
دليل الكتاب
مقدّمة المركز ..................................................... ٥
دعوة إلى الكتاب والباحثين ....................................... ١١
تعريف الديمقراطيّة ............................................... ٢٦
المحور الأساسي في الديمقراطية ..................................... ٢٧
مفهوم الديمقراطيّة في ضوء نظريّة الإمامة ونظرية الشورى ............. ٢٨
مفارقات الديمقراطيّة الحديثة لنظريّة الشورىٰ ......................... ٢٩
أوجه التشابه بين الديمقراطيّة ونظرية الإمامة ......................... ٣٠
اشكالات موجّهة لنظرية الديمقراطيّة الحديثة :
أولاً : إلغاء أصوات الأقليّة ........................................ ٣٣
ثانياً : سيطرة أصحاب الثروة والقدرة على الأصوات ................. ٣٤
ثالثاً : عدم التوازن بين عنصري الكفاءة والنخبة وبين مشاركة الناس .......................................................... ٣٥
اختلاف طرق الانتخاب في نظرية الديمقراطيّة ....................... ٣٥
هلّ الإشكالات الموجّهة للديمقراطيّة موجودة في نظرية الإمامة : أولاً : مسؤوليّة الاُمّة اتجاه الحكومة ................................. ٣٧
ثانياً : دور أهل الحلّ والعقد ( الخبرة ) في الحكومة ................... ٤٠
ثالثاً : الموازنة بين دور العقل والعلم مع دور الاُمّة .................... ٤٦
أوجه الاختلاف بين نظرية الشورى والديمقراطيّة ..................... ٥٤
كيفيّة الجمع بين الدين والديمقراطيّة ................................ ٦٠
هل إنّ أصل تعيين الحاكم هو حقّ طبيعي وفطري للإنسان ؟ ........... ٦٦
الفرق بين مفهوم المساواة بين النظريّة الدينية والديمقراطيّة .............. ٦٨
بِسْمِ
اللهُ الرّحمَنِ الرَّحيِم
مقدّمة
المركز
الديمقراطيّة فكرة مستجدة على العالم
الإسلامي ، جاءته من الدول الغربيّة ، بعد سقوط الحكومات الدكتاتورية ومحاولة إقامة حكومات شعبيّة مبتنية على إرادة الأفراد.
ولعلّ أبعد تأريخ لطرح هذه الفكره على
الواقع لا يتجاوز القرنين الأخيرين ، وذلك لا يعني أنّ فكرة الديمقراطيّة بقيت كما طُرحت أوّل مرة بكلّ أبعادها وأُسسها ، بل شهدت تغيّرات في أساليب تطبيقها ، ممّا أدّت ـ هذه التغيّرات ـ إلى تعدّد تعاريف الديمقراطيّة مع المحافظة على جوهرها ، وهو حاكميّة أو سلطة الشعب.
فقيل : هي نظام الدولة الذي يُمارس فيه
الحكم بالرجوع إلى إرادة الشعب.
وقيل : هي اختيار حرّ للحاكمين من قبل
المحكومين يتمّ خلال فترات منتظمة.
وقيل : هي مجموعة من القواعد الأساسيّة
التي تحدّد من هو المخوّل حقّ اتخاذ القرارات الجماعيّة ووفقاً لأية إجراءات.
وقيل : هي عبارة عن مجموعة من الضمانات
التي تقينا شرّ
وصول بعض القادة إلى
الحكم أو بقائهم في سدّته ضدّ إرادة الأكثريّة.
إلّا أنّ هناك عدّة إشكالات اُثيرت حول
الديمقراطيّة ، لم يستطع أصحاب هذه النظرية والمدافعون عنها الإجابة عليها.
منها :
آليّة الانتخاب ، هل هو بشكل مباشر من قبل القاعدة الشعبيّة ؟ أو أنّ القاعدة تنتخب مجلساً معيّناً ، وهذا المجلس يقوم بانتخاب الحكومة ؟ ويسمّى هذا المجلس بـ « النُخب » أو « أهل الحلّ والعقد ».
والإشكال الأساسي في النُخب يكمن في
تعريف أفراده ، وما هي المواصفات التي يجب توفّرها فيهم ، وهل أنّ القاعدة الشعبيّة تنتخب النُخب بشكل مباشر ، أو ضمن قوائم معيّنة يقدّمها قادة الأحزاب والكتل السياسيّة في البلاد ، كما حصل في العراق الآن ، فمن الطبيعي أنّ كلّ حزب أو تكتّل سياسي رشّح الأفراد الذين ينتمون لحزبه وإن لم يتمتعوا بالمواصفات الفكريّة التي تؤهّلهم لهذا المنصب.
ومنها :
أنّ الديمقراطيّة مبنيّة على حكم الشعب ، ولكن السؤال والإشكال الذي يرد عليه هو : هل المقصود بحكم الشعب هو اتفاق كافة أفراده على حكومة معيّنة ؟ أو هو اتفاق الأكثريّة ؟ وما المقصود بالأكثريّة ، هل هي العدديّة أو النسبيّة ؟
ومن المعلوم أنّ الاتفاق والإجماع من
كافة أفراد القاعدة
الشعبيّة يكاد يكون
معدوماً ، واتفاق الأكثرية لا يمثل بالضرورة رأي كلّ أبناء الشعب ، خصوصاً على القول بالأكثريّة النسبيّة ، فيمكن أن يصل شخص معيّن إلى سدّة الحكم بانتخاب ربع أبناء الشعب الذين يحقّ لهم الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات.
فإذا كان عدد الذين يحقّ لهم المشاركة
في الانتخاب والإدلاء بأصواتهم هو اثني عشر مليوناً ، فشارك في الانتخاب خمسون بالمئة منهم ، أي ستّة ملايين ، وأعطى نصف المنتخبين ـ أي ثلاثة ملايين ـ رأيهم لمرشّح معيّن ، وتوزّعت بقية الآراء على أكثر من مرشّح ، فإنّ الفائز في هذه الانتخابات والذي يحقّ له تشكيل الحكومة ، وصل إلى سدّة الحكم بانتخاب ثلاثة ملايين من أصل اثني عشر مليوناً يحقّ لهم المشاركة في الانتخابات.
وعلى القول بأنّ الفائز في الانتخابات
يجب أن يحرز ثلثي الأصوات ، ففي المثال السابق يمكن أن يفوز من حصل على أربعة ملايين صوتاً ، وهو ثلث عدد الذين يحقّ لهم المشاركة في الانتخابات.
وعلى هذا فإنّ الفائز الذي يصبح رئيساً
للدولة ، لا يمثّل أكثريّة أبناء الشعب ، بل ربعهم أو ثلثهم.
ومنها :
إلغاء أصوات الأقليّة ـ التي قد تكون في الواقع أكثريّة ، كما مرّ في الإشكال السابق ـ وحرمانهم من حقوقهم ومطالبهم
المشروعة ، وسيطرة
أصحاب الثروة والقدرة على الأصوات.
وهناك إشكالات أُخرى على الديمقراطيّة
لا مجال لذكرها هنا.
وقد تجسّد الكثير من هذه الإشكالات في
التجربة الديمقراطيّة التي يمرّ بها العراق في الوقت الراهن ، خصوصاً ما يتعلّق بالنُخب أو أهل الحلّ والعقد ، الذين تمّ انتخابهم من قبل القاعدة الشعبيّة ، وهم بدورهم قاموا بانتخاب الحكومة.
فإنّ أبناء الشعب العراقي لم ينتخبوا
النخب بشكل مباشر ، بل بواسطة قوائم انتخابية قدّمها قادة الأحزاب والكتل السياسيّة ، إذ أنّ الكثير من أفراد هذه القوائم ليسوا معروفين من قبل العراقيين.
إضافة إلى أنّ بعض المرشّحين لم تتوفّر
فيهم مؤهلات فكريّة وثقافيّة كافية ، بل المقياس والمناط في ترشيحهم هو انتماؤهم لهذا الحزب أو ذلك.
وعلى كلّ حال ، مالا يُدرك كلّه لا يترك
كلّه ، وما حلية المضطرّ إلّا ركوبها.
وهذا الكتاب الذي بين أيدينا ، عبارة عن
حوار أجراه مركز الأبحاث العقائديّة مع العلّامة الشيخ محمّد سند حفظه الله ورعاه ، حول مفهوم الديمقراطيّة ، فقد بيّن سماحته معنى الديمقراطيّة ، والمحور الأساسي فيها ، ومفهومها وفقاً لنظريّة الإمامة عند الشيعة ونظريّة الشورى عند أهل السنّة ، والإشكالات الموجّهة للنظرية ،
وغيرها من الاُمور
المهمة المتعلّقة بهذا الموضوع.
ومركز الأبحاث العقائدية ، إذ يقوم بطبع
هذا الكتاب ضمن سلسلة « دراسات في الفكر الإسلامي المعاصر في ضوء مدرسة أهل البيت عليهمالسلام
» ويجعله باكورة أعماله في هذا المجال ، يدعو الكتّاب والباحثين إلى المشاركة في هذا المشروع الحيوي العصري ورفده بما تجود به أقلامهم المباركة.
|
محمّد الحسّون
مركز الأبحاث العقائديّة
٢١ ربيع المولد ١٤٢٧ هـ
site.aqaed.com / Mohammad
muhammad@aqaed.com
|

بسم
الله الرحمن الرحيم
|
يهتمّ مركز
الأبحاث العقائديّة بدراسة ونشر الفكر الإسلامي المعاصر من خلال القرآن الكريم وسنّة الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله
وأهل بيته الأطهار عليهمالسلام ، وذلك من خلال استشراف المشروع الحضاري للمرجع الديني الأعلىٰ آية الله العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني دام ظلّه ، الهادف إلى الإجابة علىٰ مختلف الإشكالات وإنقاذ الأُمّة الإسلاميّة من التخلّف والتبعيّة وويلات الحروب ، وذلك بتسليط الأضواء علىٰ النظام الاجتماعي للإسلام وفلسفته في وضع السياسات والحلول للتعامل مع كافة المشاكل والمواقف والأحداث علىٰ مستوى العالم ...
|
|
تمهيد :
يلاحظ :
أنّ العقود الأخيرة من حياتنا المعاصرة ـ الأربعين سنة الأخيرة ـ شهدت في أُوربا تيارات ثقافيّة متنوّعة ، يَسِمها طابع التمرّد والتشكيك والتحوّل من تيار إلىٰ آخر..
بيد أنّ ما يُطلق عليه مصطلح ( التيار
التفكيكي ) يظلّ هو التيار الأشدّ حضوراً في السنوات المعاصرة ، بالرغم من انحساره نسبياً ، وظهور تيارات أُخرىٰ ، ( كالتاريخانية ) وما سواها من التيارات اليسارية الجديدة..
إنّ التيار المذكور مع بعض أجنحته ، كـ
( تيار الاستجابة والتلقّي ) ونحوهما ، يتميّز عن سواه بكونه ينطلق من خلفية فلسفية هي ( التشكيك ) في المعرفة والكينونة و ... ، حتىٰ إنّه أُطلق علىٰ العصر
الذي شهد هذا التيار بـ ( عصر الشكّ ) ، وكانت انطلاقته من فرنسا ـ البلد الذي ينفرد بإحداث الموضات الجديدة ـ في الصعيد الثقافي بعامة ..
وقد واكب هذه الفلسفة التشكيكية تطوير
الدراسات اللغوية التي
بدأت مع العقد
الثالث من القرن العشرين ، حيث استثمر التيار التفكيكي أو التشكيكي معطيات هذه الدراسات ( الألسنية ) ، ووظّفها لصالح تفكيكيته أو تشكيكيته ، وذلك بأن فصل بين ( دوال اللغة ) و ( مدلولاتها ) ، فحذف الأخيرة وجعلها غائبة ، ليشير بذلك إلىٰ عدم وجود مركز معرفي ثابت بقدر ما يخضع الأمر لقراءات استمراريّة لا نهائية ، أي : جعل استخلاص الدلالة المعرفية لا نهاية أو لا ثبات لها ، وهو أمر يتساوق ويتناغم مع الفلسفة التشكيكية التي لا تجنح إلىٰ يقينٍ معرفي أو المعرفة اليقينية ، ومن ثمّ يظل ( المعنىٰ ) أو ( الدلالة ) أو ( القيم ) لا ثبات ولا استقرار لمفهوماتها ..
ومن الطبيعي حينما ينسحب هذا التشكيك
على الظواهر جميعاً ، فإنّ النتيجة تظلّ تشكيكاً بكلّ شيء ، وفي مقدّمة ذلك : التشكيك أساساً بما وراء الوجود ( المبدع ) وإرسالات السماء ، وكلّ ما هو ( مقدّس ) بحسب تعبير الموضة المشار إليها ..
وإذا كان المناخ الأُوربي يسمح بولادة
أمثلة هذه التيارات ، نظراً ـ من جانب ـ إلى اليأس الذي طبع مجتمعات الغرب من حضارتها المادية الصرفة ، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية ..
وإذا كان المناخ المذكور ـ من جانب آخر ـ
طبعه الترف الفكري أو التخمة الثقافية ، بحيث تقتاده إلى توليد جديد للفكر حتى لو لم تسمح به الضرورة ..
ثمّ ـ من جانب ثالث ـ إذا أخذنا بنظر
الاعتبار ( وهذا أهم الأسباب
بطبيعة الحال ) عزلة
المجتمع الأُوربي عن السماء ومبادئها :
حينئذ ، فإنّ ولادة التيارات التفكيكية
والتشكيكية والمتمرّدة والفوضوية وبالإضافة إلىٰ عودة بعض التيارات المنتسبة إلىٰ اليسار الجديد .. أُولئك جميعاً تفسّر لنا ولادة التيارات المذكورة في مجتمع أُوربي له أرضيته الخاصة.
إلّا أنّ من المؤسف كثيراً أن نجد
انعكاسات التيارات المذكورة علىٰ ( الشرق ) وفي مقدّمتها : المجتمعان العربي والإسلامي ، حيث هرِع أفراد كثيرون إلى معانقة هذه التيارات المتعاقبة ( المتداخلة والمتضادة أيضاً ) ، مع أنّها ( غريبة ) تماماً علىٰ المناخ العربي والإسلامي !
إلّا أنّ ( نزعة التغريب ) التي تطبّع
عليها هؤلاء الأفراد تفسّر لنا تبنّيهم الفكر الغربي ، وتخلّيهم عن قيم الوحي ومبادئ الإسلام العليا ..
ولكنّ الأسىٰ الأشدّ مرارة أن
نلحظ ( الإسلاميين ) بدورهم ، قد بهرَهم زينة الحياة المنعزلة عن السماء في المناخ الأُوربي ، فهرعوا بدورهم إلىٰ محاورة ( الانحراف ) المذكور ، وبدأوا ينشرون دراساتهم التفكيكية والتشكيكية حول مختلف ضروب المعرفة ، وفي مقدّمتها التعامل مع النصّ القرآني الكريم ، بدءاً بالوحي ، وانتهاءاً بـ ( التفسير بالرأي ) ، بحسب ما تلقّوه من التيار الأُوربي الذي أطلق العنان لمفهوم ( القراءة ) أو السلطة للقارئ يعبث ما يشاء بدوال النصّ ، حافراً ومنقبّاً ومهدّماً ، تقليداً لأسياده المنعزلين عن السماء ومبادئها ..
وإذا أضفنا ـ أخيراً ـ إلىٰ ما
تقدّم ، ظاهرة ( العولمة ) في سنواتنا
المعاصرة ، وما
تستهدفه من السيطرة علىٰ الإيديولوجيات جميعاً ; حينئذٍ نجد أنّ الضرورة الإسلامية تفرض علينا أن نتّجه إلىٰ ( تأصيل ) ما هو ضرورة في حياتنا المعاصرة ، ومن ثمّ ( الردّ ) علىٰ الانحرافات المذكورة ..
بصفة أنّ التزامنا بمبادئ الدين ، وإدراكنا
لمهمّة خلافة الإنسان ، أي : إدراكنا للوظيفة التي أوكلها الله تعالىٰ إلينا ، وهي مقولة : (
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )
، أولئك جميعاً تفرض علينا :
أوّلاً :
أن نتعامل مع الظواهر وفقاً لما يفرضه القانون العقلي ويتلاءم مع التصوّر الإسلامي حيالها ، وفي مقدّمة ذلك : ( اليقين المعرفي ) ، وليس ( التشكيك ) ..
ومن ثمّ :
القيام بمهمّة ( تأصيل ) ما يتّفق مع مبادئنا ، و ( الردّ ) علىٰ الانحرافات التي طبعت سلوك ما يسمّى بـ ( الإسلاميين ) المنشطرين بين مَن ( يشكّك ) وبين ( يساريّ ) إسلامي يستعين حتىٰ بالمبادئ المنتسبة إلىٰ الإلحاد ..
وفي ضوء الحقائق المتقدّمة ، وتلبية
للتوجيهات الصادرة من سماحة المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني « دام ظلّه الوارف » بضرورة التصدّي لأفكار العلمانية وردّ شبهاتها قرّر مركزنا أن يضطلع بالمهمة المشار إليها ، داعياً الأقلام الإسلامية الراصدة لما يجري في الساحة بأن يجعلوا من أولويات اهتماماتهم كتابة البحوث المناسبة للموضوع ، أي المتسقة مع مشكلات حياتنا المعاصرة.
______________
إجراءات وقواعد الدراسات في السلسلة :
١ ـ الكتابة بلغة معاصرة ، وبمنهجية
جادّة.
٢ ـ التأكيد علىٰ عنصر المقارنة
بين التصوّرين الاسلامي والمضاد ، من أجل وقوف القارئ على مفارقات الأفكار المضادّة وأصالة الفكر الإسلامي.
٣ ـ يتعيّن أن لا يزيد عدد صفحات
الدراسة عن (٢٠٠) صفحة ، بما في ذلك الهوامش والملاحق والمراجع ، إلّا إذا اقتضت ضرورة البحث أكثر من ذلك.
٤ ـ إنّ بحوث هذه السلسلة إسلاميّة ، تبيّن
رأي مدرسة أهل البيت عليهمالسلام
، وذلك بتأصيل هذه البحوث وفقاً لمباني الاستنباط ، من الاعتماد على : الكتاب والسنّة الصحيحة والعقل والإجماع.
٥ ـ يقيّم المركز الدراسة بعد إنجازها
بشكل نهائي ، ويقترح التعديلات التي يراها ضرورية.
٦ ـ نقترح أن يتواصل الباحث مع المركز ،
ابتداءً من انتخاب الموضوع ، ومروراً بمختلف مراحل التأليف ، وانتهاءً بطبع البحث ونشره إن شاء الله تعالى.
٧ ـ بعد إجراء التعديلات النهائيّة علىٰ
الدراسة ، يقبل المركز الدراسة ويقدّم لها بمقدّمة علمية ، يسلّط فيها الضوء علىٰ الموضوع بصورة عامّة ، ثمّ يتناول أهم النقاط في البحث.
٨ ـ هذه السلسلة تكون باللغة العربيّة ،
وتدخل فيها البحوث المترجمة من سائر اللغات إلى اللغة العربيّة ، بشرط أن تعرض قبل الترجمة علىٰ اللجنة العلمية لأخذ موافقتها علىٰ ذلك.
٩ ـ يشترط أن تكون البحوث غير منشورة
مسبقاً ، إلّا أن تكون قد حدثت عليها تغييرات أساسية.
١٠ ـ يتولّىٰ المركز نشر الدراسة
ضمن سلسلة تصدر عنه تحت عنوان : « دراسات في الفكر الإسلامي المعاصر ».
وأخيـراً ، فإنّ المركز قام بتهيئة
مكتبة كبيرة تحوي أهمّ المصادر التي يحتاج إليها الباحث ، في مختلف المواضيع والاتجاهات ، مع ترتيب فهرسة موضوعية لأهم البحوث التي لها صلة بالسلسلة ، يمكن للباحث الاستفادة منها.
الموضوعات
المقترحة :
يمكن لكتابنا الإسلاميين أن ينتخبوا أحد
الموضوعات المقترحة ، أو غيرها من الموضوعات التي تصبّ في صميم السلسلة ، مع جعلهم الأولويّة في الانتخاب إلىٰ ما يحتاجه عصرنا من بحوث تملأ الفراغ الموجود ، وتعالج القضايا المطروحة في الساحة العلمية ، وترفع الإشكالات العالقة في الأذهان ، والتركيز علىٰ ماتحتاجه شريحة الشباب ـ التي تشكّل نسبة عالية من مجتمعاتنا ، وتعتبر عماد ومستقبل هذه الأُمّة ـ من بحوث ظلّت عالقة في أذهانهم تحتاج إلىٰ من يبحثها ويحقّق فيها ويعطيها الحلول والإجابات الشافية.
ونذكر علىٰ سبيل المثال المواضيع
التالية :
١ ـ الثابت والمتغيّر في الدين.
٢ ـ الديمقراطية في المفهوم الديني.
٣ ـ حدود الضروري في الدين « الارتداد
نموذجاً ».
٤ ـ الفهم البشري للنصّ الديني « المقدّس
واللّامقدّس نموذجاً ».
٥ ـ استنباط المفهوم السياسي من النصّ
الديني.
٦ ـ التسامح والتساهل الديني.
٧ ـ النبوّة والإمامة والزعامة
السياسية.
٨ ـ الحرّية ومعارضتها مع المفهوم
الديني.
٩ ـ تعارض العلم مع الدين « المثليّة
الجنسيّة نموذجاً ».
١٠ ـ تعارض العقل مع الدين « حدوده
ومفهومه ».
١١ ـ التعارض بين الخطاب الديني
والقوانين الغربيّة « الحجاب نموذجاً ».
١٢ ـ الخطاب الديني والإلزام الحقوقي.
١٣ ـ المرجعيّة الدينية في عصر الغيبة «
حدودها وأدوارها ».
١٤ ـ الأخلاق بين الثابت والمتغيّر.
١٥ ـ العلاقة مع الآخر.
١٦ ـ حقوق المرأة في الإسلام « حدودها
وضوابطها ».
١٧ ـ المساواة بين الرجل والمرأة.
١٨ ـ حقوق الإنسان بين الإسلام
والشرعيّة الدوليّة.
١٩ ـ حقوق الأقليات في الإسلام.
٢٠ ـ الحريّات الشخصية في المنظور
الإسلامي.
٢١ ـ العلمانيّة والفكر الديني.
٢٢ ـ الدين والسياسة.
٢٣ ـ فلسفة العقوبات « القصاص نموذجاً
».
٢٤ ـ أُصول الفقه الإسلامي
والهرمنيوطيقا.
٢٥ ـ التعدديّة الدينيّة.
٢٦ ـ الحريّات الفكريّة في الإسلام.
٢٧ ـ إسلاميّة المعرفة.
٢٨ ـ دور العلوم البشريّة في الاجتهاد.
٢٩ ـ أثر الزمان والمكان في الاجتهاد.
٣٠ ـ لغة المجاز والرمزية في النصّ
الديني.
٣١ ـ حوار الحضارات بين الحقيقة
والخيال.
٣٢ ـ التقريب بين الأديان والمذاهب ( حدوده
وضوابطه ).
٣٣ ـ المتفق عليه والمختلف فيه بين
الأديان في سيرة الأنبياء.
٣٤ ـ الأديان والشرائع السماويّة ( حدود
المشتركات فيها ونسخ بعضها الآخر ).
٣٥ ـ الكتب المقدّسة للأديان السماوية
بين الحقيقة والتحريف.
٣٦ ـ أهل الذمّة في الشريعة الإسلاميّة.
٣٧ ـ دور رجال الدين في السياسة
والدولة.
٣٨ ـ نظريات علم الاجتماع الحديثة في
الشريعة الإسلامية.
٣٩ ـ التعهدات بين الدول الغربية
والإسلامية ( حدودها وضوابطها ).
٤٠ ـ الاقتصاد الإسلامي وتوزيع ثرواته
على الشعوب.
مركز الأبحاث العقائديّة
محمد الحسّون

بسم
الله الرحمن الرحيم
استضاف مركز الأبحاث العقائديّة سماحة العلّامة
الشيخ محمّد سند ، في مقرّ المركز في مدينة قم المقدّسة ، وطرح على سماحته عدّة أسئلة ، وكان موضوع البحث « الديمقراطيّة على ضوء نظريّة الإمامة والشورى ».
لا يخفى أنّ للديمقراطيّة تاريخاً طويلاً ، وقد
مرّت بتجارب كثيرة ، وامتزجت بثقافات عديدة ، إلى أن وصلت بأيدينا بهذه الصورة ، وأصبحت كأُمنية عالميّة ينادي بها الشعوب والحكّام ، حتى إنّ فرانسيس فوكوياما ـ أحد المنظّرين في الولايات المتحدة ـ أعلن في كتابه « نهاية التاريخ » بأنّ الشعوب مرّت بتجارب سياسيّة كثيرة إلى أن انتهى أمرها إلى الديمقراطيّة الليبراليّة ، وستكون هي آخر نظام سياسي يشهده التاريخ.
هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى نحن كإسلاميّين
واجهنا هذا المفهوم كواقع سياسي حي ، وسبّبت هذه المواجهة نزاعاً بين الإسلاميين أنفسهم في قبولها أو رفضها ، فما هو تعريفكم سماحة الشيخ للديمقراطيّة ؟ وما هي الأُسس التي تعتمد عليها ؟
الشيخ السند : حفلت البشريّة تقريباً
قرابة القرنين الأخيرين ، لاسيما التغيّرات في النظام الاجتماعي التي حدثت في المجتمعات الأوربية ، والثورات والانقضاض على الأنظمة الملكيّة المستبدّة ، فتولّدت لديهم فكرة حاكميّة الإرادة الاجتماعيّة ، أو ما قد يسمّى المشاركة الشعبيّة ، ومشاركة عموم أفراد المجتمع في تقرير مصيرهم وإدارة بلدهم ، وإدارة النظام الاجتماعي الذي يحكم فيهم.
وأُطلق عليها عند عدّة من أصحاب فلسفة
القانون أو علم الاجتماع بـ « العقد الاجتماعي » ، كما ذكر ذلك جان جاك روسو وغيره من القانونيين والحقوقيّين ، إلّا أنّ هذه النظريّة أخذت في مراحل وأطوار عديدة ، وصيغت بصياغات أيضاً متعدّدة ، وفي بعض الصياغات قد تكون هي تلفيقيّة مع الأنظمة البائدة السابقة ، فمثلاً قضيّة مشاركة الناس في الحكم أخذت صوراً وصياغات مختلفة : بأن تنتخب القاعدة الشعبية النخبة والنخبة هي التي تنتخب الرئيس ، أو أنّ القاعدة هي مباشرة تنتخب الرئيس.
وبعبارة أُخرى ، هناك جدل قانوني على
قدم وساق الآن ، ولا يزال موجوداً ، عن دور النخبة مع دور القاعدة العامّة ، وكيف يؤمّن مشاركة عامّة الناس مع التحفّظ على سلامة المسار ، سواء القانوني ، أو الإداري ، أو التدبيري بتوسط النخبة ، وهناك صياغات متعدّدة أُخرى.
يعني سماحة الشيخ ، تقولون : إنّ المحور
الأساسي للديمقراطيّة هو انتخاب الشعب في مقابل الأنظمة الاستبداديّة ، ولكن كيفيّة تطبيق هذا المفهوم اختلف بصياغات مختلفة.
الشيخ السند : نعم ، العنصر الأصلي هو
في مشاركة الناس في الحكم ، وماهيّة المشاركة أيضاً اُثير حولها وصيغت بعدّة صياغات ، واُثيرت عدّة جدليّات قانونيّة وحقوقيّة فيها ، والجدل قائم لازال حول حقيقة الانتخاب ، هل هو تولية ونيابة ؟ أو هو استكشاف واستصواب ؟ وطبعاً تترتّب على كلّ مفهوم من هذه المفاهيم آثار قانونيّة مختلفة.
سماحة الشيخ ، عندما يجئ أىّ مفهوم جديد إلى
العالم الإسلامي ، نحن كإسلاميين ومتديّنين نحاول تفسير هذا المفهوم في المنظومة الفكريّة التي عندنا ، فلمّا جاء هذا المفهوم الجديد ـ أي الديمقراطيّة ـ إلى العالم الإسلامي ، حاول المؤيّدون لهذا المفهوم من أهل السنّة تفسيره طبقاً لنظريّة الشورى ، وحاول الشيعة تفسيره طبقاً لنظريّة الإمامة التي هي المشروع السياسي عند الإماميّة ، فالسؤال أنّه : هل يمكن تفسير هذا المفهوم على ضوء هاتين النظريّتين ، أم لا صلة له بهاتين النظريّتين إطلاقاً ؟
الشيخ السند : نعم ، قد قيل وكُتب ونُشر
وقُرّر : أنّ نظريّة الشورى المتبعة عند أهل السنّة ، ولو على الصعيد النظري عندهم ـ وإلّا على الصعيد العملي قلّما شاهدنا عند أبناء الطوائف الإسلاميّة السنيّة في
حكوماتهم منذ العهد
الأول إلى يومنا هذا ، قلّما شاهدنا تطبيقاً صحيحاً ودقيقاً للشورى ـ قيل بأنّها تطابق نظريّة الديمقراطيّة تقريباً الموجودة في العصر الحديث في جملة من جوانبها ، لا كلّ جوانبها ; لأنّ من جوانب الديمقراطيّة المطروحة الحديثة أو الليبراليّة عدم التقيّد بديانة خاصّة أو عدم التقيّد حتى برسوم أخلاقيّة ، وهذا طبعا لا يتفق مع نظرية الشورى عند المذاهب الإسلاميّة.
لكن الجوانب المتّفقة ، وهي نحو مشاركة
الأكثريّة ، أو حاكميّة الأكثريّة في إدارة الحكم في جانب القوّة التنفيذيّة ، أو اختيار الحاكم الوالي ، فنظريّة الشورى شأنها شأن بقيّة المدارس الديمقراطيّة أيضاً ، أخذت في الاختلاف في التصوير والصياغة : أنّه هل الشورى بمعنى مشاركة كلّ الناس ، أو بمعنى أنّ الناس ينتخبون أهل الحلّ والعقد ، وأهل الحلّ والعقد ـ يعني النخبة ـ هم ينتخبون الحاكم ، أو أنّه لا دور للناس ؟
ولعلّ الأشهر عند علماء أهل سنّة
الجماعة أنّ الشورى هي المشورة عند النخبة ، عند أهل الحلّ والعقد ، ونخبويّة هذه النخبة ليست بانتخاب وباستصواب عامّة الناس ، بل الشور والشورى يدور في دائرة النخبة ، والنخبة تتّصف بهذه الصفة بتبع تحلّيها بصفات معيّنة ، وكفاءات معيّنة مؤهلة لها علميّة ، ثمّ حينئذٍ يقوم الانتخاب في تلك الدائرة الضيقة ، وبعبارة أُخرى هي تنتخب الحاكم.
طبعاً هذا الطرح من نظريّة الشورى لا
نستطيع حينئذٍ أن نطابقه
ونوازيه مع الطرح
الديمقراطي الغربي المطروح الآن ، فهذا القول الأشهر لدى علماء العامّة لا يصبّ في مصبّ الديمقراطيّة في اللون العامّ لها ، نعم الأقوال الأُخرى في نظريّة الشورى من أنّها حاكميّة الأكثريّة ، وهي التي تنتخب أهل الحلّ والعقد ، ثمّ أهل الحلّ والعقد ينتخبون الحاكم ، هذه قد تتوافق مع بعض الصياغات في الديمقراطيّة.
والمهم أنّ المؤشّر المميّز لنظريّة
الشورى لا أقل في عدّة من أقوالها وصياغاتها ، أنّها تتقارب مع نظريّة الديمقراطيّة الغربيّة المطروحة الآن من جهة مشاركة الأكثريّة ، ولكن فيها مفارقات عديدة كما ذكرنا :
منها : أنّ الحاكم عندما يُنتخب لا تجوز
معارضته أو خلعه ، بينما في النظريّة الديمقراطيّة ليس هناك تنصيب مطلق غير قابل للزوال.
ومن الاختلافات الأُخرى أيضاً : أنّ في
النظريّة الديمقراطيّة هناك ربما مجال للمعارضة بشكل أوسع لأشكالها المختلفة ، بينما في نظريّة الشورى لدى العامّة فإنّ باب المعارضة والرقابة الشعبيّة على الحاكم تكاد تكون ضئيلة جدّاً ، ويكاد يرسم للفرد أو للجماعات في ظلّ حكومة الحاكم دور ضئيل خجول ، يضيّقون مجال المعارضة أو النقد أو الرقابة بشكل ضئيل جدّاً.
فمن ثمّ نستطيع أن نقول : إنّ هناك
مفارقات كثيرة بين الديمقراطيّة الغربيّة المطروحة ، ونظريّة الشورى بالشكل المرسوم عند العامّة ، حتى على القول بأنّ القاعدة الشعبيّة لها دور في الانتخاب.
وأمّا في النظريّة الإماميّة للحكم ، فعند
جملة من الكُتّاب ، سواء المستشرقين أو حتى كتّاب أهل سنّة الجماعة ، صوّر بأنّ نظريّة الإمامة هي نظريّة ملكيّة وراثيّة استبداديّة متأثّرة بالملكيّة الكسرويّة.
وقبل أن أُبيّن أنّ في النظريّة
الإماميّة يتمّ مراعاة تمام الأُسس التي انطلقت منها الديمقراطيّة ، ومراعاة تمام التوصيّات القرآنيّة في الشورى.
وقبل أن أبدأ في رسم نظريّة الإمامة عند
الاماميّة ، من أنّها ليست وراثة ملكيّة نسبيّة بالمعنى الترابي القبلي المطروح في عهود الأنظمة الملكيّة الاستبدادية البائدة ـ وإن كان الكثير عن عمدٍ أو قصدٍ أو جدلٍ أو دجلٍ يحاول أن يصرّ في رسم النظريّة الإماميّة في هذه الصورة ـ فإنّ القرآن الكريم يطرح نظريّة وراثة نوريّة اصطفائيّة ليست هي ترابيّة ، حيث يقول الله تعالى : (
إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ... )
.
وهنا القرآن الكريم يطرح أنّ آل إبراهيم
وآل عمران ليست هي هذه الآل والأهليّة والنسبة القرابيّة ، على غرار النظريّة الكسرويّة أو القيصريّة أو الملوكيّة البائدة ، أو التي لا زالت الآن قائمة في بعض بلدان المجتمع البشري ، بل إنّ القرآن الكريم يُريد أن يقول بأنّ أرضيّة الاصطفاء للمصطفى تحتاج إلى بيئة مؤهّلة وصالحة أيضاً ، وإنّ النسل ______________
الكفوء هو المؤهّل
لقيادة البشريّة ، ولكن هذا ليس من باب الحرمان لبقيّة الطوائف ، وهو من باب ما يطلقه علماء الحقوق بـ « الحقوق الطبيعيّة » ; لأنّ طبيعة هذا النسل عندما يكون مُصطفى ، مُصفّى ، طاهراً ، مُجتبى ، تكون أهليّته في القيادة أكثر من غيره.
مع أنّ فكرة القيادة والحاكميّة في
القرآن الكريم والنظريّة الإسلاميّة ليست هي بمعنى التنفّع ، أو نفعيّة القائد والحاكم من منصبه ، بل بمعنى خدمته لبقيّة الطوائف ، فهو كافل لأن يوصل بقيّة الطوائف من النسل البشري إلى كمالاتهم وحقوقهم الطبيعيّة أو التشريعيّة بشكل آمن أكثر من غيره ، فهي ليست إلّا فكرة أنّ المؤهل والكفوء يوضع في المكان المناسب لكي يخدم ، لا أنّه لكي يتجبّر أو يستبدّ.
فإذاً هناك مفارقات بين النظريّة
النسبيّة الاصطفائيّة في القرآن الكريم ، وبين نظريّة الملوكيّة الاستبداديّة البائدة ، أو التي لا زالت نماذجها في المجتمع البشري.
وفكرة الاماميّة تقوم على أنّ هناك نسل
مُصطفى مُجتبى يضعه القرآن الكريم في أهليّة القيادة ، ومن ثمّ خصّ القرآن الكريم قربي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للمودّة ، وهذه ليست من باب الطبقيّة أو الارستقراطيّة أو البرجوازيّة أو ما شابه ذلك ، وإنّما هي تكمن في طيّاتها أنّ قربى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتميّزون بصفات آهلة بعيدة عن البطر ، وبعيدة عن النخوة والشهوة والنزاعات الشخصيّة والذاتيّة ، بل
هم قالبهم تمام
الذوبان في المشاريع الدينيّة ، وفي إنجاز حقوق البشر للتكامل بشكل تامّ وافٍ ، يصلون فيه إلى سعادتهم الدنيويّة والأُخرويّة.
فحينئذٍ تخصيص القرآن الكريم ذوي القربى
بالمودّة أو بالخمس ، أو تخصيصهم بكلّ الأموال العامّة في سورة الأنفال وفي سورة الحشر بإدارة الفيء وهو ثروات الأرض (
مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ
وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ) .
الحكمة في ذلك أنّ هؤلاء حيث قد تميّزوا
واتصفوا بالعصمة العلميّة والعمليّة ، فهم المؤهّلون الكفوؤن لإرساء العدالة بين المسلمين ، لكي لا تكون الثروات العامّة متداولة في فئة وطبقة الأغنياء (
كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ) أي كي لا تحتكر الطبقة الغنيّة القويّة
الثروة العامة فيما بينها ، وترسو العدالة وتتوزّع المنابع العامّة من الأموال والمنابع الطبيعيّة الأُخرى على المجتمع بشكل متكافى عادل ، إذاً لابدّ أنّ يتسلّم ذوي القربى هذا المنصب.
وهذه ملحمة قرآنيّة يتنبّأ بها القرآن
الكريم ، يعني لن تستتبّ العدالة الماليّة في الأُمّة الإسلاميّة ، بل في البشريّة ، ما لم يصل هذا النسل الخاصّ المطهّر إلى سدّة الحكم ، ووصوله لا لأجل بطر هذه الذريّة والعياذ بالله ، أو نزعة هذا النسل إلى مآربه الشخصيّة ، وإنّما هي لأجل ______________
المنافع العامّة في
الأُمّة الإسلاميّة ، بل في البشريّة.
فالمقصود أنّ أصل نظريّة الإمامة وإن
كان هو النسل الخاصّ ولكن ليس نسلاً ترابيّاً ، أو لأجل نسبة اللحم والدم الخاصّ البشري ، وإنّما هو لأجل تنسيل اصطفائي نوري مطهّر خاصّ مُجتبى ، فإذاً هناك مفارقة شاسعة بين الطرح الملكي ونظريّة الإمامة ، هذا كبادئ ذي بدء.
وأمّا كيف أنّ النظريّة الإماميّة هي
تحافظ على أُسس الديمقراطيّة بأكثر ممّا تحافظ نفس أغراض الديمقراطيّة على الأُسس التي انطلقت منها ، والمبادى التي انطلقت منها ؟ فذلك كما يلي :
الأول :
أنّ هناك جدل كبير في النظريّة الديمقراطيّة ، وهي أنّ الأقليّة كيف تُلغى أصواتهم ومشاركتهم. وهذا الجدل إلى يومنا هذا لم يُحّل في النظريّة الديمقراطيّة ، ربما تكون الأقليّة الثلث ، قد تكون ما يقلّ على النصف بيسير ، كما شاهدنا الآن في الانتخابات الأمريكيّة في هذه الحقبة ، حيث إنّ الأقليّة هي مادون النصف بقليل ، بل قد تكون الأكثريّة ليست أكثريّة حقيقيّة ، بل أكثريّة نسبيّة ، يعني ربما الثلث يزيد على الربع ، والثلث والربع هم الذين شاركوا في الانتخابات ، وما عدا ذلك من أجزاء المجتمع كان لديه موقفاً سلبيّاً حياديّاً ، حينئذٍ الثلث ليس أكثريّة حقيقيّة ، ومع ذلك لأنّه يزيد على الربع مثلاً فهو يتحكّم في مصير الثلثين.
هم انطلقوا من أساس برّاق جذّاب ـ وهو
مشاركة الكلّ ـ إلّا أنّه في
الصياغة واجهوا حرج
عضال لم يُحلّ إلى يومنا هذا ، وما ذكر ليس إلّا حلولاً نسبيّة لتخفيف الداء ليس إلّا ، بينما سنشاهد في النظريّة الاماميّة هذا المطلب محقّق ; إذ لا يكون للأكثريّة مصادرة لحقّ الأقليّة مهما كان ـ ولو كانت الأقليّة فرداً واحداً ـ وهذه واقعاً من إعجازيات التقنين الإلهي في دين الإسلام ، وفي منهاج أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وهذا إعجاز قانوني نستطيع أن نتبجّح به ، ونجبه به المحافل القانونيّة والحقوقيّة بشكل جريء رافعين الرأس.
الأمر الثاني
الذي تواجهه النظريّة الديمقراطيّة الآن : هو أنّ أصحاب الثروة والقدرة قد يصادرون آراء العامّة بتغفيلهم ، وبوضعهم في سبات فكري ، أو في جوّ مخادع ، سواء في جانب انتخاب الفرد ، أو في جانب انتخاب القانون الصالح ، أو في مجالات المشاركة ، باعتبار أنّ الطبقة الغنيّة عندها وسائل إعلام ، عندها وسائل التحكّم في الفكر أو ما شابه ذلك.
فحينئذٍ كيف يمكن أن تؤمن المشاركة
الحقيقيّة بشكل صادق ، مع أنّ أسباب القوّة في التحكّم في عقول الأكثريّة وافتعال الجوّ العامّ ، يكون بيد الأقليّة ذوات الثروة والقوّة من وسائل الإعلام ، فعناصر التلاعب بالرأي العامّ بأساليب شيطانيّة دجليّة خلّابة خادعة هي كثيرة ، وتستطيع حينئذٍ القوى الماليّة ذات الثراء أن تتلاعب بالرأي العامّ ، فكيف نؤمن حينئذٍ سلامة بالرأي العامّ وانطلاقه من وعي وصحوة ؟
وكيف نؤمن عدم
مصادرة هذا الوعي العامّ ؟
فهذه عقدة لا زالت الديمقراطيّة
تواجهها.
الإشكال الثالث :
كيف نوازن بين عامل وعنصر الكفاءة والنخبة ، وبين مشاركة الناس ؟
إنّ مشاركة الناس من الأُمور الفطريّة ،
ودور النخبة أيضاً فطري ، فهل يطغى هذا الجانب ويكون الوصاية للخبرة على مشاركة الأُمة ، أو يطغى دور مشاركة الأُمة على النخبة ، فقد تختار الأُمة ما لا ترتضيه النخبة ، وتختار النخبة مالا ترتضيه الأُمة ، فأىّ يحكّم من الاثنين ؟
ومن ثمّ اختلفت صياغة الديمقراطيّة في
كيفيّة المشاركة :
منها : ما يقول بأنّ الأُمة تنتخب
النخبة ، والنخبة تنتخب الحاكم.
ومنهم من يقول : إنّ الأُمة هي مباشرة
تنتخب الحاكم ، لكن بإشراف النخبة.
ومنهم من يقول : إنّ الانتخاب والمنتخب
له شرائط ، فليس للمنتخب أن ينتخب ويجري عمليّة الانتخاب على صعيد مطلق ويفتح الباب على مصراعية ، بل هناك شروط في المنتخب لابدَّ أن يحدّدها القانون.
فمن ثمّ انثار جدل قانوني وحقوقي واسع
لديهم أيضاً ، يشير إليه الدكتور السنهوري في مقدّمة كتابه « الوسيط » وكتابه الآخر « الحقّ ومصادر التشريع » : إنّ هناك عند القانونيين الغربيّين مدرستين : مدرسة
المذهب العقلي ، ومدرسة
المذهب الفردي. مدرسة المذهب العقلي تقول بأنّه لابدّ من إعطاء دور للعقل أكبر على حساب الحريّات المطلقة للفرد ، وهناك من يقول :
إنّ الفرد تطلق له الحريّات ولو على
حساب العقل.
هذا الجدل لم يحسم إلى الآن في النظريّة
الديمقراطيّة ، يعني دور العقل والعلم ودور الفرد ، مرادهم من الفرد في الواقع هو الغرائز والشهوات والنزعات الفرديّة ، والحلول التي تطرح ليست حلولاً كاملة تامة.
وطبعاً هناك مشاكل عديدة في التقنين
الغربي الديمقراطي ، ولكن هذه أهمها حاولتُ أن أُشير إليها ، وإلا فمسألة الديانة مثلاً بعد ما رفضوها ، شاهدوا اليوم أنّ عدم التقيّد بالديانة يجرّ المجتمع إلى نكبات كثيرة ، ورأوا أنّ الصرح الأخلاقي في التزام الديانة تخدم النظام الاجتماعي.
هذا وسنبيّن كيف أنّ النظريّة الإماميّة
تتلافى هذه المشاكل بأتمّ ما يمكن من تلافي ذلك ، وبشكل إعجاز تقنيني الهي غريب عجيب.
وقبل ذلك أودّ أن
أُبيّن بشكل إجمالي أنّ في النظريّة الإماميّة ، مع أنّ أصل الحاكميّة من الله عزّ وجلّ ثمّ للرسول ثمّ للأئمة ـ وهذا معنى قد يطلقه القانونيّون الوضعيّون بأنّه استبداد الهي ـ لكنّه في حقيقته يؤمّن تمام الممارسة والمشاركة للمجتمع عبر عدّة قنوات عديدة :
أولها وأهمها : أنّ مسؤوليّة إقامة
النظام العادل ، وقلع النظام الجائر ، وإبقاء النظام العادل ، ومراقبة النظام على مسيرة العدالة ، هذه المسؤوليّة في النظريّة الاماميّة ملقاة على الأُمّة ، بدليل قوله تعالى (
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ )
.
وقد جسّد ذلك الإمام الحسين عليه السلام
حينما قال : « وَإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر » .
فزعزعة المنكر السياسي أو القضائي أو
المالي أو الأخلاقي أو الحقوقي ، أو في أيّ مجال من المجالات العامّة أو الخاصّة ، إنّما هو من مسؤوليّة الأُمّة ، أولاً وبالذات.
وعندما نقول : مسؤوليّة الأُمّة ، سواء
الأكثريّة التزمت أو لم تلتزم ، بل الكلّ لو لم يلتزم يبقى فرد واحد وهو الحسين سلام الله عليه لابدّ عليه أن يقوم بذلك.
وهذا نوع من إعطاء الصلاحيّة للأُمّة
بشكل كبير ، لا نشاهده في كثير من النظريّات الديمقراطيّة ، ولا حتى في نظريات الشورى عند
______________
العامّة ، هذا رافد
أوّل مهم ، طبعاً هذا الرافد لا يتصادم مع كون القيادة بيد المعصوم ; لأنّ الحكم فعل يقوم به طرفان ، والنظام الاجتماعي موجود يقوم على طرفين : الطرف الأول : هو الحاكم القائد المدبّر ، والطرف الآخر : القاعدة.
فالقاعدة حيث لا تستجيب ، فليس بإمكان
المدبّر الكفوء الصالح أن يدبّر ويقود.
ومن لطائف النظريّة الإماميّة ، أنّ هذه
الرقابة ليست مخصوصة على النظام الذي يرأسه ، أو على الحكومة التي يرأسها غير المعصوم ، كالفقيه مثلاً الذي هو نائب المعصوم أو عدول صالحي المؤمنين ، بل حتى على نظام المعصوم ، والسرّ في ذلك أنّ المعصوم من الرسول أو الإمام ـ وهو وصيّ الرسول ـ وإن كان معصوماً ، إلّا أنّ جهازه ليس بمعصوم ، ومن ثمّ احتاج المعصوم إلى معاونة وإعانة ونصيحة من الأُمّة له ، بأن يراقبوا ولاته ووزراءه وشرطته وكلّ أفراد وأعضاء حكومته.
وهذا هو الذي يفسر كثيراً من تعابير
أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال : « فإنّي لست بفوق ما أن أخطئ »
عندما تولّى السلطة بعد مقتل عثمان ، يشير إلى خطأ الدولة ، لا خطأه عليهالسلام
وهو معصوم منزّه عن الخطأ.
وكذلك مثلاً ما حصل من براءة النبي صلى
الله عليه وآله وسلّم ممّا ______________
فعله خالد بن الوليد ، عندما اعتدى على
بني أسلم أو بني جمح في فتح مكة ، حيث كانت له ترات جاهليّة معهم ، وهم قد أسلموا ، إلّا أنّه حاول أن يقتصّ بثاراته الجاهليّة ، فتبرأ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّا فعله ، ثمّ جبر دماء تلك القبيلة.
المهم الذي أُريد أن انبّه عليه ، وهو
أنّ هذا الرافد ـ وهو رقابة الأُمّة على الجهاز الحاكم ـ لا يختصّ بالولاية أو الحكومة والمحافظة التي يرأسها غير المعصوم ، بل حتى في جهاز المعصوم ، وهي ليست بمعنى تتصادم مع العصمة.
إنّ كثيراً من الكُتّاب القانونيين أو
الحقوقيين أو المؤرّخين أو المفكّرين غير الشيعة من أبناء السنّة أو من كُتّاب المستشرقين ، يظنّون أنّ النظريّة الإماميّة ، حيث تشترط العصمة ، تعني إلغاء دور الأُمّة ورقابة الأُمّة.
وهذا خاطىء جداً ، بل إنّ رقابة الأُمّة
ـ كما قلنا ـ تكون حتى في زمن المعصوم ، وهي من الوظائف اللازمة ، وقد شاهدنا في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام في حكومته وسيرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أنّه كان يحرّض الأُمّة على مراقبة الولاة ، ومراقبة أُمراء الجيوش ، ومراقبة القضاة.
بل في قضيّة المراقبة والرقابة في النظريّة
الإماميّة والنظريّة الإسلاميّة حتى لأصل نبوّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإمامة
الإمام عليه السلام
، يعطى للمجتمع البشري دوره أيضاً ، بمعنى أن يعطى للأُمّة دور في الاستكشاف ، يعني لابدّ أن تستكشف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمعجزات وما شابه ذلك من الشواهد والبيّنات العقليّة الفطريّة ممّا يدلّل على أنّه نبي أو إمام.
إذاً ليس هناك نوع من تشطيب للعقل
البشري أبداً ، ولا للوعي البشري ، ولا لليقظة البشريّة ، ولا للدور الفاعل البشري في نظريّة الإمامة.
وكما ذكرتُ إنّ هذا باب يفتح منه أبواب
عديدة ، وبحوث وبنود عديدة ، وهذا اُسّ من أُسس النظريّة الإماميّة ، في حين كون الولاية من الإمام ، إلّا أنّه تبقى الأُمّة لها المراقبة والمشاركة في إقامة كلّ معروف ، وزعزعة كلّ منكر ولو بالمشاركة والرقابة ، هذا هو الباب الأوّل لمشاركة الناس الموجودة في النظريّة الاماميّة.
النافذة الثانية المهمة لمشاركة الناس
في النظريّة الإماميّة : دور أهل الخبرة ، فمن مسلّمات فقه الإماميّة حجيّة قول أهل الخبرة ، وهذا نوع من الدور إلى أهل الخبرة ، وسنبيّن أنّ هذا نوع من تحكيم دور العلم والكفاءة والأعلميّة والخبرويّة.
وهذا نوع من الرافد الذي يفسح المجال
لدور مشاركة الناس حتى في حكومة المعصوم ; لأنّه في حكومة المعصوم ليس كلّ الأعمال يقوم بها المعصوم ، وإلّا فكثير من المرافق يقوم بها الجهاز ، وهذا الجهاز لابدّ
أن يقوم على أُسس ، وهذه
الأسس هي تحكيم دور الخبرة والعلم ، مضافاً إلى أنّهم عليهمالسلام
في موارد عديدة ملزمون من قبل الله تعالى أن يعملوا بالموازين الظاهرة.
ودور آخر للأُمّة وهو : الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، وإن كان قد ينشعب من الدور الأول ، لكن قد يجعل قسماً بإزاء القسم الأول قائماً مستقلّاً بحياله ، يعني من الواجب على كلّ فرد فرد أن يحافظ على وعي المجتمع وثقافة المجتمع الصالحة ، فلا يسمح لكلّ فرد أن يصادر الوعي العام ، وأن لا يقلب المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، ولا ريب أنّ هذا الفكر هو إرادة اجتماعيّة ضاغطة على نظام الحكم ، أنّه نوع من الحكومة بشكل آخر ، وهي حكومة المجتمع أيضاً ، بحيث هي تحكم على النظام الحاكم ، أو تحكم على الأفراد ، أو تحكم على بقيّة مرافق القوّة في المجتمع.
وهذا رافد مهم جدّاً « لتأمرون بالمعروف
وتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم »
، فإذا كانت البيئة الفكريّة والنفسيّة الاجتماعيّة سالمة ، تكون صائنة ومعقّمة عن وصول موجود خبيث في رأس نظام الحكم ، بل أمان عن أيّ انحراف جائر في المجتمع ، وهذا أيضاً نوع من المشاركة للمجتمع.
______________
ودور آخر للمجتمع للمشاركة في تقرير
المصير ، وهو دور أصل إقامة الحكم أو زعزعته ـ كما ذكرنا ـ أو مناصرة الحكم أو المقاومة ، وبعبارة أُخرى : يكون لهم في كلّ فعل حكومي صالح المشاركة بشكل إيجابي ، ويكون لهم في كلّ فعل حكومي نظامي المعاوقة بشكل سلبي دور سلبي باتجاهه. فهذه أدوار أربعة أو أكثر للمجتمع في المشاركة لا تخلو عن أهميّة كبرى.
وهناك دور آخر وهو : دور الانتخاب في
النظريّة الإماميّة في عهد الغيبة الكبرى ، فالولاية تنشعّب من الله إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وتنشعّب من ولاية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى ولاية الإمام المعصوم عليه السلام ، وهو يولي حينئذٍ قيادة المجتمع أيضاً بالنيابة إلى الفقهاء.
فصلاحيّة الفقيه نيابة عن المعصوم عليه السلام
متشعّبة من ولاية المعصومين عليهم السلام ، وولاية الأمر مركزها هو المعصوم سلام الله عليه حتى في العصر الحالي ، وهذه من أبجديّات ألف باء النظريّة الإماميّة ، أنّ الولاية بالفعل هي للمعصوم الحىّ الغائب ، وإن كان غائباً في الهويّة لكن ليس غائباً في الحضور والوجود ، وهو الذي له الولاية بالفعل ، وتنشعب من هذه الولاية النيابة للفقيه التي أعطاها المعصوم عليه السلام ، وسمح للمجتمع أيضاً في المشاركة في تعيين الفقيه ، حيث جعل له مواصفات ، وجعل إحراز هذه المواصفات بيد الأُمّة ، فعبّر عليه
السلام : « وأمّا
الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا » ، فـ « ارجعوا » أمر منه للأُمّة بأن تقوم بهذا الدور ، وهذه مشاركة.
ومن ثمّ اشترط جملة من الفقهاء في
مشروعيّة الولاية النيابيّة للفقيه أن تكون الأُمّة قد تابعتة وقلّدته المرجعيّة وقلّدته الحاكميّة ، ويعبّر عنه ببسط اليد ، وإلّا فلا تكون حينئذ ولايته النيابيّة مشروعة ، كأنّما يستفاد من تولية المعصوم أنّه قد اشترط هو عجّل الله فرجه الشريف تقليد الأُمّة له ، وهذا ليس معناه تولية الأُمّة للفقيه ، التولية هي من المعصوم ، لكن هي نوع من الانتخاب ، بمعنى استكشاف المواصفات ، لا الانتخاب بمعنى التولية أو النيابة كما هو في الطرح الغربي ، سواء على صعيد المرجعيّة ، أو على صعيد القاضي ، أو على صعيد الحاكم السياسي ، وهلم جرا.
إذاً للأُمّة بأن تنتخب ، بمعنى تستكشف
وتحرز ، لا أنّها تنتخب بمعنى تولّي وتنيب ، وهذا الدور قد كان في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وفي عهد الأئمة عليهم السلام ، حتى في عهد الصادق ، حيث قال عليه السلام : « ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا وعرف حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما ، فاني قد ______________
جعلته عليكم حاكماً
» فـ « اجعلوه
» إذاً نوع من إعطاء الدور للأُمّة في تعيين الحاكم بمعنى استكشاف الواجد للمواصفات.
فإذاً طبيعة النظام الاجتماعي الذي
يرسمه القرآن وأهل البيت عليهم السلام ، أنّه هناك نوع من الانتخاب للأُمّة إلى قادتها المتوسّطين ، أو في سلسلة الهرم التي تنشعب من رأسه وهو المعصوم ، لهم دور في انتخاب تلك القاعدة بنحو الاستكشاف.
فمن ثمّ لو استكشفوا بأنّ المواصفات قد
اختلّت ، فلهم حينئذٍ أن يسحبوا ثقتهم أو تقليدهم هذا المنصب لذلك الفرد وعزله وجعل شخص آخر ، وهذا دور ليس بالهيّن ، بل دور مهم يشاهد في النظريّة الشيعيّة.
إذاً في النظريّة
الشيعيّة هناك عدّة قنوات لمشاركة الناس ، كلّها لا تتصادم ولا تتنافى مع كون الامامة هي نصب إلهيّ ، وأنّ كلّ ولاية تنشعب من الإمامة ، بعد أن كانت ولاية الإمام عليه السلام منشعبة من ولاية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وولاية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من ولاية الله عزّ وجلّ ، وأصل نظريّة الإمامة ليست تحكيم لنسل ترابي من باب النزعات الترابيّة واللحم والدم الترابي ، ونزعات بطر إقطاع أو استبداد ، لا ، وإنّما هي تحكيم للنور الإلهي على التراب ، وتسليط للنور على العقل ، والعقل على الغرائز.
______________
إنّ فكرة الحكم في النظريّة الشيعيّة
ليست فكرة سلطة وتغلّب ومنافع شخصيّة ، وإنّما هي استتباب الحقيقة وتحكيم العدل ، وهي مشاركة من طرفين : من طرف الحاكم كخادم ( سيّد القوم خادمهم ) ، ومن طرف آخر قيام الأُمّة بجانب المسؤوليّة الملقاة على عاتقها ، فهذا بالنسبة إلى البند الأول ، وأنّ النظرية الشيعيّة كيف تلافته ، والحال أنّه كان عائقاً حرجاً في التقنين الديمقراطي.
وننطلق من ذلك الأساس بالنسبة إلى الأمر
الثاني الذي ذكرنا من الأُمور الأربعة ، وهو دور مصادرة الوعي بتوسّط القوى الظالمة ، وهذا يؤمن تجنّبه في النظريّة الإماميّة الشيعيّة ، باعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس هو من وظائف الدولة فقط ، أو مخصوص بالدولة ، أو أنّ المنكر ما أنكره الحاكم ، والمعروف ما أقرّ بمعروفيّته الحاكم ، المنكر له واقعيّة حقيقيّة ، والمعروف له واقعيّة حقيقيّة ، واقعيّة عقليّة فطريّة وشرعيّة ، هي في الجوانب التي يدرك العقل فيها المعروف ، لذلك ذهبت الطائفة الإماميّة إلى أنّ الحسن والقبح عقلّيان ذاتيّان ، ليس بتوافق الأكثريّة أو المجتمع ، ليس هو بشي يقرّر ويتواضع عليه ، وهذا ينسجم حتى مع نظريّة الحقوقيين الذين يقولون بأنّ بنية الحقوق مثلاً ناشئة من الحقوق الطبيعيّة ، أو نظريّة الحقوق العقليّة ، أو نظريّة المدارس الأُخرى الحقوقيّة.
إذاً المسؤوليّة المُلقاة على عاتق
الأُمّة في النظريّة الاماميّة ، أن
تقوم الأُمّة
بعمليّة تصحيح التوعية ، ومقاومة التزييف ، ومصادرة الفكر والوعي ، وماشابه ذلك بلغ ما بلغ ، ولا يستطيع القانون أن يقف أمام ذلك ، بل القانون يجب أن يسمح بأدوار الفرد لكن بصورة منظمة ، فمن ثمّ حينئذً لو قام المسلمون والمؤمنون بهذه المسؤولية فيؤمّن ردع هذا الجانب ، فالثري أو القوي مهما بلغ ثراه لا يستطيع أن يقف أمام كلمة الفقير إذا كانت كلمة صادقة مجلية للعمى ، وناشرة للهدى وللنور.
الأمر الثالث الذي لم تستطع أن تتلافاه
الديمقراطيّة ، وبينما المشاهد تلافيه في النظريّة الإماميّة : هو الموازنة بين دور العقل والعلم مع دور الأُمّة ، نعم في النظريّة الإماميّة ليس هناك قيمة للأكثريّة بما هي أكثريّة ، بل هناك قيمة للصواب بما هو صواب ، وحتى في معنى قاعدة الشورى ، فإنّ دور الشور في النظريّة الإماميّة ليست المشورة لأجل تحصيل رأي الأكثريّة ، بل لأجل جمع العلوم وجمع العقول ـ العقل الجمعي والعلم الجمعي ـ للوصول إلى الحقيقة والواقعيّة.
الواقعيّة هي التي لها قدسيّة ، الحسن
الذاتي للأشياء والقبح الذاتي للأشياء أصابته ووصلت إلى ذلك الأكثريّة وأدركت الأكثريّة ذلك أو لم تدرك ، إرتأته أم لا ، فانّه لا يتغيّر عمّا هو عليه.
لكن هذا لا يتقاطع مع مراعاة أهمّية
حقوق الأكثريّة ، فمجال الحقوق يغاير مجال الإصلاح والإرشاد والتعليم والتثقيف.
فمن ثمّ إذاً في النظريّة الإماميّة دور
العلم والعقل محكّم في
الإصلاحات على دور
الأكثريّة ، بل الأكثريّة يجب أن تنصاع إلى الحقيقة ، وفي القنوات المدركة لصوابيّة الشي ومعروفيّة الشي ، أو فساد الشي ومنكريّة الشي ، مثلاً في تشخيص النظام الاقتصادي العادل ، النظام النقدي كيف هو ؟ تحكّم الخبرويّة أيضاً ولا تحكّم الأكثريّة. فالكيف عندنا يقدّم على الكمّ ، نعم لو تساوى الكيف فيرجّح بالكم حينئذٍ ، لا من باب تحكيم إرادة الأكثريّة ، بل من باب أنّ كثرة العامل الكمّي مع تساوي الكيف كاشف كيفي آخر ، وهذا تقريباً متبع ومطرد في الفقه الشيعي.
يبقى المحور الآخر الذي ذكرناه طبعاً هو
ليس بأخير ، وإلّا فالمحاور عديدة ونحن تعرّضنا لأهمها ، وهي قضية دور الديانة ، ومن الواضح أنّ في النظريّة الشيعيّة تحكيم للديانة والتبعيّة للديانة ، بخلاف الديمقراطيّة الغربيّة بوضوح.
أمّا بالنسبة إلى
نظريّة الشورى عند العامّة ، فقبل أن نتعرّض إلى التأمّلات التي أُحيطت بها ، فإنّه في عدّة زوايا لابدّ للإنسان أن يمعن النظر فيها ، والنقاط التي مرّت علينا أنّ الشورى لديهم مثلاً ابتداءً لا بقاءً ، ومن ثمّ الحاكم لا يعزل ولا يخلع إلّا أنّ هو يخلع نفسه ، فهذه النقطة كما قلنا : لا تتوافق مع نظريّة المشاركة الشعبيّة ، أو الديمقراطيّة المطروحة حالياً بتمام المعنى ، حيث إنّ الشعب له عزل الحاكم متى شاء أو تحديد صلاحياته.
وهناك نقطة أُخرى أيضاً ، وهي أنّهم لا
يبنون على أنّ الشورى هي مشاركة للناس ككل ، وإنّما هي فقط مشاركة لأهل الحلّ والعقد ، سواءً أقرّ بهم عامّة الناس أو لم يقرّ بهم ، هذه نقطة أُخرى أيضاً يذهبون إليها ، وهذه أيضاً لا تتطابق تماماً مع ما هو مطروح من قضيّة الديمقراطيّة.
النقطة الثالثة عند العامّة : أنّ
الحاكم وإن جار يبقى على صلاحيّته ، ومهما بلغ جوره ، ما لم يبلغ جوره أو زيفه أو انحرافه إلى الكفر البواح ، والمراد بالكفر البواح الكفر المعلن ، وإلّا الكفر المبطّن عندهم إيمان ، وهذا لا يتوافق مع مذاهب الديمقراطيّة الموجودة حديثاً ، ولا أتوقّع أنّه يوافق مع أقلّ مستوى العدالة في عرف كلّ ملّة أو قوم بحسبها.
النقطة الرابعة : المفارقة الملحوظة في
نظرية الشورى ، هي أنّ الوصول لسدّة الحكم لديهم ليس منحصراً بالشورى والانتخاب ، بل يمكن الوصول لسدّة الحكم لديهم بالتغلّب والقهر والقوّة ، ولا يبحثون عن مبرّرها الشرعي.
فهذه النقطة الرابعة
لعلّها متسالم عليها بينهم ومشهورة ومعروفة بينهم ، أنّه يسوغ للمتغلّب بالقوّة أن تكون له مشروعيّة الحكم ، والديمقراطيّة الحديثة بلا شكّ لا تقرّ هذا ولا تبني عليه ، وبعباره ملخّصة لهذه النقطة الرابعة : هم لا يرون انحصار الوصول إلى السلطة ولمشروعيّة السلطة بتوسّط الشورى ، فهذه مفارقة أُخرى بينهم وبين نظريّة الديمقراطيّة.
أما بالنسبة إلى الشورى فانّ المطروح
قرآنياً : ( وَأَمْرُهُمْ
شُورَىٰ بَيْنَهُمْ )
أو (
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ )
، فالشورى في
اللغة ماهية ولغةً ومعنىً هي : المداولة الفكريّة ، وعبارة عن الفحص الفكري ، وعبارة عن عمليّة فكريّة للفحص ، أشبه ما يمكن أن نسمّيها في العرف الحديث ببنك المعلومات أو بنك الخبرات ، أو نسميها بالعقل الجمعي أو العلم الجمعي ، يعني جمع الخبرات ، يعني نوع من فحص الواقع على أساس خبروي علمي ، فالمداريّة هي على الواقع ، وليس المداريّة للجمع ولا للأكثريّة ; لأنّ ربما في فحصنا هذا لعقول ولعلوم الجمع ولخبرات الجمع نضفي على رأي واحد منهم هو الأنضج والأمتن ، وهو الأكثر سداداً فيتبع ، ولذلك سمّي المشتري مشترياً ; لأنّه يختبر المبيع ، واشتقاقات هذه المادة لغةً لا تساعد على أنّها بمعنى الإرادة الجمعيّة الجماعيّة ، أو الحاكميّة الجماعيّة ، أو القدرة الجماعيّة.
الشور والشورى ليست إلّا بمعنى المداولة
وبعد ذلك حجيّة النتيجة ، إنّما يبتني على أدلّة وراء الشور ، الشور ليس إلّا الوقوف والوصول إلى الأدلّة المفضية إلى النتيجة الصائبة. فالشورى إذاً كيفيّة فحص ، كيفيّة تنقيب عن الواقع ، عن الصحة والصواب والحقّ ، وليست هي بنفسها كما يقال : بنية احتجاج ، ولا هي بنفسها متن احتجاج ، وإنّما ______________
هي تشبه فعل الإنسان
عندما يريد أن يصل من المعلوم إلى المجهول ينقّب في المعلومات ، غاية الأمر بدل ما يحكر تنقيبه في خزانته المحدودة الفردية ، يجعل حركة التنقيب في خزانة عامة : « أعلم الناس مَنْ جمع علم الناس إلى علمه »
، « أعقل الناس من جمع عقله إلى عقول الناس ».
فما يرفع من شعار في الحضارة الحديثة ، وهي
حضارة المعلومات أو حضارة الاتصالات ، هذا الشعار في الواقع هو نفسه مفاد الشورى بتفسير الإماميّة مطابق لمعناها لغة ، لا المعنى الذي مسخ عن المعنى اللغوي الذي ذهب إليه علماء السنّة والجماعة. فإذاً الشورى عند الإماميّة تتقارب مع الإطارات المطروحة حديثاً في الحضارة الحديثة أو التمدّن الحديث : من أنّ كلّ شي يجب أن يبنى على أساس علمي ، ومن ثمّ شأن المؤمنين (
وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ )
شأنهم أن
يبنوا كلّ شيء على الخبرويّة وعلى العلم ، لا على العنجهيّة والجهالات والعماية.
ويمكن أن يقرب تقريب آخر لنظريّة الشورى
عند الإماميّة بأنّها عبارة عن حجيّة قول أهل الخبرة ، بمعنى تقديم الجانب الكيفي على الجانب الكمّي. أو نستطيع أن نقول أيضاً : عندما يتساوى الكيف يرجع ______________
إلى الجانب الكمّي ،
لا من جهة أنّه كمّ ، بل من جهة أنّه عنصر موجب لتصاعد الجانب الكيفي بطريقة أُخرى.
فهي إذاً عبارة عن حجيّة قول أهل الخبرة
، ومن ثمّ نجد أنّ العامّة أيضاً ألجأوا أنفسهم إلى جعل الشورى في نطاق أهل الحلّ والعقد ، ولم يجعلوها في كثير من أقوالهم ، أو المشهور من أقوالهم لم يجعلوها في نطاق عامّة الناس ، ممّا يدلّ على أنّ الحديث الخبروي هو المهم وليس جانب الكثرة.
فعادت أُسس نظريّة الشورى عند علماء
سنّة الجماعة في منطلقاتها تصبّ في نفس مصبّ النظريّة الإماميّة ، وإن كانوا هم لم يوافقوا ويلائموا بين الأُسس التي انطلقوا منها والصياغات التي طرحوها للشورى ، فروح الشورى التي لديهم ، وهي حاكميّة الإرادة الأكثريّة ، لا يتوافق مع الأساس الذي انطلقوا منه ، من أنّ الشورى تختصّ في أهل الحلّ والعقد ، وأخذ مواصفات خاصة في أهل الحلّ والعقد.
وهذا ممّا يدلّل على أنّ الجهة جهة
منهجة علميّة وجهة استكشاف ، وليس بجهة تحكيم إرادة ، أو جهة قوّة ، وإلّا فلو كان من جهة إرادة وقوّة ، فعامّة الناس أكثر قوّة وإرادة من الأقليّة التي هي أهل الحلّ والعقد.
ونكتة أُخرى مأخوذة في الصميم على
نظريّة الشورى التي لدى
العامّة ، أنّ في
نظريّة الشورى لم يلحظ عندهم تشعّب الولاية من الله إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الأئمة من أهل البيت عليهم السلام ، فإنّ هناك نصوصاً قرآنية عديدة ، مثل قوله تعالى : (
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ )
، نزلت في
علي عليه السلام باتفاق المفسّرين ، وهي حاصرة للولاية فيه ، وبأيّ معنى من تفسير الولاية فسّرت : النصرة أو المحبة ، ولمّا تحصر في علي عليه السلام النصرة المطلقة والمحبة المطلقة ، فإنّه يدلّ على ولايته لأُمور المسلمين.
مضافاً إلى آيات أُخرى دالّة على
الولاية ، نظير آية التطهير
، ونظير آية المودّة
وهي وإن كانت ظاهرها المودّة ، لكن بقرينة ما ذكر ( إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ )
، يدلّل على أنّ المودّة المرادة هنا ، وبقرينة جعلها في كفّة خطيرة ، معادلة إلى التوحيد والنبوّة وما شابه ذلك ، فيكون المراد منها المودّة بمعنى التولّي والمتابعة.
وغيرها من الآيات والأحاديث النبويّة
المتواترة ، كحديث ______________
الغدير ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها ، فبالتالي هم لم يراعوا هذه الأدلّة الشرعيّة القطعيّة.
وبهذا المقدار من السرد ، ربما اتضحت
فوارق عديدة بين النظريّة الإماميّة ونظريّة الشورى المطروحة عند العامّة.
وبعبارة أُخرى مهمة : إنّ موقف عموم
الناس ومشاركتهم لا يشطب ابتداءً وبقاءً وفي أيّ عرصة من عرصات الحكم في النظريّة الإماميّة ، بل دوماً يجعلون المراقب الناقد الناظر المطلع ، ولا يخفى شي أمام عامّة الناس إلّا بما يرجع إلى نظم الأمر وما شابه ذلك ، بحيث لو وقع في أيدي الأعداء لسبّب زعزعة النظام الإسلامي ، ففي حين أنّ الولاية والصلاحيّة تنشعب من الإمامة إلى بقية المناصب والنوّاب في إدارة الحكم ، إلّا أنّ للناس موقفاً فاعلاً مشاركاً في إقامة ما هو الصحيح والعدل ، وفي زعزعة ما هو خاطئ حتى في جهاز ومرافق حكومة المعصوم ، كما بيّنا بلحاظ فقرات جهاز الحكم الذي هو بيد عناصر غير معصومة ، فكيف بك في حكومة غير المعصوم ؟!
فليس هناك من تشطيب أو إلغاء أو ازواء
لدور الناس في الحكم ، ______________
في حين أنّ
الصلاحيّة من المعصوم ، بل في منطق نظريّة الإماميّة مراقبة الناس تعمّ معرفتهم واستكشافهم لشخص المعصوم وشخص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، يعني كما أنّ المعصوم لابدّ من توفّر العصمة فيه ابتداءً كذلك بقاءً ، وكما أنّ بيّنات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ابتداءً هي أيضاً بقاءً ، فكيف بك بمن هو دونهم من الفقهاء ، فلابدّ من بقاء توفّر الشرائط فيهم ، والرقيب على توفّر وبقاء الشرائط وحسن الممارسة من الفقهاء أو من هو دون الفقهاء عموم الأُمّة ، وهذا نوع من حيويّة ونشاط للأُمّة مع كونها تحت ظلّ الهداية السماوية.
يمكن سماحة الشيخ تلخيص بياناتكم بأن نقول : قد
يكون بين نظريّة الإمامة وبين نظريّة الديمقراطيّة العموم والخصوص المطلق ، يعني أنّ نظريّة الإمامة تحتوي على أُسس ومباني الديمقراطيّة وزيادة ، ولكن بين نظريّة الشورى والديمقراطيّة قد يكون عموماً وخصوصاً من وجه ، يعني أنّ بعض الأُسس الديمقراطيّة توجد في الشورى وبعضها لا توجد ، هل يمكن هذا التلخيص وهذه النتيجة ؟
الشيخ السند : في الواقع بعض الأُمور
الموجودة في الديمقراطيّة الغربيّة المطروحة لا تتوافق معها النظريّة الإماميّة ، وهي إطلاق عنان الحريّات الفرديّة بمعنى الغرائز الشهويّة ، أو الحريّة الدينيّة بمعنى أنّه يمكن للفئة أن تمارس التضليل الفكري والعقائدي ، وتخادع عقول كثير من الناس ، طبعاً البحث الحرّ والسجال العلمي مفتوح حتى في نظام
الإمامة ، كما قد
مارسه أئمة أهل البيت عليهم السلام ، ولكن لا بمعنى إنّنا نفسح المجال إلى سيطرة مخادعات على الإعلام من دون التصدّي لها وللجواب عليها بنفس المتانة والكفاءة.
بعبارة أُخرى : بعض ما هو موجود متسيّب
في النظريّة الديمقراطيّة الغربيّة ، من إطلاق العنان للجانب الفردي على حساب مثل المجتمع ، والتي الآن هم آخذون في التراجع عنها شيئاً فشيئاً ، هذه لا نجدها في النظريّة الإماميّة.
نعم ، النظريّة الإماميّة تتبنّى حريّة
العقل ، أو حريّة النموّ العلمي ، وحريّة مراقبة الناس ووصاية الناس على النظام الإسلامي والحكومة الاسلاميّة ، نعم هذه الوصاية موجودة ، لكن للأسف نجدها أنّها ليست بالنحو المركّز في الديمقراطيّة الغربيّة ، كما تقدّم نقل مقال الدكتور عبد الرزاق السنهوري حيث يقول : عندهم تضارب ، هل المذهب العقلي يحكّم أو المذهب الفردي ، هذه أوجه مفارقة موجودة بين النظريّة الإماميّة والديمقراطيّة.
أتصوّر سماحة الشيخ لو أنّنا تركنا نظريّة
الإمامة والشورى إلى جانب ، وأتينا إلى أصل الدين ، لرأينا أنّ المحور الأساسي للمشروع السياسي الديني ، إنّما هو ينصبّ على أنّ تعيين الحاكم وعزله بيد الله تعالى ، ولكن في النظريّة الديمقراطيّة فالمحور والأساس هو أن يكون العزل والنصب للحاكم بيد الناس ، فيبدو هنا حصول نوع تنافر بين
النظريّة الدينيّة السياسية الإلهيّة ، وبين
النظريّة الديمقراطيّة العرفية ، وهذا ما أدّى إلى أنّ البعض فصّل بين زمن حضور المعصوم سواء كان نبيّاً أو وصيّاً ، وبين زمن غيبته وعدم وجوده ، فقال بالمشروع الديمقراطي في الثاني ، ولم يقله في الأول ، وذلك نتيجة لهذا التنافر الموجود بين محور وأساس الديمقراطيّة ، ومحور وأساس النظريّة الدينيّة ، فما هو رأيكم ؟
الشيخ السند : في اعتقادي أنّ في
النظريّة الإماميّة رقابة الناس ووصاية الناس على مسير الحكم والحاكم موجودة ، فإذا كان أصل نبوّة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصل إمامة الإمام عليه السلام وإن كانت هي بجعل من الله عزّ وجلّ ، إلّا أنّ للناس بل اللازم على الناس أن يتثبّتوا من معرفة وجود هذه الصفة في النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ومعرفة هذه الصفة في الإمام عليه السلام ، فكيف بنوّاب الإمام المعصوم وهم الفقهاء ؟! فلعلّ من أروع التزاوج بين تحكيم الواقعيات ، وما يقال من الأُسس العقليّة البديهيّة أو السماويّة الإلهية الرفيعة ، مع المشاركة للناس نجدها في النظريّة الإماميّة.
ففي النظريّة الغربيّة جُعل للناس
المشاركة ، لكن تذبذبوا في أنّ مشاركة الناس وآراءهم هل تحدّ أو لا تحدّ ، تحد بما يحدّده العقل ، وليست تحدّ بالمتغلّب ، ولكن عندهم إنّها تحدّ بالحدود العقليّة ، والسبب في ذلك ماذا ؟
لأنّ العقل يدرك مصالح لابدّ منها في
النظام الاجتماعي وما شابه ذلك ، فمن غير المنطقي أو المعقول أن يفسح المجال للناس أن يؤدّوا نظامهم المدني بأيديهم نتيجة نزوة شهويّة ، فلابدّ أن يحدّد ويهذّب هذا السلوك الاجتماعي العامّ بالحدود العقليّة.
وكذلك الحال في الأُسس الشرعيّة السماويّة
الإلهيّة الرفيعة المسلمة ، هي أيضاً مكمّلة لهذه الفطرة العقليّة البشريّة ، فمن ثمّ هي محكّمة كسكة جادة ليسيروا المسار الاجتماعي عليها.
غاية الأُمور ، أنّ الذي يراقب المسار
الاجتماعي ، أو مسار الحكم ونظام الحكم على هذه الجادة ، التي هي جادة العقل والشرع ، الذي يراقب أنّ هذه العجلة الاجتماعيّة لا تنحرف يمنةً ويسرة ، يجب أن يكون من مسؤوليّة الأُمّة ، كما هي طبعاً من مسؤوليّة الإمام المعصوم عليه السلام في أيّ ظرف من الظروف ، سواء كان في حالة إزواء من قبل الظالمين ، أو في حالة تمكّن وقدرة ، في كلّ الحالات هو عليه السلام من مسؤوليّته الإلهيّة أن يحافظ على مسار الأُمّة والبشريّة.
كذلك الأُمّة هي مسؤليتها أيضاً من باب (
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )
، ( وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )
، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً من ______________
مسؤولية الأُمّة ، بأن
تلاحظ أنّ مسيرة النظام ومسيرة الحكم والحاكم على طريق وجادة الشرع ، فالجادة إذن لمسيرة سلوك النظام الاجتماعي ليست هي بحسب أهواء الناس وآرائهم ، بل هي لابدّ أن تكون بحسب وصاية العقل والشرع ، نعم في الجانب التطبيقي لهذا المسار هنا تكون من مسؤوليّة الأُمّة.
فإذاً في النظريّة الإماميّة نشاهد أروع
المزاوجة بين هذين الدورين ، يعني لا إطلاق العنان لدور الأُمّة ، أو لدور الناس ، أو لدور البشر في أن يتّخذوا مسارات غابيّة أو حيوانيّة أو ما شابه ذلك ، تنزلق بهم إلى الهاوية ، بل لابدَّ حينئذ من أن يحكّم وصاية العقل والشرع.
ومن جانب ثاني ليس هناك إلغاء مطلق لدور
الناس ، لكي يأتي مخادع على رقاب الأُمّة ويستغلّ مقدّرات الأُمّة ويدّعي أنّ هذا المسير شرعة العقل ، كما حدث في حقب عديدة من التاريخ الإسلامي وباسم الشرع والعقل ، بل لالتزام الجادة العقليّة والشرعيّة لابدّ أن تكون الأُمّة هي المراقبة لمسيرها ، طبعاً تحت هداية الإمام المعصوم عليه السلام ، وتحت هداية الفطرة العقليّة الموجودة في ذوات البشر (
فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) .
______________
وأمّا التفرقة بين حقبة ظهور المعصوم عليه
السلام وغيبته في نظرية الحكم في النظريّة الإماميّة ، فهذا خلاف ما هو متسالم عليه عند علماء الإماميّة قديماً وإلى ما قبل الآونة الأخيرة ، إنّه متسالم لديهم أنّ الحكومة هي حكومة نيابيّة عن المعصوم عليه السلام في شرعيّتها ، وأنّ الولاية بالفعل هي للإمام الثاني عشر عجّل الله فرجه الشريف ، وأنّ كلّ صلاحيّة أو ولاية يمكن أن تقرّر لابدّ أن تنشعّب منه.
نعم قلنا : إنّه هو عجّل الله فرجه
الشريف شأنه شأن آبائه الطاهرين ، قد فوّضوا نسبيّاً إلى الأُمة إحراز صاحب المواصفات في الحاكم النيابي عنه في هذه الحقبة في عصر الغيبة ، وكذلك في حقبة عهد الصادق عليه السلام ، حيث كان سلام الله عليه حُجب عن سدّة القدرة المعلنة ، وإنّما كان يدير نظام الطائفة الشيعيّة ، بل النظام الإسلامى والبشري بشكل خفي ، فأوكل لمن ينوب عنه في الأصقاع المختلفة الشيعيّة النائية عن المدينة عدّة من علماء الإماميّة ذوي مواصفات معيّنة ، وفي كثير من المواطن لم يعيّنهم بأسمائهم الخاصّة ، وفوّضوا نسبيّاً للأُمّة إحراز مصاديق أُولئك النوّاب بمواصفات خاصّة.
نعم ، هناك للأُمّة التخويل في احراز
المواصفات ابتداءً وبقاءً ، وهذا نوع من التقارب بين النظريّة الإماميّة والنظريّة الديمقراطيّة ، لكن على بعض الأقوال في النظريّة الديمقراطيّة أنّ المذهب العقلي يحكّم ، يعني
في حين يعطي للأُمّة
وللشعب ولأفراد المجتمع الدور في انتخاب الحاكم وعزله وما شابه ذلك ، إلّا أنّ المذهب العقلي عندهم يحدّد مسار الانتخاب ، بأن يكون المنتخب واجداً للصفات والشرائط التي يحكم بها العقل ، كذلك نحن في النظريّة الإماميّة نقول بجانب الشروط التي يحكم بها العقل البديهيّة ، هناك شروط شرعيّة يحكم بها الشرع ، وبعبارة أُخرى الشرع المتمثّل في الإمام المعصوم عليه السلام قد أعطى الصلاحيّة إلى نطاق خاصّ معيّن ، فمن ثمّ هم يستكشفون.
أمّا المفارقة بين عهد الغيبة وعهد
الظهور ، فكأنّما القائل بها في غفلة كبيرة جدّاً عن أنّ الولاية الفعليّة هي للإمام المعصوم عجّل الله فرجه الشريف ، وهو ليس غائباً غياب وجود ، وإنّما هو غائب غياب هويّة ، يعني هويّته غائبة عن شعورنا ومعرفتنا به ، يعني معرفتنا له غائبة ، لا أنّه هو غائب ، وإلّا هو فى ساحة كبد الحدث وبين أيدينا في كمال النشاط ، وبذل الجهد في هداية الأُمّة ومسير الأُمّة بالشكل الخافي علينا.
سماحة الشيخ ، من المشاكل الفكريّة التي
سبّبتها النظريّة الديمقراطيّة ، هو في كيفيّة الجمع بين الدين وبين الديمقراطيّة ، فكلّ ذهب إلى مسلك خاصّ في هذا المجال. وهناك من حاول أن يجمع بينهما على حساب الدين ، مثلاً يفرّقون بين الحقوق ويقولون : إنّ هناك حقوقاً طبيعيّة فطريّة للإنسان ، وحقوقاً وضعيّة ، وهذه الحقوق الطبيعيّة
والفطريّة لا يمكن أن تتعلّق للجعل الشرعي أو العقلي
، فحقّ تعيين الحاكم وتعيين من يدبر أُمور الناس ويسوسهم هي من الحقوق الطبيعيّة الفطريّة ، ومتقدّمة على الدين ، ولا يمكن أن تتعلّق بالجعل الشرعي أو العقلي ، فما هو تقييمكم لهذه النظريّة ؟
الشيخ السند : أصل كون نشأة جملة من
الحقوق من الطبيعيّة أمر ثابت ، وإن كان بعض الباحثين الإسلاميين ، من الوسط الحوزوي لدينا ربما يتنكّر لمصدريّة الطبيعة للحقوق بما فيها الطبيعة الإنسانيّة ، بدليل أنّ إضفاء الطبيعة للحقوق وتوليد الحقوق ليس له حدّ منضبط ، ومن أنكر استند إلى هذا الوجه ، لكن هذا الوجه لو نقيّمه لا ينفي منشأيّة الطبيعة للحقوق ، ولا ينفي ما ذهب إليه علماء القانون وعلماء الحقوق من أنّ أحد مصادر الحقوق هو الطبيعة ، غاية الأمر أنّه لا يمكن جعل الأمر مطلق العنان.
فكون أحد مناشئ الحقّ من الطبيعة مسلّم
، لكن في تحديده وتأطيره قد يكون هناك إبهام وغموض ، وحيث يكون هناك إبهام وغموض وغيوم يجب أن لا يجعل حينئذ الحقّ بشكل سائب مطلق ، لابدّ أن يقتصر لا أقل على قدر متيقّن ، أو يمزج بضوابط أُخرى ، أو يكون تحت التشريع الإلهي باعتبار أنّ العقل لا يصل إلى تمام الحدود والصلاحيّات التي تنشأها الطبيعة للحقوق ، فلابدّ أن يكون تحت هداية شرعيّة ، لا أنّه يتنكّر أو ينكر أصل نشوء الحقوق من الطبيعة.
ولكن لا يخفى أنّه ليست الحقوق مصدرها
الوحيد الطبيعة ، باعتراف حتى القانونيين الوضعيّين وعلماء الحقوق المحدثين الآن ، بل لها مصادرها الاُخرى : الغايات الكماليّة ، نظام المصلحة الاجتماعيّة ، وصاية السماء بسبب الخالقيّة والربوبيّة كما هي في الملل والشرائع السماويّة الإلهيّة ، وغيرها من المناشئ الأُخرى.
فحينئذٍ يجب أن يكون هناك توفيق بين هذه
المناشئ المختلفة ، وإذا كان هناك نوع من التوفيق بين المناشى المختلفة ، سواء بسبب التزاحم ، أو بسبب تضارب الجهات ، أو ليس تزاحماً وإنّما هو نوع من التهذيب والتكميل ، فمن الخطأ إذاً أن ننظر من منطلق ومنشأ معيّن ، هذه نقطة أُولى تؤاخذ على هذه المقولة.
والنقطة الثانية التي تؤاخذ على هذه
المقولة ، هي كما ذكرنا أنّ الطبيعة عندما تكون منشأ للحقّ ، غالباً لا ترسم حدّ وإطار ودرجة معيّنة للحقّ ، وإنّما تكون منشأ الحقّ بشكل مبهم غائم ، لابدّ من ضبط هذا الحدّ للحقّ الناشئ من الطبيعة وصياغته. وهذه الصياغة إمّا تكون بالوضع ، أو التجربة ، أو بوصاية السماء لمن يدين بالتوحيد.
فصرف كون الحقّ ناشئاً من أمر طبيعي ، وهو
وجود تكويني لا يقبل الجعل الشرعي ، فيه هذه المغالطة ، حيث إنّ الجعل الشرعي ليس بمعنى نسف ذا الحقّ الطبيعي وإلغائه ، بل بمعنى تأطيره وتحديده والكشف عن حدوده التي لا يتوصّل إليها العقل البشري المحدود ، ولا تتوصّل إليها التجربة بمرور الزمان ، بل لابدّ من وصاية السماء في الكشف عن حدود ودرجات تلك الحقوق التي تنشأ من الطبيعة.
ثمّ إنّ التزاحم والتوفيق بين تلك
الحقوق الطبيعيّة والحقوق الأُخرى كيف ترسم ؟ صرف دعوى أنّ الطبيعة منشأ الحقّ ولتكن صحيحة ، ولكن كيف يوفّق بينها وبين بقيّة الحقوق الطبيعيّة نفسها ، أو بين الحقوق الطبيعيّة والحقوق التي لها منشأ آخر ؟ فإذاً هذا المنطق في القانون الوضعي نفسه مرفوض ، بأن نقول : إنّ الحقوق الطبيعيّة غير قابلة للجعل والتقنين المنظّم.
النقطة الثالثة : أنّه في القوانين
الوضعيّة نجد أنّ هذه الحقوق الطبيعيّة من مشاركة الناس ، قد اختلفت صياغات القانونيّين الوضعيّين وإلى يومنا هذا فيها ، ولِمَ جعلت لها صياغة مجعولة تقنينيّة ؟ ذلك لأجل أن يؤطّروها ويهذّبوها ويبرمجوا كيفيّة تولّد الحقّ من هذا المنشأ الطبيعي.
فحينئذ كون الحقّ متولّداً من الطبيعة ،
لا يعني استغناءه عن الجعل والتشريع ، وتأطيره وتحديده وتهذيبه وملائمته مع حقوق أُخرى ، هذا فضلاً عن أنّ في النظام الاجتماعي لا نسلّم بأنّ التدبير والإدارة كلّها لها طابع تكويني ، لو كان كلّها لها طابع تكويني طبيعي لما كان هناك مجال لمنطقة التقنين وما يسمّى بالاعتبار القانوني ، بينما يرى أيّ حقوقي وأيّ قانوني أنّ الاعتبار القانوني أو الإنشائي أمر مفروغ عنه وضروري في تدبير النظام الاجتماعي.
فمّما يدلّل على أنّه هناك مساحات أُخرى
لا تملأ إلّا بالاعتبار القانوني ، كما عبّر العلّامة الطباطبائي رحمة الله عليه في رسالة
الاعتبار : أنّ
الاعتبار يتوسّط تكوينياً المنشأ الطبيعي التكويني ، ثمّ اعتبار ، ثمّ الأفعال التكوينيّة الأُخرى فيكون الاعتبار متوسّطاً بين ظاهرتين تكوينيتين ، لكي يرسم انتظام هذا النظام الاجتماعي السياسي.
بل يترفّع العلّامة الطباطبائي وهو
الصحيح ، فيقول : بل لو فرضنا أنّ الإنسان لا يعيش نظاماً اجتماعيّاً ، بل يعيش حقبة الكهوف ، لابدّ من توسّط الاعتبار القانوني في أفعال الإنسان ، يعني يحدّد لنفسه واجبات ومحرّمات ، مثلاً يحدّد لنفسه واجب معناه الغذاء ، أصل الحاجة هي طبيعيّة ، لكن مع ذلك لابدّ أن ينظّمها بشكل اعتبار قانوني متى يجب أن يأكل ، متى يجب أن لا يأكل ، متى يحرم عليه ، متى كذا ، فإذاً الطبيعة لابدّ أن تهذّب والتكوين للطبيعة لكي ينجم عنها أغراض وغايات تكوينية أُخرى لابدّ أن يتوسّط الاعتبار القانوني حتى في الممارسة الفرديّة لفعل الإنسان ، وإلّا فأصل منشأ الطبيعة للحقّ غائم مبهم.
فهذه مؤاخذة رابعة على هذه المقولة ، وهي
أنّ الاعتبار القانوني باعتراف كلّ القانونيين الوضعيين لابدّ في النظام الاجتماعي ، بل وبعبارة أُخرى حتى في نظام الأفعال الفرديّة التي لا تمسّ الإنسان نفسه ، ولا ترتبط بشريكه الآخر فضلاً عن بقية أفراد المجتمع ، مع ذلك يحتاج الإنسان في تدبير ونظم هذا إلى التدبير الاجتماعي.
وهذا يطلعنا على نقطة خامسة ، هي أنّ
الاعتبارات القانونيّة ، سواء كانت الشرعيّة أو الوضعية ، هي تنطلق ليست في المصادمة مع كمالات الطبيعة ، بل لأجل هداية الكمالات الطبيعيّة إلى طرقها المنشودة وغاياتها المبتغات.
وبعبارة أُخرى : كلّ اعتبار قانوني لا
ينشأ من مصالح تكوينيّة فهو لاغي ; لأنّ بناءً على العدليّة في قبال الأشعريّة ، الاعتبارات القانونيّة تنطلق من مصالح ومفاسد ، فكونها تنطلق من مصالح ومفاسد لا يعني إلغاء دور الاعتبار القانوني.
فملخّص النقطة الخامسة : أنّ الاعتبار
القانوني هو نفسه ينطلق من مناشيء طبيعية ، لكن إنّما هو ينظّمها ويدبّرها ويهذّبها وما شابه ذلك ، فليس المفروض في الاعتبار القانوني أنّه يكون خلوّ من الملاكات الطبيعيّة ، أو أنّه مصادم للملاكات الطبيعيّة ، وكأنّما في هذه المقولة إغفال لهذا الجانب.
النقطة السادسة : أنّ هذه الطبيعة ليست
هي المنبع الأول والأخير حتى الطبيعة الإنسانية ، هذه الطبيعة ليست إلّا سنن إلهيّة وتكوينيّة ، بل السنن التشريعيّة هي مكمّلة لسننه التكوينيّة ; لأنّه إذا سارت الطبيعة التكوينيّة الماديّة تحت مسار ما فوق الطبيعة من أمر غيبي إلهيّ ، يكون هناك النجاح في الوصول إلى كمالات الإنسان.
مع أنّ سنن الطبيعة التكوينيّة لا يحيط
به العقل التجريبي البشري
بنحو تام ولا بنحو
متوازن ، إلّا بهداية الشريعة السماوية (
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )
.
مع قطع النظر عن مناقشة هذه المقولة ، هل يمكن
أن نقول : إنّ أصل تعيين الحاكم هو حقّ طبيعي وفطري للإنسان ، وتعلّق الجعل الشرعي على طول هذا الحقّ ، أو نقول : إنّ أصل تعيين الحاكم ليس حقّاً طبيعياً للإنسان ؟
الشيخ السند : ذكرنا أنّ التعيين
والانتخاب عند علماء القانون والحقوق قد اختلف في ماهيّته ، التعيين بمعنى الاستكشاف ، هذا حقّ طبيعي ; لأنّ الإنسان لابدّ أن يلتفت إلى من يتابع أو من يحكم ومن يقيم ، وهذا لم تتنكر له النظريّة الإماميّة ، ولا النظريّة الدينيّة في الحكم ، بل حتى في أصل معرفة النبوّة والإمامة كما ذكرنا ، وحتى في أصل الاعتقاد والاتباع للإمام المعصوم عليه السلام ، لابدّ أنّ الإنسان يستكشف أنّ هذا الإمام إمام ، أو هذا النبي نبي كي يتابعه ، فالانتخاب بمعنى الاستكشاف قد أُقرّ في الشريعة الإسلاميّة ، وفي المذهب الإمامي بشكل واسع النطاق ، كما مرّ علينا.
وأمّا الانتخاب والتعيين بمعنى التولية
، فكون منشأها طبيعي ، فهذا أول الكلام ، كيف وأنّ الخالق القادر العالم الإله البصير بكلّ الاُمور هو له الملكيّة التكوينيّة على ذلك ، غاية الأمر قد أقدر الإنسان على أُمور ______________
اختياريّة معيّنة
لفسح باب الامتحان ، لكن ذلك لا يعني نفي الوصاية الشرعيّة من رأس ولا نفي الحقّ الشرعيّ والقيمومة على مسار الإنسان.
مثلاً الإنسان عنده قدرة على المحرّمات
، هل نقول : لأنّ الباري تعالى غرّز في الإنسان القدرة على ارتكاب المحرّمات ، فليس من الصحيح والمعقول أن يشرع تحريم تلك الأُمور والأفعال ، إقدار الله عزّ وجلّ للإنسان على أُمور معيّنة لا يعني تخويل تلك الأُمور للإنسان أصلاً ، بل لابدّ حينئذ أن تأتي الشريعة وتكشف للإنسان موارد الخير وموارد الشر التي لا يدركها بعقله ، فمن ثمّ يكون للشارع أو للباري تعالى الخالق الوصاية والقيمومة في أن يحدّد هذا الأمر ويظلّ دور مساهم للارادة الإنسانية في القيام والإشراف على معرفة ذلك وتنفيذه.
وبعبارة أُخرى : إذا كان التكوين
والطبيعة منشأ الحقوق ، فالتكوين أيضاً منشأ لحقوق الله ; لأنّ الله أيضاً بمنطق الخالقيّة والمخلوقيّة تكويناً قادر على كلّ شيء ، وقادر على ما أقدرنا عليه ، ليست القدرة التي خوّلت من الباري للإنسان توجب عزل قدرة الباري عن قدرة الإنسان ، إذاً بحكم منطق التكوين للباري حقّ هو الحقّ الأوفر والأول والأخير ، في حين عدم إلغاء دور الفرد البشري وإرادته.
سماحة الشيخ ، بقي سؤال آخر وإشكال لابدّ من
الانتباه إليه ، وهو أنّه قد يحصل تعارض بين بعض الأُصول الديمقراطيّة والأُصول
الإسلاميّة والدينيّة ، من قبيل مثلاً المساواة
الذي تتبنّاه اُصول الديمقراطيّة بين المسلم والكافر والذمّي وكلّ المواطنين ، يعني لا يوجد فرق بين أبناء الشعب من أيّ دين وأيّ مذهب وأيّ مسلك كانوا ، ولكن نرى أنّ الأُصول الدينيّة والأحكام الشرعيّة تفرّق مثلاً بين الذمّي والمسلم ، فهل يمكن حلّ هذا التعارض ؟ والتقدّم يكون مع أيهما ؟
الشيخ السند : في الواقع نظام الحكم ، كما
يقال في المواد الدستوريّة الأساسية ، هو دائماً ينطلق من أهداف معيّنة ، ويصبو هذا النظام الاجتماعي إلى تحقيق أهداف معيّنة ، وتلك الأهداف والمنطلقات التي ينطلق منها دستور نظام الحكم الاجتماعي ، تلّون ذلك النظام الاجتماعي وتسبب تسميته باسم ذلك الهدف أو ذلك المنطلق.
مثلاً ترى الحكومات القوميّة أو
الوطنيّة المعيّنة تنطلق من حفظ التراب والعرق المعيّن ، أو في الحكومات الملكيّة مثلاً من العائلة الحاكمة الكذائيّة ، فتجد القوانين التي تنشعب أو المواد الدستوريّة الأُخرى التي تنشعب من هذه المادة الأولى والمواد الأولى ، تكون في ظلّ تلك المواد ، ورعاية المساواة والحقوق أيضاً في ظلّ تلك المواد الأُولى.
في النظام الديني ليست المادة الأُولى
هي التراب والوطن وما شابه ذلك ، وإن كان تلبية الضرورات المعيشيّة أو الرفاه المعيشي للفرد البشري القاطن في تربة معيّنة ، أو في جغرافية معيّنة ، أو في مجموعة
بشريّة معيّنة
عرقيّة أو قومية معيّنة ، هي من أهداف التشريع الإسلامي أو النظام الإسلامي.
ولكن ليس تأمين الرفاه المعيشي والسعادة
المعيشيّة في دار الدنيا هي الهدف الوحيد للمشرع الديني ، وهو الله عزّ وجلّ ورسوله وأوصياؤه ، بل ليس هدف المشرّع الإسلامي فقط هو حصر السعادة المعيشيّة الدنيويّة في ظلّ تربة وجغرافية معيّنة ، بل هدف المشرّع الإسلامي أولاً هو رفاه وسعادة البشر أجمع ، لا الاقتصار على بقعة جغرافيّة محدّدة ولا تربة معيّنة.
أضف إلى ذلك أنّ هدفه أيضاً السعادة
الأُخروية ; لأنّ المشرّع الإسلامي يفترض أنّ الإنسان ليس وجوده محصوراً بهذه النشأة في المادة الغليظة ، بل هو سينقل إلى مواد ألطف ونشآت وعوالم قد يعبّر عنها في الفيزياء الحديثة أثيرية أُخرى ، تلك العوالم الألطف والأصفى متأثّرة سلباً وإيجاباً بممارسة وسلوك الإنسان في هذه العالم.
فمن ثمّ إذاً في ظلّ هذا الهدف منطق
المساواة يختلف ، فكلّ من يكون أوفى وأكثر وفاءً والتزاماً وأمانة لتحقيق هذه الأهداف ، يكون هو ذو أولويّة أكثر ، نعم في المنطق الوضعي حيث يلاحظ التربة والجغرافية ترى المساواة أو الأولويّة بلحاظ التربة أو العرق المعيّن والقوميّة المعيّنة ، من ثمّ لا يلحظ الديانة طبعاً ; لأنّ المفروض أنّه لاحظ التربة ، ولذلك ذلك المشرع الوضعي يفارق في الأولويّة بين المنتمي لجغرافية
معيّنة وجغرافية
أُخرى ولم يساو بينهما.
ولم يعترض عليه معترض بأن يقول : إنّك
فرّقت بين البشر ; لأنّ المفروض هو في ظلّ ذلك التقنين الذي لديه أنّ التربة هي الهدف الأول والأخير ، أو العرقيّة المعيّنة هي الهدف الأخير ، فالمساواة بحث نسبي ليس بحثاً مطلقاً.
بينما المشرّع الإسلامي يساوي بين أبناء
جغرافيّة مختلفة ، إذا كانوا بلحاظ الهدف الذي هو ينشده متساوين ، ولذلك المشرّع الإسلامي قد فارق في المزايا بين المؤمنين وبين المسلمين ، يعني المسلم الذين يتحلّى بصفة الإيمان له امتيازات تختلف عن المسلم الذي يتحلّى بصفة الإسلام فقط ، وبين المسلم وغير المسلم فارق في المساوا ة ، فالمساواة في ظلّ الهدف المعلن الذي هو مادة المواد الدستوريّة التي يقوم عليها النظام الاجتماعي السياسي قد راعاها المشرّع الإسلامي.
أمّا المساواة التي راعاها المقنّن
الوضعي هي في ظلّ الهدف الآخر ، ومن ثمّ فإنّ المقنّن الوضعي أيضاً لديه مساواة محدودة نسبيّة وأولويات ودرجات للمواطن ، ولم يساوٍ بينهم.
ففي الواقع إذاً لابدّ من نقاش في أصل
مادة المواد أو المواد الأولى في أهداف الدستور التقنيني ، بين التقنين الشرعي والتقنين الوضعي ، وإلّا بحث المساواة كبحث انشعابي فرعي من دون الملاحظة لأُصول
القانون التي ينطلق
منها ، بحث مخادع للصخب الإعلامي أكثر ممّا هو بحث منطقي قانوني.
هذا مع أنّ هناك مساواة في السقف الأدنى
للنظام المدني في أساسيات المعيشة فى النظام الإسلامي يتمتّع الجميع فيه ، وإنّما هناك امتيازات في جملة اُخرى من خصائص النظام الديني للمسلمين والمؤمنين.
هذا مع كون باب المواطنة بحسب الأدلّة
الإسلاميّة والإيمانيّة مفتوح بابها غير مغلق لكلّ راغب ، بخلاف المواطنة بحسب التربة والعرق والقوميّة في النظام الديمقراطي الغربي ، فإنّها أمر غير اختياري.
فهرس
المصادر
القرآن الكريم
(١) بحار الأنوار ، العلّامة
المجلسي ، تحقيق : محمد باقر البهبودي ، الطبعة الثانية ١٤٠٣ هـ ، مؤسسة الوفاء ـ بيروت.
(٢) مصباح البلاغة (
مستدرك نهج البلاغة ) ، الميرجهاني ، ١٣٨٨ هـ.
(٣) الكافي ، الكليني
، تحقيق علي اكبر الغفاري ، الطبعة الثالثة ١٣٦٧ هـ ش ، دار الكتب الإسلامية ـ طهران.
(٤) وسائل الشيعة ، الحر
العاملي ، تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهمالسلام
لإحياء التراث ، الطبعة الثانية ١٤١٤ هـ.
(٥) روضة الواعظين ،
الفتال النيسابوري ، تحقيق : غلامحسين ، منشورات دليل المجيدي ، مجتبى الفرجي ، الطبعة الاولى ١٤٢٣ هـ.
(٦) مسند أحمد بن
حنبل ، تحقيق : احمد محمد شاكر ، الناشر : دار الجيل ـ بيروت.
(٧) كنز العمال في
سنن الاقوال والافعال ، للمتقي الهندي ، تحقيق : محمود عمر الدمياطي ، الطبعة الثانية ١٤٢٤ هـ ، منشورات دار الكتب العلمية ـ بيروت.
(٨) مجمع الزوائد
ومنبع الفوائد ، نور الدين على الهيثمي المصري ، تحقيق : محمد عبد القادر أحمد عطا ، الطبعة الاولى ١٤٢٢ هـ ، منشورات دار الكتب العلمية ـ بيروت.
|