، لأنّ الإسلام يصون صاحبه عن القبيح ، فلو لم يختر الإمساك لكان مقدما على المعصية. ثم نقل عن بعض الشافعية احتمال العدم. ويظهر من تعليله بالصون : اشتراط إرادة الفسخ ، بل يشعر قوله : عندنا ، بالإجماع عليه.

وقريب منه : التعليل المحكي عن جامع المقاصد (٢). ولا بدّ من تقييده في الدلالة على العلم والعمد لإمكان وقوعه نسيانا عن البيع أو اشتباها بغيرها ، فلا يلازم الصون عن القبيح إرادة الفسخ.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٣٨.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٣٠٤.


إلّا أن يقال : أمثال تلك التصرفات ظاهرة بنوعها في العمد والعلم بالغلبة العادية ، فبضميمة حمل فعل المسلم على الصحة يدلّ على إرادة الفسخ ، وإن كانت بأشخاصها محلّ الشك في موارد ، لعروض ما يصرفها عن الظهور فيها.

وبالجملة : المعيار في الظهور هو النوعي دون الشخصي ، فإنّ حكم الفعل في ذلك كاللفظ ، فكما أنّ الظهور المعتبر في الألفاظ عرفا وشرعا هو الظهور الشأني ، ما لم يصرفها عنه قرينة صارفة إلى ظهور شخصي ، كما في حمل الألفاظ على الحقائق ما لم يظهر القرينة الصارفة ، فكذا الظهور المعتبر في الأفعال بالنسبة إلى مدلولاتها العرفية فيما يتعلّق به من الأحكام الشرعية ، لأن الشرع يتّبع العرف وما جرت عليه عادة الناس في مقام التفهيم والتفاهم ، ولا شكّ أنّ العرف في إظهار مقاصدهم وإعلام ضمائرهم يقفون على ما يقتضيه الدوال بأنفسها ، قولا كانت أو فعلا ، ولا يخرجون عنه إلّا بدليل صارف.

وكيف كان ، فيشترط في الفعل الفاسخ دلالته على الرضا بالانفساخ ، ولا هكذا التصرف المسقط للخيار ، بل يكتفي فيه بالدلالة على الرضا بالملك دون لزومه ، كما يظهر من إطلاق الفتاوى والنصوص ، على ما بيّنا سرّه وتوجيهه في خيار الحيوان.

فما عن جماعة كالشيخ (١) وابني زهرة (٢) وإدريس (٣) والعلّامة (٤) وغيرهم أنّ التصرف : إن وقع فيما انتقل عنه كان فسخا ، وإن وقع فيما انتقل إليه كان إجازة ، الظاهر بحكم المقابلة [ في ] أنّ كلّ تصرف يحصل به الإجازة يحصل به الفسخ ليس

__________________

(١) المبسوط ٢ : ٨٣ و ٨٤.

(٢) الينابيع الفقهية ١٣ : ٢١٤.

(٣) الينابيع الفقهية ١٤ : ٢٩٥.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٣ ؛ الينابيع الفقهية ١٤ : ٥٣٥.


كما ينبغي. نعم ، لا فرق في التصرف الفاسخ بين ما يحرم فعله لغير المالك ، وبين ما لا ينفذ عن غيره ، كالبيع والعتق والإجارة والنكاح ، فإنّ تلك العقود تكشف ظاهرا عن إرادة الانفساخ بها ، دون وقوعها فضولا أو لغوا ، بل الظاهر وقوعه بمجرد العرض على البيع والإذن فيه والتوكيل والرهن الغير المقبوض والهبة الغير المعوضة. فالأقرب : أنّها من البائع فسخ ومن المشتري إجازة ، لدلالتها على طلب المبيع واستيفائه. انتهى. ونحوه عن جامع المقاصد (١).

المسألة الثانية : إذا باع ذو الخيار أو أعتق أو أوجد غير ذلك من الأسباب الناقلة أو وطأ الجارية أو قبّلها بشهوة أو أكل المنتقل إليه ونحوها من التصرفات المحرّمة في ملك الغير ، فلا شكّ ولا خلاف في حصول الفسخ الفعليّ بها كما مرّ.

وهل يحصل النقل بتلك النواقل ، ويجوز تلك الأفعال المتوقفة على الملك أم لا.

ظاهرهم وجود الخلاف فيه ، ويرجع إلى الاختلاف في كون نفس التصرف فسخا وسببا للانفساخ ، فلا يحصل النقل ولا الحلّ قبله ، كما هو ظاهر كلام الفاضل (٢) في التحرير في وطء الأمة بقوله : يحصل الفسخ بأوّل جزء منه. ولازمه عدم وقوعه قبله ، بل هو ـ كما قيل ـ لازم قول كل من قال بعدم صحّة عقد الواهب الذي يتحقّق به الرجوع ، كما عن الشرائع (٣) والمبسوط (٤) والجامع (٥) ، أو كون التصرف كاشفا عن الفسخ وحصوله قبله ، كما هو ظاهر التذكرة (٦) وغيره ، من تعليل حصول

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٣٠٩ ـ ٣١٢.

(٢) تحرير الأحكام : ١٦٨.

(٣) شرائع ( الينابيع الفقهية ) ١٤ : ٤٠٢.

(٤) المبسوط ( ينابيع الفقهية ) ٣٥ : ١٥٧.

(٥) جامع الشرائع ( الينابيع الفقهية ) ١٤ : ٤٨٤.

(٦) تذكرة الفقهاء : ٥٣٤.


الفسخ بصيانة فعل المسلم عن القبيح المستلزمة لوقوعه قبله ، بل عن المحقق (١) والشهيد الثانيين : الجزم بالحلّ ، نظرا إلى حصول الفسخ قبله ، وهو بالقصد المقارن له.

وفي المسالك (٢) والكفاية (٣) : صحة هبة ذي الخيار.

واستدلّ على الأوّل : بظهور كلماتهم في كون نفس التصرف فسخا أو إجازة وأنّه فسخ فعليّ في مقابل القوليّ ، وظهور اتفاقهم. على أنّ الفسخ ـ بل مطلق الإنشاء ، لا يحصل بالنية ، بل لا بدّ من حصوله بالقول أو الفعل ، واتفاقهم على توقف الفسخ على الفعل ، فالفعل إذا كان بيعا لم يحصل به النقل ، لتوقفه على الملك الموقوف على الفسخ المتأخر عن البيع.

ونحوه الفعل المحرم المتوقّف حلّه على الفسخ المتأخر عنه.

وعلى الثاني : بأنّ الفسخ إنما يتحقّق بالكراهة وعدم الرضا ببقاء العقد ، ويكشف عنه التصرف بحكم مقابلتها للرضا الموجب لسقوط الخيار ، كما صرّح به في المبسوط وغيره ، ودلّ عليه الأخبار المعلّلة بسقوط الخيار بالتصرف بكونه دالّا على الرضا ، فالعبرة بالرضا في بقاء العقد وسقوط الخيار وعدمه في وقوع الفسخ.

أقول : ويضعّف الأوّل ؛ بأنّ غاية ما يستفاد من الاتفاق ، لزوم وجود الفعل في وقوع الفسخ ، ولا يدلّ ذلك على كونه نفس الفسخ وسببا للملك المتجدّد ، لما ستعرف من إمكان تحقّق هذا المعنى بدون سببيته. وحكم المقابلة لا يفيد أزيد من وجوب كون الفعل دالّا على الفسخ ، كما يجب هذا في الإجازة ، دون موافقتهما في كيفية الدلالة.

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٣١٨.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ٢١٣.

(٣) كفاية الأحكام : ٩٢.


ودعوى عدم حصول الإنشاء بالنية مسلّمة إذا كانت محضة غير مقارنة بفعل كاشف عنها ، وإلّا فهي ممنوعة.

والثاني : بمنع كون مجرد الكراهة الباطنية فسخا بحيث لا مدخل للفعل في تحققه واقعا ، بل هو كما ستعرف شرط لوقوع الفسخ واقعا على وجه الكشف لا السببية والنقل ، بخلاف الرضا المسقط للخيار ، فإنّه يكفي فيه مجرد الرضا بالملك ، وإن لم يدلّ على الالتزام بلزومه دائما ، كما تقدم بيانه في توجيه التعليل للزوم في بعض الأخبار بالرضا بمجرد التصرفات الغير الدالّة على الالتزام باللزوم.

ثمّ إنّ بعض أفاضل من عاصرناه وافق الأوّل في سببية التصرف للفسخ وتأخر الملك الحادث في التصرف الناقل عنه ، ومع ذلك قوّى صحّة النقل ، قائلا بأنّ الفسخ يتحقّق بأوّل جزء منه ، والناقل هو تمام الفعل ، ولا يشترط ملكية البائع للمبيع في تمام العقد ، بل الممنوع وقوع تمام السبب في ملك الغير ، فلا مانع من تأثير هذا العقد لانتقال ما انتقل إلى البائع بأوّل جزء منه.

ولا يخفى ما فيه من التحكّم بأنّ السبب المؤثر هو مجموع الهيئة المركّبة ، وهو أمر واحد ينثلم بخروج جزء منه ، ولا تفاوت بين أجزائه في المدخلية في التأثير واعتبار الشرائط فيها ، سواء قلنا بأنّ البيع نفس العقد أو النقل المسبّب عنه ، فما يشترط به البيع يكون شرطا للمجموع الذي لا يصدق البيع إلّا عليه ، وأيّ دليل يقتضي اختصاص الاشتراط لبعض الأجزاء؟

مضافا إلى كونه خلاف الأصل ، وظاهر كلماتهم في عدّ شرائط البيع ، وما يستفاد من ظواهر الأخبار ، كقوله عليه‌السلام : « لا بيع إلّا في ملك ، ولا عتق إلّا في ملك » (١).

__________________

(١) ورد عن طريق الإمامية ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بهذه العبارة : « لا بيع إلّا في ما تملك » ؛ راجع عوالي اللآلي ٢ : ٢٤٧ ، الحديث ١٦ ؛ ومستدرك الوسائل ١٣ : ٢٣٠ ، الرواية ١٥٢٠٩ ؛ وعن الصادق عليه‌السلام ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : « لا عتق إلّا بعد ملك » ؛ وسائل الشيعة ٢٣ : ١٥ ، الباب ٥ من أبواب العتق ، الرواية ٢٨٩٩٨.


ومع ذلك كله لا يستقيم هذا التوجيه في مثل الوطء والأكل من التصرفات المحرمة على غير المالك ، مع عدم ظهور قائل بالفرق من الحلّية والصحّة.

والذي يقوّى في نظري في تحقيق المقام : أنّ الفسخ يحصل بالإرادة الفعلية العرفية المتصلة بالفعل الكاشف عن تلك الإرادة ، بشرط مقارنتها للفعل.

بيان ذلك : أنّ معنى خيار الفسخ على ما هو مفهومه عرفا ، بل مدلوله لغة ، هو التسلط على ترك مقتضى العقد واختيار ملكه السابق والجري عليه ، وليس للفسخ حقيقة شرعية وتوقيف شرعيّ يتعبد به ، بل يشعر به التعبير عنه في الأخبار بلفظ الخيار مجردا عن المضاف إليه ، كقوله عليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (١) ولا شكّ أنّ هذا المعنى يتحقّق عرفا بالعزم القلبيّ والإرادة الباطنية المقدمة على الفعل والاعتبار باللفظ أو الفعل ، من جهة الدلالة عليها والكشف عنها.

نعم ، لما جرت عادة الشارع في ترتيب الآثار على القصود في المعاملات إلى اعتبار ما دلّ عليها ، إمّا على كونه أسبابا مجعولة ، كما في أكثر العقود والإيقاعات التي ثبت سببيتها لآثارها بالأدلّة الخارجة ، كالنكاح والطلاق ونحوهما ، أو على كونها لمجرد الكشف عن الإرادة ، قولا كان أو فعلا ، فإنّه يكتفي إجماعا في الفسخ بمثل عقد ناقل أو فعل محرّم على غير المالك ، مع أنّ مدلولهما ليس فسخ العقد ، فالعبرة بهما من باب كونهما قرينة للإرادة التي هي المؤثّر ، لا من باب السببية الشرعية ، من قبيل الرجوع في طلاق ذات العدّة الرجعية بكشف القناع والتقبيل في حصول الزوجية ، وسقوط الخيار في ركوب الدابة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٦ ، الباب ١ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠١٣.


وإلى هذا أشار شيخنا الشهيد في المسالك (١) في الاستدلال على صحة بيع من له الرجوع في الهبة بقوله : العقد يدلّ على إرادة الفسخ ، والغرض من الألفاظ المعتبرة في العقود : الدلالة على الرضا الباطني ، لأنه هو المعتبر ، ولكن لما لم يمكن الاطلاع عليه ، نصب الشارع الألفاظ الصريحة الدالّة عليه واعتبرها في صحة العقد ـ وحينئذ ـ فالعقد المذكور يدلّ على تحقق إرادة الفسخ قبل العقد ، فيكشف العقد عن حصول الفسخ بالقصد إليه قبل البيع. انتهى.

إلّا أنّ تعميمه ذلك بالنسبة إلى ألفاظ العقود التوقيفية غير جيّد ، لكونها من باب الأسباب قطعا ، كما عرفت. وكيف كان ، فالسبب المؤثر في الانفساخ هو الإرادة المقدّمة على الفعل ، فيكون الفعل الناقل صادرا عنه في ملكه.

ومن هذا يظهر سقوط القول الأوّل.

وأما توجيه حصول الفسخ بالإرادة مع عدم الخلاف ـ ظاهرا ـ في توقفه على وجود الفعل ، بحيث لو اتفق حصول المانع عن الشروع في الفعل اضطرارا بعد تحقق الإرادة لم يتحقق الانفساخ ، فهو أنّ التوقف على التصرف ليس من باب السببية المستلزمة لتأخر الملك عنه ، بل هو من قبيل الاشتراط بالشرط المتأخر ، بمعنى أنّ تأثير الإرادة في الانفساخ وسببيتها مشروط باقترانها بالفعل ، وهو نظير الإجازة في العقد الفضولي على القول بكونها كاشفة كما هو المشهور المنصور.

وفرعوا عليه ملك النماء المتخلل بين العقد والإجازة للمشتري.

فرع : لو اشترى عبدا بجارية فقال : أعتقتهما فعن [ بعض ] : انعتاق الجارية دون العبد ، لتقدم الفسخ على الإجازة.

وردّ بالمنع فيما وقع الفسخ والإجازة من طرف واحد ، ولو لعدم الدليل.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٦ : ٤٩.


وعن آخر : يعتق العبد دون الجارية ، لأنّ الإجازة إبقاء للعقد والأصل بقاؤه ، ويعارضه اصل عدم العتق.

والحقّ : بقاء الخيار وعدم حصول عتق أحد منهما ، كما عن الفاضل (١) والمحقّق الثاني (٢) ، لأنّ المعتق لا يكون مالكا لهما بالفعل ، لأن ملك أحدهما يستلزم خروج الآخر عن ملكه ، فلا ينفذ عتقهما ، لتدافعهما ، مضافا إلى استصحاب بقاء الخيار وعدم حصول العتق.

المسألة الثالثة : لا ينافي تلف العين بقاء الخيار ، بلا خلاف أجده ، وإن تأمّل فيه بعض الأساطين ، وبه صرّح الفاضل (٣) في القواعد ، إلّا فيما أوجب التلف انفساخ العقد ، فلا خيار ، إذ لا عقد حينئذ ، كما في خيار التأخير والخيار قبل القبض.

ووجه ما ذكر : كون العقد قابلا للفسخ بعد تلف العين ، ولذا قالوا بشرعية الإقالة ـ حينئذ ـ وحكي عليه الإجماع ، فإنّ معنى الفسخ ليس ردّ كلّ عوض إلى مالكه الأوّل الذي يحصل بعقد جديد أيضا ، بل هو حلّ العقد السابق الناقل للعوضين ، ومقتضى حلّه عود العوضين مع بقائهما إلى مالكيه واستحقاقهما البدل عند تلفهما.

ولما كانت العين لتزلزلها بالخيار مضمونة على المنتقل إليه ، فإذا تلف عنده يرجع الآخر إليه ببدله ، وإن قلنا بعدم جواز إتلافها لغير ذي الخيار ، نظرا إلى تعلق حق ذي الخيار بالعين أصالة.

والتمسك في سقوط الخيار بأصل البراءة عن العوض : مدفوع بزوال الأصل باستصحاب الخيار المقتضي لضمانه المزيل للبراءة عنه.

__________________

(١) تحرير الأحكام ١ : ١٦٨.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٣١٣.

(٣) قواعد الأحكام ( الينابيع الفقهية ) ١٤ : ٥٣٦.


نعم ، إذا كان موجب الخيار مقيدا بردّ العين ، كما عند اشتراطه كذلك ، أمكن القول بسقوطه. ولعله لذا تردّد العلّامة في المرابحة ، فيما لو ظهر كذب البائع في إخباره برأس المال بعد تلف المتاع (١).

بل عن المبسوط (٢) وبعض آخر الجزم بالعدم ، نظرا إلى أنّ الردّ إنّما يتحقق مع بقاء العين. وعن المسالك (٣) وجامع المقاصد (٤) : ثبوت الخيار ، لعدم المانع مع وجود المقتضي. وقد عرفت فيما تقدم خلافهم في بقاء خيار المغبون بتلف المغبون فيه.

المسألة الرابعة : اختلفوا في جواز التصرف الناقل لغير ذي الخيار ، كنقل المشتري المبيع في بيع الخيار ، على أقوال ثلاثة :

الأوّل : عدم جوازه ، وهو المحكيّ عن الشيخ (٥) وابن سعيد وظاهر الفاضل في القواعد (٦) والمحقّق والشهيد الثانيين ، بل نسب إلى الأكثر ، وعن جامع المقاصد (٧) والدروس (٨) : نفي الخلاف عنه. وربما يظهر من بعض كلمات العلّامة والشهيد خلافه.

وفي التحرير (٩) والتذكرة (١٠) : تجويز عتق المشتري العبد في زمان خيار البائع ،

__________________

(١) لم نقف عليه ولكن بحث قدس‌سره عن أحكام المرابحة في تحرير الأحكام ١ : ١٨٦ ؛ وفي مختلف الشيعة ٥ : ١٨٥.

(٢) المبسوط ٢ : ٨٦.

(٣) مسالك الأفهام ٣ : ٢١٧.

(٤) جامع المقاصد ٣ : ٣٠٩.

(٥) جواهر الكلام ٢٣ : ٧٠ و ٧١.

(٦) قواعد الأحكام ١ : ١٤٤.

(٧) جامع المقاصد : ٣١١ / ٤.

(٨) الدروس الشرعية ٣ : ٢٧١.

(٩) تحرير الأحكام ١ : ١٦٨.

(١٠) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٣٨.


وجعله كالتلف ، فيرجع البائع بعد الفسخ إلى المثل أو القيمة ، وظاهره تخصيص الجواز بالعتق.

الثاني : صحّة التصرف الناقل لكن على التزلزل ، فإنّ فسخ ذو الخيار رجع العين إليه من المنتقل إليه الثاني ، وإن سقط خياره بأحد مسقطاته ، لزم. وربما يخصّص ذلك بما يقبل التزلزل كالبيع والهبة ، وأمّا ما لا يقبل كالعتق والوقف ، فيبطل التصرف.

الثالث : صحّته على وجه اللزوم وعدم تسلط ذي الخيار على استرجاع العين ، بل ربما أفرط في ذلك بعدم الفرق بين النواقل اللازمة والجائزة.

ثمّ إنّه لم يظهر من القائلين بالجواز بقاء الخيار بالرجوع إلى البدل من المثل أو القيمة ، إلّا في مسألة العتق أو الاستيلاد.

وكيف كان ، فالحقّ هو الأوّل ، لأنّ الخيار متعلّق بسبب العقد إلى العوضين بإرجاع عينهما بحلّ العقد إلى ملكهما السابق ، فلا يجوز أن يتصرّف في العين بما يبطل ذلك الحقّ بنقلها إلى غيره ، وهذا يعمّ الخيارات الأصلية والمجعولة بالشرط ، وإن كان في الثاني أوضح ، لظهور إرادة إبقاء الملك من اشتراطه ليستردّه عند الفسخ ، وكونه حكمة في أصل الخيار.

وما أورده بعض أفاضل من عاصرناه عليه ، من أنّ الثابت من خيار الفسخ بعد ملاحظة جواز التفاسخ في حال تلف العينين هي سلطنة ذي الخيار على فسخ العقد الممكن في حالتي وجود العين وبعدها ، فلا دلالة في مجرد ثبوت الخيار على حكم التلف جوازا ومنعا ، فالمرجع فيه أدلّة سلطنة الناس على أموالهم مخدوش بأنّ مقتضى حقّ الخيار أمران : السلطنة على حلّ العقد ، وأخذ العين بالفسخ ، ولذا لا يجوز بذل البدل مع بقاء العين.


نعم ، عند عدم إمكان الثاني للتلف لا يسقط الأوّل ، فيرجع إلى القيمة من قبيل الرجوع في المغصوب التالف على عوضه ، وأمّا مع بقاء العين ، فلا تسقط حقه عنها ، فليس للآخر إتلاف هذا الحق عنه.

وتسلّطه على ماله بحديث السلطنة محجوج بسبق حقّ غيره فيه المنافي للإتلاف اختيارا ، فلا يعارض أدلّة الخيار على ما بيناه في قاعدة نفي الضرر ، مضافا إلى استلزامه جواز إتلاف العين رأسا ، ولعلّه لا يقول أحد بهذا الضرر ، وإلى ظهور إرادة ذي الخيار بقاءها في الخيار المجعول بالشرط ، والشارع في حكمة تشريعه في الخيار الأصليّ. ومن هذا ينقدح حجة القول الثالث بضعفها.

وأمّا حجّة القول الثاني :

أمّا على جوازه متزلزلا ، فقاعدة التسليط وعمومات حلّية البيع. وأمّا على تسلط ذي الخيار على الرجوع إلى العين بعد الفسخ ممن انتقل إليه ، فاستصحاب خيار البائع اقتضائه جواز الرجوع إلى العين ما دامت باقية ، مع أن البيع ونحوه ليس إلّا نقل الملك الثابت للناقل ، وليس للمشتري في زمن الخيار إلّا الملك المتزلزل ، فلا يترتّب على بيعه إلّا حصول الملكية المتزلزلة الثابتة للمشتري ، ولا ينافيه لزوم البيع ، فإنّ مقتضاه لزومه على حسب حاله ، وهو ما يرتفع بفسخ ذي الخيار ، فهو لازم على المشتري الأوّل والثاني دون البائع الأوّل.

والجواب : أنّ الفسخ عبارة عن حل العقد الأوّل ، ومقتضاه إرجاع المبيع عن ملكية المشتري الأوّل ، فإنّه المشروط عليه الملتزم به ، وبهذا فرع بقاء الملكية له ، وفي المفروض ارجاع عن ملكية المشتري الثاني بالعقد الثاني ، ولم يكن له خيار بالنسبة إلى هذا العقد ، إذ لا شرط بينهما ، فلا بدّ إمّا من القول بعدم جواز إخراج المشتري الأوّل العين عن ملكه إبقاء لحق خيار البائع كما هو الصواب ، أو القول


بسقوط خيار البائع عن العين ونقله إلى الغير.

المسألة الخامسة : منفعة العين في زمان الخيار قبل الفسخ في بيع الخيار وغيره مال المشتري ، كالأصل ، فله صرفه كيف يشاء ، وأخذ العوض عليها ومطالبة أجرة المثل ولو من ذي الخيار إذا تصرّفه ، فلو آجره في زمان الخيار صحّت الإجارة ، لكن ما دام تملكه للعين ، وتنفسخ بفسخ العين ، كما أفتى به المحقق القمّي ووالدي العلّامة (١).

والقول بأنّ صحّة الإجارة تبطل تسلّط الفاسخ على أخذ العين ، لاستحقاق المستأجر لتسلّمه لأجل استيفاء منفعة في مدة الإجارة : يضعف بأنّ الفسخ من قواطع الإجارة ، نظير قطع إجارة البطن الأوّل في الوقف بموتهم ، وانتقال العين الموقوفة إلى البطن الثاني.

واستظهر بعض أفاضل من عاصرناه بقاء الإجارة للمشتري وعدم بطلانها بفسخ العين ، استنادا إلى أنّ المشتري ملك العين ملكية مطلقة مستعدة للدوام ، ومن نماء هذا الملك المنفعة الدائمة ، فإذا استوفاها المشتري بالإجارة فلا وجه لرجوعها إلى الفاسخ ، بل يرجع إليه الملك مسلوب المنفعة في مدّة الإجارة بعد الفسخ ، كما إذا باعه بعد الإجارة.

ويفترق هذا عن إجارة البطن الأوّل في الوقف المنقطعة بانقضائهم ، بأنّ البطن الثاني لا يتلقّى الملك عن البطن الأوّل حتى يتلقّاه مسلوب المنفعة ، بل عن الواقف ، فالملك ينتهي بانتهاء استعداده.

ويضعّف هذا أيضا.

أوّلا : بأنّ حق ذي الخيار كما تعلق بالعين قبل الفسخ بتسلطه على إرجاعها إلى

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٩١.


نفسه بالفسخ ، تعلّق بالمنفعة أيضا تبعا للعين بإرجاعها إليه كذلك ، فيبطل ما ينافيه.

وكون الملك مستعدا للدوام لو لا الرافع لا يكفي في ملك المنفعة الدائمة فعلا قبل حلول الرافع ، بل هو معلّق على عدم حلوله ، كملك العين.

وبالجملة : تسلّطه على هذا التصرف والتمليك المستمرّ ينافي حقّ الخيار الآخر المتعلّق بالعين والمنفعة.

والتفريق بينه وبين اجارة الموقوف ، بأنّ البطن الثاني تتلقّى الملك من الواقف لا من البطن الأوّل مستجمع المنفعة ينتهي استعداد ملك البطن الثاني بانقراضه : مخدوش بأن المستأجر فيما نحن فيه ، وإن تلقّى الملك عن المشتري ، لكن على حسب ما تلقّاه من البائع ، وهو المتزلزل المنتهى استعداده بالفسخ على حسب الشرط.

وثانيا : بأنّه على تقدير بقاء الإجارة بعد الفسخ : إن كانت الأجرة المسماة إلى انقضاء مدّة الإجارة للفاسخ ، فلا يكاد يصلح ، بل هو خلاف قصد الموجر ، ولعله لم يرض به الفاضل المعاصر ولم يفت ، وإن كانت للمشتري ، فهو ضرر بيّن على البائع ، سيما إذا كانت مدّة الإجارة زائدة عن زمان الخيار بمدّة طويلة كعشرين سنة أو خمسين ، إذ يدور أمر البائع ـ حينئذ ـ بين الالتزام ببقاء المبيع وبين الفسخ وردّ الثمن وتملك العين مسلوب المنفعة في يد المستأجر إلى انقضاء مدّة الإجارة ، وأيّهما كان ، فهو ضرر فاحش وخلاف ما انعقد عليه قصد المتعاقدين في الخيارات المجعولة ، والحكمة في الخيارات الأصلية. وهل هو إلّا تضييق على ذي الخيار لا إرفاق وتسهيل له؟

المسألة السادسة : إذا أذن ذو الخيار في التصرف الناقل ، فلا شك ولا خلاف في نفوذ إذنه وصحّة التصرف وعدم انفساخه بفسخ العقد الأوّل ، وإن قلنا بعدم منافاة الإذن في التصرف لإرادة الفسخ وأخذ القيمة ، لتوافق حقّيهما عليه.


وكذا لا إشكال ـ ظاهرا ـ في أنّ هذا الإذن ليس فسخا موجبا لعود الملك إلى الفاسخ ، لاستلزامه وقوع الفعل المأذون فيه لذي الخيار ، مع أنّه يقع وكالة عنه ، ولا تعلّق قصدهما به على الفرض.

وكذا الظاهر ، عدم بقاء الخيار بعد هذا الإذن بحيث يرجع ذو الخيار به إلى البدل ، لأنّ حقّ الخيار متعيّن بالعين ، ولا ينتقل إلى البدل إلّا إذا تلفت على كونها محلا لحقّه ، وإذنه لغير ذي الخيار في التصرف الناقل لنفسه عند بقاءها على ملكه ، إسقاط لحقّ خياره عن العين ، فلا يرجع إلى البدل ، بل هو التزام بالعقد.

ومن هذا يظهر [ أنّ ] سقوطه بمجرّد الإذن ، وإن لم يتصرّف المأذون ، كما عن القواعد (١) والتذكرة (٢) ، بل عن المشهور ، منع دلالة الإذن المجرّد عن التصرف المحكيّ عن جامع المقاصد (٣) والمسالك (٤) خلاف الظاهر ، وتوجيهه بظهور الإذن ـ حينئذ ـ في الفسخ بحكم العرف لا في الإسقاط ، والحكم بالسقوط في التصرف عن إذنه ليس لأجل تحقّق الإسقاط من ذي الخيار بالإذن ، بل لأجل تحقق المسقط ، نظرا إلى وقوع التصرف صحيحا وعدم التسلط على البدل كما تقرّر ، خال عن التحصيل ، لأنّ الإذن لو كان فسخا لم يتفاوت به الحال بتعقب التصرف المأذون فيه من غير ذي الخيار وعدمه.

هذا ، ويظهر مما بيّناه حكم الإذن في الإتلاف وأنّه إسقاط للخيار ، فليس له الفسخ وأخذ البدل ، ولا هكذا لو تلف في يده أو أتلف بدون إذنه ، لما تقدم من انتقال الحق ـ حينئذ ـ من العين المضمونة عليه إلى البدل.

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ١٤٤.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ٥١٧.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٣١١.

(٤) مسالك الأفهام ٣ : ٢١٣.


فرع : لو أذن في الإجارة إلى آخر زمان الخيار أو أكثر ، فلا شكّ في صحّتها كما مرّ ، وليس فسخا كما عرفت ، وكذا ليس هنا إسقاطا للخيار أيضا ، لأنّ متعلّقه العين والمنفعة تابعة ، فتقع الإجارة المأذون ما لم يفسخ الإذن ، ويبطل بفسخ العين ، لما مرّ.

فإن قلت : الإذن في الإجارة إذن في تملك المنافع المتجدّدة لغير ذي الخيار ، فلا يرجع إليه بعد فسخ العين.

قلت : الإذن إذا لم يكن فسخا لا يكون لازما ، بحيث لا يمكن تعقبه البطلان القهريّ بفسخ العين ، بل الإذن ـ حينئذ ـ لا ثمرة فيه ولا يفيد شيئا لاستحقاقه الإجارة ما دام ملك العين من غير توقف على إذن ذي الخيار.

نعم ، إذا اقترن المقام بقرينة حالية دالة على قصده من الإذن إسقاط خياره كان له حكمه.

المسألة السابعة : الخيار موروث بأنواعه بلا خلاف ، كما صرّح به جماعة.

وعن الغنية (١) : الإجماع عليه في خيار المجلس والشرط ، وفي التذكرة (٢) : إنّ الخيار عندنا موروث ، لأنّه من الحقوق ، كالشفعة والقصاص في أنواعه ، وبه قال الشافعي : إلّا في خيار المجلس ، فهو الدليل عليه ، مضافا إلى عموم النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) المنجبر بما ذكر ، « وما ترك الميّت من حقّ فلوارثه ».

وأورد عليه أوّلا : بمنع كونه حقا بل حكما شرعيا ، كالإجازة لعقد الفضوليّ وجواز الرجوع في الهبة ، فإنّ الحكم لا يورث.

__________________

(١) غنية النزوع ١ : ٢٢١.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٢٦.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ٩١٤ ، الرقم ٢٧٣٨ ؛ مسند أحمد ٢ : ٤٥٣ بتفاوت.


وثانيا : بمنع كونه ما ترك الميّت ، لأنّه فرع ثبوت كونه حقّا قابلا للانتقال ، فلا يكون وجود الشخص وحياته مقوما له.

ويمكن الجواب عن الأوّل : بكونه حقا للإجماع بسقوطه بالإسقاط ، وكونه في أحد العوضين في خيار الشرط ، ونحوهما من خصائص الحقوق المنافية لمجرّد الحكم ، مضافا إلى خصوص الإجماع على كونه من الحقوق.

وعن الثاني : بأنّ المتبادر من الخبر كونه في مقام بيان حكم الانتقال لمطلق الحقوق ، وكون ما يسمّى حقّا داخلا في المتروكات المنتقلة ، لا في بيان من ينتقل إليه ، لظهور كونه لوارثه لا لغيره. كيف ولو كان الإطلاق منساقا لبيان الثاني لكان اللازم بيان أعيان الورثة وأشخاصهم.

وكيف كان ، فالإجماع يغنى عن تطويل الكلام في ذلك ، بل المهمّ بيان كيفية إرث الخيار إذا تعدّد الورثة.

وتفصيله : أنّهم إذا اتّفقوا على الفسخ أو الإجازة فلا إشكال ، وإن اختلفوا فيهما ففيه أقوال ثلاثة ، منشأها الخلاف في كيفية استحقاق الورثة للخيار :

أحدها : تقدم الفسخ ، فيفسخ الجميع بفسخ البعض وإن أجاز الباقون ، فكل من الورثة يستحق خيارا مستقلا كمورّثه ، نظير حدّ القذف الذي لا يسقط بعفو بعض المستحقين وحق الشفعة على المحكيّ عن المشهور ، نسب هذا القول في الرياض (١) إلى بعض ونظر فيه.

وعن الحدائق (٢) تصريح الأصحاب بتقديم الفاسخ من الورثة دون المجيز.

ودعواه اتفاق الأصحاب مع ظهور خلافه عن أعيانهم غريبة.

__________________

(١) رياض المسائل ١ : ٥٢٧.

(٢) الحدائق الناضرة ١٩ : ٧١.


نعم ، في التذكرة (١) ذلك في خيار المجلس ، قال : إن فسخ بعضهم وأجاز الآخر ، فالأقوى أنّه ينفسخ في الكلّ كالمورث لو فسخ في حياته في البعض وأجاز في البعض ، واستدلّ على هذا القول بالنبويّ المتقدّم الظاهر في ثبوت الحقّ لكلّ وارث خرج منه المال القابل للتجزئة ، وينزّل فيه على الاشتراك إجماعا ، بخلاف محلّ البحث الذي لا يتجزّى. ولا يخفى أنّ الخبر بظاهره في مقام بيان انتقال المتروك إلى ماهيّة الوارث من غير نظر إلى كونه واحدا أو متعددا ، اشتراكا أو استقلالا ، بل لو فرض كونه عاما كالورثة ، كان اللازم حمله على العموم الجنسيّ ، ليشمل صورة وحدة الوارث وتبعّض المتروكات المتبعّضة على الورثة ، مع أنّه لو أريد منه العموم الإفرادي أو الإطلاقي ، لزم استعمال الكلام في معنيين ، من الاشتراك في المال والتعدّد في مثل هذا الحق. وتخصيص الحقّ بغير المال ليس بأولى من تنزيله على الاشتراك باعتبار محلّه ، أعني المنتقل إليه ، فكان لكلّ خياره في نصيبه.

وربما أورد عليه : بأنّ القرينة العقلية قامت على عدم إرادة ثبوته لكلّ واحد مستقلا ، وهي استحالة تعدد الواحد الشخصي الذي كان للمورّث.

وفيه : منع استحالة سلطنة كلّ واحد على هذا الواحد وراثة ، نظير الوكلاء المستقلّين في الموكّل فيه والأوصياء في الموصى به. وقيام هذا الواحد لشخص واحد هو المورث لا يجب كونه كذلك في الإرث حيث لا يتجزّى ، بل المنتقل إليه مجرد السلطنة على الفسخ ، ولازمه سقوط الحق بإسقاط كلّ واحد ، وهل يستحيل العقل تصريح الشارع به.

وكيف كان ، فلا دليل يعتمد عليه على انتقاله إلى كلّ واحد مستقلا في الكلّ ، مضافا إلى استلزامه ـ كثيرا ما ـ وقوع الضرر على سائر الورثة ، كما سنشير إليه ،

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٢٦.


ويتعدّى إلى نفيه في غير مورد الضرر بعدم القول بالفصل.

القول الثاني : أنّه يستحق جميع الورثة مجموع الخيار ، فلا ينفسخ إلّا باجتماع الكلّ على الفسخ.

اختاره جماعة منهم العلّامة في القواعد (١) ، مع احتماله القول الآتي ، ونجله في الإيضاح (٢) ، والشهيدان في الدروس (٣) والمسالك (٤) ، ووالدي العلّامة في المستند (٥) ، وبعض من عاصرناه ، استنادا إلى أنّ مقتضى أدلّة الإرث كون مجموع المتروك لمجموع الورثة ، إلّا أنّ التقسيم في الأموال لما كان ممكنا ، كان لكلّ واحد حصّة مشاعة ، كسائر الأموال المشتركة ، بخلاف الحقوق التي لا تتجزّى ، فهي باقية على الاشتراك للجميع ، فليس أحدهم مستقلّا في فسخ ، لا في الكل ولا في البعض ، وإلى أنّ القدر المتيقن من الأدلّة ثبوت الخيار الواحد الشخصي للمجموع ، فإن اتفقوا على الفسخ انفسخ ، وإلّا فلا دليل على الانفساخ في شي‌ء منه.

وفيه ، أنّ أدلّة الإرث لا يقتضي كون مجموع التركة للكلّ المجموعيّ ، بحيث كانت للهيئة الاجتماعية مدخلية في استحقاقهم ، وإلّا لما صحّ التقسيم في الأموال ، فإنّها من باب واحد ، بل ظاهرها كونها مشتركة بينهم بحيث كان لكلّ واحد حقّ فيها ، ولازمه تجزّي هذا الشي‌ء المتروك ، مالا كان أو حقّا ، ولذا لو مات بعض هؤلاء الورثة انتقل حقه إلى وارثه ، مع أنّ حقّه ليس كلّ الخيار.

واشتراط موافقته بالاستحقاق لسائرهم في حصول الفسخ الشرعيّ بالخيار

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ١٤٣.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ٤٨٧.

(٣) الدروس الشرعية ٣ : ٢٦٦.

(٤) مسالك الأفهام ٣ : ٢١٤.

(٥) مستند الشيعة ٢ : ٣٨٩.


الوحداني المتروك ، ليس من أجزاء الخيار ، ولا هو من الحقوق المتروكة ، بل هو حقيقة تجزئة في الوارث لا الموروث.

وبالجملة ، مقتضى الاشتراك الثابت من الأدلّة أن يكون لكلّ منهم نصيب في المتروك ، فإن كان المتروك من الأعيان يتجزّى العين ، وإن كان من الأوصاف والأعراض ، فالتجزّي يعتبر في محلّها ، لأنّ الانفساخ المسبّب عن الخيار يقع على كلّ جزء ، وإن كان السبب واحدا ، كما أنّ الملك المسبّب عن البيع إذا ظهر بعض المبيع مستحقا ، وستعرف مزيد بيان فيه مع ما في هذا القول ما أشرنا إليه من استلزامه الضرر غالبا على الورثة ، كما إذا كان بقاء العقد ولزومه ضررا عليهم ، كالبيوع الخيارية بأقلّ الثمن الواقعة ابتداء باستظهار شرط الخيار ، فيحصل الضرر عليهم بمواطاة أحدهم لغير ذي الخيار في عدم موافقته للباقين في الفسخ.

القول الثالث : استحقاق كلّ من الورثة خيارا مستقلا في قدر نصيبه ، اختاره بعضهم ، واحتمله جماعة ، ولا يخلو من قوة.

وينجبر التبعّض على من عليه الخيار عند اختلافهم في الفسخ والإمضاء بالخيار ، إذ الاشتراك مقتضى ظاهر أدلّة الإرث كسائر الأموال ، وحيث إنّه بنفسه غير قابل للتجزئة فيعتبر التجزّي في متعلّقه كما بيّناه.

وعدم ثبوت خيار البعض للمورث أصالة ، وإن تعلّق بالأبعاض في ضمن الكلّ ، لا يمنع من حصوله مستقلا في البعض لكلّ وارث ، باعتبار عروض التجزّي في متعلّقه كما أشرنا إليه آنفا.

وتوضيحه تفصيلا : أنّ الحقّ المملوك ، إمّا أن يتبعّض في نفسه ، فحكمه عند الاشتراك ظاهر أو لا يتبعّض ، لا في نفسه ولا في متعلقه ، كالقصاص ، فمقتضى الاشتراك فيه اجتماع المحقّين على استيفائه ، ومع الاختلاف بالرجوع إلى ما جعله


الشارع وهو بذل المستوفى حصّة الباقين من الدية التي هي بدل حقّهم شرعا ، أو يتجزّى بحسب المتعلق دون نفسه ، كما في محل الفرض ، فإذا انتقل بالإرث إلى كثيرين ، فلا بدّ من توجيهه : إمّا بكونه للهيئة الاجتماعية ، أو لكلّ واحد مستقلا في المجموع أو في نصيبه خاصّة.

ولا يصحّ الأوّل ، لأنّ المركّب من الكلّ ليس وارثا ، بل هو كلّ واحد منهم ، فلا مدخل للاجتماع في الوراثة والاستحقاق ، وكذا الثاني ، لما فيه ـ مضافا إلى ما عرفت من كونه خلاف مقتضى أدلّة الإرث ـ من أنّه غير ما استحقّه المورث ، لأنّ ما للمورث هو حقّ الخيار على رجوع المال إلى نفسه لا إلى غيره ، وبعبارة أخرى : له التسلّط على إرجاع المفسوخ إلى نفسه بالفسخ ، وفي الفرض يملكه غيره بفسخ من له الخيار.

فإن قلت : للمورث السلطنة على حل العقد وجعل المال كما كان قبله ، وتلك السلطنة تنتقل بالإرث إلى كلّ وارث ، فهو في ذلك في حكم النائب والوكيل في الفسخ ، فإذا انفسخ صار المال في حكم مال المورث كما كان قبل العقد ، فيرث كلّ وارث قدر سهمه منه.

قلت : الفسخ ناقل العقد من حينه ، فليس ملك المفسوخ عين ما كان للمورث ، بل هو لمن ملك الخيار ، كما كان للمورث ، فلا يصار إليه أيضا ، مضافا إلى استلزامه الضرر كما عرفت ، وحيث لا يصحّ المصير إلى هذين الاحتمالين ، تعين الأخير ، أعني اعتبار التبعّض في السهام.

فرع : إذا كان الخيار لأجنبيّ فمات ، ففي انتقاله إلى وارثه أو إلى المتعاقدين ، أو سقوطه وجوه ، بل أقوال : أقواها الأخير لعدم دليل من إجماع أو نصّ ظاهر على حصول الانتقال حينئذ. واحتمال مدخلية نفس الأجنبي فيه ، والله العالم.


[ المشرق الحادي وعشرون ]

[ في الشبهة الموضوعية التحريمية ]

مشرق : في الشبهة الموضوعية التحريمية المردّدة بين أمرين أو أكثر.

ومحل الترديد إمّا محصور ، ويسمّى الشبهة المحصورة ، أو غير محصور ، فهنا مقامان :

المقام الأوّل : في الشبهة المحصورة ، وقبل البحث نقدّم أمرين :

الأوّل : كما يشترط في صحّة التكليف قدرة المكلّف على الامتثال والإتيان بالمكلّف به ، كذا يشترط فيها قدرته على تحصيل العلم بامتثاله ولو بالاحتياط ، فلا يجوز البناء في الامتثال على إصابة الواقع أحيانا والمطابقة الاتفاقية ، لعدم كونه معقولا ، بل كونه ممنوعا عقلا ، لاستواء الاحتمالين عند عدم العلم في نظر المكلّف فمع عدم القدرة على كليهما معا بالاحتياط ، لو عوقب على مخالفة أحدهما المطابق للواقع دون الآخر ، لزم التكليف بما لا يطاق.

ومنه يظهر أيضا أنّ مع قدرة المكلّف على تحصيل العلم وصحّة تعلّق التكليف لا يجديه الامتثال الاحتماليّ ، بل يتوقف الامتثال على حصول العلم به ، إذ مع عدمه يستوي المأتي به عنده للمحتمل الآخر.


ولو ترتّب ثواب الطاعة وعقاب المعصية عليه لا على الآخر لزم إناطة التكليف بالإصابة الاتفاقية للواقع ، وقد علمت بطلانه ، بل استحالته.

وكذا يظهر أنّ تكليف الجاهل بما في نفس الأمر ، سواء كان الجهل بنفس الحكم ، كما عليه الأخباريون في الشكّ الحكميّ في الحرمة ، أو بالمكلّف به ، كما عليه المشهور ، لا ينفكّ عن التكليف بالاحتياط الموجب للعلم بامتثال الواقع ، فالأوّل تكليف بدويّ له ، والآخر تكليف ثانويّ واقع في الطريق من باب المقدّمة العلمية.

الثاني : أنّ الأحكام الشرعية ، كما تقرر في محله ، منوطة بالحكم والمصالح الكامنة في ذوات الأشياء وخصوصيات الأفعال ، على ما اتّفق عليه أهل المعقول والمنقول من العدلية ، ولازمه ثبوت تلك الأحكام لها قبل تعلق علم المكلّف بها ، وإلّا لزم الدور.

والخطابات الشرعية المتوجهة إلى المكلفين منساقة لبيان تلك الأحكام الواقعية ومستعملة فيها ، إلّا أنّها بالإضافة إلى أحوال المكلّفين ليست على إطلاقها ، لمنافاته في كثير من صور الجهل ، لما تقرّر في الشرع من القواعد الشرعية والأصول العدمية (١) من التوسّع والترخيص في مخالفة الأحكام الواقعية ، بل إبقاؤها مطلقا على الإطلاق يؤدّى إلى التكليف بما لا يطاق ، فهو مقيّد بغيرها على معنى عدم العقوبة على المخالفة الواقعية لعذر الجهل ، وكونه مانعا لها ، لا على تساويها للمطابقة في الآثار المسببة عن الحكمة الذاتية الباعثة لتشريع الحكم.

فمحطّ البحث هو الأوّل ، وهو المسمّى بالحكم الظاهري ، فلا يصحّ النقض باحتمال حصول مفسدة الحرمة في إباحة ما يحتمل الحرمة.

__________________

(١) العملية ( خ ).


نعم ، لا يصحّ الخروج عن الإطلاقات المقتضية للتكليف بالواقع ، إلّا فيما ثبت تقييدها به.

وإذ تمهّد ذلك ، فنقول صرّح جماعة من الأصوليين ، بل عن المشهور : وجوب الاجتناب عن الجميع في الشبهة المحصورة ، ولزوم الموافقة القطعية. وذهب جمع من الأجلّة ، منهم المحقق القمّي ، ووالدي العلّامة (١) إلى حلّية غير ما يساوي الحرام تخييرا ، فلا يجب القطع بالموافقة ، بل يحرم المخالفة القطعية ، وعن بعضهم حلّية الجميع تدريجا وعدم حرمة المخالفة القطعية ، ونسب ذلك إلى العلّامة المجلسي.

والحقّ هو الثاني.

لنا على عدم وجوب الموافقة القطعية وجهان :

أحدهما : انتفاء التكليف بالمعلوم الإجمالي الواقعي بعينه بالنسبة إلى الجاهل ، لأدلّة البراءة عما لا يعلم حرمته ، كقوله عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه » (٢). وقوله عليه‌السلام : « كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (٣) ، المخصّصة لعموم دليل تحريم العنوان المشتبه ، كقوله : « اجتنب عن الخمر مثلا » ، المطلق بالنسبة إلى علم المكلف وجهله ، فيقيد بما ذكر.

وخصوصية موضوعه في الخطاب بالنسبة إلى موضوع أدلّة البراءة لا يرفع حكم التقييد بها لعدم مدخلية خصوصية العنوان في ذلك.

قيل : هذه الأخبار وأمثالها لا يصلح للمنع ، لأنها كما تدلّ على حلّية كلّ واحد من المشتبهين ، كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم الإجمالي ، لأنّه شي‌ء يعلم حرمته.

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٩١.

(٢) لم نقف عليه.

(٣) وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٦ ، الباب ٦٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، الرواية ٣٠٤٢٥.


قلنا : أوّلا أنّ المعلوم الإجماليّ ليس إلّا الموضوع الخاصّ الواقع المجهولة بشخصه عندنا ، المردّد بين أحد المشتبهين ، فيصدق على كلّ منهما أنّه لا يعلم حرمته بعينه ، ولازمه عدم التكليف باجتناب الموضوع الواقعي ، وتقييد خطاب اجتنب عن الخمر ـ مثلا ـ بصورة العلم بصدقه على الموجود الخارجيّ ، لما عرفت في المقدمة ، أنّ التكليف بشي‌ء لا ينفكّ عن التكليف بما هو طريق العلم بامتثاله.

فإذا حكم الشارع بإباحته يلزم الحكم بعدم حرمة الموضوع الواقعي ـ حينئذ ـ بخصوصه ، وإن علم حرمته بحسب مفهومه الكلّي ، كيف وإلّا لزم الحكم بحرمة الشبهة المجرّدة عن العلم الإجمالي أيضا ، كما إذا وقع شكّ في كونه خلّا أو خمرا.

إذ العلم بحرمة الخمر الواقعي الكلّي الصادق على جميع أفراده لا ينفكّ عن وجوب الاجتناب عما يحتمل كونه الواقع ، كما مرّ. وإلّا لزم جواز التخلف عنه ، وهو خلف.

ومن هذا ظهر أنّ أخبار التوسعة في الموضوع المشتبه تقدّم على دليل حرمة ما في الواقع وتقيّده ، دون العكس ، وإلّا لم يبق مورد لأدلّة البراءة ، مضافا إلى كونها أخصّ منها ، كما علمت.

وبالجملة إن أريد بالمعلوم الإجمالي موضوع الخطاب الشرعي المعين في الواقع ، حيث يعلم حرمته ، فينتقض بالشبهة المجرّدة ، وإن أريد خصوص المعلوم في مورد الشكّ المردّد بين المشتبهين ، فليس هو عنوانا لموضوع الحرام في الخطاب ، حتى يستدلّ بتحريمه بالخطاب.

وثانيا منع كون المعلوم الإجماليّ شيئا يعلم حرمته بعينه حيث كان خارجا عن موضوع الأخبار المذكورة ، لصحّة سلبه عنه عرفا.

والقول بأنّ قوله : « بعينه » في الخبر الأوّل ، أعني كلّ شي‌ء حلال حتى تعلم أنّه


حرام بعينه ، تأكيد للضمير للاهتمام في اعتبار العلم ، كما يقال : رأيت زيدا بعينه ، لدفع توهّم الاشتباه في الرؤية ، فالمعيّن الواقعي المردّد بينهما يصدق عليه أنّه معلوم الحرمة بعينه ، مدفوع ، بأنّ هذا مبنيّ على إرادة « بنفسه » ، من قوله : « بعينه » وهو خلاف الظاهر في المقام ، سيما مع ملاحظة الخبر الثاني وإطلاق الأمثلة المذكورة في بعض هذه الروايات ، مثل الثوب المحتمل للسرقة ، والمملوك المحتمل للحرّية ، والمرأة المحتملة للرضيعية ، فإنّ إطلاقها يشمل الاشتباه مع العلم الإجماليّ ، بل الظاهر أنّ المراد به ما يرادف بشخصه الخارجي أي يتميز عند العالم عن غيره في مقابل لا بعينه ، فإنّه يصدق على الحرام الواقعي المجهول بشخصه أنّه غير معلوم بعينه ، وأنّ الحرام منهما معلوم لا بعينه.

وإن كنت في ذلك متأمّلا فانظر إلى متفاهم العرف في نظائر ما نحن فيه ، من الخطابات العرفية الصادرة عن الموالي ، فإنّه إذا قال المولى لعبده : لا تشتر اليوم لحم البقر ، واشتر ما لم تعلم أنه لحم البقر ، إذا اشترى أحد المشتبهين خاصة ، مع علمه بكون أحدهما لحم البقر ، لا يعدّ عاصيا ، ولو عاقبه عليه يلام قطعا ، مع رخصته في شراء المجهول.

هذا ، ويدلّ أيضا ، على حلّية البعض خصوص بعض الأخبار في الشبهة المحصورة ، مثل : موثقة سماعة (١) ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من عمّال بني أمية ، وهو يتصدّق منه ويصل قرابته ويحج ليغفر له ما اكتسب ، ويقول ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (٢) ، فقال عليه‌السلام : « إنّ الخطيئة لا يكفّر

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٨ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢٠٥١.

(٢) هود (١١) : ١١٤.


الخطيئة وإنّ الحسنة يحبط الخطيئة » ، ثمّ قال : إن كان خلط الحرام حلالا ، فاختلطا جميعا ، فلم يعرف الحرام من الحلال ، فلا بأس ، فإنّ ظاهره عدم صرف الجميع ، بل بعضه المشتبه بالاختلاط ، فلا يدلّ على جواز صرف الكلّ.

وأورد عليه : بأنّ ظاهره جواز التصرف في الجميع بصرف بعضه في القربات المذكورة وإمساك الباقي ، فقد تصرف في الجميع ، فلا بدّ من صرفه عن ظاهره ، لئلا يلزم المخالفة القطعية. ولا ينحصر المصروف إليه في ترك ما يساوي مقدار الحرام ، بل يحتمل حمل الخبر على غيره. وفيه منع الظهور جدّا ، إذ ليس الباقي محل السؤال ، بل هو مسكوت عنه ، مع أنّ الأخبار الآمرة بإخراج الخمس في المختلط بالحرام قرينة ظاهرة لصرفه عن الظهور المدّعي.

وثانيهما : أنّه لو سلّم التكليف بالمعيّن الواقعي ، فثبوته لا يقتضي الاجتناب عن كلا المشتبهين ، إلّا بقاعدة استدعاء الشغل اليقيني البراءة اليقينية ، كما تقدّم في المقدّمة ، وهي تعمّ التعيّن الشرعي الثابت بالاستصحاب ، لقيامه مقام التعيّن الوجداني في الشرعيات ، ولما كان الامتثال هنا بالترك وهو معلوم الثبوت أوّلا ، فالاستصحاب يقتضي بقائه إلى أن يعلم العصيان ، وهو بفعلهما جميعا.

وبهذا يحصل الفرق بين الواجب والحرام ، فإنّ الاستصحاب في الواجب بين المشتبهين تقتضي عدم الإتيان به إلى أن يحصل اليقين به الحاصل بإتيانهما معا.

فإن قلت : استصحاب عدم الإتيان بالحرام الواقعي المشتغل به يعارض استصحاب عدم الآخر ، كما في المائع المردّد بين الخمر والخلّ ، فلا يحصل بالاستصحاب هنا العلم الشرعي بالامتثال ، فوجب تحصيل العلم الوجداني به.

قلت : مقتضي تعارض الاستصحابين وتساقطهما ، الرجوع في خصوص الآثار واللوازم إلى ما يقتضيه الاستصحاب في أنفسها ، كما بيّناه فيما أسلفنا في محلّه ، كما


إذا علم حدوث عقد مردّد في كونه إجارة بعشرة أو بيعا بمائة ، فإنّه بعد تعارض استصحابي عدم كلّ منهما ، يرجع إلى استصحاب عدم اشتغال ذمّة المتعاقدين له بالزائد عن العشرة لعدم العلم بموجبه.

ففيما نحن فيه نقول : إذا تناول أحد المشتبهين ، وإن لم نحكم بعدم تناول الخمر ، نظرا إلى معارضته لاستصحاب عدم تناول الخلّ ، إلّا أنّه يستصحب عدم حصول العصيان وعدم حدوث استحقاق العقاب ، وتلازمه للخلّ إنّما هو بحسب الوجود الواقعي لا الظاهري الاستصحابي ، فلا يستلزم الحكم بعدم العصيان الحكم بكونه خلّا.

ومن فروع ذلك في المقام أمور كثيرة هي معاقد الإجماع ـ ظاهرا ـ عند القائلين بالاجتناب عن الجميع ، فلا يحكم بوجوب الحدّ لشرب أحد المشتبهين في المثال المذكور ، ولا باشتغال الذمة بحق الغير إذا اشتبه ماله بمال الغير فأتلف أحدهما.

ومنها ما إذا لاقى أحد المشتبهين بالنجاسة شيئا ثالثا ، فمقتضى التحقيق : عدم تنجس الملاقي ولو على البناء على وجوب الاجتناب عنهما. صرّح به بعض القائلين به ، كما هو ظاهر غيرهم.

وبهذا يظهر الفرق بين الاجتناب عن النجس الاستصحابي المنجّس للملاقي إجماعا ، والاجتناب عن أحد المشتبهين في الشبهة المحصورة ، فإنّ الأوّل من جهة الحكم بالنجاسة شرعا ، فيترتّب عليها آثارها ، والثاني من باب المقدمة ، وسنبيّنه على مزيد بيان في ذلك.

وبالجملة نظر القوم في الشبهة المحصورة تحريما وجوازا ، من جهة نفس المشتبه من حيث كونه مشتبها ، مع قطع النظر عن الآثار الخارجة ، فإنّها موكولة إلى ما يقتضيه الأصل باعتبار نفس الآثار.


فإن قلت : فعلى هذا لزم القول باستصحاب اشتغال الذمّة بالصلاة في أحد الثوبين المشتبهين ، ولو على المختار في المسألة من عدم وجوب الاجتناب عن الجميع ، مع أنّه لا يقال به.

قلت : وجهه أنّ الثابت من الشرع كون النجاسة مانعة للصلاة ، لا أنّ الطهارة مبيحة لها ، فالحكم بالبطلان يستدعي اليقين بوجود المانع ولو بالاستصحاب.

ولنا على حرمة المخالفة القطعية التي هي بارتكاب الجميع ولو تدريجا وجهان :

أحدهما : أنّ الجملة المشتملة على الحرام اليقيني حرام قطعا ، وإن لم يعلم الحرام منها بشخصه ، فيحرم ارتكاب الجميع.

فإن قلت : على ما ذكرت سابقا من جواز ارتكاب أحد المشتبهين خاصة لعدم العلم بحرمته بخصوصه ، جاز ارتكاب الآخر أيضا ، لاستواء حاله في ذلك مع الأوّل ، وحصول العلم بارتكاب محرّم بعد فعله غير ضائر ، لعدم اتصاف الفعل بالحرمة بعد العمل ، مع فرض كونه محكوما بالجواز عند ارتكابه.

قلت : حكم المجموع غير حكم كلّ واحد كما مرّ وهو يحصل بارتكاب الأخير ، فهو مقدّمة وجودية للحرام حقيقة لا علمية.

فإن قلت : أدلّة البراءة النافية لحرمة كلّ واحد يستلزم عدم حرمة المعلوم الإجمالي الواقعي ، بالتقريب المتقدّم ، فلا يكون المشتمل عليه حراما.

قلت : كلّ واحد له جهتان : جهة خاصة في نفسه ، وهو محكوم بالحلّية ، وجهة اجتماعية تحصل من تداركهما الجميع (١) ، فهو محرّم ، من قبيل ارتكاب أجزاء الحرام ، فإنّ المجموع ـ حينئذ ـ حرام بعينه ، فلا تشمله أدلّة البراءة وتعيّن شخص الحرام من بين الجملة المشتملة عليه غير لازم اتفاقا. وحيث إنّ تلك الجهة ، أعني

__________________

(١) كذا.


الهيئة المركّبة تحصل بالأخير ، فهو محكوم بالحرمة.

وأمّا الأوّل ، فإن قصد به اقترانه بالأخير أيضا ، فلا يبعد الحكم بحرمته مع هذا القصد أيضا ، بل هو الظاهر ، فإذن المشهور في أحدهما إنما هو بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر ، لئلا يلزم ارتكاب الجميع ، فيكون الحلال الظاهريّ هو أحدهما على التخيير ، وهو من قبيل التخيير الاستمراري في تقليد أحد المجتهدين المتخالفين فيما يقلّد فيه.

فإن قلت : عنوان المجموع من حيث هو ليس عنوانا للحرام الواقعي المقصود من الخطاب الشرعي ، بل هو أحدهما بخصوصه ، وحيث إنّه حلال ظاهريّ بسبب الجهل ، فيسقط التكليف عن الحرام الواقعي ، فلا يضرّ العلم بالمخالفة القطعية ، كما وقع نظائرها في الشرعيات فوق الإحصاء ، كما في الرجوع في التقليد في المثال المذكور ، وكما في إقرار ذي اليد لزيد وقيام البيّنة لعمرو ، فتؤخذ المال منه لعمرو وقيمته لزيد ، أو قال هذا لزيد بل لعمرو بل لخالد ، حيث يغرم لكلّ من الأخيرين تمام القيمة ، مع أن حكم الحاكم في الجميع مخالف للواقع ، وأمثال ذلك من صور الأقارير والتحالف وغير ذلك.

قلت : نعم ، ليس المجموع عنوان الحرام الواقعي ، بل هو أحدهما الخاص ، إلّا أنّه لاشتماله عليه وعدم العلم بالخاصّ بعينه صار عنوانا له في الظاهر ، وحلّية كلّ واحد بالخصوص بدليل البراءة لا يقتضي حلّيته مقترنا بالآخر ، ولا يساعده دليل البراءة كما عرفت. والنقض بالمخالفة القطعية في أمثال ما ذكر غير متّجه.

أمّا التقليد الذي يتبدّل بتقليد مجتهد آخر ، فلأنّ التقليد لكونه طريق الواقع في حقّ المقلّد ، ولو تعبّدا ، فهو من باب تغيّر الواقع في حقّه ، نظير تغيّر رأى المجتهد لنفسه.


وأمّا في غيره ، فلا يلزم جواز المخالفة القطعية في حكم شخص واحد ، من قبيل واجد المني في ثوب مشترك.

وأمّا الحاكم ، فوظيفته أخذ ما يستحقه المحكوم له على المحكوم عليه بالأسباب الظاهرية كالإقرار والحلف والبيّنة وغيرهما ، فهو قائم مقام المستحقّ في أخذ حقّه ، ولا عبرة بعلمه الإجمالي بالنسبة إلى غيره.

وثانيهما : بناء العرف على ما ذكرناه ، كما يشاهد في نظائر ما نحن فيه من الأحكام الصادرة عن الموالي وحكمهم به ، فإنّه إذا قال المولى لعبده : لا تشتر اليوم لحم البقر ويجوز لك شراء ما لم يعلم كونه لحمه ، إذا اشترى المشتبهين ولو بصفقتين ، يعد عاصيا ويعاقب عليه ، كما لا يعاقب إذا اقتصر على أحدهما كما أشرنا إليه ، وما هو إلّا لكونه لازم الخطابين معا ، وهو حجّة في الشرع ، بل يحكم بذلك القوة العاقلة.

احتجّ القائلون بحرمة الجميع بوجهين :

الأوّل : إنّ أدلّة تحريم المحرمات شاملة للمعلوم الإجمالي ، فلزم بحكم العقل التحرز عن ارتكاب ذلك المحرّم بالاجتناب عن كلا المشتبهين ، وإلّا لزم تجويز ارتكاب ما هو الحرام الواقعي إذا اتفق كونه المرتكب به وعدم العقاب ، إذ المفروض ثبوت التكليف هنا بما هو في الواقع ، لمكان العلم به.

والجواب عنه : أوّلا : إنّ المراد بالمعلوم الإجمالي ، إن كان ما هو موضوع الخطاب الشرعي ، أعني الماهيّة الكلّية ، فلا كلام في كونه مكلّفا به ، لكن بشرط العلم بمصداقه الخارجي ، وأمّا مع عدمه فلا.

ولا فرق في ذلك بينه وبين الشبهة الابتدائية الموضوعية ، فإنّ نسبة الجهل إلى كلّ واحد من المشتبهين ، كنسبته إلى المشتبه الابتدائيّ.


وإن كان هو الفرد الواقعي المردّد بينهما ، فهو أوّل الكلام ، وشمول الخطاب المحمول على المعنى النفس الأمريّ له وإن كان مسلما ، إلّا أنّ تكليفنا به مقيّد بالعلم بنفس الحكم وموضوعه بملاحظة أدلّة البراءة ، كما تقدم بيانه. ولا فرق في ذلك ـ بالنسبة إلى مصاديق الموضوع الخارجية ـ بين الشبهة المحصورة والابتدائية ، مع صدق العلم فيهما بنفس الحكم الثابت من الخطاب الشرعي.

وإن كان المراد ، المجتمع من المشتبهين المشتمل على المعلوم الإجماليّ ، فحرمته مسلمة ، بل هو حرام تفصيليّ لا يجوز تناولهما جميعا ، فإنّ المركّب من الحرام حرام كما بيّناه ، وأين هو من كلّ واحد وحده.

وثانيا : أنّه لو سلم التكليف التحريمي بالنسبة إلى أحدهما المعين الواقعي ، فغاية الأمر وجوب تحصيل العلم الشرعي بامتثاله الشامل للعلم الاستصحابي.

وقد علمت : أنّ مقتضى الاستصحاب عدم حصول العصيان واستحقاق العقاب بفعل أحدهما ، وإن تعارض الاستصحابان فيهما بملاحظة نفس الموضوعين.

ومن هذا يظهر أنّ الاستناد بحال العبد إذا قال له المولى : اجتنب عن الخمر المردّد بين هذين الإنائين ، حيث لا يرتاب في وجوب الاحتياط حينئذ ، ليس كما ينبغي ، فإنّه لو سلم كون المبحوث عنه من هذا القبيل ، مع أنّه غير مسلّم كما عرفت ، فهو إذا لم يقترن به قول المولى : إذا شككت في وقوعك في العصيان ، فلا حرج عليك.

الثاني : الأخبار الدالّة على اجتناب الجميع.

ومنها المرسل (١) : « اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس ». ومنها الخبر

__________________

(١) في مستدرك الوسائل ١١ : ٢٦٧ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال : « إنّما سمّي المتّقون المتّقين ، لتركهم عما لا بأس به حذرا ممّا به البأس ».


المنجبر بالشهرة (١) : « ما اجتمع الحرام والحلال إلّا غلب الحرام على الحلال ».

ومنها رواية ضريس (٢) ، عن السمن والجبن في أرض المشركين : قال : أمّا ما علمت أنه قد خلطه الحرام فلا يحلّ ، وما لم تعلم فكل ، والخلط يصدق مع الاشتباه.

ومنها رواية ابن سنان (٣) : « كلّ شي‌ء حلال حتى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة » ، فإنّه يصدق على المجموع لحمان فيه الميتة.

والجواب عن الأوّل : إنّ اجتماع الحلال والحرام ، إن كان محمولا على معنى الاشتباه ، فينقض بالشبهة الابتدائية وغير المحصورة ، ومع ذلك مجاز لا يصار إليه إلّا بدليل ، وإن كان على الحقيقة ، فالمراد بالغلبة ، إن كان بالنسبة إلى كلّ جزء فينتقض بمعلوم الحلّية في المجتمع منهما ، ومع ذلك فخلاف الظاهر أيضا ، وإن كان بالنسبة إلى الكلّ فهو كذلك ، ولا يحصل إلّا بتناول الأخير ، فلا يتمّ المدّعى.

وعن الثاني : إنّ المراد منه ، إن كان صورة الشكّ ، فهو كسائر أدلّة الاحتياط محمول على الاستحباب ، لمعارضتها لأدلّة البراءة الراجحة عليها ، على ما تقرّر في محلّه ، وإن كان المراد منه صورة العلم بالبأس ، فلا يصدق إلّا على المجموع كما ذكرنا.

__________________

(١) عوالي اللآلي ٢ : ١٣٢ ، الحديث ٣٥٨ ؛ مستدرك الوسائل ١٣ : ٦٨ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ١٤٧٦٨.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٥ الباب ٦٤ من أبواب الأطعمة المحرمة ، الرواية ٣٠٤٢٤ ؛ مع اختلاف يسير.

(٣) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٨ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الرواية ٣١٣٧٧ ؛ الرواية عن عبد الله بن سليمان ، عن الصادق عليه‌السلام في الجبنة قال : « كل شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه الميتة ».


وإرادة المعلوم الإجمالي المردّد بين المشتبهين ليست بأظهر من حمله على المباح المعد لارتكاب الحرام ، ككثير من الشهوات النفسانية ، واستلزام حمل الأمر على الاستحباب من باب الإرشاد والوعظ الوارد أمثاله في الأخبار بما لا يحصي ، ليس بأدون من التجوّز الحاصل على الحمل على المبحوث عنه ، فيما إذا ارتكب أحد المشتبهين خاصة.

وعن الثالث : أنّ الخلط حقيقة في الامتزاج دون الاشتباه ، فهو على خلاف المقصود أدلّ. ومن هذا وما تقدم يظهر ما في الرابع أيضا.

حجّة القول بحلّية الجميع تدريجا يظهر مما قدمنا مع جوابه ، ومع ذلك يمنعه بعض ما تقدّم من الأخبار ، مضافا إلى كونه خلاف ظاهر الأصحاب ، ولم يجترأ على القول به صريحا من مال إليه ، بل يترتّب عليه من المفاسد ما لا ينبغي الشبهة فيه.

وحجّة القول بالقرعة : أنّ الحرام المشتبه يتخلّص بها ، لما ورد أنها لكلّ أمر مشكل ، وخصوص الخبر الحاكم بالقرعة في قطع غنم نزى (١) الراعي على واحدة منها ثم أرسلها في الغنم فاشتبه بغيرها.

والجواب عن الأوّل : أنّه لا إشكال بعد ما عرفت من الأدلّة.

وعن الثاني : أنّه لا يدلّ على الوجوب ، بل غايته الاستحباب ، كما احتمله بعض الأصحاب ، سيما مع عدم صراحته فيه وندرة القول بها بل شذوذه ، فلا ينهض حجّة. واحتمل بعضهم اختصاص العمل به في مورد الخبر مع عدم ما يفيد العموم فيه.

تنبيهات :

الأوّل : ما ذكرنا من حلّيته ما عدا مقدار الحرام تخييرا إنّما هو فيما لا يقتضي

__________________

(١) نزا ، ينزو : وثب ، والذكر على الأنثى : سفدها.


الاستصحاب حرمتها أو حرمة أحدهما بخصوصه ، وإلّا فيبنى على ما يقتضيه الاستصحاب.

أمّا الأوّل : فلرجوعه إلى تعارض الاستصحابين في موضوعين لا نسبة بينهما بالسببية ، فإنه يجب الاجتناب ـ حينئذ ـ عنهما على القول بالعمل بهما ، كما هو غير بعيد على ما تقرر في محلّه ، كما إذا اشتبه المغسول من المتنجّسين.

فإن قلت : فكيف لا يعمل باستصحابي الطهارة إذا علم تنجّس أحدهما لا بعينه.

قلت : الممنوع ـ حينئذ ـ الجمع بينهما وارتكاب الجميع ، لحصول العلم به ـ حينئذ ـ بارتكاب الحرام ، بخلاف استصحابي الطهارة ، إذ غاية ما في الباب ـ حينئذ ـ العلم بترك الحلال المردّد بينهما ، ولا محذور فيه.

ومن ذلك ما إذا اشتبهت زوجته بالأجنبية في امرأتين ، فيحرم وطؤها ، مضافا إلى ظهور الإجماع فيه ، فإذا طلقت إحدى زوجتيه ثم اشتبهتا ، فمقتضى ما اخترناه وإن كان حلّية أحدهما ، إلّا أنّه لا يبعد الإجماع على حرمتهما في خصوص المورد ، كما في الإنائين المشتبهين.

وأمّا الثاني : فلتعين الحرام من بينهما بالاستصحاب الذي هو دليل شرعي ، كما إذا دار الأمر بين تنجّس هذا وزوال نجاسة ذلك ، فيبنى على استصحابي النجاسة والطهارة فيهما.

الثاني : قال بعض القائلين باجتناب الجميع : لو كان المشتبهان مما يوجد تدريجا ، كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها بأن نسيت وقتها وإن حفظت عددها ، فتعلم أنها حائض في الشهر ثلاثة أيام مثلا ، فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر ، ويجب على الزوجة أيضا الإمساك عن دخول المسجد وقراءة العزيمة تمام الشهر أو لا.


التحقيق أن يقال : أنه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينهما إذا كان الابتلاء دفعة وعدمه ، لاتّحاد المناط في وجوب الاجتناب.

نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيات كما في مثل الحيض ، فإن تنجّز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ، فإنّ قول الشارع : ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ ) (١) ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالحائض ، إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء ، فلا يطلق بهذا الخطاب.

ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر أو حلف ترك الوطء في ليلة خاصة ، ثم اشتبهت بين ليلتين أو أزيد ، ولكنّ الأظهر هنا وجوب الاحتياط.

إلى أن قال : فحيث لا يجب الاحتياط في الشبهة التدريجية ، فالظاهر جواز المخالفة القطعية ، لأنّ المفروض عدم تنجز التكليف الواقعي بالنسبة إليه ، فالواجب : الرجوع في كل مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحة وتحريما ، فيرجع في مثال المضطربة إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى أصالة الإباحة ، لعدم جريان استصحاب الطهر ، انتهى.

أقول : وللنظر فيه مجال ، لأنّ الابتلاء بالمعلوم الإجمالي لا يتفاوت فيه الحال بين الدفعي والتدريجي مع العلم بحصوله ، بل تناول الدفعيات أيضا تدريجي حقيقة ، فإنّ قطيع غنم في الشبهة المحصورة لا يمكن أكل كلّه دفعة.

وبالجملة أيّ فرق فيما إذا علم وجود شخص كافر في جملة عدد محصور يأتيك متعاقبا ، وحيض ناسية الوقت في الشهر ، فكيف يمنع تنجّز التكليف بترك

__________________

(١) البقره : ٢٢٢.


وطء الحائض قبل زمان حيضها ، وتجوز المخالفة القطعية فيه استنادا إلى استصحاب الطهر في غير مقدار زمان الحيض ، وفيه إلى أصالة الإباحة ، ولا يمنع تنجّزه بترك ملاقاة الكافر قبل وصوله وحضوره ، وقد يقتضي الاستصحاب في التدريجي ترك الجميع وتحصل الموافقة القطعية ، كما إذا شكّ في صيرورة أحد الخمرين خلّا ، ثم شك في صيرورة الآخر كذلك ، مع العلم الإجمالي بصيرورة أحدهما خلّا ، فلا ينبغي الحكم ـ مطلقا ـ بجواز المخالفة القطعية في التدريجيات ، وكيف تبنى الزوجة على الطهر في تمام الشهر مع العلم باشتغال ذمّتها بقضاء صوم الثلاثة. اللهمّ إلّا أن يستثنى ذلك عن حكمة (١) المخالفة. بل التحقيق ، أنّ مقتضى تأخر الحادث ، الحكم بتجدد موضوع الحرمة في آخر الأزمنة المشتبهة ، كما في مثال حيض الناسية ، وهكذا (٢) في غير صورة تجدّد موضوع الحرام ، أيضا ، نظرا إلى تجدّد الحكم التكليفي فيه ، فيعمل أيضا ، بأصل التأخر بناء على القول بهذا مطلقا.

الثالث : لا فرق في حكم الشبهة المحصورة في اتحاد حقيقة المشتبهات واختلافها موضوعا أو فعلا متعلّقا به.

وما قد يستظهر من صاحب الحدائق في جواب صاحب المدارك في قوله : إنّ المستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلق الشك بوقوع النجاسة في الإناء وخارجه لم يمنع من استعماله ، من التفصيل بين الصورتين وتخصيص الاجتناب عن المشتبهين بالأولى دون الثانية ، لا عبرة به ، لعموم المناط ، فلا يختلف حكم المشتبه في تردّد النجس بين الماء ومائع آخر ، أو بين ماء وثوب ، أو بين السجدة في خارج الإناء وشرب الماء في مثال المدارك ، والتلبّس بالثوب والشرب عند التردّد في

__________________

(١) حلّية ( خ ).

(٢) في الأصل : وكذا هذا.


نجاسة أحدهما ، بل ولو كان المحرم على كلّ تقدير عنوانا غيره على التقدير الآخر ، كما لو دار الأمر بين كون أحد الثوبين نجسا وكون الآخر مال الغير ، لاندراج ذلك كلّه في وجوب الاجتناب عن الحرام ، والنواهي الشرعية كلها مشتركة فيه ، فلا يتفاوت الحال في ذلك باختلاف العنوانات.

الرابع : آثار الحرام الواقعي وأحكامه الشرعية لا يترتّب عليه إلّا باستيعاب الجميع دون البعض على ما اخترناه.

وأمّا على القول باجتناب الجميع ، فصريح بعض من عاصرناه عدم ترتّبها أيضا ، بل ظاهر إطلاقه على الاستيعاب أيضا ، لأنّ وجوب الاجتناب على مختارهم من باب المقدمة للمعلوم الإجمالي الواقعي ، ولا ينهض ذلك في الآثار ، فيرجع فيها إلى الأصول الجارية في كلّ واحد بخصوصه ، وأنت خبير بأنّ الآثار تابعة للحرام الواقعي ، وحيث التزم القائل به بثبوت التكليف به وإيجاب الجميع من باب الاحتياط وتحصيل العلم بامتثاله ، فيجري هذا الكلام بعينه في الآثار التكليفية له أيضا ، مثلا : إذا علم نجاسة أحد المائين ، وحكم بوجوب الاجتناب عنهما تحصيلا للعلم بدرك الواقع ، فكذا يلزمه بذلك الحكم ببطلان الصلاة بإصابة أحدهما إلى الثوب ، وحصول الحنث بلبس الملاقي له إذا كان منذورا وبطلان بيعه ، وهكذا.

وتخصيص التكليف بمجرد الاجتناب عن العين تحكم محض ، بل نقول : الأثر الواقعي ، أيضا ، معلوم إجمالي ، وبقاء التكليف به يقتضي الاحتياط في أمثاله ، والتحقيق : أنّ التكليف المعلوم أمر وجدانيّ حقيقة ، هو البناء على نجاسة المعلوم الإجمالي أو حرمته ، والجري عليه وجعله بمنزلة المعلوم التفصيلي ، كما عساه يظهر من كثير من القائلين باجتناب الجميع.

فإن قلت : التكليف باجتناب العين منجّز غير مشروط بشي‌ء ، وأمّا بالآثار ،


فمعلق بوجود المعلوم الإجمالي الذي يتفرّع عليه ، ولا علم بها بوجود أحدهما.

قلت : نعم ، هذا اعتراض وارد على أصل هذا القول وإلّا فعلى البناء على كون المعلّق عليه كنجاسة المشتبه محكوما بوجوده ، لزمه الحكم بوجود ما علّق عليه.

فإن قلت : لا يحكم بنجاسة كلّ منهما في حقه ، بل بوجوب الاجتناب عنه من باب المقدّمة للاجتناب عن النجس الواقعي.

قلت : وجوب الاجتناب ، أيضا من أحكام النجس والحرام وآثارهما الشرعية ، كما أنّ بطلان الصلاة فيه ووجوب تطهيره عند الضرورة وبطلان البيع وحرمة التصرف وأمثالها من آثارهما ، فلا وجه لتخصيص التكليف عند العلم الإجمالي بالاجتناب خاصة.

وبالجملة ، ما استظهروا به للتكليف بالواقع المعلوم إجمالا ، يقتضي التكليف بنفس المتبوع المستتبع لآثاره وأحكامه الشرعية ، أى وجوب البناء والجري عليه ، لا خصوص بعض مقتضياته ، فالعلم بامتثال المتبوع الواجب بحكم المقدمة لا يحصل إلّا بالبناء عليه في كلّ منها.

نعم ، من الآثار الوضعية ما يشترط في ثبوته مصادفة المأتي به للواقع ، فلا يحكم في خصوص مثله باعتبار وجوب المقدمة العلمية الذي هو حكم ثانوي ، كاشتغال الذمّة بحق الغير إذا اشتبه ماله بمال نفسه ، فإثباته متوقف على العلم بحصول السبب ، وهو عند ارتكابهما جميعا.

ومن ذلك استحقاق خصوص العقاب المقرّر للحرام الواقعي ، فلا يستحقه إلّا بمصادفة المأتيّ به للواقع أو بارتكابهما جميعا ، وإلّا فمع عدم المصادفة كان عليه عقاب المخالفة (١) للحكم الثانوي التوصّلي.

__________________

(١) في الأصل : عصيان المخالفة.


الخامس : إذا لاقى أحد المشتبهين شي‌ء ثالث ، لم يحكم بنجاسته على المختار معينا ، سواء كان قبل استعمال أحدهما أو بعده ، لعدم حصول العلم بها ولو بعد استعمال الجميع ، وإنما يحكم بالآثار المشتركة.

نعم ، لو كان الحكم بنجاسة أحدهما من باب التخيير الناشئ عن عدم المرجّح ، فلا يبعد القول بنجاسة ما لاقاه إذا اختاره المكلّف من بينهما ، وكذا على القول بالقرعة.

ويظهر ممّا ذكرناه ، عدم جواز الجمع بين ملاقي أحدهما مع عين الآخر ، وكذا بين ملاقيهما ، ووجهه ظاهر.

وأما على القول بالاجتناب عن الجميع ، فقال بعض من عاصرناه ، فيه وجهان ، بل قولان ، واختار عدم التنجّس الملاقي ، استنادا إلى أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين ، وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتّب للعنوان الواقعي من النجاسات ، فإنّه إذا شكّ في ثبوته للملاقي جرى فيه أصل الطهارة.

وبعد الإحاطة بما تقدّم بيانه ، يظهر لك ضعفه جدّا ، فإن ما يترتّب للعنوان الواقعي هو التنجّس الواقعي للملاقي ، ولا نعني به ، كما لا نحكم به لغير الملاقي ـ بالفتح ـ أيضا. وأما التنجّس الظاهري ، فيترتّب على تنجّس العين ظاهرا ، كتنجّس الملاقي للنجس الاستصحابي ، والمفروض كون الملاقي ـ بالفتح ـ محكوما بالنجاسة ، وإن كان من باب المقدمة ، ويلزمها نجاسة ما لاقاه كما تبيّن.

ثم اعترض على نفسه ، بأنّ وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه ، وإن لم يكن من حيث ملاقاته ، إلّا أنّه يصير كملاقاته في العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر ، فلا فرق بين المتلاقيين في كون كل منهما أحد طرفي الشبهة.


وأجاب عنه بما حاصله : أنّ الاستصحاب بين المتعارضين إذا كانا في مرتبة واحدة من غير سببية أحد المستصحبين لخلاف (١) الآخر ، يتساقطان ويرجع في الأحكام والمسببات في كلّ منهما بما يقتضيه الأصل والاستصحاب في أنفسهما ، ففي المورد يتعارض أصلا الطهارة في الملاقي ـ بالفتح ـ والمشتبه الآخر ويسقطان ، ويبقى أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ التي هي من المسبّبات سليما عن معارضة أصالة طهارة المشتبه الآخر.

وفيه ، أنّ القاعدة المذكورة مسلّمة مقبولة ، كما حقّقناه في مقامه وأشرنا إليه ، إلّا أنها لا يتمّ المدعى على القول المذكور ، لأنّه (٢) يرد عليه ـ مضافا إلى منع تساقط الاستصحابين المتعارضين في موضوعين مختلفين مع انتفاء السببية ـ أن تنجّس الملاقي إنّما نشأ من تنجّس الملاقي ـ بالفتح ـ شرعا ، سواء كان لاستصحابه أو لجهة كونه مقدّمة ، وتخصيص حكم المقدّمة بمجرّد اجتناب العين دون البناء على نجاسته فقد عرفت ضعفه ، بل لعلّه خلاف ظاهر أكثر القائلين بحرمة الجميع في الشبهة المحصورة.

السادس : إذا فقد بعض المحتملات ، لم يحرم ارتكاب الباقي على القولين : أمّا على قولنا فظاهر.

وأمّا على القول الآخر ، فلعدم العلم بالتكليف الواقعي ، إذ لعلّ المفقود هو المعلوم الإجمالي ، فالتكليف به معلّق على وجوديهما وتحقق شرائط التكليف به ، ولذا لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض المحتملات ، فالظاهر على المختار ، عدم حرمة المختار فيه ، لعدم دليل على حرمة ضمّه إلى المضطرّ فيه ، وعلى القول الآخر ففيه تفصيلات وفروع يستبعدها الأنظار السليمة.

__________________

(١) كذا.

(٢) في الأصل : « إلّا أنّه كما » مكان « لأنّه ».


المقام الثاني : في الشبهة الغير المحصورة.

والعبارات في تفسيرها مختلفة غير منتظمة ، كجعل المناط فيها لزوم المشقة في الاجتناب عنها أو عدم إمكان ارتكاب الجميع عادة ، أو تعسّر عدّه مطلقا أو في زمان قصير أو ما يعد غير محصورة عرفا ، أو استهلاك العلم الإجمالي بالحرام فيها لكثرة المحتملات ، وأمثال ذلك فإنّ كلّ ذلك يختلف باختلاف الوقائع ومقدار المعلوم الإجمالي والفعل المتعلّق بها دفعة أو تدريجا ، وكذا باختلاف الأشخاص ، كصحراء وسيعة يتنجّس بعضها بالنسبة إلى من يزاولها برطوبة واحتاج إلى مزاولتها ، ومن لا يزاولها ولا يحتاج إليها وأقواها اعتبارا ، ما ذكره الشهيد والمحقّق الثانيان وغيرهما ، من كونها ما يعسر عدّه ، إلّا أنّه لا ينبغي التقييد بذلك بالنسبة إلى الفعل المتعلّق بها.

وكيف كان ، فالخطب سهل ، بناء على عدم الفرق في الحكم بين الشبهتين كما هو الحقّ ، فيحلّ ما عدا مقدار الحرام ، ويحرم ما يساويه ، لما تقدّم من الأدلّة ، مضافا إلى ظهور الإجماع هنا على حلّ ما عدا مقدار الحرام المصرّح به في كلام غير واحد ، بل عن بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة.

وظاهر أكثرهم إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب إلى آخر الأفراد.

واستدلّوا عليه بوجوه قاصرة ، منها : الإجماع ، وهو في غير مقدار الحرام مسلم ، وأمّا فيه فغير ثابت ، كما اعترف به بعض القائلين به ، بل الظاهر عدمه ، وإن كان في إطلاق قولهم بعدم وجوب الاجتناب فيها ظهور شموله له ، إلّا أنّه يحتمل ـ قويّا ـ أن يكون مراد المصرّحين به ، عدم وجوب الاجتناب فيها ، في مقابل القول بوجوبه.

ومنها : لزوم المشقّة المنفية في الشريعة في الاجتناب عن المشتبهات الغير


المحصورة ، لظهور عدم اطّرادها في موارد تلك الشبهة.

تكلّف في توجيهه بعضهم باحتمال كون المراد لزومها في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ، فيشمله عموم قوله تعالى ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (١) بضميمة ما ورد من إناطة الأحكام الشرعية وجودا وعدما بالعسر واليسر الغالبيين.

وفيه أوّلا : أنّه لا مشقّة في ترك مقدار الحرام كما هو المفروض ، فلا يتم المدّعى.

وثانيا : أنّ الشبهة الغير المحصورة ليست عنوانا للحكم في الأخبار حتى يلحق النادر منها بالغالب في حكم العسر ، بل هو عنوان مخترع في كتب الفقهاء لموضوعات متعدّدة في أحكام مختلفة يتفاوت أغلبها في استلزامه المشقة لأغلب أفرادها بالنسبة إلى أغلب المكلّفين وعدمه ، وليست هي واقعة واحدة ، فلو سلّم ملاحظة الأغلب في لزوم العسر ، فالمناط ملاحظته في كلّ موضوع بعنوانه المختصّ به ، بالنظر إلى اجتناب الحرام المردّد بين أفراده ، لكونه المقتضي للاجتناب عنها على القول به ، لا كثرة الأفراد وقلّتها ، وهذا يختلف باختلاف مواضع الشبهة وأحوال المكلّفين فيها والأفعال المحرمة المتعلّقة بها ، كما أشرنا إليه ، بل قد يكون الاجتناب عن الشبهة المحصورة موجبا للمشقة ، فعلى ذلك لزمه جعل العنوان الكلّي للزوم المشقة الغالبة مطلق الشبهة.

وثالثا : أنّ المبحوث عنه في الشبهة هو الحكم الثانويّ الظاهريّ في الحلّية والطهارة والملكية ، فحلّيتها أو حرمتها مبنيّة على أصل البراءة أو وجوب الاحتياط من باب المقدّمة ، فهو رفع لحكم ثابت لا تأسيس حكم واقعي.

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.


والتمسّك بنفي العسر في مثل ذلك لا يفيد أزيد من جواز الارتكاب ، من قبيل الاضطرار في أكل الميتة وتناول مال الغير في المخمصة ، لا الطهارة والملكية ، وعدم النجاسة وعدم الاشتغال بحق الغير أو صحّة البيع وأمثال ذلك. ومع ذلك يختصّ الرخصة المستفادة منه بموارد تلك المخمصة وتدور مدارها ، لا مطلقا.

وليس من قبيل تمسّك بعضهم لطهارة الحديد بنفي العسر والحرج ، فإنّه تعليل وإبداء حكمة لتأسيس حكم واقعي لا لرفع حكم ثابت ، وبينهما فرق بيّن.

ومنها : أصالة البراءة. والخروج عن مقتضاها في الشبهة المحصورة ، إنّما هو لإمكان ارتكاب الجميع عادة ، فيحصل اليقين باستعمال الحرام إذا تنجّس ، بخلاف غير المحصور ، فلا يتحقّق العلم به عادة.

وفيه : أنّ هذا يجري في غير مقدار الحرام في المحصور أيضا ، فلا يحصل به الفرق بينهما ، وأمّا في مقداره ، فعدم إمكان وقوع موضوعه في غير المحصور لا يوجب الحكم بالحلّية ، لتعليقها على وجوده.

وربما يوجّه : بأنّ وجوب الاجتناب عن الكلّ إنّما هو مع تنجّز التكليف بالحرام الواقعي ، وهو حاصل في المحصور ، للعلم بوقوعه فيما يمكن ارتكابه ، أعني : الجميع ، بخلاف غير المحصور ، فإنّ ما يمكن من المحتملات فيه لا يعلم منه الحرمة ، فلا تكليف به حتّى يستدعي اليقين بالبراءة ، وما علم وقوعه منه غير ممكن الاستعمال ، فلا يتعلّق التكليف بالمعلوم الإجمالي الواقع منه حتّى يستدعي البراءة. وضعفه يظهر مما تقدّم.



[ المشرق الثاني وعشرون ]

[ في بيان كيفية الاحتياط ]

مشرق : في بيان كيفيّة الاحتياط فيما وجب أو ندب.

فاعلم : أنّ الاحتياط على ما اصطلح عليه هو العمل بما يحصل القطع به بدرك الواقع وإحرازه على ما عليه في نفس الأمر عند الشكّ ، ولو بتكرير العمل ، سواء كان الشكّ في نفس التكليف ، أو في المكلّف به.

وهذا مما لا شكّ في صحّته ، ولا يحتاج إلى تجشّم الدليل عليه على شرعيته ، لمكان القطع بمطابقة العمل لما في الواقع ، والضرورة قاضية بخروج العهدة حينئذ ، إلّا أنّ تحقّق الاحتياط بهذا المعنى لا يتصوّر مع حصول الشكّ في الواقع فيما يفتقر إلى النية ، كالعبادات ، لمنافاة الشك لقصد ما في الواقع على ما هو عليه ، فيما دار الأمر بين متنافيين ، أو على وجهه من الوجوب وعدمه ، فيما كان الشك بين الأقل والأكثر ، كما في جزء العبادة وشرطها.

ومجرّد إخطار القربة أو خصوص الوجوب مع عدم الإذعان به ليس من النية المعتبرة في العبادة ، فمرادهم من الاحتياط

المجمع على رجحانه وجوبا أو استحبابا في العبادات المؤكّد به في الأخبار إنّما هو في غير النية ، بل هو إحراز


الواقع بالنسبة إلى سائر الأجزاء والشروط ، فإذا شكّ في القصر أو الإتمام على رأس أربعة فراسخ لم يعلم شرعية أحدهما بالخصوص وتعلّق الأمر به بحسب الواقع ، فكيف يتصوّر قصد التقرب به بحسب الأمر الواقعي.

وحيث لا ينطبق العمل الاحتياطي على ما هو عليه في الواقع ، يحتاج الحكم بصحّة الاحتياط وشرعيته إلى إقامة الدليل عليه.

فنقول : لا خلاف ولا كلام في صحّته بهذا المعنى وشرعيته بعد الفحص عن الواقع ، ولعلّه إلى هذا تنظر المحكيّ عن المشهور بين أصحابنا من أنّ عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد غير صحيحة ، وإن علم إجمالا مطابقتها للواقع ، للإجماع على صحته بعد الاجتهاد الكاشف عن الواقع بالدليل الظنّي المعتبر ، كالخبر الصحيح ، وإن كان في إطلاق هذا قبل الفحص ، أيضا نظر سترى وجهه ، وكيف كان ، فالتحقيق : أنّ ما يحتاط فيه ، إمّا يفتقر صحّته وخروج العهدة عنه إلى نية القربة ، كالعبادات البدنية ، أو لا ، كالواجبات المالية ، مثل المنذور والمحلوف عليه والزكاة والخمس ، بالنسبة إلى اشتغال الذمّة بحق الغير ، بحيث يحصل البراءة عنه ولو بالإجبار عليها ، وكالواجبات التوصّلية التعبّدية ، كتطهير النجس.

أمّا الأوّل : فالشكّ إمّا بين الأقلّ والأكثر ، كوجوب السورة في الفريضة ، فإحراز الواقع ـ حينئذ ـ بإتيان الأكثر ، أو بين متنافيين ، كالظهر والجمعة ، والقصر والإتمام ، فهو بتكرير العمل.

أمّا على الأوّل ، فالأصحّ صحّة الاحتياط قبل الفحص بإتيان الأكثر ، بناء على عدم اشتراط نية الوجه ، كما هو الأقوى ، لمطابقة العمل للواقع ـ حينئذ ـ على الاحتمالين ، بمجرّد نية القربة ، فيحصل به الاحتياط المجمع على صحّته ورجحانه ، لعدم توقّفه على شرط آخر.


نعم ، على اعتبار نية الوجه ـ بل على الشكّ في اعتباره ـ فالظاهر عدم تحقق الاحتياط بإتيان الأكثر قبل الفحص عن وجه العمل بالدليل المعتبر ، لمقام الشكّ في حصول الإطاعة الموجبة للخروج عن العهدة ، والشكّ في شرعية هذا الاحتياط.

وأمّا بعد الفحص ، فقد عرفت الدليل عليه من الإجماع ، بل الضرورة. بل منه يظهر أنّ المعتبر في الاحتياط المطلوب المرغوب فيه هو العلم بالخروج عن العهدة في الواقع ، وإن لم يقطع بمطابقة العمل للمأمور به الواقعيّ ، فإذا دار الواجب بين أمرين ، أحدهما غير مقدور ، فالاحتياط ـ حينئذ ـ بإتيان الآخر خاصة وإن لم يعلم كونه الواقعي ، وبالجملة فالدليل على صحّة الاحتياط في العبادات [ يختصّ ] بما بعد الفحص عن الواقع ، وأمّا قبله مع إمكانه ، فلا دليل على شرعية الاحتياط ـ حينئذ ـ على القول باعتبار نية الوجه.

فإن قلت : عدم اعتبار نية الوجه محلّ الاختلاف ، بل عن المشهور ، كما قيل اعتباره فلا يتحقّق الاحتياط قبل الفحص على القول المختار من عدم اعتبارها أيضا.

قلت : هذه المسألة مقطوع بها لنا بملاحظة الإطاعة العرفية الدائرة عليها الإطاعة الشرعية ، ونحن نتكلّم في البحث على زعمنا ، فمن وافقنا في هذا الجزم حصل له الاحتياط قبل الفحص بنية القربة في الترديد بين الأقلّ والأكثر ، ومن خالفنا لم يحصل له.

وأمّا على الثاني ، فالأصحّ عدم حصول الاحتياط ـ مع التمكّن عن العلم التفصيلي أو الظنّ المعتبر بالفحص ـ بالتكرار.

واستظهر من الحدائق (١) دعوى الاتّفاق على عدم مشروعية التكرار ـ حينئذ ـ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٦٩.


وتابع فيه الحلّي في السرائر.

ووجهه : استدعاء العبادة نية القربة ، وهو فرع العلم بالأمر به ، والفرض عدم العلم بالنسبة إلى كلّ واحد بخصوصه ليطابق العمل الواقعي ، وعدم دليل آخر على شرعية هذا الاحتياط الناقص الغير المحصّل للقطع بإحراز الواقع ، كما سمعت. ونية القربة بقصد الاحتياط فرع الدليل على صحته والخروج به عن العهدة. ومنه يظهر فساد عبادة الجاهل التارك لطريقي الاجتهاد والتقليد.

وأمّا الثاني : فالظاهر صحّة الاحتياط ولو بتكرار العمل ، بمعنى حصول البراءة عن الواجب ، إذ المفروض تحقق إحراز الواقع ، وعدم توقف البراءة منه على نية الامتثال.

نعم ، ترتّب الثواب يحتاج إلى قصد القربة ، فلا يترتّب بدونها ، كما إذا أجبر الممتنع عن الزكاة على أخذها منه ، إلّا أنّه يلزم تخصيص منع الثواب بما إذا لم يقصد من الفعل تحصيل البراءة عن حقّ المستحقّ ، إذ المفروض حصولها بدون العلم التفصيلي أيضا ، ولو مع التمكن منه ، وقصد إبراء الذمّة من الحق المعلوم إجمالا ممدوح مشكور قطعا ، فيصحّ قصد التقرب بكلّ منهما ، كما إذا لم يعلم أنّ الواجب عليه في الزكاة ، الإبل أو الغنم ، فيبذل كليهما ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، حصلت من نسيان ونحوه.

ومن هذا يظهر حكم الاحتياط في الشبهة الابتدائية الاستقلالية أيضا ولا شبهة في صحّته ـ مطلقا ـ فيما لا يحتاج حصول البراءة فيه إلى النية ، وصحّته بعد الفحص كذلك مطلقا وعدمها ظاهرا قبله مع احتمال صحّته أيضا في شبهة الموضوع مطلقا قبل الفحص لمظنّة الإجماع كما إذا شكّ في وجوب فائتة معينة عليه لنسيان ونحوه.


تنبيهات :

الأوّل : هل يصحّ الاحتياط قبل الفحص عما يوجب الظنّ المعتبر الاجتهادي مع اليأس عن التمكن من تحصيل العلم بالواقع ، فيه وجهان :

من أنّ مناط المنع إمكان تحصيل العلم التفصيلي بالواقع كما عرفت ، ومع اليأس عن تأثير الفحص في حصوله لم يكن ممنوعا ، ولذا يصحّ اتفاقا مع حصول الظن الاجتهادي على خلافه ، كما تقدّم.

ومن عدم الدليل على شرعيته مع عدم إحراز الواقع ، خرج صورة ما بعد الاجتهاد في تحصيل الظنّ المعتبر ، وبقي الباقي.

ويوافقه ما حكي عن المشهور ، من بطلان عبادة الجاهل التارك للطريقين ، ضرورة عدم حصول العلم من الاجتهاد والتقليد. والمسألة لا تخلو عن إشكال.

الثاني : مقتضى ما ذكرنا صحّة الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب مطلقا.

سواء كان قبل الفحص أو بعده ، للعلم بالقربة ، وكفاية نية التقرّب في إحراز الواقع على كلّ تقدير.

الثالث : هل يصحّ الاحتياط قبل الفحص مع إمكانه في مثل كلمات القرآن والأدعية ـ إذا اشتبه كلمة منها أو إعرابها بين شيئين ـ بتكريرهما أم لا؟

لا شكّ في عدم صحّة ذلك في قراءة الصلاة وأدعيتها ، للعلم الإجمالي ببطلان أحدهما ، فالتكلّم به فيها غلط يبطل الصلاة ، وأمّا في غيرها فالظاهر : الصحة ، بإحراز الواقع بالتكرير ، إذا كان يسيرا لم يخرج بزيادة غير الواقع عن القراءة والدعاء عرفا ، سواء كانت واجبة بنذر أو مندوبة ، لعدم اشتراط نية القربة الفعلية التفصيلية في كلّ جزء ، بل يكفي الحكمية الإجمالية في ضمن نية الكلّ ، وهذا القدر من نية القربة يحصل بإحراز الواقع بتكرير كل ما يحتمل كونه جزء له. وأمّا نية


الجزئية فلو سلّم اشتراطها فهو لا ينافي الترديد بإحراز الجزء الواقعي ، في غير ما يخلّ الزائد بالعبادة.

الرابع : إذا كان الشك في جزئية شي‌ء للعبادة أو شرطيته مع احتمال مانعيته ، فيرجع إلى الشكّ بين المتباينين ، فلا يحصل الاحتياط بتكريرها خالية عنها ومشتملة عليها قبل الفحص مع إمكانه ، لما حرّرنا من عدم حصول نية القربة في كلّ واحد ـ حينئذ ـ سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، فإذا شكّ في القبلة في إحدى الجهتين أو أكثر ، مع التمكن من الفحص عنها ، لا يخرج عن عهدة التكليف بإتيانها في كلّ جهة ، أو انحصر لباس الساتر في النجس ، مع إمكان تطهيره ، وشكّ في أنّ تكليفه ـ حينئذ ـ صلاة العريان أو مع ثوب النجس ، وأمّا إذا شكّ في مقدار الساتر ، أنّ الواجب ستر ما بين الركبة والسرة ، أو مجرّد المخرجين والخصيتين ، فإنّه يتحقق الاحتياط بستر الزائد ، لما أشرنا من عدم اشتراط النية التفصيلية في الشرائط.


[ المشرق الثالث وعشرون ]

[ في حكم الإعراض عن الملك ]

مشرق : إذا أعرض المالك عن ماله ، فهل يوجب الخروج عن ملكه؟ وعلى خروجه هل يتملّكه من أخذه.

قلّ من تعرض لعموم حكمه بهذا العنوان. نعم ، يستفاد منهم حكمه في موارد خاصة :

منها : مسألة البعير التي بقيت في فلاة لأجل كلالة.

فحكي عن الأصحاب مشعرا بالإجماع ـ أنّه يتملّكه الآخذ ، واستدلّوا عليه بصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من أصاب مالا أو بعيرا في فلاة من الأرض ، قد كلّت وقامت ونسيها صاحبها لما لم ينفعه ، فأخذها غيره ، فأقام عليه وأنفق نفقة حتى أحياها من الكلال ومن الموت ، فهي له ، ولا سبيل له عليها ، وإنما هي مثل الشي‌ء المباح » (١) وفي معناها غيرها.

ومنها : مسألة تراب الصياغة ، قال في المسالك (٢) ولو دلّت القرائن على إعراض

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٥٧ ، الباب ١٣ من أبواب اللقطة ، الرواية ٣٢٣٤٨.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ٣٥٢.


مالكه عنه ، جاز للصائغ تملّكه ، كغيره من الأموال المعرض عنها.

وفي الكفاية (١) : تراب الصياغة : إن علم بالقرائن المفيدة للعلم أنّ صاحبه أعرض عنه ، جاز للصائغ تملكه ، كسائر الأموال المعرض عنها ، خصوصا إذا كانت مما يتسامح فيها عادة ، ولا يبعد الاكتفاء بالظنّ مع عدم قضاء العادة على خلافه ، وإلّا ، فإن كان أربابها معلومين ، استحلّهم أو ردّه إليهم ، ولو كان بعضهم معلوما فلا بدّ من الاستحلال ، وإلّا ، فالظاهر جواز بيعه والصدقة به.

واستدلّ عليه بروايتي عليّ بن ميمون الصائغ ، حملا لإطلاقه على ما لم يعلم إعراض المالك عنه.

ومنها : مسألة السفينة المنكسرة في البحر. فعن المشهور : أن ما يخرج بالغوص فهو لمن أخرجه ، وما أخرجه البحر فهو لصاحبه ، لرواية الشعيري (٢) : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن سفينة انكسرت في البحر ، فأخرج بعضه بالغوص ، وأخرج بعض ما غرق فيها. فقال : « أما ما أخرجه البحر فهو لأهله ، الله أخرجه ، وأما ما أخرج بالغوص فهو لهم ، وهم أحقّ ، وفي السرائر (٣) بعد نقل هذه الرواية في كتاب القضاء : وجه الفقه في هذا الحديث : أن ما أخرجه البحر فهو لأصحابه ، وما تركه أصحابه آيسين منه فهو لمن أخذه وغاص عليه ، لأنّه صار بمنزلة المباح. ومثله من ترك بعيره من جهد في غير كلاء ولا ماء ، فهو لمن أخذه ، لأنّه خلّاه آيسا منه ، ورفع يده عنه ، فصار مباحا. وليس هذا قياسا ، لأنّ مذهبنا ترك القياس ، وإنما هذا على جهة المثال والمرجع فيه إلى الإجماع وتواتر النصوص ، دون القياس والاجتهاد ، وعلى الخبرين إجماع أصحابنا. انتهى.

__________________

(١) كفاية الأحكام : ٩٩ ، كتاب المتاجر.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٥٥ ، الباب ١١ من أبواب اللقطة ، الرواية ٣٢٣٤٣.

(٣) السرائر ٢ : ١٩٥.


والظاهر أنّ مراده من القياس المتوهّم فيه : كونه من باب استنباط علة الإباحة للتملّك من الرواية الصحيحة المتقدّمة ، معتذرا للعلّية (١) بكونه معقد الإجماع والنصوص.

ومنها : مسألة اطلاق الصيد بعد التملّك وقصد الخروج عنه ، حيث اختلفوا فيه ، والأكثر على عدم الخروج كما في المسالك (٢). وذهب بعضهم إلى الخروج. نسبه في الكفاية (٣) إلى الأكثر. ويتفرّع عليه جواز اصطياده للغير بقصد التملك وعدمه.

وكيف كان ، فاستدلّ المحقق القمّي ، في المسألة في أجوبة مسائله لما اختاره من كون الإعراض موجبا للخروج عن ملك المالك وتملك الآخذ ، سيما في الشي‌ء الدون ، بوجوه :

أحدها : الإجماع العملي ، بملاحظة عمل الناس في كل عصر ومصر ، من التقاط السنابل بعد الإعراض ، من الصلحاء والمتدينين وغيرهم ، ولم ينكر عليهم أحد من العلماء في جميع الأعصار والأمصار ، والتقاط جلّات البعير والأغنام في المفاوز والصحاري ، ويجرون فيها أحكام الملك للملتقط ، من البيع والشراء ، ضرورة أن ليس بيع الملتقط بالنيابة عن المالك ، ولا بالإجازة منه ، فإنهم يبيعون لأنفسهم ، فليس الإعراض منزلة الإباحة المحضة ، ومجرّد رضى البائع بأخذه وبيعه لنفسه ليس كافيا في انعقاد العقود ، بل يحتاج إلى الإنشاء ، ولو بالمعاطاة.

وثانيها : الإجماع المحكيّ في كلام ابن إدريس (٤) ، مضافا إلى شواهد الموارد المذكورة في كلمات العلماء.

__________________

(١) كذا.

(٢) مسالك الأفهام ١١ : ٥٢٣.

(٣) كفاية الأحكام : ٢٤٦.

(٤) السرائر ٢ : ٨٢.


وثالثها : العلّة المستفادة من صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (١) ، وملاحظة الأخبار الواردة في خصوص مواردها.

أقول : الظاهر من إطلاق كلامه ـ أعلى الله مقامه ـ أنّ مقصوده من الأدلّة : خروج المعرض عنه عن الملك بمجرّد الإعراض ، ولو قبل أخذ الغير وتملكه ، بحيث لا يسعه الرجوع عن إعراضه ، ومنعه الغير عن أخذه ، وحصول التملّك للغير فيما يعم الأموال العظيمة والعقار والضياع. وفي دلالتها على جملة ذلك نظر جدّا.

أمّا على خروج الملك بمجرّد الإعراض قبل التقاط الغير : فلأنّ غاية ما يستفاد من تلك الأدلّة : الدلالة على حصول الملك للآخذ ، وأنّى هو والخروج عن ملك المالك قبل التقاط المتملك.

وتعليل الصحيحة بكونه مثل الشي‌ء المباح ، إنّما هو لملك من أخذه ، لا للخروج قبله ، إذ المراد من المباح : المباح الأصلي الذي لم يجر عليه ملك أحد ، ولذا قال عليه‌السلام : « مثل الشي‌ء المباح » حيث إنّ ظاهر التشبيه كونه في تملك الآخذ ، لا للخروج عن يد المالك ، اذ لا يستقيم ذلك في المباح المالكي ، إلّا في الإعراض ، وهو عين المشبّه به.

وأمّا على عموم هذا الحكم بالنسبة إلى الأموال الخطيرة : فلعدم إفادة السيرة ـ علما ولا ظنّا ـ إياه ، إذ لم يعهد من الناس في سيرتهم في عصر أو مصر ـ فضلا عن الأمصار والأعصار ـ إجراء حكم الملك لمن تصرّف في الدار المعمورة أو المزرعة الدائرة بمجرد إعراض مالكها عنها ، والإجماع المحكيّ عن الحلّي غير مصرّح ولا

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٨ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الرواية ٣١٣٧٧ ؛ الرواية عن عبد الله بن سليمان ، عن الصادق عليه‌السلام في الجبنة قال : « كل شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه الميتة ».


ظاهر في العموم ، بل لو عمّ فهو بالنسبة إلى المال الآيس عنه صاحبه ، كالواقع في البحر ، لا مطلقا ، ونحوه الصحيحة ، مع أنّ البعير المسؤول عنها لكلالها في فلاة الأرض وعجزها عن السير من الأموال الحقيرة التي لا يعتني بها صاحبها ، ولذا قيد الأصحاب حكمه بما إذا كانت متروكة في غير كلاء ولا ماء ، بحيث كانت في حكم التالفة.

وخصوص الموارد المتقدمة لا يشهد بالعموم ، خصوصا بملاحظة اختصاص الوفاق والخلاف في كلماتهم بها ، فإنّك تريهم لا يتجاوزون عن حكم البعير المتروكة في فلاة عن جهد إلى الشاة وسائر الدوابّ بحكم النصّ. وسمعت من المسالك في إطلاق الصيد مع الإعراض وقصد الخروج عن التملك ، نسبة القول بعدم الخروج إلى الأكثر. وعرفت الحكم بالتفصيل في السفينة المنكسرة ، بين ما أخرجه البحر وما أخرجه بالعوض ، من جهة النصّ.

ثم أقول : الذي يترجّح عندي في تحقيق المسألة : أن رفع المالك يده عن ماله : إمّا اختياري ، بإعراضه عنه وقصده عدم تملكه ، أو اضطراري ، بأن يحصل له اليأس عنه عادة ، كالواقع في البحر ، وفرار الطير عن القفس.

ثم الكلام : إمّا في خروجه عن ملك المالك بمجرّد الإعراض أو اليأس ، أو في ملكه للآخذ بقصد التملك.

أمّا في الأوّل : فمقتضى النظر بقاؤه على ملك المالك ، وإن خرج عن المالية ، للاستصحاب ، فإنّ الملك أمر شرعي وحكم وضعي ، فكما يحتاج في حدوثه وثبوته إلى سبب شرعي ، كذا يحتاج في خروجه إلى ناقل شرعي ، ولم يثبت من الشرع أنّ نية الخروج عن الملك أو اليأس عنه من القواطع الشرعية ، وإن قلنا بصيرورته بها مثل المباحات التي يجوز أخذه بقصد التملك ، لما عرفت من ضعف ما استدلّ به.


ويظهر الثمرة في رجوع المالك عن نية الخروج قبل تملّك الغير ، ولو بشهادة الحال ، كما إذا اتفق اجتماع الحبوب بهبوب الرياح ونحوه ، حتى صارت كثيرة لا يتسامح عنها عادة ، أو ارتفع اليأس عنه وحصل الرجاء قبل أخذه الغير ، كما إذا أخرجه البحر.

وأما في الثاني : ففي الصورة الأولى ، أعني : الإعراض اختيارا ، فالظاهر : التفصيل بين الأشياء الحقيرة التي يتسامح بها الملّاك عادة ، ولو لتوقف ماليتها على مشقّة لا يتحمل في مثلها غالبا ، أو لجريان العادة عليه ، كالحبوب المتشتة الملقاة في الأرض عند الحصاد ، وجلّات البعير والأغنام في المفاوز ، والحشيشات وقشور الفواكه والجوزات في الشوارع ومن ذلك البعير التي كلّت من جهد في فلاة في غير كلاء ولا ماء ، وأمثال هذه ، فيتملكها الآخذ ، وبين الأموال العظيمة ، فلا يتملك بأخذ الغير ، لاستمرار السيرة القطعية في الأمصار والأعصار في الأوّل على كونه ملكا لآخذه ، مضافا إلى ظاهر التعليل في صحيح ابن سنان ، دون الثاني ، فنقتصر في الحكم المخالف للأصل على مورد الدليل.

وهل يلزم العلم بإعراض المالك وإباحته لمن يتملك؟

لا شكّ في عدم اشتراط التلفظ به منه ، بل ولا الالتفات والشعور به ولا بالمعرض عنه ، بل يكفي شاهد الحال المعلوم بالسيرة العادية ، فلا يتوقف إباحته على إنشاء لفظي ولا فعلي ، بل لنا أن نقول : بعدم اشتراط العلم برضى المالك ما لم يعلم عدمه ، اكتفاء بحكم السيرة بالشهادة الحالية النوعية في عموم الحكم ، وإن فقدت الشهادة الشخصية في مورد مشخّص لمانع ، فإنّ اكتفاء الشارع في عموم الحكم في خصوص الأشخاص بما يقتضيه النوع ـ مع قطع النظر عن العوارض الشخصية المانعة عند عدم العلم بها ـ غير عزيز ، بل كثير في الأحكام الشرعية ،


كالخبر الصحيح المنوط حجيته بالظن المخصوص أو المطلق ، فإنه لا يتأمّل أحد في حجيته ، ولو تعارضه القياس الظني ، وزال به الظن الشخصي.

فالمناط في جواز التملك للغير ، بعد قطع المالك يده عنه ، كونه متسامحا فيه وسبيلا على الإطلاق غالبا في العرف والعادة. نعم ، يشترط عدم العلم بكراهة المالك وقصده بقائه لنفسه.

وبهذا يصحّ توجيه مناط جواز الأخذ والتملك في مال الصغار ، ولا يتفحّص في السيرة المستمرّة عن كونه من الصغير أو المجنون أو الكبير الرشيد ، لجريان هذا الحكم في السيرة في مال الصغار أيضا ، ولا يجب على الولي المنع رعاية لمصلحة مال المولّى عليه ، لأنّه حكم شرعي ، وإن كان منعه بيد الولي ، كما يستحب له الزكاة في مال الصغير ، وإن كان خلاف مصلحته ، وله المنع عنها.

ومما ذكرناه يظهر ضعف المحكيّ عن ظاهر الأكثر من اشتراط بقاء العلم بالرضا ، بشاهد الحال ، وهو مبنيّ على كون الإعراض موجبا للإباحة ، دون الخروج عن الملك.

وما اعترض عليه المحقق القمّي ، بأنّه لو فرض أن أحدا جمع السنابل في مزرعة أحد بعد الإعراض عنه على سبيل التدريج ، حتى بلغ ثلاثمائة منّ من الحنطة ، ففي الآن ، لو علم المالك أنّه لم يخرج عن ملكه بالإعراض ، لا يحصل العلم برضاه ، مع أنّه خلاف ما يقتضيه الإجماع المستنبط من سيرة الناس ، فيشهد ذلك بخروجه عن الملك بمجرّد الإعراض ، وأنّ المعتبر هو العلم بالرضا حين الإعراض خاصة ، فتأمل جدّا.

وأما في الصورة الثانية ، أعني : الإعراض اضطرارا من جهة اليأس عن المعرض


عنه عادة ، كالواقع في البحر ، والطائر عن القفس ، فمقتضى رواية الشعيري (١) الدال على خروج ما غرق عن ملك المالك إلى ملك من أخرجه بالغوص ، وعدم سبيل المالك عليه : كونه كالمعرض عنه اختيارا في تملكه للآخذ ، غير أنّ الأوّل يختصّ بالحقير ، كما عرفت ، وهذا يعم الحقير والخطير.

والرواية وإن كانت مختصّة بموردها ، إلّا أن الظاهر كون العلّة صيرورة ما غرق بمنزلة المباح ، كما استشعره منها الحلّي (٢) ، مستدلا له بالأخبار المتواترة والنصوص.

[ و ] يدلّ على إطلاق الحكم عموم العلّة المستفادة من صحيحه ابن سنان.

لا يقال : يلزم من ذلك جواز تملك المغصوب المتعذّر للمالك أخذه عن الغاصب ، إذا أخذه عنه غير المالك ، وجواز تملك المفقود في المفاوز ، مع أنّه يجب ردّهما إلى المالك إجماعا.

لأنا نقول : المراد باليأس الموجب لتملك الواجد : ما هو كذلك في العادة ، بالنسبة إلى جميع الناس ، فكان مأيوسا عنه في نفسه ، لا بالنسبة إلى المالك خاصّة أو أمثاله ، بحيث عدّ المال هالكا وتالفا عرفا على سبيل الإطلاق ، فلا يرد النقض بما ذكر.

فرع : إذ انبتت الحبوب المتشتة في شقوق الأرض حتى صارت زرعا ، فمقتضى ما ذكرناه أنّه لمالك الأرض ، ولا يجوز لأحد حيازته وهو ظاهر الفاضل في القواعد (٣) حيث قال في باب المزارعة : ولو تناثر من الحاصل حبّ فنبت في العام الثاني ، فهو لصاحب البذر ، ولو كان من مال المزارعة فهو لهما. انتهى.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٥٥ ، الباب ١١ من أبواب اللقطة ، الرواية ٣٢٣٤٣.

(٢) السرائر ٢ : ١٠١.

(٣) قواعد الأحكام ٣ : ٣١٤.


نعم لو أخذها غيره قبل صيرورتها زرعا ، وربّاها في أرضه ، فهو للمربّي ، وعليه أجرة الأرض.

وربما يقال بكون الزرع لمالك الأرض ، من جهة كونه شيئا مباحا دخل في أرضه وتولد منه زرع ، وليس بشي‌ء ، والله العالم.



[ المشرق الرابع وعشرون ]

[ في بيان قاعدة الضمان ]

مشرق : في بيان قاعدة الضمان ، والضابطة الكلّية لما يوجبه.

قالوا : أسباب الضمان ثلاثة : إثبات اليد الغير المحقّة ، والمباشرة للإتلاف ، والتسبيب. وحيث إنّ كلماتهم في ضبط الأخيرين وتفسيرهما وما يفترق به بين السبب والعلّة والشرط غير محرّرة غالبا ، أردنا ضبط قاعدة كلية مستفادة من أدلّة الضمان ، ينكشف بها موارد الضمان ، وما هو المراد من الموجبات المذكورة والفرق بينها.

ونشير ـ أوّلا ـ إلى قاعدة إثبات اليد ودليلها. فهنا بحثان :

البحث الأوّل : في إثبات اليد الموجب للضمان ، وهو عبارة عن الاستيلاء على مال الغير ، عينا أو منفعة ، بغير إذن من ذي الحقّ ، ولا استحقاق في التصرف فيه ، عمدا وعدوانا كان ، وهو المسمّى بالغصب ، أو جهلا ، فلا يشمل ما فيه إذن المالك ، من الأمانات المالكية لزوما أو جوازا ، بالعقود اللازمة أو الجائزة ، كالإقراض والوكالة والعارية والوديعة ونحوها ، أو إذن الشارع من الأمانات الشرعية ، كالملتقط والمأخوذ من الغاصب لإيصاله إلى المالك ، وما ليس فيه استيلاء ، كوضع اليد على


ثوب لابسه ، والعبور عن ملك الغير بدون إذنه ، وإن كان آثما ، وما فيه استيلاء على مال نفسه وفيه حق الغير ، كالمرهون ، أو في غير المال ، وإن كان فيه حق الانتفاع لآدمي ، كالبضع ، ومكان الجلوس في المسجد.

والأصل في اقتضاء اليد الضمان ، بعد الإجماع عليه : الخبر النبويّ المشهور : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّى » (١) واشتهاره في كتب الأصحاب رواية وعملا ، وتلقّيهم بالقبول ، واستدلالهم به في موارده من غير نكير ، الجابر لضعفه بالإرسال ، يكفي عن مئونة البحث عن سنده ، بل لا يقصر عن الصحيح.

ووجه دلالته كونه متبادرا ، سيما بملاحظة فهم العلماء سلفا وخلفا في ضمان عهدة المال ، بإرادة ذي اليد من اليد ، من باب تسمية الكل باسم جزئه ، المناسب للمقام ، نظرا إلى كون الأخذ غالبا باليد كتسمية الجاسوس بالعين ، والترجمان باللسان ، وبإرادة الضمان من كلمة « على » المتضمنة للضرر ، فإنّ استعمال « على » في ضمان العهدة إذا كان متعلّقه مالا ، شائع متعارف في محاورة أهل اللسان ، كقولك : عليّ لفلان عشرة دراهم ، المتّفق على كونه إقرارا ، وحصول الضمان بقوله : دين فلان عليّ.

فاحتمال كونه إنشاء في إيجاب الردّ أو الحفظ ، بتقدير أحدهما ، بملاحظة الغاية ، خروج عن ظاهر اللفظ ، بل هو من قبيل : عليك الصلاة حتى تصلي ، إلّا على كونه إخبارا عن الوجوب ، وهو أيضا ـ مع بعده ـ يحتاج إلى التقدير المخالف للأصل ، بل التقييد بالعلم ، إذ لا تكليف مع الجهل.

فالمعنى المراد من الحديث المنساق المتفاهم للأصحاب وغيرهم : كون العين مضمونة على صاحب اليد ما لم يردّ إلى صاحبه ، ومعنى ضمانها : كونها بحيث لو

__________________

(١) سنن الترمذي ٢ : ٣٦٨ ، الحديث ١٢٨٤ ؛ سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ ، الحديث ٢٤٠٠.


تلفت لزمه العوض.

وإطلاقه يشتمل صورتي العلم والجهل ، كما هو معقد الإجماع وإن رجع الجاهل على من غرّه على القاعدة الآتية. نعم ، يقيد بغير الإذن إجماعا.

تكميل وتفريع :

فرّعوا على عموم على اليد ، ضمان الكلّ في الأيدي المتعاقبة ، سواء علموا جميعا الغصب أم جهلوه ، أو بالتفريق ، لاشتراك الكلّ في تصرّف مال الغير بغير إذن مالكه ، فيدخل في العموم غير أنّ الجاهل غير آثم.

والمالك يتخير في تضمين من شاء منهم بالعين والمنفعة ، أو الجميع بالتقسيط ، ولو بالتفاوت ، وله تقسيط أكثر من واحد وترك الباقي ، وتضمين بعضهم بالعين والآخر بالمنفعة.

ويرجع الجاهل منهم بالغصب إذا رجع عليه المالك على من غرّه وسلّطه على العين أو المنفعة ولم يعلمه بالحال ، وهكذا الآخر ، إلى أن يستقر الضمان على الغاصب العالم ، وإن لم تتلف في يده.

ويرجع المالك في الزيادة على من تلفت عنده قبل وصول العين إلى الآخر.

هذا إذا لم يكن يد الجاهل الذي تلفت عنده يد ضمان ، بل يد أمانة ، كالوديعة والرهن والوكالة ، وإلّا كما في العارية المضمونة ، فلا يرجع على غيره ، ويستقرّ عليه الضمان.

ثمّ استثنى من رجوع الجاهل الأمين إلى العالم ، ما لم يكن الجاهل متلفا ، وإلّا فيستقرّ عليه ، استنادا إلى أنّ مباشرة الإتلاف أقوى من إثبات اليد العادية ، إلّا إذا كان المتلف مغرورا ، كما إذا قدمه ضيافة فأكله ، حيث إنّه أوهمه أنّه لا تبعة عليه ، فلو رجع المالك على الآكل ، رجع هو على الغاصب على الأشهر ، لتغريره الآكل


على كون الأكل مجانا لا يتعقبه الضمان ، وأقامه (١) على إتلاف الطعام على كونه ملكه ، في احضاره عنده. ومثله تغريره في الأمر بذبح الشاة.

وهذه الأحكام اكثرها معقد الإجماع ، بل لم ينقل خلاف فيما عدا الأخير ، وإن تأمّل بعضهم في بعضها. وأثبتوها بوجوه لا يخلو بعضها عن مناقشة.

وتفصيل المقام : أنّ صور تعدّد الأيدي ورجوع المالك على بعضها عند التلف ، على وجوه ثمانية ، لأنّه إما يرجع المالك على الثاني الذي تلفت العين عنده ، أو على الأوّل. وعلى التقديرين : إمّا يكونان عالمين ، أو جاهلين ، أو الثاني عالما والأوّل جاهلا ، أو بالعكس. فظاهرهم الاتفاق على استقرار الضمان على من تلفت عنده ، إلّا إذا كان جاهلا ، فيرجع ـ لو رجع المالك عليه ـ على من غرّه عالما ، إلّا إذا كان هذا الجاهل متلفا للعين من غير تغرير.

وتحقيق الحال في تلك الصورة على ما يقتضيه الأدلّة : أنّ المالك ، إن رجع على الثاني ، وهما عالمان ، لم يرجع الثاني على الأوّل إجماعا ، لاشتراكهما في إثبات اليد والعلم بالغصب ، فلا يغرم ما غرم للمالك ، مع حصول التلف عنده.

وكذا لو كان الأوّل جاهلا وهو عالم بطريق أولى. وكذا مع جهلهما ، لتساويهما في الجهة المقتضية لتخير المالك في الرجوع على ما شاء منهما ، واختصاص الثاني بحصول التلف في يده ، الموجب الانتقال العين إلى البدل في ذمّته قطعا ، وعدم استحقاق المالك إلّا بدلا واحدا استوفاه.

وجواز رجوع الثاني إلى الأوّل ـ حينئذ ـ غير معلوم ، ومقتضى الأصل براءته.

وإن كان الأوّل عالما والثاني الغارم جاهلا ، فإن كان التلف سماويا ويده أمانة ، كالوديعة والوكالة ، دون يد ضمان ، الموجبة للرجوع مطلقا ، كالعارية المضمونة ،

__________________

(١) كذا.


يرجع فيما غرم على العالم ، لتغريره وسببيته عدوانا لضمانه ، إلّا إذا كان الجاهل متلفا غير مغرور ، فلا يرجع بلا خلاف يعرف.

وإن اغترّ في إتلافه ، كما إذا قدمه ضيافة ، فأكله ، فيرجع أيضا على الغارّ ، على الأشهر الأظهر.

ووجه الفرق بينهما : أنّ إتلافه على الأوّل ، كان على كون العين لنفسه وضرره عليه ، فالمباشر هنا أقوى ، وإن كان جاهلا من اليد العادية ، وعلى الثاني : فإقدامه على الإتلاف لتغرير الغاصب إيّاه على كونه مجانا لا يلحقه به ضرر ، كما في إطعام الضيف المغرور بأنّ أكله غير موجب لضرره ، فالعهدة على العالم الغارّ.

وإن رجع المالك على الأوّل : فإن كانا جاهلين ، فالظاهر : جواز رجوعه على الثاني الذي تلفت عنده. وقرار الضمان عليه ، وإن كان التلف سماويا ، واليد أمانية.

لا لما قيل من اشتغال ذمّته. بعد تلف العين عنده بالبدل ، بحكم ضمان إثبات اليد. وجواز أخذه المالك من الأوّل باعتبار إثبات يده ، مجرّد خطاب شرعي ، لا ذمّي ، إذ لا دليل على شغل ذمم متعدّدة بمال واحد ، فحينئذ يرجع المالك على الأوّل بما اشتغلت ذمة الثاني ، فيملك بأدائه ما للمالك على الثاني بالمعاوضة القهرية الشرعية ، لإمكان المناقشة فيه بأنّ ما في الذمّة عند التلف بدل العين ، ولا ينافي وحدته اشتغال ذمّتهما به على البدلية. وتخير المالك في استيفائه عمّن شاء منهما ، فإذا أداه أحدهما يسقط عن الآخر. وقرار الضمان على الثاني ، مع تساويهما في الجهل وإثبات اليد المضمون به وحصول التلف لا عن اختيار ، يحتاج إلى الدليل.

بل لاستصحاب الاشتغال في الثاني المعلوم ـ أوّلا ـ ولو في الجملة ، إلى اليقين بالفراغ عنه ، الحاصل بأدائه البدل إلى المالك ، أو إلى من أدّي إليه ، بخلاف الأوّل ، لعدم العلم باشتغاله أوّلا ، واحتمال كون ما أداه إلى المالك من باب الخطاب الشرعي لا الذمّي.


فإن قلت : اشتغال ذمّة الثاني بالبدل المعلوم أوّلا ، إنّما هو للمالك ، وهو فرع بقاء حقّه ، وقد ارتفع باستيفائه من الأوّل ، فلا يجري الاستصحاب ، لتغير موضوعه.

قلت : من له الحق أوّلا على الثاني مردّد بين كونه المالك خاصة ، أو هو ومن في حكمه ، أعني : الأوّل ، عند أدائه للمالك ، فالشغل المعلوم أوّلا مجمل بين أحد الاحتمالين ، فهو من قبيل ما إذا تردّد صاحب الحق على زيد بين كونه عمروا مطلقا ، أو بكرا مع فقدانه ، فلا يحصل يقين الفراغ له بسقوط حق أحدهما.

فإن قلت : يعارض هذا الاستصحاب ، استصحاب عدم اشتغال ذمّته للأوّل قبل رجوع المالك إليه.

قلت : التعارض بينهما بالمزيلية والسببية ، والمزالية والكاشفية ، فإنّ بقاء الشغل المعلوم مجملا للثاني ، سبب لتعلّق وجوب الأداء عليه على الأوّل ، عند استيفاء المالك منه ، وانتقال الحقّ المشتغل به له ، ولا هكذا عدم شغل الأوّل قبل استيفاء المالك ، فإنّه ليس سببا لزوال الشغل المعلوم الإجمالي ، بل كاشف عنه.

واستصحاب السبب مقدم على استصحاب الكاشف ، كما حققناه في محلّه. ولا يمكن إجراء هذا الاستصحاب في حق الأوّل الذي لم يتلف العين عنده ، لعدم العلم باشتغال ذمّته بالبدل عند تلفها عند الثاني. غاية الأمر كونه مخاطبا بالخطاب الشرعي ، متعبّدا بالأداء إلى المالك عند مطالبته عوض العين ، بإثبات يده عليه ، فلا يمكن استصحاب الشغل المجمل في حقّه ، بخلاف الثاني المعلوم على كل تقدير اشتغال ذمّته بالبدل بعينه أو بالبدلية.

ومن هذا ثبت جواز رجوع الأوّل على الثاني فيما اغترم ، في صورتي : جهل الأوّل وعلم الثاني ، وعلمهما. وأما في صورة علم الأوّل وجهل الثاني : فمقتضى نفي الضرر عنه ، لتغريره العالم في إثبات اليد جواز رجوعه فيما اغترم على الأوّل العالم.

وبه ينتقض استصحاب الاشتغال في الثاني.


البحث الثاني : في المباشرة والتسبيب ، فيما له مدخل في التلف.

ولنذكر ـ أوّلا ـ أدلّة الضمان ، عموما وخصوصا ، ظهورا وصراحة. ثم نبيّن منها قواعد الضمان ، فيما ذكروه من العلّة والسبب والشرط ، عدا ما يختصّ بموارد خاصّة ، مثل الأمانة عند التعدّي عن الإذن أو التفريط والمقبوض بالعقد الفاسد ، ونحوهما ، مما هو خارج عما نحن بصدده هنا. وتلك الأدلّة كثيرة ، نشير إليها :

منها : الإجماع بل الضرورة في الجملة.

ومنها : عمومات نفي الضرر.

ومنها : ما دلّ على رجوع المغرور على من غرّه.

ومنها : الأخبار الواردة في ضمان إتلاف النفس.

ومنها : ما دلّ على تسبيب الإكراه.

ومنها : خصوص النصوص المستفيضة في موارد كثيرة :

كرواية السكوني (١) ، عن الصادق عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أخرج ميزابا أو كنيفا ، أو أوتد وتدا ، أو أوثق دابّة ، أو حضر شيئا في طريق المسلمين ، فأصاب فعطب ، فهو له ضامن ».

وصحيحة الحلبي (٢) عنه عليه‌السلام : سألته عن الشي‌ء يوضع على الطريق ، فتمرّ به الدابّة ، فتنفر بصاحبها ، فتعقره. فقال : « كلّ شي‌ء يضرّ بطريق المسلمين ، فصاحبه ضامن لما يصيبه ».

وخبر أبي الصباح الكناني (٣) عنه عليه‌السلام : « من أضرّ بشي‌ء من طريق المسلمين ، فهو له ضامن ».

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٩ : ٢٤٥ ، الباب ١١ من أبواب موجبات الضمان ، الرواية ٢٥٥٤٧.

(٢) نفس المصدر ٢٩ : ٢٤٣ ، الباب ٩ ، الرواية ٣٥٥٤٣.

(٣) نفس المصدر ٢٩ : ٢٤٣ ، الباب ٨ ، الرواية ٣٥٥٤٠ ،


وصحيحة زرارة (١) عنه عليه‌السلام : قلت له : رجل حفر بئرا في ملكه ، فمرّ عليها رجل ، فوقع فيها ، فقال عليه‌السلام : « عليه الضمان ، لأن كلّ من حفر بئرا في غير ملكه كان عليه الضمان ».

وموثقة سماعة (٢) عنه عليه‌السلام ، عن الرجل يحفر البئر في داره ، فقال : « ما كان حفر في داره وملكه ليس عليه الضمان ، وما حفر في الطريق أو في غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها ».

إلى غير ذلك من النصوص كالمعتبرة المستفيضة الدالّة على غرامة الشاهد إذا رجع عن شهادته ، بعد ما يغرم بها للأوّل قدر ما أتلفه من مال الرجل (٣).

وعلى أنّه يقتل إذا قتل بشهادته (٤).

وعلى غرامة دية اليد لو شهد عليه بالسرقة ورجع (٥).

وعلى غرامة المهر إذا شهد بطلاق زوجته ، ثم تزوّجت أو يموت زوجها ، ثم جاء زوجها (٦).

إلى غير ذلك ، المفهوم عرفا ، بل إجماعا ، عدم خصوصية ما في تلك النصوص من جزئيات الأمثلة ، في الضمان ، وإن ذكرها على سبيل المثال والقياس والحاجة ، ككونه في الطريق ، أو حفر البئر ، أو رجوع الشاهد ، وغيرها ، بل يتعدّى منها إلى ما هو من سنخها في سببية الإضرار على الوجه الذي اعتبر فيها.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٩ : ٢٤٣ ، الباب ٨ من أبواب موجبات الضمان ، الرواية ٣٥٥٣٩.

(٢) نفس المصدر ٢٩ : ٢٤٣ ، الباب ٨ ، الرواية ٣٥٥٤١.

(٣) نفس المصدر ٢٧ : ٣٢٧ ، الباب ١١ من أبواب الشهادات ، الرواية ٣٣٨٥٤.

(٤) نفس المصدر ٢٧ : ٣٢٨ ، الباب ١٢ ، الرواية ٣٣٨٥٨.

(٥) نفس المصدر ٢٧ : ٣٣٢ ، الباب ١٤ ، الرواية ٣٣٨٦٤.

(٦) نفس المصدر ٢٧ : ٣٣٠ ، الباب ١٣ ، الرواية ٣٣٨٦١.


ثم المستفاد من تلك الأدلّة والنصوص وغيرها ، مما صرّح فيها بالضمان : حصوله للعين أو المنفعة بأحد الوجوه الثلاثة ، بشرائطها الآتية : إيجاد علّة التلف ، أو إيجاد سببه ، أو إيجاد شرطه.

أمّا الأوّل ـ وهو المعبّر عنه بمباشرة الإتلاف ـ : فإنّ المراد بالعلّة ما هو المؤثر في التلف ، وهو أثره ، فهو قسمان :

أحدهما : إيجاد العلّة بلا واسطة ، كقتل الحيوان بالسيف ، وإهراق اللبن ، وخرق الثوب ، وسكنى الدار ، وركوب الدابّة.

والثاني : إيجاد علّة علّة التلف ، بأن كان فعله علّة مؤثرة له ، كالجرح المولّد للمرض المولّد للموت ، وإيجاد السمّ في الحلق ، والصياح على الطفل ، وسدّ مجرى النفس ، والرمي بالسهم ، وإغراء الكلب العقور ، وأمثال ذلك ، فإنّه يصدق على القسمين المباشرة عرفا ، ولا يصحّ سلب الإهلاك عنه ، باعتبار أنّ مناط الصدق كون التلف أثر فعل المباشر أو أثر أثره ، وعدم مشاركة غير فعله أو أثر فعله في التأثير ، وإن توقف التأثير على شرط ، كحرارة الهواء في الجرح ، وغفلة الطفل في الصياح عليه.

والدليل على الضمان في القسمين : الإجماع بقسميه : إذ لا خلاف بين المسلمين ، أن من باشر الإتلاف عمدا أو خطاء ، بشرط صدور الفعل عنه عن قصد ، كما في الأمثلة المذكورة ، ضمن ، وإن لم يكن هناك غصب واستقلال يد مطلقا ويدلّ عليه أيضا ـ مضافا إلى فحوى إطلاق أكثر ما ذكر ـ : قاعدة الضرر المقتضية لنفيه عن المالك شرعا ، المثبت بالإجماع المركّب لضمان المباشر ، دون نفيه عن المباشر ، لصدور الفعل عن نفسه ، ولو مع جهله ، لكونه عند الجهل بالنسبة إليه كالآفة السماوية الغير المنفية ضررها ، سيما إذا استفاد بالإتلاف ، كالأكل والاستعمال ، أو


قدم عليه على كونه ضررا عليه ، زعما له أنّه من مال نفسه ، أو مأذون فيه من مالكه ، أو عدم مالكيته ، وأمثالها.

وأمّا الثاني : أي : إيجاد سبب التلف ، والمراد به ما يستلزم وجود علّة التلف عقيبه عادة ، لا بعليته ، بل بعلّة أخرى ، فهو أيضا قسمان :

أحدهما : ما لا يدخله مباشرة غيره ، كإلقاء الثوب في النار ، وتلهيب النار قرب متاع الغير ، في الريح العاصف المهيج للإحراق عادة.

ومن ذلك رفع المانع عن العلّة الموجودة أو المتوقعة ، كحبس الحيوان عن الطعام والشراب ، والقائه في المسبعة مع عجزه عن الخلاص ، وفتح باب القفس عن الطير ، وفتح رأس وكاء المائع.

وثانيهما : أن يكون التلف بمداخلة مباشرة الغير ، بحيث كان السبب له أثر في توليد مباشرته ، كإقدام الطعام المسموم عند الضيف الجاهل ، والإكراه على التلف ، وشهادة الزور عند القاضي ، وتغطية رأس البئر في معبر الغير.

ومقتضى أكثر ما تقدم من الأدلّة ، ضمان فاعل السبب في القسمين ، لصحّة إسناد التلف عرفا إلى الفاعل ، مع جهل المباشر ، باعتبار كونه مستندا إلى ما لا ينفك عادة عن فعله في المفروض. وظهور الإجماع ـ كما حكي صريحا ـ على أنّ من أتلف شيئا كان ضامنا.

وبه يثبت القود في النفس عند العمد ، ويعقل العاقلة عند الخطاء ، فإنّ الجهل لا يقدح الضمان في حكم الوضع ، إذا كان التلف مستندا إلى الفاعل.

واختصاص أكثر النصوص السابقة بمثل الطريق وحفر البئر ، قد عرفت كونه منساقا للمثال. ومع ذلك يتمّ بعدم القول بالفرق.

ونفي الضرر لا يقتضي عدم ضمان الجاهل ، بل لضمانه حجّة أخرى ، لما أشرنا


آنفا ، وفصّلنا سابقا ، من أنّ الضرر المسبب عن فعل الشخص نفسه غير منفيّ عنه في الشرع ، ولازمه بالإجماع المركّب ثبوت الغرامة ، لضرر المالك المنفيّ عنه قطعا.

نعم ، في القسم الثاني ، الذي حصل التلف منه بفعل المباشر الجاهل ، إذا كان فاعل السبب أيضا جاهلا ، كإحضاره الطعام المسموم ـ مع جهله ـ عند الضيف الجاهل ، فالظاهر : عدم ضمان الفاعل ، لعدم حصول التغرير منه ، وعدم مباشرته للإتلاف ، فالضرر يلحق بالمباشر المتلف ، مثل ما تقدم في الأيدي المتعاقبة. مع أنه لو سلّم تساوي نسبتهما إلى عمومات نفي الضرر ، فيخرج المفروض عنها ، لاستلزامه عدمه ، فالمرجع إلى البراءة.

ومن ذلك ما إذا قدم الضيف مال نفسه مع جهلهما ، بل هو أولى بالبراءة. ولو علم المقدّم حينئذ ، دون الضيف ، فلا يبعد الضمان ، لقوة السبب ، إلّا إذا غلب على الظن كونه بحيث يأكله ، ولو مع علمه بأنّه من نفسه ، ففيه تردّد.

وأما الثالث : أي : إيجاد الشرط ، وهو ما لولاه لما حصل التلف ، ولكن لم يكن له تأثير ولا استلزام له ، فالمعروف بينهم كونه متعقّبا للضمان بالمال دون النفس ، إذا كان عاديا في فعله ، كحفر البئر في الطريق المسلوك أو ملك الغير ، ووضع السكّين فيه ، وعدمه ، إذا كان سائغا ، كحفره في ملكه ، أو وضع شي‌ء في الطريق ، مما لا يضرّ غالبا ، فاتفق أحيانا ضرره ، كطرح قشر فاكهة فيه ، فحصل به العثار لأحد ، لما تقدم من الأخبار المقتضي للعموم ، بتقريب كون الخصوصية من باب التمثيل ، كما ذكره غير واحد ، ولعدم القائل بالفصل ، إلّا إذا كان الواقع فيه عالما ، أو دفعه فيه غيره ، لكون المباشر أقوى إجماعا ، ولأصل البراءة وإباحة التصرف ، فلا يتعقبه الضمان.

والمتداول في كتبهم ، التمثيل بحفر البئر ، لتفصيل الضمان له في غير الملك


وعدمه في الملك مطابقا لإطلاق بعض ما ذكر من الأخبار.

والظاهر : أنّ مرادهم من نفي الضمان في الملك ، إنّما هو في غير ما علم كونه سببا لتلف النفس المعصومة ، وإلّا فيتّجه الضمان في النفس فضلا عن المال ، ولعله لإيجاده ـ حينئذ ـ ملزوم العلّة الذي تقدم أنّ حكمه الضمان ، كما إذا حفر البئر في معبر داره ، ودخل المأذون ، فوقع فيه ، لكونه أعمى ، أو لكون الموضع مظلما ، أو لتغطية رأس البئر في دهليز داره. وربما نسب الضمان فيه إلى جماعة من المتأخرين ، الظاهر في اتفاق غيرهم على عدمه.

والظاهر : أنّ مراد الناقل ما كان من شأنه حصول التلف واقعا في مظنته لا مع العلم به ، لأنّ إذنه في الدخول حينئذ ، ولو لعموم العابرين ، بل ولو بشاهد الحال ، وعدم اخبارهم بالكيفية ، من باب التغرير القوليّ أو الفعليّ الموجب للضمان ، كما مرّت الإشارة إليه ، الصادق عليه الظلم المحرّم ، بل الظاهر انعقاد الإجماع عليه ، ويكون من قبيل الصياح على الطفل الغافل ، وتقديم الطعام المسموم عند الضيف في ملكه.

وأما ما وقع فيه الخلاف في الضمان ، في تأجيج النار ، أو ارسال الماء في ملكه ، المؤدّي إلى ضرر الجار ، ولو مع العلم بالضرر ، فهو فيما تضرّر المالك بترك التصرف أيضا ، وإلّا فلا خلاف في الضمان مع عدمه وعلمه بالضرر.

وربما يعارض في مثله قاعدة نفي الضرر بقاعدة التسليط على المال ، وحقّقنا فيما تقدم تقدّم الأولى على الثانية ، وكونها واردة عليها بالسببية الطارية.

نعم ، لو تضرّر نفسه ـ أيضا ـ بترك التصرف ، تعارض الضرران ، ومضى تفصيله في محلّه.

والظاهر : إلحاق الظن الغالب المعتبر عادة بالعلم فيما ذكر ، فلو وضع الطعام


المسموم في مكان مباح ، فيه مظنة أكل الجاهل ، لم يبعد الضمان ، نظرا إلى حصول التغرير عرفا.

وهل يلحق بذلك فعل ما يحتمل فيه ذلك قصدا للتلف؟

فيه وجهان : من كونه فعلا سائغا ، فلا يتعقّبه ضمان. ومن قصده الهلاك ، فيشبه المباشرة بآلة غير قتالة.

وقد تحصّل مما فصّلناه من مفاد الأدلّة : أنّ موجبات الضمان على الضابطة الكلّية ، في غير إثبات اليد الغير المحقة ، ثلاثة :

الأوّل : إيجاد علّة التلف بلا واسطة ، أو بواسطة معلولها ، وهذا يسمّى بقسميه بالمباشرة.

والثاني : إيجاد ما يستلزم علّة التلف عادة من غير علّة مطلقا ، أو بتأثيره في مباشرة غيره المختار في فعله لجهله ، وهذا بقسميه يسمّى بالتسبيب بالمعنى الأخصّ ويسمّى الملزوم بالسبب.

وفي هذين القسمين يصحّ إضافة التلف عرفا إلى المباشر أو ذي السبب ، ولو اتّساعا شائعا في الثاني ، ولذا يوجبان القود عمدا في النفس والغرامة في المال مطلقا ، على ما مضى.

والثالث : إيجاد ما يتوقف تأثير علّة التلف على وجوده من غير تأثير ولا استلزام ، ويسمّى بالشرط. وهو يوجب الضمان المالي ، إذا كان عاديا مطلقا ، نفسا كان التالف أو مالا ، ولا يوجب الضمان مطلقا ، إن لم يكن عاديا.

ثم إنّك ترى كلماتهم غالبا مختلفة في تعريف السبب ، وفي الفرق بينه وبين الشرط ، حتى من مصنّف واحد في كتاب واحد ، كما وقع للعلّامة ، في القواعد (١)

__________________

(١) قواعد الأحكام ٢ : ٢٢٢.


تفسيره السبب في كتاب الغصب بما يعمّ القسمين الأخيرين ، حيث قال : التسبيب إيجاد ما يوجد التلف عنده لعلّة أخرى ، إذا كان مما يقصد به التلف. ومثّل له بحفر البئر في الطريق ، وفتح رأس الظرف ، والإكراه على التلف.

والظاهر أنّ مراده مما يقصد به التلف ، ما كان من شأنه ومحتملا له (١) عادة ، كما فهمه من تأخّر عنه ، احترازا عما لا يحتمل كذلك ، كوضع حجر صغير ، أو طرح قشر فاكهة في الطريق ، فاتفق العثار به لأحد أحيانا ، فإنّه لا ضمان فيه.

ولعلّه لذا نشأ الخلاف في الصياح على العاقل البالغ في حصول الضمان به وعدمه ، نظرا إلى عدم توقع الإتلاف منه ، بخلاف الطفل أو المريض.

وفي قصاص القواعد (٢) خصّه بالقسم الثاني ، حيث مثله بعد حكمه بثبوت القصاص بإتلاف النفس المعصومة ظلما بالمباشرة ، أو التسبيب بالاختناق بالحبل ، وسدّ الفم عن جريان النفس ، والرمي بالحجارة ، والحبس عن الماء والطعام ، وتقديم الطعام المسموم.

ثم عدّ الأسباب المهلكة ثلاثة الشرط ، والعلّة ، والسبب. فقال : الشرط ما يتوقّف تأثير المؤثر عليه ، ولا مدخل له في العلّة ، كحفر البئر ، ولا قصاص فيه ، بل الدية والعلّة ما أسند إليه الفعل ، كالجراحات المولدة للسراية المولدة للموت. والسبب ما له مدخل في التأثير في الجملة ، كالعلّة ، ويشبه الشرط في عدمه ، وله مراتب ثلاثة : الإكراه بالقتل ، وشهادة الزور في القتل ، وإطعام المسموم.

وتخصيصه هنا مراتب السبب بكل ما يتوسّط بمباشرة الغير لا وجه له.

وكيف كان ، فوجه اختلاف تفسيريه للسبب في كتاب القصاص وغيره ، لعلّه

__________________

(١) محتملاته ( ظ ).

(٢) قواعد الأحكام ٣ : ٥٨٣.


ملاحظة اتحاده مع الشرط العادي في حكم الضمان في الغصب والديات ، فسمّاهما بعنوان واحد ، بخلاف ضمان النفس في القصاص ، فأفرده بتسمية السبب ، في مقابل الشرط الذي لا يتعقّبه القصاص.

وفي الإيضاح (١) ، عن بعض الفقهاء : السبب فعل ما يحصل الهلاك عنده لعلّة سواه.

وزاد آخرون : ولولاه لما أثرت العلة ، وجعله أولى ، وهو يعمّ ظاهر السبب والشرط.

وفي غاية المراد (٢) ، عن الفقهاء : السبب إيجاد ملزوم العلة قاصدا لتوقع تلك العلّة.

ولا يخفى أن القيد الأخير غير منطبق على شي‌ء من إطلاقاته ، إلّا أن يكون مراده السبب في قصاص النفس ، أو لعدم تخلّف العلم بالملازمة عن توقع العلة ، فيختصّ بالعمد.

وفيه نظر ، ظهر ممّا سبق.

وفي مجمع البرهان (٣) : إنّ السبب إيجاد ملزوم العلة المتلفة ، وهو ظاهر فيما تقدّم في مقابل الشرط.

وفي المسالك (٤) : السبب ما لا يضاف إليه الهلاك ، ولا يكون من شأنه أن يقصد بتحصيله ما يضاف إليه ، ولا يمكن تطبيقه بما مرّ من القسم الثاني.

وأوضح منه ما فسره الشهيد في شرح الإرشاد (٥) : أنّ السبب إيجاد ملزوم العلّة الذي شأنه أن يقصد معه توقع تلك العلة.

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٣ : ٨٠.

(٢) غاية المراد ٤ : ٣٠٧.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٠ : ٤٩٦.

(٤) مسالك الأفهام ١٢ : ١٦٣.

(٥) غاية المراد في شرح الإرشاد ٢ : ٣٩١.


تتميم : اختلفوا في الضمان في موارد من باب الشروط ذكروا أمثلتها.

ومنشأ الخلاف فيها أمور :

منها : كون الباعث للضرر تصرف المالك في ملكه ، كما في تأجيج النار وإرسال الماء فيه الموجبين لضرر الجار ، وفتح باب داره الموجب لخروج دابة الغير ، وأمثال ذلك ، نظرا إلى تعارض قاعدة الضرر ـ حينئذ ـ لقاعدة التسلط على المال.

ولا يذهب عليك عدم منافاة هذا الخلاف لاتفاقهم على عدم الضمان في حفر البئر في ملكه ، لأنّ السبب القريب لضرر الوقوع في البئر فعل المتضرّر نفسه ، وهنا نفس الشرط ، بل لا يبعد كون الضرر هنا من المباشرة أو السارية ، ولذا لو علم ضرر الجار مع كون التصرف زائدا عن الحاجة حصل الضمان قولا واحدا ، إمّا من جهة كونه من باب مباشرة الإتلاف ، كما ذكر أو كونه من إيجاد السبب المستلزم لعلة التلف ، وأيّهما كان يوجب الضمان بلا خلاف معروف ، كما عرفت.

وأما مع عدم العلم بضرر الجار ، أو تضرّر المالك بترك التصرف ، فقد اختلفوا فيهما ، باعتبار تعارض القاعدتين ، وقد تقدّم منا مرارا تقدّم قاعدة الضرر ، وكونها واردة على قاعدة التسليط ، ونشير إلى وجهه هنا أيضا ، وهو ظهور حديث : « الناس مسلّطون » في كونه منساقا في مقام بيان السلطنة المالكية بالأصالة ، لا تشريع الآثار المترتبة على الملك ، من اللوازم الشرعية ، وعدم احتماله للعوارض اللاحقه المانعة والأسباب الطارية الناسخة لآثاره ، وقاعدة الضرر في بيان السبب العارض المزيل لبعض الآثار والتصرفات الأصلية ، نظير التخمة الموجبة لحرمة أكل مال نفسه ، وتنجّس طعامه المزيل لحلّيته ، مضافا إلى أنّ : « الناس مسلّطون » في بيان الإباحة الشرعية وهي لا تنافي الضمان في الحكم الوضعي.


نعم ، لو علم ضرر الجار ، مع العلم أو غلبة الظنّ بضرر نفسه في ترك التصرف ، تعارض الضرران ، وقد تقدم في بيان القاعدة تفصيل حكمهما حينئذ.

ومنها : تعارض السبب للمباشرة ، فاختلفوا في بعض الموارد فيما هو الأقوى منها ، كفكّ القيد عن العبد الآبق ، فإنه لا خلاف ظاهرا في الضمان في حلّ القيد عن العبد المجنون ، لأنه في حكم حلّه عن فرس فشرد ، وفتح قفس عن طائر فطار ، ولضعف المباشر لعدم التمييز. وفي المبسوط (١) وظاهر التذكرة : الإجماع عليه.

وأما العبد العاقل إذا فكّ وأبق ، فالمعروف بينهم عدم الضمان ، لقوة المباشر بالعقل والاختيار ، واستناد التلف إلى فعل العبد باختيار نفسه. ولا يخفى أنّ المال الفائت عن المالك هنا هو العبد نفسه واختياره الفرار مسبّب عن حلّ قيده ، فيكون مضمونا على فاعله المولد لإرادته ، كإحضار الطعام المسموم عند الجاهل.

نعم الظاهر : اختصاص ذلك بما إذا كان العبد مما يتوقع منه ذلك ، ولو احتمالا يعتني به ، كالعبد الآبق ، كما أفتى بالضمان ـ حينئذ ـ بعض مشايخ والدي بعد نقله عن غيره أيضا ، نافيا لشمول الإجماع المحكيّ عنهم له.

وأمّا إذا لم يتوقّع منه ذلك ، واتفق اباقه أحيانا بعد الفك ، فهو من الشرط الذي لا يوجب الضمان ، ولو عصى ، لعدم إذن المالك ، كما مر. ولعل هذا القسم منظور القوم في نفي الضمان.

ومنها : كونه مما استشكل في كونه مما يتوقع منه الضرر ، فيوجب الضمان أم لا؟

كما إذا فتح رأس ظرف لا يضيع ما فيه بفتحه متى كان في محلّه ، فاتّفق سقوطه بهبوب ريح أو هبوط طائر ، فضاع ما فيه ، فاختلف في ضمان الفاتح ، ولعل الأجود عدمه ، كما اختاره الفاضل ، لعدم كونه ممّا يتوقع منه ويقصد به التلف ، إلّا إذا كان

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٨٩.


في مظنة هبوب الريح ونحوه ، فيضمن.

ومن ذلك : ما إذا حصل الضرر بمنع المالك عن ضبط ماله ، كمنعه عن حفظ دابّته المرسلة ، والقعود على بساطه ، وحفظ ماشيته ، فتلفت. ففي ضمانه قولان :

المحكيّ عن الأكثر عدمه.

وفي المسالك (١) والكفاية (٢) وغيرهما : الضمان ، إذا كان المنع سببا للتلف.

والحقّ هو التفصيل المتقدم ، فإنّ المنع إن كان مما يتوقّع منه السببية بملاحظة المكان والوقت يضمن ، وإلّا فلا ، فإذا منعه عن التوقف في داره في ليلة مثلا ، فاتّفق لقيامه وقوع النار على بساطه واحتراقه لا يضمن ، لأنّه من الشروط النادرة التي لا يستند الضرر والإضرار إلى منعه عرفا.

ومنه : ترك المالك حفظ حيوانه عمّا يجنيه ، كما إذا أكلت بهيمته حشيش آخر.

ففي التذكرة (٣) : إن كان صاحبها معها ضمن الحشيش مطلقا ، وإن لم يكن معها ضمن إن كان ليلا ولم يضمن إن كان نهارا ، لأنّ على الصاحب حفظها في الليل ، فإذا لم يحفظ يضمن ما يجنيه ، وعلى صاحب الزرع حفظه نهارا. انتهى.

والصواب : إناطة الضمان بصدق الإضرار عرفا ، كما سمعت ، وهو منوط بصدق التقصير في الحفظ فيما تعارف فيه ، المختلف باختلاف الأحوال والأزمان والبلدان والدوابّ. نعم ، يتأتّى الكلام في وجوب الحفظ المتعارف على المالك ، وعدم التقصير فيه ، ولعله إجماعي.

ومنها : كون الفائت القيمة السوقية ، كما إذا حبس إنسانا عن شراء ، فنقصت قيمته.

__________________

(١) مسالك الأفهام ١٢ : ١٧٢.

(٢) كفاية الأحكام : ٢٥٦.

(٣) تذكرة الفقهاء ٢ : ٨٥ ، كتاب الضمان.


والأشهر : عدم الضمان ، لأن الفائت ليس بمال ، بل اكتسابه.

وقيل : يضمن. وقوّاه الشهيد ، في بعض فتاويه ، ولا يخلو عن وجه ، إذا كان حصول النقص متوقفا في العادة على الحبس ، لإمكان المناقشة في ما اشتهر.

أوّلا : بكون الاكتساب ـ أيضا ـ في المفروض منفعة فائتة ، متعلقة بالمال عرفا ، والحبس سبب لفواته ، فيوجب الضمان دفعا للضرر.

وثانيا : أنّ زيادة القيمة من أوصاف العين ، وإن لم تكن عينية ، وهي مرغوبيته في العرف والعادة ، والمضمون عليه الفائت أعمّ من العين والوصف ، وينبغي ملاحظة الاحتياط فيه. والله العالم.



[ المشرق الخامس وعشرون ]

[ في الوكالة ]

مشرق : في نبذ من مسائل مهمّة متعلّقة بالوكالة.

مسألة : ظاهر الأصحاب : كون الوكالة من العقود ، ولذا أدرجوها في أبوابها ، فتفتقر إنشاؤها إلى ايجاب لفظي بأيّ لفظ دلّ على القصد ، وإن لم يكن من الصيغ المعتبرة ، وقبول ، ولو كان فعليا دلّ على الرضا ، لكونها عقدا جائزا ، لا مجرد الرضا النفساني ، كما عن الشافعية (١) ، لافتقار العقد إلى إنشاء ما دلّ عليه من فعل أو لفظ ، إلّا أن صريح المحقّق (٢) وغيره : كفاية الإشارة المفهمة في الإيجاب أيضا ، بل في الرياض (٣) عدم وجدانه الخلاف ، فيرجع إلى المعاطاة.

وعن بعضهم دعوى الإجماع على صحّتها ، فيكون مرادهم من عقد الوكالة ما هو بالمعنى الأعمّ الشامل للمعاطاة.

وتكون الوكالة قسمين : عقدية لفظية ، ومعاطاتية.

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ٣ : ١٦٨.

(٢) شرائع الإسلام ٢ : ١٥١ ، كتاب الوكالة.

(٣) رياض المسائل ١٠ : ٥٤.


بل قيل : بكونها معاطاة ، حيث كان القبول فعلا ، المتّفق على صحّته ، وإن كان الإيجاب لفظيا ، لو لا الإجماع على كونها عقدا حينئذ.

فروع :

الأوّل : إذا قال : بع فرسي ، أو طلّق زوجتي ، فلا شكّ أنه ليس من المعاطاة : فهل يكتفي بالأمر في الإيجاب اللفظي؟ الظاهر : نعم ، بل لا إشكال فيه على ما تقدّم من الاكتفاء بكلّ لفظ دلّ عليه.

واستدلالهم على مشروعية الوكالة بالعمومات المتضمنة للأمر ظاهر في اتّفاقهم عليه. ونفى عنه الإشكال المحقق القمّي.

وفي الرياض (١) عدم ظهور الخلاف فيه ، فما يظهر من المحكيّ عن التذكرة ، وصريح بعض الأجلّة : من منع كونه إيجاب الوكالة ، بل هو إذن يترتّب عليه ما يترتّب على الوكالة ، من صحة البيع ونحوه ، وإن لم يكن وكيلا ، ليس في محلّه. وينافي اطلاقهم في الاكتفاء في إيجاب الوكالة بكل لفظ دلّ عليه.

الثاني : يتحقّق قبول الوكالة بنفس الفعل الموكّل فيه ، ولا يلزم كونه أجنبيا ، كما هو ظاهر الأصحاب. والاستشكال فيه باستلزام الدور ، موجها للصحّة ـ حينئذ ـ بما نقل عن الشافعية (٢) : من كفاية الرضا القلبي في القبول.

وأنت بعد ما أحطت بما أجبناه عن إشكال لزوم الدور في حصول الفسخ الفعلي ، بنقل ما فيه الخيار ، كما هو المشهور ، من أنّ الفسخ هو الإرادة القلبية ، بشرط مقارنتها للنقل إلى الغير ، يرتفع عنك المحذور ، فإنّ القبول هنا ـ أيضا ـ هو إرادة الفعل ، بشرط مقارنته للفعل ، فلا يكون مجرّد الرضا القلبي قبولا ، ولا نفس الفعل

__________________

(١) رياض المسائل ١٠ : ٥٤.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة ٣ : ١٨٣.


سببا أو جزء سبب ، حتى يلزم الدور ، بل هو شرط متأخر. ومثله غير عزيز في الشرع ، من قبيل غسل صلاة المغرب للمستحاضة لصحّة صومها المتقدم.

الثالث : يجوز تأخر القبول الفعلي ولو إلى سنة إجماعا ، كما في المسالك (١) والروضة (٢) في جواز توكيل الغائب ، ويدلّ عليه خصوص روايات كثيرة.

ومنعه للقياس بعدم جواز تأخّر القبول اللفظي ، كقوله : قبلت بعد سنة ، فيجرى مجرى الإذن المطلق ، لا التوكيل ، مدفوع : بأنّ تأخير القبول اللفظي في مخاطبة الإيجاب خلاف وضع المخاطبة في العرف والمحاورات ، بخلاف الفعل ، فيجرى مجرى الغلط.

وإفادته فهم الرضا بقبوله الوكالة غير كافية ، لمنع حصول الإنشاء المعتبر في العقد بمثله ، ومجرد فهم الرضا لو كان كافيا لاكتفى بفهمه بشهادة الحال ، كما عن الشافعية ، وقد عرفت ما فيه.

الرابع : للموكّل عزل الوكيل ، بشرط إعلامه بالعزل ، فلو لم يعلمه لم ينعزل. وإن تعذّر إعلامه أشهد به على الأصح الأشهر ، للمعتبرة المستفيضة (٣).

مسألة : يشترط في الوكالة وقوعها منجزّة ، كسائر العقود ، فلا تصحّ معلّقة على شرط متوقّع ، كقدوم الحاجّ ، أو صفة مترقّبة ، كطلوع الشمس ، أو وقت متجدّد ، إجماعا محقّقا ومحكيا ، فهو الدليل ، مضافا إلى منافاته للسببية المستقلة للعقد الثابتة من الشرع لترتّب الأثر عقيبه ، وتركّب السبب من غيره ، وقصد الإنشاء بهما خلاف جعل الشارع.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٥ : ٢٣٩.

(٢) الروضة البهية ٤ : ٣٦٨.

(٣) وسائل الشيعة ١٩ : ١٦٢ ، الباب ٢ من أبواب الوكالة ، الرواية ٢٤٣٦٨.


وتوهّم كون الإنشاء بنفس العقد إلّا أنّ اثره وكالة الزمان المتأخر ، عملا بالشرط المشروع ، لعموم : « المؤمنون عند شروطهم » فاسد ، لأنّ المتحصّل من ذلك : صحّة ما لو جعل متعلّق الوكالة ، ـ أعني : الموكّل فيه ـ متأخرا عن وقت العقد ، لا أصل الوكالة ، وشتان ما بينهما ، فإنّه إخراج السبب الشرعي عن سببيته ، فيكون مخالفا للسنة المستثنى من الشروط السائغة.

ومن هذا يظهر قوّة بطلان التعليق على أمر واقع ، كقوله : وكّلت إن طلعت الشمس ، لدلالته على إدخال ما ليس من السبب في السببية ، وإنشاء العقد بهما ، فيخالف السنّة.

واستشكل في بطلان الأخير بعضهم. ونقله جماعة في مطلق العقود ، نظرا إلى وقوع المقارنة المطلوبة لترتّب الأثر على العقد ، وقد علمت عدم انحصار جهة المنع فيه.

فروع :

الأوّل : لا خلاف ظاهرا في جواز تعليق الموكّل فيه ، أي : تقييده بشرط أو زمان ، إذا لم يكن تعليق في نفس الوكالة.

وفي التذكرة (١) والمسالك (٢) وشرح المفاتيح : الإجماع عليه ، وهو الحجة. مضافا إلى عمومات الوكالة.

الثاني : اختلفوا في صحّة التصرف في الوكالة المعلّقة عند حصول المعلق عليه ـ بعد اتفاقهم على بطلان الوكالة على قولين : من أنّ الوكالة إذن خاصّ ، وببطلان الخصوصية لا ينتفي الإذن المطلق ، وهو

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ١١٤.

(٢) مسالك الأفهام ٥ : ٢٤٠.


كاف في صحّة الاستنابة. وإنما الثمرة في استحقاق الجعل المسمّى ، نحو ما قالوه في القراض الباطل الذي حكموا فيه بأجرة المثل.

ومن أنّ الإذن حصل في ضمن الوكالة ، وبانتفاء الفصل ينتفي الجنس.

وأورد عليه : بأنّه يفهم من ذلك عرفا بقاء الأذن ، وإن بطلت الوكالة الشرعية ، ولم يترتّب عليه آثارها المختصّة بها.

والحاصل : أنّ خصوصية العقد الوكالي هنا من العوارض الزائدة للإذن ، لا مقوماته الوجودية ، فلا ينتفي بانتفائها.

قال المحقّق القمّي (١) بما خلاصته : قول القائل : أنت وكيلي ، أو مأذون عني غدا في بيع داري ، يدلّ على إذنه ورضاه بالبيع غدا قطعا ، وله جهات : جهة التوكيل الشرعي المحتاج إلى الإنشاء ، وجهة غير التوكيل. والجهتان تعليليتان ، لا يستلزم بطلان إحداهما انتفاء الأخرى.

واستجوده والدي العلّامة ، إلّا أنّه منع صحة النيابة شرعا ، إلّا بالتوكيل ، اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقّن ، وهو الإذن التوكيلي ، دون مطلقه ، وهو المعتمد ، لأنّ صحّة العمل نيابة ، وترتّب الأثر عليه للمنوب عنه شرعا ، كوقوعه من نفسه ، يحتاج إلى توظيفه من الشرع ، والثابت منه حصوله بمطلق الإذن قولا أو فعلا ، وهو معنى التوكيل ، كما نبّه عليه شيخنا الشهيد ، في المسالك (٢) وغيره ، إلّا أنه مشروط بعدم التعليق ، فإذا اقترن لم يصحّ المأذون فيه ، وإن دلّ على الرضا القلبي ، فإنّ تلك الدلالة لا تؤثر في الصحة إلّا على الاكتفاء بالرضا القلبي ، وهو غير كاف في صحّة الاستنابه.

__________________

(١) جامع الشّتات ٣ : ٥١٩.

(٢) مسالك الأفهام ٥ : ٢٣٩.


ومن هذا يظهر أنّ التفصيل في ذلك بين ما إذا علم من الموكّل انحصار إذنه في كونه على جهة الوكالة ، فيبطل ، وإلّا يصحّ ، لا محصل له.

والحاصل : أنّه لا يتصوّر الصحة مع تسليم بطلان التعليق ، إلّا بجعل الإذن الدال على الرضا قسمين : يسمى أحدهما توكيلا ، والآخر غيره. ثمّ دعوى حصول صحّة المأذون فيه بأيّهما حصل وكلاهما في محلّ المنع جدا.

الثالث : إذا علمت بطلان التوكيل بتعليقه على شرط أو زمان متجدّد ، فلا يختلف الحال في بطلان المعلّق بعدم اتصاله بالمنجز ، أو باتصاله به وانقطاعه عنه مطلقا ، أو تجدّده ثانيا ، فيصحّ الأوّل المنجز ويبطل الثاني ، وإن كان الموكّل فيه متّحدا في الجميع ، كما إذا قال : أنت وكيلي غدا في بيع داري ، أو وكيلي اليوم في بيعها ، وغدا في بيعها ، أو وكيلي في اليوم فيه ، وفيما بعد الغد فيه.

ولو وكّله منجزا لليوم ولما بعد الغد ، فإن رجع إلى تعليق الموكل فيه لما بعد الغد دون نفس الوكالة ، بأن كانت الوكالة ثابتة في الأيام الثلاثة ، ولكن كانت مقيّدة بفعل الموكّل فيه في غير اليوم الثاني ، فلا ضير فيه ، وإن كانت منجّزة للأوّل والثالث ، ومنقطعة عن الثاني ، كما إذا قال : وكّلتك الآن في بيع الدار في اليوم وفيما بعد الغد ، ولست وكيلي غدا ، ففيه إشكال ، من حصول التنجّز للأول والثالث ، غاية الأمر عدم اتصال الوكالة فيهما. ومن أن رجوعهما في الثالث بعد انقطاعهما في الثاني في حكم وكالتين ، إحداهما منجّزة ، والأخرى معلّقة ، وهو الأوجه ، مضافا إلى ما ستعرف من بطلان الوكالة بعد عروض ما يفسدها ، وإن زال المانع بعده ، كجنون أو إغماء ، وأنها لا تعود إلّا بإيجاب متجدد.

الرابع : لو وكّله في بيع شي‌ء معلقا بكونه ملكا له ، فيما فرض عدم علمه بكونه ملكه ، صحّ ، لأنّ التعليق ـ حينئذ ـ تعليق للموكّل فيه بما هو شرط صحّته ، لا


إدخال شي‌ء زائد في سببية العقد ، فلا ينافي تنجز الإنشاء ، كما لا ينافيه قوله : أنت وكيلي في بيع داري إذا حضر زيد ، أي : عند حضوره.

مسألة : تبطل الوكالة بأمور :

منها عزل الوكيل نفسه : لأنّها عقد جائز مركب من قبوله الذي له الرجوع عنه ، ولا خلاف في ذلك. إنما الكلام في أمرين :

أحدهما : في جواز التصرف له بعد ذلك ، عملا بالإذن العام الضمني المسوغ للتصرف ، وقد عرفت ما فيه.

فما عن المسالك (١) من أنّ الحكم به هنا لا يخلو من رجحان ، مع منعه هناك ، لأنّ الإذن هنا صحيح جامع للشرائط ، بخلاف السابق ، فإنّه معلّق ، غير مقبول.

وعن التذكرة (٢) عكسه ، وإن جزم في القواعد (٣) بصحّته هنا ، وفي السابق احتمالا. وفي السرائر (٤) تردّد فيهما.

وكيف كان ، فالصحة مبنية على كفاية الإذن المطلق في النيابة من غير اقتران بقصد قبول الوكيل لفظا أو فعلا. وهو ممنوع ، إلّا إذا ثبت إجماع على خلافه.

وثانيهما : في أنّ بطلان العقد بعزل الوكيل نفسه هل يوجب بطلان الإيجاب ، فلا ينعقد بقبوله ثانيا ، أو ينعقد كذلك؟

الأشهر : الأوّل.

وقال المحقق القمّي (٥) ، ببقاء حكم الإيجاب في جواز إطلاق الوكيل بعد عزل

__________________

(١) مسالك الأفهام ٥ : ٢٤٠.

(٢) تذكرة الفقهاء ٢ : ١١٤.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ٢٥٨.

(٤) السرائر ٢ : ٨٨.

(٥) جامع الشّتات ١ : ٣٣٨ ( الطبع الحجري ).


نفسه بدون إذن جديد ، ناسبا له لبعض آخر ، لاستصحاب حكم الإيجاب ، وعدم لزوم مقارنته للقبول ، فلا مانع من رجوع عقد الوكالة بوقوع القبول ثانيا.

وربما يتمسّك له ببعض الأخبار ، كصحيحة هشام بن سالم (١) : « الوكالة ثابتة حتى يعلم الخروج منها ، كما أعلمه بالدخول » وهو كما اعترف به المحقق المذكور ظاهر في حكم عزل الموكّل عند علم الوكيل به ، لا عزل الوكيل نفسه ، للإجماع على بطلان وكالته وانتقاضه بالرد ، وإنّما المدّعى عوده ثانيا بمجرّد القبول.

وكيف كان ، فيضعف ما أفاده :

أوّلا : بأن تجدّد الوكالة ثانيا يستدعي الدليل ، والإطلاقات ظاهرة في غير الصورة. ولو سلم إطلاق بعضها ، فهو مصروف عنه بحكم التبادر. والاستصحاب غير جار. لأنّ الإيجاب المتقدّم المؤثر للوكالة قد بطل أثره بالعزل على الفرض ، فهو تجديد لوكالة جديدة مستأنفة ، فيرجع الشكّ في الإيجاب إلى الشكّ في المقتضى الثانوي الذي لا يجري فيه الاستصحاب.

وثانيا : أنّ تأثير الإيجاب الأوّل للوكالة الثانوية المتجدّدة بعد الانقطاع ، يستلزم التعليق على انقضاء مدة العزل ، لأنّها غير الأثر المنجّز ، بل هو في قوّة أن يقول : وكّلتك بعد العزل.

فإن قلت : بطلان التعليق للإجماع ، ولا إجماع هنا.

قلت : مع أنّ الدليل عليه غير منحصر فيه ـ كما عرفت ـ فعدم الدليل على الصحة كاف في البطلان ، كما تقدّم.

ومنها : انقطاع تسلّط الموكل على التصرف حين تصرّف الوكيل ، فينقطع بسقوطه ، لأنّ تصرّفه متقوّم بإذنه وملكه له ، فينتفي بانتفائه. وتأثير السلطنة السابقة

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢١٣ ، الحديث ٥٠٢.


يحتاج إلى الدليل للأصل ، فتبطل الوكالة بموت الموكّل وجنونه ولو أدوارا ، وإغمائه ولو ساعة ، وحجره فيما وكل فيه لسفه أو فلس. وكذا يشترط بقاء أهلية الوكيل فينتفي بانتفائها بعروض موته ، وانتقالها إلى الورثة ، خلاف المأذون فيه ، وبجنونه وإغمائه.

الظاهر : اتفاقهم في المقامين على البطلان كما في التذكرة (١) والمسالك (٢).

ولا يتوهّم تنافيه لبقاء الوكالة في الطلاق بعد عروض الحيض ، وفي النكاح في الإحرام ، وصحة العمل بعد زوال المانع ، إذ المانع ـ ثمة ـ شرط الموكل فيه ، لا الوكالة وأهلية الوكيل أو الموكّل ، فهو من قبيل شرط تأخيره الذي صح معه الوكالة ، وهنا من قبيل التعليق لنفس الوكالة على زوال المانع.

ثمّ أنّه يتأتّى الخلاف السابق هنا في صحّة العمل بعد زوال المانع بالإذن العامّ الضمني. والظاهر : عدمه ، لما تقدّم.

ومنها : عزل الموكّل الوكيل ، إلّا أنّه يشترط إعلامه بالعزل ، فإن لم يعلمه لم ينعزل ، وفاقا لغير الفاضل في القواعد.

وإن تعذر الإعلام وأشهد به فالمشهور كذلك ، خلافا لجماعة من القدماء ، للمعتبرة المستفيضة ، كصحاح ابن وهب ، وهشام بن سالم ، والعلاء بن سيابة ، وقضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام في امرأة استعدته (٣).

وإطلاق الجميع ـ بل ظهور بعضها ـ يشمل صورة الإشهاد أيضا ، فالاستدلال في

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ١٢٥.

(٢) مسالك الأفهام ٥ : ٢٤٧.

(٣) وسائل الشيعة ١٩ : ١٦١ و ١٦٣ ، الباب ١ من أبواب الوكالة ، الرواية ٢٤٣٦٦ ؛ والباب ٢ ، الرواية ٢٤٣٦٧ و ٢٤٣٦٩.


مقابلتها ببعض الاعتبارات اجتهاد في مقابل النصوص الصحيحة المعتضدة بالشهرة المحققة.

وكون الوكالة من العقود الجائزة من الطرفين غير مانع للبقاء ، مع عدم بلوغ المنع ، فكم من عقد جائز يلزم ببعض العوارض اللاحقة ، كشروع العامل في الجعالة.

فرع : يختص حكم بقاء الوكالة بما قبل العلم بالعزل به دون سائر المبطلات ، كموت الموكل وجنونه وحجره اتفاقا للأصول الشرعية ، واختصاص المخرج به.

وفي بعض المعتبرة التصريح به في خصوص موت الموكّل.

مسألة : يشترط في متعلق الوكالة أمور :

منها : أن يكون الموكّل فيه مما يقبل النيابة شرعا ، فإنّ الأفعال المترتّبة عليها الآثار الشرعية ، منها : ما تعلق بها غرض الشارع بنفس الفعل دون خصوصية المباشر ، كأكثر المعاملات من البيع والنكاح والطلاق والصلح والإجارة وغيرها ، والتطهير من النجاسات واستيفاء القصاص وأمثالها.

ومنها : ما تعلّق غرضه بصدوره عن خصوص الشخص ، كعبادة الأحياء ، فإنّ الداعي إلى تشريعها غالبا حصول مشقة المكلّف في العمل للامتثال وتذلّله وتقرّبه بنفس العمل ، ومن غير العبادة كالظهار والجنايات ونحوها.

نعم ، لو كان المقصود بالأصالة من العبادة بذل المال ، كأداء الزكاة ، صحّت النيابة فيها. ومثل ذلك ما إذا تعذر للمكلّف نفسه ، كغسل الأعضاء للمريض ، والحجّ عن العاجز.

وقد يحصل الشكّ في صحّة النيابة والوكالة فيها شرعا. والمهمّ بيان الأصل في ذلك ، لمجال الشكّ.

صرّح بعض أجلّة من عاصرناه : أنّ الأصل جواز الوكالة مطلقا إلّا ما خرج


بالدليل ، بل ربما جعله مستفادا من كلام الأصحاب ، بملاحظة ذكرهم الدليل من النصّ وغيره ، فيما لا يصحّ على وجوب المباشرة دون ما صحّت فيه.

واستدلّ على عمومها بعموم قول الصادق عليه‌السلام في صحيحة ابن سالم (١) : « من وكّل رجلا على إمضاء أمر من الأمور ، فالوكالة ثابتة أبدا ، حتى يعلمه بالخروج منها ، كما أعلمه بالدخول فيها ».

ولا يخفى : أنّ دعوى إفادة كلامهم أصالة الجواز مجرّد دعوى خال عن التحصيل وتعليل المباشرة بدليل في مقام لا دلالة له عليه ، وكم شاع إقامة الأدلّة على ما يوافق الأصول ، والأخبار المذكورة غير ناهضة للمدّعى ، لظهورها في بيان دوام الوكالة حتى يعلم العزل ، لا تعميم الموكّل فيه ، سيما الصحيح الأوّل الذي لا ذكر لمتعلق الوكالة فيه ، بل هو بالنسبة إليه من قبيل المقتضي ، وكون المقصود ترتّب الجزاء على نفس الوكالة من حيث هي ، من غير نظر إلى متعلقها.

والأخيران وإن تضمّنا لفظ العموم إلّا أنه منصرف إلى بيان ما ذكرناه ، وإلّا لزم تخصيص الأكثر الممنوع في تخصيص العموم.

وبالجملة : فللمنع عن الوكالة فيما لم ينعقد الإجماع عليه ، كما اتفق في أكثر المعاملات ، أو فيه نصّ خاصّ ، كما يمكن الاستدلال عليها في البيع ونحوه بقوله تعالى ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (٢) مجال واسع. والأصل يقتضي العدم ، كالظهار واللعان والنذور والأيمان والعبادات المندوبة واستيفاء الحدود في حقوق الله وأمثالها. ومن هذا يظهر وجه صحّة إطلاق كلام جماعة من المنع من الاستنابة

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢١٣.

(٢) النساء (٤) : ٢٩.


في العبادات مطلقا ، وإن كانت مندوبة. وجعله في المسالك (١) أصلا إلّا ما خرج بالدليل.

بل لنا أن نقول : مقتضى الاعتبار عدم قبولها التوكيل ، وعدم قيام فعل الوكيل مقام فعل الموكل ، فإنّ المقصود من العبادة تكميل النفس وتصفية القلب وتذكية الأخلاق وتبديل الأحوال ، والظاهر أنّ عبادة الوكيل غير مؤثرة فيها بالنسبة إلى الموكل ، فما يستفاد من النصوص من صحّة العبادة المندوبة والتلاوة ونحوها بنية الغير ، فهو من باب إهداء الثواب ، لا من باب الوكالة ، ولذا يصحّ ذلك بالنسبة إلى الأموات ، ولا يشترط فيها إذن المهدى إليه ، ولا يسقط خطاب الندب عن المنوب عنه.

والاعتضاد بشرعية العبادة الوكالية بأنّ المعتبر في العبادة ليس إلّا الفعل بقصد القربة ، وجعل الشارع ذلك سببا لترتّب الثواب عليه ، وهو غير مناف للنيابة ، فيندرج في عمومات الوكالة له.

يضعّف ـ مضافا إلى العموم كما مرّ ـ بأنّ المستفاد من الآيات والأخبار : أنّ الحكمة في شرعيتها حصول التقرّب إلى الله تعالى لفاعلها ، وظهور آثار العبودية لعاملها ، وأنّ ذلك من قبل الغير.

وهل يحتمل أحد أن من أحيا ليلة القدر بالعبادة والتضرع والابتهال نيابة عن غيره المشغول بالملاهي والمناهي ولو بإذنه ، أدرك الغير فضل ليلة القدر والفوز بثواب إحياءها وآثاره؟

وهل مواظبة النوافل والعبادات استنابة عن فاسق مجاهر بالملاهي منغمر في دركات الدنيا وحطامها ، يوجب وصوله إلى درجات النعيم التي أعدّت للمتقين ولا

__________________

(١) مسالك الأفهام ٥ : ٢٥٥.


يجزون إلّا ما كانوا يعملون. ونعم ما قيل في الفارسية :

« نام حلوا بر زبان راندن نه چون حلوا بود ».

إن هو إلّا كاستنابة الأكل للجوعان وشرب الماء عن العطشان.

ومن هنا يظهر الإشكال في جعل مواضع الاستثناء في العبادات من باب الوكالة ولو في مثل نيابة الحجّ عن العاجز. وإطلاق الوكالة عليه من باب المجاز ، كما حمل عليه في المسالك (١) قول المحقّق الثاني : ويصحّ التوكيل في الحكم والقضاء بين الناس ، قائلا بأن مراده نصب الإمام أو نائبه الخاصّ تولية القضاء للغير ، وتسميته وكالة مجاز ، وأمّا عن النائب العام في الغيبة فلا يجوز إلّا للفقيه الجامع ، وهو متأصّل فيه ، فلا يتصوّر فيه النيابة.

فرعان :

الأوّل : ربما يظهر الخلاف منهم بعد الاتفاق على عدم صحّة توكيل المحرم غيره في إيقاع النكاح وابتياع الصيد حال الإحرام ـ في صحّته في إيقاعهما حال الإحلال.

ففي المسالك (٢) : ظاهر العبارة منعه ، والأولى : الجواز.

وعن جامع المقاصد (٣) : ظاهرهم عدم الجواز ، محتجّا بعدم كونه مالكا لمباشرة هذا التصرف الآن ، وهو شرط ، فهو كما لو وكل في طلاق امرأة سينكحها.

وفي الروضة (٤) : منع الظاهر ، بل الظاهر كونه كالتوكيل في طلاق الحائض بعد

__________________

(١) مسالك الأفهام ٥ : ٢٥٦.

(٢) نفس المصدر.

(٣) جامع المقاصد ٨ : ١٧٧.

(٤) الروضة البهية ٤ : ٣٦٧.


الطهر ، وقد عرفت صحّته ، فمقتضى القاعدة المذكورة صحته إلّا إذا ثبت الإجماع وغيره على خلافه ، والبحث عنه موكول إلى محلّه.

الثاني : لا شكّ ـ كما عليه السيرة المستمرّة ـ في صحّة نصب الحاكم الشرعي من يتولّى أمر الوقف الفاقد للناظر الخاص من قبل الواقف ، وتعيين من يقوم بأمر الصغير الفاقد لمن يتولاه. فهل هو من النيابة التوكيلية عن الحاكم ، فيلزمه اشتراط شرائط الوكالة مما ذكر ويذكر ، ويبطل بموت الحاكم الموكّل ، أو من باب تولية القضاء حيث جاز ، فلا يجوز التصرف لغيره قبل عزله أو انعزاله فيه؟

وجهان : من عدم دليل على ولاية الحاكم وتسلّطه على نصب من ذكر تولية ووصاية ، ومن اقتضاء الوكالة اقتصار الوكيل على التصرف السائغ للوكيل ، مع أن السائغ في أمثال ما ذكر التجاوز (١) عنه من غير نكير ، وقيامه فيما يتولّاه بكل ما يتولّى فيه الحاكم.

والأوجه الأوّل ، اقتصارا في ولاية الحاكم على ما يقتضيه الدليل ، ومنع شمول عمومات الولاية لتفويض ما هو شأنه المقرّر في الشرع لغيره.

ودعوى السيرة القطعيّة المعتبرة فيما اقتضاه ممنوع جدّا. ولم نتحقّق في مظان عنوانات ولاية الحاكم في كلماتهم ما يتناول مثل ذلك. فعلى هذا فلا يجوز للمتصرّف لقيام أمر الطفل من الحاكم بيع ماله المنتقل إليه بعد حال النصب بإرث أو هبة ، بل باشتراء الحاكم ونحو ذلك ، مما لا يملكه الحاكم للطفل حال التوكيل ، كما ستعرف تفصيله وتحقيقه.

ونحوه في الوقف ، فيما يتفرّع على تصرّف الحاكم نفسه ونحوه ، وانعزاله بموت الحاكم لبطلان الوكالة بموت الموكّل.

__________________

(١) كذا.


ومنه يظهر : أنه لا يجوز للحاكم نصب أحد على قيام أمور الصغار مطلقا حيث اتّفق ، وإن لم يتولّه بعد حال النصب ، أو لم يتولّه الحاكم بعد حياة الوصيّ ونحوه على قيام أمور الأوقاف العامّة كذلك.

وفي حكم القيّم للصغير والناظر للوقف ، نصب الحاكم من يأخذ سهم الإمام عليه‌السلام من خمس ما سيوجد ، والتصرف في مجهول المالك مما سيحصل ، وغير ذلك مما للحاكم الولاية فيه.

نعم ، ليس لغير الحاكم الموكّل من سائر الحكام عزل من نصبه ، لأنّ توكيله تصرف حكومي وولائي ، فلا يجوز نقضه لغيره ، بل في جواز تصرف حاكم آخر أو مأذونه في أمر من أمور من وكّله فيها ، إذا كان مقصود الحاكم من استنابة المنصوب من قبله حصر المتصرف فيها وجهان : من أنه كان لحاكم آخر مشاركة الأوّل قبل توكيله ، والوكيل نائبه ، فلا يزيد على الأصل ، ومن أنّ مقتضى ولايته العامّة نفوذ هذا التصرف منه ، فلا يجوز نقضه لغيره. والمسألة محلّ إشكال ، ينبغي الاحتياط فيه.

ومنها : كون متعلّق الوكالة مما يملكه الموكل ، فلا تصحّ فيما لا يملكه ، كالمستحيل عقلا والمحرّم شرعا ، كالغصب والسرقة والقتل وسائر المعاصي.

وأحكامها تلزم المباشر إجماعا.

والمشهور : اشتراط ذلك من حين التوكيل إلى وقت التصرف.

وعن جامع المقاصد (١) والتذكرة (٢) : الإجماع عليه ، فلا يجوّزون التوكيل في طلاق من سينكحها ، وبيع ما سيملكه ، وعتق عبد سيشتريه.

واستشكل إطلاق القول بذلك ، بأنّ الظاهر : أنّهم يجوّزون التوكيل في الطلاق في

__________________

(١) جامع المقاصد ٨ : ٢٠٧.

(٢) تذكرة الفقهاء ٢ : ١٣٤.


طهر المواقعة وفي الحيض ، ويجوّزون التوكيل في تزويج امرأة وطلاقها ، وشراء عبد وعتقه ، واستدانة دين وقضاءه.

وفي التذكرة (١) : صحّ ذلك كلّه.

ومنها ـ كما في جامع المقاصد (٢) ـ : ما لو قال : طلّق زوجتي ثلاثا ، فإنه يكون وكيلا في الرجعتين بينهما. قال : ولكن يرد عليه أنّ ذلك توكيل في تصرف لا يملكه الموكّل وقت التوكيل. فإنّ الرجعة يملكها بعد الطلاق ، فحقه أن لا يصحّ.

ثم أجاب بأنّه ليس ببعيد أن يقال : إنّ التوكيل في مثل هذا جائز ، لأنّه وقع تابعا لغيره ، ونحوه ما لو وكّله في شراء شاتين وبيع إحداهما ، أمّا لو وكّله فيما لا يملكه استقلالا ، كما لو وكّل في طلاق زوجة سينكحها لم يصحّ.

والفرق بين وقوع الشي‌ء أصلا وتبعا كثير ، لأنّ التابع وقع مكمّلا بعد الحكم بصحّة الوكالة واستكمال أركانها.

وعن التذكرة (٣) إيماء إليه أيضا.

واعترض بعض أجلة من عاصرناه بمنع الفرق بين التابع والمستقلّ ، مع تناول أدلّة الوكالة للقسمين ، بل مشروعية المضاربة حجة عليه ، فإنّها من الوكالة أيضا ، فلا بدّ أن يقال : ما يرجع منها إلى معنى التعليق باطل ، باعتبار اقتضاء تأخر متعلقها تأخر [ ها ] ، أمّا ما لا يرجع إلى ذلك ، بأن جعله وكيلا عنه فيما هو أهل له ، ولو بإيجاد سببه المتأخر عن حال العقد صحّ ، وإن لم يجعله تابعا في وكالة شخص خاصّ ، بل وكّل شخصا على الشراء وأخرى على بيع ما يشتريه.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ١٣٤.

(٢) جامع المقاصد ٨ : ٢٠٧.

(٣) تذكرة الفقهاء ٢ : ١٣٤.


ثم قوّى لذلك القول بمشروعية الوكالة في الجميع ، من غير فرق بين الموجود المتجدّد ، حتى ما لا يملكه بإرث وهبة وغيرهما ، وقال : إنّ العنوان المزبور في الشرط المذكور ليس في محلّه.

أقول : بل ما أفاده خبط ليس فيه رشاد ، وهل يجتمع أصحاب الفقه على ما لا أصل له؟

ولتحقيق ذلك نقول : إنّ من الأمور الضرورية عدم صحّة التوكيل إلّا فيما يملكه الإنسان ويجوز له التصرف فيه شرعا ، حتى ينعقد النيابة عنه فيه ، فلا يجوز أن يوكّله في طلاق امراة أجنبية وبيع مال زيد ، ففي توكيل طلاق امراة سينكحها ، إن أريد به الوكالة في الطلاق بعد النكاح ، بأن يكون متعلّق الوكالة بعد النكاح ، فهو تعليق وتأخير لنفس الوكالة ، وهو باطل ، وإن أريد الوكالة في الحال ، فالموكّل فيه مما لا خيار له فيه ولا يملكه قبل النكاح ، فكيف جعله متعلّقا للوكالة الحالية؟

واقتدار الموكل على إيجاد السبب لا دخل له فيما وكّل فيه الوكيل من حيث تعلق الوكالة عليه إلّا بإرجاعه إلى تعليق الوكالة وتأخيره بما بعد وجوده.

وبهذا يظهر الفرق بينه وبين التوكيل في النكاح ثم الطلاق ، فإنّ هذا الترتيب ملكه الموكل حين العقد ، وقد جعله وكيلا في هذا الترتيب ، فهو من قبيل المركّب الذي تأخّر بعض أجزائه عن بعض.

والحاصل : أنّ الضابط في الفرق فيما يصحّ وما لا يصحّ ، ملاحظة الفعل الذي وكّل فيه ، من حيث كونه متعلق الوكالة ، لا من حيث كونه مقدورا للموكل أو موكولا على الاتفاق أحيانا ، لعدم مدخليته ـ حينئذ ـ في الوكالة التي تعلق بها العقد إلّا بإرجاعها إلى التعليق الباطل.

ومن ذلك يظهر : أنّ ما ذكره الشيخ المعاصر من صحّة توكيل شخص خاصّ في


الشراء وآخر في بيع ما يشتريه غير متّجه.

فإن قلت : لا ينحلّ بذلك الإشكال بالنقض بصحّة الوكالة حال الحيض أو طهر المواقعة ، لعدم صحّة الطلاق حين العقد للموكّل ، ولا سبب صحّته باختياره ، مع أنّ صحّتها لعلّها محلّ الإجماع.

قلت : فرق بين عدم الصحّة لعروض مانع ـ سواء كان في حال العقد أو بعده ، حيث لا ينتقض به الوكالة لو عرض في الأثناء أيضا ـ وبين عدم مملوكيته للمالك بالذات ، وعدم المقتضي له حال التوكيل ، ولذا جعلوا عنوان الشرط ملكه للموكّل فيه ، لا صحّته منه ، نظير الفرق بين صحّة إيجاب الصلاة على البالغ العاقل قبل الوقت وعدم صحّته قبل بلوغه ، ولذا يصحّ أن يقال للزوج حال حيض الزوجة : أنّه مالك لطلاقها ومالك لبضعها ، ولا يصحّ أن يقال له ذلك بالنسبة إلى الأجنبية ، فالتأخر اللازم هنا إلى زوال العذر مما يرجع إلى الموكّل فيه لا الوكالة ، فلا ضير فيه ، ولذا لا تبطل الوكالة بعروض الحيض الواقع في الأثناء ، وتبطل وكالة بيع فرسه إذا باعه نفسه ثم اشتراه في الأثناء ، وهذا عساه أن لا يشكّ فيه.

وربما يحصل الشكّ في أنّ المورد من أيّ القسمين ، كالتوكيل في نكاح صغيرة بعد بلوغها ، ولعلّه كان صحيحا لأنّه مالك لنكاحه ، ولذا يصحّ أن يزوّجها وليّها دائما ، لمانع عدم نفوذ قبولها قبل البلوغ ، لحجرها بالصغر ، بخلاف التوكيل في تزويج المزوّجة بعد طلاقها. ونحوها المعتدّة بالعدّة الرجعية ، لأنّها في حكم الزوجة ، وأما المعتدة البائنة ، فلا يبعد الصحّة وتوكيل ما يتعلق بما سيورث أو سيوهب ، كما صحّحه الشيخ المعاصر ، والظاهر : عدم صحّته ، فاجعل ما حققناه ضابطا للمقام ، وافهم واغتنم.


فرع : لو وكّله في جميع أموره المتعلقة به من الموجودة والمتجدّدة ، فمقتضى الضابطة المقرّرة : صحّة المتجددات المترتّبة على الموجودة ، كبيع ماله ثم اشترائه به مالا آخر ثمّ بيعه ثانيا وهكذا ، وشراء ملك وإجارته ودعوى الغبن والفسخ به إذا كان مغبونا ، ونكاح امراة له وطلاقها وطلاق امرأته الموجودة ، وأمثال ذلك.

ولو نكح الموكّل نفسه امرأة بعد التوكيل المزبور أو [ أعتق ] عبدا ، فالوجه عدم صحّة طلاقها وعتقه بالوكالة العامة السابقة ، لا بوكالة متجددة. والله العالم.



[ المشرق السادس وعشرون ]

[ في اقتضاء اليد الملكية ]

مشرق : من القواعد المتداولة بل المسلّمة عند الفقهاء : اقتضاء اليد للملكية أو الاختصاص في ظاهر الشرع ، إلى أن يخرج عنها بدليل كاشف عن الواقع ، من بيّنة أو إقرار ونحوهما.

وعن بعضهم : كونها إجماعية.

وعن آخر : أنّها ضرورية.

وعليها استفاضت الأخبار في موارد غير عديده. بل قيل : إنّها متواترة معنوية.

ومن أدلّتها على الإطلاق والضابطة الكلّية ، رواية حفص بن غياث ، المروية في الكتب الثلاثة (١) ، المنجبرة بعمل الكلّ ، وفيها : أرأيت إذا رأيت في يد رجل شيئا أيجوز أن أشهد أنّه له؟ قال : « نعم » قلت : فلعلّه لغيره : قال : « ومن أين جاز لك أن تشتريه وصار ملكا لك ، ثمّ تقول بعد الملك : هو لي ، وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه إليك من قبله؟ » ثم قال : « ولو لم يجز هذا ما قام سوق للمسلمين ».

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٧ ، الحديث ١ ؛ التهذيب ٦ : ٢٦١ ؛ الفقيه ٣ : ٣١.


ومنها : المرويّ في تفسير القمّي (١) صحيحا ، وفي الاحتجاج مرسلا ، عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، في حديث فدك لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لأبي بكر : « تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين »؟ قال : لا. قال : « فإن كان في يد المسلمين شي‌ء يملكونه ادّعيت أنا فيه ، من تسأل البيّنة؟ » قال : إيّاك أسأل البيّنة على من تدّعيه.

قال : « فإذا كان في يدي شي‌ء فادّعى فيه المسلمون ، تسألني البيّنة على ما في يدي وقد ملّكته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعده ، ولم تسأل المؤمنين على ما ادّعوا عليّ ، كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم ».

ومنها : موثّقة يونس بن يعقوب (٢) : المرأة تموت قبل الرجل ، أو رجل قبل المرأة.

قال : « ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجل والنساء فهو بينهما ، ومن استولى على شي‌ء منه فهو له ».

ولا شكّ أنّ ما في اليد يصدق عليه الاستيلاء.

وغير ذلك من الإطلاقات ، وما ورد في موارد خاصة ، يعلم من تراكمها كون الجهة المقتضية للاستحقاق هي اليد.

ولا إشكال في ذلك ، إنّما يقع الكلام تارة : في معنى اليد وضبط مصاديقها التي قد يتطرق فيها الإبهام ، وأخرى في شرائط اقتضاءها الملكية وما فيه من الخلاف.

فهنا مقامان :

المقام الأوّل : في المراد من اليد.

لا شبهة أنّه ليس المراد منها العضو المخصوص ، بل المعنى المتفاهم منه عرفا وما فهمه الأصحاب ، هو كونه تحت اختيار الشخص وتصرّفاته والاستنفاع منه ،

__________________

(١) تفسير القمّي : ٥٠١.

(٢) التهذيب ٩ : ٣٠٢.


حيث إنّه المتبادر منه في العرف ، ولا يصحّ السلب عنه ، سيما بملاحظة القرائن المعيّنة لإرادته في الأخبار ، سواء قلنا بكونه معنى مجازيا مشهورا مقترنا بالقرينة الشائعة العرفية في مثل المقام ، أو كون هذا التركيب ، أعني : ما في اليد حقيقة عرفية فيه.

ولعلّ الأوّل أوجه ، نظرا إلى حصول الاختلاف في الظهور العرفي باختلاف المقامات وتغاير المتعلق ، فيكون مستندا إلى قرينة المقام ، ففي مثل كون الدار في يده يتبادر ذلك ولا يصحّ السلب ، دون كون الخاتم والدرهم في يده. ولو أمر بوضع الدرهم في يد زيد ، صحّ العتاب بوضعه عنده بترك الامتثال.

وكيف كان ، فالخطب في ذلك بعد ظهور المراد سهل وإنما يتأتّى البحث في صدق هذا المعنى في مواضع :

منها : ما إذا اختلفت آثار الاختصاص فيما بين اثنين ، ككون المتاع في بيته ومفتاحه في يد آخر ، فاشتبه كون المتاع في يد أيّهما؟

والظاهر : أنّه إن علم أنّ صاحب البيت وضعه فيه ، فهو محكوم بكونه في يده ، وإن علم أنّ صاحب المفتاح وضعه ، فهو في يده ، وإن لم يعلم شي‌ء منهما أشكل الأمر ، إلّا إذا علم استيلاء أحدهما عليه.

ومنها : ما إذا لم يشاهد التصرفات المتجدّدة فيه. فالظاهر : عدم اشتراطها في صدق اليد ، كما صرّح به الوالد العلّامة ، فإنّ اليد شي‌ء والتصرّف شي‌ء آخر ، ولذا تراهم يقولون : اليد المنفردة من التصرف هل تصح الشهادة لها بالملك؟ فيجردون اليد عن التصرف ، ويختلفون في صحّة الشهادة بالملك بمجرّدها ، بحيث كانت هي مستند الشاهد.

نعم ، قد يكون تجدّد التصرف وتكرّره دليل ظهور اليد ، فيشترط ـ حينئذ ـ في


صدقها ، كالعبور والاستطراق في الطريق الواقع في دار الغير ، فلا يحكم باليد بمجرّد عبورهم ساعة أو ساعتين ، ونحوه سكنى الدار.

ومنها : الاستيلاء عليه ، بحيث كان تحت اختياره بتصرّف فيه كيف يشاء من البيع والشراء والخراب والعمارة والانتفاع منه ونحو ذلك من وجوه التصرّفات.

فهل يشترط صدق اليد عليه أم لا؟

الظاهر عدم صدقها مع ظهور خلافه ، ولكن لا يشترط العلم به ، ولذا يحكم بملكية ما في يد الرجل وانتقاله الى وارثه بعد موته ، وإن لم يعلم منه هذا الاستيلاء.

ومنها : جزئيته وتابعيته للمتصرف فيه ، وإن لم يظهر منه تصرف أو استيلاء عليه بخصوصه ، كقطعة أرض في داره.

ومن هذا يظهر : أنه لو كان مجرى ماء أحد في دار غيره أو طريق له فيها. لا يخرج عن صدق يد صاحب الدار ، بل يد صاحب الماء ، والعبور فيها لم يثبت عدا المنفعة ، وغاية ما في الحال صدق يد المنفعة عليها ، لا ملكية العين ، فليس لهما التصرفات العينية أو استنفاع منفعة أخرى منهما.

ومنها : ما إذا لم يكن المالك بنفسه مباشرا للتصرف ، بل كان وكيله أو مستعيره أو أمينه أو مستأجره أو المتعدّي عليه بغصب. ففي صدق ذي اليد على ما ملكه باعتراف هؤلاء الوسائط ، في مقابل دعوى الثالث إشكال. والظاهر : قبوله باعترافهم ، بكون أيديهم نيابية ، وحكم يدهم يد المنوب عنه.

المقام الثاني : في بيان الشروط المعتبرة في اقتضاء اليد للاستحقاق.

وهي أمور :

الأوّل : عدم اعتراف ذي اليد بما ينافي ملكيته.

وتفصيل ذلك : أنّ صاحب اليد إمّا يدّعي استحقاقه ، أو يعترف بعدمه ، ويقول : لا أدري كونه لي ، أو لم يظهر منه شي‌ء منها.


لا إشكال في اقتضائه في الأوّل ، وعدمه في الثاني ، لتقدّم الإقرار على اليد إجماعا. والظاهر : عدمه ـ أيضا ـ على اعترافه بالجهل ، كما صرّح به والدي ، لعدم دليل صالح على الاقتضاء حينئذ ، لاختصاص تحقق الإجماع بغير الصورة ، وكذا النصوص المتقدّمة ، ومنع صدق الاستيلاء في الموثقة على ذلك ، لظهوره في الاقتدار على التصرف فيه كيف شاء وكيف جاز له ، وهو لا يعلم أنه له. ولا ينافي ذلك عدم اشتراط علمه بكونه لمورّثه أو لمن اشتراه منه ، لعلمه بملكيته الظاهرية لمن انتقل منه إليه ، وكونه محكوما له في ظاهر الشرع كما مرّ.

نعم ، لو علم اعتراف صاحب اليد الناقلة منها إليه بعدم علمه أنّه له ، فالظاهر : عدم تملّكه ـ حينئذ ـ بالإرث أو الاشتراء أيضا.

وإن لم يظهر من ذي اليد دعوى الملك أو عدمه ولا جهله به ، فالظاهر : كونه محكوما له عند غيره ، كما إذا كان في يد مورّثه فمات عنه ، لإطلاق موثقة يونس ، وكذا صدر رواية حفص ، باعتبار عموم ترك الاستفصال ، وإن لم يكن له ذلك الظهور ، لاختصاص تعليله بفعل ما يشير باعترافه.

فرع :

الأوّل : يظهر مما بيّناه دقيقة هي : أنّه لو كان في دار أحد طريق مستحدث يعبر فيه الناس مع اعترافهم بعدم تملّكهم الطريق أو عدم علمهم بالاستحقاق الشرعي ظاهرا عدا واحد منهم ، مدّعيا للملكية أو حقّ العبور ، فلا يحكم له بذلك ، لأنه إن ادّعى الاختصاص به ، فليس يده بخصوصه عليه في جملة العابرين ، وإن ادّعى الجهة العامّة للعامّة ، فيتوقف على عدم اعترافهم بالجهل ، كما سمعت.

نعم ، إذا كانت يده منفردة بالغة في تكثّر العبور وتكرره إلى حيث صدق يده بالخصوصية عليه عرفا ، يحكم له شخصا.


الثاني : أن لا يعارض اليد دليل كاشف عن الواقع ، فيقدم الدليل ، لما علمت في المشرق السابق : أنّ الأصول العملية والاجتهادية ، بل مطلق الأحكام ، بعضها وارد على بعض ، ويقدّم الوارد على المورود ، بل لا تعارض بينهما حقيقة ، وأنّ الورود بأحد الوجهين : إمّا بكون موضوع أحدهما مرتفعا بوجود الآخر ، كإباحة ما لا يعلم حرمته عند ظهور دليل حرمته الواقعية ، أو بجعل الشارع أحدهما سببا رافعا للآخر ، كزوال حلية العصير بالغليان ، ثم زوال حرمته بعده بنقصان الثلثين.

وأشرنا ثمة إلى أنّ البيّنة والإقرار ونحوهما كذلك بالنسبة إلى اليد ، فيرتفع حكمها بوجود الرافع ، كما أنّ اليد واردة على الاستصحاب ، كما ستعلم.

الثالث : أن لا يعارض اليد استصحاب ما يزيل حكم اليد ورافعه.

بيان ذلك : أنّ تعارض اليد والاستصحاب يقع على وجوه :

منها : أن يكون مقتضى الاستصحاب عدم الملكية ، ولكن لم يكن في مقابل ذي اليد مدّع يدّعي خلافه ، كما إذا ادّعى صاحب اليد اشتراءه أو استيجاره من مالكه ولم يكن هناك من يدعيه ، فليس لأحد أن يزاحمه ، ولا يجوز أخذه منه ، وله التصرف فيه كيف يشاء ، لصدق اليد عليه ، وشمول الأخبار له.

ومنها : أن يدّعي الاستيجار أو الانتقال ، وفي مقابله المدّعي ينكره. والظاهر : أنه لا خلاف ـ حينئذ ـ في تقديم قول المدّعي واستصحاب عدم الانتقال وعدم اعتبار اليد ، لأنه يدّعي اليد المقيده بالاستيجار أو الابتياع وهو في دعوى القيد مدّع يطالب بالبيّنة ، والاستصحاب يقتضي عدمه.

فإن قلت : اقتضاء اليد للاستحقاق ليس لقيدها المختلف فيه المطالب بالثبوت ، بل لمجرد نفسها ، أعني : الاستيلاء ، والاستصحاب لا يقاوم اليقين الشرعي الذي هو مقتضى اليد.


قلت : المقتضي للاستحقاق هو اليد المطلقة لا مطلق اليد ، فإنّ اليد لا يقتضي الاستيجار ، فلا يعارض استصحاب عدمه ، فحيث دلّ الاستصحاب على عدمه صارت اليد يدا غير استيجارية ، وهي تنافي دعوى ذي اليد ، فلا يعتني بيده.

وبوجه آخر أو عبارة أخرى : تقدّم اليد على الاستصحاب إنّما هو باعتبار جعلها الشارع سببا للملكية الظاهرية ، كما تقدّم ، فمقتضاها يقين شرعي مزيل للحالة السابقة ، ويعارضهما بالمزيلية والمزالية ، وفيما نحن فيه ينعكس الأمر ، فإن عدم الاستيجار الذي هو مقتضى الاستصحاب سبب لعدم حصول اليد الاستيجارية ، فإنّ وجود المعلول كما هو مؤخّر بالذات عن وجود العلّة ، كذا عدمه مؤخّر عن عدمه ، فعدم حصول النقل سبب لعدم حصول اليد المملّكة ، ولا هكذا الملكية الاستيجارية ، فإنّها كاشفة عن حصول الاستيجار ، وعلمت كرارا : أنّ الأصل المثبت للسبب مقدّم على المثبت للكاشف.

ومنها : الصورة السابقة ، غير أنّ استناد اليد بالانتقال من المدّعى عليه علم من الخارج ، من غير اعتراف ذي اليد به ، بمعنى أنّه علم أنّه لو ملكه كان بانتقاله منه إليه.

وفي تقديم الاستصحاب أو اليد ـ حينئذ ـ إشكال :

من كون اليد ـ حينئذ ـ معلوم التقيّد بسبب ينكره المدّعي ، فعلى ذي اليد إثباته كالصورة السابقة.

ومن أنّ صاحب اليد لا يدّعيه حتى كان مأخوذا بالإثبات ، وعلم الحاكم بسبب دعواه لا يوجب صدق المدّعى عليه ، فاليد يبقى على اقتضائهما الملكية ، فيكون من قبيل صورة تعارض الملكية السابقة واليد الحالية ، وستعرف تقدّم اليد فيها ، ولعله الأقوى.


فإن قلت : استصحاب عدم النقل ـ بضميمة العلم الخارجي بانحصار سبب المدّعي به فيه ـ يقتضي بطلان اليد وورود الاستصحاب عليها كالسابق.

قلت : إنّما يعارضه ويزيله لو كان هو محل الدعوى ، كما في صورة الإقرار ، وإلّا فلا محلّ لهذا الاستصحاب ـ حينئذ ـ في مقابل قول ذي اليد ، فلا يخرج اليد عن مقتضاه شرعا.

ومنها : أن يتعارض [ اليد ] الحالية الملكية السابقة أو اليد السابقة ، مع احتمال استناد اليد إلى غير نقل المالك الأوّل على تقدير صحّتها.

وقد اختلفوا في تقديم الحالية أو القديمة على قولين ، كلاهما عن الشيخ في المبسوط والخلاف (١).

والأوّل عن الأكثرين : وعن الشرائع : الثاني.

وعن محتمل الفاضل في التحرير : التساوي.

واستدلّ على كلّ منها بوجوه قاصرة لا جدوى للتعرّض لها ، بعد ما تبيّن لك مما تلوناه من مناط الحقّ في المقام ، من أنّ اليد دليل شرعيّ وارد على استصحاب الملكية السابقة ناقض لمقتضاه من قبيل سائر الأسباب الشرعية الطارية ، ولا كذلك العكس ، فإنّ بقاء الملكية السابقة ليس سببا مزيلا لملكية اليد ، بل على تقدير بقاءها كاشفة عن عدم اقتضاءها الملكية اللاحقة.

والظاهر : أنّه ينظر إليه كلام بعض المحققين ، من أنّ احتمال كون اليد الباقية عارية أو غيرها لا يلتفت إليه مع بقاء اليد على حالها ، فإنّ المقصود الأصلي من إعمال اليد هو إبقاء تسلطها على ما فيها (٢) ، أو عدم جواز منعها عن التصرفات .. (٣)

__________________

(١) المبسوط ٨ : ٢٦٩ و ٢٩٩ ؛ الخلاف ٦ : ٣٣٩ ، المسألة ١١ ؛ و ٣٤٥ ، المسألة ١٩.

(٢) في الأصل : « باقيها » مكان « ما فيها ».

(٣) هنا كلمة لا تقرأ.


بسبب احتمال الغصب أو العارية أو غيرهما ، فيحكم عليها بما يحكم على ملك الملاك ، وليس هذا معنى الحكم بأنه ملك. انتهى.

وبعد الإحاطة بما قدّمناه ، تعلم صحّة الحكم بكونه ملك ذي اليد ، كما هو مقتضى رواية حفص بن غياث المتقدمة الشامل للمورد.

والظاهر : أنّ عدوله عن الحكم بالملك ، إلى الحكم بلوازمه ، باعتبار معارضة حكم الملك لاستصحاب ملك الآخر ، وقد علمت أنّ الاستصحاب لا يعارض اليد.

ومنها : أن يعارض يده الحالية إقراره أمس بأنّ الملك للمدّعي ، أو شهدت البيّنة بإقراره أمس له ، أو أقر بأن هذا له أمس.

قال في الكفاية (١) : وفي كلامهم القطع بأنّ صاحب اليد لو أقرّ بأحد الوجوه المذكورة قضي له به. وفي إطلاق الحكم بذلك إشكال.

وفي القواعد والسرائر (٢) أيضا : فالقضاء للمدّعي ، بإقرار ذي اليد له أمس ، أو أقرّ أمس به ، أو شهدت بإقراره البيّنة.

وفي مجمع الفائدة للمحقق الأردبيلي (٣) قال : في صورة إقراره بالأمس ، أو بالشهادة بإقرار الأمس ، وجعل الأقرب في الأوّل ذلك ، موذنا بوقوع الخلاف فيه.

وقال : إنّه غير واضح الدليل ، إلّا أن يكون إجماعا.

ويظهر وقوع الخلاف من شيخنا الشهيد ، في تمهيد القواعد ، في صورة الإقرار له أمس ، واختار الأخذ بإقراره ، كما لو شهدت البيّنة بأنّه أقرّ أمس.

أقول : للنظر في إطلاق الحكم بتقديم قول المدّعي بإقرار ذي اليد بأحد الوجوه

__________________

(١) كفاية الأحكام : ٢٧٧.

(٢) السرائر ٢ : ١٦٩.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٢٤٥.


المذكورة مجال واسع. والإشكال فيه ـ كما في الكفاية وظاهر الأردبيلي ، ـ في مورده ، إلّا أن يثبت الإجماع فيه ، لأنّ إقراره بأنه كان له أمس ، أو ثبوت إقراره كذا أمس بالشهادة ، أعمّ من كونه اعترافا بانتقاله إليه من المدّعي ، وهو الصورة الأولى التي يقدّم فيها قول المدّعي ، ومن انتقاله عن غيره إليه.

ولعلّ المقصود من المجمع عليه هو الأوّل ، فهو من باب تعارض الملك السابق واليد الحالية ، وقد عرفت تقدم اليد فيه ، فتدبّر.

الرابع : أن لا يعارض اليد الحالية استصحاب نفس اليد ، كما إذا أثبت المدّعي أنّ مبدأ يده كان يد غصب أو عارية أو إعارة ، وادّعى صاحب اليد ملكيته الحالية ، فإنّه لا إشكال ـ حينئذ ـ في تقديم الاستصحاب ، لأنّ يده بالاستصحاب يد غير مملّكة لا يقتضي التقديم ، واستصحاب الموضوع مقدّم على الأصل الحكميّ إجماعا واعتبارا.

الخامس : احتمال كون اليد ناشئة عن جهة مقبولة في ظاهر الشرع ، فلو علم كونها بانتزاع ما في اليد من تصرّف المالك عنفا ، من غير جهة مجوزة شرعية ظاهرا ، بل بمجرد ادّعاء الملكية ولو مع احتمال صدقه الواقعي ـ ومنه ما إذا أخذه في حضورنا عنه عند ادّعاء ملكيته ـ لم يكن معتبرة إجماعا ، ولعدم كون ملك اليد سائغة في ظاهر الشرع ، ووجب الحكم بتخلية يده عنه وردّه إلى ذي اليد الأوّل حتى أثبت حقه وأقام البيّنة.

السادس : ما أفاده في المستند ، أن لا يزاحم اليد يد أخرى ، كما إذا ركب اثنان دابّة رديفين ، وأكلا من إناء واحد دفعة ، وجلسا على بساط كذلك ، فلا أثر لليد ـ حينئذ ـ لأحدهما بالنسبة إلى الآخر لتعلق يد كلّ واحد بالجميع ، حيث إنّ اليد ليست كالملك الذي لا يتزاحم فيه غير الواحد ولذا لو قطع أحدهما يده عنه ، كان يد


الآخر عليه كما كان ، فالحكم بتنصيف ملكية كل واحد خلاف مقتضى اليد ، وتمامه لكلّ واحد من المحال ، ولواحد ترجيح ممتنع ، فإذن لا حكم ليد أحدهما لنفي الآخر.

نعم ، تؤثر اليدان لنفي دعوى الثالث.

أقول : ويمكن المناقشة بمنع اليد المستقلّة لكلّ واحد منهما ، فإنّه لو اعتبر فيها الاستيلاء هنا ، فالتامّ منه في الكلّ ممنوع ، إذ ليس له البيع والإجارة والعارية ونحوها ، وإن اعتبر فيها الانتفاع ، فهو ينقسم بينهما ، لأنّ المنفعة العائدة منه لكل واحد غير العائدة للآخر ، وحيث إنّ يد الثالث مسلوبة عنه ، فحكم اليد منقسم بينهما لا محالة.

وإطلاق قوله في الموثّقة : « وكلّ من استولى على شي‌ء فهو له » ظاهر في الاختصاص لهما اشتراكا ، لا لأحدهما منفردا ، ولا لثالث ، كما قلنا. فإن كان لأحدهما شاهد ، وإلّا فيقف ويتحالفان.

ولعله إجماعيّ ، وبه اعترف الوالد الماجد في العوائد (١).

السابع : ما عسى أن يجري فيه الكلام من اختصاص الاقتضاء بكون متعلق اليد الأعيان دون المنافع ، كما أفاد والدي القمقام للأصل ، وعدم ثبوت الإجماع ، وظهور الأخبار في الأعيان ، حتى الموثقة ، لمكان الضمير في قوله عليه‌السلام : « من استولى على شي‌ء منه ـ أي : المتاع ـ فهو له » مضافا إلى منع صدق اليد على المنافع ، لأنّ الآتية غير متجدّدة بعد ، والماضية منقضية.

أقول : وللكلام فيه مجال ، والذي يقتضيه نظر العبد ، أنّ اليد على المنفعة والتصرف فيها قسمان :

أحدهما : أن يكون التصرف فيها موقوفا على وقوع اليد على العين عرفا ،

__________________

(١) عوائد الأيّام : ٧٤٩.


بحيث صدق عليه كون العين في يده ، ولو لاستيفاء منفعته ، كتصرف المستأجر في العين المستأجرة ، وجريان مائه من ملك الغير والاستطراق فيه ، وحمل السقف على جداره ، وأمثال ذلك.

والثاني : أن لا يتوقف عليه ، كالاستظلال بجداره ، والاستضاءة بسراجه ، والانتفاع بهواء عرصته ونحوها.

أمّا الثاني : فهو كذلك ، ولا اعتبار لليد عليه ، بل لم أتحقّق قائلا به والأخبار غير شاملة له بظهورها في كون متعلق اليد العين ، ولو سلم إطلاق بعضها ، كحديث فدك ، فهو أيضا ، بحكم التبادر ظاهر في العين.

وأمّا الأوّل : فالظاهر اعتبار اليد عليها ما دام يده على العين ، وظنّي أنّه لا خلاف فيه ، ولذا لو كان في يده عين بعنوان الاستيجار ، فادّعى غيره الإجارة من مالكه ، يقدّم قول الأوّل ، وما هو إلّا ليده عليها ، وإلّا كانا سواء ، ولصدق المدّعي على خارج اليد عن المنفعة ، فإنّ من ادّعى على من استمرّ جريان مائه من ملك الغير في منع جريانه ، يصدق عليه « أنّه لو ترك ترك الدعوى » ، فيطالب البيّنة عملا بمقتضى أخبار الدعاوي ، بل يشمله قوله عليه‌السلام في الموثّقة : « من استولى على شي‌ء منه فهو له » فإنّ الضمير وإن رجع إلى المتاع وهو عين ، إلّا أنّه يعمّ اللام مطلق الاختصاص ، فيشمل ما إذا ادّعى المتاع ، لاختصاص منفعته له باستيجار ونحوه.


[ المشرق السابع وعشرون ]

[ في وجوب ترتب الحواضر على الفوائت ]

مشرق : اختلفوا في وجوب ترتّب الحواضر على الفوائت ما لم يتضيّق أوقاتها ، وفورية وجوبها.

وظاهر جماعة ، بل صريح بعض المحققين : أنّ كلا من الأمرين مسألة منفردة في الخلاف ، وإن كان قول الأكثر متوافقا فيهما نفيا وإثباتا.

وكيف كان ، ففي المسألة أقوال :

الأوّل : أنّه لا يعتبر في صحّة الحاضرة تأخّرها عن الفائتة مطلقا ، ولا في صحّة غيرها من العبادات ، ولا يجب فعل الفائتة فورا متى ذكرها ، ولا يجب العدول عن الحاضرة إليها في الأثناء ، فيجوز التشاغل بسائر ما ينافيها من العبادات الواجبة والمندوبة الموسعة والمباحات وغيرها.

وهو المحكيّ عن كثير من الأجلّة الأقدمين من مشايخ الشيعة وفقهاء الطائفة ، منهم : من نقل عنهم السيد الأجل رضي الدين على بن طاوس (١) كالشيخ الجليل

__________________

(١) حكاه في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٥٩ ؛ وجواهر الكلام ١٢ : ٣٥.


الفقيه عبيد الله بن عليّ الحلبي (١) في أصله الذي أثنى عليه الصادق عليه‌السلام عند عرضه عليه ، وعدّه الصدوق (٢) من الكتب المشهورة التي عليها المعوّل وإليها [ المرجع ].

والحسين بن سعيد الأهوازي (٣) ـ الذي هو من أصحاب الرضا والجواد والهادي عليهم‌السلام ـ وعن المحقق في المعتبر أنه من جملة الفقهاء المعتبرين الذين اختار النقل عنهم ممن اشتهر فضله وعرف تقدّمه في نقل الأخبار وصحّة الاختبار وجودة الاعتبار.

والشيخ النبيل أبي الفضل محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان الجعفي في كتابه الفاخر (٤) الذي ذكر في أوّله أنّه لا يروى فيه إلّا ما أجمع عليه وصحّ من قول الأئمة عليهم‌السلام.

والشيخ العظيم أبي عبد الله الحسين بن أبي عبد الله الواسطي أستاد الكراجكي قال في كتابه على ما نقل عنه السيد في بعض رسائله : أن سأل سائل وقال : أخبرونا عمن ذكر صلاة وهو في أخرى ، ما الذي يجب عليه؟ قال : يتمّ الذي هو فيها ويقضي ما فاته ، ثمّ ذكر خلاف المخالفين (٥).

ومنهم من حكاه الشهيد ، عنهم كقطب الدين الراوندي ونصير الدين حمزة

__________________

(١) غنية النزوع ١ : ٩٨ ؛ حكاه السيد بن طاوس في رسالته : ٣٤٠ ؛ ومفتاح الكرامة ٣ : ٣٨٦ ؛ وجواهر الكلام ١٣ : ٣٣.

(٢) الفقيه ١ : ٣٥٥ ، ذيل الحديث ١٠٢٩.

(٣) حكاه السيّد بن طاوس في رسالته : ٣٤١ ؛ وكشف الرموز ١ : ٢٠٨.

(٤) الجعفي صاحب الفاخر المعروف في كتب الرجال بأبي الفضل الصابوني ، حكاه السيّد بن طاوس في رسالته : ٣٣٩ ؛ وبحار الأنوار ٨٨ : ٣٢٧ ؛ ومفتاح الكرامة ٣ ٣٨٨ ؛ وجواهر الكلام ١٣ : ٣٤.

(٥) انظر مفتاح الكرامة ٣ : ٣٨٨ ؛ وجواهر الكلام ١٣ : ٣٤ ؛ ورسالة ابن طاوس : ٣٤٣.


الطوسي وسديد الدين محمود الحمصيّ ويحيى بن سعيد جدّ المحقق ونجيب الدين بن يحيى بن محمد والسيد ضياء الدين بن فاخر والشيخ أبي علي الحسن بن طاهر الصوريّ وعليّ بن عبيد بن بابويه منتجب الدين (١) ، وفي المصابيح عن عماد الدين محمد بن عليّ ، وفي رسالة ابن إدريس (٢) التي عملها في المسألة عن طائفة من العلماء الخراسانيين ، وعن محتمل كلام العمّاني ، واختاره السيد بن طاوس من المتأخرين والعلّامة في جملة من كتبه ووالده وولده وأكثر من عاصره ، نقله في المختلف (٣) والشهيدان في اللمعة والروضة (٤) ، وعن المقداد وتلميذه محمد بن شجاع القطان وأبي العباس أحمد بن فهد (٥) وعليّ بن هلال الجزائري تلميذه والصيمري والمحقق الكركي (٦) وولده والميسي وابن أبي جمهور الأحسائي ، والأردبيلي وصاحب المعالم في الاثنى عشرية وولده الشيخ محمد والشيخ أبي طالب شارح الجعفرية وشيخنا البهائي (٧) ووالده وتلميذه الشيخ جواد الكاظمي والمحدّث الكاشاني ، وابن أخيه الهادي والفاضل السبزواري والسيد ماجد والشيخ سليمان البحرانيين والعلّامة المجلسي ووالده والمدقّق الشيرواني والفاضل الماحوزي والمحقّق البهبهاني والعلّامة الطباطبائي.

وإليه ذهب والدي العلّامة وصاحب الجواهر وجماعة من مشايخه. وبالجملة هو

__________________

(١) انظر مفتاح الكرامة ٣ : ٣٨٨ ؛ وجواهر الكلام ١٣ : ٣٤ ؛ ورسالة ابن طاوس : ٣٤٣.

(٢) السرائر ١ : ٢٧٤.

(٣) مختلف الشيعة ٢ : ٤٣٥.

(٤) مفتاح الكرامة ٣ : ٣٨٧ ؛ روض الجنان : ١٨٨ ؛ الروضة البهية ١ : ٧٣٣.

(٥) الرسائل العشر : ١٠٩.

(٦) جامع المقاصد ٢ : ٤٩٣.

(٧) نسبه صاحب مفتاح الكرامة إلى كتاب حبل المتين ٣ : ٣٨٧.


المشهور بين المتأخرين ، بل عليه أكثرهم ، واستفاض عليه نقل شهرتهم ، بل في الذخيرة (١) : أنه مشهور بين المتقدمين أيضا ، وإن نسب فيه القول بالمضايقة إلى أكثرهم.

وفي مصابيح السيّد الأجلّ الطباطبائي نسبه إلى أكثر الأصحاب على الإطلاق ، بل المستفاد من صاحب الفاخر من قوله في خطبة الكتاب ، أنّه ما روي فيه إلّا ما أجمع عليه وصحّ من قول الأئمة عليهم‌السلام ، كما سمعت أنه إجماعي ، بل عن الفاضلين في المعتبر والمختصر النافع والمختلف ظهور دعوى إجماع المسلمين عليه في الجملة.

الثاني : وجوب الترتيب بمعنى تقديم الفائتة على الحاضرة مطلقا ما لم يتضيّق وقتها. نسب إلى القديمين والشيخين والسيّدين والقاضي والحلّي (٢) والحلبي (٣) وبعض المحدّثين.

وصرّح أكثر هؤلاء بل غير واحد منهم ـ كما قيل ـ بفورية القضاء ، حتّى حكي عنهم المنع من الأكل والشرب والنوم إلّا ما لا بدّ منه والتكسّب والاشتغال بغيرها في غير ضيق وقت الأداء ، بل عن الحلّي وابن زهرة (٤) الإجماع عليه.

وعن بعضهم تلازم الفورية والترتّب.

وعن ابن فهد (٥) التصريح بأنّ الترتّب هو القول بالمضايقة ، وعدمه هو القول

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٣٨٤.

(٢) الرسائل العشر : ١٠٩.

(٣) غنية النزوع ١ : ٩٨.

(٤) نفس المصدر.

(٥) الرسائل العشر : ١٠٩.


بالمواسعة ، ولذا لم يذكروا إلّا مسألة واحدة ، واستدلّوا بما يدلّ على كلّ واحد منهما للآخر. وأنكره بعض المحققين ، وجعلهما مسألتين ، وقال : من حكم بوجوب تقديم الفائتة فإنّما هو من حيث هو مع قطع النظر عن الفورية.

واستشعر من كلام الفاضل في التذكرة (١) حيث قال : إنّ أكثر علمائنا على وجوب الترتيب ، ثمّ قال : وجماعة من علمائنا ضيّقوا الأمر في ذلك وشدّدوا الأمر على المكلّف غاية التشديد. فإنّ نسبة الترتيب إلى الأكثر والتضييق إلى الجماعة مشعرة باختلاف المسألتين.

ونسب والدي العلّامة إلى بعض مشايخه القول بوجوب الترتيب مع اختياره المواسعة.

وربما يستشعر من التفصيل بين الفائتة الواحدة والمتعدّدة وفائتة اليوم وغيرها أنّ الكلام في مسألة الترتيب غير الكلام في التضييق والفورية.

ومن هذا يظهر أنّ شهرة الترتيب ـ لو سلمت ـ لا يوجب شهرة المضايقة ، بل لعلّ شهرة المواسعة لا كلام فيها بين أكثر المصنفين.

ثمّ إنّ أكثر من قال بالترتيب أو الفورية صرّحوا ببطلان الحاضرة المقدمة على الفائتة في السعة ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، كالمرتضى وابن البراج (٢) وأبي الصلاح والشيخ في المبسوط (٣) وابن إدريس. ومنهم من لم يصرّح بذلك ، ولكن لم يظهر منه صحتها ، كالمفيد والقديمين والشيخ في النهاية (٤) والخلاف (٥).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٨١.

(٢) المهذّب ١ : ١٢٦.

(٣) المبسوط ١ : ١٢٥.

(٤) النهاية ونكتها ١ : ٣٦٣.

(٥) الخلاف ١ : ٥٩٧.


وربما قيل بتلازم بطلانها للقول بالترتيب والفورية.

ونحوه وجوب العدول في الأثناء عند التذكّر ، وعن المرتضى والشيخ والقاضي والحلبيين والحلّي التصريح به ، بل عن الأخير الإجماع عليه ، وجعله الفاضل في المختلف (١) لازم القول بالمضايقة.

الثالث : التفصيل بالترتيب في الفائتة الواحدة وعدمه في المتعددة ، اختاره المحقق في كتبه الثلاثة وصاحب الكفاية وقوّاه الشهيد في غاية المراد (٢).

الرابع : الفرق بين فائتة اليوم وغيره وهو للفاضل في المختلف خاصة دون سائر كتبه ، ولم ينقل عن غيره أيضا ، عدا ما يحكى عن بعض شارحي الإرشاد.

الخامس : وجوب الترتيب في الفائتة الواحدة في يوم الذكر دون غيرها ، نقل عن ابن أبي جمهور.

السادس : الفرق بين الفائتة نسيانا وعمدا ، فيتضيّق للأولى دون الثانية ، وهو المحكيّ عن ظاهر ابن حمزة في الوسيلة (٣).

السابع : التفصيل بين المعيّن عدده من الفائت فالتضييق ، ومجهوله فعدمه. نقل عن الديلمي (٤). وربما نقل عنه القول الثاني. وربما استظهر منه رجوعه إلى الغالب.

ويحكى عنهم تفصيلات أخر لا عناية لذكرها.

والحقّ هو الأوّل ، لوجوه :

الأوّل : أصل البراءة.

__________________

(١) مختلف الشيعة ٢ : ٤٣٧.

(٢) غاية المراد ١ : ٢٠٣.

(٣) الوسيلة : ٨٤.

(٤) المراسم : ٨٧.


وهو تارة باعتبار البراءة عن وجوب التعجيل وحرمة التأخر ، لأنّه تكليف زائد على وجوب نفس الفعل ، فيصحّ نفيه بالأصل.

فإن قلت : الوجوب الموسع يضادّ المضيق ، وهو ـ أيضا ـ تكليف صحّ نفيه بالأصل ، فيعارض الأوّل.

قلت : ليس غرضنا إثبات الوجوب الموسّع بالأصل حتى يعارض فيه الأصلان ، بل المقصود نفي وجوب التعجيل وعدم حرمة التأخير ، ولا معارض له في نفسه من حيث هو فعل مجهول الحكم ، إلّا أنّه يفيد منضمّا إلى ما هو المعلوم إجمالا من الوجوب المردد بينهما فائدة الموسّع ، من قبيل نفي حرمة الترك التي هي فصل الوجوب فيما علم الرجحان والطلب مرددا بين الوجوب والاستحباب ، فإنّه وإن لم يثبت منه الاستحباب ، لعدم كونه مقتضى الأصل ، فإنّ مقتضاه ليس إلّا مجرد جواز الترك لا الاستحباب المأخوذ في ماهيّته جوازه قيدا للرجحان ، إلّا أنّ جميع هاتين القضيتين واعتبار تركيبهما يفيد فائدة الاستحباب.

ومن ذلك ما إذا علم انتقال عين من أحد إلى آخر ، مردّدا بين كونه بالبيع أو الإجارة ، فإنّ نسبة الأصل إلى نفيهما على السواء فيتعارضان ، فيرجع إلى ما يقتضيه الأصل في لوازمهما ، وهو بقاء الملكيّة الموافق لعدم البيع دون الإجارة لانتقال المنفعة على التقديرين.

وأخرى باعتبار البراءة عن الواجبات المتعدّدة اللازمة للقول بالمضايقة ، فإنّ القائل بالتضييق لا ينكر الوجوب في الآن الثاني عند العصيان بتركه في الأوّل ، وهكذا ثالثا ورابعا وظاهر أنّ الوجوب الثاني الذي لم يحصل المخالفة فيه بعد غير الأوّل الذي حصل فيه المخالفة والعصيان.

وأمّا على المواسعة ، فالواجب واحد ، وهو نفس الفعل.


والقول بأنّ الواجب في الموسع هو الأوّل أيضا ، والتأخير من جهة إذن الشارع في البدل سخيف جدّا ، كما حقّق في محلّه ، فالمجعول بحكم الشرع ليس إلّا أمرا واحدا محدودا بزمان معيّن موسع يتّجه عليه.

ولا يتوهّم أنّ ترجيح الموسع به مبنيّ على ترجيح ما يخالف الأصل الأقلّ على ما يخالف الأكثر ، وإن لم يكن الأقلّ داخلا في الأكثر ، وهو خلاف التحقيق على ما حرّرناه في الأصول.

لاندفاعه بما سبق من عدم كون المقصود إثبات الموسّع بالأصل عند الترديد بينه وبين ما يتضيّق فورا ففورا ، بل إثبات جواز التأخير وإن أفاد ضمّه إلى المعلوم الإجمالي فائدة الموسع كما عرفت.

وثالثة باعتبار البراءة عن وجوب تأخّر الحاضرة واشتراطها بالترتيب على الفائتة ، لأنّ الحقّ ترجيح أصل البراءة على أصل الاشتغال في شروط العبادة وأجزاءها ، لكونه مزيلا على ما بيّنّاه في محلّه ، وهذا الأصل حجة على من يقول ببطلان الحاضرة من أصحاب المضايقة عند البدأة بها.

الثاني : الاستصحاب ، فإنّ مقتضاه جواز الحاضرة المعلوم قبل تذكر الحاضرة بعده وعدم وجوب العدول عليه إذا كان الذكر في الأثناء ، ويتمّ بعدم القول بالفصل.

الثالث : العمومات (١) الدالّة بإطلاقها على جواز فعل الحاضرة في سعة وقتها وإن كانت عليه فائتة ، كقوله سبحانه ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (٢).

والإيراد عليه بأنّه لو تمّ لدلّ على تقديم الحاضرة ولا قائل به ، مدفوع بكون الأمر للوجوب التخييري قطعا ، إذ لا معنى للوجوب العيني إلى غسق الليل.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٥٦ ، الباب ٢ من أبواب قضاء الصلاة ، الرواية ١٠٥٧٤.

(٢) الإسراء (١٧) : ٧٨.


ونحوه قوله في صحيحة سعد (١) : إذا دخل الوقت عليك فصلّهما.

والإيراد بدلالته على وجوب المبادرة بالحاضرة حين دخول الوقت ، وهو خلاف الإجماع ، وكذا إطلاقه على حمله على الرجحان ، لأنّ القائلين بالمواسعة لا يقولون برجحان تقديم الحاضرة على من عليه فائتة ، فلا بدّ من تخصيصها بغير من عليه الفائتة.

مردود أيضا ، بمنع الدلالة على المبادرة ، إلّا على القول بإفادة الأمر الفور ، وهو ممنوع ، وعلى تسليمه فالإجماع قرينة على عدم إرادة الوجوب ولا الندب لو سلم الإجماع على عدمه أيضا ، ويكون محمولا على الوجوب التخييري ، مع أنّ الإجماع على عدم رجحان الحاضرة أوّل الوقت ممنوع ، بل لعلّه غير بعيد ، كما نصّ عليه بعض المحققين.

واستحباب تقديم الفائتة من باب الاحتياط والخروج عن شبهة الخلاف لا تنافي الرجحان الذاتي للحاضرة الذي ينظر إليه الأخبار ، مع أنه لو سلم تساويهما في التقديم ـ بل ورجحان الفائتة ـ فلا ينافي رجحان أوّل الوقت وفضيلته من حيث هو للحاضرة دون الفائتة ، ضرورة أنّ ليس لخصوص أول وقت الحاضرة فضيلة مخصوصة لفعل الفائتة فيه ، فهو من قبيل ما ورد من الأعمال والأدعية المخصوصة في أزمنة خاصة ، كما في الشهور المباركة ، ويزاحمها أعمال راجحة أخرى مطلقا ، أو بأسباب اتفق توافقها لها في الزمان ، فحينئذ إن ثبت دليل على أرجحية إحدى الجهتين فهو ، وإلّا حكم بالتخيير ، ولكلّ فضله المخصوص به.

وإطلاق ما دلّ على فضيلة أوّل الوقت للحاضرة ومطلوبية المبادرة إليها في أوائل أوقاتها.

وتوهّم عدم الرجحان مع وجوب الفائتة ، مدفوع بما علمت.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١١٩ ، الباب ٢ من أبواب المواقيت ، الرواية ٤٦٧٤.


وإطلاق ما ورد من استحباب الرواتب وقضاءها وغيرها من الصلوات الكثيرة والأعمال المخصوصة (١) ، سيما ما ورد في أزمنة خاصة (٢) ، وما ورد عموما وخصوصا في قضاء الرواتب وخصوص صلاة الليل مصرّحا فيه بأيّ وقت شاء (٣).

وما ورد في جواز قضاء صلاة النهار متى شاء ، كصحيحة ابن أبي يعفور وصحيحة ابن أبي العلاء (٤) وغيرهما.

وقد يستدلّ أيضا بإطلاق النصوص الموقّتة للحواضر ، كقوله عليه‌السلام (٥) : « إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر » الدال على صحّتها في أوائل أوقاتها ولو مع اشتغال الذمّة بالفائتة.

وإطلاق ما دلّ على وجوب قضاء الحاضرة إذا مضى من الوقت مقدار ما يسع الفعل (٦) ، إذ على المضايقة لا يتحقّق ذلك لمن عليه فوائت ، إلّا بمضيّ زمان يسع الجميع وإدراك ضيق الوقت وترك الأداء ، لأنّ صحّة الحاضرة مشروطة بفعل الفائتة ، فلا بدّ من مضيّ زمان يسع الشرط [ و ] المشروط في تحقق القضاء.

وفي الاستدلال بهما إشكال :

أمّا الأوّل : فلأنّ شرطية الوقت لا تنافي شرطية غيره وإن توقف على صرف بعض الوقت في تحصيله كالطهور واللباس ونحوهما ، أو ترتّبه على فعل موقت آخر كالظهر والعصر في الوقت المشترك.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٦٤ ، الباب ٤ من أبواب قضاء الصلوات ، الرواية ١٠٦٠٥.

(٢) نفس المصدر ٨ : ٢٦٣ ، الباب ٣ ، الرواية ١٠٦٠٠.

(٣) نفس المصدر ٨ : ٢٧٤ ، الباب ١٠ من أبواب قضاء الصلوات ، الرواية ١٠٦٤٢.

(٤) نفس المصدر ٤ : ٢٤٣ ، الباب ٣٩ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥٠٤١ و ٥٠٤٢.

(٥) نفس المصدر ٤ : ١٣٠ ، الباب ٤ من أبواب المواقيت ، الرواية ٤٧١٣.

(٦) نفس المصدر ٢ : ٢٥٩ ، الباب ٤٨ من أبواب الحيض ، الرواية ٢٣٦٠.


وأمّا الثاني : فلابتنائه على مانعية القضاء لوجوب الأداء ، وقد عرفت ما فيه ، كما في الناسي والنائم ، سيما إذا كان تأخير الفائتة إلى وقت الحاضرة بتقصيره.

الرابع : أنّ القول بالترتيب سيما على المضايقة التي هي رأي أكثر القائلين به ـ لو لا الجميع ـ يتضمّن حرجا عظيما وعسرا كثيرا مثله منفيّ في الشريعة السهلة السمحة بنصّ الآية (١) وغيرها من السنّة وأخبار الأئمة عليهم‌السلام (٢) ، سيما على الوجه الذي ذكره عمدهم كالسيّد والحلّي وأضرابهما من حرمة جميع الأضداد إلّا ما يقوم به الحياة ، لأنّ من عليه فوائت كثيرة لا يسعها يوم وليلة ، لزمه على الترتيب ضبط الأوقات وصرف الساعات والمرصد لآخر كل صلاة وحفظ بقية الوقت عن الزيادة بفعل الفريضة الحاضرة وضبط أنصاف الليل ومعرفتها ومعرفة طلوع الشمس وغروبها وضبطها ، وعلى الفورية صرف جميع الوقت في القضاء والتشاغل به وحرمة تركه في كل وقت ، وعلى حرمة الأضداد تحريم جميع المباحات من الأكل والشرب ومجالسة الناس وزيارة الإخوان والتكسّب والسفر وأمثال ذلك مما لا يحصى إلّا بقدر الضرورة الملجئة ، وكذا حرمة الأذكار والعبادات وبطلانها ، كلّ ذلك مشقّة شديدة وحرج عظيم وحيث إنّ الصلوات على وجه صحّتها فائتة من أكثر الناس بل جميعهم إلّا نادرا ، إذ قلّ من لم يتعلّق بذمّته فوائت كثيرة ولو لإخلال شرط وتسامح في دقائق صحّتها ، أو ترك تقليد سيما في عنفوان الشباب وأوائل البلوغ ، خصوصا النساء والعوامّ ، كما هو المشاهد في العيان ، فهذا الحرج الشديد يعمّ غالب البريّة من الرجال والنسوان والخدام وأهل الحرف والصناعات ، ولم يبق

__________________

(١) الحج : ٧٧ ، والمائدة (٥) : ٩ ، والبقرة (٢) : ١٨٥.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ١٦٧ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الرواية ٤٠١ و ٤٠٤ ؛ و ٢١٢ ، الباب ٩ من أبواب الماء المضاف ، الرواية ٥٤٣.


أهل بيت ولا أهل بلد غالبا إلّا لزمهم الاشتغال دائما بفعل الفوائت وترك المشاغل ، بل ينجرّ ذلك إلى تعطيل أمور جميع الناس واختلال معاشهم ومعادهم وشرائعهم وفوات مقاصدهم ، وهل يجوّز ذو بصيرة وقوع مثل تلك البليّة العامة والداهية العظيمة في عموم الأنام ، مع أنّ الله سبحانه يريد منهم اليسر ولا يريد بهم العسر.

وإناطة الأمر إلى قدر ما يلزم منه الحرج سخيفة بل غير معقولة ، لعدم انضباطه ، خصوصا باعتبار الحرج الحاصل من كثرة المشتغلين.

ثمّ يؤكّد ذلك ويعاضده بل يدلّ عليه عمل المسلمين من السلف والخلف من غير نكير في جميع الأعصار والأمصار من العلماء وأتباعهم وسائر الناس ، مع اشتغال ذمّة أكثرهم بفوائت كثيرة بل غير محصورة ، كما سمعت ، ومع ذلك ينامون ويتحاورون ويكتسبون ويسافرون ويصلّون في سعة الأوقات ويقيمون الجماعات في أوائلها ويزدحم عموم الناس فيها ويتنفّلون ، مع اشتهار كون الأمر يقتضي النهي عن الضدّ بينهم ، وما هذا إلّا لاشتهار المواسعة في عصر الأقدمين من أصحابنا.

وهكذا كلّ خلف عن سلف ومتأخّر عن متقدّم إلى زماننا كما عرفت في تحرير الأقوال ، ونصّ عليها في أصل الحلبي الذي رواه عنه جماعة كثيرة من أساطين الأصحاب والمشايخ بطرقهم المتكثرة ، ولعمري أنّ دعوى بعضهم الإجماع على المضايقة مع تلك الحال من أغرب الدعاوي ، كما ستسمعه ، إن شاء الله.

الخامس : الأخبار الدالّة بالخصوص على نفي المضايقة أو الترتيب :

منها : صحيحة عبد الله بن سنان (١) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إن نام رجل أو نسي أن يصلّي المغرب والعشاء الآخرة ، فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصليهما كلتيهما فليصلّهما ، فإن خاف أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء ، وإن استيقظ بعد الفجر

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٢٨٨ ، الباب ٦٢ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٨٢.


فليصلّ الصبح ثم المغرب ثم العشاء قبل طلوع الشمس.

ومنها : صحيحة أبي بصير (١) عنه عليه‌السلام ، وهي كالسابقة بزيادة ما في آخرها : « فإن خاف أن تطلع الشمس وتفوته إحدى الصلاتين فليصلّ المغرب ويدع العشاء الآخرة ، حتى تطلع الشمس ويذهب شعاعها ، ثم ليصلّها ».

والمناقشة فيهما بدلالتهما على امتداد وقت العشاءين إلى الفجر وهو مذهب العامّة ، فيقوّى احتمال ورودهما مورد التقيّة ، وبه يتطرق الوهن بما اشتملت عليه من الأحكام ، وعلى مرجوحية قضاء الفرائض عند طلوع الشمس ، وهو أيضا موافق لأكثر العامّة ، وعلى وجوب تقديم الحاضرة في سعة الوقت ، وهو خلاف الإجماع ، تدفع بما في الأوّل ـ مضافا إلى أنّ ورود جزء من الخبر مورد التقية لا توجب خروجه عن الحجية في غيره ـ من أنّ القول بامتداد وقت العشاءين إلى الفجر ليس مختصّا بالعامّة ، بل عليه جمع كثير من أصحابنا ، وهو الأظهر في الوقت الاضطراري لها ، كما في مورد الصحيحين.

وفي الثاني مما عرفت ، مضافا إلى أنّ ترك القضاء في الأوقات المكروهة قد يرجّح بمصلحة وهي هنا الاتّقاء عن العامّة وعدم جعله من علائم الرفض ، فالكراهة مع تلك المصلحة محمولة على الواقع.

وبما في الثالث من أنّ الإجماع قرينة الاستحباب ، ولو دلّ دليل على انتفاء الاستحباب أيضا ، فهو قرينة على الجواز ، دفعا لتوهّم الحظر.

ومنها : مرسلة جميل (٢) التي رواها ابن عيسى عن الوشّاء عن رجل عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : يفوت الرجل الأولى والعصر والمغرب وذكرها عند العشاء

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٢٨٨ ، الباب ٦٢ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٨١.

(٢) نفس المصدر : الرواية ٥١٨٤.


الآخرة ، قال : « يبدأ بالوقت الذي هو فيه ، فإنّه لا يأمن الموت ، فيكون قد ترك صلاة فريضة في وقت قد دخلت ، ثم يقضى ما فاته ، الأولى فالأولى ».

والرواية معتبرة ، مع أنّ مراسيله منجبرة بما حكي عن عليّ بن عبيد الله بن بابويه صاحب العصرة (١) : أنّ ابن عيسى في نوادره ـ التي عن الصدوق عدّها من الكتب المشهورة التي عليها المعوّل وإليها المرجع ـ رواه عن رجاله عن جميل عن الصادق عليه‌السلام ، بل عن البحار (٢) : روايته عن المحقق في المعتبر بإسناده عن جميل دلّت على عدم الترتيب وعدم المضايقة ، والأمر بتقديم الحاضرة مع عدم صراحته في الوجوب محمول في المورد بحكم الإجماع على الرجحان المحتمل في المقام كما مرّ.

وحمله على آخر وقت العشاء الآخرة لا وجه له ، مع أنّه في غاية البعد ، ولا يناسبه التعليل المذكور.

ومشاركة المغرب للعشاء في الوقت الاختياري ممنوع على مختارنا ، من ذهاب وقت المغرب بذهاب الحمرة ، كما عن جمع من أهل المضايقة ، مع أنّه على الاشتراك حمل المغرب على الليلة السابقة أقرب من حمله على آخر وقت العشاء ، بملاحظة التعليل حينئذ.

ومنها صحيحة الحلبي عن رجل فاتته صلاة النهار متى يقضيها؟ قال : « متى شاء ، إن شاء بعد المغرب وإن شاء بعد العشاء ».

وتخصيصه بالنوافل مجرد دعوى لا شاهد له ، ومقايستها بصلاة الليل المعروف بإرادة النافلة منها باطلة. واختصاص النافلة ببعض النوافل الليلية دون نافلة المغرب والعشاء ، لا دليل عليه.

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ١٣ : ٢٣.

(٢) بحار الأنوار ٨٨ : ٣٢٥ ، الباب ٣ ، الحديث ٤.


ونحوها صحيحة ابن مسلم ، قال : سألته عن الرجل تفوته صلاة النهار ، قال : « يقضيها إن شاء بعد المغرب وإن شاء بعد العشاء ».

ومنها : موثقة عمار (١) عن الصادق عليه‌السلام عن رجل تفوته المغرب حتى تحضر العتمة فقال : « إذا حضرت العتمة وذكر أنّ عليه صلاة المغرب فإن أحبّ أن يبدأ بالمغرب بدأه ، وإن أحبّ بدأ بالعتمة ، ثم صلّى المغرب بعد ».

وتقريب الاستدلال على مختارنا ظاهر كما مرّ ، وعلى القول بالاشتراك لا بدّ من الحمل على المغرب السابق.

ومنها ما رواه السيد الجليل على بن طاوس ـ رضوان الله عليه ـ في رسالته في المسألة عن كتاب الصلاة للحسين بن سعيد ما هذا لفظه : عن صفوان عن عيص بن القاسم (٢) ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل نسي أو نام عن الصلاة حتى دخل وقت صلاة أخرى ، فقال : « إن كانت صلاة الأولى فليبدأ بها ، وإن كانت صلاة العصر فليصلّ العشاء ثمّ يصلّى العصر ».

والرواية معتبرة ، بل قال بعض الأفاضل هو في أعلى درجات الصحّة.

وعدم وجوب تقديم العشاء الحاضرة على العصر الفائتة إجماعا قرينة الاستحباب ، مع ما في الفرق بين الظهر والعصر الفائتتين في وجوب التقديم والتأخير على الحاضرة من مخالفته للإجماع أيضا ، وأمّا في مجرد الرجحان فالمخالفة غير معلومة.

وربما يوجّه الفرق بتعميم الوقت الذي خرج لوقتي الفضيلة والإجزاء ، وحمل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٢٨٩ ، الباب ٦٢ من أبواب جواز قضاء الفرائض في وقت الفريضة ، الرواية ٥١٨٣.

(٢) مستدرك الوسائل ٦ : ٢٤٩.


وجوب تقديم الأولى على الأوّل بالنسبة إلى العصر والعشاء الحاضرة على العصر الفائتة على الثاني ، وفيه بعد لا يخفى ، بل ركاكة من وجوه.

وقد يقال : إنّ بعض الرواية شاهد للمواسعة وبعضها للمضايقة ، والواجب بعد ملاحظة عدم القول بالفصل من الطرفين الحمل على التخيير ومآله : ابدأ بالحاضرة ابدا بالفائتة ، وهو أيضا بعيد.

وربما ذكر وجوه آخر كلّها مشتركة في جواز تقديم الحاضرة على الفائتة.

ومنها : ما رواه السيد بن طاوس عن قرب الإسناد للحميري ، عن على بن جعفر عن أخيه الكاظم عليه‌السلام ، سألته عن رجل نسي المغرب حتى دخل وقت العشاء ، قال : « يصلّى العشاء ثمّ المغرب » وسألته عن رجل نسي الفجر حتى حضرت الظهر ، قال : « يبدأ بالظهر ثم يصلّي الفجر ، كذلك كلّ صلاة بعد صلاة » (١).

والأمر محمول على الاستحباب إجماعا ، مع أنّه ظاهر في الوجوب ورجحان تقديم العشاء الفائتة على الفجر خاصة ، ولعلّ وجهه خوف طلوع الشمس في بعض الصور الراجح تأخّرها عنه إلى بعد شعاعها اتّقاء عن العامّة ، فيفوته رجحان تعجيل الفائتة ، بخلاف الفجر ، إذ الفرض عدم ضيق وقته ، فلا يخاف فوته ، وإلّا وجب تقديمها إجماعا.

ومنها : ما نقله ابن طاوس في الرسالة (٢) عن أمالى السيد أبي طالب عليّ بن الحسين الحسني بسنده إلى جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وكيف أقضي؟ » قال : « صلّ مع كلّ صلاة مثلها ».

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٥٥ ، الباب ١ من أبواب قضاء الصلوات ، الرواية ١٠٥٧٣.

(٢) رسالة السيد ابن طاوس : ٣٤٤ ؛ مستدرك الوسائل ٦ : ٤٢٩ ، الباب ١ من أبواب قضاء الصلوات ، الرواية ٧١٥٣.


ودلالته كما عن السيّد صريحة على المواسعة.

ومنها : موثقة عمّار في حديث طويل (١) عن الرجل يكون عليه صلاة في الحضر ، هل يقضيها وهو مسافر ، قال : « نعم ، يقضيها بالليل على الأرض ، فأمّا على الظهر فلا ».

ولفظة « على » ظاهرة في الوجوب فيختصّ بالفريضة دون النافلة ، مضافا إلى النهي عنها على الظهر ، وتبادر الفريضة قطعا من الوحدة المستفادة من التنكير عند الترديد بينها وبين النافلة ، بل لعلّ وجه السؤال ـ كما عن بعضهم ـ اختلاف كيفية فريضة الحاضر الفائتة والمسافر في الإتمام والقصر ، فيتخيّل حرمة إتمام الواجب عليه قضاء في السفر.

ودلالتها على المواسعة ظاهرة ، لأنّه على التضييق إن كان المشي ضرورة فيجوز فعل القضاء ـ حينئذ ـ على الراحلة كالأداء ، وإلّا كان وجب عليه النزول أو الإقامة حتى يفرغ عن القضاء.

ولعلّ أمره بالقضاء بالليل مطلقا ـ كما قاله بعض الأجلّة ـ لعدم تيسر النزول غالبا للمسافر في النهار ، أو لأنّ في الليل من الأفعال ما ليس في غيره ، فهو محمول على المرجوحيّة.

وعليها ينزل أيضا خبر آخر لعمّار (٢) ، الذي رواه الشيخ والسيّد من أصل محمد بن على بن محبوب ، قال : سألته عن الرجل ينام عن الفجر حتى تطلع الشمس وهو في سفر ، كيف يصنع؟ أيجوز له أن يقضي بالنهار؟ قال : « لا يقضي صلاة نافلة ولا فريضة بالنهار ، ولا يجوز ولا يثبت له ، ولكن يؤخّرها فيقضيها بالليل ».

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٦٨ ، الباب ٦ من أبواب قضاء الصلوات ، الرواية ١٠٦٢٢.

(٢) نفس المصدر ٤ : ٢٧٨ ، الباب ٥٧ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٥٩.


إلّا أنّه عن الشيخ بعد روايته نسبته باعتبار صراحته في الحرمة إلى الشذوذ بمخالفته الكتاب وإجماع الأمّة.

ومنها : ما في صحيحة زرارة : « فإن خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بالمغرب ، فصلّ الغداة ثم صلّ المغرب والعشاء ، ابدأ بأوّلهما ، لأنّهما جميعا قضاء أيهما ذكرت فلا تصلّهما إلّا بعد شعاع الشمس ». قال : قلت : لم ذاك؟ قال : « لأنّك لست تخاف فوتها » (١).

بناء على إرادة ذهاب شعاعها من تلك العبارة في الأخبار المصرّحة بكراهة التنقّل عند طلوع الشمس وقبل ذهاب شعاعها ، وسمعت بعضها ، إلّا أنّ المشهور ـ كما قيل ـ استثناء قضاء الصلاة بل ذوات الأسباب ـ مطلقا ـ من حكم الأوقات المكروهة ، ولعلّ النهي عنها محمول على تفاوت مراتب الرجحان وأولوية التأخير كما قيل.

ومنها : ما دلّ على جواز النافلة على من عليه فائتة ، كصحيحة أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام (٢) ، سألته عن رجل نام حتى طلعت الشمس ، فقال : « يصلّى ركعتين ، ثمّ يصلّى الغداة ».

وفي حديث رقود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآتي تقديمه قضاء ركعتي النافلة على قضاء الفريضة.

والخدش في الأوّل بعدم القائل باستحباب تقديم ركعتين على القضاء ، ردّ بعدم ثبوت الإجماع على عدم استحباب ذلك ، وعدم ذكره لا يدلّ على العدم ، ولا استبعاد في ذلك في المندوبات.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٢٩١ ، الباب ٦٣ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٨٧.

(٢) نفس المصدر ٤ : ٢٨٤ ، الباب ٦١ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٧١.


ومنها : ما ورد في رقود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض أسفاره بالليل عن صلاة الفجر لغلبة النوم عليه وعلى أصحابه ، ففي صحيحة ابن سنان (١) : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رقد فغلبته عيناه فلم يستيقظ حتّى آذاه حرّ الشمس ، ثمّ استيقظ فعاد ناديه » أي مكانه الذي كان فيه أصحابه ، « فمكث ساعة ».

وفي مضمرة سماعة (٢) : « تنحّيه عنه قبله ».

وفي الصحيح (٣) : مخاطبته قبل القضاء لبلال ، واستماع جوابه وأمر الأصحاب بالتنحي عن مكان الغفلة ، فإنّ فيه عند نزوله في بعض أسفاره : من يكلؤنا ، فقال بلال : أنا فنام وناموا حتى طلعت الشمس ، فقال : « يا بلال ما أرقدك؟ » فقال : يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بأنفاسكم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قوموا فنحّوا عن مكانكم الذي أخذتكم فيه الغفلة ، وقال : يا بلال! أذّن. فأذّن ، فصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتي الفجر ، وأمر أصحابه ، فصلّوا ركعتي الفجر ، ثم قام فصلّى بهم الصبح » الحديث.

وفي آخر (٤) ، قال : تنحّوا من هذا الوادي الذي أصابتكم فيه هذه الغفلة ، فإنّكم نمتم بوادي الشيطان ، ثم توضّأ ، ـ إلى آخره.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٢٨٣ ، الباب ٦١ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٧٠ ؛ وفي الاستبصار ( ١ : ٢٨٦ ، الرواية ١٠٤٩ ) نقل الرواية هكذا : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رقد فغلبته عيناه فلم يستيقظ حتّى آذاه حرّ الشمس ثم استيقظ فركع ركعتين ثمّ صلّى الصبح فقال : يا بلال ما لك؟ فقال بلال : أرقدني الذي أرقدك يا رسول الله ، قال : وكره المقام وقال : نمتم بوادي الشيطان.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٢٦٧ ، الباب ٥ من أبواب قضاء الصلوات ، الرواية ١٠٦٢٠.

(٣) نفس المصدر ٤ : ٢٨٥ ، الباب ٦١ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٧٥.

(٤) مستدرك الوسائل ٣ : ١٦٠ ، الباب ٤٦ من أبواب المواقيت ، الرواية ٣٢٦٤.


إلى غير ذلك ، مما يظهر منه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبادر إلى القضاء زيادة على ما فيه من تقديم قضاء النافلة. وكلّ ذلك تنافي المضايقة.

وربما يستند بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأذان والإقامة أيضا.

وفيه أنّهما من مقدمات الصلاة ، ولا بأس بها عند أهل المضايقة ولو ندبا.

والقدح في تلك الأخبار بأنها توجب القدح في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيجب طرحها ، كالأخبار المتضمّنة للسهو منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من أحد الأئمة عليهم‌السلام (١) ، وربما علّل ذلك ـ كما في الجواهر (٢) وغيره ـ بما دلّ من الآيات (٣) والأخبار على طهارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته عليهم‌السلام من جميع الأرجاس والقبائح والعيوب ، وعصمتهم من العثار والخطل في القول والعمل ، وبلوغهم إلى أقصى مراتب الكمال ، وأفضليتهم ممن عداهم في جميع الأحوال والأعمال ، وأنّهم تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم (٤) ، وأنّ حالهم في المنام كحالهم في اليقظة ، وأنّ النوم لا يغيّر منهم شيئا من جهة الإدراك والمعرفة ، ولا يصيبهم لمّة الشيطان (٥) ، وأنّ ملائكة الليل والنهار كانوا يشهدون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة الفجر ، وأنّهم ما من يوم ولا من ساعة ولا وقت صلاة إلّا وهم ينبّهونهم ليصلّوا (٦) ، وأنّهم كانوا مؤيّدين بروح القدس يخبرهم ويسدّدهم ولا يصيبهم

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٠١ ، الباب ٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الرواية ١٠٤٢٤ و ١٠٤٢٨ و ١٠٤٢٩.

(٢) جواهر الكلام ١٣ : ٧٠.

(٣) ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) الأحزاب (٣٣) : ٣٣.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٣ ؛ وصحيح البخاري ٤ : ٢٣١ ، باب كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه.

(٥) كشف الغمّة ٣ : ٣٠٢.

(٦) وسائل الشيعة ٤ : ٢٨٥ ، الباب ٦١ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٧٥.


الحدثان (١) ، وأنّهم ليسوا أقلّ من الديكة التي تصرخ في أوقات الصلاة وفي أواخر الليل ، لسماعها صوت تسبيح ديك السماء الذي هو من الملائكة ، وآخر تسبيحه في الليل بعد طلوع الفجر : ربّنا الرحمن لا إله غيره » إلى غير ذلك ، سيما مع تضمّن بعض أخبار الرقود قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما نمتم بوادي الشيطان (٢) ، وقد دلّ على أنّ منشأ نومهم تسلّط الشيطان ، وهو تعالى عنه علوّا كبيرا.

مخدوش جدّا ، لمنع كون رقوده قدحا فيه ، بل قال بعض المحقّقين هو رحمة للأمّة ، كما ورد في بعض هذه الأخبار ، لئلّا يعيّر العباد بعضهم بعضا ، نظير تزويجه لزينب في قوله تعالى ( زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ ) (٣).

وبالجملة : إنامته سبحانه له لا يوجب قدحا فيه ، سيما إذا كانت لمصلحة وطرف المصلحة كثيرة لا يحصيها ، وعدم علمنا بها بعينها في المقام لا يبيح طرح الأخبار المعتبرة.

والوجوه المذكورة غير متّجهة ، لأنّ غلبة النوم الطبيعي الغير الاختياري ليست من الأرجاس والقبائح ، ولا من العثار والخطل ، إذ لا تكليف معه ، فلا عصيان فلا قبح ولا رجس ، وهل هو إلّا كحال عدم تشريع الصلاة.

ولا ينافي رقوده بلوغهم أقصى مراتب الكمال وإلّا كان اللازم تنزّههم عن مطلق النوم المانع عن العبادات والصلوات المندوبات ، ولا أفضليتهم ممّن عداهم في مشاركتهم إيّاهم في صفة طبيعية ، وقياس النوم بالسهو باطل.

__________________

(١) بصائر الدرجات ٢ : ٩٤.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ٢٨٣ ، الباب ٦١ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٧٠.

(٣) الأحزاب (٣٣) : ٣٣.


ومنه كما قيل ظهور الفرق عند الأصحاب بينهما بردّهم أخبار السهو وعدم تجويزه الإمامية ، عدا ما في المحكيّ عن أبي علي الطبرسي عن بعضهم من تجويزه السهو والنسيان على الأنبياء في غير ما يؤدّونه عن الله تعالى مطلقا ، ما لم يؤدّ ذلك إلى الإخلال بالعقل ، كما جوّزوا عليهم النوم والإغماء الذين هما من قبيل السهو ، ولم يردّ أحد أخبار النوم عن الصلاة ، وفي الذكرى لم أقف على رادّ لهذا الخبر من حيث توهّم القدح في العصمة ، بل عن صاحب رسالة نفي السهو وهو السيّد المرتضى التصريح بالفرق بين السهو والنوم ، بل ربما يظهر منه نفي ذلك كذلك بين الإمامية ، كما عن والد البهائي في بعض المسائل المنسوبة إليه أنّ الأصحاب تلقّوا أخبار نوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصلاة بالقبول.

ولا يستلزم تيقّظ قلبه عدم إحساسه الوقت في النوم ولا استواء حالتي النوم واليقظة وعدم تغيّر شي‌ء له ولو من جهة الإدراك ، وإن ورد فيه خبر ، فهو على معنى عدم تغيّر ما في عادة الناس من نوم قلوبهم واستيلاء الخيال الاضطراري عليها وغفلتها عن شئون تلك النشأة ، فإنّ حالة النوم ولو للحجج المعصومين غير حالة اليقظة ، وإلّا لم يسترح به البدن ، وليس هو مجرّد عدم إبصار المحسوسات وعدم سماع الأصوات اللذان يحصلان في اليقظة أيضا ، بغضّ العينين وسدّ الأذنين ، بل هو تعطيل النفس عن التصرفات البدنية والإدراكات الحسّية ، وفرقهم عن غيرهم في عدم تعطّل نفوسهم القدسية عن تصرفاتها وعدم غفلتهم عن الأعمال القلبية والإدراكات العقلية دون غيرهم ، وهو معنى : ينام عينه ولا ينام قلبه.

والالتفات إلى وقت الصلاة من المدركات الحسّية ، فلا ينافي عدم نوم قلبه عدم التفاته إليه ، وإن كان على خلاف عادتهم بمشيئته سبحانه.

وما دلّ على شهود الملائكة معهم عند وقت كلّ صلاة غايته الدلالة عليه عند


انتباههم ، وليس نصّا على ذلك ولو في حال نومهم في جميع الأوقات ، بحيث يعارض صريح مدلول أخبار الرقود.

والنقض بحكاية الديكة أعجوبة ، فإنّ كل مخلوق تيسّر لما خلق له ، وإلّا لزم فضلها على المؤمنين الذين يتفق لهم ذلك أحيانا بلا كلام ولا استبعاد.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما نمتم بوادي الشيطان » فلا يدلّ على أنّ منشأ نومهم تسلط الشيطان ، مع أنّ سلطانه على الذين يتولّونه ، بل هو إخباره بنحوسة هذا الوادي ، لارتباط له بالشيطان ، من قبيل ما ورد من نحوسة بعض البلاد كالبصرة ، لعدم قبولها الولاية ، وتأثير نحوسته الذاتية في أصحابه غير إغواء الشيطان لهم وتسلّطه عليهم.

احتجّ أصحاب المضايقة بوجوه :

الأوّل : الإجماع المحكيّ نقله عن الشيخ والحلّي وابن زهرة (١) ، وأنت بعد الإحاطة على ما حرّرته من تعداد القائلين بالمواسعة من القدماء والمتأخرين وذكر مخالفتهم بعد الاستقراء والاستقضاء واشتهار القول بالسعة بين الأوائل والأواخر من أعيان الإمامية وعظماء الأصحاب ، وسمعت من صاحب الذخيرة نقل الشهرة المتقدّمة كالمتأخرة المحقّقة عليه ، وعن صاحب المفاتيح نسبته إلى أكثر الأصحاب على الإطلاق ، وعن الفاضلين ظهور دعوى إجماع المسلمين عليه في الجملة ، وعن صاحب العصرة أن ادّعاه الشيخ الإجماع العجيب تراه لم يقيّد بقول الشيخين المتقدّمين أي الصدوقين وسلفهما ، إذ لم يعدّهما من الأصحاب ، أو لم يبلغه قولهما أو قول سلفهما ، وعن المحقق الشيخ عبد العالي في تعليق الإرشاد أنّه قال : كلام ابن إدريس غير صريح في دعوى الإجماع على المضايقة ، لأنّه يحتمل أن يراد به الإجماع على أنّ الأدلّة التي ذكرها حجة ، لا أنّ ما استدلّ عليه من هذه المسألة

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ١٣ : ٧٧.


انعقد الإجماع عليه ، واستجوده بعض الأفاضل.

وربما يطعن عليه أنّه مخلط لا يعتمد على تصنيفه ، وربما يدّعي الدعوى ويذكر فيها الإجماع ، ثم ينقضها في مكان آخر قريب منه ويدّعي فيها الإجماع ، وعدّ منه مسائل كذلك ، ونحوه إجماع ابن زهرة ، إذ لا يخفى على الخبير حاله وحال غيره من إجماعاته.

وبالجملة : ترى دعوى الإجماع في مثل تلك المسألة مع اختلاف من ذكرناهم ، على عظم أقدارهم وشهرة آثارهم ممن تقدّم وتأخّر ، من أغرب الدعاوي ، بل كما قيل : كثرة القائلين بالمواسعة أقرب إلى دعوى الإجماع من المضايقة ، إذ أرباب المضايقة المقطوع بفتواهم بها بالنسبة إلى الأولى نذر قليل ، بل لم يعرف عن بعضهم إلّا بالنقل كالقديمين وليس هو كالعيان ، سيما مع ملاحظة السيرة الجارية في الأعصار والأمصار على المواسعة كما مضى.

الثاني : أصالة الاشتغال والاحتياط في البراءة في الفائتة والحاضرة.

والجواب أنّ أصل البراءة وعدم اشتراط العبادة (١) يزيل أصل الاشتغال على ما حرّرناه في الأصول ، مع أنّ أصل الاشتغال غير جار في الفائتة على القول به أيضا.

الثالث : قوله سبحانه ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (٢) ، فإنّه ورد في الفائتة ، حكاه في الذكرى (٣) عن أكثر المفسّرين لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من نام عن صلاة أو نسيها يقضها إذا ذكرها ، إنّ الله تعالى قال ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) » (٤).

__________________

(١) كذا.

(٢) طه (٢٠) : ١٤.

(٣) ذكرى الشيعة ٤ : ٢٠٥.

(٤) مسند أحمد ٣ : ١٠٠ ؛ سنن الدارمي ١ : ٢٨٠ ؛ صحيح مسلم ١ : ٤٧١ ، الحديث ٦٨٠ ؛ سنن ابن ماجة ١ : ٢٢٨ ، الحديث ٦٩٨ ؛ سنن أبي داود ١ : ١١٩ ، الحديث ٤٣٥ ؛ سنن النسائي ١ : ٢٩٤ ؛ السنن الكبرى ٢ : ٢١٨.


ودلّت عليه صحيحة زرارة المتقدّمة في رقود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرها ، فالمراد بالذكر في الآية التذكّر من النسيان ، ويكون معناها : « أقم الصلاة وقت ذكر صلاتي » ، على أن يكون المضاف مقدرا أو وقت ذكر الصلاة ، بناء على أنّ المذكر هو الله ، كما ورد أنّ الذكر والنسيان مما لا صنع للعباد فيهما ، فدلّ على الفور ، سيما مع استدلال الإمام عليه‌السلام به على الفورية ، كما في صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام : « إذا فاتتك صلاة فذكرتها في وقت أخرى ، فإن كنت تعلم أنّك إذا صلّيت التي فاتتك كنت عن الأخرى في وقت ، فابدأ بالتي فاتتك ، فإنّ الله عزوجل يقول ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) ».

والجواب : أنّ حمل الآية على المعنى المذكور ، أي الذكر بعد النسيان ، خلاف الظاهر وأبعد المعاني الذي ذكرها المفسّرون ، ككونه بمعنى العبادة ، أي لعبادتي من باب عطف الخاصّ على العامّ الذي قبله ، وهو قوله تعالى ( فَاعْبُدْنِي ) ، لما في الصلاة التي هي عمود الدين من شدة الاهتمام ، أو لما فيها من ذكري ، كقوله تعالى : ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) (١) ، وقوله تعالى ( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ) (٢) ، وقوله تعالى ( يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً ) (٣) ، أو بمعنى القربة ، أو لذكري خاصّة غير مشوب برياء ، أو ليكون ذكرا لي ، أو لذكري لها وأمري بها في الكتب ، أو لأذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق ، أو بالمغفرة ، أو بالمعونة ونحوها ، كما قال عزوجل ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) (٤) ، فهو من إضافة المصدر إلى الفاعل.

__________________

(١) الجمعة (٦٢) : ٩.

(٢) البقرة (٢) : ٢٣٩.

(٣) آل عمران (٣) : ١٩١.

(٤) البقرة (٢) : ١٥٢.


وعن الطبرسي (١) تعميم الصلاة في الآية للحاضرة والفائتة ، حاكيا له عن أكثر المفسرين ، راويا له عن الباقر عليه‌السلام ، كما حكي عن الشيخ الذي هو من أصحاب المضايقة في تبيانه (٢) ، ونسبته معنى التذكر بعد النسيان إلى قيل : تمريضا له.

والاستشهاد لإرادة الفائتة بتعليل النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأخبار بها غير متّجه ، لأنّه على بقاء الصلاة على عمومها بالنسبة إلى الحاضرة والفائتة يتمّ التعليل على أحد المعاني المذكورة بإطلاق الأمر بها في الآية ولو خرج وقتها ، وعدم اختصاصها بما دام الوقت.

سلّمنا اختصاصها بالفائتة ، فلا يدلّ على أنّ الذكر فيها بمعنى الذكر بعد النسيان ، لإمكان كون المراد بها إيجاب القضاء الذي هو بفرض جديد ، فلا يدلّ على المضايقة ، سلّمنا أنّه بمعنى الذكر بعد النسيان ، فلا يدلّ على التوقيت ، بل يمكن إرادة بيان سببية الذكر للوجوب ، وابتداء حصوله فيه ، كقولهم : إذا شككت في المغرب فأعد ، وإذا أفطرت اقض صومك ، فلا يفيد الفور أيضا.

سلّمنا أنّه يدلّ على التوقيت ، فلا يدلّ على المضايقة أيضا ، بل مفادها وجوب القضاء في زمان التذكّر ، لا في أوّله ، بل لو سلّم أنّ التوقيت من لفظة « إذا » ، وهو في قوّة أقم الصلاة إذا ذكرت ، فلا يدلّ على الفورية أيضا ، كما ستعرف.

قيل : التعليل بالآية في صحيحة زرارة وغيره لوجوب البدأة بالفائتة ، دلّ على أنّ المراد توقيت وجوب القضاء أوّل أزمنة الذكر في الآية.

قلنا : صرف الآية عن ظاهرها ليس بأولى من حمل الخبرين على كون التعليل لمجرّد وجوب الفائتة وكونها غير موقتة بوقت خاصّ ، كما ورد مثله في أخبار

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٦.

(٢) التبيان ٧ : ١٦٥.


كثيرة ، مع أنّ صحيحة زرارة المتضمّنة لهذا التعليل مصرّحة بعدم تعجيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقضاء ، وتحوّله من مكانه وتنفّله وتكلّمه ثم إتيانه بالقضاء ، فهو قرينة ظاهرة للحمل المذكور.

مضافا إلى أنّ الصلاة تشمل النوافل ، وتعجيل قضاءها ليس بواجب ، وليس حمل الأمر على الاستحباب مع شيوعه فيه في الكتاب والسنّة بحيث جعل مجازا مساويا للحقيقة ، وإبقاء العموم على حقيقته من غير ارتكاب تخصيص بعيدا ، بل ولا أبعد من التخصيص ، فيحمل الأمر في الخبر المعلّل بالآية على الرخصة أو مطلق الطلب الأعمّ من الوجوب اليقيني في البدأة بالفائتة وقت الحاضرة ، دفعا لتوهم منع الجواز وتوهم الرجحان الحاصل من تراكم الأخبار في فضيلة أول الوقت.

الرابع : أنّ الأمر بالقضاء يقتضي الفور ، كما حكى المرتضى عليه الإجماع في أوامر الكتاب والسنّة.

والجواب منعه ، كما عليه المعظم وتبيّن في محلّه ، مضافا إلى أنّ أدلّة المواسعة في المقام تدلّ على إرادة المطلق.

الخامس : الأخبار المتكثرة الدالّة على وجوب القضاء عند حصول التذكّر أو التيقّظ ، وفي جملة منها أنّه وقته ، وهو ظاهر في أوّل زمان الذكر ، كصحيحة زرارة (١) : أربع يصلّيها الرجل في كلّ ساعة ، صلاة فاتتك [ ف ] متى ذكرتها أدّيتها ، وصلاة ركعتي طواف الفريضة ، وصلاة الكسوف ، والصلاة عن الميّت ، هذه يصلّيهنّ [ الرجل ] في الساعات كلّها.

وصحيحة ابن عمار : خمس صلوات لا يترك على كلّ حال ، إذا طفت بالبيت ، وإذا أردت أن تحرم ، وصلاة الكسوف ، وإذا نسيت تصلّي إذا ذكرت ، وصلاة الجنازة.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٧٠ بتفاوت.


ورواية يعقوب التي وصفها بعضهم بالصحيحة عن الرجل ينام عن الغداة حتى تبزغ الشمس ، أيصلّي حين يستيقظ أو ينتظر حتى تبسط الشمس؟ قال : يصلّي حين يستيقظ. قلت : يوتر أو يصلّي الركعتين. قال : يبدأ بالفريضة (١).

والصحيحة الأخرى لزرارة : إذا نسي الرجل صلاة أو صلّاها بغير طهور وهو مقيم أو مسافر فذكرها. فليقض الذي وجب عليه ولا يزيد ، ولا ينقص ، من نسي أربعا فليقض أربعا حين يذكرها ، مسافرا كان أو مقيما (٢).

وصحيحته الثالثة في قول الله تعالى ( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (٣) ، قال : يعني مفروضا ، وليس يعني وقت فوتها ، إن جاز ذلك الوقت ثم صلّاها لم يكن صلاة مؤدّاة ، ولو كان ذلك كذلك لهلك سليمان بن داود ، حين صلّاها لغير وقتها ، ولكنّه متى ما ذكرها صلّاها » ، إلى أن قال : « فإن استيقنت فعليك أن تصلّيها في أيّ حال كنت ».

وخبر نعمان الرازي (٤) عن رجل فاته شي‌ء من الصلوات ، فذكر عند طلوع الشمس وعند غروبها ، قال : « فليصلّ حين ذكره ».

وموثقة ابن عمار (٥) عن رجل صلّى بغير طهور ، أو نسي صلاة لم يصلّها ، أو نام عنها ، قال : « يصلّيها ، إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها ليلا أو نهارا ».

والنبويّ : « من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها » وفي بعض الروايات

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٢٨٤ ، الباب ٦١ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٧٣.

(٢) نفس المصدر ٨ : ٢٦٩ ، الباب ٦ من أبواب قضاء الصلوات ، الرواية ١٠٦٢٤.

(٣) النساء (٤) : ١٠٣.

(٤) وسائل الشيعة ٤ : ٢٤٤ ، الباب ٣٩ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥٠٤٥.

(٥) التهذيب ٢ : ٢٧١ بتفاوت.


زيادة : « فذلك وقتها » ، وفي بعضها (١) : « من فاتته صلاة فوقتها حين يذكرها ».

والجواب عنها [ أوّلا : ] إنّ توقيت فعل القضاء بالتذكر ، بقولهم يصلّي إذا ذكرها ، أو حين ذكرها ، أو حين يستيقظ ، وأمثال ذلك ، غايته كون أزمنة الذكر وقت الفعل ، وأما أنّه أوّلها فلا ، إلّا على القول بكون الأمر للفور الممنوع وهل هو إلّا كقوله تعالى ( وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ ) (٢). وقول الآمر : اشتر اللحم إذا دخلت السوق أو حين دخلته ، وأكرم زيدا إذا جاء أو متى جاء ، كيف وإلّا لزم عدم صدق الذكر على التذكّر الثاني في الآنات المتأخرة ، وعدم دلالة تلك الأخبار على وجوب القضاء لو أخلّ في أوّل الأزمنة ، وهو كما ترى ، بل كان قوله : « فذلك وقتها » بعد قوله : « يصلّي إذا ذكرها » تحديد وقته بالآن الأوّل ، وخروج وقت القضاء وانقضائه الذي هو خلاف الضرورة.

ويعارضها ما دلّ على بقاء وجوبه في جميع الأوقات ، كخبر أبي بصير (٣) : « خمس صلوات يصلّيهنّ في كلّ وقت : صلاة الكسوف والصلاة على الميّت وصلاة الإحرام والصلاة التي تفوت وصلاة الطواف من الفجر إلى طلوع الشمس وبعد العصر إلى الليل ».

والمحكيّ عن أصل الحلبي (٤) : « خمس صلوات يصلّيهنّ على كلّ حال ، متى

__________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٤٧٧ ، الحديث ٣١٥ ؛ سنن الدارمي ١ : ٢٨٠ ؛ مسند أحمد ٣ : ١٠٠ ؛ سنن البيهقي ٢ : ٢١٨ بتفاوت.

(٢) البقرة (٢) : ١٩٦.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ٢٤١ ، الباب ٣٩ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥٠٣٣.

(٤) مستدرك الوسائل ٣ : ١٤٨ ، الباب ٣١ من أبواب المواقيت ، الرواية ٣٢٣١ ؛ تمام الحديث هكذا : السيّد عليّ بن طاوس في رسالة المواسعة والمضايقة نقلا عن أصل عبيد الله بن عليّ الحلبي المعروض على الصادق عليه‌السلام ، قال : « خمس صلوات يصلّيهنّ على كلّ حال ، متى ذكره ومتى أحبّ : صلاة فريضة نسيها ، يقضيها مع غروب الشمس وطلوعها وصلاة ركعتي الإحرام ، وركعتي الطواف ، والفريضة ، وكسوف الشمس ، عند طلوعها وعند غروبها ».


ذكرت ومتى وجب صلاة فريضة نسيتها ». الحديث.

وأصرح منها ما في آخر صحيحة زرارة (١) بطريقه الآتية الآمرة بصلاة الفجر الحاضرة وتأخير العشاءين إلى بعد شعاع الشمس ، تعليلا بأنّك لست تخاف فوتها.

فالإجماع والأخبار المتقدمة قرينة على عدم إرادة التوقيت بأوّل الزمان ، ولو على فرض دلالته عليه ، بل المراد جميع أزمنة الذكر ، بل من تلك الأخبار الموقّتة ما تضمّن التصريح بالتوسعة ، كصحيحة يعقوب (٢) ، فهو قرينة واضحة على إرادة خلاف ما ذكروه ، ويؤكّده ما ورد في قضاء الصلاة والصوم معا بهذه اللفظ الذي لا يمكن إرادة أوّل الزمان منه ، بملاحظة قضاء الصوم الغير المعجّل إجماعا ، كما روي في من أجنب في رمضان ، فنسي أن يغتسل حتى خرج رمضان : أنّ عليه أن يقضي الصلاة والصوم إذا ذكر.

ويحتمل قويا ـ بل لعلّه الظاهر ـ أنّ تلك الأخبار منساقة لبيان عدم اختصاص وقته بزمان ، بل هي كسائر الصلوات الغير الموقّتة التي عدّها معها في الصحيحين الأولين كغيرهما مما أشرنا إلى بعضه.

ويؤمي إليه ما في الصحيحة الأولى ، من تعميم الأوقات بالساعات كلّها. وما في الصحيحة الثالثة : « بأيّ حال كنت » ، وفي موثقة ابن عمار : « بأيّ ساعة ذكرها ليلا ونهارا ، وإشعار قوله : « وذلك وقتها ووقتها حين يذكرها ».

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٢٩١ ، الباب ٦٣ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٨٧.

(٢) نفس المصدر ٢ : ٢٥٨ ، الباب ٣٩ من أبواب الجنابة ، الرواية ٢٠٩٩ ؛ و ١٠ : ٦٥ ، الباب ١٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الرواية ١٢٤١.


مضافا إلى ظهور بعض تلك الروايات في كونه في بيان الرخصة في عموم الأوقات حتى المكروهة ، دفعا لتوهّم الحظر فيها ، كرواية الرازي المتضمّنة للسؤال عن فعل القضاء عند طلوع الشمس الممنوع عند أبي حنيفة على ما حكي عنه ، وصحيحة يعقوب ، وظهور بعضها في بيان كيفية القضاء قصرا وإتماما ، سفرا وحضرا ، على مثال المقضيّ عنه ، كالصحيحة الرابعة.

وثانيا : أنّ أخبار المواسعة قرائن ظاهرة لإرادة الاستحباب من تلك الأوامر على تسليم دلالتها ، كما يشهد به فهم العرف ، سيما مع شمول كثير منهما لقضاء المندوبة المانع عن حمله على الوجوب ، والمخصّص بالفريضة مع تمام الشواهد المقدّمة (١).

وترجيحه على الحمل على الندب ممنوع جدّا ، سيما مع ورود الطلب في جملة منها بلفظ الخبر الذي نصا في الوجوب ، بل منعه مطلقا ولو ظهورا بعض المحققين.

وثالثا : أنّ ما ذكرنا من أخبار المواسعة يعارضها ، وهي راجحة عليها بوجوه سنشير إليها.

هذا ، ويرد على الاستدلال بأخبار المضايقة على بطلان الحاضرة عند تقديمها على الفائتة ، كما هو ظاهر أكثر أصحاب التضييق : أنّه مبنيّ على اقتضاء الأمر بالمضيّق فساد الواجب الموسّع ، لو أتى به ، وهو خلاف التحقيق ، لا لتعارض الأمرين ، بل لأنّ فورية الواجب لا ينافي طلب ضدّه موسّعا عند العصيان بترك المضيّق عرفا ، ألا ترى أنّه إذا أمر السيّد عبده بشراء ثوب في سعة شهر ، ثم أمر به مضيقا في يوم منه بفعل يضادّه ، فيتركه واشترى الثوب في هذا اليوم عدّ ممتثلا في المطلوب الموسّع ، وإن كان عاصيا ومعاقبا بترك المضيّق ، وقد أشبعنا الكلام فيه في كتابنا المراصد.

__________________

(١) في الأصل : « لم تعدّ به » مكان « المقدّمة ».


السادس : الأخبار الدالّة على وجوب البدأة بالفائتة قبل الحاضرة ما لم يتضيّق وقتها ، كصحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام عن رجل صلّى بغير طهور أو نسي صلوات لم يصلّها أو نام عنها ، فقال : « يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكر من ليل أو نهار فإذ دخل وقت الصلاة ولم يتمّ ما قدمه فاته ، فليقض ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الصلاة التي حضرت ، وهذه أحقّ بوقتها ، فليصلّها ، فإذا قضاها فليصلّ ما قد فاته مما قد مضى ، ولا يتطوّع بركعة حتى يقضى الفريضة كلّها » (١).

وصحيحته الأخرى الطويلة (٢) : « إن كنت قد صلّيت الظهر وقد فاتتك الغداة فذكرتها ، فصلّ الغداة أيّ ساعة ذكرتها ولو بعد العصر ، ومتى ذكرت صلاة فاتتك صلّيتها ، وقال : إذا نسيت الظهر حتى صلّيت العصر فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغك ، فانوها الأولى ثم صلّ العصر ، فإنّما هي أربع مكان أربع ، فإن ذكرت أنك لم تصلّي الأولى وأنت في صلاة العصر وقد صلّيت منها ركعتين ، فانوها الأولى فصلّ الركعتين الباقيتين وقم فصلّ العصر ، وإن كنت ذكرت أنّك لم تصلّ العصر حتى دخل وقت المغرب ولم تخف فوتها فصلّ العصر ثم صلّ المغرب ، وإن كنت قد صلّيت من المغرب ركعتين ثم ذكرت العصر فانوها العصر ، ثم قم فأتمّها بركعتين ، ثم سلّم ، ثم تصلّ المغرب ، إلى أن قال : « وإن كنت قد نسيت العشاء الآخرة حتى صلّيت الفجر فصل العشاء الآخرة ، وإن كنت ذكرتها وأنت في الركعة الأولى أو في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٢٨٧ ، الباب ٦٢ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٧٩ ؛ التهذيب ٢ : ١٧٢ ، الحديث ٦٨٥ ، ٢٦٦ : الحديث ١٠٥٩ ؛ و ٣ : ١٥٩ ، الحديث ٣٤١ ؛ الاستبصار ١ : ٢٨٦ ، الحديث ١٠٤٦.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ٢٩٠ ، الباب ٦٢ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٨٧ ؛ التهذيب ٣ : ١٥٨ ، الحديث ٣٤٠ ؛ الكافي ٣ : ٢٩١ ، الحديث ١.


الثانية من الغداة فانوها العشاء ثم قم فصلّ الغداة وأذّن وأقم ، وإن كانت المغرب والعشاء قد فاتتاك فابدأ بهما قبل أن تصلّي الغداة ، ابدأ بالمغرب ثم العشاء ، فإن خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بالمغرب فصلّ الغداة ثمّ صلّ المغرب والعشاء ، ابدأ بأوّلهما ، لأنّهما جميعا قضاء أيّهما ذكرت ، فلا تصلّها إلّا بعد شعاع الشمس ، قال : قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك لست تخاف فوتها ».

وصحيحته الثالثة المتقدّمة المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : فابدأ بالتي فاتتك (١). ورواية الحلبي (٢) عن رجل نسي الأولى إلى أن قال : « وإن خاف أن يفوته فليبدأ بالعصر ، ولا يؤخّرها فيفوته ، فيكون قد فاتتاه جميعا ، ولكن يصلّي العصر فيما بقي من وقتها ، ثم ليصلّ الأولى بعد ذلك على أثرها » ، حيث أمر بالأولى على أثر العصر قبل المغرب الحاضرة.

وصحيحة صفوان (٣) عن أبي الحسن عليه‌السلام عن رجل نسي الظهر حتى غربت الشمس وقد كان صلّى العصر ، فقال : كان أبو جعفر عليه‌السلام أو كان أبي يقول : إن أمكنه أن يصلّيها قبل أن يفوته المغرب بدأ بها ، وإلّا صلّى المغرب ثمّ صلّاها.

وخبر أبي بصير (٤) المرويّ في الكافي عن رجل نسي الظهر حتى دخل وقت العصر ، قال : يبدأ بالظهر وكذلك الصلوات تبدأ بالتي نسيت إلّا أن تخاف أن يخرج وقت الصلاة فتبدأ بالتي أنت في وقتها ، ثم تقضى التي نسيت. وفي رواية التهذيب بدل « يبدأ بالظهر » يبدأ بالمكتوبة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٢٨٧ ، الباب ٦٢ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٨٠.

(٢) نفس المصدر ٤ : ١٢٩ ، الباب ٤ من أبواب المواقيت ، الرواية ٤٧٠٩.

(٣) نفس المصدر ٤ : ٢٨٩ ، الباب ٦٢ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٨٥.

(٤) نفس المصدر ٤ : ٢٩٠ ، الرواية ٥١٨٦ ؛ وفي الكافي ٣ : ٢٩٢ ، الحديث ٢.


وخبر عبد الرحمن (١) عن رجل نسي صلاة حتى دخل وقت صلاة أخرى ، فقال : إذا نسي الصلاة أو نام عنها صلّى حين يذكرها ، فإذا ذكرها وهو في صلاة بدأ بالتي نسي وإن ذكرها مع إمام في صلاة المغرب أتمّها بركعة ثم صلّى المغرب ثم صلّى العتمة بعدها. الحديث.

وخبر عمرو بن يحيى (٢) عن رجل صلّى على غير القبلة ، ثمّ تبيّنت القبلة وقد دخل وقت صلاة أخرى ، قال : « يعيدها قبل أن يصلّي هذه التي قد دخل وقتها إلّا أن يخاف فوت التي قد دخل وقتها ».

والمرويّ في قرب الإسناد (٣) عن رجل نسي العشاء ثم ذكر بعد طلوع الفجر ، كيف يصنع؟ قال : يصلّي العشاء ثم الفجر.

ومثله (٤) عن رجل نسي الفجر حتى حضرت الظهر ، قال : يبدأ بالفجر ثم يصلّي الظهر كذلك كلّ صلاة بعدها صلاة.

وعن دعائم الإسلام (٥) : من فاتته صلاة أخرى فإن كان في الوقت سعة بدأ بالتي فاتته وصلّى التي هو فيها في وقت وإن لم يكن في الوقت إلّا مقدار ما يصلّي التي هو في وقتها بدأ بها وقضى بعدها الصلاة الفائتة.

والمرويّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلا في كتب أصحابنا (٦) : « لا صلاة لمن عليه صلاة ».

__________________

(١) نفس المصدر ٤ : ٢٨٩ ، الباب ٦٣ من أبواب المواقيت ، الرواية ٥١٨٨.

(٢) نفس المصدر ٤ : ٣١٣ ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، الرواية ٥٢٤٤.

(٣) نفس المصدر ٨ : ٢٥٥ ، الباب ١ من أبواب قضاء الصلوات ، الرواية ١٠٥٧٢ ؛ قرب الإسناد : ٩١.

(٤) نفس المصدر ٤ : ٣١٣ ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، الرواية ٥٢٤٤.

(٥) دعائم الإسلام ١ : ١٣١ ، كتاب الصلاة.

(٦) مستدرك الوسائل ٣ : ١٦٠ ، الباب ٤٦ من أبواب المواقيت ، الرواية ٣٢٦٤.


والجواب : أوّلا أنّ تلك الأخبار أكثرها مختصّة بالفائتة الواحدة أو فائتة اليوم ، وهما من أقوال المسألة ، فلا ينتهض حجة لأصحاب الإطلاق المستدلّين بها على مدعاهم.

وثانيا أنّها في مقابلة أخبار المواسعة المتكثرة ، مع قصور جملة منها سندا أو دلالة ، واعتضاد الثانية من الشواهد والإمارات ، لا بدّ من حملها على خلاف ظاهرها مما يقرب إلى الأذهان ، غير التقابل والتعارض.

فنقول : أمّا الرواية الأولى ، فذيلها محمولة على الاستحباب ، مع عمومها بالنسبة إلى النافلة كما مرّ ، أو على أنّ المراد بها دخول وقت الحاضرة وهو في أثناء الفائتة ، ويؤيّده ما في بعض مواضع التهذيب من قوله عليه‌السلام : « فليمض » بدل « فليقض » (١) وصدرها غير دال أصلا ، وعلى التسليم محمول على الندب أيضا.

ونحوها في الحمل عليه ذيل الثانية ، سيما بقرينة آخرها الدال على المواسعة ، وعدم دلالة صدرها كما مرّ ، وخروج وسطها عن المدّعى ، وكونه محمولا على نسيان الأولى عن وقت الفريضة ، وإلّا تعيّن تقديم العصر إجماعا.

ومنهما يظهر معنى الثالثة.

وأمّا الرابعة فقوله عليه‌السلام فيها : « على أثرها » محمول على مطلق التأخر ، ولو بعد المغرب الحاضرة ، بل لا دلالة له على الاتصال ، وغايته التبعيّة القريبة ، أو على إرادة مطلق الرجحان من الأمر ، مع عدم كونه صريحا في الوجوب ، بل الظاهر فيه في مثل المقام بملاحظة المعارضات في الوجوب.

ونحوه الكلام في الخامسة.

وربما يناقش فيها بأن جعل المغرب غاية النسيان يقتضي حصول التذكّر عنده

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٧٢ ، الحديث ٦٨٥.


بعده قبل زوال الحمرة ، لا قبيل الانتصاف الذي هو آخر الوقت ، فلا يتصوّر فيه التقسيم بالقسمين ، بل يؤمي إلى أنّ المراد فوات وقت فضيلتها.

وفيه أنّها ظاهرة في كون المغرب الذي به يخرج وقت الظهرين غاية الترك ، لا النسيان ، مع بعد كونه قرينة لصرف فوت الوقت ، الظاهر في الإجزاء إلى وقت الفضيلة.

وأمّا السادسة ، فعلى رواية التهذيب ، يراد بالمكتوبة العصر ، كما هو الظاهر ، وبوقت العصر ، الوقت المختصّ بها ، وبقوله : « وكذلك الصلوات المشتركات في الوقت إذا نسيت أولهما » فتقدم على اللاحقة ، بل هو مقتضى التشبيه.

وعلى رواية الكافي فالمراد بوقت العصر الذي خرج بدخوله وقت الظهر وقت الفضيلة ، بل لا مناص عنه ، ومفاد التشبيه ذلك أيضا.

وأمّا السابعة ، فمحمولة على الندب أيضا ، مع عدم صراحتها في الوجوب.

ومثلها الثامنة ، مع أنّ ظاهرها خلاف ما هو الصواب من عدم وجوب القضاء خارج الوقت عند الخطاء في القبلة ، إلّا أن يحمل على العمد ، وهو خلاف الظاهر ، وبهذا يتعيّن الحمل على الندب أيضا ، وعلى الحاضرة بعد الفراغ وعدم خروج الوقت الخارج عمّا نحن فيه.

وينقدح أيضا ، مما ذكر وجه التأمل في التاسعة والعاشرة والحادية عشر ، مع عدم صراحتها في الوجوب.

وأما الثانية عشر ، وهي النبوية ، فمع إرسالها وعدم روايتها في كتب أحاديث أصحابنا وموافقتها للعامّة ، محمولة على نفي الكمال ، كما هو الشائع في نظائرها المصروفة عن الحقيقة التي هي نفي الحقيقة ، وحمله على نفي الصحّة بقرينة القرب إلى الحقيقة ليس بأولى من حمله على نفي الكمال بقرينة ما تقدم من أدلّة المواسعة.


والاعتراض بمعارضتها بالمثل مع رواية على بن جعفر لا صلاة في وقت صلاة (١) ، مخدوش بالإجماع على صحة الفائتة قبل الحاضرة نعم ، ربما نسب إلى ظاهر الصدوقين وجوب تقديم الحاضرة ، كما مرّت إليه الإشارة ، إلّا أنّ النسبة غير معلومة ، وحمله بعضهم على الاستحباب.

وكيف كان ، فالخبر لشذوذ القول به شاذّ لا يصلح للاستناد إليه إلّا بحمله على التطوّع ، فيوافق قول من منعه وقت الفريضة ، كما في النبويّ ، إذا دخل وقت مكتوبة فلا صلاة نافلة حتى تبدأ بالمكتوبة.

وثالثا مع الإغماض عن جميع ما ذكر فالتعارض واقع بينها وبين أخبار المواسعة ، وهي راجحة عليها بوجوه كثيرة ، كموافقتها لإطلاق الكتاب في الأمر بها في سعة الوقت الموجب للإجزاء.

والقول بموافقة الثانية ، أيضا ، لقوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) المفسّر في المعتبرة بما يوافق المضايقة ، مدفوع بما مرّ من عدم دلالة تلك الأخبار المفسّرة عليها ، ومع تسليمها فهذا في الحقيقة موافقة للخبر الظنّي والعرض عليه لا على الكتاب المأمور به لأجل القطع به عند التعارض ، لأنّ أخبار المواسعة كما تعارض أخبار المضايقة ، تعارض الأخبار المفسّرة للآية المقتضية لها أيضا ، وموافقتها للسنّة النبوية القطعية الدالّة على سهولة الملّة وسماحة الدين ، بل يدلّ عليها الكتاب أيضا ، بقوله تعالى ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٢) ، ومخالفتها للمحكيّ عن جمهور العامّة ، كما نصّ به غير واحد من أصحابنا ، وموافقتها للسيرة الجارية المستمرّة الشائعة ، وأكثريتها وأصحّيتها سندا وأظهريتها دلالة وأشهريتها مقابلة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ١٢٤ ، الباب ٣١ من أبواب صلاة الجنازة ، الرواية ٣١٩٤.

(٢) البقرة (٢) : ١٨٥.


ومع الإغماض وتسليم التساوي وعدم المرجّح ، فالعمل إمّا بالتخيير الذي دلّ عليه قولهم : بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك. أو بالأصل ، ومقتضاهما المواسعة وعدم وجوب الترتيب. هذا حجّة أصحاب الإطلاق من أهل المضايقة المشتهر بينهم.

وأمّا الأقوال التفصيلية ، فحجّة بعضها غير معلومة ، ونقضها يظهر مما ذكرناه من أخبار المضايقة ، كالتفصيل المحكيّ عن المحقق في الفائتة الواحدة وفي المتعدّدة في فائتة اليوم ونحوها ، وأنت بعد ما سمعت ضعف الكلّ دلالة ومقاومة للأخبار الأوّلة ، تعلم عدم حجّة معتبرة بها ، بل قال بعض الأجلة : إنّ ملاحظة سياق أخبار الترتيب تأبى عن إرادة التفصيل وكون البناء عليه ، كما لا يخفى على البصير المتأمّل.

تتميمان :

الأوّل : على عدم وجوب الترتيب ، كما اخترناه ، فهل يرجح تقديم الفائتة ، أو الحاضرة؟ المحكيّ عن أكثر القائلين بعدم الترتيب من المتأخرين الأوّل.

وعن الصدوقين وبعض من تأخر ، الثاني. ومال إليه والدي العلّامة ، بل ربما نسب إلى الأوّلين الوجوب ، وهو كما أشرنا إليه غير معلوم.

والتحقيق : أنّه لا شكّ أنّ تعجيل كلّ منهما في نفسه له فضيلة لا تنافيه فضيلة التعجيل لضدّه ، فإن درك فضيلة لا ينافي فقدان فضيلة أخرى ، وإن كان سببا له ، لعموم الأمر بالاستباق والمسارعة إلى الخيرات ، وإنّما الكلام في مزية فضيلة تعجيل إحداهما على فضيلة الأخرى ، واختصاص الحاضرة بخصوص فضل أوائل أوقاتها ، والحثّ عليها بكونها رضوان الله ، وآخره بأنّه غفران الله يوجب فضيلة خاصّة للحاضرة ، مضافا إلى الفضيلة المشتركة.


نعم ، خصوص الرجحان من حيث الترتيب لا دليل عليه بعد حمل أخبار البدأة بالفائتة على الوجوب التخييريّ لأجل تعارض الأخبار من الطرفين ، فلزم القول بالتساوي من جهة الترتيب ، إلّا أنّ مقتضى الخروج عن محل الخلاف يوجب رجحانا ظاهريا احتياطيا للفائتة.

الثاني : لو كان عليه صلاة فائتة فصلّى الحاضرة ، فعلى المختار صحّت ، ولا حرج.

وعلى المضايقة ، فعن صريح الشيخ (١) والسيّدين (٢) والقاضي والحلبي والحلّي وغيرهم (٣) ، بطلان الحاضرة إن كان عن عمد ، بل قال بعضهم : إنّه الظاهر عند أصحاب الترتيب ، وإنّ المستفاد من كلامهم شرطيته في صحّة الأداء وصحتها عندهم إن كان عن نسيان إلى الفراغ عن الحاضرة.

وعن المختلف (٤) وغيره : الإجماع عليه.

ووجه الفساد في الأوّل ، كونه مقتضى النهي عن الضدّ المقتضي لفساد العبادة ، وظهور النصوص السابقة في شرطية الترتيب ، واختصاص الوقت ما لم يتضيّق بالفائتة ، فتكون الحاضرة في غير وقتها.

ووجه الصحّة في الثاني : انتفاء النهي مع النسيان.

أقول : الفرق بين العمد والنسيان في الصحّة والبطلان خلاف التحقيق ، لأنّ مبنى

__________________

(١) المقنعة : ٢١١ ؛ المبسوط ١ : ١٢٧.

(٢) جوابات المسائل الرسيّة الأولى ، ضمن رسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣٦٤ : جمل العلم والعمل : ٧٢.

(٣) المهذب البارع ١ : ١٢٦ ؛ الكافي في الفقه : ١٤٩ ؛ السرائر ١ : ٢٧٢.

(٤) مختلف الشيعة ٢ : ٤٣٥.


الدليل على وجوب الترتيب على القول به إن كان الأخبار الدالّة على الفورية المستلزمة للترتيب ، فهي غير مقتضية لبطلان الحاضرة مطلقا ، عمدا أو سهوا ، وإن جعل العصيان بتأخير الفائتة عنها ، لما بيّنا في مقامه من عدم منافاة الأمر بالمضيق للأمر الموسّع بضدّه الخاصّ المقتضي للإجزاء ، على تقدير العصيان بترك المضيّق في أوّل الوقت المشترك ، كما أشرنا إليه آنفا ، وكذا الحال على البناء في الاستدلال على الترتيب بالأخبار الآمرة بالبدأة بالفائتة ، باعتبار استفادة الفورية منها.

وأمّا إذا كان بناء الاستدلال على الأخبار المصرّحة بوجوب الترتيب ، فالظاهر اقتضائه بطلان الحاضرة ، عمدا كان تقديمها أو نسيانا ، لأنّ الأمر المتعلّق بوصف العبادة يفيد الشرطية المقتضية لفساد العبادة بدونه مطلقا ، كما حقّق في محلّه ، ومن المعلوم ، أنّ تلك الشرطية ليست مما يرجع إلى الفائتة ، لصحّتها بعد الحاضرة ، ويعم صورتي العمد والنسيان ، ويوجب الإعادة مع بقاء الوقت ، إلّا أن يجعل الإجماع المحكيّ في المختلف وغيره من صحة الحاضرة عند النسيان والتذكر بعد الفراغ ، دليلا مخرجا للقاعدة في المقام ، كما في الحاضرتين المترتبتين المشتركتين في الوقت إذا حصل التذكّر بعد الفراغ عن اللاحقة قبل السابقة. والله العالم بحقائق أحكامه.


فهرس الموضوعات

المشرق الأوّل : في الأصل في المعاملات من الصحة أو الفساد............................ ١١

المطلب الأوّل : الأصل الأوّلي في الشبهة الحكمية......................................... ١١

المطلب الثاني : الأصل الثانوي في الشبهة الحكمية........................................ ١٤

ـ معنى آية ( أوفوا بالعقود )....................................................... ١٥

ـ وجوه الاستدلال بالآية............................................................ ١٥

ـ الأقوال في تفسير العقود بالعهود................................................. ١٩

ـ كون اللام للاستغراق أو العهد................................................... ٢٢

ـ الاستدلال بالآية إذا شكّ في شرطية شيء أو مانعيته.............................. ٢٦

ـ معنى الأمر بالإيفاء................................................................ ٢٧

المطلب الثالث : فيما يقتضيه الأصل من لزوم الصيغة أو عدمه........................... ٢٨

البحث الأوّل : هل يلزم الصيغة أو يكفي المعاطاة....................................... ٢٨

ـ الأقوال الخمسة في المعاطاة........................................................ ٣٠

ـ القول المختار من عدم اشتراط الصيغة في الصّحة وإفادة الملك.................... ٣٤

ـ اشتراط الصيغة في اللزوم......................................................... ٣٥

ـ الوجوه المستدلّ بها للأقوال الأخر................................................. ٣٦

ـ معنى قوله عليه السلام : « إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام »..................... ٣٧

ـ الوجوه التي يمكن تصوير المعاطاة عليها........................................... ٤٠

ـ جريان المعاطاة في سائر العقود.................................................... ٤٣

ـ لزوم المعاطاة بتلف العين.......................................................... ٤٥

ـ كفاية قبض أحد العوضين في حصول المعاطاة.................................... ٤٩

البحث الثاني ـ ضابطة فسخ العقود اللازمة............................................. ٥٠

ـ أقسام العقود من حيث اللزوم والجواز............................................ ٥٠

ـ النظر في موادّ الألفاظ............................................................. ٥٢

ـ النظر في الهيئات والتراكيب....................................................... ٥٧

المشرق الثاني : في بيان حكم العقد الفضولي............................................. ٥٩

ـ بيان القولين في المسألة............................................................ ٥٩

ـ الوجوه المستدلّ بها لصّحة العقد الفضولي........................................ ٦٠

ـ الاستدلال برواية عروة البارقي وغيرها............................................ ٦٠

ـ الوجوه المستدلّ بها لبطلان عقد الفضولي والإيراد عليها.......................... ٦١

ـ الإجازة كاشفة أو ناقلة........................................................... ٦٤

ـ هل يكفي في الإجازة السكوت مع الحضور...................................... ٦٧

ـ إذا باع الغاصب لنفسه فأجاز المالك لنفسه....................................... ٦٨


ـ الرجوع على المشتري بعين المال ونمائه............................................ ٧٠

ـ كيفية الغرامة وتقدير القيمة....................................................... ٧٤

ـ هل يعتبر زمان الغصب ومكانه أم لا............................................. ٧٥

ـ الاستدلال بصحيحة أبي ولاّد..................................................... ٧٦

المشرق الثالث : في حكم العقود المتبعّضة................................................ ٧٩

ـ حكم بيع ما يملك وما لا يملك................................................... ٧٩

ـ الحكم في سائر العقود كوقف ما يملك وما لا يملك.............................. ٨٠

ـ بيع ما يصحّ بيعه وما لا يصحّ كالخمر............................................ ٨٤

المشرق الرابع : في شروط ضمن العقد................................................... ٨٥

المطلب الأوّل : في بيان معنى الشرط..................................................... ٨٥

ـ الفرق بين التعليق والاشتراط...................................................... ٨٦

المطلب الثاني : في مشروعية الشرط ولزوم الوفاء به...................................... ٨٧

المطلب الثالث : في أنّ انعقاد الشرط يختصّ بالمذكور في متن العقد...................... ٩٠

المطلب الرابع : في حكم الشرط إذا امتنع عنه المشروط عليه.............................. ٩٢

ـ بيان الأقوال الخمسة في المسألة.................................................... ٩٢

ـ القول المختار في المسألة........................................................... ٩٣

المطلب الخامس : في حكم ما إذا تعذّر الشرط لفوات وقته ونحوه....................... ٩٣

المطلب السادس : في بيان الشروط الفاسدة.............................................. ٩٥

الف ) الشرط المنافي لمقتضى العقد....................................................... ٩٥

ـ المراد من الشرط.................................................................. ٩٥

ـ الاستدلال لبطلان الشرط......................................................... ٩٧

ب ) الشرط المخالف للكتاب والسنّة.................................................... ٩٩

ـ المراد من الشرط.................................................................. ٩٩

ـ الاستدلال لبطلان الشرط......................................................... ٩٩

ج ) الشرط الذي أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً........................................... ١٠٦

ـ المراد من الشرط................................................................. ١٠٦

ـ الاستدلال لبطلان الشرط....................................................... ١٠٦

د ) الشرط الموذّي إلى جهالة أحد العوضين............................................ ١٠٦

ـ المراد من الشرط................................................................. ١٠٦

ـ الاستدلال لبطلان الشرط....................................................... ١٠٧

ه‍ ) الشرط الغير المقدور................................................................ ١١١

ـ المراد من الشرط................................................................. ١١١

ـ الاستدلال لبطلان الشرط....................................................... ١١٢

المطلب السابع : في حكم العقد إذا فسد الشرط........................................ ١١٢

ـ بيان القولين في المسألة.......................................................... ١١٢

ـ الاستدلال على القول المختار من بطلان العقد بفساد الشرط....................... ١١٣


المشرق الخامس : في بيان حكم المعاملات الإضرارية.................................... ١١٩

ـ الانتقالات المحاباتية الصادرة عمن لهدين لا يف ماله به.......................... ١١٩

ـ بطلان العقود الناقلة بأقلّ من عوض المثل عمّن له دين مستوعب............... ١٢٢

ـ جواز صرف المديون جميع ماله في بعض الديون من غير رعاية النسبة........... ١٢٤

ـ إلحاق الإبراء بالعقود الناقلة...................................................... ١٢٤

المشرق السادس : في بيان حكم المال المجهول مالكه.................................... ١٢٧

ـ بيان أقسام أسباب الملك........................................................ ١٢٧

ـ من يملك المال المجهول مالكه.................................................... ١٢٧

ـ تصدّق المال المجهول المالك على فقراء الشيعة.................................... ١٣٠

ـ اشتراط إذن الحاكم في التصدّق................................................. ١٣١

المشرق السابع : في أحكام الأموال الخراجية............................................ ١٣٣

ـ المقصود من الأرض الخراجية وشرائطها......................................... ١٣٣

ـ قبالة الأرض الخراجية لعموم المسلمين........................................... ١٣٥

ـ تولية الأرض الخراجية للنائب العام في غيبة الإمام عليه السلام................... ١٣٦

ـ عدم جواز تقبّل الأرض الخراجية من الجائر...................................... ١٤٠

ـ جواز أخذ الخراج من السلطان الجائر........................................... ١٤١

ـ اشتراط كون الجائر مخالفاً لمذهب الحقّ.......................................... ١٤٨

ـ جواز بيع الأراضي الخراجية..................................................... ١٤٨

ـ ملكية المتصرف بالتعمير والقيام عليها........................................... ١٤٩

ـ الطريق إلى إثبات كون الأرض مفتوحة عنوة................................... ١٥٢

المشرق الثامن : فيما يتعلّق بالعدالة الشرعية............................................. ١٥٧

المطلب الأوّل : في بيان حقيقتها وما يعتبر فيها......................................... ١٥٧

البحث الأوّل ـ في بيان حقيقة العدالة................................................. ١٥٧

تتميم : هل بين العدالة والفسق واسطة؟............................................ ١٦٤

البحث الثاني ـ المعتبر هو الاجتناب عن جميع المعاصي أو من الكبائر فقط............ ١٦٥

تفسير الكبائر تحديداً وتعديداً....................................................... ١٧٢

بيان حدّ الإصرار على الصغائر..................................................... ١٧٩

البحث الثالث ـ توقف العدالة الشرعية على المروّة................................ ١٨٤

ـ منافيات المروّة................................................................... ١٨٩

البحث الرابع ـ توقف العدالة على صحّة المذهب..................................... ١٩٧

البحث الخامس ـ لا يقدح الذنب إذا تاب عنه........................................ ١٩٩

المطلب الثاني : في بيان ما يكشف عن العدالة وكيفية البحث عن ثبوتها................ ٢٠٠

ـ الأقوال الثلاثة في الكاشف الشرعي عن العدالة................................. ٢٠١

ـ القول المختار والاستدلال عليه.................................................. ٢٠٢

ـ المناط في معرفة العدالة بحسن الظاهر............................................ ٢٠٥

المشرق التاسع : في أحكام الغناء....................................................... ٢٠٩

البحث الأوّل : في بيان حقيقته وموارده............................................... ٢٠٩


ـ حقيقة الغناء..................................................................... ٢٠٩

ـ الأخبار الدالّة على مدح الصوت الحسن........................................ ٢١٠

ـ الوجوه الثلاثة للألحان........................................................... ٢١٤

البحث الثاني : في بيان حكم الغناء..................................................... ٢١٤

ـ ردّ نظرية المحدّث الكاشاني في الوافي............................................ ٢١٥

ـ الموارد المستثناه من حرمة الغناء.................................................. ٢١٥

ـ الوجوه المستدلّ بها على حرمة مطلق الغناء...................................... ٢١٦

ـ الإجماع......................................................................... ٢١٦

ـ السّنة............................................................................ ٢١٧

ـ الإيرادات الواردة على الاستدلال بالأدلّة الثلاثة.................................. ٢٢٠

ـ الكلام في حرمة ما استثنى من الغناء............................................ ٢٢٦

ـ زفّ العرائس.................................................................... ٢٢٦

ـ الحداء........................................................................... ٢٢٧

ـ الغناء في مراثي سيّد الشهداء.................................................... ٢٢٧

ـ الغناء في قراءة القرآن........................................................... ٢٣٠

ـ الغناء في سائر الفضائل.......................................................... ٢٣١

ـ حرمة استعمال الغناء كحرمة التغنّي............................................ ٢٣٢

المشرق العاشر : في صحة صلح الزوج عن حق رجوعه في العدّة الرجعية.............. ٢٣٣

ـ استقلال الصلح عن سائر العقود وإن أفاد قائدتها............................... ٢٣٤

ـ الوجوه المتمايز بها الصلح عن سائر العقود...................................... ٢٣٥

ـ صحة الصلح عن الحقوق....................................................... ٢٣٥

ـ صحة الصلح بدون العوض..................................................... ٢٣٦

ـ صحة الصلح مع جهالة العوضين............................................... ٢٣٦

المشرق الحادي عشر : في بيان تعارض الاستصحابين وأقسامه.......................... ٢٣٧

ـ بيان الضابطة لما يتبع الاستصحاب من أحكام المستصحب...................... ٢٤٣

ـ الوجوه الثلاثة لاستلزام الآثار للمستصحب..................................... ٢٤٣

ـ ملاك التعارض بين الاستصحابين............................................... ٢٤٣

ـ الوجوه المستدلّ بها لتقديم استصحاب اللزوم مطلقاً............................. ٢٤٦

ـ تعارض الاستصحاب مع استصحابين أو أكثر.................................. ٢٤٧

ـ استصحاب حال الشرع........................................................ ٢٥٢

ـ استصحاب حال العقل......................................................... ٢٥٣

ـ الأقسام الثلاثة لاستصحاب حال العقل......................................... ٢٥٣

ـ تعارض الاستصحاب مع أصل البراءة........................................... ٢٥٤

المشرق الثاني عشر : في أنّ الأحكام تابعة للأسماء....................................... ٢٥٤

ـ الفرق بين استحالة الأعيان النجسة واستحالة الأعيان المتنجّسة.................. ٢٥٧


ـ الفرق بين الاستحالة والإنقلاب................................................. ٢٥٩

المشرق الثالث عشر : في تداخل الأسباب الشرعية...................................... ٢٦١

ـ هل الأصل هو التداخل أو عدمه................................................ ٢٦١

ـ بيان أدلّة الطرفين............................................................... ٢٦٢

ـ التفصيل بين الأحكام الطلبية وغيرها............................................ ٢٦٤

المشرق الرابع عشر : في بيان قاعدة نفي الضرر........................................ ٢٦٥

البحث الأوّل : في مدرك القاعدة...................................................... ٢٦٦

ـ معنى الضرر في اللغة............................................................ ٢٦٩

ـ صدق الضرر على عدم حصول المنفعة المتوقعة.................................. ٢٧٠

ـ صدق الضرر على ما في مقابله نفع أو رفع ضرر............................... ٢٧٠

ـ المراد من نفي الضرر في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «لا ضرر ولا ضرار» ٢٧١

البحث الثاني : في بيان موارد صحة الاستدلال بقاعدة نفي الضرر..................... ٢٧٣

ـ الشروط الثلاثة في جريان قاعدة لا ضرر........................................ ٢٧٣

ـ الأقسام الخمسة للأحكام التي تقتضيها قاعدة نفي الضرر....................... ٢٧٩

ـ نفي الحكم الوضعي بقاعدة لا ضرر............................................ ٢٨١

ـ اقتضاء القاعدة للضمان المالي.................................................... ٢٨١

ـ تعارض القاعدة لمثلها أو لقاعدة التسليط........................................ ٢٨٣

المقام الأوّل ـ في تعارض الضررين.................................................... ٢٨٣

المقام الثاني ـ في تعارض قاعدة الضرر مع قاعدة التسليط............................. ٢٨٨

ـ بيان الأقوال الخمسة في المسألة.................................................. ٢٨٩

ـ بيان القول المختار............................................................... ٢٩٠

المشرق الخامس عشر : في بيان قاعدة نفي الغرر....................................... ٢٩٧

البحث الأوّل : في دليل القاعدة ومعنى الغرر........................................... ٢٩٧

ـ نهى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن بيع الغرر............................... ٢٩٧

ـ كلمات أهل اللغة في تفسير الغرر............................................... ٢٩٨

ـ كلمات الفقهاء في تفسير الغرر................................................. ٢٩٩

ـ اشتراط الجهل والخطر في حصول الغرر......................................... ٣٠٠

ـ كون متعلّق الجهل الوجود أو الحصول أو الصفات............................. ٣٠٢

ـ كيفية الخطر من حيث كونه ناشياً عن الجهل بذات المبيع أو قدره أو صفته أو قيمته

.................................................................................... ٣٠٣

ـ في المعيار المعتبر في صدق الغرر عرفاً............................................ ٣٠٤

ـ عدم العبرة بمسامحة العرف في بعض المقامات.................................... ٣٠٤

ـ الوجوه الثلاثة لتسامح العرف بالجهل........................................... ٣٠٤

البحث الثاني : حصول الغرر في البيع الكلّي........................................... ٣٠٥

البحث الثالث : عدم كفاية الجهل من غير خطر في صدق الغرر....................... ٣٠٦

البحث الرابع : عدم انتفاء الغرر باشتراط الخيار في مجهول الصفة....................... ٣٠٧

البحث الخامس : جريان قاعدة الغرر في سائر العقود من المعاوضات.................. ٣٠٨


ـ جريان القاعدة في عقد الصلح.................................................. ٣٠٨

ـ نقل كلمات الفقهاء............................................................. ٣٠٩

ـ صحة الصلح عمّا يملك مع الجهل بالقدر أو الجنس أو الصفة................... ٣١٢

ـ اشتراط العلم الإجمالي بمورد المعاملة في غير مقام المحاباة.......................... ٣١٢

مشارق في نبذ من مهمات مباحث الخيارات........................................... ٣١٥

المشرق السادس عشر : في خيار المجلس................................................. ٣١٥

ـ توضيح المراد من الأخبار الدالّة على خيار المجلس................................ ٣١٦

ـ مسقطات خيار المجلس.......................................................... ٣١٨

ـ اشتراط عدم الخيار في ضمن العقد.............................................. ٣١٨

ـ إسقاط الخيار بعد العقد......................................................... ٣١٩

ـ التصرف في المبيع أو الثمن...................................................... ٣١٩

ـ افتراق المتبايعين.................................................................. ٣١٩

المشرق السابع عشر : في خيار الحيوان.................................................. ٣٢١

ـ هل يختصّ الخيار بالمشتري أم يعمّ البائع......................................... ٣٢١

ـ مدّة خيار الحيوان............................................................... ٣٢٣

ـ مسقطات الخيار................................................................. ٣٢٤

ـ سقوط الخيار بمطلق التصرف................................................... ٣٢٦

المشرق الثامن عشر : في خيار الشرط.................................................. ٣٢٩

ـ الاستدلال على صحّة هذا الشرط في العقود.................................... ٣٢٩

ـ اشتراط ضبط المدّة في صحّة خيار الشرط....................................... ٣٣٠

ـ حدّ انضباط المدّة................................................................ ٣٣١

ـ جواز تقييد الفسخ بشيء يقترن به وإن جهل وقت حصول القيد.............. ٣٣٢

ـ صحّة بيع الشرط................................................................ ٣٣٣

ـ خيار البائع إذا لم يقبض الثمن في أثناء المدّة في بيع الخيار........................ ٣٣٥

ـ حصول الشرط بردّ الثمن إلى الحاكم إذا امتنع الردّ إلى المشتري................. ٣٣٦

ـ جواز شرط الفسخ في كلّ جزء برد ما يخصّه من الثمن......................... ٣٣٨

المشرق التاسع عشر : في خيار الغبن................................................ ٣٣٩

ـ اشتراط صدق الزيادة بحيث لا يتسامح به العرف................................ ٣٣٩

ـ اشتراط عدم علم المغبون بالقيمة................................................ ٣٣٩

ـ الوجوه المستدلّ بها لخيار الغبن.................................................. ٣٤٠

ـ كون الخيار منوطاً بالغبن الواقعي وإن كان قبل ظهوره........................ ٣٤١

ـ مسقطات خيار الغبن........................................................... ٣٤٢

ـ الأوّل : التصرف.................................................................... ٣٤٢

ـ الثاني : إسقاط الخيار بعد العقد..................................................... ٣٤٨

ـ الثالث : إسقاط الخيار بالشرط في ضمن العقد...................................... ٣٥١

ـ هل الخيار فوريّ أم لا؟......................................................... ٣٥٢


ـ هل الفور محمول على الفورية الحقيقة أو العرفية؟............................... ٣٥٥

ـ ثبوت خيار الغبن في غير البيع من المعاوضات................................... ٣٥٦

المشرق العشرون : في الأحكام الملحقة بالخيارات....................................... ٣٥٩

المسألة الأولى : حصول الفسخ بالفعل كاللفظ......................................... ٣٥٩

المسألة الثانية : هل يحصل النقل بالنواقل المتوقفة على الملك في مدّة الخيار أم لا؟....... ٣٦١

فرع : لو اشترى عبداً بجارية فقال : « أعتقهما »................................. ٣٦٥

المسألة الثالثة : لا ينافي تلف العين بقاء الخيار........................................... ٣٦٦

المسألة الرابعة : الأقوال في جواز التصرف الناقل لغير ذي الخيار........................ ٣٦٧

المسألة الخامسة : منفعة العين في زمان الخيار للمشتري................................. ٣٧٠

المسألة السادسة : إذا أذن ذو الخيار في التصرف الناقل................................. ٣٧١

المسألة السابعة : إرث الخيار بأنواعه.................................................... ٣٧٣

فرع : إذا كان الخيار لأجنبيّ فمات................................................ ٣٧٨

المشرق الحادي وعشرون : في الشبهة الموضوعية التحريمية.............................. ٣٧٩

المقام الأوّل : في الشبهة المحصورة....................................................... ٣٧٩

ـ اشتراط قدرة المكلّف على تحصيل العلم بامتثاله ولو بالاحتياط.................. ٣٧٩

ـ إناطة الأحكام الشرعية بالمصالح الكامنة في ذوات الأشياء....................... ٣٨٠

ـ الاستدلال على عدم وجوب الموافقة القطعية في العلم الإجمالي.................. ٣٨١

ـ جريان قاعدة الاشتغال في العلم الإجمالي........................................ ٣٨٤

ـ عدم تنجّس الملاقي لأحد المشتبهين بالنجاسة................................... ٣٨٥

ـ الاستدلال على وجوب الموافقة القطعية في العلم الإجمالي....................... ٣٨٨

ـ الجواب عن الاستدلال.......................................................... ٣٩٠

ـ حجّة القول بالقرعة............................................................. ٣٩١

ـ لا فرق بين الفعليات والتدريجيات في وجوب الاجتناب........................ ٣٩٢

ـ لا فرق في الشبهة المحصورة في اتّحاد حقيقة المشتبهات واختلافها.............. ٣٩٤

ـ عدم حرمة ارتكاب الباقي إذا فقد بعض المحتملات............................. ٣٩٨

المقام الثاني : في الشبهة الغير المحصورة.................................................. ٣٩٩

ـ تفسير الشبهة الغير المحصورة..................................................... ٣٩٩

ـ أدلّة القول بعدم وجوب الاجتناب.............................................. ٣٩٩

المشرق الثاني وعشرون : في بيان كيفية الاحتياط....................................... ٤٠٣

ـ كيفية الاحتياط في ما يفتقر إلى النيّة............................................ ٤٠٣

ـ صحّة الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب................... ٤٠٧

ـ صحّة الاحتياط قبل الفحص مع إمكانه......................................... ٤٠٨

ـ رجوع الشكّ إلى المتبائنين إذا كان الشكّ في جزئية شيء للعبادة............... ٤٠٩

المشرق الثالث وعشرون : في حكم الإعراض عن الملك................................ ٤٠٩

ـ هل يوجب الإعراض خروج المال عن الملك؟................................... ٤٠٩

ـ وعلى خروجه هل يتملّك الآخذ؟............................................... ٤٠٩


ـ مسألة البعير التي بقيت في فلاة.................................................. ٤٠٩

ـ مسألة تراب الصياغة............................................................ ٤٠٩

ـ مسألة السفينة المنكسرة في البحر................................................ ٤١٠

ـ مسألة إطلاق الصيد بعد التملك................................................ ٤١١

ـ الوجوه المستدلّ بها لكون الإعراض موجباً للخروج عن الملك.................. ٤١١

ـ حكم الإعراض الاختياري....................................................... ٤١٤

ـ حكم الإعراض الاضطراري..................................................... ٤١٥

المشرق الرابع وعشرون : في بيان قاعدة الضمان....................................... ٤١٩

ـ الأسباب الثلاث للضمان........................................................ ٤١٩

البحث الأوّل : قاعدة إثبات اليد ودليلها........................................... ٤١٩

ـ ضمان الكلّ في الأيدي المتعاقبة.................................................. ٤٢١

البحث الثاني : في المباشرة والتسبيب................................................... ٤٢٥

ـ بيان أدلّة الضمان............................................................... ٤٢٥

ـ بيان قسمي الإتلاف والدليل على الضمان فيهما............................... ٤٢٧

ـ إيجاب الشرط لحصول التلف.................................................... ٤٢٩

ـ معنى السبب.................................................................... ٤٣٣

ـ الاختلاف في الضمان في موارد من باب الشروط.............................. ٤٣٤

المشرق الخامس وعشرون : في الوكالة................................................. ٤٣٩

ـ هل الوكالة من العقود أم لا؟................................................... ٤٣٩

ـ اشتراط التنجيز في الوكالة...................................................... ٤٤١

ـ جواز التعليق في الموكّل فيه...................................................... ٤٤٢

ـ الأمور الموجب لبطلان الوكالة.................................................. ٤٤٥

ـ الشروط المعتبرة في متعلّق الوكالة............................................... ٤٤٨

ـ هل يكون تولية الوقف والقيام بأمر الصغير من باب الوكالة عن الحاكم أو من باب

تولية القضاء........................................................................ ٤٥٢

المشرق السادس وعشرون : في اقتضاء اليد الملكية...................................... ٤٥٩

ـ أدلّة القاعدة..................................................................... ٤٥٩

المقام الأوّل : في المراد من اليد.......................................................... ٤٦٠

المقام الثاني : في الشروط السبعة لجريان القاعدة........................................ ٤٦٢

ـ تعارض اليد مع الإقرار السابق بملكية المدّعي.................................... ٤٦٧

ـ تعارض اليد مع استصحاب نفس اليد.......................................... ٤٦٨

المشرق السابع وعشرون : في وجوب ترتب الحواضر على الفوائت.................... ٤٧١

ـ بيان الأقوال في المسألة.......................................................... ٤٧١

ـ الوجوه المستدلّ بها على القول المختار.......................................... ٤٧٦

ـ الأخبار الدالّة على نفي المضايقة................................................. ٤٨٢

ـ الوجوه الستدلّ بها على المضايقة.................................................... ٤٩٣

ـ الجواب عن أدلّة المضايقة........................................................ ٥٠٥


فهرس أهمّ مصادر التحقيق

١) القرآن الكريم ؛

٢) إرشاد الأذهان (إلى أحكام الإيمان ) للعلامة الحلي ؛ جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهر ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ ) ، تحقيق فارس الحسون ، الطبعة الأولى ، قم ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٤١٠ هـ.

٣) الاستبصار؛ لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) ، إعداد السيد حسن الموسوي الخراسان ، الطبعة الثالثة ، طهران ، دار المكتب الإسلامية ، ١٣٩٠ هـ.

٤) الانتصار ؛ للسيد الشريف المرتضى علم الهدى ، أبي القاسم عليّ بن الحسين الموسوي (٣٥٥ ـ ٤٣٦ ) ، بيروت ، دار الأضواء ، ١٤٠٥ هـ.

٥) إيضاح الفوائد (في شرح إشكالات القواعد) ؛ لفخر المحققين محمد بن الحسن بن يوسف الحلي (٦٨٢ ـ ٧٧١) إعداد عدةّ من العلماء ، الطبعة ، قم ، اسماعيليان ، ١٣٦٣ ش.

٦) بحار الأنوار ؛ للعلامة محمد باقر بن محمد تقي المجلسي ( ١٠٣٧ ـ ١١١٠) الطبعة الثالثة ، بيروت ، دار إحياء الثراث العربي ، ١٤٠٣ هـ.


٧) تبصرة المتعلقين (في أحكام الدين) ؛ للعلامة الحلي ، طهران ، المكتبة الإسلامية.

٨) التبيان (في تفسير القرآن ) ؛ للشيخ الطوسي ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي.

٩) تحرير الأحكام ؛ للعلامة الحلي ، قم ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.

١٠) تذكرة الفقهاء ؛ للعلامة الحلي ، طهران ، المكتبة المرتضوية ، ١٣٨٨ هـ.

١١) تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التأويل ) : للقاضي ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي ، بيروت ودمشق ، دار الرشيد ، ١٤٢١ هـ

١٢) تفسير الصافي ؛ لمحمد بن مرتضى المولى محسن الفيض الكاشاني (١٠٠٧ ـ ١٠٩١) ، إعداد الشيخ حسين الأعلمي ، مشهد ، دار المرتضى.

١٣) تفسير القمي ؛ لأبي الحسن عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمي ، الطبعة الثالثة ، قم ، دار الكتاب ، ١٤٠٤ هـ.

١٤) التنقيح الرائع (لمختصر الشرائع ) ؛ لجمال الدين المقداد بن عبدالله السيوري الحلي المعروف بالفاضل المقداد ( م ٨٣٦ ) ، إعداد السيد عبد اللطيف الكوه كمري ، الطبعة ، قم ، مكتبة آية الله المرعشي ، ١٤٠٤ هـ.

١٥) تهذيب الأحكام ؛ للشيخ الطوسي ، إعداد السيد حسن الموسوي الخراسان ، الطبعة الثالثة ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ١٣٤٦ ش.

١٦) جامع الشتات ؛ للميرزا أبي القاسم بن الحسن الجيلاني ( ١١٥١ ـ ١٢٣١ ) مع تصحيح مرتضى رضوي ، الطبعة الأولى ، طهران ، مؤسسة كيهان ، ١٣٧١ ش.

١٧) جامع الشرائع ؛ لنجيب الدين يحيى بن أحمد الحلي (٦٠١ ـ ٦٨٩) ، إعداد عدّة من الفضلاء ، الطبعة الأولى ، قم ، سيّد الشهداء ، ١٤٠٥ هـ.


١٨) جامع المقاصد (في شرح القواعد ) للمحقق الثاني علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي (٨٦٨ ـ ٩٤٠) ، الطبعة الأولى ، قم ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ، ١٤١١ هـ.

١٩) الجوامع الفقهية ؛ لجمع من الفقهاء ، قم ، مكتبة آية الله المرعشي ، ١٤٠٤ هـ

٢٠) جواهر الكلام ؛ للشيخ محمد بن حسن النجفي (م ١٢٦٦) ، الطبعة السادسة ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ١٣٩٨ هـ.

٢١) حاشية القواعد (الحاشية النجارية ) ؛ المنسوبة إلى الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي ، مخطوطة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي (رقم ٢) ، المرقمة ١/ ٧٨٠.

٢٢) الحدائق الناضرة (في أحكام العترة الطاهرة) ؛ للشيخ يوسف بن أحمد البحراني (١١٠٧ ـ ١١٨٦) الطبعة الأولى ، قم مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٤٠٦ هـ

٢٣) الخصال : للشيخ الصدوق أبي جعفر بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (م ٣٨١) ، قم ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٤٠٣ هـ.

٢٤) الخلاف (مسائل الخلاف) ؛ للشيخ الطوسي ، تحقيق عدّة من الفضلاء ، الطبعة الأولى، قم ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٤١٧ هـ.

٢٥) الدروس الشرعية (في فقه الإمامية ) ؛ للشهيد الأول شمس الدين محمد بن جمال الدين مكي العاملي (م ٧٨٦) ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٤١٤ هـ.

٢٦) دعائم الإسلام ؛ للقاضي نعمان بن محمد التيمي المغربي ( م ٣٦٣) ، القاهرة ، دار المعارف ، ١٣٨٢ هـ.

٢٧) ذخيرة المعاد (في شرح الإرشاد) ؛ للمولى محمد باقر السبزواري (١٠١٧ ـ ١٠٩٠ ) قم ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.


٢٨) الذريعة (إلى تصانيف الشيعة) ؛ للعلامة الشيخ محسن آغا بزرك الطهراني (١٢٩٣ ـ ١٣٨٩) ، الطبعة الأولى ، نجف وطهران ، ١٣٩٨ هـ.

٢٩) ذكرى الشيعة (في أحكام الشريعة ) ؛ للشهيد الأول ، قم ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث. ١٤١٩ هـ.

٣٠) رسائل الشريف المرتضى ؛للشريف المرتضى علم الهدى أبي القاسم عليّ بن موسى (م ٤٣٦) ، قم دار ، دار القرآن الكريم ١٤٠٥ هـ.

٣١) الرسائل العشر ، للشيخ الطوسي ، الطبعة الأولى ، قم ، مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٢) الرسائل للمحقق الكركي ؛ للمحقق الثاني ، قم ، مكتبة آية الله المرعشي ١٤٠٩ هـ.

٣٣) رسالة السيد بن طاوس (رسالة عدم مضايقة الفوائت ) : للسيد رضي الدين عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن أحمد بن محمد الطاوس العلوي الحسيني ، مطبوعة ضمن تراثنا ، العدد الثالث ، السنة الثانية.

٣٤) روض الجنان ؛ للشهيد الثاني الجبعي العاملي (٩١١ ـ ٩٦٥) ، قم ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.

٣٥) الروضة البهية (في شرح اللمعة الدمشقية) ؛ للشهيد الثاني ، إعداد السيد محمد كلانتر ، بيروت ، دار المعالم الإسلامي.

٣٦) رياض المسائل ؛ للسيد علي الطباطائي (١١٦١ ـ ١٢٣١) ، قم ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ، ١٤٠٤ هـ.

٣٧) زبدة البيان في أحكام القرآن ؛ للمولى أحمد بن محمد الأردبيلي (م ٩٩٣) ، طهران ، المكتب المرتضوية ، ١٣٨٦ هـ.


٣٨) السرائر ؛ لمحمد بن إدريس الحلي ، قم ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٤١٠ هـ

٣٩) سنن ابن ماجة ؛ لأبي عبدالله محمد بن ماجة القزويني ، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي ، بيروت ، دار إحياء التراث.

٤٠) سنن أبو داود ؛ لأبي داود السجستاني ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ، دار إحياء السنة النبوية.

٤١) سنن البيهقي ؛ لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ، بيروت ، دار المعرفة.

٤٢) سنن الترمذي ؛ لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، تحقيق أحمد محمد شاكر ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي.

٤٣) سنن الدارقطني ؛ لعليّ بن عمر الدارقطني ، بيروت ، عالم الكتب ، ١٤٠٦ هـ

٤٤) سنن النسائي ؛ لأبي عبد الرحمن أحمد بن علي النسائي ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي.

٤٥) شرائع الإسلام ؛ للمحقق الحلي نجم الدين جعفر بن الحسن ٦٠٢ ـ ٦٧٢ ) ، إعداد عبدالحسين محمد علي البقال ، الطبعة الثالثة ، قم ، اسماعيليان ، ١٤٠٤ هـ.

٤٦) الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية ) ؛ لإسماعيل بن حماد الجوهري ( م ٣٩٣ ) ، الطبعة الثالثة ـ بيروت ، دار العلم للملامين ، ١٩٧٩ م.

٤٧) صحيح مسلم ؛ لأبي الحسين محمد بن مسلم بن حجاج القشيري النيسابوري (٢٠٦ ـ ٢٦١) ، تحقيق محمد جواد عبدالباقي ، الطبعة الثانية ، بيروت ، دار الفكر ، ١٣٩٨ هـ.

٤٨) عوائد الأيام (في بيان قواعد الأحكام) ؛ للمولى أحمد النراقي (م ١٢٤٥) ، قم ، مكتب الاعلام الإسلامي.

٤٩) عوالي اللآلي ؛ لمحمد بن عليّ بن إبراهيم (ابن أبي جمهور ) ، تحقيق مجتبى العراقي ، الطبعة الأولى ، قم ، ١٤٠٣ هـ.


٥٠) عيون أخبار الرضا عليه السلام ؛ للشيخ الصدوق (٣٨١ هـ) ، تحقيق علي أكبر الغفاري ، الطبعة الأولى ، طهران ، نشر الصدوق ، ١٣٧٣ ش.

٥١) غاية المراد في شرح نكت الإرشاد ؛ للشهيد الأوّل ، الطبعة الأولى ، قم ، مكتب الأعلام الإسلامي ، ١٤١٠ هـ.

٥٢) غاية النزوع (إلى علمي الأصول والفروع) ؛ للسيد حمزة بن عليّ بن زهرة الحلبي ، مع تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري ، قم ، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، ١٤١٨ هـ.

٥٣) الفقه على المذهب الأربعة ؛ لعبد الرحمن الجزيري (م ١٣٦٠) ، الطبعة السابعة ، بيروت ، دار إحياة التراث العربي ، ١٤٠٦ هـ.

٥٤) الفقيه ؛ راجع «من لايحضره الفقيه».

٥٥) القاموس المحيط ؛ لأبي طاهر الفيروز آبادي ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، ١٤٠٧ هـ.

٥٦) قرب الإسناد لأبي العباس عبدالله بن جعفر الحميري القمي ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ، ١٤١٣ هـ.

٥٧) قواعد الأحكام ؛ للعلامة الحلي ، قم ، منشورات الرضي ، ١٤٠٤ هـ.

٥٨) القواعد والفوائد ؛ للشهيد الأوّل ، تحقيق الدكتور السيد عبدالهادي الحكيم ، قم ، مكتبة المفيد.

٥٩) قوانين الأ صول ؛ للمحقق الميرزا أبي القاسم القمي (م ١٢٣١ ) ، طهران ، المكتبة العلمية الإ سلامية ، الطبعة الحجرية.

٦٠) الكافي (الأصول والفروع والروضة ) : لثقة الإسلام أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م ٣٢٨ / ٣٢٩) ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، الطبعة الثالثة ، ١٣٨٨ هـ.


٦١) الكافي في الفقه ؛ لأبي الصلاح الحلبي (٤٤٧) ، اصفهان ، مكتبة الإمام أمير المؤنين ، ١٤٠٣ هـ.

٦٢) الكاشف؛ لجار الله محمود بن عمر الزمخشري ، دار المعرفة ، بيروت.

٦٣) كشف الرموز (في شرح المختصر النافع) ؛ لزين الدين الحسن بن أبي طالب ، (الفاضل الآبي) قم ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٤٠٨ هـ.

٦٤) كشف الغطاء ؛ للشيخ جعفر كاشف الغطاء (١٢٢٨ هـ) الطبعة الحجرية ، طهران ، ١٢٧١ ش.

٦٥) كشف الغمة (في معرفة الأئمة ) ؛ لعلي بن عيسى الإربلي (م ٦٩٢) ، قم ، المطبعة العلمية.

٦٦) كشف اللثام ؛ للفاضل الهندي محمد بن الحسن الإصفهاني ، طهران ، ١٢٧٤هـ.

٦٧) كفاية الأحكام ؛ للعلامة محمد باقر بن محمد مؤمن السبزواري (م ١٠٩٠) ، الطبعة الحجرية ، اصفهان ، مركز النشر الإسلامي.

٦٨) كنز العمال (في سنن الأقوال والأفعال ) ؛ لعلاء الدين علي المتقي الهندي ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، ١٤٠٩ هـ.

٦٩) المبسوط ( في فقه الإمامية ) ؛ للشيخ الطوسي ، الطبعة الثانية ، طهران ، المكتبة المرتضوية ، ١٣٩٣ هـ.

٧٠) مجمع البحرين ؛ للشيخ فخر الدين الطريحي (م ١٠٨٧) ، الطبعة الثانية ، طهران ، المكتبة المرتضوية ، ١٣٦٢ ش.

٧١) مجمع البيان ؛ لأبي عي الفضل بن حسن الطبرسي (٤٧٠ ـ ٥٤٨) ، تحقيق ميرزا أبوالحسن الشعراني ، الطبعة الخامسة ، طهران ، المكتبة الإسلامية ، ١٣٩٥ هـ.

٧٢) مجمع الفائدة والبرهان ؛ للمولى أحمد بن محمد الأردبيلي ( م ٩٩٣ ) ، قم ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٤٠٢ هـ.


٧٣) مجموعة فتاوي ابن الجنيد ؛ إعداد الشيخ على پناه الاشتهاردي ، قم ، مؤسسة النشر الإسلامي ، الطبعة الأولى ، ١٤١٦ هـ.

٧٤) المختصر النافع ؛ للمحقق الحلّي ، دار الأضواء ، بيروت ، ١٤٠٥ هـ.

٧٥) مختلف الشيعة ؛ للعلامة الحلي ، تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية ، الطبعة الأولى ، قم ، ١٤١٨ هـ.

٧٦) مدارك الأحكام (في شرح شرائع الإسلام) : للسيد محمد بن علي الموسوي العاملي (م ١٠٠٩) ، الطبعة الأولى ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ، ١٤١٠ هـ.

٧٧) مسالك الأفهام ؛ للشهيد الثاني ، قم ، الطبعة الأولى ، مؤسسة المعارف الإسلامية ١٤١٤ هـ.

٧٨) مستدرك الوسائل ؛ للميرزا حسين النوري الطبرسي (١٢٥٤ ـ ١٣٢٠) ، قم ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٧ هـ.

٧٩) مستند الشيعة ؛ للمولى أحمد بن محمد مهدي النراقي (١١٨٥ ـ ١٢٤٥) ، طهران ، المكتبة المرتضوية ، ١٣٩٦ هـ.

٨٠) مسند أحمد بن محمد بن حنبل ؛ مصر ، المطبعة الميمنية ، ١٣١٣ هـ.

٨١) مشارق الشموس (في شرح الدروس ) : لحسين بن جمال الدين محمد الخوانساري (م ١٠٩٩) ، الطبعة الحجرية ، قم ، مؤسسة أل البيت لإحياء التراث.

٨٢) المصباح المنير ؛ لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي ، قم ، دار الهجرة ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٥ هـ.

٨٣) معاني الأخبار ؛ للشيخ الصدوق ، تحقيق علي أكبر الغفاري ، قم مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٣٦١ ش

٨٤) المعتبر ؛ للمحقق الحلّي ، الطبعة الأولى ، قم مؤسسة سيد الشهداء ، ١٣٦٤ ش.


٨٥) مفاتيح الشرائع ؛ لمحمد بن المترضى الفيض الكاشاني ، الطبعة الأولى ، قم ، مجمع الذخائر الإسلامي ، ١٤٠١ هـ.

٨٦) مفتاح الكرامة (في شرح قوائد العلامة)؛ للسيد محمد جواد الحسيني العاملي (م ١٢٢٧) ، قم ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.

٨٧) المقنعة ؛ للشيخ المفيد محمد بن النعمان العكبري البغدادي (٣٣٦ ـ ٤١٣) قم ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٤١٠ هـ.

٨٨) المكاسب ؛ للشيخ مرتضى بن محمد امين الأنصاري (١٢١٤ ـ ١٢٨١) ، تبريز ، ١٣٧٥ هـ.

٨٩) المناهل ؛ للسيد محمد الطباطبائي (م ١٢٤٢) ، قم ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.

٩٠) منتقى الجمان (في الأحاديث الصحاح والحسان ) : للشهيد الثاني (م ١٠١١) ، قم ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٣٦٢ش.

٩١) المنتهى (منتهى المطلب) ؛ للعلامة الحلي ، الطبعة الحجرية.

٩٢) من لا يحضره الفقيه ؛ للشيخ الصدوق ، تحقيق علي أكبر الغفاري ، الطبعة الثانية ، قم ، مؤسسة النشر الإسلامي.

٩٣) الموطّأ ؛ لمالك بن أنس (٩٣ ـ ١٧٩ ) ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، ١٤٠٦ هـ.

٩٤) المهذب البارع ؛ لأحمد بن محمد بن فهد الحلي (٧٥٧ ـ ٨٤١ ) تحقيق الشيخ مجتبى العراقي ، قم ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ١٤٠٧ هـ.

٩٥) نهاية الإحكام (في معرفة الأحكام ) ؛ للعلامة الحلي ، الطبعة الأ ولى ، بيروت دار الأضواء ، ١٤٠٦ هـ.


٩٦) النهاية الأثيرية ؛ لأبي السعادات مجد الدين المبارك ابن الأثير الجزري ، الطبعة الرابعة ، قم ، اسماعيليان ، ١٣٦٣ ش.

٩٧) النهاية في مجرد الفقه والفتاوي ؛ للشيخ الطوسي ، قم ، قدس.

٩٨) الوافي ؛ لمحمد بن المرتضى الفيض الكاشاني ، الطبعة الأولى ، اصفهان ، مكتبة أمير المؤنين العاقة ، ١٤١٢ هـ.

٩٩) وسائل الشيعة ؛ للشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي (١٠٣٣ ـ ١١٠٤) ، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ، ١٤١٢ هـ.

١٠٠) (سلسلة) الينابيع الفقهية ؛ تحت إشراف علي أصغر مرواريد ، بيروت ، دار التراث والدار الإسلامية ، ١٤٠١٠ هـ.

مشارق الأحكام

المؤلف:
الصفحات: 528