دليل الكتاب

الاهداء...................................................................... ٦

مقدمة المركز................................................................. ٧

المدخل....................................................................... ٩

الفصل الأول :

الكتاب المقدس.............................................................. ٢١

العهد القديم................................................................. ٢٣

العهد الجديد :.............................................................. ٣٣

الأناجيل الأربعة............................................................. ٣٤

سفر أعمال الرسل........................................................... ٤٠

الرسائل.................................................................... ٤٠

الرسالة إلى العبرانيين......................................................... ٤٥

رسائل يوحنا الرسول........................................................ ٤٩

رؤية يوحنا................................................................. ٥١

الكتب الأخرى............................................................. ٥٧

عيسى ( عليه السلام ) وحياته في العهد الجديد :................................ ٦٧

ولادته وحياته............................................................... ٦٨

الصلب والقيامة............................................................. ٧٣

الفداء والخطيئة الأصلية....................................................... ٨٥


من هو المسيح ( عليه السلام )؟............................................... ٩٣

ابن الإنسان................................................................. ٩٣

ابن الله..................................................................... ٩٦

الثالوث الأقدس............................................................. ٩٩

الشريعة :................................................................. ١٢١

أولاً : الوصايا الأخلاقية.................................................... ١٢١

ثانيا : الحقل العبادي....................................................... ١٢٢

ثالثا : المعاملات المدينة..................................................... ١٢٣

الخلاصة.................................................................. ١٣١

الفصل الثاني :

نبذة عن الإسلام........................................................... ١٤١

حياة النبي محمد (ص)...................................................... ١٤٥

ولادته.................................................................... ١٤٦

رضاعه................................................................... ١٤٨

طفولته................................................................... ١٤٩

شبابه..................................................................... ١٥٣

بعثته..................................................................... ١٥٨

الدعوة إلى الإسلام......................................................... ١٦٠

الهجرة إلى الحبشة.......................................................... ١٦٥

الحصار الاقتصادي والاجتماعي............................................. ١٦٧


هجرته (ص).............................................................. ١٧٠

فتح مكة.................................................................. ١٧٢

دلائل نبوته (ص).......................................................... ١٧٥

أولا : البشارة به في العهد الجديد............................................ ١٧٥

ثانيا : معاجزه (ص)....................................................... ١٨٩

القرآن الكريم وإعجازه..................................................... ١٩٣

قصة المسيح (ع) وأمه في القرآن الكريم...................................... ١٩٩

كيف وصف القرآن الكريم المسيح (ع) وأمه................................. ٢٠٤

المسيح في الانجيل :......................................................... ٢١٠

المسيح (ع) صانع الخمر الجيدة.............................................. ٢١٠

المسيح عارف لأمه......................................................... ٢١٢

المسيح صار ملعونا......................................................... ٢١٣

المسيح تقبل قدميه الخاطئات................................................. ٢١٣

المسيح مفرق للرحم والأقارب............................................... ٢١٤

ـ المسيح يجزع من الموت ويعاتب الله سبحانه................................ ٢١٥

الشريعة الإسلامية :........................................................ ٢١٩

أولا : الجنبة العبادية والطقوس الدينية........................................ ٢٢٢

ثانيا : الجنبة الاجتماعية والمعاملات بين الناس................................. ٢٢٣

الخاتمة.................................................................... ٢٢٥

المصادر................................................................... ٢٢٨


الاهداء

إلى الذوات المقدسة ، والأرواح الطاهرة لجميع الأنبياء والمرسلين من آدم ( عليه السلام ) حتى النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأوصيائهم وأوليائهم المنتجبين عليهم أفضل الصلاة والسلام ...

إلى خلفائهم بالحق العلماء الصالحين العاملين أمنائهم على الدين ...

إلى جميع الشهداء الذين بذلوا مهجهم لاعتلاء كلمة الحق وسقوا بدمائهم الذكية شجرة الدين والإيمان على مدى الدهور ...

إلى كل إنسان حد صاحب ضمير حي ، نابذ للتقليد الأعمى ، والذي يحكم العقل وحده في معرفة الحق والحقيقة ...

علي الشيخ


بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمد لله الذي منَّ علينا بنعمة الإسلام ، واتّباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، والصلاة والسلام على خير الخلائق أجمعين نبيّنا ومقتدانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى عترته الطيّبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس واطهرّهم تطهيرا.

وبعد ، في الوقت الذي يتعرض فيه أتباع الأئمة الطاهرين عليهم السلام في العراق إلى التشريد القسري عن مدنهم وإجبارهم على السكن في مدن اُخرى وفي ظروف صعبة ، وفي الوقت الذي يُقتل فيه الموالي لأهل البيت عليهم السلام ، لا لشيء ، بل لأنّه شيعي يوالي علياً وأبناءه المعصومين عليهم السلام!!!

في هذا الوقت نفسه نجد مجموعة من الكتّاب والمثقفين قد شمّروا عن ساعد الجد للدفاع عن المذهب الحقّ بأقلامهم النيرة ؛ ليطروا بأحرف من نور كتاباً علميّة قيمة تبيّن حقيقة المذهب الشيعي الاثنا عشري ، وتدعوا أبناء المذاهب الاُخرى لنبذ التعصب الأعمى وسلوك جادة البحث العلمي الحيادي ، للفوز بجنّة عرضها السماوات والأرض.

وقد مَنّ الله سبحانه وتعالى على مجموعة كبيرة من العلماء والباحثين والمثقّفين باعتناق الدين الإسلامي الحنيف أو العتقاد


والتمسك بمذهب أهل البيت عليهم السلام بعد أن قضوا شراً من حياتهم على مذهب آخر.

وهذا الكتاب هو أحد هذه الانتاجات العلمية ، ألفه أحد المثقّفين العراقيين بعد أنّ تشرّف باعتناق الدين الإسلامي وكان قبل ذلك معتنقاً للديانة المسيحية ، وقد كتب الأخ علي الشيخ في هذا الكتاب موجزاً عن حياته ، كما تطرّق إلى بعض العقائد والأفكار التي كان يؤمن بها سابقاً كما يعتقده المسيحيون لغرض معرفة مطابقتها أو مخالفتها للعقل ، كما ذكر نبذة عن الإسلام ولمح من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك ذكر قصة النبيّ عيسى عليه السلام في القرآن الكريم.

ومركز الأبحاث العقائدية إذ يقدّم هذا الأثر القيم ضمن « سلسلة الرحلة غلى الثقلين » كلّه أمل في أن تشهد الساحة العربية أمثال هذه المؤلّفات التي من شأنها تجلية الغيوم التي حالت دون رؤية الكثير من المسيحيين للواقع الذي هم يه ، ليكون ذلك محفّزاً لنبذ التقليد الأعمى والتوجّه غلى البحث الذي يوصل صاحبه إلى مرحلة البصيرة في أمر دينه.

محمّد الحسّون

مركز الأبحاث العقائدية

١١ ربيع الأوّل ١٤٢٧ هـ

Site.aqaed.com / mohammad

muhamad@aqaed.com


المدخل

نبذة عن حياتي وهدايتي :

كانت ولادتي ونشأتي في مدينة بغداد ، و من عائلة مسيحية ملتزمة ، تؤمن وبعمق بتعاليم الكنيسة وتتبعها ، ولهذا كان من الطبيعي أن أتبع ما ألفيت عليه آبائي وأجدادي.

في الأيام الأولى من حياتي أجريت لي مراسيم التعميد (١) في الكنيسة كبقية الأطفال ، وفي سن السابعة أرسلني والدي لأخذ التناول (٢). وكانت من الفترات الجميلة في حياتي ، ففي هذه الفترة

__________________

(١) التعميد أو المعمودية : ـ وهو طقس الغسل بالماء رمزا للنقاوة ، ويعتقد المسيحيون أن المسيح ( عليه السلام ) تبنى هذا الطقس وجعله فريضة في الكنيسة المسيحية ، إذ أنه جعل التعميد بالماء باسم الثالوث الأقدس علامة على التطهير من الخطيئة والنجاسة وعلى الانتساب رسميا إلى كنيسة المسيح ( عليه السلام ).

(٢) التناول : ـ المتعارف عندنا في الكنيسة الشرقية وبالتأكيد في بغداد أن


تعلمت الكثير من الأمور ، فالأجواء الروحية في الكنيسة وكذلك تشجيع ودعم الأهل ، أضف إلى ذلك حب التعلم والظهور لدى الطفل ، كلها كانت عوامل تساعد على بناء الشخصية المسيحية لهذا الطفل ، ولا أبالغ إن قلت إن ذكريات تلك الفترة ما زالت إلى الآن في ذهني ، فأني أحفظ بعض ما تعلمته من طقوس وأناشيد دينية في تلك المدة حتى الآن. وعندما بلغت واشتد عودي ، ترسخت في نفسي هذه العقائد والتعاليم فكنت أمارس الطقوس الدينية من صلاة وصيام ، وأذهب إلى الكنيسة بانتظام ولا سيما في ( القداس الكبير ) عصر يوم الأحد وتعلمت كيفية إعلان التوبة وطلب المغفرة من الرب ، بالاعتراف أمام الأب في الكنيسة. إذ كان الأب يجلس في داخل غرفة صغيرة لا تتعدى المتر المربع مصنوعة من الخشب ، ولها باب واحد توضع عليه ستارة ذات فتحتين صغيرتين في الوسط منها تقريبا ، واحدة للرجال وأخرى للنساء ، فكنا نجلس أمام الأب ونعترف له بخطايانا ، فيأمرنا بعدم الرجوع إليها ويوجب علينا قراءة بعض الصلوات والتراتيل لمغفرة تلك الخطايا.

واشتد حبي للمسيحية أكثر حينما بعث والدي أخي الصغير إلى

__________________

الطفل عندما يبلغ سن السابعة ، ولكي تترسخ تعاليم المسيحية في نفسه يرسل إلى الكنيسة في العطلة الصيفية ولفترة من ثلاثة أسابيع إلى شهر وذلك لتعلم الصلاة وبعض الطقوس والأناشيد الدينية.


( الدير ) (١). للاشتغال بطلب العلوم الدينية ليصبح ( قسيسا ). وكان أخي لا يأتي إلى البيت إلا مرة واحدة في السنة ولفترة قصيرة ، ولهذا كان والدي يرسلني لزيارته بين حين وآخر في الدير ، فكنت أرى الأجواء الروحية التي كانت تهيمن على ذلك المكان فتترك في نفسي الأثر الروحي ، وكذلك كنت اسأل أخي عن كيفية الدراسة والموضوعات التي يدرسونها ، فكان يحدثني عن مسائل كثيرة لم أكن أفهمها في ذلك الوقت ، ولا أخفي فأني كنت في قرارة نفسي أغبطه على تلك الحياة التي يعيشها منزويا عن الناس والدنيا.

وعندما تجاوزت العشرين تعمقت هذه المعتقدات أكثر ، ولكن ـ للأسف ـ لا عن وعي وبحث بل عن تقليد أعمى ، وقبول كل تعاليم الكنيسة على أنها أمور صحيحة ومسلم بها على أنها تعاليم سيدنا يسوع المسيح ( عليه السلام ) ، ولم يكن ليخطر ببالي في يوم من الأيام أن أبحث وأحقق في هذه العقائد ، ولعلي لا أكون ملوما على هذه المسألة ، لأني كنت أرى أغلب الناس على هذه الحال ، فالانشغال والانغماس في الحياة المادية والدنيوية والتعلق بها ، أدى إلى حصر الفكر والعقل في زاوية وجهة واحدة وهي التفكير في تهيئة أسباب ووسائل لحياة سعيدة في الدنيا ، وأما الآخرة والدين والعبادات

__________________

(١) الدير : ـ وهو مدرسة دينية خاصة تقع في بغداد يتخرج منها الطالب ( قسيسا ).


والعقائد فلم تكن تعدو كونها عادات و تقاليد مأخوذة من الآباء والأجداد ونؤديها تقليدا ليس إلا ، وكذلك فإن الحضور في الكنيسة لم يكن من أجل تعلم العقائد المسيحية بالشكل الصحيح ، بل لمجرد أداء الطقوس التي كانت تأمر بها الكنيسة ولإعلان التوبة وطلب المغفرة ، وفي أحسن الأحوال الاستماع إلى بعض النصائح الأخلاقية والتربوية.

ومن أهم المعتقدات التي كنت أؤمن بها بقوة ، هي أن المسيحية فقط هي الدين الحق ، وباقي الأديان الأخرى كلها خرافات وأباطيل ، فاليهودية باطلة لأن اليهود لم يتبعوا المخلص يسوع المسيح ( عليه السلام ) فهم يستحقون غضب الرب ، و المسلمون كذلك ، وعلى هذا فمن لم يكن مسيحيا فهو لا يدخل الجنة مهما فعل ، و المسيحي الذي يؤمن بيسوع المسيح ( عليه السلام ) ويحبه ويتبعه فإن مصيره لا محالة إلى الجنة مهما كان عمله لأن ذنوبه وخطاياه قد غفرت بالمسيح ( عليه السلام ).

وكانت الصورة التي يحملها أبي عن الإسلام والمسلمين سيئة جدا ، فإذا ما دار الحديث حول الإسلام والمسلمين كان والدي يصفهم بشكل سئ ، وكان ينقل لنا القصص والحكايات التي تشين بشخصية النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ). ويقول لنا بأن المسلمين يسيئون إلى يسوع المسيح ( عليه السلام ) الذي هو ابن الله وإلى أمه ، ويكذبونهما ويسخرون منهما ، وأني أذكر عندما كان يتلى القرآن من


التلفاز كان والدي يأمرنا بأن نغلقه كي لا نستمع إليه. فكنت أبغض الإسلام في نفسي ، وكانت الصورة التي ارتسمت في ذهني عنه هو أنه ليس سوى خرافات وأباطيل جاء بها رجل من الجزيرة العربية اسمه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ). وأن القرآن وهو الكتاب الذي يزعمون أنه سماوي ومقدس كان والدي يقول أنه من كتابة وتأليف محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه وينسبونه زورا إلى الله سبحان وتعالى. وأعتقد أن أغلب المسيحيين متفقون على هذا الاعتقاد.

وشاءت الأقدار الإلهية أن تشملني رحمة الرب الرحيم حيث جئت إلى إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة ، فشملني هذا النور الإلهي الذي سطع في أرض ايران ، على يد المصلح الإلهي في القرن العشرين الأمام الخميني ( قدس سره ) ، فالصحوة الدينية التي أوجدتها ، والحقائق والمعارف الإسلامية الحقيقية التي كشفتها هذه الثورة المعجزة ، كانت السبب في عودتي إلى فطرتي وعقلي.

عندما جئت إلى إيران وابتعدت عن أهلي ، سنحت لي فرصة طيبة للبحث المطالعة لبعض المسائل الدينية الإسلامية ، واللقاء مع الكثير من العراقيين المسلمين في إيران أيضا ، حيث كانت تدور بيننا النقاشات حول الإسلام والمسيحية ولم تكن تنتهي غالبا بهدوء ، إذ أنهم كانوا يطرحون بعض الإشكالات و التساؤلات عن المسيحية كنت أعجز وأتحير في الإجابة عنها ، ولكن كنت أدعي أن لكل هذه


الإشكالات أجوبة وأن العلماء المسيحيين وآباء الكنيسة هم الذين يقدرون على الإجابة عنها ، وكانوا غالبا ما يؤكدون بأن الاعتقادات المسيحية التي كنت أطرحها مخالفة للعقل ومتناقضة ، كالبنوة والتجسيد والتثليث وغيرها وكنت أجيب بأن هذه الاعتقادات هي سر من أسرار المسيحية لا يستطيع فهمها وإدراكها إلا المسيحي المملوء بروح القدس. ومضيت في مطالعتي للعقائد الإسلامية ، ومن ضمن الكتب التي كان يدفعني الشوق لقراءتها القرآن الكريم وخصوصا عندما عرفت أن في هذا الكتاب المقدس آيات كثيرة تتحدث عن قصة يسوع المسيح ( عليه السلام ) وأمه العذراء مريم ( عليها السلام ) ، وشرعت في قراءة الكتاب السماوي ( القرآن ) ولا سيما الآيات التي تخص عيسى المسيح ( عليه السلام ) وأمه العذراء ( عليها السلام ) ، فملكني الاعجاب عن الصفات العظيمة التي يصف القرآن الكريم بها المسيح ( عليه السلام ) وأمه ، ولم أكد أصدق فأني كنت أعتقد أن المسلمين ـ وكما ذكرت ـ يسيئون إلى المسيح وأمه ( عليهما السلام ) ، ولكني وجدت عكس ذلك ، تماما ، فالآيات القرآنية التي تتحدث عنهما تذكرهما بكل عظمة ووقار. كما بحثت عن الآيات التي تتحدث عن العقائد المسيحية الأخرى كالتثليث والبنوة والصلب والفداء وغيرها ، فرأيت الأدلة القوية التي يقيمها القرآن الكريم على بطلانها. وفي الحقيقة وبعد هذه المطالعات بدأت أشعر في نفسي بميل نحو هذه الأفكار والمعتقدات التي يطرحها الإسلام.


ولكني أخفيت هذا الشعور في داخلي ، وكنت أحاول قدر الإمكان من خلال لقاءاتي مع المسلمين السؤال عن الشبهات التي كانت تراودني ولكن بصورة لا يفهم منها هذا الميل والشعور.

ومرت الأيام وكنت كلما أطالع وأبحث كان هذا الميل يزداد ، فبدأت أعيش قلقا وأجد في نفسي صراعا لكنني لا أدري ماذا أفعل.

وفي أحد الأيام سمعت أحد العلماء يتحدث عن موضوع هداية الإنسان وموانعها ، وتلا آية قرآنية هزتني من أعماقي فكأنها تتحدث عن حالتي بالذات ، وهي قوله تعالى ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) (١).

وبعدها اشتد هذا الصراع في داخلي أكثر ، وملكني القلق والاضطراب ، فقد بدأت أشعر بأن عقلي قد بدأ يستسلم لهذه الحجج والأدلة التي يطرحها الإسلام ، وبدأت أحس أن هذه الاعتقادات الإسلامية هي أقرب إلى فطرتي من عقائد آبائي وأجدادي ، وكذلك قلبي هو الآخر قد تغير ، فبعد معاشرتي للمسلمين الملتزمين عن كثب انكشف لي حبهم وتعظيمهم ليسوع المسيح وأمه العذراء ( عليهما السلام ) ولا سيما من خلال النقاشات ، فهم لم يكونوا يذكرون المسيح أو أمه إلا وأردفوهما ب‍ : عليه السلام.

وأيضا بذكر هم الأحاديث الواردة عن نبي الإسلام وأئمة الدين

__________________

(١) سورة الزمر آية ( ١٧ ـ ١٨ ).


بحق المسيح وأمه ( عليهما السلام ) من حيث مدحهم وتعظيمهم كل ذلك أدى إلى أن تتحول تلك البغضاء وذلك الحقد إلى مودة وأنس.

فبدأت أعيش مزيجا من الفرح والخوف ، ولا أبالغ لو قلت أنه كانت تجري في أعماقي معركة حقيقية بين جنود الرحمن وجنود الشيطان ، فجنود الرحمن يدفعونني للاستسلام لنداء الفطرة والعقل واتباع الحق الذي انكشف لي ، وفي المقابل كانت جنود الشيطان توسوس لي بأنك كيف تستطيع أن تترك دين آبائك وأجدادك؟ وهل حقا كانوا جميعهم على الباطل غافلين عن هذه الحقائق التي اكتشفتها أنت؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى أهلك فهل تستطيع أن تقنعهم بهذه الحقيقة؟ وهل يقبلونك فيما لو عرفوا بأنك قد تركت دينهم واعتنقت الإسلام وأنت تعلم شدة العداوة والبغضاء التي يحملونها إزاء الإسلام؟

فكل هذه الوساوس كانت تعيش في صدري وتقف حاجزا دون إذعاني للحق.

وراحت هذه المعركة تشتد في داخلي ، حتى أذكر أني ولمدة ثلاثة أيام لم أكن اشتهي طعاما ولا شرابا فكنت لا آكل إلا إذا اشتد بي الجوع ، وكذلك أصابتني حالة من الأرق في هذه المدة ، وفقدت القدرة على اتخاذ القرار ، لا سيما وأنا شاب واتخاذ قرار مصيري في هكذا ظرف يعتبر أمرا شبه مستحيل ، وفي إحدى الليالي بدأت أتضرع إلى ربي وخالقي ببكاء وبصدق واطلب منه المعونة لإخراجي من هذا


الصراع ومن هذا الارتباك والقلق الذي أجهدني ، وفي صباح اليوم التالي شعرت في نفسي بقوة عظيمة لم أعهدها من قبل ، وأحسست انشراحا عجيبا في صدري ، حطمت بها كل الحواجز والوساوس التي كان يضعها الشيطان في طريق هدايتي ، واتخذت أصعب قرار في حياتي بكل سكينة واطمئنان وقررت أن اعتنق الإسلام واتبع سبيل الحق ، وأترك دين آبائي وأجدادي التقليدي ، فبدأت حياتي الجديدة بهذه الولادة السعيدة.

وعكفت بعد هذا ولسنين على البحث والمطالعة بشكل دقيق ومكثف ، للتعمق في أصول الإسلام وفروعه وآرائه وأحكامه ، وكذلك بالبحث والتدقيق في ديانتي السابقة وبتعمق أكثر ، وقمت بالمقارنة بينهم من حيث العقائد والتعاليم فرأيت الحق واضحا جليا كنور الشمس ، وأيقنت أن العقيدة التي كنت أحملها ( المسيحية ) فيها من التناقضات ما يأبى العقل عن قبولها فيما كنا نعتبرها أسرارا لأن العقل لا يدركها ، كالتثليث والبنوة والتجسيد وغيرها من العقائد ، وعلى العكس من هذا وجدت الإسلام ، فكل عقائده تبتني على أدلة عقلية ولا سيما الأصل الذي تعتمد عليه وهو التوحيد إذ فيه من المعارف الإلهية ما يجعل الإنسان من خلال فهم تلك المعارف يعيش حياة توحيدية سعيدة في الدنيا قبل الآخرة.

وأعتقد أن التعصب الجهل واتباع الهوى والغفلة هي العوامل


الرئيسية التي تصرف الإنسان عن الاذعان للحق وقبوله.

وإني في هذا البحث سأتطرق إلى العقائد والأفكار التي كنت أؤمن بها سابقا وكما يعتقدها المسيحيون وذلك لنرى مدى صحتها ومطابقتها أو مخالفتها للعقل؟ وكذلك إلى بعض العقائد الإسلامية والاشكالات التي كنت أحملها تجاه الإسلام. على أني حاولت في هذا البحث قدر الإمكان الابتعاد عن الانفعالية لكي تأتي هذه الدراسة علمية الهدف منها هو كشف بعض الحقائق للقارئ العزيز ... والله المسدد للصواب.


الفصل الأول

الكتاب المقدس

العهد القديم

العهد الجديد

عيسى وحياته في العهد الجديد

الصلب والقيامة

الفداء والخطيئة الأصلية

من هو المسيح في العهد الجديد؟

الثالوث الأقدس

الشريعة

الخلاصة



الكتاب المقدس

إن الكتاب المقدس ـ كما يعتقد المسيحيون ـ هو مجموع الكتب الموحاة من الله ، والمتعلقة بخلق العالم وتاريخ معاملة الله لشعبه وكذلك مجموع النبوءات عما سيكون حتى المنتهى ، والنصائح الدينية والأدبية التي تناسب جميع بني البشر في كل الأزمنة. وفي الكتاب المقدس جميع أنواع الكتابة من نثر وشعر ، وتاريخ وقصص ، وحكم وأدب ، وتعليم وفلسفة وأمثال وإنذار (١).

ويبلغ عدد الكتاب ( الملهمين ) الذين كتبوا الكتاب المقدس أربعين كاتبا. وهم من جميع الطبقات ، فبينهم الراعي والصياد وجابي الضرائب والقائد والنبي والسياسي والملك و ...

وقد استغرقت مدة كتابة الكتاب المقدس ألفا وستمائة سنة ، وكان جميع هؤلاء الكتاب من الأمة اليهودية ما عدا لوقا كاتب

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس ص ٧٦٢.


الإنجيل الذي دعي باسمه إذ يظن أنه كان أمميا من أنطاكية ، والنسخ الأصلية للكتاب المقدس ليست موجودة الآن ، بل كل ما هو موجود هو نسخ مأخوذة عن ذلك الأصل.

ويعتقد المسيحيون كذلك أن الكتاب المقدس ـ باعتباره أصل الإيمان المسيحي ومصدره ـ خال من الأخطاء والزلل وفيه كل ما يختص بالإيمان والحياة الروحية ، وأنه كلمة الله وقاعدة الإيمان والحياة العملية لجميع البشر (١).

وينقسم الكتاب المقدس إلى عهدين :

١ ـ العهد القديم.

٢ ـ العهد الجديد.

وسوف نبحث في كل من هذين العهدين بشكل مستقل ، ولأن المسيحيين يعتقدون أن العهد القديم كان تمهيدا للعهد الجديد وأن العهد الجديد هو المتمم له ، فهو أكثر أهمية من العهد القديم لذا سنتوسع فيه أكثر.

__________________

(١) مقدمة الكتاب المقدس.


العهد القديم

كتب أكثر العهد القديم باللغة العبرانية ، وقد وجدت بعض الفصول بالأرامية وهي لغة شبيهة بالعبرانية ، والعهد القديم الموجود بين أيدينا مأخوذ عن النسخة الماسورية التي أعدتها جماعة من علماء اليهودية في طبرية من القرن السادس إلى الثاني عشر للميلاد (١).

ويتألف العهد القديم من (٣٩) سفرا أو ( ٤٣ ـ ٤٤ ) سفرا حسب الكنيسة وذلك بإضافة أسفار أو أجزاء أسفار وصفت بالقانونية ـ اللاحقة ... وقد قسم اليهود أسفار العهد القديم إلى ثلاثة أقسام وهي :

١ ـ التوراة أو الناموس.

٢ ـ الأنبياء ، وهم الأولون والمتأخرون

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ص ٧٦٣.


٣ ـ الكتب. وذلك في اجتماع لمعلمي الشريعة من مختلف البلدان في فلسطين سنة ٩٠ ( ب. م ) (١).

وأما ترتيبها فهي كالآتي :

أ ـ التوراة أو الناموس : وهي أسفار موسى ( عليه السلام ) الخمسة وهي :

١ ـ تك : لسفر التكوين : وهو الأول من التوراة ويسمى أيضا بسفر ( الخليقة ) بمقتضى تسمية الترجمة السبعينية ، ويسمى في العبرانية ( جر نشيت ).

٢ ـ خر : لسفر الخروج ، وهو الثاني بتسمية السبعينية ، وفي العبرانية يسمى ( واله شموت ).

٣ ـ لا : لسفر اللاويين ، وهو الثلث بتسمية السبعينية ، وفي العبرانية يسمى ( ويقرا ).

٤ ـ عد : لسفر العدد وهو الرابع بتسمية السبعينية ، وفي العبرانية يسمى ( ويدبر )

٥ ـ تث : لسفر التثنية وهو الخامس بستمية السبعينية ، وفي العبرانية يسمى ( اله ) ويسمى أيضا دباريم.

وأما بقية الأسفار فهي :

__________________

(١) مقدمة الكتاب المقدس.


٦ ـ يش : لسفر يشوع النبي.

٧ ـ قض : لسفر القضاة.

٨ ـ ( را ) لكتاب راعوث

٩ ـ ١ ، اصم : لسفر صموئيل الأول.

١٠ ـ ٢ ، اصم : لسفر صموئيل الثاني.

١١ ـ ١ ، امل : لتاريخ الملوك الأول.

١٢ ـ ٢ ، مل : لتاريخ الملوك الثاني.

١٣ ـ ( ١ أي ) لتاريخ الأيام الأولى.

١٤ ـ ( ٢ أي ) لتاريخ الأيام الثاني.

١٥ ـ ( عز ) لكتاب عزرا.

١٦ ـ ( نح ) لكتاب نحيا.

١٧ ـ ( اس ) لكتاب لكتاب أستير.

١٨ ـ ( أي ) لكتاب أيوب.

١٩ ـ ( مز ) لمزامير داود أي الزبور.

٢٠ ـ ( أم ) لأمثال سليمان.

٢١ ـ ( جا ) لكتاب الجامعة المنسوب لسليمان.

٢٢ ـ ( نش ) لنشيد الأنشاد.


٢٣ ـ ( اش ) لكتاب أشعيا.

٢٤ ـ ( ار ) لكتاب أرميا.

٢٥ ـ ( حرا ) لمرائي أرميا.

٢٦ ـ ( حز ) لكتاب حزقيال.

٢٧ ـ ( دا ) لكتاب دانيال.

٢٨ ـ ( هو ) لكتاب هو شع.

٢٩ ـ ( يؤ ) لكتاب يوئيل.

٣٠ ـ ( عا ) لكتاب عاموس.

٣١ ـ ( عو ) لكتاب عوبديا.

٣٢ ـ ( يون ) لكتاب يونان أي يونس بن متي.

٣٣ ـ ( مي ) لكتاب ميخا.

٣٤ ـ ( نا ) لكتاب ناحوم.

٣٥ ـ ( حب ) لكتاب حبقوق.

٣٦ ـ ( صف ) لكتاب صنفينا.

٣٧ ـ ( حج ) لكتاب حجي.

٣٨ ( زك ) لكتاب زكريا.

٣٩ ـ ( مل ) لكتاب ملاخي.


ولهذه الكتب في النسخ العبرانية ترتيب آخر من حيث التقديم والتأخير (١).

وأما الأسفار ( القانونية ـ اللاحقة ) فهي :

١ ـ سفر طوبيا.

٢ ـ سفر يهوديت.

٣ ـ سفر نبوءة باروك.

٤ ـ سفر المكابين (٢).

والكنيسة تعتبر أسفار العهد القديم أسفارا قد دونت بالهام روح القدس ، وعلى هذا فهي تقبله في عداد الكتب المقدسة ، مع أن هناك اختلافا بين العهد القديم عند اليهود والذي قبلته الكنيسة ، ويعود هذا الاختلاف ، إلى اختلاف اللاهوتيين اليهود أنفسهم ، فالبعض يصرحون في الواقع أن الروح ( أي روح الله الذي يوحي ) لم ينزل على أحد منذ غياب الأنبياء المتأخرين مثل : حجي وزكريا وملاخي ، وبعض الفئات الأخرى من اليهود ( الأسانيين قي قمران ، واليهود المتشتتين في المعمورة ) تمسكوا باستمرارية الوحي. والكنيسة تمسكت بدورها بهذه الاستمرارية مستندة في ذلك إلى شهادة المسيح ( عليه السلام )

__________________

(١) الهدى إلى دين المصطفى : ص ٧.

(٢) كتاب ( المسيح في الفكر الاسلامي الحديث وفي المسيحية ) ص ١١١.


والرسل.

وأيضا تتمسك بالترجمة ( السبعينية ) (١) وهي ( ترجمة يهود الاسكندرية للعهد القديم إلى اللغة اليونانية ويعتبرونها كتابهم الخاص ) لنفس السبب (٢).

واعتقاد أرباب الكنيسة بأن العهد القديم كتاب سماوي وموحى يستندون فيه إلى استشهاد المسيح ( عليه السلام ) والرسل بالعهد القديم فهم كانوا يعتبرونه كتابا ملهما ، روحيا ، إلهيا والاستشهاد به دليل على ذلك (٣).

ويتضح من هذه المقدمة أن أسفار العهد القديم قد ظهرت للوجود تدريجيا ولمدة حوالي خمسة عشر قرنا لتؤلف لنا العهد

__________________

(١) ( الترجمة السبعينية ) : ( التي بدأت سنة ٢٥٠ وانتهت حوالي ١٥٠ ق. م وقد بدأت هذه الترجمة بأمر بطليموس فيلادلفوس الذي حكم مصر عالم ٢٨٠ ق. م وقيل إن عدد هؤلاء المترجمين كان اثنين وسبعين ولهذا دعيت بالسبعينية.

وكان اليهود يزعمون أن الله أوحى للعلماء الذين قاموا بالترجمة السبعينية بكلمات هذه الترجمة ، ولكن عندما أخذ المسيحيون يستشهدون بآياتها ضد

العادات والتعاليم اليهودية التي كانت سائدة في عصرهم عاد اليهود إلى الأصل العبراني وأهملوا هذه الترجمة ). قاموس الكتاب المقدس : ٧٦٨.

(٢) المسيح في الفكر الاسلامي : ص ١١٠.

(٣) نفس المصدر.


القديم ، وأن المسيحيين يرون أن هذا العهد كله كان تمهيدا وبشارة بمجئ يسوع المسيح ( عليه السلام ) ويستشهدون بنبوءات كثيرة جاءت فيه وتحققت هذه النبوءات في المسيح ( عليه السلام ).

وفي الحقيقة فأني لست في صدد البحث في العهد القديم وتاريخه بشكل مفصل هنا ، وإن شاء الله سوف نقدم بحثا مستقلا عن الكتاب المقدس بعهديه نتطرق فيه إلى العهد القديم بشكل موسع ، ولكن لا بد هنا من الإشارة إلى بعض النقاط التي أوقفتني من خلال الدراسة فيه ومنها :

١ ـ أن هذه الأسفار ( المقدسة ) قد كتبت خلال فترة خمسة عشر قرنا تقريبا أو أكثر ومعظم النصوص الأصلية أو كلها مفقودة الآن ، إضافة إلى هذا فإن الكثير منها لا يعرف مؤلفوها فهي مجهولة ولا من هو ناسخها ومتى كتبت ، والنسخ المتوفرة مأخوذة عن نسخ أصلية كما يعتقد في أحسن الأحوال ، فهل يمكن القول بأن الناسخ لهذه الكتب الجديدة لم يخطئ ، ولا سيما عند القول بأن هذه الكتب مترجمة من اللغة العبرية إلى اللغات الأخرى؟!

وهل هذه الترجمة ـ كما كان يعتقد اليهود في الترجمة السبعينية ـ إنما تمت بوحي من الله تعالى أم لا؟

ولهذا أعتقد أن هذه الكتب والأسفار التي بين أيدينا الآن من العهد القديم لا يمكن الاعتماد عليها بشكل قاطع ويقيني ولا يمكن


الاطمئنان من أنها لم تتسرب إليها الأخطاء إذ ينقل في قاموس الكتاب المقدس ما نصه وكل ما وصل إلينا هو نسخ مأخوذة عن ذلك الأصل. ومع أن النساخ قد اعتنوا بهذه النسخ اعتناء عظيما فقد كان لا بد من تسرب بعض السهوات الإملائية الطفيفة جدا إليها (١).

فعلى أقل تقدير هناك شك في أن هذه النسخ الموجودة هي نفس النسخ الأصلية ، ولذا نرى الاختلافات القائمة بين علماء الكتاب المقدس حول هذه الأسفار.

٢ ـ نحن باعتبارنا مؤمنون بالله ورسالاته وعلى اختلاف المذاهب والأديان نعتقد بأن الأنبياء الإلهيين هم من أفضل البشرية ولهذا نستطيع القول بأنهم صالحون وعلى الأقل معصومون من الذنوب والخطايا التشريعية ، ولكننا للأسف نجد في هذه الأسفار ، وفي مواضع كثيرة نسبة هذه المعاصي والخطايا الكبيرة لهؤلاء الأنبياء العظام ، كشربهم للخمر والزنا بالمحارم وغير ذلك من الأمور التي يأبى كل مؤمن شريف التفكير بها فضلا عن مزاولتها ، وها أنا أذكر بعض الأمثلة على هذا ومن أراد التوسع فليطالع العهد القديم.

ينقل في العهد القديم أن النبي لوط ( عليه السلام ) قد شرب الخمر وسكر ومن ثم ارتكب خطيئة الزنا مع من حرم عليه الزواج منهن ( بناته ) ومن ثم حملن منه ( أنظر : سفر التكوين ( ١٩ ـ ١ ـ ٣٨ ) ،

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ص ٧٦٣.


وكذلك ينقل عن النبي سليمان ( عليه السلام ) الذي كان مملوءا بالحكمة ، أن السنوات الأخيرة من حكمه كانت مؤسفة ، فقد بدأ بتعدد الزوجات ، وأحب نساء كثيرات إضافة إلى بنت فرعون ( زوجته ) فكان له سبعمائة من الزوجات وثلاثمائة من السراري استطعن أن يميلن قلبه إلى الآلهة الغريبة حتى بنى أماكن لعبادة الأوثان أيضا ، إرضاء لهن فغضب الرب عليه أنظر ( ١ ملوك : ١١ : ١ ـ ٢٥ ).

وكذلك قصة نوح النبي ( عليه السلام ) إذ ينقل في العهد القديم أنه صنع مسكرا وشربه وسكر فكشف عورته أمام أولاده فغطوه. أنظر التكوين : ٩ : ١ ـ ٢٩ ) وقصة يعقوب ومصارعته مع الرب وغيرها من القصص الأخرى تجعلنا نعتقد أن هذه الأسفار قد دخلت فيها بعض التحريفات التي تدفعنا للاعتقاد بأن هذا العهد القديم الموجود بين أيدينا وعلى أقل تقدير ليس كله وحيا إلهيا.

إضافة إلى هذا ، هناك بعض القصص العجيبة التي يرفضها العقل مثلا ( فالأنبياء يتعرون ) ـ وفيما شاول ذاهب إلى هناك حل عليه روح الله فأخذ يتنبأ طول الطريق ونزع أيضا ثيابه وتنبأ أيضا أمام صموئيل وانطرح عريانا كل ذلك النهار وليله لذلك يقال شاول أيضا من الأنبياء ). ( أنظر : اصم : ١٩ : ٢٠ ـ ٢٤ ).

وأيضا أشعيا ( ٢٠ : ١ ـ ٦ ) فالنبي أشعيا ( مشى عاريا حافيا


لمدة ثلاث سنين ، كذلك يمشون سبايا مصر عراة حفاة مكشوفة مؤخراتهم وغيرها الكثير.

٣ ـ من المسائل التي يمكن ذكرها أيضا كثرة التناقضات الموجودة فيها ، ففي القصة الواحدة مثلا نرى أن بعض الأسفار تخالف الأسفار الأخرى بل ونجد في السفر الواحد بعض التناقضات ففي سفر التكوين ينقل عن قصة نوح والسفينة بأنه أمر أن يأخذ معه من كل ذي جسد اثنين ذكرا وأثنى. أنظر ( تك ٦ : ١٩ ـ ٢٠ ) وفي نفس السفر يأتيه الأمر أن تأخذ سبعة سبعة ذكرا وأنثى. أنظر ( تك ٧ : ٢ ـ ٣ ) وأمثال هذا كثير في أسفار العهد القديم ، وهو ما يقودنا إلى القول بأنه هذه الأسفار من وحي ونتاج الخيال البشري ويستحيل قبولها على أنها وحي إلهي.

وأكتفي بهذا المقدار من الحديث عن العهد القديم ، على أمل أن أوفق للبحث فيه بشكل مستقل وموسع إن شاء الله في المستقبل القريب.


العهد الجديد

أن كتاب العهد الجديد له مكانته الخاصة عند المسيحيين ، فهو يعتبر متمما ومصدقا لما جاء في العهد القديم ، وهو الأساس لكل العقائد المسيحية ولهذا فأني سأحاول التوسع فيه بعض الشئ.

ويعتقد بعض علماء الكتاب المقدس أن العهد الجديد قد كتب بلغة يونانية تسمى ( بالكوني ) وهي اللغة العامية ممزوجة ببعض الاصطلاحات العبرانية ، وأهم النسخ الكاملة من العهد الجديد هي النسخة السينائية والنسخة الفاتيكانية إذ يعتقد أنهما كتبتا في القرن الرابع الميلادي ، وكذلك النسخة الاسكندرانية المكتوبة في القرن الخامس الميلادي (١).

ويتألف العهد الجديد من (٢٧) سفرا وهي : الأناجيل الأربعة وأعمال الرسل وعدة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويهوذا ويوحنا

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ص ٧٦٣.


مع رؤية يوحنا ، وإليك نبذة تاريخية مختصرة عن كل واحد من هذه الأسفار.

( الأناجيل الأربعة )

١ ـ إنجيل متي :

وهو أول الأناجيل ويرجح أن يكون كاتبه هو الرسول متي أحد الاثني عشر رسولا ، وهو لاوي بن حلفي وكان عشارا يجمع الأموال للحكومة الرومانية. وقد أختلف القول بخصوص هذا الإنجيل في لغته وزمان تأليفه فذهب البعض إلى أنه كتب أولا بالعبرانية أو الآرامية ( التي كانت لغة فلسطين في تلك الأيام ) وترجم بعد ذلك إلى اليونانية ، وذهب آخرون إلى أنه كتب باليونانية كما هو الآن. وأما زمان تأليفه فقد أختلف فيه أيضا إذ يحتمل أنه كتب بين ٣٧ إلى ٦٣ ميلادي (١). ويسمى هذا الإنجيل مع إنجيلي مرقس ولوقا بالأناجيل المتوافقة أو الإزائية وذلك لأنها متشابهة إلى حد كبير.

و يتميز هذا الإنجيل عن الأناجيل الثلاثة الباقية بأنه يحكي حوادث وأمثالا لا توجد في الإنجيل الأخرى ، كما أنه الإنجيل

__________________

(١) نفس المصدر مادة متي ص ٨٣٣.


الوحيد الذي يشير إلى الكنيسة ويذكرها باسم ( الكنيسة ) على وجه التخصيص.

٢ ـ إنجيل مرقس :

ويعتقد بأن مؤلف هذا الإنجيل هو مرقس أحد تلامذة بطرس الرسول ، فهو ليس من تلاميذ السيد المسيح ( عليه السلام ).

وكان الاعتقاد السائد في أواخر القرن الأول الميلادي أن هذا الإنجيل قد كتب في روما ووجه إلى المسيحيين الرومانيين.

فقد كتب بابيوس مستندا إلى ما استقاه من يوحنا الرسول :

هذا أيضا ما قاله الشيخ أن مرقس وقد كان مفسرا لبطرس ومترجما لآرائه ، سجل جميع الأشياء التي تذكرها من أقوال المسيح ( عليه السلام ) وأعماله وذلك لم يسمع الرب ( يسوع ) ولا كان من أتباعه ولكنه أتبع بطرس فيما بعد (١).

وأما تاريخ هذا الإنجيل فهو يتراوح بين سنة ٦٤ م وسنة ٧٠ م.

وفي هذا الصدد يقول الأب ( إيرينيوس ) أحد آباء الكنيسة الأولين أن مرقس كتب البشارة التي تحمل اسمه قائلا بعد أن نادى بطرس وبولس بالإنجيل في روما وبعد انتقالهما سلم لنا مرقس كتابة

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس مادة مرقس : ص ٨٥٤.


مضمون ما نادى به بطرس وعلى هذا يحتمل كتابة هذا الإنجيل بين عام ٦٥ م و ٦٨ م (١).

ومرقس هذا كما زعم البعض فهو الشاب الذي تبع يسوع لما أخذه اليهود في بستان الزيتون وأقاموا الدليل على ذلك أن مرقس انفرد برواية ما جرى لذلك الشاب وكأنه يريد أن يشير إلى نفسه فيقول :

وتبعه شاب ليس عليه غير إزار فأمسكوه. فتخلى عن الإزار وهرب عريانا ( إنجيل مرقس ١٤ : ٥١ ـ ٥٢ ). وكان مرقس نسيب الرسول برنابا ، أحد وجهاء كنيسة أورشليم القدس وكبار المبشرين بالإنجيل وكان ابن امرأة اسمها مريم ساكنة في أورشليم والظاهر أنه اهتدى إلى الإيمان المسيحي بواسطة خدمة بطرس الذي كان يتردد على بيت أمه ، وصاحب بولس وبرنابا في أورشليم إلى أنطاكية ، ولكنه فارقهما لأسباب لم تعرف (٢). ويعتبر إنجيل مرقس أقصر الأناجيل الأربعة.

٣ ـ إنجيل لوقا :

حسب الاعتقاد السائد في القرن الثاني للميلاد فإن كاتب هذا

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) تفسير العهد الجديد : ص ٨٨.


الإنجيل هو لوقا وهو رفيق وصديق بولس ، ويحتمل أيضا أنه كاتب سفر أعمال الرسل ، ولهذا فما هو معروف عنه مأخوذ من سفر الأعمال حيث يذكر أنه كان مع بولس في قسم من أسفاره. ولد لوقا من أبوين يونانيين في أنطاكية ـ سورية ـ وكان يمارس الطب وزعم البعض أنه كان رساما ، وتتلمذ لبولس وكان غالبا في صحبته إلى أن استشهد بولس فتركه ، إلا أنه لا يعرف أين قضى بقية عمره ولا أين مات غير أن الكنيسة تكرمه تكريم الشهداء (١).

وكتب هذا الإنجيل باللغة اليونانية ، وأما تاريخ كتابة هذا الإنجيل فيعتقد أن أعمال الرسل قد كتب بعد كتابة الإنجيل بوقت قصير ، ويرجح أن سفر أعمال الرسل كتب سنة ٦٢ أو ٦٣ ميلادية ولهذا يحتمل علماء الكتاب المقدس أنه مكتوب في سنة ٦٠ ميلادية تقريبا. كما قد ورد في هذا الإنجيل بعض الحوادث التي لم تذكر في غيره من الأناجيل. ويظهر من مقدمة إنجيله أنه لم يكن معاينا للحوادث التي كتبها بل ألف إنجيله من شهادة الذين عرفوا المسيح.

ومما يخص به هو نقل الحوادث التي جرت قبل ولادة المسيح ( عليه السلام ). وبعدها والظاهر أنه أخذها عن كتابة ربما نقلت عن أم الرب ( مريم ) لأنه لم يعرف أحد غيرها كثيرا مما ذكر بهذا الشأن (٢).

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ص ١٢٧.

(٢) تفسير العهد الجديد : ص ٣٠.


٤ ـ إنجيل حسب يوحنا :

وهو الإنجيل الرابع والذي يختلف كثيرا عن الأناجيل الثلاثة ، إذ يعتقد أن ٩٠ % من هذا الإنجيل غير موجود في الأناجيل الثلاثة ، وهو من أكثر الأناجيل التي دارت حولها الشكوك بين علماء الكتاب المقدس ، فذهب البعض إلى أن كاتبه هو يوحنا ابن زبدي الرسول وأحد التلاميذ المقربين جدا ليسوع المسيح ( عليه السلام ) ، ويذكر المؤرخون أن يوحنا الرسول كان تلميذا ليوحنا المعمدان ( يحيى ) ( عليه السلام ) ومن ثم دعاه عيسى ( عليه السلام ) فاتبعه وأخيه يعقوب ، فأصبح هو ويعقوب وبطرس من التلامذة المقربين ليسوع ( عليه السلام ).

وينقل أيضا أن كاتب هذا الإنجيل هو يوحنا الشيخ ويعتقد أنه ( يوحنا الشيخ ) هو نفسه يوحنا الرسول. وقد ذكر أن الهدف من كتابة هذا الإنجيل هو تثبيت الكنيسة الأولى في الإيمان بحقيقة لاهوت المسيح ( عليه السلام ) وناسوته ودحض البدع المضلة التي كان فسادها آنذاك قد تسرب إلى الكنيسة ، كبدع الدوكنيين ، والغنوسيين وغيرها (١).

ويوحنا هذا مع أنه هرب مع بقية التلاميذ لما أمسك بالمسيح

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ص ١١١٠.


( عليه السلام ) ولكنه كما ينقل يوحنا في إنجيله ( ١٩ ـ ٢٦ ) أودعه المسيح ( عليه السلام ) العناية بأمه العذراء مريم ( عليها السلام ).

ويشكك بعض علماء العهد الجديد في صحة نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا ، إذ ينقل ( برطشنيدر ) إن هذا الإنجيل كله وكذا رسائل يوحنا ليست من تصنيفه ، بل إنما صنفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني ونسبه إلى يوحنا ليعتبره الناس. ورجح البعض الآخر أن هذا الإنجيل هو من تأليف طالب من طلبة الاسكندرية. وأما زمن كتابة هذا الإنجيل فيحتمل أنه كتب بين سنة ٩٦ ـ ١٠٠ ميلادية.

وإذا عرف زمان شهادة يوحنا الرسول لأمكن معرفة صحة انتساب هذا الإنجيل إليه أو لا ، ولكن في زمن شهادته اختلاف أيضا ، إذ يقول البعض أنه استشهد سنة ١٠٠ ميلادية ، بينما يعتقد آخرون أنه كان سنة ٧٠ ميلادية.

وأما مضمون هذا الإنجيل فإنه يختلف تماما عن بقية الأناجيل كما ذكرنا ، إذ أنه يجسد بوضوح الناحية الإلهية من حياة يسوع المسيح ( عليه السلام ). والمسيحيون يعتمدون على هذا الإنجيل في إثبات ألوهية المسيح ( عليه السلام ) أكثر من بقية الأناجيل ، إضافة إلى ذلك فإنه ينقل للمسيح ( عليه السلام ) بعض المعاجز التي لم تذكر في أي من الأناجيل السابقة.


سفر أعمال الرسل

هذا هو عنوان السفر الخامس من أسفار العهد الجديد. وترجع هذه التسمية إلى القرن الثاني الميلادي ، وفي الحقيقة فإن هذا الاسم لا يدل على أن السفر يذكر كل أعمال الرسل ، بل القصد من السفر هو إظهار كيفية تأسيس الكنيسة المسيحية ، وانتشار المسيحية بين اليهود.

وابرز شخصية في القسم الأول من السفر هي شخصية بطرس الرسول رئيس الكنيسة ، وأما الشخصية البارزة في القسم الثاني من السفر فهي شخصية بولس.

إضافة إلى ذلك فإن السفر يذكر شخصيات وأعمال غيرهما من الرسل في مناسبات عدة.

والسفر معنون باسم رجل يدعى ثاوفيليس ، وهو نفسه الذي كان قد أهداه الإنجيل. ويعتقد أن مؤلف هذا السفر هو نفسه لوقا الإنجيلي ، وقد كتب بين سنة ٦٤ ـ ٧٠ ميلادية ، باللغة اليونانية التي كتب بها إنجيل لوقا.

الرسائل :

وتتألف الرسائل من قسمين رئيسين ، أولهما رسائل بولس وثانيهما الرسائل العامة.


رسائل بولس : نرى من الضروري قبل كل شئ التعريف بشخصية بولس فنذكر نبذة مختصرة عن حياته :

أن المعلومات المتوفرة عن شخصية بولس موزعة بين سفر أعمال الرسل ورسائله.

ولد بولس في طرسوس من قيلقيية في السنة العاشرة للميلاد تقريبا ، وكان أبوه يهوديا من سبط بنيامين ، وكسائر صبيان اليهود تعلم حرفة صنع الخيام للاكتساب منها ، وبدأ تحصيله في طرسوس التي كانت مركزا علميا إذ كانت مركزا للفلسفة الرواقية التي ظهر تأثيرها في كثير من تعبيرات بولس عن المبادئ المسيحية.

وسافر بولس إلى أورشليم ـ القدس وعمره ٢٠ أو ٢٢ سنة حينما شرع المسيح برسالته (١).

وبولس له اسمان الأول عبري وهو شاؤل ومعناه ( المطلوب ) وهو المذكور في أعمال الرسل حتى الفصل الثالث عشر. والآخر بولس ومعناه ( الصغير ) وهو المذكور في بقية فصول سفر أعمال الرسل وفي كل الرسائل.

وحضر في أورشليم عند أحد أكابر علماء الشريعة اليهودية واسمه ( جملاييل ) : وكانت له ثقافة يونانية ـ رومانية إضافة إلى ثقافته

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ص ١٩٦.


اليهودية ، وكان يعرف اللغة الآرامية والعبرية واليونانية (١). وكان حارا حاذقا شديد الانفعال ، وكان من طبعه أنه لا ينقاد إلى الاتفاق مع الذين يخالفونه ، على أن الله قهر عنفه الطبيعي وحدة خلقه (٢).

والنقطة المهمة والمتيقن منها في حياة بولس هي أنه تبوأ مكانة عند علماء اليهود ، وعند ظهور الدعوة المسيحية شن حربا شعواء ضد المسيحيين ، فقد كان يضطهدهم كثيرا ، وكان من الذين ساقوا التهم إلى أول شهيد في المسيحية ( إستفانوس )! فكان شخصا متعصبا لليهودية ، وكان له النصيب الأوفر في ملاحقة أتباع المسيح ( عليه السلام ) وقطع دابرهم ، ولم يكتف بملاحقتهم في أورشليم بل لا حقهم خارجها أيضا.

فالتمس من عظيم الأحبار في أورشليم رسائل إلى مجامع دمشق حتى يسوق إلى أورشليم كل من كان على هذه الملة ، وفي طريقة إلى دمشق وحسب سفر أعمال الرسل : تراءى له يسوع المسيح ( عليه السلام ) وقاله له شاول ، وشاول لماذا تضطهدني فانقلب حاله ثم دخل دمشق وبعد ثلاثة أيام جاءه حننيا وعمده ، فتحول بولس من مضطهد إلى مناصر للمسيحية ، وبعدها أختاره المسيح ( عليه السلام ) ليبشر بالعقيدة المسيحية إلى الوثنيين.

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ص ١٣٩.

(٢) تفسير العهد الجديد ص ٣٧٥.


فبدأ تبشيره إلى جميع الأمم في آسيا وأوربا فذهب إلى بلاد العرب وفلسطين وسوريا ولبنان وتركيا ويونان وقبرص ورومية وربما أيضا إسبانيا ، وكانت خاتمة حياته أنه استشهد في روما سنة ٦٧ م (١).

وفي الحقيقة نستطيع القول أن بولس هذا صار الرجل الأول في المسيحية بعد يسوع ( عليه السلام ) إذ أنه ارتفع صيته وشهرته حتى على الرسل الاثني عشر ، وترجع أغلب عقائد المسيحية إليه وسنشير إلى ذلك لاحقا أن شاء الله تعالى.

ولم يكتب بولس أكثر هذه الرسائل بل أملاها على غيره وكثيرا ما كان يخرج عن موضوعه لسبب عروض كلمة أو أمر تذكره أو كان يخشاه (٢).

وأما رسائله فهي :

١ ـ رسالته إلى أهل رومية : كتبها إلى المسيحيين القاطنين في رومية ، ويحتمل أنها كتبت شتاء سنة ٥٨ م.

٢ ـ رسالته إلى أهل تسالونيكي الأولى : ويحتمل أنها كتبت

________________________

(١) لاحظ سفر أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٢) تفسير العهد الجديد : ص ٣٧٤.


بين سنة ٥٢ ـ ٥٣ ميلادية وكتبها في كورنثوس.

٣ ـ رسالته إلى أهل تسالونيكي الثانية : وهي كتبت بعد الرسالة الأولى بفترة قصيرة.

٤ ـ رسالته إلى أهل غلاطية : وكتبت في أفسس سنة ٥٤ ـ ٥٧ ميلادية.

٥ ـ رسالته إلى أهل كورنثوس الأولى : يرجح أنها كتبت في سنة ٥٧ ـ ٥٨ ميلادية. في أفسس ومكدونية.

٦ ـ رسالته إلى أهل كورنثوس الثانية : وكتبت بعد الأولى بفترة قليلة.

٧ ـ رسالته إلى أهل كولوسي وأفسس وفيلبي وفليمون :

وكتبت سنة ٦١ ـ ٦٣ م في رومية.

٨ ـ رسالته إلى أهل فيلبي : وكتبت سنة ٦٣ م أو بعد ذلك بقليل.

٩ ـ رسالته إلى أهل كولوسي : وكتبت على ما يظن سنة ٦٣ م.

١٠ ـ رسالته إلى أهل فليمون : كتبت بين ٦٣ م ـ ٦٤ م.

١١ ـ رسالته إلى تيطس : وهو رفيقه وكتبت سنة ٦٤ م ـ ٦٧ م.


١٢ ـ رسالته إلى تيموثاوس الأولى : كتبت بين سنة ٦٤ ـ ٦٦ ميلادية من مقدونية.

١٣ ـ رسالته إلى تيموثاوس الثانية : وكتبت سنة ٦٧ ميلادية ـ من رومية.

هذه هي باختصار الرسائل المنسوبة إلى بولس ، وحسب تاريخ كتابتها فهي مكتوبة على وجه التقريب قبل الأناجيل الأربعة ، باللغة اليونانية الدارجة في عصره ، ولقد أصبحت هذه الرسائل من أهم مراجع الديانة المسيحية لمعرفة عقيدتها ، وهذا ما جعل كثيرا من الآباء القديسين والعلماء قديما وحديثا يكتبون عنها ويعلقون عليها.

وإضافة إلى هذا فإن هناك العديد من الرسائل الأخرى لبولس ولكنها فقدت ولم تصل إلينا (١).

الرسالة إلى العبرانيين :

وهذا السفر يعتبر غامضا من جهة تأليفه ، إذ لا يوجد بين علماء الكتاب المقدس إجماع أو اتفاق على حقيقة كاتب الرسالة ، ومنذ عهد آباء الكنيسة الأولى والجدال يدور حول اسم الكاتب لهذا السفر ، فقد اعتبرتها الكنيسة الشرقية من وضع بولس ، مع أن فيها مادة وأسلوبا يختلف عن باقي كتابات بولس.

وفي العصر الحاضر أجمع العلماء على أنها ليست من تأليف بولس.

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ص ١٤٠.


واعتقد ( كليمنت الاسكندري ) أن لوقا ترجمها عن النسخة الأصلية التي كتبها بولس بالعبرانية ، أما الكنيسة الغربية فقد شككت في أنها من وضع بولس ، وقال طرطوليان أنها من وضع القديس برنابا ، وذكر ( أوريجينس ) المصري ( القرن الثالث ) أن كاتبها هو ( أبلس ) الذي جاء أسمه في سفر أعمال الرسل ( ١٨ ـ ٢٤ ) ـ.

وبالرغم من كل هذا بقي الاختلاف في مؤلف هذا السفر إلى يومنا هذا ، ولكن الكنيسة اعترفت بها وأدرجتها ضمن الأسفار الملهمة (١). وكذلك تاريخ كتابتها فهو الآخر مجهول ويعتقد أنها كتبت في إيطاليا لأنه قد ذكر ذلك في السفر نفسه إذ ورد فيه : يسلم عليكم الذين في إيطاليا ( ١٣ ـ ٢٤ ).

رسالة يعقوب : وهي منسوبة للقديس يعقوب الذي لعب دورا كبيرا في كنيسة أورشليم إذ أصبح أول أساقفتها بعد رحيل بطرس إلى أنطاكية ، ويحتمل أنها كتبت بين ٥٠ ـ ٦٠ ميلادية ، وهي تحتوي على حكم ونصائح وتعليمات للسلوك المسيحي ، وهي لا تشبه الرسائل في العهد الجديد بل هي أشبه بنسق الأنبياء في العهد القديم.

وليس في الرسالة إشارة إلى آلام يسوع وقيامته ، ولم تبدأ بتحيات وتنته ببركات رسولية كبقية الرسائل. وقد أعترض على هذا

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس ص ٩٨.


السفر لوثر إذ يقول أنها تناقض تعليم بولس عن التبرير بالإيمان والمحبة للمخلص يسوع ( عليه السلام ) (١). فإن يعقوب يؤكد على الإيمان والعمل معا أنظر ( ٢ : ١٤ ) ما المنفعة يا أخوتي أن قال أحد أن له إيمانا ولكن ليس له أعمال هل يقدر الإيمان أن يخلصه ، أن الإيمان بدون أعمال ميت.

رسالتا بطرس : أن كاتب هاتين الرسالتين هو بطرس الرسول ويتضح ذلك من مقدمتهما.

وكان هذا الرسول يسمى سمعان وأبوه يونا ( مت ١٦ ـ ١٧ ) وقد سماه المسيح ( عليه السلام ) بعد متابعته إياه بطرس أي ( صخر ) وكما أختاره رئيسا للكنيسة. وكانت مهنته صيد السمك وكان مقيما في كفر ناحوم ، ويرجح أنه كان أحد تلاميذ يوحنا المعمدان ( يحيى ) ( عليه السلام ) وقد جاء به إلى المسيح ( عليه السلام ) أخوه أندراوس الذي كان من المقربين ليوحنا المعمدان.

وصار بطرس بسبب حماسته ونشاطه وغيرته الأول من بين التلاميذ الاثني عشر منذ البداية ، حيث كان اسمه يذكر دائما في المقدمة عند ذكر أسماء الرسل. وكما أوصى المسيح ( عليه السلام ) فقد قاد بطرس بعد رفع المسيح ( عليه السلام ) التلاميذ والمؤمنين إلى سد الفراغ في عدد الرسل بانتخاب بديل ليهوذا ( ١ ع : ١ ـ ١٥ ) ،

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ص ١٠٧٧.


ولكنه بعد فترة بدأ يختفي متخذا له مكانا متواضعا بعد أن ترك أورشليم وراح يواصل رحلاته التبليغية مع زوجته من مكان لآخر.

وللأسف فإن الكتاب المقدس لا يخبرنا عن أتعاب وأقوال هذا الرسول إلا قليلا في أعمال الرسل وهذين السفرين المنسوبين إليه ، وأما بخصوص خاتمة حياته فلا تعرف بالضبط ويقال أنه سجن وصلب غير أنه لا يستطيع أحد تأكيد أين ومتى كان ذلك ، ويرجح أنه ذهب إلى رومية واستشهد فيها سنة ٦٤ أو ٦٧ ميلادية (١) ، وأما الرسالتان فهما :

الرسالة الأولى : وقد كتبت على الأرجح في رومية بين عامي ٦٣ ـ ٦٧ م تقريبا ، وتتضمن هذه الرسالة بعض المسائل الأخلاقية والسلوكية وتثبيت الإيمان.

الرسالة الثانية : أما الرسالة الثانية فيقول كاتبها عن نفسه أنه سمعان بطرس عبد يسوع المسيح ورسوله ( ١ : ١ ).

إلا أن العلماء غير متفقين من جهة كاتبها ومن جهة تاريخ كتابتها فيقولون أن أسلوب الرسالة ليس بالأسلوب البسيط وهي تخالف الرسالة الأولى ، وقد بدأ النقاد منذ عصر ( جيروم ) يأخذون اختلاف الأسلوب دليلا على اختلاف الكاتب أضافة إلى أن الكنيسة الأولى لم تكن متثبتة ومتحققة بشأن كاتب هذه الرسالة ، ولم تدخل

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ص ١٧٧.


الرسالة ضمن مجموع أسفار العهد الجديد في الكنيسة السريانية إلا في القرن السادس الميلادي ، والرسالة تتضمن بعض الارشادات أيضا.

( رسائل يوحنا الرسول ) :

وهي ثلاث : وتدعى هذه الرسائل مع رسالة يعقوب ورسالتي بطرس ورسالة يهوذا بالرسائل العامة ( الجامعة ) لأنها لم توجه إلى جماعة مفردة من المسيحيين ، بل إلى الكنيسة المسيحية جمعاء مع أن رسالتي يوحنا الثانية والثالثة موجهتان إلى أفراد ولكنهما اعتبرتا من الرسائل الجامعة أيضا لارتباطهما بالرسالة الأولى.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الكاتب لم يذكر أسمه في هذه الرسائل سوى في الثانية والثالثة إذ يسمي نفسه ( الشيخ ) مما حمل البعض على الاعتقاد بأنه ( يوحنا الشيخ ) الذي عاش في أفسس حوالي نهاية القرن الأول ، وكما ذكرنا فإن يوحنا الشيخ ـ كما يعتقد البعض ـ هو يوحنا الرسول ولهذا نسبت هذه الرسائل إليه. والرسائل هي :

الرسالة الأولى : وهي أطول الثلاث ، وهي خالية من التحية والبركة التي تفتتح وتختم بها الرسائل ، وفيها تشابه بينها وبين الإنجيل


الرابع إلا أن فيها تباينا أساسيا عنه ، ولذا اختلف في نسبتها إلى يوحنا الرسول.

ويعتقد أنها كتبت بين سنة ٩٠ ـ ١٠٠ ميلادية ، والرسالة مقالة أو عظة أكثر منها رسالة ، ويبدو أنها كتبت دحضا لبعض الآراء الخاطئة التي روجها بعض الكذبة داخل الكنيسة.

الرسالة الثانية : وهي الرسالة التي بعثها الشيخ إلى السيدة المختارة وأولادها ، واختلف في تفسير هذه السيدة فالبعض ذهب إلى أن كاتبها يقصد بها كنيسة من الكنائس واتباعها ، والبعض الآخر قال أنه كتبها إلى سيدة تدعى ( كيرية ) أي السيدة المختارة ، وهذه الرسالة قصيرة إذ تحتوي على أقل من ثلاثمائة كلمة باللغة الأصلية اليونانية ويعتقد أنها والرسالة الثالثة كتبتا بين سنة ٩٦ و ١١٠ ميلادية (١).

الرسالة الثالثة : يعتقد أن كاتب هذه الرسالة أرسلها إلى ( غاليس الكورنتي ) المذكور في الرسالة الأولى لبولس إلى كورنثوس ، والظاهر أنه كان عضوا غنيا في كنيسة كورنثوس ، ويحتمل أن المراد غيره ، وتتضمن الرسالة مدحا لغايس على تقواه ومعروفه للغرباء ويعده بقرب زيارته له.

رسالة يهوذا : ويهوذا هذا ليس يهوذا الإسخريوطي الخائن. بل هو يهوذا أخو يعقوب ، فقد ذكر كاتبها أنه أخو يعقوب صاحب المقام

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ص ١١١٢.


السامي في كنيسة أورشليم ، ولا يعرف عنه إلا الشئ اليسير.

ولا يدعي الكاتب أنه من الرسل ، ويقال أنه كتبها بعد استشهاد أخيه يعقوب أي في العقد السابع من القرن الأول والمقصود منها تحذير المؤمنين من المعلمين المضلين الذين ظهروا في الكنيسة الأولى.

( رؤية يوحنا ) :

وهي السفر الأخير من العهد الجديد ، وبعد نقاش وجدال طويلين ، انتهى الأمر بالتفكير في الشرق والغرب إلى الاعتراف بأنه سفر كتب بالهام الروح القدس واعتبر جزءا من العهد الجديد.

وقد كتب السفر في جزيرة بطمس إحدى جزر بحر اليونان في سنة ٩٥ م تقريبا ، والسفر بعد المقدمة والتحية ينقسم إلى سبعة أقسام رئيسية تعقبها الخاتمة ، وكل قسم من هذه الأقسام يشمل رؤيا مستقلة أو سلسلة رؤى ، والرؤية ملأى بالرموز وهي مكتوبة إلى الكنائس السبع التي في آسيا (١).

هذه هي الأسفار التي يشتمل عليها العهد الجديد ، ويظهر أنها كتبت خلال نصف قرن تقريبا ما بين سنة ٥٥ ـ ١١٠ ميلادية ، فهي لم

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ص ١٤٦.


تر النور دفعة واحدة ، ومما يلفت النظر فإن المسيحيين يعتقدون أن المسيح ( عليه السلام ) لم يكتب شيئا ولم يأمر أحدا من تلاميذه بتدوين أقواله وأعماله ، ولكن قد طلب منهم أن يشهدوا ويبشروا بما رأوا وسمعوا فكانت نقطة الانطلاق للرسل هي البشارة والشهادة للمسيح ( عليه السلام ).

ومن هنا بدأ التقليد المسيحي وهو التذكير المشترك بهذه الحوادث من جيل إلى جيل. ( ولهذا فالتقليد الشفوي يعتبر الينبوع الذي نهل منه الرسل وتلاميذ الرسل ليدونوا أسفار العهد الجديد. على أن هذا التدوين للتقليد الشفوي لم يتم بإرادة الرسل أيضا فمرقس مثلا حسب أوزابيوس قد دفعه إلى التدوين المستمعون لبطرس الرسول الذي وجد نفسه أمام الأمر الواقع ، فبطرس حسب اكليمنضوس لم يتدخل لا راضيا ولا رافضا (١) ).

وأما الشروع في كتابة الأناجيل رغم عدم طلب يسوع المسيح ( عليه السلام ) من التلاميذ ذلك فيعزونه إلى أسباب عديدة منها ، ( رغبة المسيحيين بالحصول على معلومات أكثر عن حياة وتعاليم المسيح ( عليه السلام ) يحتفظون بها ، وكذلك تقدم السن بالرسل الأولين وشدة الاضطهادات التي كانت تحيط بهم ، إضافة إلى ظهور الأفكار العقائدية الباطلة تحت تأثير الوثنية واليهودية والتي انتشرت

__________________

(١) نفس المصدر : ص ١١٥.


بسرعة مسببة القلق والشك في صفوف المؤمنين الجدد ، وغيرها من الأمور ، كل ذلك دفع بالمسيحيين الأولين إلى تدوين تعاليمهم حتى لا تنسى ) (١).

والمسألة المهمة في هذا الموضوع هي أن الكنيسة تعتقد أن الأناجيل كتبت بالوحي والإلهام الإلهي ، فنرى في مقدمة الإنجيل مكتوبا : كتب العهد الجديد بوحي من الروح القدس في مدة لا تتعدى المائة من السنين ، ولقد حفظ الله الإنجيل في هذه النصوص على مر السنين رغم الاضطهادات والأخطار ) (٢).

ومما يجدر الإشارة إليه أن الكنيسة الأولى لم تكن تعرف هذه الكتب على أساس أنها مكتوبة بالإلهام والوحي ، بل إنما اعتبرت كذلك بعد كتابة هذه الكتب بعدة قرون ، ففي القرون الأولى للميلاد وحتى القرن الرابع الميلادي لم يكن أحد يتكلم عن الالهام في هذه الكتب ، بل حتى الكنيسة لم تكن تقبل سوى العهد القديم كتابا مقدسا ، إلا أن تعدد الكتب في القرن الأول والثاني للميلاد والتي تجاوزت المائة ، وظهور العقائد المختلفة في الكنيسة ، دفعت الكنيسة إلى تشكيل المجامع المحلية والتي تعددت كثيرا ( كمجمع نيقية ٣٢٥ ، مجمع هيبون في ٣٩٣ ، وقرطجنة ٣٩٧ و ٤١٨ ) ومن خلال هذه المجامع أعطيت اللوائح الرسمية للعهد الجديد وتم اختيار ( ٢٧ سفرا )

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ص ١١٣.

(٢) مقدمة العهد الجديد.


على أنها مكتوبة بالوحي والإلهام الإلهي.

ولذلك يؤكّد علماء الكتاب المقدّس على هذه الحقيقة إذ يقولون : « ليس لدينا أي معرفة محدّدة بالنسبة للكيفية التي تشكّلت بموجبها قانونية الأناجيل الأربعة ، ولا بالمكان الذي تقرّر فيه ذلك ». (١)

وأما الكتب الأخرى فقد ألغيت ولم تقبلها الكنيسة ، وأول من اعتبر هذه الأسفار (٢٧) هو مجمع نيقية السكوني سنة (٣٢٥) م ثم جاء البابا جيلاسيوس الأول ( ٤٩٢ ـ ٤٩٦ ) ، إذ أعطى المرسوم الرسولي سنة ٤٩٥ ميلادي مقدما اللائحة التي نملكها اليوم للعهد الجديد (٢).

وقد جاء في سيرة القدّيس « امفيلوخيوس » ٣٧٤ م ، ولمعت شهرته في سيرته النسكية وفي سعة معارفة اللاهوتية ، أنه نظّم قصيدة في أسماء الكتب القانونية فيقول : يجب أن تعلم أن ليس كلّ كتاب دُعي كتاباً مقدساً يجب علينا قبوله واعتباره دليلاً أميناً صادقاً ، فبعض الكتب متوسط في الاعتبار على نسبة ما يحويه من الحقائق ، والبعض الآخر مزوّر ومضلّل للقرّاء بدرجات متفاوتة ، ولذلك فإنيّي مورد فيما يلي ما كتب بوحي إلهي : أسفار العهد القديم ...

________________________

(١) المسيح في مصادر العقائد المسيحية، ص ٣٤.

(٢) المسيح في الفكر الاسلامي : ص ١١٧.


أمّا في العهد الجديد فلا تقبل إلا الاناجيل الأربعة « متى ومرقس ولوقا ويوحنا » وأعمال الرسل أضف إليها رسائل الإناء المصطفى بولس الرسول وهي أربعة عشر رسالة ... عدا الرسالة التي قال البعض عنها خطأ : إنها مزورة ،وهي رسالته إلى العبرانيين ، تمّ رسائل الجامعة وقد قال البعض : إنها ثلاثة ، وآخرون : إنّها سبع رسائل ، امّا نحن فيجب أن نقبل رسالة يعقوب ورسالة بطرس ورسالة يوحنا وإن قال البعض : إنّ ليوحنا ثلاث رسائل والبطرس رسالتين عدا رسالة يهوذا ، وهي في حسابهم السابعة ، وأمّا كتاب الرؤيا ليوحنا فالبعض يقبلونه وعدد غفير يقول : غنّه مزوّر ، هذا هو القانون الأقرب إلى الحقيقة في الكتب المقدّسة الموحى بها من الله (١).

وأعتقد أن إلغاء كل تلك الكتب الأخرى أضاع تراثا عظيما كان يمكن الاعتماد عليه لفهم الحقائق عن المسيحية بصورة أفضل وأدق وأقرب للواقع. وأما سبب اختيار هذه الكتب دون غيرها ، فلأنها ( على حد قول المسيحيين ) ( تعطي بشكل أفضل ما كانت تؤمن به الكنيسة الأولى ، ولكن هذا لا يعني أن الكنيسة هي التي منحت صفة الالهام لهذه الأسفار ، بل أن محتوى الأسفار ذاته هو الذي دفع بالكنيسة لتمييزها عن الكتب الأخرى ) (٢).

__________________

(١) مجموعة الشرع الكنسي ، ص ٩٠٦.

(٢) المسيح في الفكر الاسلامي : ص ١١٧.


وأما كيفية الوحي والإلهام في كتابة هذه الأسفار فيعتقد المسيحيون أن الالهام الكتابي الذي يقصدونه هو غير الالهام النبوي ، فالإلهام الكتابي يدل على عمل الله ( فوق الطبيعي ) الذي يمارسه على مؤلفي الكتاب ليدفعهم إلى تدوين الحقائق التي أوحاها وأعطاها للبشر وذلك بمساعدته الدائمة والمباشرة.

فالكاتب يعبر عما يريد الله أن يطلع الناس عليه ولكنه ليس كقطعة الإسفنج في نقل الماء ، تحمله ولكن لا تفعل غير ذلك.

أن وحي الكتاب المقدس يختلف في مفهومه عن مفهوم الوحي في الإسلام ، إذ يعتقد المسلمون أن النبي لم يكن سوى ناقل لكلام الله ، ولا دخل له فيه ، وأما الوحي الكتابي عند المسيحيين ، فهو من عمل الله والانسان معا ، فالكاتب في هذا الالهام يحتفظ بشخصيته وعبقريته وأسلوبه في الكتابة ، وأما الإلهام النبوي فإن النبي لا يعدو كونه أداة طيعة يتكلم بأسم الرب لا غير ، ومن هنا فالإلهام الكتابي يختلف عن الالهام النبوي ، ولهذا نرى التمايز بين الأسفار المكتوبة بالإلهام تبعا لتغاير أسلوب كتابها (١).

وعلى ذلك فإن الكاتب الملهم من قبل الله يكون معصوما عن الخطأ فيما يكتبه ، لأن الله لا يخطأ ولا يخدع أحدا ، وأما دائرة العصمة ( والقول للمسيحيين ) فهي تشمل الحقائق الدينية والالهية

__________________

(١) معجم اللاهوت الكتابي : ص ١٥.


الموحاة من قبله ، وأما الحقائق الدنيوية التي ليست من حقل الحقائق الإلهية فيمكن للكاتب أن يخطأ فيها ، فالله سبحانه لا يبتغي أن يجعل منه رجلا كاملا في العلوم (١).

هذا باختصار نبذة عن العهد الجديد واعتقاد المسيحيين به ، فهو الأساس لكل العقائد المسيحية.

وقبل الإشارة إلى بعض النقاط والتساؤلات التي تدور حول هذه الأسفار ، وتتميما للفائدة نشير بإيجاز إلى بعض الكتب الأخرى التي رفضتها الكنيسة لتتضح لنا صورة ما عنها :

الكتب الأخرى

أو كما يسميها المسيحيون ( الكتب المنحولة ) وهي على ما يذكر المؤرخون قد وصلت إلى مائة كتاب خلال القرنين الأول والثاني للميلاد ، وأن مقدمة إنجيل لوقا تشير إلى ذلك حيث يقول : إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا ولكن للأسف فإن معظمها قد ضاع و أهمل ، وهنا نشير إلى بعضها.

١ ـ إنجيل يعقوب : ( ويعود إلى القرن الثاني للميلاد ، وهو يتحدث عن سيرة العذراء مريم ( عليها السلام ) منذ مولدها إلى ولادتها للمسيح ( عليها السلام ) وإقامتها في الهيكل. وهي تطابق إلى

________________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ص ١٠٥.


حد ما قصة مريم ( عليها السلام ) في القرآن الكريم إذ يذكر كيف أن والديها قدماها للهيكل للخدمة وكان الملاك يأتيها بالطعام وكفالة يوسف لها.

٢ ـ إنجيل متي : وهو الآخر يروي قصة العذراء ، ولادتها ونزول الطعام عليها من قبل الملاك ، ويروي ميلاد يسوع وهروبه إلى مصر وبعض معجزاته التي رافقته.

٣ ـ إنجيل الطفولية ( العربي ) : يعود إلى القرن الخامس ، وهو الآخر يروي المعجزات عند ولادة يسوع المسيح ( عليه السلام ) وكذلك خلال هروبه إلى مصر ، ونجد فيه معجزة ( تحويل الطير من طين إلى طير حي بنفخة منه ) (١).

وهناك أناجيل أخرى كثيرة : كإنجيل نيقوديموس ، إنجيل الأبيونيين المصريين ، إنجيل العبرانيين ، إنجيل بطرس ، إنجيل توما وغيرها من الرسائل الأخرى الكثيرة (٢) ...

وأما الإنجيل الآخر الذي أود الإشارة إليه فهو إنجيل برنابا ، الذي أحدث منذ ظهوره ضجة كبيرة بين المسلمين والمسيحيين على حد سواء ، وبالحقيقة فقد كتبت بحوث ودراسات عديدة عن هذا الإنجيل ، فهو يوافق بشكل عام القرآن في عامة قصصه ، و كذلك فهو

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ص ١٤٩.

(٢) قاموس الكتاب المقدس : ص ١٢٢.


يذكر النبي الخاتم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صريحا باسمه.

وأصل هذا الكتاب قد عثر عليه باللغة الإيطالية كما ينقل عن الترجمة الإسبانية له ، فيذكر المترجم ، أن الأصل الإيطالي قد عثر عليه راهب يدعى فرامرينو ، في زمن البابا ( سكست كنت الخامس ) سنة ( ١٥٨٥ ـ ١٥٩٥ ) ميلادي. فقرأ الراهب الكتاب فأعتنق الدين الاسلامي وترك ديانته السابقة ، وفي الحقيقة فإن النقاش ما زال قائما إلى الآن حول هذا الإنجيل ، حيث يعتقد المسيحيون أنه كان هناك إنجيل أو رسالة لبرنابا الرسول ولكنها كانت تعترف ( بأن المسيح ( عليه السلام ) هو ابن الله المتجسد ، وأنه صلب وقام وظهر لتلاميذه وصعد إلى السماء ) فهي كانت تحافظ على التعليم الرسولي. ولكن الكنيسة لم تعتبرها من الكتب الملهمة رغم محافظتها على التعليم الرسولي!! (١) ومن أراد التوسع في حقيقة هذا الإنجيل فليراجع مقدمة الدكتور خليل سعادة مترجم هذا الإنجيل من الإنجليزية إلى العربية ١٩٠٨. وكذلك مقدمة محمد رشيد رضا ..

وهنا أود أن أشير إلى بعض النقاط والتساؤلات المهمة التي تدور حول صحة هذه الأسفار ونسبتها إلى الوحي الإلهي :

أولا : السؤال الأول الذي يمكن طرحه هو أن النسخ الأصلية

________________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ص ١٥٢.


لهذه الأسفار مفقودة ، بل نسخ النسخ مفقودة كذلك ، حيث أن أقدم نسخة موجودة تعود إلى القرن الرابع الميلادي ، فلو سلمنا بأن مؤلفي هذه الأسفار قد كتبوها بالوحي الإلهي ، فهل من المعقول أن ندعي بأن النسخ المنقولة عن الأصل هي الأخرى قد نقلت بالوحي الإلهي ، ولم تتدخل الآراء والإبداعات للناسخ فيها من زيادة ونقيصة.

ولعدم توفر النسخ الأصلية ، فلا يمكن القطع بأن النص الأصلي لم يدخل عليه الزيادة والنقصان فلا يمكن التثبت من أن النسخ الموجودة بين أيدينا هي مطابقة تماما للنسخ الأصلية وخصوصا مع الجهل بالأشخاص الذين قاموا بنسخها وبعقائدهم.

ثانيا : أن الكنيسة الأولى وإلى القرن الرابع تقريبا ـ كما ذكرنا ـ لم تكن تعترف بأن هذه الكتب إنما كتبت بالإلهام والوحي الإلهي ، بل تم ذلك في مجمع نيقية المسكوني سنة (٣٢٥) ميلادية ، فقد تم جمع الكثير من الأناجيل والأسفار وتم اختيار هذه الأسفار وعددها (٢٧) ككتاب مقدس وملهم ، وأما الكتب الأخرى مع أنه قد كتب بعضها الرسل أنفسهم ( كإنجيل أو رسالة برنابا ) ولم تكن تغاير التعاليم الرسولية على حد زعمهم ، ولكنها رفضت وأهملت.

وهنا نستطيع التساؤل هل اختار هذا المجمع هذه الكتب


بوحي سماوي أو لا؟ فإن كان الجواب نفيا ( وهو كذلك إذ لو كان الاختيار بوحي سماوي لم لم يتم هذا الوحي إلى الكنيسة الأولى وحتى القرن الرابع؟ ) ، فإنه إذن من اختيار البشر ، والبشر معرضون للصواب والخطأ ، فعلى أبعد الاحتمالات فإن الإنسان العاقل يشك في أن هذه الأسفار هي الإنجيل الموحى.

ثالثا : النقطة الأخرى هي أن بعض النصوص المعتمدة كانت قد ترجمت من لغتها الأصلية إلى لغة أخرى والأصل المترجم عنه قد فقد ، وما هو مشهور ومعروف أن المترجم مهما كان ذكيا وبارعا وذا إلمام باللغة يجد صعوبة في نقل المراد بشكل دقيق ، لأنه غالبا ما يجد كلمات ليس لها مكافئ في اللغة المترجم إليها ، فيضطر إلى وضع الكلمات التي يعتقد أنها أقرب للمعنى ، وبالتالي فيمكن أن يتغير المعنى المراد أصلا ، ولهذا فلا يمكن الاعتماد بشكل قاطع على الترجمة. ومراجعة سريعة لحال الأسفار ( المقدسة ) تكشف لنا أن بعض النسخ الموجودة هي ترجمة للنسخ الأصلية المفقودة.

رابعا : أن من الأمور التي يحكم بها العقل هي أن الكتاب السماوي يجب أن لا يشوبه التناقض والاختلاف لأن الله تعالى عالم وحكيم فيستحيل نسبة الاختلاف والتناقض إلى وحيه ، وحتى بمعنى الوحي والإلهام الكتابي الذي يعتقد به المسيحيون إذ يكون المعنى من الله والكلمة والأسلوب من المؤلف ، وذلك لأن الله سبحانه يستحيل أن يوحي إلى شخص معنى يختلف عن الذي أوحاه إلى


آخر في نفس المورد ، أو معنى واحد لقصة واحدة تنقل في أسلوبين.

مثلا : في قصة صلب عيسى ( عليه السلام ) تنقل بعض الأسفار أنه سقي خمرا مرا ، وفي البعض الآخر يقول خلا ، فهذه قصة واحدة ولكن تختلف من سفر لآخر ، فإذا كان الاثنان مكتوبين بالوحي الإلهي ، فيكون واحد منها صحيحا ( بحكم العقل ) لا كلاهما ، والأسفار مليئة بهذه التناقضات ، ولولا أن قصدي في هذا البحث الاختصار قد الإمكان لبينت العشرات من هذه الاختلافات في العهد الجديد وأكتفي هنا بذكر بعضها ومن أراد المزيد فليطالع العهد الجديد بنفسه :

١ ـ الاختلاف في نسب عيسى ( عليه السلام ) في الأناجيل ، ومهما حاول المسيحيون إيجاد تبريرات لهذه الاختلافات لم يتمكنوا من إيجاد جواب مقنع لها. إذ ينقل كتاب ( قاموس الكتاب المقدس ) ما نصه النسب المذكور في إنجيلي متي ولوقا هناك شئ من الصعوبة في فهم جدوليهما ، إذ نجد فروقا جمة فسرت تفاسير شتى. وهذه الفروق تبرهن استقلال كل من البشيرين عن الآخر في ما كتبه واعتماده على مصادر تختلف عن مصادر أخرى (١).

ويذكر ثلاثة آراء لهذه الاختلافات يبطل اثنين منها ويبقي الآخر ، ولكنه أيضا غير مقنع. فإن لوقا يذكر ٢٥ اسما بين داود

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ص ١٠٣٧.


وزربابل ، أما متي فذكر خمسة عشر اسما فقط ، وجميع الأسماء تقريبا مختلفة الواحد عن الآخر في الجدول.

٢ ـ في إنجيل متي ومرقس ولوقا يذكر أن رجلا أسمه سمعان هو الذي حمل صليب عيسى ( عليه السلام ) وأما في إنجيل يوحنا فيذكر أن عيسى ( عليه السلام ) هو الذي حمل صليبه إلى جلجثة.

٣ ـ أن المسيح ( عليه السلام ) بعد قيامته وحسب إنجيل متي أمر التلاميذ بالذهاب إلى جميع الأمم وأن يعمدوهم ( باسم الأب والابن والروح القدس ) أما في إنجيل مرقس فأمرهم بالذهاب إلى العالم أجمع وأن يكرزوا بالإنجيل. وفي إنجيل لوقا وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم. وغيرها الكثير. مما سنذكره في مسألة الصلب والقيامة.

خامسا : وإضافة إلى ذلك فإن عددا كبيرا من علماء الكتاب المقدس يرون أن هذه الأسفار الموجودة في العهد الجديد ليست كلها على الأقل مكتوبة بالوحي الإلهي ، والاختلافات فيها قائمة إلى يومنا هذا ، رغم محاولات الخنق التي قامت بها الكنيسة للآراء والعقائد المخالفة لها.

فمثلا ينقل عن الدكتور موريس بوكاي أن قراءة كاملة للأناجيل يمكنها أن تشوش المسيحيين بصورة هائلة إذ بعد دراسته للعهد الجديد وجد أن التناقضات وعدم التجانس تجتمع على حقيقة


أن الأناجيل تحتوي على فصول ومقاطع ما هي إلا الانتاج الوحيد للخيال البشري (١).

وكذلك يقول : الدكتور كنيث كراج : أن الأناجيل جاءت من خلال فكر الكنيسة وآراء المؤلفين وأن الأناجيل تمثل التجربة والتاريخ (٢).

أما كارل أندري أستاذ الفلسفة والدراسات الدينية في جامعة بول فيقول أن الأناجيل الأربعة قد كتبت من قبل أشخاص متحمسين في الحركة المسيحية المبكرة وأنها تعطينا فقط جانبا واحدا من القصة وهي إلى درجة كبيرة نتاجات افتراضات المؤلفين (٣).

وكذلك الدكتور جراهام سكروجي الذي يقول : نعم إن الكتاب المقدس بشري ... هذه الكتب قد مرت عبر عقول الناس ، وهي مكتوبة بلغة الناس وخطت بأقلام الناس وأيديهم وتحمل في أساليبها خصائص البشر (١).

وغيرهم الكثير ، فمنذ القرون الأولى لقبول الكنيسة لهذه الكتب كان يدور هناك النقاش والجدال حول صحتها.

__________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ص ٦٢.

( ٢ ـ ٤ ) نفس المصدر : ص ٧٥.


وخلاصة البحث نقول أن العهد الجديد الذي تتمسك به الكنيسة على أنه كتاب سماوي وإلهي ، وتستمد منه عقائدها ، لا يمكن على أقل تقدير نسبته جميعه إلى الوحي الإلهي ، إن لم نقل أنه كتاب تاريخي يحكي بعض الوقائع عن زمان يسوع المسيح ( عليه السلام ) فهو كتاب من نتاج الخيال البشري ليس إلا. إذ أنه مجموعة من القصص كما ذكر ذلك لوقا ، فلا يد للغيب فيه ..



عيسى ( عليه السلام ) وحياته في ( العهد الجديد )

من الأمور المهمة في العقيدة المسيحية والتي يحملها كل مسيحي ، والتي كنت أحملها بكل وجودي ، هو العشق المفرط ليسوع المسيح ( عليه السلام ) لأني كنت أعتقد أنه ابن الله الحبيب الذي أرسله الله الأب لخلاص العالم ، وهو حمله الذي فدى به البشرية جمعاء ، فهو ليس انسانا ، لأنه ليس له أب كبقية الناس ، فكان اسمه دائما يشير إلى الله أبيه ، وكذلك العشق لمريم العذراء ( عليها السلام ) فهي ( والدة الله ) كما كنا نردد في صلاتنا.

ولم يكن ليخطر في بالي يوما من الأيام أن يسوع المسيح ( عليه السلام ) هو إنسان كسائر البشر ، وذلك لأن تعاليم الكنيسة كانت تؤكد دائما على الجنبة اللاهوتية له ، فالأجواء التي كنت أعيشها في البيت وفي الكنيسة ، وحتى في المجتمع المسيحي الصغير الذي كان يحيطني ، كلها كانت تساعد على تركيز هذا المعنى في قلبي وعقلي ، فلم يكن هناك أي مجال للشك في هذه العقيدة .. ولكن من دون


التعمق والتفكر فيها ، فهي من الأمور المسلمة ، وهي سر الله الذي تجسد في يسوع المسيح ( عليه السلام ) أخيرا.

ولم أكن ألتفت إلى التناقضات في هذه العقيدة ، حالي في ذلك حال معظم المسيحيين إذ لا وقت لذلك ، والسؤال حول هذه الأمور شبه ممنوع ، فالمسيحي عليه أن يتبع ما تقوله الكنيسة ويأخذه أمرا مسلما ، فقد نشأنا وتربينا على هذا الاعتقاد.

ولكن بعد المطالعة والتحقيق ، والانتباه من الغفلة ، أتضح لي الخطأ في الاعتقاد الذي كنت أحمله في المسيح ( عليه السلام ) ، إذ لا يمكن قبول فكرة ( البنوة ) عقليا فضلا عن القول بالتجسيد.

وقبل الإشارة إلى ما قيل في المسيح ( عليه السلام ) نقدم نبذة عن حياته كما ترويها الأناجيل والأسفار ( العهد الجديد ).

ولادته وحياته ( عليه السلام ) :

لقد أختلف العلماء المسيحيون في سنة ولادة المسيح ( عليه السلام ) ، وأول من كتب عن التقويم الميلادي للمسيح ( عليه السلام ) هو رئيس دير يدعى ديونيسيوس اكسيجؤس الذي مات قبل عام (٥٥٠) ميلادي فاختار هذا الراهب أن ولادة المسيح ( عليه السلام ) هي في سنة ٧٥٤ لتأسيس روما وهذه السنة تقابل العام الأول الميلادي ، إلا أن ما ذكره المؤرخ يوسيفوس يظهر بوضوح أن


هيرودس الكبير الذي مات بعد ولادة المسيح ( عليه السلام ) بوقت قصير مات قبل عام ٧٥٤ لتأسيس روما فعلى الأرجح أنه مات حوالي عام ٧٥٠ لتأسيس روما ، الذي تقابل سنة ٤ ق. م.

إذن فميلاد المسيح ( عليه السلام ) تم أما في أواخر سنة ٥ ق. م أو في أوائل سنة ٤. ق. م (١).

إن من الغريب في الأناجيل التي تروي حياة المسيح ( عليه السلام ) وتعاليمه ، أنها لم تذكر قصة ولادته إلا في إنجيلين هما ( متي ـ ولوقا ) على اختصار شديد ، وأما إنجيل مرقس فلم يذكر شيئا بتاتا عن ولادته ( عليه السلام ) ، وأما إنجيل يوحنا فقد اكتفى بذكر التجسد الإلهي بقوله في أول الإنجيل في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ... والكلمة صار جسدا وحل بيننا ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الأب مملوءا نعمة وحقا.

فإنجيل متي يذكر أن الحبل بيسوع المسيح ( عليه السلام ) كان عن طريق روح القدس ( متي : ١ ـ ١٨ ) أي أنه لم يكن هناك تقارب بشري بل كان معجزة إلهية ، ولكن متي لا يذكر شيئا عن كيفية هذا الحبل بل يكتفي بذكر مريم ( عليها السلام ) وهي حبلى قبل أن تدخل إلى بيت يوسف ( متى : ١ : ١٩ ـ ٢١ ) ويذكر رؤية يوسف للملاك قائلا له أن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس. وأما إنجيل لوقا فهو

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ٨٦٤.


يذكر الحوار بين الملاك ومريم ( لو : ١ : ٢٧ ـ ٣٨ ) الملاك الذي بشر مريم بيسوع ( عليه السلام ).

ولما حان وقت الولادة ، ولد يسوع ( عليه السلام ) في بيت لحم (١) في عهد الملك هيرودس الكبير ، ويذكر ( متي ولوقا ) بشارة الملاك للرعاة بالولادة.

ويذكر لوقا أن ختانه ( عليه السلام ) كان في اليوم الثامن ( لو : ٢ = ٢١ ) ـ وهذا كل ما تذكره الأناجيل عن ولادته ، وأما طفولته فلم تذكر الأناجيل شيئا عنها ، سوى إنجيل لوقا الذي يروي زيارة المسيح ( عليه السلام ) للهيكل وقد بلغ الثانية عشرة من عمره ( لو : ٢ : ٤١ ـ ٥١ ).

ومما يؤسف له إننا لا نملك أية معلومات عن حال هذا الطفل المعجزة ، ولكن هناك بعض الأناجيل الأخرى والرسائل التي تشير إلى بعض تفاصيل حياة سيدنا يسوع المسيح ( عليه السلام ) ولكن الكنيسة لم تعتمدها ضمن الكتب الملهمة فضاعت أكثرها ولم يبق من

________________________

(١) بيت لحم : اسم عبري معناه « بيت الخبز » وهو اسم لقرية صغيرة تبعد ستة أميال إلى الجنوب من أورشليم ، ويعتقد أنّ المسيح ولد في إحدى مغاراتها ، وقد بنت الإمبراطورة هيلاتة كنيسة فوق المغارة التي يُظن أنّ المسيح ولد فيها ، وهي أقدم كنيسة مسيحية في العالم ، وهي مشتركة الآن بين الروم واللاتين والارمن ، ويجانبها أديرة لهذه الطوائف الثلاثة أيضاً. ( قاموس الكتاب المقدّس ، مادة بيت ، ص ٢٠٦).


البعض منها إلا الاسم فقط.

وتنتقل الأناجيل بعد ذلك لذكر يسوع المسيح ( عليه السلام ) وهو في سن الثلاثين من العمر أي حوالي سنة ٢٧ ميلادي ( لو ٣ : ٢٣ ) إذ أنه ترك الناصرة واعتمد من يوحنا المعمدان ( يحيى ) ( عليه السلام ) ، واقتيد يسوع ( عليه السلام ) إلى برية اليهودية كي يجربه إبليس ( مت : ٤ : ١ ـ ١١ ) ( فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا ، فتقدم إليه المجرب ... ).

وعندما سجن يوحنا المعمدان ، بدأ يسوع المسيح ( عليه السلام ) دعوته الرسالية في الجليل ، فدعا تلاميذه الأولين ، وبدأ بإظهار المعاجز وأول معجزة ظهرت للمسيح ( عليه السلام ) هو تحويله الماء إلى خمر في عرس قانا بالجليل ( يو ٢ : ١ ـ ١١ ). وعندما أعلن في مجمع الناصرة أنه هو النبي المقصود ، رفضه قومه وأهل بلدته ( لو : ٤ : ٦ ـ ٣٠ ).

ومن بعد هذا أنحدر يسوع ( عليه السلام ) إلى كفرناحوم واتخذها مركز بث دعوته ونشر رسالته ، وبقيت كفرناحوم مركزا له مدة تزيد على سنة كاملة من خدمته ، فكان يعلم فيها وفي أنحاء أخرى من الجليل ويعمل المعجزات ، وأختار من بين تلاميذه وأتباعه اثنا عشر تلميذا ليكونوا تلاميذه المقربين ، وقد علمهم ليكونوا رسله ، فذاعت شهرته بسبب هذه التعاليم والمعجزات بين جماهير الجليل ،


كما وصلت هذه الشهرة إلى الذروة في معجزة إطعام الخمسة آلاف.

وقد عزمت الجماهير على تتويجه ملكا ولكن المسيح ( عليه السلام ) رفض وانصرف إلى الجبل. وذهب بعد ذلك إلى منطقة صور وصيدا وقيصرية فيلبس. واستمرت معاجزه ( عليه السلام ) فيها وتبليغ دعوته ورسالته إلى أن اقترب موعد رحيله فقصد أورشليم في المساء السابق لصلبه ، فغسل أرجل تلاميذه ، ثم صلى ، ثم جاء يهوذا الإسخريوطي الخائن مع جمع كثير فسلمه إليهم وهرب التلاميذ كلهم ( متي : ٢٦ : ٥٦ ).

ويعتقد المسيحيون أنه ( عليه السلام ) قد صلب ومات وقام من الأموات في اليوم الثالث. وبعد ذلك ظهر لتلاميذه ليبشرهم بقيامته ويرسلهم إلى جميع الأمم لتبليغ تعاليمه وإرشاداته.

هذه باختصار حياة المسيح ( عليه السلام ) كما تذكره الأناجيل وتعتبر مسألة صلب المسيح ( عليه السلام ) وقيامته من الأمور المهمة في العقيدة المسيحية إذ بدونها لا تكتمل فصول عقيدة الفداء والخطيئة الأصلية ، ولنلق نظرة عن كيفية صلبه وقيامته ، ومن ثم عن موضوع الفداء والخطيئة الأصلية حسب الأسفار الملهمة.


الصلب والقيامة

أن قصة صلب المسيح ( عليه السلام ) في الأناجيل الأربعة فيها الكثير من الاختلاف ، وكذلك قيامته.

ففي الأناجيل الثلاثة المتوافقة وعند القاء القبض عليه ينقل أن يهوذا الإسخريوطي تقدم إلى المسيح ( عليه السلام ) وقبله ، وكان قد اتفق مع العسكر على علامة وهي تقبيله للمسيح ( عليه السلام ) فألقوا القبض عليه ( متي : ٢٦ : ٤٧ ـ ٥٥ ) ( مر : ١٤ ـ ٤٣ ـ ٤٦ ) ( لو : ٢٢ ـ ٤٧ ـ ٥١ ). وأما في إنجيل يوحنا فينقل أن المسيح ( عليه السلام ) هو الذي خرج إليهم وقال من تطلبون؟ ، أجابوه يسوع الناصري ، قال لهم يسوع ( عليه السلام ) أنا هو وكان يهوذا واقفا معهم ( يو : ١٨ : ٢ ـ ٩ ).

فلا ينقل يوحنا تقبيل يهوذا للمسيح ( عليه السلام ) بل أن المسيح ( عليه السلام ) هو الذي عرف نفسه ، فهرب التلاميذ كلهم بعد تسليم المسيح ( عليه السلام ) نفسه ، فلم يشهدوا ماذا جرى بعد ذلك ،


إلا أنها تنقل أن بطرس تبعه من بعيد.

وكذلك تختلف الأناجيل في قصة محاكمته عند بيلاطس ، وكذلك في حمله للصليب فتقول الأناجيل المتوافقة أن رجلا قيروانيا اسمه سمعان هو الذي حمل الصليب ، ( لو : ٢٣ : ٢٦ ـ ٢٧ ) وأما في إنجيل يوحنا فينقل أن المسيح ( عليه السلام ) هو الذي حمل صليبه : فخرج وهو حامل صليبه ، ( يو : ١٩ : ١٧ ).

وعند موته أيضا ( عليه السلام ) تختلف الأناجيل فيما بينها ، إذ ينقل متي ومرقس أن يسوع المسيح ( عليه السلام ) وقبل أن يسلم روحه صاح بصوت عظيم معاتبا ربه ( إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني ) ( مت : ٧ ٢ : ٤٦ ـ ٥٠ ) ومن ثم صرخ أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح ، أما لوقا فإنه ينقل أن المسيح ( عليه السلام ) لم يعاتب ربه ، بل أسلم روحه بكل طمأنينة فيقول : ونادى يسوع بصوت عظيم وقال يا أبتاه في يديك أستودع روحي ولما قال هذا أسلم الروح ( لو : ٢٣ : ٤٥ ـ ٤٧ ). وأما يوحنا فإنه لم ينقل شيئا عن تلك الصرخة العظيمة بل ينقل أنه عندما أخذ يسوع الخل الذي سقوه قال قد أكمل ونكس رأسه و أسلم الروح ( يو : ١٩ : ٣٠ ).

وأما دفنه فتنقل الأناجيل المتوافقة أنه نحت في صخر ، وأما إنجيل يوحنا فيقول : ( إنه كان في الموضع الذي صلب فيه بستان و في البستان قبر جديد ) ( يو : ١٩ ـ ٤٠ ـ ٤١ ).


وأما عن قيامته فالاختلاف أكثر ، لأن الأناجيل المتوافقة هي أيضا مختلفة ، فبعد ما طلب رؤساء الكهنة من بيلاطس أن يضع حراسا على القبر كي لا يسرقه التلاميذ ويدعون أنه قد قام استجاب لأمرهم ، وعند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم أخرى معها فنظرتا إلى القبر ، فحدثت زلزلة عظيمة لأن ملاك الرب نزل من السماء و دحرج الحجر الذي على باب القبر وجلس عليه ، وكان لباسه أبيض ( متي : ٢٨ : ١ ـ ٣ ).

وأما مرقس فإنه ينقل أنهن لم يسمعن صوت الزلزلة العظيمة ، وأن الحجر كان قد دحرج والملك بصورة شاب جالس في داخل القبر على اليمين ( مر : ١٦ : ٤ ـ ٦ ) ، وأما لوقا فإنه ينقل أنهن دخلن القبر فلم يجدن يسوع ( عليه السلام ) وفيما هن محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة ( لو : ٢٤ ـ ١ ـ ٤ ) ويزيد لوقا أنه كان مع النساء أناس آخرون.

وأما يوحنا في إنجيله فإنه يقول أن مريم المجدلية كانت لوحدها ، وعندما جاءت ونظرت الحجر مرفوعا عن القبر ، ركضت إلى سمعان ( بطرس ) (١) ، والتلميذ الآخر وقالت لهما أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه ، وجاء بطرس ومعه التلميذ إلى القبر ،

________________________

(١) بطرس : اسم يوناني معناه « صخرة أو حجر » وباليوناني تُلفظ « بتروس » ، وهو الحواري المقرّب جدّاً من المسيح ، وهو وصيه من بعده كما تنقل الأناجيل.


فدخل بطرس ورأى الأكفان موضوعة ، ومن ثم دخل التلميذ الآخر فآمن ، لأنهم لم يكونا بعد يعرفون أنه ينبغي أن يقوم من الأموات ، فمضى التلميذان وبقيت مريم المجدلية وهز تبكي فنظرت إلى القبر وإذا بملاكين بثياب بيض ( يو : ـ ٢٠ : ١ ـ ١٣ ).

وأما ظهوره لتلاميذه ولآخرين فهو الآخر مختلف فيه ، فمتي ينقل أنه ظهر لمريم المجدلية ومريم الأخرى وسجدتا له وأمرهما أن يقولا لأخوته أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونه ( متي : ٢٨ : ٩ ـ ٢٠ ) وذهب التلاميذ ولما رأوه سجدوا له وبعضهم شكوا ( متي ٢٨ : ـ ١٦ ـ ١٨ ).

وأما مرقس فإنه يذكر في إنجيله أن الملاك الذي رأته مريم المجدلية هو الذي قال لها وللنساء اللاتي معها ( إذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه ) ( مر : ١٦ : ٧ ـ ٨ ) ، ويردف مرقس أنه ظهر أولا لمريم المجدلية وحدها التي كان قد أخرج منها سبعة شياطين ، فذهبت هذه وأخبرت الذين كانوا معه ولم يصدقوا ( مر : ١٦ : ٩ ـ ١٢ ) وبعد ذلك ظهر لاثنين منهم وأخبرا البقية فلم يصدقوا ( مر : ١٦ ـ ١٢ ـ ١٣ ) وأخيرا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام ( مر : ١٦ : ١٤ ـ ١٦ ).

وأما لوقا فإنه ينقل أن الرجلين اللذين وفقا بهن بثياب براقة


هما اللذان ذكرا النساء بأن المسيح ( عليه السلام ) قال إنه يقوم من القبر ، فتذكرن كلامه ( عليه السلام ) فأخبرن الأحد عشر ولم يصدقوهن ( لو : ٢٤ : ٤ ـ ١٢ ) ويضيف لوقا أنه ظهر لاثنين منهم ويسرد القصة بتفصيل عجيب كأنه كان معهم ( لو : ٢٤ ـ ١٣ ـ ٣٣ ). ويردف لوقا قائلا : ( ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم ويقولون إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان ( لو : ٢٤ : ٣٤ ـ ٣٥ ) وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحا ، فأكل معهم سمكا وعسلا ( لو : ٢٤ : ٣٥ ـ ٤٤ ).

وأما يوحنا في إنجيله فهو ينقل : عندما رأت مريم المجدلية الملاكين ، قالا لها ( لماذا تبكين؟ قالت لهما أنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه ، ولما قالت هذا التفت إلى الوراء فنظرت يسوع وافقا ولم تعلم أنه يسوع ، قال لها يسوع يا امرأة لماذا تبكين؟ من تطلبين؟ فظنت أنه البستاني فقالت له يا سيدان كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه ، قال لها يسوع يا مريم. فالتفتت وقالت ربوني الذي تفسيره يا معلم. قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي ، ولكن اذهبي إلى أخوتي وقولي لهم أني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم. فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ ) ( يو : ٢٠ : ١٢ ـ ١٩ ) ، ويضيف يوحنا في إنجيله أيضا ( أنه ظهر للتلاميذ عشية ذلك اليوم أول الأسبوع وسلم عليهم وأراهم يديه وجنبه وقال


لهم كما أرسلني الرب أرسلكم أنا ، أما توما أحد الاثني عشر فلم يكن معهم حين جاء يسوع ( عليه السلام ) وعندما أخبروه قال لا أؤمن حتى أراه وبعد ثمانية أيام كان تلاميذه أيضا داخلا وتوما معهم فجاء يسوع ( عليه السلام ) وسلم عليهم ، فآمن توما أيضا ) ( يو : ٢٠ : ١٩ ـ ٢٨ ) ، ويذكر يوحنا أيضا ( وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب ، وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه ) ( يو : ٢٠ ـ ٣٠ ٣١ ).

ويذكر في إنجيل يوحنا أيضا في الأصحاح الذي يشك الكثير من علماء الكتاب فيه ، ويقولون بأنه إلحاقي وليس من تأليف يوحنا ، ( والكلام الذي ذكرناه آنفا يدل على أن يوحنا قد أنهى إنجيله ولم يذكر شيئا آخر ، وأما الكنيسة فقد اعتمدته وقبلته ضمن إنجيل يوحنا ) أنه ظهر ( عليه السلام ) للتلاميذ على بحر طبرية ويسرد القصة بالتفصيل. ( يو : ٢١ : ١ ـ ٢٣ ).

هذه هي خلاصة ما ذكرته الأناجيل عن قصة صلب يسوع وقيامته وظهوره لتلاميذه ولآخرين ، وفي الحقيقة فإن القارئ للأناجيل الأربعة ينتابه الشك في هذه القصص ، فإن صدق بواحدة منها كذب الأخرى ، لأنه لا يمكن الجمع بينهما ، لهذا لا أعتقد أن هناك باحثا أو محققا يستطيع الجزم بمسألة صلب المسيح ( عليه السلام ) وقيامة وظهوره من خلال مطالعته للأناجيل ، حيث يصيبه الشك في


صحتها لتناقضها.

وهنا أقف على بعض النقاط التي أرى لا بد من التوقف عندها فأقول : ـ أن من الأمور المتيقنة في قصة القبض على المسيح ( عليه السلام ) والتي لا تختلف حولها الأناجيل هي أن التلاميذ كلهم قد هربوا وتركوه ( مر : ١٤ = ٥١ ) ( متي : ٢٦ = ٥٦ ) والذي تبعه حسب بعض الأناجيل هو بطرس فقط ، وهو حسب الأناجيل أنكر معرفة المسيح ( عليه السلام ) وحلف ولعن إني لا أعرف الرجل ، وعند صياح الديك خرج وبكى ( متي : ٢٦ : ٧١ ـ ٧٥ ) ، والتفاصيل في قصة متابعة بطرس للمسيح ( عليه السلام ) وجلوسه أو وقوفه خارج أو داخل الدار كلها متناقضة في الأناجيل ، فيبقى السؤال هنا : كيف ينقل متي ويوحنا وهما من التلاميذ قصة حوار رئيس الكهنة مع المسيح ( عليه السلام ) وهما لم يكونا موجودين؟

فيأتي الجواب من قبل المسيحيين بأننا نقول بأن الالهام والوحي الإلهي هو الذي أوحى إليهما بذلك ، ولكن من خلال متابعة قصة القبض على عيسى ( عليه السلام ) وحتى تفاصيل المحاكمة وصلبه كلها كانت غير متطابقة بل ومتناقضة ، فأحدهم يذكر أنه حمل صليبه ، والآخر يقول غيره قد حمل الصليب ، والبعض يقول قد سقي خمرا والآخر يقول خلا.


فلا يبقى مجال للشك بأن الذي كتب في هذه الأناجيل هو ما كان متداولا على ألسن الناس في ذلك الزمان ، والدليل على ذلك قصة ظهور المسيح ( عليه السلام ) للرجلين حسب إنجيل لوقا ( ٢٤ : ١٨ ) إذ يذكر لوقا بالنص فأجاب أحدهما الذي اسمه كليوباس وقال له هل أنت متغرب وحدك في أورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام.

فمسألة صلب المسيح ( عليه السلام ) لم ينقلها التلاميذ شهودا ، ولا يد للوحي والإلهام الإلهي فيها ، بل هي مذكورة كما كانت متداولة بين الناس في ذلك الوقت ، والحدث الذي يدور على ألسنة الناس ومن فم إلى فم لا يسلم دائما من الزيادة والنقصان فلا يمكن الوثوق به.

وكذلك مسألة قيامة المسيح ( عليه السلام ) فهي الأخرى دونت بسبب تداولها بين الناس ، إذ نجد في الأناجيل أن مسألة القيامة من أكثر المسائل تناقضا في الأناجيل ، فإنجيل يذكر أن من رأى القبر قد دحرج عنه الحجر هي مريم المجدلية ومريم أخرى ، والبعض الآخر يقول جاء معهما أناس ، وإنجيل آخر أنهن كن نسوة كثيرات ، وأيضا الملاك الذي دحرج الحجر ، وأحدث زلزلة عظيمة رأته مريم المجدلية جالسا عليه ( الحجر ) هذا حسب متي ( ٢٨ : ١ ـ ٣ ) و أما مرقس فإنه يقول أن مريم المجدلية رأت الملاك في داخل القبر على اليمين ( مر : ١٦ : ٤ ـ ٦ ) ، وأما لوقا ، فإنه يؤكد أن النسوة لم يجدن الملاك لا جالسا


على الحجر ، ولا داخل القبر ، بل يذكر فيما هن محتارات إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة ( لو ٢٤ : ١ ـ ٤ ) وأما يوحنا فإنه كما ذكرنا يذكر أن مريم المجدلية لم تر ملاكا قط ، بل ذهبت إلى بطرس وجاءت به ، وبعد مضي بطرس والتلميذ نظرت مريم المجدلية إلى القبر فرأت ملاكين بثياب بيض ( يو : ٢٠ : ١ ـ ١٣ ).

فهذه القصة لم يروها شاهد عيان ، ويبقى السؤال : كيف ينقل كاتب شيئا لم يره؟ فيأتي الجواب كالسابق أن الوحي والإلهام الإلهي هو الذي ألقى في روع الكاتب تدوين هذه القصة ، وأعتقد أن هذا الجواب أقبح من السكوت مع هذه التناقضات في هذه القصة.

فلا يبقى لنا سوى أن نقول : أن مسألة صلب المسيح ( عليه السلام ) وموته وقيامته كانت نتيجة ما انتشر بين الناس من أحاديث ، وأعتقد أن الكتب الأخرى التي حرمتها الكنيسة لو كانت موجودة لكشفت لنا الكثير من الحقائق ، ولكنها للأسف ضاعت أو ضيعت.

وأما مسألة ظهوره لتلاميذه فهي الأخرى ليست بأحسن حال من الصلب والقيامة وما ذكرته من الاختلافات فيها يكفي لردها ..

والمسألة الأخرى المهمة أيضا هي يهوذا الإسخريوطي ، فالأناجيل الأربعة لا تذكر عنه شيئا إلا إنجيل متي ( ٢٧ : ٣ ) حيث يذكر ( أن يهوذا ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ ثم مضى وخنق نفسه ، فأخذ رؤساء الكهنة الفضة واشتروا


بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء ).

وأما في أعمال الرسل فيذكر لوقا نهاية أخرى ليهوذا إذ ينقل عن بطرس في حديثه عن يهوذا فإن هذا أقتني حقلا من أجرة الظلم وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها ، وصار ذلك معلوما عند جميع سكان أورشليم حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما أي حقل دم أعمال الرسل : ١ : ١٥ ـ ٢٠ ) ، وكلام بطرس كان بين التلاميذ الذين يذكرهم لوقا بأسمائهم ، ومن ضمنهم ( متي ) صاحب الإنجيل ، فكيف خفي على ( متي ) نهاية يهوذا وأنه هو الذي اشترى الحقل لا رؤساء الكهنة ، وأنه سقط وانسكبت أحشاؤه فمات ، ولم يمت مخنوقا ، فإذا كانت هذه القصة حسب أعمال الرسل مشهورة ومعلومة عند سكان أورشليم كيف خفي ذلك على ( متي ) الرسول؟

إذن اعتقد أن مسألة خيانة يهوذا صحيحة ولكن كيفية موته ونهايته متناقضة ، لذا فإن التفسير الاسلامي لمسألة صلب المسيح ( عليه السلام ) وأنه يصلب ولكن شبه لهم هي الصحيحة ، ويؤيد ذلك إنجيل برنابا الذي يذكر أن يهوذا هو الذي صلب بدل عيسى ( عليه السلام ) ويحتمل أن نهايته هذه كانت قد ذكرت في الكتب ( المنحولة ) الأخرى التي رفضتها الكنيسة.

والآن يمكننا أن نفهم لماذا رفضت الكنيسة في القرن الرابع


الميلادي كل تلك الكتب ، واختارت كل ما يصب في صالح العقيدة التي تريد أن تلبسها للمسيح ( عليه السلام ) وتعاليمه فتجعلها ديانة منسوبة إليه أسما.

والمسألة الأخرى التي أراها مهمة هي أن الأناجيل كلها والأسفار لم تذكر شيئا واحدا عن مريم العذراء ( عليها السلام ) وهي والدة المسيح ( عليه السلام ) والشخصية المقدسة الثانية في المسيحية بعد المسيح ( عليه السلام ) فهي لم يذكر عنها أنها رأت المسيح ( عليه السلام ) بعد قيامته ولم تحضر عند قبره ، وهل يعقل أن المسيح ( عليه السلام ) يظهر لمريم المجدلية التي أخرج منها سبعة شياطين ، ولا يظهر لأمه العذراء مريم ( عليها السلام ) ليهدئ ويخفف من آلامها وحزنها؟ ألم تكن هي الأجدر بالظهور لها ، لأنها أمه أولا ولمنزلتها الرفيعة المباركة ثانيا؟ وأعتقد أن لهذا السكوت دلائل ومؤشرات وتساؤلات نتركها لعلماء الكنيسة ليجيبوا عنها ..

كانت هذه خلاصة عن صلب المسيح ( عليه السلام ) وقيامته وأما قصة الفداء والخطيئة الأصلية فنشير إليها مختصرا ؛ لأنّها تعتبر من العقائد الأساسية للمسيحية.



الفداء والخطيئة الأصلية

أن من العقائد الأساسية والمهمة في الديانة المسيحية ، والتي كنت أعتقد بها هي مسألة الفداء. ومن أجل فهم هذه العقيدة يجب الرجوع ، إلى الخطيئة الأولى التي اقترفها أبونا آدم ( عليه السلام ).

فنحن كمسيحين كنا نعتقد أن آدم وحواء ( عليهما السلام ) وبسبب خطيئتهما منذ الزمن الأول ، فإن الإنسان قطع علاقته مع ربه وخالقه ، وتخلى عن الله سبحانه ، وآدم ( عليه السلام ) بهذه الخطيئة جعل ذريته كلها في حال ابتعاد وانفصال عن الله ، وكان نتيجة هذا الانفصال موت الإنسان ، وهكذا دخل الموت إلى جميع الناس كعقاب للخطيئة.

وهذا الموت هو روحي وأبدي وانتقلت هذه الخطيئة إلى ذريته جيلا بعد جيل ، فيولد الإنسان وهو حامل لها ، ومتلوث بها ، وبسبب هذه الخطيئة خسر الإنسان الطهارة وبانت عورته شهواته وأهواؤه الآثمة.


وآدم ( عليه السلام ) بعمله هذا هدم صورة الله فيه وحطم التضامن والمحبة بينه وبين الله ، ولكن بما أن آدم ( عليه السلام ) قد تاب من خطيئته وقبل الله توبته ، لم يتخل الله عنه نهائيا ، وذلك بسبب توبته الصادقة ، بل وعده بالخلاص وبانتصاره على عدوه اللدود ( الشيطان ) ، ووعد بإرسال المخلص والمفدي الذي يفدي البشرية عن خطاياها ، ويحمل هو تلك الخطايا عنهم ، فتفتح أبواب الملكوت بمجيئه وتتم المصالحة بين الله والانسان من خلاله.

وعندما تم الزمان بعد طول انتظار أرسل الله سبحانه ابنه الحبيب ليفدي البشرية كلها عن خطاياها ويفتح عهدا جديدا بين الله والانسان ، وبالآلام والصلب الذي يتحمله هذا الابن ( الوحيد ) ترفع الخطيئة عن كاهل الإنسان ويتطهر منها ، ليعيش حياة جديدة وسعيدة مع هذا الحدث الإلهي الموعود.

هذا باختصار ما كنا نؤمن به من عقيدة الفداء ، ولهذا ومن أجل إكمال فصول هذه العقيدة رأينا كيف أن العهد الجديد يذكر لنا قصة آلام المسيح ( عليه السلام ) وصلبه وقيامته ويؤكد عليها.

ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه العقيدة ( الخطيئة الأصلية والفداء ) لا نجدها في الأناجيل الأربعة المهمة ، فهذه الأناجيل لم تتطرق لا من قريب ولا من بعيد إلى موضوع آدم وخطيئته الأولى ،


وأنما ظهرت هذه العقيدة من رسائل بولس ولا سيما رسالته إلى الرومانيين ، فهو يقول في ( ٥ : ١٢ ) ( من أجل ذلك كأنما بانسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع ، فإنه حتى الناموس كانت الخطيئة في العالم ).

فبولس هو أول من تكلم عن الخطيئة الأصلية وأن البشرية كلها قد تلوثت بسبب هذه الخطيئة ، ويعود بولس مجددا ليبين أنه كما بانسان واحد دخلت الخطيئة والموت إلى العالم كذلك الحياة والخلاص يكون بانسان واحد وهو المسيح ( عليه السلام ) ، إذ يقول بولس في رسالته إلى الرومانيين ( ٥ : ١٧ ـ ١٩ ) لأنه كان بخطيئة الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيرا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح ( عليه السلام ). فإذا كما بخطيئة واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة هكذا ببر واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة.

فهنا وجه شبه بين آدم ( عليه السلام ) والمسيح ( عليه السلام ) وهو أنه كما كان آدم سبب الخطيئة و الموت لكل الذين يتعلقون به بالولادة الطبيعية كذلك المسيح ( عليه السلام ) هو علة التبرير والحياة لجميع الذين يتعلقون به بالولادة الروحية (١).

فيمكننا القول بأن واضع حجر الأساس لهذه العقيدة هو بولس

__________________

(١) تفسير العهد الجديد : ٣٩٠.


وليس المسيح ( عليه السلام ) ، وهنا أيضا نشير إلى بعض التساؤلات والنقاط حول هذه العقيدة فنقول :

أن مسألة مهمة وأساسية في العقيدة المسيحية ( كمسألة الخطيئة الأصلية والفداء ) هل يمكن القول أن المسيح ( عليه السلام ) تجاهلها أو نساها فلم يتحدث عنه ( على الأقل حسب ما تنقل الأناجيل الأربعة الملهمة ) وسكت ، وجاء بعد ذلك رجل متعصب لليهودية ( بولس ) ومضطهد وقاتل لأتباع المسيح ( عليه السلام ) فيعلن عن هذه العقيدة فقبلتها الكنيسة واعتبرتها ركنا من أركانها ، هل يليق هذا بالمسيح ( عليه السلام )؟ ومع أن هدفه ( والقول للمسيحيين ) خلاص البشرية و فدائها ، ولكنه لا يوضح المهمة الأساسية التي أرسل من أجلها ، ولا يفهم الناس أنهم كلهم ملوثون بخطيئة آدم ( عليه السلام ) الأولى وهو الذي ينقذهم من هذه الخطيئة ، بل يوكل الأمر إلى بولس ليبينها ويعلنها مع أنه ليس من التلاميذ الذين أختارهم المسيح ( عليه السلام ) في حياته.

أولم يكن من الأولى للمسيح ( عليه السلام ) أن يبين هذه العقيدة بشكل واضح لتلاميذه على أقل تقدير ، ليتسنى لهم توضيحها للناس وخصوصا أنه أرسلهم إلى كل الأمم ليبشروا بالإنجيل وتعاليمه.


فنحن نجد أن الأناجيل الأربعة ولا سيما إنجيلي متي ويوحنا ( الذين يزعم المسيحيون أنهما منسوبان لمتي ويوحنا الرسولين ) لا تتحدث ولا تشير إلى خطيئة آدم ( عليه السلام ) أبدا ، بل حتى مرقس ( تلميذ الوصي والرسول بطرس ) هو الآخر لم يذكرها في إنجيله مع أنه حسب ما ينقل كان من المقربين لبطرس ، بل أن إنجيله كما يذكر هو زبدة تعاليم بطرس ، وإضافة إلى ذلك فقد كان مرافقا لبولس نفسه فكيف لم يسمع بهذه المسألة المهمة ولم يدونها ، وكذلك الحال بالنسبة إلى لوقا فإنه كان رفيق بولس في بعض أسفاره ، ولكنه لم يذكر شيئا عن الخطيئة الأصلية والفداء.

وتساؤلات أخرى كلها تثير الشكوك حول هذه العقيدة ، التي لم ينطق بها المسيح ( عليه السلام ) ولا تلاميذه ورسله ، بل كانت من وحي وخيال بولس ، وأعتقد أن بولس باضطهاده وقتله للمسيحيين بشدة قبل توبته أشعرته بعظم الخطيئة التي ارتكبها بعد التوبة والإيمان ، وللخلاص من تأنيب الضمير وتبرير تلك الأفعال والخطايا التي قام بها ، جاء بهذه الفكرة وألبس البشرية كلها ثوب الخطيئة والمصيبة إذا عمت هانت هذا كله إذا أحسنا الظن بالقديس بولس وإيمانه وتوبته الصادقة وصحة الرسائل المنسوبة إليه.

إضافة إلى كل هذا يبقى هناك سؤال مهم يطرح نفسه حول هذه العقيدة وهو : ما ذنب الناس منذ القرون الأولى للبشرية أي منذ زمن آدم ( عليه السلام ) حتى زمن المسيح ( عليه السلام ) ، فهل كلهم خطاة


ولم يغفر لهم ، مع أن فيهم كما يذكر الكتاب المقدس بعهديه ، أنبياء وأولياء وأتقياء وشهداء استشهدوا في سبيل الله كما يذكر عيسى ( عليه السلام ) نفسه في العهد الجديد عن مقتل زكريا ، فماذا كان مصيرهم؟

وللحرج الذي يقع فيه المسيحيون من هذا السؤال يجيبون عنه جوابا أعتقد أنه مخالف للفطرة والعقل البشري وفيه إهانة كبيرة إلى كل الأنبياء العظام فيقولون أما مصير الذين ماتوا قبل هذه الساعة فقد هلك الخطاة ، وأما أصحاب القلوب النقية ـ يقول المسيحيون ـ فقد ماتوا على رجاء الخلاص ، وهذا ما يفسر بوضوح نزول المسيح ( عليه السلام ) إلى الجحيم ليحرر هذه النفوس التي كانت تنتظر مجيئه (١).

فعلى هذا يجب أن نقول أن نوحا نبي الله وإبراهيم خليل الله وموسى كليم الله وداود وإسحاق ويعقوب والأنبياء العظام كلهم ( صلوات الله وسلامه عليهم ) يصلون الجحيم منتظرين نزول المسيح ( عليه السلام ) إليهم لإنقاذهم!!!

فأي عقل سليم يقبل مثل هذا الهراء؟ إضافة إلى ذلك فإنه مخالف للعهد الجديد نفسه إذ يقول متي في إنجيله ( ٨ ـ ١ ١ ) وأقول لكم أن كثيرين سيأتون من المشارق المغارب ويتكئون مع إبراهيم و إسحاق ويعقوب في ملكوت السموات.

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ٣٤٥.


وأيضا من تصريح المسيح ( عليه السلام ) من أن الأطفال والأولاد لهم ملكوت السموات ، فإن كان المسيح ( عليه السلام ) يعظم الأنبياء في أماكن كثيرة من العهد الجديد ويؤكد أنهم في ملكوت السموات ، فلا أدري من أين جاءوا بمثل هذه الأقاويل ونسبوها زورا وتحريفا إلى السيد يسوع المسيح ( عليه السلام ) فهل يعقل أن يختار الله سبحانه في هذه الدنيا أنبياء وأولياء قضوا جل أعمارهم في طاعته وعبادته وقدموا أرواحهم وأنفسهم في سبيل تبليغ تعاليمه وهداية الناس إليه ، فمنهم الخليل والكليم وغيرهما الكثير ، وبعد موتهم يلقيهم في جهنم جزاء لخطيئة آدم ( عليه السلام ) وإلى أن يرسل المسيح ( عليه السلام ) ويخلصهم!!

وفي الواقع فأني وقفت متحيرا وذاهلا كيف كنت أقبل مثل هذه العقائد واعتبرها من الأمور المسلمة ، ليس سوى أن الكنيسة قد اعتبرتها وقبلتها وأن كانت مخالفة للعقل والفطرة.

وأختم الحديث عن هذا الموضوع فأقول أن هذه العقيدة مخالفة للكتاب المقدس أيضا ، إذ نجد عكس هذه المسألة تماما في كتاب العهد القديم ، مثلا يقول حزقيل النبي ( ١٨ : ٢٠ ) من أخطأ فهو الذي يموت والابن لا يحمل خطيئة أبيه ، وكذلك الأب لا يحمل خطيئة ابنه ، فالبار سيحاسب على بره ، والشرير سيحاسب على شروره. وغيرها الكثير ، ولأني تعمدت الاختصار قدر الإمكان في هذا الكتاب اكتفي بهذا المقدار ، على أني سأتوسع في البحث في هذا


الموضوع في رسالة مستقلة بإذن الله ، ونفرق هناك بين الخطيئة الفردية والجماعية كما يزعم المسيحيون وكما يفسرون مثل هذه الكلمات في الكتاب المقدس.


من هو المسيح (ع)؟

السؤال المهم الذي يطرح في العقيدة المسيحية هو : من هو المسيح ( عليه السلام ) وللإجابة عن هذا السؤال نلجأ إلى الكتاب المقدس ( العهد الجديد ). فيعرف لنا المسيح ( عليه السلام ) بأنه ( ابن الإنسان ، ابن الله ، الله المتجسد ) فالعهد الجديد يعطي هذه الألقاب للمسيح ( عليه السلام ) ، ونحن هنا بدورنا نستعرض هذه الأسماء لنرى هل نستطيع أن نوفق بين كل هذه الصفات والألقاب بأن تكون لكائن واحد لا غير؟

ابن الإنسان

من يطالع العهد الجديد بدقة يجد أن المسيح ( عليه السلام ) يؤكد على هذا اللقب له بصورة كبيرة ، وأني هنا أقدم إحصاء بسيطا عن هذا اللقب في الأناجيل الأربعة : فقد ذكر المسيح ( عليه السلام ) حسب إنجيل متي هذا الاسم ( ٢٧ مرة ) لا حظ متي : ( ٨ : ٢١ ، ٩ : ٦ ،


١٠ : ٢٣ ، ١١ : ١٩ ، ١٢ : ٨ ، ١٣ : ٣٢ ، ١٣ : ٤١ ، ١٣ : ٣٧ ، ١٣ : ٤٠ ، ١٦ : ١٤ ، ١٦ : ٢٧ ، ١٧ : ٩ ، ١٧ : ١٢ ، ٢٤ : ٢٨ ، ٢٤ : ٤٠ ، ٢٥ : ١٣ ، ٢٥ : ٣١ ، ٢٦ : ١ ، ٢٦ : ٢٣ ، ٢٦ : ٤٦ ، ٢٦ : ٦٤ ).

وحسب إنجيل مرقس ( ١٢ مرة ) أنظر مرقس : ( ٢ : ١٠ ، ٢ : ٢٨ ، ٨ : ٣١ ، ٩ : ١٠ ، ٩ : ٣١ ، ١٠ : ٣٣ ، ١٠ : ٤٤ ، ١٣ : ٢٥ ، ١٤ : ٢١ ، ١٤ : ٤١ ، ١٤ : ٦٢ ). وحسب إنجيل لوقا ( ٢١ مرة ) أنظر لوقا : ( ٥ : ٢٤ ، ٦ : ٥ ، ٧ : ٣٤ ، ٩ : ٢٢ ، ٩ : ٤٥ ، ١١ : ٣٠ ، ١٢ : ٨ ، ٢ : ١٠ ، ٦ : ٢٢ ، ٩ : ٥٦ ، ٩ : ٥٧ ، ١٢ : ٤٠ ، ١٧ : ٢٢ ، ١٧ : ٢٥ ، ١٧ : ٢٦ ، ١٧ : ٣٠ ، ١٨ : ٨ ، ١٨ : ٣٢ ، ١٩ : ١٠ ، ٢١ : ٢٧ ، ٢١ : ٣٦ ، ٢٢ : ٢٢ ، ٢٢ : ٤٨ ، ٢٢ : ٦٨ ).

وحسب إنجيل يوحنا ( ١٠ مرات ) أنظر يوحنا ( ١ : ٥١ ، ٣ : ٣١ ، ٥ : ٢٧ ، ٦ : ٢٧ ، ٦ : ٥٣ ، ٦ : ٦٣ ، ٨ : ٢٨ ، ١٢ : ٢٣ : ١٢ : ٣٤ ، ٣ : ١٤ ).

وأعتقد أن تأكيد المسيح ( عليه السلام ) على أنه ابن إنسان فيه دلالة وإشارة واضحة وجنبته الإنسانية ، فإنه كان يمارس حياته العادية كباقي البشر ، فهو يجوع ويعطش و ينام ويفرح ويتألم ويحتاج في حياته إلى الكثير من الأمور الأخرى ، فهو بتأكيده هذا يريد أن يبين أنه لا يعدو كونه انسانا كسائر الناس ، ولكنه يختلف عنهم بأنه نبي يوحى إليه ، فهو على ارتباط مع السماء ، كباقي الأنبياء.

ولكن المسيحيين يرون في هذا اللقب بعد آخر ، وهو أن المسيح ( عليه السلام ) شاركنا في حالتنا من الاتضاع والألم ، ولكن


بما أنه كان ابن الإنسان ذا الأصل السماوي ، فهو آدم الجديد ، رأس البشرية المجددة فهو آدم السماوي الذي يلبس القائمون من بين الأموات صورته (١).

ويعتقدون أن ابن الإنسان عبارة غامضة توحي بجانب من السمو العالق بشخصية المسيح ( عليه السلام ) وتحجبه في الوقت نفسه. فعبارة ابن الإنسان عند المسيحيين لها شمول أعمق بكثير مما نفترضه للوهلة الأولى ، وهذه العبارة ( حسب المسيحيين ) عندما يتكلم بها يسوع المسيح ( عليه السلام ) فهو يريد أن يحقق بذلك ما كان مذكورا في العهد القديم ، حسب رؤيا دانيال الذي يتحدث عن ابن الإنسان وعن القديم ( يقصد به الله ) محاكما جميع الناس والملوك ( دنيا : ٧ ).

فكان التقليد اليهودي واعيا للميزة الفائقة لابن الإنسان ، ولوجوده السابق للعالم (٢).

ولهذا فهم اليهود من خلال هذا اللقب أنه تجديف كما يذكر ذلك إنجيل متي : ( متي : ٢٦ : ٦٥ : ) ( فأجاب رئيس الكهنة ، وقال له أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله ، قال له يسوع أنت قلت ، وأيضا أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة وآتيا على سحاب السماء ... فقال رئيس الكهنة

__________________

(١) معجم اللاهوت المسيحي : ٣٣.

(٢) المسيح في الفكر الاسلامي الحديث وفي المسيحية : ٢٤٩.


قد جدف ) ، فكان من الواضح لهم أن يسوع كان يدعي أكثر من ذلك ، إذ رفع نفسه إلى درجة الألوهية (١).

وفي الواقع فالانسان يبقى مندهشا عند سماعه لمثل هذا الكلام ، فما معنى أن يكون المسيح ( عليه السلام ) انسانا وابن إنسان ولكنه الله في نفس الوقت وابن الله ، نعم من الممكن أن يصل إلى درجة عالية من القرب الإلهي من خلال العبادة والطاعة لمولاه ، فيقول للشئ كن فيكون ، أما أن يكون الإنسان انسانا وإلها في آن واحد ، فهو مما لا يحتمله العقل البشري.

ابن الله :

أن الكنيسة تعتبر هذا اللقب هو السر الذي يشير إلى حقيقة المسيح ( عليه السلام ) وتصر على تسمية المسيح ( عليه السلام ) به. إذ من خلال قبول هذا اللقب للمسيح ( عليه السلام ) تكتمل فصول عقيدة الفداء والخلاص ، وكذلك عقيدة الثالوث الأقدس ، إذ أن المسيح ( عليه السلام ) في هذا الثالوث هو الاقنيم الثاني.

ومما يثير الدهشة أن المسيح ( عليه السلام ) لم يسم بهذا الاسم ولا مرة واحدة في الأناجيل الموافقة ( متي ، مرقس ، لوقا ) ، بل كما رأينا فهو دائما يطلق على نفسه ابن الإنسان ، وما تذكره الأناجيل لهذه

__________________

(١) نفس المصدر.


التسمية ( ابن الله ) هو إما من تعبير الكاتب ، أو يذكره نقلا عن لسان آخرين ، بل كان كل الذي ذكره في بعض المواضع من هذه الأناجيل هو أنه يشير إلى الله سبحانه بكلمة أبي ، والتي سوف نتعرض لها من خلال البحث.

نعم حسب إنجيل يوحنا فإنه يسمي نفسه ( ابن الله ) في ثلاثة مواضع ، وكذلك يشير إلى نفسه بالابن وإلى الله بالأب في بعض كلامه ، ويعتقد المسيحيون أن هذا اللقب ليس مجازيا في حق المسيح ( عليه السلام ) بل هو حقيقي.

وبعد تدوين العهد الجديد أعلنت ألوهيته بشكل علني ورسمي ، فالإيمان المسيحي يعلن أن يسوع هو ابن الله ، وهو الله ذاته (١).

ولكن بالرغم من هذا فهم يعتقدون أن الله الأب له امتيازات عن الابن السماوي له ، ( فإن كانت كرامة يسوع تجعله مساويا لله ، فإن هذا لا يمنع الأب من الاحتفاظ بامتيازاته الأبوية ، بشهادة المسيح ( عليه السلام ) نفسه ، وشهادة كتبة العهد الجديد ، فالأب مصدر كل الأشياء وغايتها ، ولذا فالابن الذي لا يعمل إلا تبعا له سيخضع له في آخر الأزمنة ، خضوعه لرأسه ) (٢).

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ٢٣٣.

(٢) معجم اللاهوت المسيحي : ٢٤.


والحديث عن ابن الله سيقودنا طبيعيا إلى البحث عن الثالوث الأقدس ، ونقف هنا عند سر الأسرار ( الثالوث الأقدس ) ونبينه من وجهة نظر المسيحيين. ثم نناقش مسألة ( ابن الله ) والتثليث معا إن شاء الله.


الثالوث الأقدس

أن عقيدة الثالوث الأقدس تعتبر السر الأول في العقيدة المسيحية ، فهي الأساس الذي بنيت عليه المسيحية ، كما أن التوحيد هو الأساس في الإسلام ، فنحن في كل عمل كنا نقوم به نبدأ ( باسم الأب والابن والروح القدس ) وهو أول شئ تعلمته منذ نعومة أظفاري ، فعند الأكل نبتدأ به ، وعند الدخول إلى الكنيسة وعند الصلاة ، ولهذا لا أعتقد أن هناك عقيدة مترسخة في نفس كل مسيحي كعقيدة التثليث ، ولكن بالرغم من هذا ففهمها مشكل جدا ، بل مستحيل فنحن نعتقد أن التثليث ولأنه يرتبط بحقائق إلهية فائقة الوصف ، فهو بعيد عن متناول عقل الإنسان ، ولذا فهو يبقى سراغا مضا لا يفهم. فهو فوق الادراك البشري.

وقبل الدخول في البحث عن هذه العقيدة ، لا يفوتني أن أذكر من أن المسيحيين لا يعتقدون بثلاثة آلهة كما يتصور البعض ، بل هم يؤمنون بإله واحد له ثلاثة أقانيم وهي ( الأب والابن والروح القدس ).


في الواقع أن كلمة ( التثليث أو الثالوث ) لم ترد في الكتاب المقدس ، ويظن أن أول من صاغها واستعملها هوترتوليان في القرن الثاني للميلاد ، ثم ظهر سبيليوس في منتصف القرن الثالث وحاول أن يفسر العقيدة بالقول أن التثليث ليس أمرا حقيقيا في الله ، لكنه مجرد إعلان خارجي ، فهو حادث مؤقت وليس أبديا ثم ظهر أريوس الذي نادى بأن الأب وحده هو الأزلي بينما الابن والروح القدس مخلوقان متميزان عن سائر الخليقة ، وأخيرا ظهر أثناسيوس الذي وضع أساس العقيدة ( الثالوث الأقدس ) (١) وبعد مناقشات وتشاجرات بين علماء المسيحية وكبار قادة الكنيسة الذين افترقوا بين مؤيد لأريوس ، ومؤيد لأثناسيوس دفعت بالامبراطور قسطنطين إلى الدعوة لعقد أول مجمع مسكوني في عام ٣٢٠ ميلادي في نيقية ـ وحضر هذا الاجتماع أكابر العلماء والأساقفة ، وبعد شهر أو أكثر من النقاش والجدال ، انتصرت عقيدة أثناسيوس وكسبت أكثر الآراء ، وتم تشكيل عقيدة التثليث والتي نصت على ما يلي :

نحن نعبد إلها واحدا في الثالوث ، والثالوث في التوحيد لأن هناك شخصا للأب وآخر للابن وأخر لروح القدس ، أنهم ليسوا ثلاثة آلهة ولكن إله واحد. فكل الأشخاص الثلاثة هو أزليون معا و متساوون معا ، وهكذا فإن الإنسان الناجي هو ذلك الذي يعتقد

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ٢٣٢.


بالثالوث (١).

ولقد تبلور قانون الإيمان الاثناسيوسي على يد أغسطينوس في القرن الخامس ، و صار القانون عقيدة الكنيسة الفعلية من ذلك التاريخ إلى يومنا هذا. ففي عام (٤٥١) الميلادي وفي مجمع خلقيدونيا المسكوني تم إقرار التثليث على أنه موثوقة رسمية ولا تقبل المناقشة ، والكلام ضد الثالوث يعتبر كفرا ومن يقترفه يستحق الموت أو التشويه.

ولكن استمر الاصلاح في هذه العقيدة وترميمها وتطويرها ، إذ يعترف المسيحيون أن هذه العقيدة بحاجة إلى تنبير ولا يستطيع دارس هذه العقيدة أن ينسى المصلح جون كلفن ، الذي عاش في القرن السادس عشر ، ونبر على التساوي التام بين الأقانيم الثلاثة في هذه العقيدة ، التي يلزمها مثل هذا التنبير من وقت إلى آخر على مر الزمن ) (٢).

والقانون الذي وضعته الكنيسة ( قانون الإيمان ) يشير بوضوح إلى هذه العقيدة.

وأذكر أني حفظت ( قانون الإيمان ) في فترة ( التناول ) في سن

__________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٧.

(٢) قاموس الكتاب المقدس : ٢٣٣.


التاسعة تقريبا ونصه هو :

أؤمن باله واحد ، أب ضابط الكل خالق السماء والأرض وكل ما يرى وما لا يرى ، وأؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور ، إله من إله ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، مولود غير مخلوق ، مساو للأب في الجوهر ، الذي به كان كل شئ ، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد بالروح القدس ومن مريم العذراء ، وصار انسانا وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي ، تألم وقبر ، وقام في اليوم الثالث كما في الكتب ، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب ، وسيأتي بمجد ليدين الأحياء والأموات الذي ليس لملكه انقضاء. وأؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب والابن ، الذين هو مع الأب والابن ، يسجد له ويمجد ، الناطق بالأنبياء ، وأؤمن بكنيسة واحدة مقدسة جامعة ورسولية ، واعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا ، وأترجى قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي ، آمين ) (١).

فالمسيحيون يلخصون عقيدة التثليث في النقاط الستة التالية :

١ ـ الكتاب المقدس يقدم لنا ثلاث شخصيات يعتبرهم شخص الله.

٢ ـ هؤلاء الثلاثة يصفهم الكتاب بطريقة تجعلهم شخصيات

__________________

(١) أنظر كتاب تعاليم الكتاب المقدس : ص ٦٠.


متميزة الواحدة عن الأخرى.

٣ ـ هذا التثليث في طبيعة الله ليس مؤقتا أو ظاهرا بل أبدي وحقيقي.

٤ ـ هذا التثليث لا يعني ثلاثة آلهة بل أن هذه الشخصيات جوهر واحد.

٥ ـ الشخصيات الثلاث الأب والابن والروح القدس متساوون.

٦ ـ لا يوجد تناقض في هذه العقيدة (١).

والمسيحيون يؤكدون على التوحيد ، وأن خالق هذا العالم والذي يدير شؤونه هو واحد لا أكثر ، ولكن في تعريفهم لحقيقة هذا الواحد يقولون أنه يتألف من ثلاثة أقانيم أو أشخاص وهم ( الأب والابن والروح القدس ) وهم متساوون في القدرة والمجد.

ويؤكدون أن هذه المعرفة كانت تدريجية ، فالله سبحانه لم يكشف عن نفسه مرة واحدة ، لشدة نوره الذي يبهر العيون ، بل تمت معرفته في يسوع المسيح ( عليه السلام ) ، فالخالق العظيم كانت حقيقته مجهولة للإنسانية ، ولم يستطع أحد التعرف على كنهه ، وبمجئ المسيح ( عليه السلام ) كشف ربنا عن كنهه وحقيقته بتجسده في

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ٢٣٢.


عيسى المسيح ( عليه السلام ) (١).

وأما إثبات هذه العقيدة من الكتاب المقدس ، ( والكلام للمسيحيين ) فالعهد القديم لم يوضح الثالوث الأقدس ، بل كان جل اهتمامه وهدفه هو أن يركز مفهوم وحدانية الله سبحانه في نفوس بني إسرائيل ، وكفهم عن عبادة الأوثان ، وهذا الموضوع احتاج إلى وقت طويل ليفهمه ويعتقده هذا الشعب ، فنحن نرى أن موسى ( عليه السلام ) عندما صار إلى ميقات ربه فتأخر ، رجع بني إسرائيل إلى عبادة العجل الذهبي ، فكانت عبادة الأوثان ما تزال مؤثرة في نفوسهم ، ولهذا فمن يطالع العهد القديم يرى بوضوح أن وحدانية الله بارزة في أكثر تعاليمه بل هي أول الوصايا ، كما ذكر في ( تث : ٦ ـ ٤ ) ( اسمع يا إسرائيل أن الرب إلهنا رب واحد ).

ولذا فنحن لا نعثر في العهد القديم على أي إشارة إلى هذا الثالوث ، نعم استعملت في العهد القديم كلمة ( الأب ) وأرادوا به الله سبحانه ، فهو أب الأبرار والصالحين ولكن كان يفهم منها المعنى المجازي لا الحقيقي ، وكذلك كلمة الابن هي الأخرى استعملت في العهد القديم وأيضا كان يفهم المعنى المجازي لا البنوة الحقيقية ، والروح القدس هو الآخر مذكور كثيرا ، ولكن له معاني كثيرة مختلفة ، إذ كان يقصد منه مثلا ، نفخة الحياة ، النفس ، الريح ، وغيرها ... وكأن الله

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ٢٥٨.


سبحانه ( والقول للمسيحيين ) كان يهئ البشرية للخطة النهائية التي سيكشف فيها عن نفسه بأنه ( أب ، وابن ، وروح القدس ) في العهد الجديد (١).

وعند مجئ المسيح ( عليه السلام ) أكد هو الآخر على وحدانية الله سبحانه وذلك من خلال ما نجده في العهد الجديد ، مثلا نرى في جوابه لأحد الكتبة عن أول الوصايا ، قال : ( الوصية الأولى هي اسمع يا إسرائيل أن الله ربنا رب واحد ) ( مر : ١٢ : ٢٩ ).

وهو بمجيئه هذا كشف السر الإلهي الذي يصعب على عقل الإنسان تصوره وفهمه ، ولكن المسيح ( عليه السلام ) أيضا أخذ يكشف ذلك السر تدريجيا ، فاستعمل كلمة ( الأب ) وأراد بها الله سبحانه وتعالى ، فهو أب لجميع المؤمنين والأبرار والصالحين ، وهو الأب الرحيم العطوف بأبنائه وخلقه ، أنظر ( متي : ٣٠١٠ ، ٥ ـ ١٦ ) ( مر : ١١ : ٢٥ ـ ٢٦ ) وغيرها.

ولكنه ( حسب المسيحيين ) استعمل هذه الكلمة بالمعنى الحقيقي عندما كان يخاطب الله ويقول ( أبي ) انظر ( متي : ١١ : ٢٥ ـ ٢٧ ) و غيرها ، فالله الأب هنا هو الأب الخاص للمسيح ( عليه السلام ) فانتقل اللفظ من المعنى المجازي إلى المعنى الحقيقي في شخص يسوع ( عليه السلام ) ، فكان لفظ الأب إشارة إلى الأقنيم الأول!

________________________

(١) نفس المصدر : ٢٥٨.


وأما كلمة الابن فقد أشرنا إليها سابقا ، فالمسيح ( عليه السلام ) أيضا استخدم كلمة أبناء الله ، في حق المؤمنين انظر ( متي : ٥ : ٩ ) ( ٥ : ٤٥ ) وغيره ، ولكنه أراد منها المعنى المجازي ، في حين أنه عندما استعملها لنفسه فإنه أراد بها المعنى الحقيقي ، فهو الابن الخاص والوحيد للباري تعالى! أنظر ( يو : ٩ ـ ٣٥ ) ( ١٠ : ٣٧ ) وغيرها.

وأما روح القدس فهو الآخر مذكور في العهد الجديد ، ولكنه لم يفهم منه أنه أحد الأقانيم الثلاثة المؤلفة لله سبحانه ، إلا يوم العنصرة إذ تجلى بوضوح في ذلك اليوم ( أي عند نزول الروح القدس ) (١).

فنحن رأينا أن الأقانيم الثلاثة مذكورة في العهد الجديد وهي منفصلة.

وأما أنه هل ذكرت أسفار العهد الجديد هذه العقيدة الأساسية في المسيحية بوضوح أم لا؟ نقول : نعم هناك إشارة واحدة فقط صريحة في الأناجيل تشير إلى التثليث أنظر إنجيل ( متي : ٢٨ : ١٩ ) وهي اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم ، وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس.

نعم كانت هناك إشارة أخرى في إنجيل يوحنا ( ٥ : ٧ ) ولكن الباحثين اعترفوا في القرن التاسع عشر بأن كلمات ( أب ، وابن ، وروح

________________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ٢٧٠.


القدس ) هي استنتاجات ، وأن نصا بهذا لم يعثر عليه في النسخ القديمة ، ولذلك فإن هذه الكلمة قد حذفت من إنجيل يوحنا ، فلا توجد في نسخ العهد الجديد المعاصرة (١).

وأيضا ، يزعم بعض المسيحيين أن في رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس ، إشارة واضحة إلى التثليث وهي ( ٢ كو : ١٣ : ١٤ ) نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم ولكن الأقانيم غير مذكورة بالاسم.

وفي الواقع فإن عقيدة التثليث لم تذكر بشكل صريح في العهد الجديد إلا في إنجيل متي ، ولذا نجد أن المسيحيين يعترفون بهذه المسألة هم أيضا ، فإن لفظة التثليث والثالوث ، غير مذكورة ويقدمون تعليلا لذلك فالعهد الجديد لا يحتوي على ألفاظ ( ثالوثية ) وليس هناك نصوص تأتي بعقيدة يعبر عنها بألفاظ مجردة ، بل إن الله كشف عن حياته الخاصة بتدبيره الخلاصي حيث يدنو البشر من الأب في الروح والابن (٢).

ولا يفوتني هنا أن أذكر أن التثليث له جذوره العميقة في التاريخ ، فهو ليس وليد المسيحية ، بل كان منتشرا في مصر وفلسطين والصين والهند وغيرها من البلاد قبل مجئ المسيح ( عليه

________________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٥.

(٢) معجم الإيمان المسيحي (١٦٤).


السلام ) وأهم قصة للتثليث مشابهة تقريبا للعقيدة المسيحية ، هي أسطورة ( أوزيريس ) المصرية وتقول هذه الأسطورة أن ( أوزيريس ) قتله أخاه ( ست ) ، وعثرت ( أيزيس ) على جسده فحنطته ، ثم قام من بين الأموات ، وأصبح إله العالم السفلي ، وحملت ( أيزيس ) من ( أوزيريس ) بعد موته ، وولدت له هورس ، وكانت عبادة الإله ( أوزيريس ) في مصر في عصر البطالسة.

ودفع هذا التشابه إلى قول بعض الآباء المسيحيين الأوائل أن في ديانة ( أوزيريس ) تمهيد الطريق وإعدادها لمجئ الإنجيل ، إلا أن القصة المصرية ، قصة الإله الذي مات وقام أسطورة وخرافة ، أما سجل حياة يسوع المسيح ( عليه السلام ) وموته وقيامته كما ورد في الإنجيل فهو سجل تاريخي وواقعي (١).

في الواقع هذا عرض إجمالي لعقيدة الثالوث الأقدس عند المسيحيين الذين يعتقدون أن الله سبحانه قد تجسد في شخص المسيح ( عليه السلام ) ومعنى قولهم أن ( الكلمة ، الله ) قد تجسد ، أي أن الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس صار جسدا ، واتخذ الطبيعة البشرية ، فصار يشبهنا في كل شئ ( ما عدا الخطيئة ) والكلمة صار جسدا ، وحل بيننا ( يو : ١ : ١٤ ).

فإن الله ليكشف عن نفسه نزل إلى الأرض ، والتقى الإنسان

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ٩٠٤.


بالصورة البشرية ، فقد زار الله شعبه في يسوع المسيح ( عليه السلام ) بل زار البشرية كلها (١).

ولكنه إذ أصبح انسانا بشرا ، فهذا الأمر لم يخسره شيئا من ألوهيته ، فلقد اكتفى أن يخفيها ويسترها متخليا وقتيا عن أمجاده الإلهية التي كانت في سلطته وحوزته (٢).

ولنا هنا بعد هذا العرض لعقيدة الثالوث الأقدس ، تساؤلات وإشكالات نوردها ونبين مدى صحة هذه العقيدة ، عقلا ونقلا من العهد الجديد نفسه .. كما سأتجنب التعرض للمباحث الفلسفية في هذا العرض ، بل أقدمه بشكل سهل لا يصعب فهمه فنقول :

أولا : أن أول إشكال يواجه الباحث في عقيدة اللاهوت المسيحي ( الثالوث الأقدس ) والتبني والتجسيد عامة ، هو أن المسيحيين يغلقون باب العقل ويعطلونه ، فهم يتمسكون بأن هذه العقيدة لا يمكن أن يمسها العقل والادراك البشري ، بل هي فوقهما ، فهي سر لا يفهم إلا بالإيمان الحقيقي والثابت بالمسيح ( عليه السلام ).

وهنا أقدم مقدمة بسيطة لتوضيح مسألة مهمة وهي : أن الأمور والقضايا التي تواجهنا لا تخرج عن ثلاث حالات حسب العقل وهي :

١ ـ ما هو موافق للعقل : وهي الأمور التي يقبلها العقل ويذعن

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ٣١٢.

(٢) نفس المصدر : ٢٧٢.


لها ، كالقضية القائلة بأن الجزء أصغر من الكل ، فالعقل البشري يوافقها ويصدقها.

٢ ـ ما هو مخالف للعقل : وهي الأمور التي يرفضها العقل ويحكم ببطلانها ، كاجتماع النقيضين أو ارتفاعهما ، فالعقل يرفض هذه القضية مطلقا ، مثلا أن نقول ( زيد موجود وليس بموجود في نفس الوقت ) فالعقل هنا يؤكد استحالة مثل هذه القضية ، فهي من المحالات العقلية ، فأما أن يكون زيد موجودا أولا.

٣ ـ ما هو فوق العقل : وهي الأمور والحقائق الغيبية التي تقصر يد العقل عن تناولها والوصول إليها : فإن هناك أمورا فوق العقل ، ولولا أخبار الوحي الإلهي عنها لم يكن للانسان أن يتعرف عليها ، كبعض الأحكام الشرعية وكيفيتها ، وكذلك الرابطة بين الأفعال الاختيارية للانسان في الحياة الدنيا ونتائجها الأخروية ، فهذه الرابطة يعجز العقل عن إدراكها فهي لا تدخل في دائرته لأنها ترتبط بعالم الغيب ، وغيرها من الأمور ..

ولكن بقي هنا مسألة مهمة وهي أن القضايا التي هي فوق العقل والادراك البشري ، يجب أن لا تدخل تحت الشق الثاني ، أي أن لا تكون مخالفة للعقل وإلا صارت من المحالات التي يرفضها العقل ويبطلها ، وهذا ما نجده بالضبط في عقيدة التثليث (١).

__________________

(١) راجع الميزان في تفسير القرآن ج ٣ / ص ٣٥٥.


فالمسيحيون حينما يواجهون هذه الإشكالات العقلية حول هذه العقيدة ، يلجأون إلى لجم العقل وتعطيله بالقول أن العقل قاصر عن إدراك مثل هذه المسائل ، لأنها من عالم الغيب الذي لا حظ للعقل فيه ، ولأن الوحي قد جاء بها فيجب قبولها والاذعان لها ، وإن كانت مخالفة للعقل ، ويؤكدون أن الكثير من المسائل الدينية يحيلها العقل ، وتقبل تعبدا وهذه العقيدة منها.

وهذا الجواب فيه تناقض صريح ، إذ كيف يستطيع الإنسان أن يميز دين الحق عن الباطل ، أليس بالعقل؟ وحتى المسيح ( عليه السلام ) وتلاميذه فأنهم كانوا يجادلون ويناقشون اليهود بالأدلة والاستدلالات لكي يثبتوا أن المسيح ( عليه السلام ) مرسل من الله سبحانه ، وأنه يدعوهم إلى أتباع العقل من خلال تطبيق ما تنبأ به العهد القديم بالنبي الموعود وحياة المسيح ( عليه السلام ) فهو النبي المنتظر والموعود حسب ما يدعيه المسيحيون .. فإذا كان العقل له الدور الرئيسي في تشخيص الدين الحق من الباطل ، فكيف يقبل بعقيدة تشتمل على محالات وتناقضات يرفضها؟

وأما كيفية مخالفتها للحق فهي واضحة وبينة ، وقد اعترف بها عدة من علماء التثليث ، فالواحد حقيقة لا يمكن أن يكون ثلاثة حقيقة ، فالمسيحيون كما ذكرنا يؤمنون بثلاثة أشخاص وأقانيم حقيقية متميزة الواحد عن الآخر ولكنهم متساوون في الجوهر ، فهل يعقل أن يكون الواحد ثلاثة والثلاثة واحد!!!


وأيضا يستلزم منه التركيب ، فالإله الواحد مركب من ثلاثة أجزاء ، وعلى هذا فهو بحاجة إلى أجزائه لتكتمل ألوهيته ، والاحتياج والتركيب ينافيان الغنى والبساطة والتي هي من صفات الإله ( واجب الوجود ).

إضافة إلى هذا فإن الله سبحانه بسيط الذات من جميع الجهات فيستحيل انفصال شئ منه ( كما يدعي المسيحيون ) ، وحلوله في مخلوق أو اتحاده معه ، كما أن ذلك يلزم أن يكون الإله عرضة للتغير والتحول وهو مستحيل ... وغيرها من الإشكالات الفلسفية الكثيرة التي تواجه هذه العقيدة المتناقضة ..

ثانيا : إضافة إلى ما ذكرنا فإن نسبة هذه العقيدة إلى المسيح ( عليه السلام ) والوحي الإلهي هي الأخرى غير صحيحة ، فكما أشرنا في بحثنا للثالوث الأقدس ، تبين أن هذه العقيدة لم ينطق باسمها أحد ، ولم تظهر إلى الوجود إلا في القرن الثاني وعلى لسان ( ترتوليان ) ، فالمسيح ( عليه السلام ) والرسل والتلاميذ لم يشيروا إلى هذه العقيدة ، وقول المسيحيين بأن المسيح ( عليه السلام ) وبعض الرسل ، ولا سيما بولس ، كانوا قد هيأوا العناصر الأساسية للعقيدة ، وأن العلماء وآباء الكنيسة لم يقوموا بشئ سوى أنهم أطلقوا اسم الأقنوم على الأشخاص الثلاثة وأظهروا هذه العقيدة بوضوح ، هو الآخر مجرد ادعاء ، إذ أنه إلى القرن الرابع الميلادي لم تكن هذه العقيدة محط نظر المسيحيين ومورد اعتمادهم ، ومن الأصول المهمة في العقيدة


المسيحية.

وكما أوردنا فإن المؤسس العلني لها وبشكلها الموجود الآن هو ( أثناسيوس ) ، ولم تقبلها الكنيسة إلا بعد مناقشات وجدال طويل في مجمع نيقية سنة ٣٢٥ ميلادي ، وأعدتها في هذا القالب الذي بين أيدينا الآن ، فهي نتيجة الخيال البشري ، ولهذا فأنا نجد فيها التناقض الكثير ( حتى أنه قيل أن ( أثناسيوس ) وهو الأب الذي صاغ هذه العقيدة قد أعترف بأنه كلما كتب أكثر حول هذه المسألة أصبح أقل قدرة على التعبير بوضوح عن أفكاره بخصوصها ) (١).

فالقول بأن هذه العقيدة يجب أن تقبل لأن الوحي قد جاء بها أمر غير صحيح أطلاقا والدليل على ذلك أن علماء المسيحية أنفسهم كانوا مختلفين فيها ، والباحث في المذاهب المسيحية في القرنين الأول والثاني ، يجد كثرة الآراء المتضاربة حول شخصية المسيح ( عليه السلام ).

بل وحتى بعد قبول هذه العقيدة رسميا ، ومعاقبة كل مخالف لها ، وبالرغم من عمليات تفتيش العقائد ، والقتل والسجن التي مارستها الكنيسة ، والتي يذكرها التاريخ ، فإن صيحات المعارضة لها كانت تعلو بين الحين والآخر ، معلنة بأن هذه العقيدة غير مقبولة عقلا ، وأن المسيح ( عليه السلام ) لم ينطق بها.

__________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٨.


ثالثا : لو رجعنا إلى كتب العهد القديم لنرى من هو الإله ( الله ) وما هي صفاته التي تنعته بها ، لوجدنا أن ما يقوله المسيحيون مخالف للعهد القديم الذي يعتبرونه كلام الله الموحى ، وحتى لو قلنا بأن الله سبحانه لم يعرف نفسه في العهد القديم بشكل تام ، بل تم ذلك في العهد الجديد بالمسيح ( عليه السلام ) ، لا يمكننا القول بأن العهد الجديد يناقض ما جاء به العهد القديم ، فهو متمم له حسب ادعاء المسيحيين.

فالله في العهد القديم هو ( الموجود الذي ليس له بداية ولا صيرورة فهو الأول والآخر ) ( أشعيا : ٤١ : ٤ ، .. ) وهو ( الخالق المدبر ، فالعالم كله من صنعه وخلقه جل وعلا ، وتحت أمرته وتدبيره ، وهو الحي الذي لا يموت أبدا فهو يختلف عن الإنسان ( لأني أنا الله لا إنسان ) ( هو شع ١١ : ٩ ) ، وأيضا فهو سبحانه لا شبيه له ، فهو يحرم كل تصوير له ، وكل صورة يجعلها الإنسان له فهي وثن ، فليس من شئ يشابهه ( أشعيا : ٣١ : ٣ ) (١).

وغيرها من الأوصاف الكثيرة التي يذكرها العهد القديم لله سبحانه وتعالى ، والتي تخالف ما يدعيه المسيحيون في عقيدة الثالوث ، فإذا ما قايسنا بين هذه الأوصاف والنعوت وبين ما يعتقده المسيحيون من أن الله سبحانه وتعالى قد تجسد في صورة إنسان ،

__________________

(١) راجع معجم اللاهوت الكتابي : ص ٩.


وصار انسانا ، يجد التناقض الواضح بين العهد القديم والاعتقاد المسيحي ، فالخالق والصانع لكل العالم ، صار مخلوقا ، والحي الذي لا يموت ، صلب ومات ، والأزلي الذي لا بداية له ولا صيرورة ، ولد من أحشاء امرأة ، والذي ليس كالانسان أصبح انسانا يأكل ويشرب وينام ويحزن ويفرح ، والغني المطلق يحتاج إلى غيره لإدامة حياته ، والعشرات من التناقضات الأخرى ، والتي يرفضها العقل والوجدان ، وتنتقص من قدسية الخالق المتعال الذي ليس كمثله شئ.

رابعا : إذا سلمنا للمسيحيين وقلنا بأن الله ( سبحانه ) له أقانيم ثلاثة ، نتساءل : هل هذه الأقانيم متساوية أم لا؟ والجواب يكون كما يذكره المسيحيون ، نعم كلها متساوية في الجوهر والقدرة والمجد ...

ولكننا نرى أيضا أن العهد الجديد يؤكد أن المسيح ( عليه السلام ) ( الأقنوم الثاني ) يبقى خاضعا للأب بشهادة المسيح ( عليه السلام ) أنظر ( متي : ١١ : ٢٧ ) وهو لا يعلم الساعة ( القيامة ) بل الأب وحده يعلمها ( ٢٤ : ٣٧ ) ، والأب هو مصدر كل الأشياء وغايتها ( اكو ٨ : ٦ ) والابن لا يعمل إلا تبعا للأب ( يو ٥ : ١٩ ) والأب أعظم من الابن ( يو : ١٤ : ٢٨ ) وغيرها ...

فهذا يؤكد أن الأقانيم الثلاثة غير متساوية أطلاقا ، فالأب هو الأصل والمصدر الوحيد للقدرة ، والابن ليس له القدرة والقابلية على القيام بشئ دون إذن الأب ، فالأب لا يحتاج إلى الابن ولا إلى غيره


في شئ ، إذن نستطيع أن نقول أن الأب مستغن عن الابن دون العكس.

و هذا هو الذي يقبله العقل ويؤيده العهد الجديد ، وعلى هذا فإن الله سبحانه هو الأب وحده فهو لا يحتاج إلى شئ إطلاقا ، وأما الابن فهو مخلوق له وخاضع وتابع إليه ، لا يفعل إلا ما يأمره الأب به ، ومن يطالع العهد الجديد يلمس هذه المسألة بوضوح ..

فكيف يصح أن نقول أن الابن ( الأقنوم الثاني ) هو مساو للأب في الجوهر والألوهية والقدرة والمجد ، وهو في نفس الوقت خاضع إليه في كل شئ ، فأين ألوهيته؟؟؟

خامسا : أن العهد الجديد كثيرا ما يذكر الله سبحانه بأنه أب لجميع المؤمنين والصالحين والأبرار ، فهذا المسيح ( عليه السلام ) يقول ( أبيكم الذي في السموات ) ( متي : ٦ : ٢ : ) ، وفي صلاتنا اليومية كنا نقول كما علمنا المسيح ( عليه السلام ) أن نصلي أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك ( متي : ٦ : ٩ ) وكذلك أيضا ( متي : ٦ : ١٤٩ ) ( فإن غفرتم للناس يغفر لكم أبوكم السماوي ) وغيرها الكثير.

وأيضا يعترف العهد الجديد بأن المؤمنين هم أبناء الله ، أنظر ( متي : ٥ : ٩ ) ( طوبى لصانعي السلام ، لأنهم أبناء الله يدعون ) وكذلك ( لو : ٢٠ : ٣٦ ) ( لأنهم مثل الملائكة ، وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة ) وغيرها. فلماذا يدعي المسيحيون بأن هذه الأسماء كلها تحمل على المعنى المجازي لها ، ولكن حين يقول المسيح ( عليه السلام ) ( أبي )


إشارة إلى الله سبحانه ، فإنه يستعمله في المعنى الحقيقي ، ويجيبون على ذلك بقولهم : ( أن المسيح ( عليه السلام ) أجرى الكثير من المعجزات كإحياء الموتى ، وإشفاء المرضى وغيرها ) ، فإذا قلنا بأن الأنبياء أيضا جرت على أيديهم المعاجز مثل إيليا وأليشع وموسى وغيرهم ، قالوا ( نعم ، ولكن الطريقة التي كان يجري بها المعاجز تميزه عن باقي الأنبياء صانعي العجائب ، فالآخرون كانوا يصنعون المعجزات بقدرة الله وسلطانه ، في حين أن المسيح ( عليه السلام ) كان يجريها بسلطته الخاصة ، وذلك بإشارة واحدة ، أو حركة ، وغالبا بلكمة كان مفعولها يتم حالا ولهذا فإنه كان يظهر ألوهيته من خلال هذه المعاجز (١) ...

ولكن هذا الكلام مخالف للعهد الجديد ولتعاليم المسيح ( عليه السلام ) الذي يعترف مرارا بأنه لا يفعل هذه المعاجز باستقلاليته وقوته الخاصة بل بمشية أبيه وربه حيث يقول أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا ، كما أسمع أدين ودينونتي عادلة ، لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الأب الذي أرسلني ( يو : ٥ : ٣٠ ) وكذلك هذا ما يذكره لوقا في إنجيله أنظر ( لو : ١١ : ٢٠ ) أن كنت بأصبع الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله فالاصبع إشارة إلى القدرة الإلهية كما هو واضح.

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ٢٣٦.


والإشارة الأكثر وضوحا نجدها في ( أعمال الرسل ) وعلى لسان وصيه ( بطرس ) حيث يقول : أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال ، يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله ، بقوات وعجائب وآيات ، صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضا تعلمون ( أعمال الرسل : ٢ : ٢٢ ). وغيرها ، فهل يبقى مجال لمدعي أن يقول أن المسيح ( عليه السلام ) كان يجري المعجزات باستقلالية وبسلطته الخاصة؟! فلا معنى لفهم كلمة ( أب ) و ( وابن الله ) بالمعنى الحقيقي لشخص عيسى ( عليه السلام ).

سادسا : مما تبين سابقا فإن هذه الأقانيم الثلاثة لم تذكر مجتمعة إلا في موضع واحد ، وهو في آخر إنجيل متي ، فهو بعد ما يتحدث عن قيامة المسيح ( عليه السلام ) من بين الأموات ، يذكر أنه ( عليه السلام ) ظهر لتلاميذه ، وقال لهم فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم ( باسم الأب والابن والروح القدس ) ( متي : ٢٨ : ١٩ ) ، ويورد على هذا النص ما يلي :

أ ـ هذا النقل مخالف لنقل آخر عن نفس القصة حسب إنجيل مرقس ولوقا ، فمرقس يذكر ( مر : ١٦ : ١٤ ) ( أخيرا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم ، لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام وقال لهم اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. وأما لوقا فإنه ينقل الحديث بشكل آخر مختلف فهو يذكر وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من


الأموات في اليوم الثالث ، وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم. ( لو : ٢٤ : ٤٧ ) ..

فهذه الكلمات التي ذكرها متي إضافية ، ولعلها أضيفت إلى إنجيل متي بعد كتابته بقرون عديدة ، فالإنجيل الذي بين أيدينا هو نسخ عن نسخ ووقوع الزيادة والنقصان غير بعيد ...

ب ـ أن المعمدانية في أيام الكنيسة الأولى كانت تعطى فقط باسم عيسى كما يذكر بولس في رسائله. وبالروح القدس أن يوحنا عمد بالماء وأما أنتم فستعمدون بالروح القدس ( أعمال الرسل : ١١ : ١٧ ).

ج‍ ـ مع تسليمنا بصحة هذا القول فهو يذكر الأقانيم الثلاثة ، دون الإشارة إلى أنها أجزاء كائن إلهي واحد (١).

سابعا : تبقى المسألة المهمة وهي أن المسيح ( عليه السلام ) ومن خلال ما يذكره العهد الجديد ، كان كثير العبادة ، إذ أنه صام أربعين يوما قبل أن يجريه الشيطان اللعين ، وكذلك صلاته الشديدة ، وخلوته للعبادة ، كلها تشير إلى معنى كونه عبدا يؤدي واجبات العبودية لمعبوده وخالقه ، فهل يعقل أن يكون الله سبحانه يسجد ويصلي ويصوم لنفسه فأي عقل يقبل مثل هذه الأفكار!!

__________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ص ٣٤.


وغيرها الكثير من الإشكالات التي كلها تقضي ببطلان هذه العقيدة المتناقضة. فالمسيح ( عليه السلام ) لم يكررها قط ، بل كان يؤكد ( عليه السلام ) أنه ابن الإنسان ، وأنه نبي أما يسوع فقال لهم ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه ( متي : ١٣ : ٥٧ ) ، ويؤكد بأنه ليس صالحا إلا الله وحده لماذا تدعونني صالحا ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله ( متي : ١٩ : ١٧ ) ، فهو ينفي عنه كل ألوهية ، وهو ( عليه السلام ) كان يوصي الذين يشفيهم أن لا يظهروا ذلك وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعا وأوصاهم أن لا يظهروه ( متي : ١٢ : ١٦ ) وغيرها ، إذ كان يخشى أن ينسب الناس إليه شيئا من الألوهية ولذا كان يأمر بإخفاء هذه المعاجز ، وكان يحذر الناس ويقول طوبى للذي لا يعثر في ( متي : ١١ : ٦ ) وذلك بأن ينسب إليه بأنه إله ، أو ابن الله حقيقة ..

فلا يبقى إلا أن نقول بأن هذه العقيدة لم تظهر في زمن المسيح ( عليه السلام ) وهي ليس من تعاليمه ، بل مخالفة لها ، فلا يصح نسبتها إلى الوحي الإلهي.


الشريعة

ومن المسائل المهمة الأخرى في المسيحية ، هي إهمال وإلغاء الشريعة بمجئ المسيح ( عليه السلام ). ولإيضاح المطلب نذكر نبذة مختصرة عن الشريعة ومن ثم نبين كيف رفضها المسيحيون فنقول : ـ الشريعة أو الناموس : هي الشريعة التي جاء بها الكليم موسى ( عليه السلام ) بوحي من الله سبحانه ، أوحى بها إليه في جبل سيناء ، والشريعة الموسوية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء وهي :

أولاً : الوصايا الأخلاقية : تختصرها الشريعة في الوصايا العشر ، وهي الوصايا التي أوحاها الله سبحانه إلى موسى ( عليه السلام ) على جبل سيناء وكتبها في لوحين من حجر. وقد كسر موسى ( عليه السلام ) اللوحين لما غضب على الشعب عند عودته ، ثم أعاد نحتهما من جديد ( خر : ٣٤ : ١ ـ ٥ ). والوصايا العشر هي حسب ما يذكرها سفر الخروج ( خر : ٢٠ ـ ١ )


١ ـ أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر ، من دار العبودية لا يكن لك آلهة سواي.

٢ ـ لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة شئ مما في السماء من فوق .. لا تسجد لها ولا تعبدها ، لأني أنا الرب إلهك إله غيور ...

٣ ـ لا تحلف باسم الرب إلهك باطلا لأن الرب لا يبرر من يحلف باسمه باطلا ...

٤ ـ أذكر يوم السبت وكرسه لي ، في ستة أيام تعمل وتنجز جميع أعمالك ، واليوم السابع سبت للرب ألهك ...

٥ ـ أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض ...

٦ ـ لا تقتل ...

٧ ـ لا تزن ...

٨ ـ لا تسرق ...

٩ ـ لا تشهد على غيرك شهادة زور ...

١٠ ـ لا تشته بيت غيرك ... لا تشته امرأة غيرك ولا عبده ولا جاريته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما له ...

ففي هذه الوصايا تلخيص للخلق المثالي للديانة اليهودية ...

ثانيا : الحقل العبادي : وهي مجموعة الشعائر التي دعا موسى ( عليه السلام ) إلى اتباعها في التقرب إلى الله سبحانه ، وقد أوحى بها


الله سبحانه إليه في جبل سيناء أيضا ، وكان القصد منها تنظيم العبادات والذبائح والتقدمات والمواسم والأعياد والصلوات والصيام والتطهير.

وكانت هذه الشرائع العبادية عرضة للتعديل ، وحسب تطورات الحياة. وموسى ( عليه السلام ) نفسه وضع بعض تعديلاتها بعد ثمان وثلاثين سنة من وضعها ، وهذا فرق أساسي بين الوصايا الأخلاقية والجانب العبادي في الشريعة. فالوصايا العشر ثابتة لا تتبدل لأنها صالحة لكل زمان ومكان ، وأما الطقوس العبادية فهي معرضة لطبيعة الظروف إلى حد بعيد (١).

ثالثا : المعاملات المدنية ( الأسرية ، الاجتماعية ، الاقتصادية ، القضائية ) : وهي كثيرة ومنها قصاص القاتل ( تك : ٨ : ٦ ) والزانية ( تك : ٣٨ : ٢٤ ) والتمييز بين الحيوانات الطاهرة والنجسة ( تك ٨ : ٢٠ ) وعدم أكل ما قدم للأوثان والمخنوقة. وغسل مس الجثة ( عد ١٩ : ١١ ) وغيرها الكثير ..

هذه باختصار الشريعة الموسوية ، ولنرى الآن موقف المسيح منها من خلال العهد الجديد ..

فالمسيح ( عليه السلام ) جاء مكملا لشريعة موسى ( عليه السلام ) وهذا ما كان يقوله في تعاليمه لتلاميذه والناس لا تظنوا أني

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ٩٧٨.


جئت لأبطل الشريعة وتعاليم الأنبياء ، ما جئت لأبطل ، بل لأكمل ، الحق أقول لكم : إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة من الشريعة ، حتى يتم كل شئ. فمن خالف وصية من أصغر هذه الوصايا وعلم الناس أن يعملوا مثله عد صغيرا في ملكوت السموات وأما من عمل بها وعلمها فهو يعد عظيما في ملكوت السموات ( متي ٥ : ١٧ ).

وهو يوصي تلاميذه بأن يفعلوا كل يأمر به معلمو الشريعة وخاطب يسوع تلاميذه قال : معلمو الشريعة والفريسيون على كرسي موسى ( عليه السلام ) جالسون فافعلوا كل ما يقولونه لكم واعملوا به ، ولكن لا تعملوا مثل أعمالهم لأنهم يقولون ولا يفعلون. ( متي : ٢٣ : ١ ـ ٤ ).

وهو يؤكد على عدم ترك الشريعة ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تعشرون النعنع والشب والكمون وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان ، كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك. ( متي : ٢٣ : ٢٣ ) ..

وعمليا فإن المسيح ( عليه السلام ) التزم بالشريعة الموسوية فإنه ( عليه السلام ) اختتن في اليوم الثامن من ولادته حسب شريعة موسى ( عليه السلام ) وقدم والداه الذبيحة للرب بحسب الشريعة ( لو : ٢ : ٢١ ـ ٢٣ ) ، وقد دفع ضريبة الهيكل ( متي : ١٧ : ٢٤ ) وغيرها من


الأعمال.

والذي يطالع العهد الجديد يتضح له جليا أن المسيح ( عليه السلام ) لم يلغ الشريعة بمجيئه أبدا ، بل على العكس من ذلك فإنه أوصى بها قولا ، وعمل بها فعلا ، نعم هو أكد على الالتفات إلى باطن الشريعة أيضا دون الاكتفاء بالافعال الخارجية والظاهرية ولكنه لم يبطل أبدا الشريعة الظاهرية ..

ولكننا نرى الآن أن المسيحيين قد تخلوا عن الشريعة الموسوية ، وهم ينظرون إلى الشريعة والديانة اليهودية بأنها شريعة وقتية وغير كاملة ، بل أعدت استعدادا لمجئ المسيح ( عليه السلام ) (١).

فيطرح الآن السؤال المهم وهو : إذا كان المسيح ( عليه السلام ) قد أوصى وأكد على الشريعة كما رأينا ، وأمر بحفظها والعمل بها ، فمن هو الذي عطلها وأهملها وأكتفي بالإيمان بالمسيح ( عليه السلام ) بدلا عنها؟ فالمسيحي المؤمن بعيسى ( عليه السلام ) المخلص لم يعد بحاجة إلى شريعة!!!

فيأتينا الجواب من العهد الجديد ، هو بولس القديس ولنوضح كيفية ذلك :

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ٥٩٨.


يقص لنا سفر أعمال الرسل ، أنه نتيجة للتبشير الذي قام به الرسل ، آمن بالمسيح ( عليه السلام ) عدد كثير من الوثنين على يد بطرس وبولس وبرنابا ، دون أن يمروا بالديانة اليهودية ، فكانوا ذوي غلف ( أي غير مختونين ) ( أعمال الرسل : ١١ : ٢ ).

وفي انطاكية جرى خلاف وجدال شديد بين بولس وبرنابا من جهة وبين المؤمنين بالمسيحية من اليهود ، إذ أخذوا يعلمون المؤمنين الجدد بأن لا خلاص لكم إلا إذا اختتنتم على شريعة موسى ( أعمال الرسل : ١٥ : ١ ـ ٢ ) وبولس يعارضهم في ذلك ، وانبرى يدافع عن حرية الوثنين والمهتدين تجاه الأوامر التي تأمر بها الكنيسة (١).

فأجمعوا أن يراجعوا الرسل في أورشليم و والشيوخ في هذه المسألة ، فلما وصلوا إلى أورشليم ، أخبروهم بالمسألة فقام بعض المؤمنين الذين كانوا قبلا على مذهب الفريسيين وقالوا يجب أن يختتن غير اليهود ويعملوا بشريعة موسى ( أعمال الرسل : ١٥ : ٥ ).

فأجتمع الرسل والشيوخ للنظر في هذه المسألة وبعد جدال طويل ، قام بطرس وقال لهم أيها الإخوة تعرفون أن الله اختارني من بينكم من زمن بعيد ... فلماذا تجربون الله الآن بأن تضعوا على رقاب التلاميذ نيرا عجز آباؤنا وعجزنا نحن عن حمله ( أعمال الرسل : ١٥ : ٧ ـ ١١ ).

__________________

(١) معجم اللاهوت الكتابي : ٤٤٦.


واستمر بولس وبرنابا يرويان الآيات التي جرت بين غير اليهود فقام يعقوب ( راعي الكنيسة في أورشليم ) وقال : أرى أن لا نثقل على الذين يهتدون إلى الله من غير اليهود ، بل نكتب إليهم أن يمتنعوا عن ذبائح الأصنام النجسة ، والزنا ، والحيوان المخنوق والدم ، فلشريعة موسى من قديم الزمان معلمون في كل مدينة يقرأونها كل سبت في المجامع ( أعمال الرسل : ١٥ : ١٩ ـ ٢١ ).

وكان هذا أول تباعد عن بعض أحكام الشريعة التي أوصى المسيح ( عليه السلام ) بحفظها ، حيث أن ( تيطس ) رفيق بولس لم يختتن ( غل : ٢ : ١ ـ ١٠ ) والوثنيين الذين آمنوا بالمسيح ( عليه السلام ) أيضا لم يوجب عليهم الختان ..

ولكن لم تنته المسألة إلى هذا الحد ، فبولس بدأ شيئا فشيئا بنشر أفكاره وآرائه الجديدة ، فبولس الذي ليس من الرسل وبخ بطرس ( الوصي ) ولامه على فعله كما يذكر ذلك في رسالته : وعندما جاء بطرس إلى أنطاكية قاومته وجها لوجه لأنه كان يستحق اللوم ، فقبل مجئ قوم من عند بعقوب ( أورشليم ) كان بطرس يأكل مع غير اليهود فلما وصلوا تجنبهم وانفصل عنهم خوفا من دعاة الختان وجاراه سائر اليهود في ريائه ( غلاطية : ٢ : ١١ ) ، وبعد أن رأى بولس أن بطرس الوصي لا يستقيم مع البشارة وبخه ( غل : ٢ : ١٤ ) وأعلن نظريته الجديدة أن الله لا يبرر الإنسان لأنه يعمل بأحكام الشريعة ، بل لأنه يؤمن بيسوع المسيح ( عليه السلام ). ولذلك آمنا بالمسيح


يسوع ليبررنا الإيمان بالمسيح ، لا العمل بأحكام الشريعة ، فالانسان لا يتبرر لعمله بأحكام الشريعة ( غلو : ٢ : ١٦ ) ، فهو يقول أن العمل بالشريعة لوحده لا يكفي في النجاة ، بل يجب الإيمان بالمسيح ( عليه السلام ).

وإذا سألنا القديس بولس ، هل نفهم من هذا الكلام أن الإيمان والعمل بالشريعة هما اللذان ينجيان الإنسان؟ يجيبنا بالنفي ، فهو يقول : أما الذين يتكلمون على العمل بأحكام الشريعة فهم ملعونون جميعا ( غل : ٣ : ١٠ ) ويضيف ( والمسيح حررنا عن لعنة الشريعة ، بأن صار لعنة لأجلنا ) ( غل : ٣ : ١٣ ) ، ويكمل بولس نظريته ويدعي أن الشريعة وإن كان مصدرها الله ولكنها أعطيت للبشر عن واسطة الملائكة وهذا دليل على ضعفها (١). ( غل : ٣ : ١٩ ) فهي مع أنها مقدسة وروحانية ( رومة : ٧ : ١٢ ـ ١٤ ) ولكني ما عرفت الخطيئة إلا بالشريعة فلولا قولها لي : لا تشته لما عرفت الشهوة ( رومة : ٧ : ٧ ) ، ولكنها أضعف من أن تخلص الإنسان المباع لسلطان الخطيئة ( رومة : ٧ : ١٤ ) ، فالشريعة بدلا من أن تخلص البشر من الشر ، تكاد لو جاز هذا التعبير تغمسهم فيه وتعدهم للعنة. ويستمر بولس في بيان عقيدته فيقول : ( أن الشريعة باعتبارها مؤدبا وحارسا لشعب الله في مرحلة الطفولة ( غل : ٣ : ٢٣ ـ ٢٤ ) كانت تجعله يشتهي برا يستحيل

__________________

(١) معجم اللاهوت الكتابي : ٤٤٦.


تحقيقه وذلك حتى يدرك بطريقة أفضل حاجته المطلقة إلى مخلص للعالم الأوحد. فالمسيح ( عليه السلام ) بمجيئه أنهى الشريعة فهو نهاية الشريعة وغايتها ( رومة : ١ ـ ٤ ).

وفي الواقع فهذه العقيدة الجديدة هي من نتاج بولس ، وإذا قلنا له : إذن نحن لا نحتاج إلى أي عمل سوى الإيمان بالمسيح ( عليه السلام ) ، أو بمعنى آخر فالمسيحية يكفيها الإيمان بالمسيح ( عليه السلام ) عوضا عن الشريعة فلا تعود بحاجة إلى شريعة ، أجابنا بولس قائلا : أن الشريعة كلها تلخصت في وصية واحدة وهي المحبة لا يكن لأحد دين إلا محبة بعضكم لبعض ، فمن أحب غيره أتم العمل بالشريعة ، فالوصايا التي تقول لا تزن ، لا تقتل ، لا تسرق ، لا تشته ، وسواها من الوصايا تتلخص في هذه الوصية أحب قريبك مثلما تحب نفسك ، فالمحبة تمام العمل بالشريعة ( رومة : ١٣ : ٨ ـ ١٠ ) ...

وأعتقد أن المسألة تبدو الآن أكثر وضوحا ، فالمسيح ( عليه السلام ) جاء متمما ومكملا للشريعة ( متي : ٥ : ١٧ ) وأكد كثيرا على حفظ الشريعة والعمل بها مع الإيمان به ، فهو لم ينقض الشريعة أطلاقا ولم يهملها ، بل عمل بها وأمر بعدم تركها ( متي : ٢٣ : ٢٣ ).

وأنما أبطلت الشريعة وأهملت بعده وبالتحديد على يد بولس الذي لم ير المسيح ( عليه السلام ) أبدا وليس من تلاميذه ورسله ، فلا أدري كيف يرفض المسيحيون وهم أتباع المسيح ( عليه السلام )


توصياته بحفظ الشريعة ، ويقبلون بآراء وأفكار رجل كان من أشد أعداء المسيح ( عليه السلام ) وأتباعه ثم اعتنق المسيحية ، ويدعون أنها تعاليم المسيح ( عليه السلام ).

فالمسيح ( عليه السلام ) اختتن وهو ابن ثمانية أيام حسب الشريعة والناموس ( لو : ٢ : ١٢ ) ولكننا نجد الآن المسيحيين لا يختتنون أبدا عملا بوصية بولس فأنا بولس أقول لكم إذا اختتنتم ، فلا يفيدكم المسيح شيئا ( غل : ٥ : ٢ ).

ولهذا قال بعض الباحثين أن المسيحية الحالية لجديرة بأن تسمى ( البولسية ) بدلا للمسيحية ، لأنها من أتباع تعاليم بولس لا المسيح ( عليه السلام ).


الخلاصة

قد تبين خلال البحث بعض المسائل أوردها باختصار :

إن الكتاب المقدس ( العهد القديم ، العهد الجديد ) يدور حوله العديد من الإشكالات والإبهامات ، تقلل من احتمال كونه كتابا إلهيا وموحى به ، حتى لو قبلنا الوحي الكتابي كما يعتقد به المسيحيون ، أي أنه يشترك فيه الله والانسان معا ...

فالعهد القديم ، يختلف حوله علماء الكتاب المقدس أنفسهم اختلافا عظيما ، في عدد أسفاره ، ومؤلفيه وتاريخ التأليف ، وأن النسخ القديمة كلها اندثرت ، والتي بين أيدينا هي نسخ عن نسخ لا يعرف ناسخها ، ولا نستطيع التأكد من أن يد التحريف لم تصل إليها. أضافة إلى ذلك فإن فيه توهينا للأنبياء ( عليهم السلام ) ، من خلال نسبة الفواحش والأعمال القبيحة إليهم ، فالعهد القديم مشحون بها ، وكثرة التناقضات فيه ، كلها تشير إلى أنه ليس وحيا إلهيا.


وأخيرا فإن مجمع الفاتيكان ( ١٩٦٢ ـ ١٩٦٥ ) أصدر مقولة حول العهد القديم تؤيد هذا المعنى ، فهو يصرح بأن كتب العهد القديم تنطوي على مادة بالية لا تتصف بالكمال (١).

وأما العهد الجديد فهو ليس بأحسن حالا من العهد القديم ، فهو الآخر نسخه الأصلية مفقودة ، والموجود هو نسخ مأخوذة عن نسخ ، والبعض الآخر مترجم من لغة الكتاب الأصلية إلى اللغة اليونانية ، وقد أختلف علماء المسيحية أيضا في مؤلفيها حتى أن البعض منها بقي إلى يومنا هذا مجهول المؤلف ( رسالة العبرانيين ) ، وكذلك فإن هذه الأسفار لم تكن حتى القرن الرابع يعترف بها كأسفار إلهية موحاة ، ولكن الكنيسة ومن أجل وحدة الكلمة ، اختارت هذه الأسفار على أنها أسفار إلهامية ، وإلهية ، ومنعت الكتب الأخرى واعتبرتها كتب أساطير ، وسمتها بالكتب المنحولة.

فالحقيقة أن الكنيسة هي التي ألصقت صفة الالهام بها زورا ، أضف إلى ذلك الاختلافات الكثيرة فيما بينها ، والتي دفعت بالمسيحيين إلى اصطناع التبريرات لهذه التناقضات الكثيرة دون جدوى.

كما أن العهد الجديد يسئ إلى المسيح ( عليه السلام ) جدا ، فإنه يصفه بأنه صانع للخمر الجيد ( أنظر : يو : ٢ : ١ ـ ١٠ ) فإن المسيح

__________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٧٤.


( عليه السلام ) في هذه المعجزة ، يسئ أولا إلى أمه العذراء فهو ينهرها ويقول مالي ولك يا امرأة وقد تكررت هذه الاساءة في الأناجيل لأمه ، وأكثر من ذلك أيضا. وأما في هذه القصة يقول يوحنا حسب إنجيله " قال رئيس المتكأ للعريس ـ بعد تقديم الخمر الذي صنعه عيسى ( عليه السلام ) ـ كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولا ومتى سكروا فحينئذ الدون ". فهل يقبل مؤمن نسبة هكذا فعل إلى المسيح ( عليه السلام ) هذا النبي الطاهر الذي بعثه الله لهداية الناس وإذا به ـ والعياذ بالله ـ يصنع الخمر للناس كي يسكروا؟!

والمسيح ( عليه السلام ) أيضا كما يعتقد بولس ( ملعون ) لأنه مصلوب على خشبة ، وكل من يصلب على خشبة فهو ملعون ، وعلى حد قوله فهو صار لعنة لأجلنا!! ( حاشاه عن ذلك ) لا أدري كيف يفسر هذه اللعنة علماء المسيحية ، فهل اللعنة إلا الطرد من رحمة الله تعالى؟ فمن هو المطرود؟!

وأما المشكلة الأكثر تعقيدا فهي أن العهد الجديد يصف لنا المسيح ( عليه السلام ) بأنه إنسان وابن إنسان ، وهو في نفس الوقت ابن الله ، والله المتجسد والكلمة ، وعلماء المسيحية حاولوا بشتى الوسائل والطرق تفسير هذه التناقضات والصفات وتوجيهها ، ولكن هيهات ، فالتناقض واضح وبين ، فالإله لا يكون أنسانا ، والإنسان لا يكون إلها.


وأخيرا اعترفوا بهذه التناقضات في عقيدة التثليث ، ولكنهم صرحوا بأن هذه العقيدة هي وحي ألهي وفوق الادراك البشري ، فهي سر من أسرار الله لا يكشف إلا لمن امتلأ بالروح القدس ، ولكننا رأينا من خلال البحث أن هذه العقيدة ليست وحيا إلهيا بل هي من اختراع الأب أثناسيوس أوائل القرن الرابع الميلادي ، أضافة إلى كل هذا فإن العهد الجديد يصف المسيح الإله بأنه ضعيف ومهزوز ، فهو يتوسل إلى ( الأب ) لتعبر عنه هذه الكأس ( كأس الموت ) ، ولكن عندما لم يستجب له ( الأب ) عاتبه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة لأنه تركه ، فيصرخ بصوت عظيم بعد صلبه وقبل موته إلهي إلهي لماذا شبقتني ، أي إلهي إلهي لماذا تركتني ( متي : ٢٧ ـ ٤٦ ) ، وقد رأينا في حياتنا من هو مؤمن عادي يتقبل الموت والشهادة بكل أنس وشوق ويتلذذ بهذا الموت لأنه محب لله الذي سوف يلاقيه ، فهل يعقل أن المسيح ( عليه السلام ) روح الله وكلمته ونبيه ورسوله يعاتب الله الرحيم لأنه أسلمه للموت والشهادة!!

فهذه المسائل وغيرها الكثير تدفع بالانسان المنصف إلى اليقين بأن هذه الأناجيل والأسفار هي قصص ونتاجات البشر ، ذكر فيها قصة المسيح ( عليه السلام ) كما يؤكد لنا لوقا نفسه في بداية إنجيله حيث يقول : إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا ، رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شئ من الأول أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس ( لو : ١ : ٣ ) ..


وأما موضوع الصلب والقيامة في العهد الجديد فهو أحداث متناقضة تنقلها لنا هذه الأسفار ، فالمتيقن هو أن التلاميذ هربوا كلهم عندما جاء اليهود للامساك بعيسى ( عليه السلام ) ولم يبق أحد منهم ، ليتأكد لنا هل أن الذي قبض عليه هو المسيح ( عليه السلام ) أو أنه استطاع أن يهرب من وسطهم كما فعل ذلك كثيرا سابقا ، فيوحنا ينقل في إنجيله فرفعوا حجارة ليرجموه ، أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازا في وسطهم ومضى هكذا ( يو : ٨ : ٥٩ ) ، والمسيح ( عليه السلام ) يؤكد أنهم لن ينالوا منه أبدا لأنه سيذهب إلى مكان لا يقدرون الوصول إليه ، ( أنظر : يو : ٨ : ٢٢ ) قال لهم يسوع أيضا أنا أمضي وستطلبونني وتموتون في خطيتكم ، حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا ، فقال اليهود ألعله يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا ، فقال لهم أنتم من أسفل ، أما أنا من فوق ، فهو يؤكد ( عليه السلام ) بأنهم لن يمسكوا به أبدا.

وما يؤكد لنا أن المسيح ( عليه السلام ) شبه لهم ، هو قصة مقتل يهوذا الخائن ، فالعهد الجديد لا يذكر شيئا عن مصيره إلا في موضعين ، والمصير والخاتمة التي كانت عليها حياة يهوذا الخائن مختلفة تماما كما رأينا ، والمختلف في نقلها وصي عيسى ( عليه السلام ) بطرس ، وأحد التلاميذ الاثنى عشر وهو ( متي ) ، وهذا بعد ثلاثين سنة على أبعد الحدود من رفع السيد المسيح ( عليه السلام ) وهذا يدل على أن مصير يهوذا كان مجهولا وإلا تطرق له بقية


الكتاب الملهمون في أناجيلهم ، وما أختلف فيه التلامذة المقربون من عيسى ( عليه السلام ) في مصيره.

وموضوع القيامة أيضا تدور حوله الشكوك ، فالمسيح ( عليه السلام ) الذي قال إنه سيبقى في القبر ثلاثة أيام وثلاث ليال كما تذكر ذلك الأناجيل أنظر ( متي : ١٢ : ٤٠ ) لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. لم يبق في القبر كما تذكر الأناجيل سوى ليلتين ويوم واحد ، فالدفن كان مساء يوم الجمعة بل قبل فجر السبت أنظر ( لو : ٢٣ : ٥٤ ) ووضعه في قبر منحوت حيث لم يكن أحد وضع قط ، وكان يوم الاستعداد والسبت يلوح والقيامة كانت فجر يوم الأحد أنظر ( يو : ٢٠ : ١ ) ( وفي أول الأسبوع الأحد جائت مريم المجدلية إلى القبر باكرا والظلام باق ، فهذا الاختلاف يقودنا إلى القول بأن أمر القيامة مشكوك فيه في أحسن الأحوال.

واعتقد أن بولس هو الذي جاء بهذه العقيدة في رسائله والتي كتبت ـ كما ذكرنا ـ قبل الأناجيل فهو يقول : أذكر يسوع المسيح المقام من الأموات من نسل داود بحسب إنجيلي ( ٢ تيموثاوس : ٢ : ٨ ).

وأخيرا رأينا موقف المسيح ( عليه السلام ) من الشريعة الموسوية التي التزم وعمل بها ، وأكد عليها فهو جاء ليتمم الشريعة


والناموس ، وأوصى تلاميذه بحفظها والعمل بها ، في حين نجد أن بولس ومن خلال تعاليمه ، نقض الناموس والشريعة ، وتركها جانبا ، واعتبر الإيمان بالمسيح ( عليه السلام ) وحده كافيا لنيل الخلاص والنجاة ، ولهذا فإن لبولس الدور الرئيسي في تأسيس أغلب العقائد التي تؤمن بها الكنيسة حاليا ، وكما ذكرنا فإن بعض المحققين يطلقون على المسيحية الحالية اسم ( البولسية ).



الفصل الثاني

نبذة عن الإسلام

حياة النبي محمد (ص)

ولادته

هجرته

رضاعه

فتح مكة

طفولته

دلائل نبوته

شبابه

معاجزه

بعثته

القرآن الكريم

قصة المسيح (ع) في القرآن.

الشريعة



نبذة عن الإسلام

وسوف نتحدث في هذا الفصل عن أبعاد شخصية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسيرته ، وكذلك عن معجزته الخالدة القرآن الكريم وما يقوله عن المسيح ( عليه السلام ) والمسيحية وعقائدها وموقفه منها ، ومن ثم نتطرق عن الشريعة الإسلامية بشكل مختصر.

إن من الحقائق الثابتة والتي يؤمن بها كل فرد مسيحي ، هي أن العهد الإلهي والنبوة قد ختما بيسوع المسيح ( عليه السلام ) ابن الله ، فهو المخلص والفادي للبشرية ، وهو الذي على يديه تمت المصالحة بين الناس وخالقه ، وقد ختمت النبوة به لأن العهد قد تم به ، فلا معنى لمجئ نبي بعده ، بل أن المسيح ( عليه السلام ) سيعود في آخر الزمان كما تذكر ذلك أسفار العهد الجديد ، وكذلك فإن المسيح ( عليه السلام ) كان يتنبأ بخروج من يدعون النبوة كذبا ، ويحذر منهم.

ولذا فإن الاعتقاد الذي كنت أحمله هو أن كل يدعي النبوة


فهو كاذب ، وهو ما تعلمته من الكنيسة منذ الطفولة ، وأما ما يتعلق بشخص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فكنت منذ الصغر أسمع ما يصفه به الكبار من أوصاف خلال جلساتهم وأحاديثهم ، فكانوا يعتبرونه رجلا خشنا ظهر من شبه الجزيرة العربية ، ونشر دعوته بالقوة وشن الحروب وسفك الدماء فقد كان يدعو إلى الحرب والقتال لا إلى السلام والمحبة كالمسيح ( عليه السلام ) ، والكثير من الأوصاف التي لا أجرؤ على ذكرها ، وكذلك القرآن الكريم ، فإن والدي ـ كما ذكرت أول البحث ـ كان يقول أنه من كتابة وتأليف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه وليس كتابا مقدسا كالإنجيل.

وأما تعاليمه وشريعته ، فهي كما يعتقد المسيحيون مجرد أعمال وأفعال بدنية متعبة ومرهقة لا معنى لها ولا نفع فيها ، وأعتقد أن هذه الأفكار يحملها أكثر المسيحيين ، أن لم نقل جميعهم ، ولكن ومن خلال البحث والمطالعة ، اكتشفت الخطأ الجسيم والصورة الزائفة التي كنت أرسمها في ذهني عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والقرآن والشريعة الإسلامية ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن خلال ما ينقله التاريخ والمؤرخون كان من أشرف الناس نسبا ، وأحسنهم أدبا وخلقا ، وأعظمهم شأنا ، وأوسعهم رحمة ولطفا ، وأصبرهم على المصائب والمحن ، والقرآن الكريم أيضا اتضح أنه في الواقع الكتاب الإلهي الوحيد من الكتب السماوية التي لم تصل يد التحريف إليه ، وفيه من التعاليم والإرشادات والمعارف الراقية ما يبهر العقول


والقلوب ، فالنفس الإلهي فهي واضح وجلي بل وأوضح من الشمس في رابعة النهار ، ففيه نور وهدى وشفاء للنفوس والقلوب من الظلمات والجهل ...

وأما الشريعة الإسلامية وتعاليم الرسالة المحمدية ، فهي تضمن للانسان سعادة الدارين الدنيا والآخرة ، وهي تبتني على الرحمة والمحبة والأخلاق الكريمة والصدق والأمانة ، ففيها دستور للحياة الفردية الاجتماعية. بل أن الهدف من بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو الرحمة كما يذكر القرآن ذلك : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) وشريعته هي لإيصال الإنسان إلى مكارم الأخلاق وكمالها كما ينقل عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فالاسلام دين المحبة والألفة والرأفة والتي تجسدت في شخصية النبي المقدسة كما سنبين ذلك أن شاء الله ...

وكما أكدت سابقا فإن الجهل والتعصب والغفلة كل ذلك يكون حاجبا لرؤية الحق ومعرفته ، وتأكد لي بأن كل إنسان منصف وعاقل وباحث عن الحقيقة ، إذا ترفع قليلا عن تعصبه وجهله ، ووضع النظارة السوداء هذه جانبا ، سيرى الحق واضحا كالنهار ، لا شك ولا ريب فيه ..

أنها أمنية ، ولكن تبقى الهداية إلى الحق بيد الله اللطيف الخبير كما يقول عز من قائل : ( أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ... ).



حياة النبي محمد (ص)

أن نسبه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعود إلى عدنان الذي ينتهي نسبه إلى النبي إسماعيل ( عليه السلام ) عبر عدد من الآباء والأجداد ، ومن ثم يصل إلى إبراهيم ( عليه السلام ).

فهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قبيلة قريش ومن عشيرة بني هاشم ونسب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأجداده هو كالتالي : محمد بن عبد الله وبن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن حزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (١) .. وقد أختلف المؤرخون في آباء وأجداد عدنان إلى إسماعيل ( عليه السلام ) فالبعض ذكر ثلاثة من آبائه حتى إسماعيل والبعض الآخر أكثر من ذلك.

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٥٦٥.


وخلاصة قصة ذرية إسماعيل ( عليه السلام ) هي : أن إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) أمر أن يسكن ولده الرضيع ( إسماعيل ) مع زوجته ( هاجر ) أم إسماعيل في أرض مكة ، فخرج بهما إبراهيم ( عليه السلام ) من فلسطين ، وهبط بهما في ذلك الوادي العميق الخالي من الماء والعشب ( مكة ) ثم أن يد العناية الإلهية امتدت إلى تلك العائلة المهاجرة ، وجادت عليها بعين زمزم التي جلبت الرواء والحياة إلى تلك المنطقة القاحلة.

ثم تزوج إسماعيل ( عليه السلام ) من قبيلة جرهم التي سكنت بالقرب من مكة ، وأصاب من هذا الزواج عددا كبيرا من الأبناء والأحفاد ، وأحفاد الأحفاد ، وكان من جملتهم ( عدنان ) ثم تشعبت ذرية إسماعيل عشائر وقبائل عديدة ، كان من بينها قبيلة قريش التي حظيت بشهرة كبيرة ، ومنها عشيرة بني هاشم التي انحدر منها الرسول الأعظم محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (١).

ولادته

كانت ولادته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الجزيرة العربية بالحجاز في ( مكة المكرمة ) ، وكما يذكر أكثر المؤرخين فإنها كانت في السابع عشر من ربيع الأول لعام الفيل ( الواقعة المشهورة ) أو ما

__________________

(١) سيد المرسلين ١ / ٣٧.


يقارب سنة ( ٥٧٠ م ) (١).

وولد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يتيم الأب إذ أن أباه توفي قبل ولادته ، أو بعدها بشهرين ، وقد ذكر المؤرخون في الكتب التاريخية وقوع حوادث عجيبة عند ولادة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منها : ارتجاس إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة منه ، وانخماد نار فارس التي كانت تعبد ، وجفاف بحيرة ساوة ، وتساقط الأصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها ، وخرج نور معه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين ولادته ، وغيرها من الحوادث العجيبة المذكورة في كتب التاريخ (٢).

وأما تسميته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإن له أسماء كثيرة أشهرها اسمان أحدهما ( أحمد ) إذ سمته أمه بذلك كما أمرت في المنام ، وسماه جده عبد المطلب في اليوم السابع ( عندما عق عنه بكبش واحتفل بميلاده ) ( محمد ) وعندما سئل عن سبب تسمية المولود بهذا الاسم أجاب أردت أن يحمده الله في السماء وتحمده الناس في الأرض (٣) وقد اشتهر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذين الاسمين منذ صغره ونرى ذلك واضحا في أشعار عمه أبي طالب.

__________________

(١) بحار الأنوار ١٥ / ٢٤٨.

(٢) سيد المرسلين ١ / ٢٠٢ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٥ ، السيرة الحلبية ١ / ٦٧ ، وغيرها.

(٣) السيرة الحلبية ١ / ٧٨.


رضاعه

كان المشهور من عادة العرب أن يدفعوا أولادهم الرضع إلى النساء اللاتي يعشن في البادية ، لينشأ الطفل في تلك البيئة ( المعروفة بحسن مناخها وعذوبة مائها ، وفصاحتها ) وهو ذو بنية قوية ، فصيح اللسان ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يرضع من أمه إلا ثلاثة أيام ، ثم نالت شرف إرضاعه امرأتان :

أولا : ثويبة : مولاة ( أبي لهب ) فقد أرضعته لفترة أربعة أشهر فقط ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقدر عملها هذا حتى آخر لحظات حياتها ، فكان يكرمها كثيرا لعملها هذا.

ثانيا : حليمة السعدية التي كانت من قبيلة سعد بن بكر بن هوازن ، وكانت مراضع بني سعد مشهورات بهذا الأمر بين العرب ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد تجاوز شهره الرابع لما قدمت نساء من بني سعد إلى مكة ، وكانت هذه القبيلة تسكن أطراف مكة ، وكانت نساء هذه القبيلة يأتين كل عام في موسم خاص يلتمسن الرضعاء ويذهبن بهن إلى البادية ، وقد دفع جد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( عبد المطلب ) حفيده إلى حليمة السعدية ، وبقي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بني سعد خمس سنوات وفي بعض الكتب أربع سنوات ، ثم أرجعته إلى أمه آمنة بنت وهب ، ويذكر


المؤرخون بعض المعاجز للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذه الفترة أيضا (١).

وتذكر حليمة أن الخير والبركة حلا بحلول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في دارها ، وكان يشب ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا كما يشب الأطفال حيث تقول إنه حين بلغ تسعة أشهر كان يتكلم بالكلام الفصيح ، وقد نقل عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد بعثته أنه كان يقول لأصحابه أنا أعربكم أي أفصحكم عربية ، أنا قرشي واسترضعت في بني سعد (٢).

طفولته

بعد فترة من رجوعه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من البادية إلى أحضان والدته آمنة بنت وهب ، أخذته أمه لزيارة قبر والده ( عبد الله ) الذي توفي في يثرب على أثر مرض ألم به ، ولم يكن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد رآه قط ، وهي الزيارة الأولى التي قام بها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى قبر والده ، وعند العودة من هذا السفر ، شاءت الأقدار الإلهية أن يفقد هذا اليتيم أمه أيضا ، قبل وصوله إلى مكة ، في منطقة يقال لها الأبواء وله من العمر ست سنين ،

__________________

(١) راجع السيرة الحلبية ١ / ٩٠ ، سيرة المصطفى ( هاشم معروف الحسني ) : ص ٤٣ ، وغيرها.

(٢) السيرة الحلبية ١ / ٨٩.


وقيل أكثر من ذلك قليلا (١).

فذاق هذا الطفل الحرمان منذ طفولته ، و قد تكفل به جده عبد المطلب سيد قريش ، وكان يحبه كثيرا ، وشديد الرعاية له ، فإنه كان يفضله على جميع ولده ، وكانت ملامح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والبركات والمعجزات التي رافقته منذ ولادته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تدفع جده إلى التنبؤ بمستقبل عظيم لهذا اليتيم ، حيث ينقل المؤرخون عنه أنه كان يقول :

أن لابني هذا شأنا ، ولكن طواغيت وجبابرة مكة لم تكن تعلم يومئذ ما تخبئه الأيام القادمة من أمر يتيم عبد المطلب هذا ...

ولم يدم هذا الحنان والعطف الذي أحاطه به جده ( عبد المطلب ) كثيرا ، إذ أن الموت ، سنة الله في خلقه ، نزل به ولم يكمل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الثامنة من عمره ، واعتصر قلب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ألما وحزنا على فراق جده العطوف ، الذي كان بلسما لجراحات يتمه ، وأوصى به جده حين وفاته ابنه ( أبا طالب ) عم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي كان أخا لعبد الله والد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أم واحدة ، فتكفله أبو طالب ، وشمله برعايته وعطفه ، فكان خير كفيل له في صغره ، وخير ناصر ومعين عندما أحتاج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )

__________________

(١) سيد المرسلين : ص ٢٢٧.


إلى الأنصار لنشر دعوته ، وكان أبو طالب معروفا بين أهل مكة بجوده وكرمه ، فهو سيد بني هاشم ، ومع أنه كان فقيرا فقد خضع له القريب والبعيد.

وقد جاء عن وصي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أنه قال : إن أبي ساد الناس فقيرا ، وما ساد فقير قبله (١) ، وكانت زوجة أبي طالب أيضا تشمله برعايتها الخاصة ، وتحرص عليه أكثر من أولادها ، ويمكن القول بأن أبا طالب وزوجته فاطمة بنت أسد استطاعا أن ينسيا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرارة اليتم ، بالرعاية التي أحاطاه بها ، وتنقل كتب التاريخ أن فاطمة بنت أسد كانت في سني الجدب والقحط التي مات الناس فيها جوعا تحرم أولادها القوت وتطعمه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

ولما بلغ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الثانية عشرة من عمره الشريف ، اصطحبه معه أبو طالب في سفره التجاري إلى الشام ، ولما وصل إلى منطقة تدعى بصرى ، وقعت حادثة أدت إلى أن يرجع أبو طالب إلى مكة مع ابن أخيه قبل أن يصلا إلى الشام ، وتلك الحادثة تنقلها كتب التاريخ بتفصيل ، ونحن ننقلها هنا باختصار :

لما نزل الركب ( بصرى ) من أرض الشام ، وبها راهب يقال له

__________________

(١) سيرة المصطفى ٤٩.


بحيرا في صومعة له ، وكان ذا علم من أهل النصرانية ، وينقل أنه كان قد انتهى علم الكتاب إليه ، إذ توارثه كابر عن كابر ، عن أوصياء عيسى ( عليه السلام ) فلما نزلوا ، وكانت القوافل التجارية لقريش كثيرا ما تمر من هذا المكان فلا يكلمهم الراهب بشئ ، ولكنه في هذه المرة ، عندما رأى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليه غمامة تظله من بين القوم ، صنع لهم طعاما ودعاهم إليه ، فقال رجل منهم للراهب أن اليوم لك شأنا ، ما كنت تصنع هذا بنا وكنا نمر عليك كثيرا ، فقال الراهب : صدقت ولكنكم ضيف وأحببت أن أكرمكم ، ولما جاءوا إلى الصومعة ، جعل بحيرا الراهب يلحظ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لحظا شديدا ، وينظر إلى أشياء من جسده كان يجدها عنده من صفته ، فلما تفرقوا ، أنفرد الراهب بالنبي ( صلى الله عليه و آله وسلم ) وسأله عن أشياء في حاله ، في يقظته ونومه ، فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيجدها بحيرا موافقة لما عنده من صفته. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه ، فسأل الراهب عن وليه فقالوا هو أبو طالب ، فقال له بحيرا : إنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم ، نجده في كتبنا وما أخذناه عن آبائنا ، هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين احذر عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت يبغونه شرا فلما سمع أبو طالب كلام الراهب ، رجع به إلى مكة (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٥١٩ ، السيرة الحلبية ١ / ٢٣١ ، وغيرها من الكتب التاريخية.


شبابه

لقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما يتصف به من الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة ، قدوة بين قومه و عشيرته منذ شبابه ، ومثالا للنبل والشرف والشجاعة والصدق والأمانة ، فكانوا يلقبونه ( بالصادق الأمين ) ، فقد حضر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( في حلف الفضول ) (١) وهو لم يبلغ العشرين من عمره.

وينقل التاريخ أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أشتغل في فترة شبابه في رعي الغنم ، وقضى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شطرا من عمره في هذا المجال ، وبسبب الوضع المعيشي الصعب الذي كان يواجهه ، اقترح عليه عمه أبو طالب العمل في التجارة وكانت في مكة امرأة ذات مال كثير ، وذات شرف عظيم ، تستثمر أموالها في التجارة وهي خديجة بنت خويلد ( رضي الله عنها ) ، كانت تضارب الرجال بشئ تجعله لهم من أرباح التجارة ، وكانت تبحث عن رجل أمين لإدارة تجارتها ، وبما أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان مشتهرا بين الناس بأمانته وصدقه كما ذكرنا ، لذا بعثت إليه خديجة

__________________

(١) وكان الهدف من هذا الحلف هو الدفاع عن حقوق المظلومين والوقوف بوجه العدوان وجاء عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد بعثته لقد حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ولو دعيت إلى مثله لأجبت.


وعرضت عليه العمل معها قائلة له أني دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك ، وكرم أخلاقك ، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك وأبعث معك غلامين يأتمران بأمرك في السفر ، فأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمه بذلك فقال له : أن هذا رزق ساقه الله إليك (١).

فقبل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك العرض ، وخرج بمال خديجة ذلك العام قاصدا الشام للتجارة ، ووصل إلى الشام وباع البضاعة ، وربح ربحا كبيرا ، كما أنه اشترى بضاعة لبيعها في مكة ، وأقبل راجعا إلى مكة ومعه الربح الكثير ، وأخبر أحد الغلامين واسمه ( ميسرة ) خديجة عند رجوعه إلى مكة ، بحال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعض الكرامات التي لمسها منه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكذلك عن أخلاقه وخصاله الكريمة ، وأبلغها بالربح الكبير الذي أصابهم من تجارتهم هذه فينقل عنه أنه قال لقد ربحنا في هذه الرحلة ما لم نربحه من أربعين سنة ببركة محمد (٢).

ففرحت خديجة ( رضي الله عنها ) عندما سمعت ذلك من الغلام ، وكانت خديجة من خيرة نساء قريش شرفا ، وأكثرهن مالا ، وأحسنهن جمالا ، وأقواهن عقلا وفهما ، وكانت تدعى في الجاهلية

__________________

(١) سيد المرسلين ١ / ٢٥٤.

(٢) بحار الأنوار ١٦ / ٥.


بالطاهرة لشدة عفتها ، ولمكانتها الرفيعة كان أشراف قريش كلهم حريصين على الاقتران بها ( إذ أنها لم يكن لها زوج وقد بلغت الأربعين من عمرها كما تذكر كتب التاريخ ) وكانوا يقدمون لها العروض المغرية ، ولكنها كانت ترفضهم الواحد بعد الآخر ، ولكن بعد ما سمعت ورأت من صفات وأخلاق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعثت إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقالت له : يا بن عم أني قد رغبت فيك لقرابتك وشرفك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك ، وعرضت عليه الزواج منها ، فجاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمه أبا طالب وأخبره بأنه يريد الزواج من خديجة ، ففرح عمه بذلك ، فقصد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع نفر من أعمامه يتقدمهم أبو طالب طالبا خديجة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكان والدها قد توفي ، فخطبها عمه أبو طالب من عمها ( عمر بن أسد ) وخطب أبو طالب خطبته وقال :

الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم ( عليه السلام ) وذرية إسماعيل ( عليه السلام ) وجعل لنا بيتا محجوبا ، وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه ، وأن ابن أخي محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يوازن برجل من قريش إلا رجح عليه ، ولا يقاس بأحد إلا كان أعظم منه ، وإن كان في المال قل ، فإن المال رزق حائل وظل زائل وله في خديجة رغبة ، ولها فيه رغبة ، وصداق ما سألتموه عاجله من مالي ، وله والله خطب عظيم


ونبأ شائع (١). فتزوج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من خديجة وهو ابن الخامسة والعشرين من عمره الشريف ، وكانت خديجة خير سند ومعين للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل دعوته وبعدها ، فإنها قدمت كل ما تملك للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقالت له بيتي بيتك وأنا جاريتك ، ويتضح من خلال سيرتها أنها كان قمة في الأخلاق والوفاء والتضحية ، وكان الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يجل قدرها ، ويعظم منزلتها ، إذ أنه لم يتزوج عليها غيرها حتى رحلت إلى الرفيق الأعلى وفاء واحتراما لها ، والأحاديث في فضلها ومنزلتها التي تنقل عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كثيرة.

وقد أنجبت له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ستة أولاد : ولدان ، وأربع بنات وهم :

القاسم ( وقد كني به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) و عبد الله اللذان كان يدعيان أيضا ب‍ الطاهر والطيب وأربع بنات هن : رقية ، زينب ، أم كلثوم ، وفاطمة ( عليها السلام ) ، وأما الذكور من أولاده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فماتوا قبل البعثة ، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام (٢).

ومما تذكره كتب التاريخ أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )

__________________

(١) سيرة المصطفى : ص ٥٩.

(٢) سيد المرسلين ١ / ٢٧٨ ، وغيره من الكتب التاريخية.


لم يعبد صنما قط طوال حياته ، وأما سيرته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منذ زواجه من خديجة وحتى بعثته ، فالمشهور عنه أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يشتغل باللعب واللهو أبدا كما كان يفعل الرجال ، بل كان يعيش كالحكماء والأنبياء حتى قبل بعثته ، فبالرغم من الأموال الطائلة التي وضعتها خديجة تحت تصرفه ، كان يعيش الحياة البسيطة الخالية من كل ترف وبذخ ، وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقضي معظم أوقاته في التفكر والتأمل ، وكثيرا ما كان يلجأ إلى سفوح الجبال المغارات للخلوة مع ربه ، والاشتغال بعبادته جل وعلا ، وكان إذا تأخر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن خديجة علمت أنه يتعبد خارج مكة.

ومن الأحداث المشهورة في كتب التاريخ والتي تشير إلى حكمته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هي حادثة هدم الكعبة وبنائها من جديد ، فينقل المؤرخون أنه تم هدم الكعبة وبناؤها من جديد لأنها تصدعت من أثر السيل الذي أصابها ، ولما تكامل البناء إلى موضع الركن ، وقعت الخصومة بينهم فيمن يرفع الحجر الأسود ليضعه في مكانه ، وكاد أن ينشب القتال بينهم ، لأنهم يرون أن من يضع الحجر الأسود في مكانه يكون له الفضل والسيادة والفخر ، ثم تشاور شيوخهم واتفقوا أن يكون أول وافد عليهم هو الذي يضع الحجر الأسود مكانه ، وكان أول من وفد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلما رأوه استبشروا بقدومه ، وقالوا لقد جاءكم الصادق الأمين ،


وأخبروه بما اتفقوا عليه ، فقال لهم هلموا إلي ثوبا كبيرا فأخذ الحجر ووضعه فيه بيده ، ثم ألتفت إلى شيوخهم وقال لهم لتأخذ كل قبيلة بطرف منه ثم ارفعوه جميعا ، فانبهر الجميع لحكمته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهو بعمله هذا حفظ حقوق الجميع ، ولم يعط لأحد امتيازا على الآخرين.

بعثته

لقد كانت مسألة ظهور نبي في آخر الزمان من الأمور الرائجة في تلك المنطقة في ذلك الزمان ، وقد اتفق المؤرخون على أنه قبل بعثة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ظهرت بوادر التنكر للوثنية بين العرب في شبه الجزيرة العربية فكان هناك من يترقب ظهور نبي ينقلهم من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الإله الواحد ، ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل ، ورقة بن نوفل ، عبيد الله بن جحش وآخرون غيرهم ، ينقل عن زيد بن عمرو بن نفيل وهو يوصي ابنه قائلا :

أنا ننتظر نبيا من ولد إسماعيل ولا أراني أدركه ، بين كتفيه خاتم النبوة ، اسمه أحمد ، يولد ويبعث في هذا البلد ( مكة ) فإياك أن تخدع عنه ، فأني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم ، فكل من اسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون هذا الدين وراءك وينعتونه


بمثل ما نعته لك ، ويقولون يبق نبي غيره (١).

وكما ذكرت فإن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان غالبا ما يلجأ إلى الجبال لفترة من أجل الخلوة والعبادة والتفكر ، وكان يقضي أكثر الأوقات في ( غار حرا ) (٢). فكان يقضي شهر رمضان كله من كل عام في غار حراء مكتفيا بالقليل من القوت تحمله إليه زوجته الوفية خديجة ، وفي غير شهر رمضان أيضا كان يقضي أوقاتا طويلة في هذا الغار مستغرقا ومنقطعا عن الدنيا ، ومهيئا نفسه لأمر عظيم ينتظره.

وفي ذلك الغار تجلى الكلام الإلهي على لسان الروح الأمين ( جبرئيل ) ، موحيا ببداية آخر الرسالات الإلهية وأعظمها ، وفيه اختار الله سبحانه عبده ورسوله ( محمدا ) ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليصدع بالدين الخاتم ، وفيه نزلت أول آيات القرآن الكريم الكتاب الإلهي كتاب الهداية والسعادة.

نعم في غار حراء كانت البداية ، فبعد أن قضى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فترة طويلة في العبادة والانقطاع إلى خالقه ، جاءه

__________________

(١) الفضائل الخمس من الصحاح الستة ج ١ / ص ٣١ ، سيرة المصطفى : ص ٩١.

(٢) يقع جبل حراء في شمال مكة المكرمة ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمن ، وهو من الأماكن المقدسة عند المسلمين يقصدونه للزيارة والتبرك.


رسول ربه ـ جبرئيل الأمين ـ يناديه بصوت لا ينفذ لغير قلبه قائلا اقرأ يا محمد فيصغي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويجيب ما أنا بقارئ حيث أنه كان لم يدرس عند أحد ، ويردد عليه جبرئيل القول ، ويكرر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أنا بقارئ وفي المرة الثالثة أمره أن أقرأ ، فوجد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في نفسه القدرة على القراءة بإذن الله ، فقرأ عليه الأمين جبرئيل ( عليه السلام ) والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقرأ معه أول آيات كتاب الهداية للبشرية : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) (١). وسمع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صوتا من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل ، وبعدها توجه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى بيت خديجة ، وحدثها بكل ما سمع ورأى من أمر جبرئيل ( عليه السلام ) ، فعظمت خديجة أمره وآمنت به .. وكانت بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في السابع من شهر رجب ، وقد بلغ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الأربعين من عمره الشريف.

الدعوة إلى الإسلام

بدأ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعوته سرا ، فكان يدعو

__________________

(١) العلق : ١ ـ ٥.


الناس إلى الإسلام بالخفاء ، من خلال اتصاله الشخصي بمن يراه مؤهلا وصالحا للدعوة ومستعدا لقبول النور الإلهي ، وأول من آمن به من النساء زوجته خديجة ، ومن الرجال ابن عمه ووصيه ( علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ) ، واستمرت دعوته السرية ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مدة ثلاث سنوات ، استطاع خلالها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يجذب إليه جماعة من الناس ، قبلوا دعوته وآمنوا بالله الواحد وكفروا باللات والعزى ( صنمي قريش ) ، ولكنهم حاولوا قدر الإمكان أخفاء أيمانهم خوفا من بطش طواغيت قريش.

ولكن سرعان ما وصلت أخبار دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أسماع مشركي قريش ، ولكنهم سخروا منها لأنهم لم يشعروا بخطر يهددهم ، ولا سيما أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يتعرض لأصنامهم بسوء بصورة علنية خلال دعوته السرية ..

وبعد هذه الفترة ، جاء الأمر الإلهي ببدء الدعوة العلنية للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأنزل سبحانه ( واصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) (١). فأعلن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما كان يدعو إليه سرا ، وأمره الله سبحانه أولا بعشيرته وأقربائه ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) (٢).

__________________

(١) الحجر : ٩٤.

(٢) الشعراء : ٢١٤.


فدعا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سادة عبد المطلب وشيوخهم إلى مأدبة ، ولما فرغوا من الطعام تلكم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قائلا : أن الرائد لا يكذب أهله ، والله الذي لا إله إلا هو أني رسول الله إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة ، والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون وإنها الجنة أبدا والنار أبدا ، ثم أضاف يا بني عبد المطلب أني والله لا أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، أني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فسكت القوم جميعا. وقام ( علي بن أبي طالب عليه السلام ) وقال أنا يا رسول الله ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :

إن هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا .. فقام القوم يضحكون مستهزئين به (١).

وبعدها تسربت أخبار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودعوته في مكة وخارجها ، ولم يعد أمرها خافيا على أهل مكة والقرى المجاورة ، وشرع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنشر تعاليم ربه بين الناس ، يأمرهم بعبادة الله وحده ونبذ الأوثان والأصنام ، ويدعو إلى العدل والمحبة ويؤكد على كرامة الإنسان

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٥٤٢.


وحريته ، وينهاهم عن الظلم والفسق والفواحش ، عندها أحس طواغيت قريش بالتهديد والخطر الذي يواجههم ، فرأوا في دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تحديا لدينهم وإساءة لآلهتهم وأصنامهم ، وتهديدا لمصالحهم ، فتشاوروا وأجمعوا على القضاء على دعوته قبل استفحالها فاستخدموا شتى الوسائل من تهديد وترغيب وتعذيب ، فكانوا يعذبون كل من آمن بدعوته عذابا شديدا قد يصل في بعض الأحيان إلى الموت ، ولكن بالرغم من كل هذا ، كان الناس يرون أن تعاليم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أقرب إلى فطرتهم ، فيدخلون في الدين الجديد ويتحملون الأذى والصعاب في سبيل الله.

وحاولت قريش التعرض للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولكن وجود عمه أبي طالب كان يحول دون ذلك ، إذ أنه كان سيد بني هاشم وأمره مطاع بينهم ، وكانت عشيرة بني هاشم وبني عبد المطلب يحسب لها حسابا خاصا في مكة ، ولذلك لم يجرؤوا على التعرض للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاصة وأنهم يعلمون شدة العلاقة والمحبة بين أبي طالب والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

واستمر انتشار الإسلام وتعاليمه في مكة ، واعتنق هذا الدين أناس من مختلف القبائل ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يستغل فرصة حج القبائل إلى مكة في كل عام ، فيعرض الدين على القبائل المختلفة التي تقصد مكة ، ولرفعة تعاليم الإسلام وجاذبيتها ، ونزول القرآن الكريم ببيانه الإعجازي ، وخلق النبي ( صلى الله عليه


وآله وسلم ) وتعامله وفصاحته ، كانت الناس تندفع إلى قبول هذا الدين الجديد ، فأصبح له أنصار وأتباع في مكة وخارجها.

فأحس طواغيت قريش أن دينهم وآلهتهم وأصنامهم في خطر كبير ، فجاءوا إلى أبي طالب كفيل الرسول وحاميه وأبلغوا تهديدهم للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بواسطته وقالوا : يا أبا طالب ، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وأنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب ألهتنا ، حتى تكفه عنا ، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.

فجاء أبو طالب وأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما قاله زعماء قريش ، فكإن الرد النبوي بأنه لن يترك دعوته لأنها أمر إلهي ، فلما علموا ذلك احتالوا أن يسلكوا طريق الترغيب للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فعرضوا عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يكون أكثرهم مالا ، وأن يجعلوه ملكا وسيدا عليهم ويعطوه كل ما يريد شرط أن يتخلى عن دعوته ويرجع إلى ملتهم ، فجاء رد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدوي عبر التاريخ يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ( يساري ) ، على أن أترك هذا الأمر ، حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته (١) ، ليعلن موقفه


الثابت.

مما دفع بالمشركين إلى تصعيد حملات التعذيب للمسلمين ، ونشر الإشاعات والكذب عن شخصية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وشتمه وقذفه.

الهجرة إلى الحبشة

لما رأى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن حملات التعذيب اشتدت على المسلمين ، وليس له القدرة على دفع الأذى عنهم أمرهم بالخروج من مكة والهجرة إلى الحبشة ، وقال لهم أن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد ، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه ، وهي الهجرة الأولى للمسلمين.

وكان بالحبشة ملك نصراني يدعى ( النجاشي ) معروف بعدالته ، وبعد ما وصل بعض المسلمين إلى الحبشة ورأوا حسن المعاملة هناك ، بدأت الهجرة الثانية للمسلمين إليها ، وكان عددهم أكبر بكثير من المهاجرين الأوائل للحبشة ، وقد وجد المسلمون بلاد الحبشة كما وصفها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلاد آمنة ، فلم يتعرضوا فيها إلى مضايقة. ولما وصلت أخبارهم إلى المشركين في مكة ، امتلأوا غيظا وأصابهم الذعر خشية نفوذ تعاليم الإسلام بين أهل الحبشة ، لذا أسرعوا في أرسال وفد إلى النجاشي ، مع هدايا كثيرة طالبين منه

__________________

(١) سيد المرسلين : ١ / ٤٠٤.


إعادة الذين هاجروا من مكة ، فلما وصل الوفد قالوا للملك :

أن الذين هاجروا إليك هم سفهاء فارقوا دين قومهم وجاءوا بدين جديد ، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم لتردهم إليهم فدعا الملك المهاجرين وأحضرهم عنده يسألهم عن أمرهم ، وكان متكلمهم ( جعفر بن أبي طالب ) فسأله النجاشي : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟

فأجابه جعفر قائلا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه ، وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا في ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان. وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا بين ديننا ، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

فأثر حديث جعفر بالملك ، فقال له : هل معك مما جاء به عن


الله من شئ؟ فقال جعفر نعم ، فقرأ جعفر مطلع سورة ( مريم ) والتي تبين طهارة وعفة مريم ( عليها السلام ) وقدسيتها وعظمة مقام المسيح ( عليه السلام ) وعلو شأنه ، فلما سمع النجاشي ذلك بكى حتى اخضلت لحيته بالدموع وبكت الأساقفة و قال النجاشي : أن هذا والذي جاء به عيسى ( عليه السلام ) ليخرج من مشكاة واحدة. ثم التفت إلى موفدي قريش وقال ، انطلقا فلا والله فلا أسلمهم إليكما ، ورد إليهم هداياهم (١).

وتنقل الكتب التاريخية أنه أسلم بعد ذلك ، ولما رجع الوفد إلى مكة خائبا ، عمد المشركون وطواغيت مكة هذه المرة إلى الحصار الاقتصادي والاجتماعي.

الحصار الاقتصادي والاجتماعي

وبعد كل هذه المحاولات البائسة من قبل طواغيت قريش اجتمعوا وقرروا في هذه المرة على فرض الحصار الاقتصادي والاجتماعي على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعشيرته لإجبارهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للتخلي عن موقفه ودعوته ، فكتبوا صحيفة و علقوها في جوف الكعبة وتعاقدوا فيها على أن لا ينكحوا من بني هاشم و بني المطلب ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم

__________________

(١) السيرة النبوية ( أحمد بن دخلان ) ١ / ٢١٣ وغيرها.


شيئا ، ولا يبتاعوا منهم (١).

فلما فعلت قريش ذلك انحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب ، فأمرهم أبو طالب بالخروج من مكة ودخول وادي بين جبال مكة يعرف ب‍ ( شعب أبي طالب ) وقد أستمر هذا الحصار مدة ثلاث سنين ، وكان شديدا وقاسيا كما ينقل المؤرخون وكانوا لا يخرجون من الشعب إلا في الأشهر الحرم فيأتون إلى مكة فيشترون ويبيعون رغم مضايقة قريش لهم في هذه الفرصة أيضا ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينتهز هذه الفرصة لنشر دعوته بين القبائل التي تقصد مكة عادة في هذه الفترة.

واستمر الحال كذلك إلى أن أوحى الله سبحانه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن ( الأرضة ) (٢) قد أتلفت صحيفتهم ولم يبق فيها إلا جملة ( باسمك اللهم ) فأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمه أبو طالب بذلك ، فجاء أبا طالب مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى مشركي قريش قال لهم : أن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله سبحانه أوحى إليه أنه بعث على صحيفتكم الدابة فأكلت جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم الله فقط ، فهلم صحيفتكم فإن كان حقا فاتقوا الله وارجعوا عما أنتم عليه ، وإن كان

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ١ ص ٥٤٩ ، السيرة النبوية ج ١ ص ٢١٣.

(٢) حشرة معروفة تنخر في الأخشاب والأوراق.


باطلا دفعته إليكم فإن شئتم قتلتموه.

فرضوا بذلك وتعاقدوا عليه ثم أنزلوا الصحيفة من الكعبة وإذا ليس فيها حرف إلا جملة ( باسمك اللهم ) كما أخبرهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولكن رغم ذلك بم يوفوا بعهدهم وازدادوا تكبرا وتعندا ، ولكن بعض المشركين ندموا على فعلتهم ونقصوا المقاطعة فرجع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعشيرته إلى مكة ثانية (١).

ولكن و بعد فترة من رجوعهم أصاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حادث مؤلم وهو رحيل زوجته الوفية خديجة التي عاضدته طوال فترة دعوته بكل وجودها ، فتألم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كثيرا لهذا المصاب ، ولم ينقضي حزن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى أصيب بنكسة أعظم وهي وفاة كفيله وحاميه والمدافع عنه عمه أبي طالب ، الذي عانى وأهله الكثير وعرض نفسه للموت و الحرمان من أجل نشر الدعوة الإلهية ، فعظمت المصيبة على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما ينقل عنه أنه ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب وذلك لأن قريش شددت بعد ذلك من آذاها للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كثيرا.

__________________

(١) حياة النبي وسيرته ، الشيخ محمد قوام الوشنوي ص ١٦١ ، سيد المرسلين ج ١ ص ٥٠٣.


هجرته (ص)

بعد أن فقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمه أبا طالب وزوجته ، واجه ظروفا صعبة للغاية ، وأحدقت به الأخطار وأصبحت تهدد حياته ، فعزم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الخروج من مكة لأنه أحس أن تبليغ الدعوة في مكة لم يعد ممكنا ، فاتجه نحو الطائف ودعا أهلها إلى الإسلام ، فأبوا ذلك ورفضوه ، و لم يكتفوا بالرفض بل قذفوه بالحجارة حتى سالت دماؤه ، فرجع إلى مكة.

ورغم الاضطهاد الذي واجهه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مكة ، استمر في نشر الرسالة الإلهية بين القبائل الوافدة إلى مكة في موسم الحج والاتصال بأشرافها ، وكان العرب من أهل يثرب من قبيلة الأوس والخزرج ممن يأتون إلى مكة في كل موسم فيعرض عليهم الإسلام ، فكانوا عندما يعودون إلى يثرب ينقلون أخبار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هناك فانتشرت أخباره في يثرب ، ولكن لم يؤمنوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودعوته.

وفي أحد الأيام التقى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بجماعة من قبيلة الخزرج ودعاهم إلى الإسلام فأمنوا وكانوا ستة أشخاص ، ومما ساعد على أيمان هؤلاء أن اليهود كانوا مجاورين لهم


في يثرب ، وكانوا إذا وقع بينهم نزاع ، توعدهم اليهود بأن نبيا سيبعث ، وقد أطل زمانه سنتبعه ونقتلكم قتل عاد وأرم ، ولما التقوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قالوا إنه النبي الذي كان اليهود يتوعدوننا به ، فلا يسبقونكم إليه ، فآمنوا به واتبعوه ، وعادوا إلى يثرب واستطاعوا من نشر هذه الدعوة هناك ، فأعتنق عدد من أهل يثرب الإسلام ، فلما كان العام الثاني جاء من يثرب اثنا عشر رجلا والتقوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالعقبة فبايعوا الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وآمنوا به.

وبدأ الإسلام ينتشر شيئا فشيئا في يثرب ، وفي العام المقبل جاء أناس كثير من أهل يثرب لأداء مناسك الحج وللاستماع إلى دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأمن الكثير منهم وكانت البيعة الثانية ، وبهذا بنيت أول قاعدة للإسلام في يثرب فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المسلمين في مكة بالهجرة إلى يثرب ، ولم يبق في مكة سوى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصيه علي بن أبي طالب وبعض المسلمين ، ثم هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو أيضا تاركا مكة إلى يثرب سنة ١٤ من البعثة ، واستقبل في يثرب استقبالا رائعا و بهذا انتهت المعاناة والشدائد الذي واجهها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مكة من قبل المشركين.

ولكن المشركين لم يقفوا مكتوفي الأيدي وقد تجرعوا كأس الذلة والهوان ، فاستمروا في محاربتهم للدعوة الإلهية من خلال


الدسائس والتآمر على المسلمين ، ووقعت معارك بين المسلمين والمشركين ، كمعركة بدر وأحد وغيرها ، وبين المسلمين واليهود كمعركة خيبر وغيرها. واستطاع المسلمون خلال فترة قصيرة من تقوية شوكتهم ، فأصبحوا قوة لا يستهان بها واستطاع النبي من تأسيس الدولة الإسلامية في يثرب ومنها تم نشر دعوته إلى العالم كله.

فتح مكة

في السنة السادسة للهجرة قصد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة لأداء فريضة الحج مع أنصاره وأتباعه ، فخرج إلى مكة مع ألف وستمائة رجل وهو لا يحمل سلاحا سوى ما يحمله المسافر عادة ، ولما علمت قريش بذلك اتفقت على منع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من دخول مكة ، ولما وصل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى منطقة قريبة من مكة يقال لها ( حديبية ) بعثت قريش من يفاوض النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويعقد معه صلحا سمي ( صلح الحديبية ) واتفقوا على أن لا يدخل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة في هذه السنة ويسمحوا بالعام القادم من دخولها ، وإيقاف الحرب بينهم لمدة عشر سنوات وغيرها من البنود فوافق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فرجع إلى يثرب مركز حكومته.

وهي هذه الفترة بعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رسائله


إلى الملوك والأمراء في مختلف نقاط العالم يدعوهم إلى التوحيد والإسلام ، فبعث إلى قيصر ملك الروم ، وإلى ملك الفرس ، وإلى ملك الحبشة ، وإلى أمير الغساسنة في الشام وإلى مصر واليمن وغيرهم.

وفي السنة القادمة دخل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة حسب الاتفاق مع الفين من المسلمين لأداء مناسك الحج وإظهار العبودية لله سبحانه وحدة لا شريك له وتركت زيارته هذه الأثر الكبير في نفوس بعض المشركين فاعتنقوا الإسلام ، فلما أحس زعماء قريش بهذا الأمر ، طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مغادرة مكة بعد أداء مناسك الحج مباشرة ، فقبل النبي ورجع إلى يثرب بعد أداء مناسك الحج.

وبعد مدة من الزمن نقضت قريش الاتفاق والصلح الذي عقدته مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في صلح الحديبية ، بغارتها على حلفاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذين جاءوا واستنجدوا به ، فأمر النبي ( صلى عليه وآله وسلم ) بتجهيز جيش ضخم قوامه عشرة آلاف رجل ليدخل مكة فاتحا ، ولما سمعت قريش بذلك أصابها الرعب ، فجاء زعيم المشركين ( أبو سفيان ) معتذرا ولكن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أصر على دخول مكة فاتحا فاستسلم المشركون ودخل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة فاتحا من دون قتال ...


وكان النصر الإلهي العظيم ... فها هو يتيم عبد المطلب الذي قاسى وعانى من طواغيت قريش الذين شتموه واستضعفوه وعذبوه واستهزؤا به ، يدخل مكة قائدا لجيش يرعب القلوب فاتحا منتصرا ناشرا لدعوته رغم أنف المشركين ومحطم أصنامهم وأحلامهم ، ليظهر الله سبحانه دينه ، فانتشرت أنوار التوحيد في ربوع مكة وأسلم أغلب أهلها ، وعاد المهاجرون إلى وطنهم وأهلهم منتصرين ...

واستمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في نشر دعوته حتى لبى نداء ربه في السنة الحادية عشرة للهجرة. وعمره الشريف ثلاث وستون سنة ، وبذلك تنتهي الحياة الأرضية لنبي آخر الزمان محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي أرسل بالدين الكامل والخالد إلى أبد الدهور وحتى تقوم الساعة.


دلائل نبوته (ص)

إن للتعرف على صدق مدعي النبوة بصورة عامة طرقا ، منها تنصيص النبي السابق به ، أو أظهر المعاجز وخوارق العادة لإثبات ارتباطه بالسماء والغيب ، ولأجل إثبات نبوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سنشير باختصار إلى هذين الطريقين :

أولا : البشارة به في العهد الجديد

إن القرآن الكريم كتاب الوحي السماوي يشير في بعض آياته إلى مسألة مهمة وهي أن اليهود والنصارى كانوا يعرفون أن هناك نبي في آخر الزمان ، ومعرفتهم به من خلال الأوصاف والعلامات الموجودة في كتبهم ( العهدين ) لا تقبل الشك ، فالقرآن يشير إلى هذا المعنى في آيات كثيرة منها قوله تعالى ( الذين يتبعون الرسول الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ) (١) وأيضا قوله تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) (٢).

__________________

(١) سورة الأعراف : آية ١٥٧.

(٢) سورة البقرة : آية ١٤٦.


فالقرآن الكريم احتج على أهل الكتاب بأن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد بشر به في التوراة والانجيل وإن كان هذا الادعاء غير صحيح ، لاحتج أهل الكتاب بذلك على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولأنكروا البشارة به في كتبهم ، ولكنهم على العكس من ذلك لاذوا بالصمت واختلاق التهم وإخفاء الحق وتفسير الكتاب وفق أهوائهم ، لإبعاد أتباعهم عن قبول الحق والإيمان بالنبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والباحث في التاريخ يجد أن البعض من علماء أهل الكتاب ولا سيما من النصارى بعد ما أدركوا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو سمعوا بدعوته ورسالته آمنوا به واعتنقوا الإسلام ، لمعرفتهم بأنه النبي المنتظر في آخر الزمان ، وقصة بحيرا الراهب وسلمان الفارسي وغيرهم الكثير تؤيد هذا المدعى. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا أمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) (١).

وكما أشرنا فإنّ الكتاب المقدّس عند اليهود والنصارى يتألّف من عهدين : العهد القديم والعهد الجديد ، وقد أُلّفت العشرات من الكتب لإثبات البشارة بالنبي الخاتم (ص) في العهد القديم والجديد

__________________

(١) سورة المائدة : ٨٣ ـ ٨٤.


منها :

١ ـ كتاب « محمد في الكتاب المقدّس » للبروفسور عبد الأحد داود ، القس الذي اعتنق الإسلام.

٢ ـ كتاب « محمد في التوراة والإنجيل والقرآن » للكتاب إبراهيم خليل أحمد.

٣ ـ كتاب « البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل » للدكتور أحمد حجازي السقا.

٤ ـ كتاب « بذل المجهود في إفحام اليهود » للعالم اليهودي شموئيل بن يهوذا بن أيوب ، الذي اعتنق الإسلام وسمّى نفسه « السموئيل بن يحيى ».

وغيرها من الكتب الكثيرة ، وأنا سأكتفي هنا ينقل بعض الإشارات بالنبي في العهد الجديد إذ يؤكد القرآن الكريم بأن يسوع المسيح ( عليه السلام ) قد بشر بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باسمه الصريح كما في قوله تعالى ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ، ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) (١) ويمكن إثبات هذه الحقيقة حتى في الأناجيل ( العهد الجديد ) المتداولة بين أيدينا الآن ،

__________________

(١) سورة الصف : آية ٦.


وبالخصوص من إنجيل يوحنا ، وإليك عزيزي القارئ بعض النصوص من إنجيل يوحنا بهذا الخصوص :

يقول ( إذا كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد ) ( يو : ١٤ : ١٥ ـ ١٦ ). وأيضا ( يو : ١٤ : ٢٦ ) وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم وأيضا ( يو : ١٥ : ٢٦ ) ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء وأيضا يو : ١٦ : ٧ ـ ٨ لكني أقول لكم الحق ، إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي ولكني إن ذهبت أرسله إليكم ومت ء ٢ ى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة وأيضا ( يو : ١٦ : ١٣ ) وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتيه ...

وهذه النصوص كلها تشير بالحقيقة إلى الاسم الصريح للنبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد أستدل على ذلك مؤلف كتاب « أنيس الأعلام في نصرة الإسلام » (١) وأثبت أن النصوص

__________________

(١) مؤلف هذا الكتاب هو أحد القسيسين ، وينقل في مقدمة الكتاب أنه ولد في أرومية في ايران واشتغل بطلب العلوم الدينية وكان في فرقة البروتستانت ، وقام بتأليف هذا الكتاب بعد إسلامه ولقب بفخر


الآنفة الذكر من إنجيل يوحنا كلها تشير إلى النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولكن علماء الكتاب المقدس ومفسريه هم الذين حرفوا معنى هذه الكلمة ، ونذكر هنا استدلاله باختصار ، فيقول :

وجه الاستدلال يتوقف على بيان نكتة ، وهي أن المسيح ( عليه السلام ) كان يتكلم بالعبرية ( وكانت اللغة السائدة في فلسطين مع اللغة الأرامية ) وكان يعظ تلاميذه بها ، لأنه ولد وشب بين ظهرانيهم هذا من جانب ، ومن جانب آخر أن المؤرخين أجمعوا على أن الأناجيل الثلاثة ( لوقا ، مرقس ، يوحنا ) كتبت من أول يومها باللغة اليونانية ، وأما إنجيل متي فكان عبريا من أول إنشائه ( وثم ترجم إلى اليونانية ولا وجود للنسخة العبرية الآن ).

وعلى هذا فالمسيح ( عليه السلام ) بشر بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باللغة العبرية ، وإنما نقله إلى اليونانية كاتب الإنجيل الرابع ( يوحنا ) وكان عليه التحفظ على لفظ المسيح ( عليه السلام ) ، لأن القاعدة الصحيحة تقتضي عدم تغيير الإعلام والاتيان بنصها الأصلي ، لا ترجمة معناها. ولكن يوحنا لم يراع هذا الأصل ، وترجمة إلى اليونانية فضاع لفظه الأصلي الذي تلكم به المسيح ( عليه السلام ) ، وفي غب ذلك حصل الاختلاف في المراد منه ، وأما اللفظ

__________________

الإسلام واسمه محمد صادق وهذا الكتاب في ستة أجزاء وطبع في ايران باللغة الفارسية.


اليوناني الذي وضعه الكاتب يوحنا مكان اللفظ العبري فهو مردد بين كونه ( پاراقليطوس ، pericletos ) الذي هو بمعنى المعزي والمسلي والمعين ، أو ( پريقليطوس pericletos ) الذي هو بمعنى المحمود ، الذي يرادف أحمد.

ولأجل تقارب الكلمتين في الكتابة والتلفظ والسماع ، حصل التردد في المبشر به ، ومفسرو ومترجمو إنجيل يوحنا ، يصرون على الأول ولأجل ذلك ترجموه إلى العربية ب‍ ( المعزي ) وإلى اللغات الأخرى بما يعادله ويرادفه ، وادعوا أن المراد منه هو روح القدس ، وأنه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقدان المسيح ( عليه السلام ) ( يوم العنصرة ) (١) ...

ولكن القرائن الكثيرة كلها تأبى هذا التفسير لهذه الكلمة ب‍ ( المعزي ) بل كون معناها المحمود ، أحمد أقرب إلى الظاهر وإليك بعض القرائن على ذلك ، كما ينقلها الأستاذ العلامة السبحاني :

١ ـ إنه وصف المبشر به بلفظ ( آخر ) وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر ، وهذا لا يناسب كون المبشر به نظير روح القدس لعدم تعدده ، وانحصاره في واحد ، بخلاف الأنبياء فإنهم يجيئون واحدا بعد الآخر.

٢ ـ إنه ينعت ذلك المبشر به بقوله ليمكث معكم إلى الأبد

__________________

(١) الإلهيات ج ٣ ص ٤٤٩.


وهذا يناسب نبوة النبي الخاتم التي لا تنسخ.

٣ ـ إنه يقول وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي ، فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم وهذه الجملة تناسب أن يكون المبشر به نبيا يأتي بعد فترة من رسالة النبي السابق بعد أن تصير الشريعة السابقة على وشك الاضمحلال والاندثار ، فيأتي النبي اللاحق يذكر بالمنسي ، وأما لو كان المراد هو الروح القدس فقد نزل على الحواريين بع خمسين يوما من فقد المسيح ( عليه السلام ) حسب ما ينص عليه كتاب أعمال الرسل ( ١ : ٥ ، ٢ : ١ ـ ٤ ) ، أفيظن أن الحواريين نسوا في هذه المدة اليسيرة معالم المسيح ( عليه السلام ) وتعاليمه حتى يكون النازل هو الموعود به؟!.

٤ ـ أنه يقول لأنه إن لم أنطلق ، لا يأتيكم المعزي ولكن أن ذهبت أرسله إليكم وهذا يناسب أن يكون المبشر به نبيا حيث علق مجيئه بذهابه ، لأنه جاء بشريعة عالمية ، ولا تصح سيادة شريعتين مختلفتين على أمة واحدة في وقت واحد ولو كان المبشر به هو روح القدس ، لما كان لهذا التعليق معنى لأن روح القدس حسب تصريح إنجيلي متى ولوقا ، نزل على الحواريين عندما بعثهم المسيح ( عليه السلام ) للتبشير والتبليغ ( أنظر متى : ١٠ ـ ١١ ) ( لو : ١٠ ـ ١١ ).

٥ ـ ويقول ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة ... وهذا يؤيد أن يكون المبشر به نبيا إذ لو كان المراد


هو روح القدس ، فهو نزل في يوم الدار على الحواريين حسب زعمهم ، فما وبخ اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا ، لعدم رؤيتهم إياه.

ولم يوبخ الحواريين لأنهم كانوا مؤمنين به.

٦ ـ ويقول ومتى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. وهذا يتناسب مع كون المبشر به نبيا خاتما ، صاحب شريعة متكاملة ، لا يتكلم إلا بما يوحى إليه ، وهذه كلها صفات الرسول الأكرم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (١).

وأكتفي بهذه القرائن على أن المحققين قد ذكروا قرائن أخرى كثيرة تثبت أن المراد من المبشر به هو النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن أراد التوسع فليطالع كتبهم (٢).

وختاما لهذا المختصر أنقل قصة ذكرها مؤلف كتاب أنيس الأعلام في نصرة الإسلام بهذا الخصوص تتمة للفائدة ، يقول المؤلف : مؤلف هذا الكتاب أبا عن جد من أكابر القساوسة المسيحيين ، وولادتي كانت في أرومية في ايران ، وتعلمت العلوم الدينية عند العلماء والمعلمين النصارى ومن جملتهم الأب ( يوحنا بكير ) والقس ( يوحناى جان ) وغيرهم من فرقة البروتستانت ، ومن

__________________

(١) الإلهيات ج ٣ ص ٤٥٠ ـ ٤٥٢.

(٢) من أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب أنيس الأعلام في نصرة الإسلام ج ٥ ص ١٣٩ ـ ١٧٢.


فرقة الكاثوليك الأب ( تالو ) والقس ( كوركز ) وغيرهم من المعلمين التاركين للدنيا.

وفي سن الثانية عشرة أكملت الدراسة الأولية وتخرجت بدرجة قسيس ، وبعد ذلك أحببت التوسع في البحث عن العقائد والملل المختلفة ، ولا سيما المذاهب المسيحية ، وطفت البلدان الكثيرة من أجل العلم إلى أن انتهى بي المطاف عند عظيم القساوسة ، المطران صاحب المقام الرفيع في فرقة الكاثوليك ، وكان صاحب منزلة وشأن عظيم ومشهورا في ذلك المذهب بعلمه وتقواه وزهده ، بحيث أن الملوك والسلاطين والأشراف والرعية من فرقة الكاثوليك كانوا يلجؤون إليه في سؤالاتهم الدينية وينهلون منه معالم دينهم ، ويبعثون إليه بالهدايا الكثيرة ، ويتشرفون بالتبرك به.

وقد تعلمت الأصول والعقائد للمذاهب المختلفة عند هذا العالم الجليل ، وكان يحضر درس هذا الأستاذ أيضا الكثير من التلاميذ وكان يصل عددنا تقريبا إلى خمسمائة تلميذ وبيننا الكثير من الأخوات التاركات للدنيا الراهبات ، وكانت لي مع العالم علاقة خاصة ، إذ كان له أنس ومحبة واهتمام خاص بي ، ولهذا فقد سلمني مفاتيح المدرسة ( المسكن والمخزن وغيرها ) كلها باستثناء مفتاح لغرفة صغيرة خاصة به ، وكنت أظن أن فيها أمواله الشخصية ، ولذا كنت أحدث نفسي وأقول أن هذا العالم الجليل الزاهد في الظاهر لعله من أهل الدنيا وأنه ( ترك الدنيا للدنيا ) ...


وامتدت مدة دراستي عنده إلى السنة الثامنة عشرة تقريبا ، وفي أحد الأيام نزل بالمطران الكبير مرض أقعده عن الدرس في ذلك اليوم ، وأمرني أن أبلغ التلاميذ بأنه لا يستطيع حضور الدرس ، لأن مزاجه لا يساعد على التدريس ، وفعلا خرجت إلى التلاميذ لا بلاغهم أمر الأستاذ ، فرأيت التلاميذ مجتمعين يتباحثون في مسألة علمية ، وكان حديثهم يدور حول كلمة ( فارقليطا ) في السرياني و ( پيرقليطوس ) باليوني ، الذي ذكرها ( يوحنا ) في إنجليه نقلا عن المسيح ( عليه السلام ). وكثر الجدال والنقاش حول هذه الكلمة ، واختلفت الآراء في معنى هذه الكلمة ، وانتهى النقاش وانصرف التلاميذ دون الوصول إلى نتيجة ...

وبعدها رجعت إلى غرفة المطران الأعظم فسألني : يا بني عند غيابي اليوم بأي موضوع تباحثتم؟ فذكرت له أن التلاميذ اختلفوا في معنى كلمة ( فارقليطا ) وأوضحت له الآراء التي طرحها التلاميذ في هذه المسألة فسألني : وما كان رأيك في هذه الكلمة؟ فأجبته بأنني قد اخترت قول المفسر الفلاني. فقال لي لست مقصرا ، ولكن الحق خلاف هذه الأقوال جميعا ، لأنه لا يعرف معنى تفسيرها هذا الاسم الشريف في زماننا إلا القليل من الراسخين في العلم ، فدنوت منه وجلست عند قدميه ، واستعطفته قائلا : أيها الأب الأعظم ، إنك تعلم شدة تعصبي للمسيحية ، وإني قد صرفت عمري من أوله إلى الآن في طلب العلم وتحصيله ، فماذا يحدث لو تتفضل وتتلطف علي ، وتوضح


لي معنى هذا الاسم الشريف ...

فرأيت عينيه اغرورقت بالدموع وأجهش الشيخ بالبكاء ، وقال : يا بني إنك والله أعز الناس عندي ، ولك منزلة خاصة ، ومع أن هذا الاسم الشريف له فائدة عظيمة ، ولكن بمجرد انتشار هذا المعنى فإن المسيحيين سوف يقتلوننا معا ، إلا أن تعاهدني الله على أنك لا تفشي هذا السر في حياتي ولا تذكر اسمي بعد مماتي أيضا ، لأن المسيحيين إن علموا أن هذا التفسير أنا الذي كشفته فإنهم سيخرجونني من قبري ويحرقونني ...

فأغلظت له الأيمان بالله العظيم القاهر الغالب ، وبحق عيسى ومريم ( عليهما السلام ) وبحق كل الأنبياء والانجيل ، بأني سوف لن أبوح بهذا السر عنك أبدا ، ولا أذكر اسمك في الحياة وبعد الممات. فطمأن لي وقال : يا بني إن هذا الاسم هو من الأسماء المباركة لنبي المسلمين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو بمعنى أحمد ومحمود ، ومن ثم ناولني مفتاح تلك الغرفة الصغيرة ، وقال افتح الصندوق الفلاني ستجد الكتاب الفلاني والفلاني فاتني بهما ، فذهبت وجئته بالكتابين ، وكانا باليوناني والسرياني ومكتوبان على جلد قديم ، وقد ترجم لفظ ( فارقليطا ) فيهما بمعنى أحمد ومحمد فقال لي : إعلم يا بني أن العلماء والمترجمين المسيحيين قبل ظهور نبي الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكونوا مختلفين في معنى ( أحمد ومحمد ) ولكن بعد ظهوره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإن العلماء والقساوسة الكبار


حرفوا كل الكتب والتراجم التي تفسر هذه الكلمة إلى هذا المعنى ، من أجل حفظ رئاستهم ومنافعهم الدنيوية وأيضا حسدا وعنادا وتكبرا ، وابتدعوا معنى جديدا لهذا الاسم الشريف ، وهذا المعنى الجديد لم يكن أبدا المقصود لكاتب الإنجيل ، ويمكن بسهولة ومن خلال ترتيب ونسق الآيات الموجودة حاليا في إنجيل يوحنا ، معرفة المعنى الحقيقي لهذا الاسم وأن معنى المسلي والمعزي والروح القدس لم يكن المقصود لكاتب الإنجيل.

لأن المسيح ( عليه السلام ) اشترط في مجيئ ( فارقليطا ) ذهابه ورحيله ، لأنه لا يجوز اجتماع نبيين مستقلين صاحبي شريعة عامة في زمان واحد ، بخلاف روح القدس الذي نزل يوم العنصرة ( يوم الخمسين ) بعد المسيح ( عليه السلام ) ، لأنه مع وجود عيسى ( عليه السلام ) والحواريين نزل الروح القدس عليه وهو واضح في إنجيل متى ( ٣ : ١٦ ـ ١٧ ) إذ يقول أن الروح القدس نزل على المسيح ( عليه السلام ) بعد تعميده من قبل يوحنا المعمدان بصورة حمامة ...

وفي ختام القصة يضيف المؤلف فسألت الحبر الأعظم : فما المانع من قبولك للإسلام ومتابعة سيد الأنام مع أنك تعلم فضيلة الإسلام وأن متابعة النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو طريق النجاة والصراط المستقيم المؤدي إلى الله؟ فأجاب : يا بني إني قد اطلعت على هذه الحقيقة في أواخر عمري وأنا شيخ كبير السن وفي الحقيقة أني لا أستطيع ترك هذه الرياسة العظيمة والعزة والشأن


والمقام الرفيع بين النصارى ، ولكني في الباطن مسلم وبحسب الظاهر نصراني ، وإذا ما أعلنت إسلامي فأنهم سوف يقتلونني .... فقلت له : إذن هل تأمرني أن أعتنق الإسلام؟ فقال إن أردت النجاة يجب عليك قبول دين الحق ، ولأنك شاب في مقتبل العمر عسى أن يهيئ لك الله سبحانه أسباب الحياة الدنيوية أيضا ، وإني سوف أكثر الدعاء لك ، على أني أشهدك يوم القيامة بأني باطنا من المسلمين والتابعين لسيد المرسلين محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ). واعلم أن أغلب العلماء والقساوسة الكبار في باطنهم لهم نفس حالتي ، ولكنهم لا يستطيعون ترك الرياسة الدنيوية ، وإلا فليس هناك أي شك وشبهة في أن الإسلام اليوم هو دين الله على الأرض (١).

وينقل أيضاً عبد الوهاب النجار في كتابه « قصص الأنبياء » حول لفظ « فارقليط » ما هذا نصّه :

كنت في سنة ١٨٩٣ ـ ١٨٩٤ م طالباً بدار العلوم في السنة الأُولى ، وكان يجلس بجانبي ـ في درس اللغة العربية ـ العلامة الكبير الدكتور « كارلو نلينو » المتشرق الطلياني ، وكان يحضر درس اللغة العربية بتوصية من الحكومة الإيطالية ، فانعقد أواصر الصحبة المتينة بيني وبينه ... ففي ليلة السابع والشعرين من رجب سنة ١٣١١ هـ

__________________

(١) كتاب ( أنيس الأعلام في نصرة الإسلام ) ج ١ ص ٦ ـ ١٩ .... والكتاب كما ذكرت طبع باللغة الفارسية وقد ترجمت القصة من الفارسية إلى العربية.


خرجنا من إحدى المحاضرات وسرنا في « جرب الجماميز »؟ فقال لي الدكتور نلينو : هذه الليلة ليلة المعراج؟ قلت نعم : فقال : وبعد ثلاثة أيام عيد السدة زينب! فقلت : نعم : ثمّ قلت له : ما رأيك يا دكتور في المعراج؟ فقال : هو ذهاب النبي عليه السلاثة والسلام من مكة إلى بين المقدّس ليلاً وصعوده إلى السماء وعودته إلى مكة في ليلة واحدة.

فقلت : أنا أعلم أنّك تفهم هذا ، ولكن الذي أُريد أن أعرفه هو رأيك في هذا القول؟ هل هوصحيح أو كاذب؟ والرجل مؤدّب جدّاً فقال : هذا شيء عجيب! فقلت : يوجد ما هو أعجب منه ، قال : ماهو؟ قلت : إنّ المسحي يُصلب ويُقتل ويُدفن ثمّ يقولم من الأموات ويصعد إلى السماء ويجلس على يمين الله. فقال : وهذا أيضاً شيء عجيب ، ثم قلت له : انا أعلم أنك حاصل على شهادة الدكتواره في آداب اللغة اليونانية القديمة ما معنى « بيريكلتوس »؟ فأجابني بقوله : إنّ القسس يقولون : إنّ هذه الكلمة معناها « المعزي ». فقلت له : إني أسأل الدكتور « كارلو نلينو » الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة ، ولست أسأل قسيساً ، فقال : إنّ معناها « الذي له حمد كثير » فقل : هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حَمَد؟ فقال : نعم ، فقلت : إن رسول الله (ص) من أسمائه « أحمد » فقال : يا أخي أنت تحفظ كثيراً ثمّ افترقنا (١).

__________________

(١) قصص الأنبياء : عبد الوهاب النجار ، ص ٤١١.


نعم يا عزيزي القارئ أنها الحقيقة التي لا غبار عليها ، وهي واضحة وجلية لكل باحث ، ولا شك ولا ريب فيها ولكن التعصب وجب الدنيا هي التي تمنع الإنسان من الاذعان والخضوع للحق ، واعتقد أن هذه الحقيقة لوحدها كافية لكل عاقل ذي لب يروم الوصول إلى الحق ، ولمن يستمع القول فيتبع أحسنه. فيؤمن بأن النبي الخاتم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو النبي المبشر به في التوراة والانجيل ، وهو نبي آخر الزمان. وأن الإسلام هو الدين الحق.

ثانيا : معاجزه (ص)

من الواضح أن الأنبياء ( عليهم السلام ) عندما كانوا يظهرون النبوة ويقومون بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الله سبحانه ، كان الناس بالمقابل ـ ولإثبات صدق دعوى النبوة ـ يطالبونهم بالمعاجز والآيات والخوارق للعادة التي يعجز عنها الإنسان العادي ، ليتيقنوا بأن هذا النبي صادق في مدعاه وأنه مبعوث من قبل الله تعالى.

وكان الأنبياء غالبا ما يستجيبون للناس ويظهرون المعاجز والآيات لهم ، بل وفي بعض الأحيان فإن النبي كان يأتي بالمعجزة قبل أن يطلب الناس ذلك منه ، وهذا ما تنقله كتب التاريخ عن الكثير من الأنبياء السابقين كموسى ( عليه السلام ) وعيسى ( عليه السلام ) وغيرهم.


والنبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن مستثنى من هذا الأمر ، فإنه عندما صدع بالرسالة والنبوة والدعوة إلى الدين الإلهي الخاتم طالبه قومه بالمعاجز والآيات لإثبات صدق دعواه ، وكان الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يستجيب لهم ويلبي طلباتهم أحيانا وبالقدر الذي يفي بالمقصود ، وقد حفظ التاريخ الكثير من هذه المعاجز وألفت كتب كثيرة في هذا الجانب ، منها كتاب إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات (١) وقد ذكر المؤلف في هذا الكتاب نقلا عن كتب التاريخ الكثير من المعاجز التي جرت على يد الرسول الأكرم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منذ ولادته حتى وفاته.

ولكن بالرغم من هذا فإن بعض المعاندين للإسلام أنكروا أن يكون الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أتى بمعجزة سوى القرآن الكريم ، فمثلا القسيس الألماني فندر يذكر في كتابه ميزان الحق من ( أن محمدا لم يأت بأية معجزة قط ) بل وأن الكثير من القساوسة أثاروا مثل هذه الشبهة ، جاهلين أو متجاهلين المعاجز الكثيرة التي ملأت صفحات التاريخ ، وأعتقد أن مثل هذا الادعاء الواهي لا يستند إلى أي دليل علمي وهو خلاف ما يقتضيه البحث والتحقيق المنصف ، فلا يكاد يخلو كتاب تاريخي بعد البعثة النبوية

__________________

(١) الكتاب من تأليف الشيخ الحر العاملي ( ١١٠٤ ه‍ ) وهو في ثلاثة مجلدات وقد جمع فيه المئات من معاجز النبي (ص).


الشريفة من ذكر معاجز النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والإشارة إليها تفصيلا أو إجمالا ، ومن معاجزه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على سبيل الذكر معجزة رد الشمس ( القضية المشهورة ) وأيضا شفاء المرضى كما في غزوة خيبر عندما كان أمير المؤمنين ( علي ابن أبي طالب ) أرمدا فمسح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بريقه الشريف على عينه فشفي ، وأيضا حادثة الشجرة وإطاعتها للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكذلك قصة الوليمة التي أطعم فيها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أربعين رجلا من عشيرته الأقربين بطعام لا يكفي سوى لرجل واحد وأيضا المعجزة المشهورة والتي ذكرها القرآن الكريم وهي معجزة شق القمر (١) ، وأيضا الإخبار بالمغيبات كإخباره بأسماء الأئمة والخلفاء بعده واحدا بعد واحد وغيرها الكثير الذي لا يسمع المجال في هذا البحث المختصر من ذكرها ، ولكن تبقى المعجزة الكبرى والخالدة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هي الكتاب الإلهي الوحي ( القرآن الكريم ) خير شاهد على نبوته وصدقه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهذا الكتاب السماوي هو أتم وأقوى

__________________

(١) والحادثة باختصار : أن المشركين اجتمعوا إلى رسول الله (ص) فقالوا : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فلقتين. فقال لهم رسول الله (ص) : إن فعلت تؤمنون؟ قالوا نعم ، وكان ليلة بدر ، فسأل رسول الله (ص) ربه أن يعطيه ما قالوا ، فشق القمر فلقتين ، ورسول الله (ص) ينادي يا فلان ، يا فلان ، اشهدوا عن الإلهيات ج ٣ ص ٤٣٩ والحادثة مذكورة في أغلب كتب التاريخ بالتفصيل.


دليل على أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرسل من قبل الله سبحانه.


القرآن الكريم وإعجازه

كما ذكرت سابقا فإن المسيحيين ينظرون إلى القرآن الكريم على أنه كتاب من نتاج وفكر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا علاقة له بالوحي والسماء. ولا شك في أن اثنين منهم لا يختلف في هذه العقيدة وعلى اختلاف مذاهبهم ، وهذا أمر بديهي لأنهم ينكرون نبوة النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلذا من الطبيعي أن يرفضوا الكتاب الذي جاء به ، وقد أشربت هذه العقيدة في نفوسنا وأذهاننا منذ الصغر وكثيرا ما كانوا يحذروننا من مطالعة هذا الكتاب لأنه ( والعياذ بالله ) فيه ضلالة وإساءة للديانة المسيحية ومقدساتها.

وأنا لست في صدد القاء نظرة شاملة على هذا السفر الإلهي ، ولكن أرى من المناسب ذكر بعض الخصائص لهذا الكتاب الخالد ، وأيضا ذكر بعض أوجه إعجازه ، ومن ثم أذكر قصة المسيح ( عليه السلام ) وأمه الطاهرة مريم ( عليها السلام ) كما يحكيها الوحي الإلهي : ـ


يحتوي القرآن الكريم على (١١٤) سورة ، وقد نزلت آيات القرآن على قلب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تدريجا ولمدة ثلاث وعشرين سنة ، وهي فترة حياته الشريفة منذ بعثته حتى رحيله إلى الرفيق الأعلى ، وأول صفة واضحة على هذا الكتاب هي شموليته ، فقد اشتمل القرآن على معارف إلهية حقيقية رفيعة ، وأخلاق فاضلة ، وأحكام تشريعية ، وأخبار بالمغيبات ، وقصص وأمثال وحكم ومواعظ ، ومعارف وعلوم أخرى لم تكن معروفة حتى بعد البعثة الشريفة بقرون عديدة ، ثم اكتشف بعضها العلم الحديث ، ومع اختلاف هذه المعارف والعلوم فقد بينت بلغة فصيحة وبلاغة رائعة أسحرت قلوب ونفوس العرب في الجاهلية مع ما يشتهرون به من بلاغة وفصاحة.

والصفة الأخرى التي يمكن الإشارة إليها والتي تبين إعجاز هذا الكتاب بشكل واضح هي عدم وجود الاختلاف والتناقض بين آياته ، بل القرآن الكريم يعاضد بعضه بعضا ، ويشهد بعضه على بعض فهل يمكن لإنسان أن يأتي بكتاب جامع لشتى مجالات وشؤون العالم الإنساني ويلقي إلى الدنيا معارف وعلوما وقوانينا وحكما ومواعظا وأمثالا وقصصا وغيرها من العلوم ، ثم لا يختلف حاله في شئ منها في الكمال والنقص والبلاغة والفصاحة مع أن الطبيعة البشرية من خصائصها أن الإنسان يتكامل علما وعملا ، وذلك من خلال كسبه للتجارب في حياته ، وأيضا فحالات الإنسان ومزاجه


تختلف من حيث الفرح والألم ، والعسر واليسر والمرض والعافية ، والسلم والحرب وغيرها ، وهذا ما هو مشهود بالوجدان عند كل إنسان ، وهذا الكتاب كما ذكرنا جاء به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خلال فترة ثلاث وعشرين سنة ، وفي حالات وأزمنة متفاوتة ، من حيث الشدة والرخاء ، والليل والنهار ، والسقم والعافية ، والسلم والحرب ، والخوف والأمان ، ولكن بالرغم من كل هذا فإننا نراه على وتيرة واحدة ومستوى واحد ، لا تضاد بين معارفه ولا اختلاف بين أحكامه ، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذا الدليل الإعجازي بقوله ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) (١) وخير دليل وشاهد على قولنا هذا العهد الجديد نفسه ، فالاختلاف فيه واضح وبين مع أنه لا يمكن مقايسته مع القرآن من حيث شموليته وجامعيته ومستوى العلوم والمعارف التي جاء بها القرآن الكريم.

وأيضا من خصائص هذا الكتاب هي ذكره للمغيبات ، ومنها أخباره بقصص الأنبياء السابقين وأممهم بشكل يختلف تماما عما هو موجود في كتب العهدين ، وهذه القصص هي من أنباء الغيب كما يذكر ذلك سبحانه وتعالى بقوله في قصة كفالة زكريا لمريم ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل

__________________

(١) سورة النساء آية ٨٢.


مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ) (١) وغيرها من القصص الأخرى الكثيرة ، وأيضا منها الإخبار عن الحوادث المستقبلية ، كالإخبار عن انتصار الروم بعد هزيمتهم كما في قوله تعالى ( غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بعض سنين ) (٢).

والصفة الأخرى التي يتميز بها القرآن هي بلاغته وفصاحته التي تحدى بها الإنس والجن في أن يأتوا بسورة واحدة من سوره. مع أن عرب الجاهلية مشهورون بفصاحة لسانهم ، وبلاغة حديثهم ، بل لا نبالغ لو قلنا بأن ما بلغه عرب الجاهلية من الفصاحة والبلاغة وكمال البيان لم يذكره التاريخ لواحدة من الأمم السابقة لهم أو المتأخرة عنهم ، ومع هذا فأنهم وقفوا متحيرين بما يصفون هذا الكلام الذي لم يسمعوا بأبلغ وأروع منه قط ، وهذا ما أعترف به بعض فصحاء المشركين أنفسهم ، فما كان منهم إلا أن رموه بالسحر ، لسمو معانيه ، وعذوبة أسلوبه ، وشدة تأثيره في نفوس الناس.

__________________

(١) آل عمران ـ ٤٤.

(٢) سورة الروم آية ( ١ ـ ٦ ) والقصة باختصار هي : ينقل التاريخ أن دولة الروم ـ وكانت دولة مسيحية ـ انهزمت أمام دولة الفرس وهي وثنية ، بعد حروب طاحنة بينهما سنة ٦١٤ م. فاغتم المسلمون ، وفرح المشركون وقالوا للمسلمين : سنغلبكم كما غلبت الفرس الروم ـ ولكن وكما وعد القرآن فإن الروم استطاعوا أن يهزموا الفرس في سنة ٦٢٤ م. الموافقة للسنة الثانية للهجرة. الإلهيات ج ٣ ص ٤١٥.


وقد مضى على هذا التحدي للقرآن من القرون ما يزيد على أربعة عشر قرنا ولم يجرء على معارضته أحد ، ومن جرب حظه وحاول تحديه ومعارضته لم يجني إلا الخزي وافتضاح أمره ، كمسيلمة الكذاب وغيره ، وكتب التاريخ خير شاهد على هذا.

وأخيرا فإن هذا القرآن جاء به رجل أمي لم يتعلم عند معلم من الإنس ، بل ولم يكن يعرف القراءة والكتابة ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عاش بين قومه أربعين سنة ، ولم يأتي خلال هذه الفترة ببيت واحد من الشعر ، وبعد هذه الفترة الطويلة من عمره الشريف ، جاء فجأة بكتاب بليغ وفصيح عجز عنه فصحاء العرب وبلغائهم وكلت دونه ألسنتهم ، فلا يبقى شك في أن هذا الكتاب هو من وحي السماء أنزل على قلب النبي الأمي الخاتم للرسالات ليكون معجزته الخالدة إلى يوم القيامة ، ويكون هدى ورحمة للعالمين على مدى الدهور.



قصة المسيح (ع) وأمه في القرآن الكريم

يحكي القرآن الكريم قصة المسيح ( عليه السلام ) وأمه بشكل مختلف عما نقلته كتب العهد الجديد ، فالقرآن يبدء القصة بذكر امرأة عمران ( والدة مريم ) فيذكر قصة حملها بمريم ونذر ما في بطنها ليكون خادما للمسجد فقال تعالى : ( إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) (١) فتقبل الله سبحانه وتعالى نذرها هذا ، وبعد ولادتها أتت بها إلى المعبد وسلمتها للكهنة وكان بينهم زكريا ( عليه السلام ) فاختلفوا فيما بينهم أيهم يكفلها ، فاتفقوا على القرعة ، فكانت من نصيب النبي زكريا ( عليه السلام ) فكفلها حتى إذا نبتت وبلغت

__________________

(١) سورة آل عمران آية ٣٦ ومريم معناها ( الخادمة ).


ضرب لها من دونهم حجابا تعبد الله سبحانه ، لا يدخل عليها المحراب إلا زكريا فيقول سبحانه : ( فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) (١).

ثم إن الله تعالى بشرها بولادة عيسى المسيح ( عليه السلام ) حيث أرسل الملاك إليها وهي محتجبة وقد تمثل لها بشرا فبلغها البشارة بأن الله سبحانه يهب لها طفلا مباركا يكون رسولا إلى بني إسرائيل وأخبرها بمنزلته العظيمة عند الله ، ثم نفخ فيها فحملت مريم ( عليها السلام ) بالمسيح ( عليه السلام ) حمل المرأة بولدها والقصة كما يذكرها القرآن هي :

( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا. فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا. قالت أني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا. قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا. قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا. قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ) (٢) ثم حان موعد الولادة المباركة

__________________

(١) آل عمران آية ٣٧.

(٢) سورة مريم آية ١٦ ـ ٢١.


فجاءها المخاض إلى جذع النخلة وهناك وضعت عيسى ( عليه السلام ) ويذكر القرآن أول معاجزه ( عليه السلام ) حيث كلم والدته في أول يوم ولادته حيث يذكر القرآن قصة الولادة بقوله تعالى : ( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا. فكلي واشربي وقري عينا فأما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا ) (١).

ثم يقص القرآن كيف أن مريم العذراء ( عليها السلام ) جاءت بالمسيح ( عليه السلام ) إلى قومها فلما رأوها والطفل معها ثاروا عليها بالطعن واللوم فسكتت وأشارت إليه ( عليه السلام ) أن كلموه فتعجبوا من ذلك إذ كيف يمكن التكلم مع طفل ما زال في المعد فنطق الطفل المعجزة بكلام رائع إذ يحكي القرآن هذا الموقف بقوله تعالى : ( فأتت به قومها تحمله قالوا ما مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا. فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا. والسلام

__________________

(١) سورة مريم آية ٢٢ ـ ٢٦.


علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) (١).

ثم نشأ عيسى ( عليه السلام ) وشب وكان وأمه على العادة الجارية في الحياة الدنيوية الطبيعية للبشر ، يأكلان ويشربان وفيهما ما في سائر الناس من عوارض الوجود إلى آخر عمرهما. ثم أن عيسى ( عليه السلام ) أرسل إلى بني إسرائيل فقام يدعوهم إلى دين التوحيد ، وكان يدعوهم إلى الشريعة الجديدة المطابقة لشريعة موسى ( عليه السلام ) إلا أنه نسخ بعض ما حرم في التوراة تشديدا على اليهود ، وقد جاء ببينات ومعاجز كثيرة يذكرها القرآن وذلك في قوله تعالى : ( ورسولا إلى بني إسرائيل إني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين. مصدقا لما بين يدي من التوراة ولا حل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون. إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ) (٢) ثم إنه من خلال دعوته بشر بالنبي الخاتم الرسول الأكرم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ ينقل البشارة عن لسان عيسى ( عليه السلام ) بقوله تعالى : ( وإذ قال عيسى ابن مريم با

__________________

(١) سورة مريم آية ٢٧ ـ ٣٣.

(٢) سورة آل عمران آية ٤٩ ـ ٥١.


بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ) (١).

ولم يزل عيسى ( عليه السلام ) يدعوهم إلى التوحيد والشريعة الجديدة حتى أيس من إيمانهم لما رآه من استكبار وعناد الكهنة والأحبار عن قبول الدين والرسالة التي جاء بها فانتخب من بين أتباعه الحواريين ليكونوا أنصارا له إلى الله سبحانه فيقول تعالى في القرآن الكريم : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ) (٢).

وأيضا ينقل القرآن الكريم قصة نزول المائدة من السماء على عيسى ( عليه السلام ) وحوارييه الذين طلبوا منه هذه المعجزة لتطمئن قلوبهم قال تعالى : ( إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية

__________________

(١) سورة الصف آية ٦.

(٢) سورة الصف آية ١٤.


منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) (١) ثم أن أحبار اليهود وعلمائهم ثاروا عليه يريدون قتله ، فتوفاه الله سبحانه ورفعه إليه ، وشبه لليهود أنهم قتلوه وصلبوه فيقول تعالى : ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ) (٢) فهذه مجمل ما قصه القرآن في المسيح ( عليه السلام ) وأمه القديسة مريم.

كيف وصف القرآن الكريم المسيح (ع) وأمه

إن القارئ للقرآن الكريم يجد أن هذا الكتاب الإلهي ذكر صفات للمسيح ( عليه السلام ) وأمه ، قل ما ذكرها لأحد الأنبياء والنساء ، فقد ذكر لهذا النبي المكرم خصال رفع بها قدره ، وكذلك الحال بالنسبة لأمه الطاهرة. وإني من هنا أدعو كل مسيحي محب للسيد المسيح ( عليه السلام ) وأمه العذراء بمطالعة هذا السفر الإلهي المحمدي ومقارنته بما ذكره الإنجيل ( العهد الجديد ) من صفات وأفعال لهذا النبي العظيم ، ليرى الفارق الكبير بين الكتابين وأيهما قد

__________________

(١) سورة المائدة آية ١١٢ ـ ١١٤.

(٢) سورة النساء آية ١٥٧ ـ ١٥٨.


أماطا اللثام عن شخصية عيسى الحقيقية وأمه ، القرآن أم الإنجيل؟

وأنا هنا أكتفي بذكر بعض هذه الصفات لهذا النبي وأمه في القرآن ، وأشير أيضا إلى بعض ما ذكرته الأناجيل من أوصافه ( عليه السلام ) وأترك الحكم للقارئ العزيز.

ولنبدأ أولا بذكر ما ورد في القرآن عن الصديقة مريم العذراء ، ونستطيع القول بأنها المرأة الوحيدة التي قص القرآن قصتها بالتفصيل فينقل القرآن عنها : ـ ـ إن الله قد اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساء العالمين كما في قوله تعالى : ( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) (١).

ـ كانت ( عليها السلام ) مقبولة عند الله وقد تكفل الله سبحانه تربيتها وإنباتها كما في قوله تعالى ( عليهم السلام ) ( فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ... ) (٢).

كانت محدثة حدثتها الملائكة ( وهي الوحيدة من النساء اللاتي ذكر القرآن أن الملائكة قد حدثتها ) كما في قوله تعالى ( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ... ) (٣).

__________________

(١) سورة آل عمران آية ٤٢.

(٢) سورة آل عمران آية ٣٧.

(٣) سورة آل عمران آية ٤٥.


ـ كانت من آيات الله للعالمين كما في قوله تعالى : ( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ) (١).

وغيرها من الأوصاف الأخرى التي ذكرها القرآن الكريم لهذه الصديقة الطاهرة.

وأما ما جاء في القرآن الكريم عن السيد المسيح ( عليه السلام ) فيمكن القول بأنها من المقامات الرفيعة التي خص بها هذا النبي المقرب ونلخصها بما يلي :

ـ كان ( عليه السلام ) عبدا لله وكان نبيا كما في قوله تعالى : ( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) (٢).

ـ وكان رسولا إلى بني إسرائيل كما في قوله تعالى ( ورسولا إلى بني إسرائيل إني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بأذن الله ... ) (٣).

ـ وكان واحدا من الخمسة أولي العزم صاحب شرع وكتاب وهو الإنجيل كما في قوله تعالى ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى

__________________

(١) سورة الأنبياء آية ٩١.

(٢) سورة مريم آية ٣٠.

(٣) سورة آل عمران آية ٤٩.


وعيسى ... ) (١) وأيضا في قوله تعالى ( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ... ) (٢).

ـ وكان ( عليه السلام ) قد سماه الله سبحانه بالمسيح عيسى وكان وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين كما في قوله تعالى : ( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ) (٣).

ـ وكان ( عليه السلام ) كلمة لله وروحا منه كما في قوله تعالى : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ... ) (٤).

ـ وكان من الصالحين والمجتبين كما في قوله تعالى : ( وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ) (٥).

ـ وكان ( عليه السلام ) مباركا أينما كان وكان زكيا بارا بوالدته كما في قوله تعالى ( وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة

__________________

(١) سورة الشورى آية ١٣.

(٢) سورة المائدة آية ٤٦.

(٣) سورة آل عمران آية ٤٥.

(٤) سورة النساء آية ١٧١.

(٥) سورة الأنعام آية ٨٥ ـ ٨٧.


والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ) (١).

ـ وكان ( عليه السلام ) مسلما على نفسه كما في قوله تعالى : ( والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) (٢).

ـ وكان ( عليه السلام ) ممن علمه الله الكتاب والحكمة كما في قوله تعالى : ( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ) (٣).

ـ وكان مبشرا برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما في قوله تعالى : ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ... ) (٤) ، وأوصاف وخصال أخرى كثيرة نكتفي بما ذكرناه.

ولكن أود الإشارة هنا إلى المحاورة التي ينقلها الله سبحانه بينه وبين نبيه عيسى ابن مريم ، لنرى الأدب الرائع والعبودية التامة لهذا النبي أمام رب العزة ، وكيف ينفي ما نسب إليه من ألوهية وأنه برئ من هذه العقائد الباطلة ، فيقول سبحانه وتعالى :

( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته

__________________

(١) سورة مريم آية ٣١ ـ ٣٢.

(٢) سورة مريم آية ٣٣.

(٣) سورة آل عمران آية ٤٨.

(٤) سورة الصف آية ٦.


فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم * قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ) (١).

فالمسيح ( عليه السلام ) ينفي بشدة ما ينسبه المسيحيون إليه من مقام الألوهية.

يقول العلامة الطباطبائي في تفسيره القيم ( الميزان ) عن هذه المحاورة وهذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبودية على عصارتها ، ويتضمن من بارع الأدب على مجامعه يفصح عما كان يراه عيسى المسيح ( عليه السلام ) من موقفه تلقاء ربوبية ربه ، وتجاه الناس وأعمالهم فذكر أنه كان يرى نفسه بالنسبة إلى ربه عبدا لا شأن له إلا الامتثال لا يرد إلا عن أمر ، ولم يؤمر إلا بالدعوة إلى عبادة الله وحده ولم يقل لهم إلا ما أمر به ربه : أن اعبدوا الله ربي وربكم.

ولم يكن له من الناس إلا تحمل الشهادة على أعمالهم فحسب ،

__________________

(١) سورة المائدة آية ١١٦ ـ ١١٩.


وأما ما يفعله الله فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك : غفر أو عذب (١).

والمسيح ( عليه السلام ) بهذا البيان أيضا ينفي كونه فاديا ومتحملا للخطيئة عوضا عن الناس كما يزعم المسيحيون.

هذا باختصار ما أورده القرآن حول شخصية هذا العبد الصالح والرسول المبارك عيسى ابن مريم وأمه العذراء.

ولنطالع الإنجيل ( العهد الجديد ) ونرى بماذا وصف هذا النبي من أوصاف يأباها العقل والذوق السليم وسنكتفي اختصارا بذكر بعضها ومن شاء المزيد فليراجع العهد الجديد ويرى العجب.

ـ المسيح (ع) صانع الخمر ( الجيدة )

من المؤسف حقا أن ينسب هكذا فعل إلى النبي المكرم المسيح ( عليه السلام ) والأعجب أن يكون بأمر من أمه الصديقة مريم ( عليه السلام ) ، فنحن نعلم أن الخمر قد حرم في الشريعة الموسوية ولا سيما المسكر منه ، ولكن نجد في العهد الجديد أن المسيح ( عليه السلام ) لم يكتفي بأنه لم يحرمه بل هو الذي يصنع الخمر ( الجيدة ) المسكرة ليذهب بعقول الناس ، وأنا أذكر أنه عندما كنت مسيحيا وللاعتقاد الراسخ في نفوسنا بحرمة الخمر كنت أسأل

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن ج٣ ص ٢٨٢.


والدي عن أسباب حرمة الخمر فكان يحدثني عن مضرات الخمر ، وكلما كانت تذكر هذه ( المعجزة ) كان بعض المتدينين يحاولون تفسير هذه المعجزة بشكل أو بآخر ، ويجيبون بأن هذه الخمر الذي صنعها المسيح ( عليه السلام ) لم تكن مسكرة ، ولكن الإنجيل يرى خلاف ذلك ، وهذه المعجزة لم تذكر إلا في إنجيل يوحنا في الأصحاح الثاني فيذكرها أول معجزة صدرت من النبي عيسى المسيح ( عليه السلام ) فيقول :

وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ، ودعي أيضا يسوع وتلاميذه إلى العرس ، ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر ، قال لها يسوع مالي ولك يا امرأة ، لم تأت ساعتي بعد ، قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه ، وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود يسع كل

واحد مطرين أو ثلاثة ، قال لهم يسوع املأوا الأجران ماء ، فملأوها إلى فوق ، ثم قال لهم استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ فقدموا ، فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرا ولم يكن يعلم من أين هي لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا ، دعا رئيس المتكأ العريس وقال له :

كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولا ومتى سكروا فحينئذ الدون ، أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن ، هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده. أنظر ( يوحنا ٢ : ١٢ ) ،


فالظاهر من حديث رئيس المتكأ أن الخمر التي صنعها المسيح ( عليه السلام ) كانت من الخمر الجيدة والتي تعطى عادة في الأعراس أولا حتى يسكر الناس فتذهب عقولهم ثم يأتون بالخمر الدون ( الرديئة ) بعد ذلك فلا يميز الناس بينها وبين الخمر الجيدة لسكرهم. فلا أدري هل جاء السيد المسيح ( عليه السلام ) لتنوير العقول وإرشادها إلى الحق ، أم لتخديرها وإتلافها؟!

ـ المسيح ( والعياذ بالله ) عاق لأمه

وأيضا تنسب الأناجيل إلى المسيح ( عليه السلام ) أنه ظاهرا لم يكن بارا بوالدته ، بل إنه كان ينهرها بشكل غير لائق ، فخلال قصة الخمر الآنفة الذكر مثلا تطلب منه أمه أن يصنع لهم خمرا ، ولكنه ينهرها بحدة كما تنقل القصة قال لها يسوع مالي ولك يا امرأة بل إنه لا يعتبرها ضمن المؤمنين ويحط من منزلتها أمام تلاميذه ، كما ينقل لنا إنجيل متي ذلك في الأصحاح الثاني عشر : أنظر ١٢ ـ ٤٦ ـ ٥٠ وفيما هو يلكم الجموع إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجا طالبين أن يكلموه ، قال له واحد ، هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك ، فأجاب وقال للقائل له : من هي أمي ومن هم أخوتي ، ثم مد يده نحو تلاميذه وقال ها أمي وإخوتي ، لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي. ولا أدري كيف يمكن توجيه هذا التعامل القاسي مع أمه الصديقة ، مع إننا نرى أنه ( عليه


السلام ) كان يوصي ويؤكد على إكرام الوالدين كما ينقل ذلك إنجيل متي نفسه : أنظر ١٥ ـ ٤ فإن الله أوصى قائلا أكرم أباك وأمك ومن يشتم أبا أو أما فليمت موتا.

ـ المسيح (ع) ( والعياذ بالله ) صار ملعونا

واقعا أن الإنسان ليقف متحيرا من هذا القول في شخص هذا النبي المبارك ، فبولس يصف المسيح ( عليه السلام ) بأنه ملعون ( والعياذ بالله ) فهو يذكر في رسالته إلى أهل غلاطية يقول : المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة ( غلاطية : ٣ : ١٣ ) فهل يوصف باللعنة إلا الأثيم المرتكب للخطايا؟ وهل اللعنة غير الطرد والإبعاد عن رحمة الله سبحانه؟

ـ المسيح (ع) تقبل قدميه ( الخاطئات )

وأيضا ينقل لنا العهد الجديد قصة تقبيل قدمي المسيح ( عليه السلام ) من قبل امرأة ( خاطئة ) والقصة كما ينقلها إنجيل لوقا هي أنظر لوقا : ٧ : ٣٦ وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة ، إذ علمت أنه متكئ في بيت الفريسي جائت بقارورة طيب ووقفت عند قدميه من وراءه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب ، فلما رأى الفريسي الذي دعاه


ذلك ، تلكم في نفسه قائلا لو كان هذا نبيا لعلم من هذه الامرأة التي تلمسه وما هي ، أنها خاطئة ... فقد أنكر الفريسي هذا الفعل من المسيح ( عليه السلام ) إذ كيف يقبل نبي أن تلامسه وتقبل قدميه امرأة أجنبية خاطئة. بل أن القصة كما يذكرها إنجيل يوحنا ، يعترض هناك يهوذا على فعل المسيح ( عليه السلام ) من جهة أن هذا الطيب الذي مسحت هذه المرأة قدمي المسيح ( عليه السلام ) به كان يقدر قيمته بثلاثمائة دينارا فلماذا لم يبع ويعط للفقراء الموجودين ، والقصة كما ينقلها يوحنا في إنجيله هي فأخذت مريم منا من طيب نار دين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها ، فامتلأ البيت من رائحة الطيب فقال واحد من تلاميذه وهو يهوذا سمعان الإسخريوطي المزمع أن يسلمه ، لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاثمائة دينارا ويعط للفقراء ... ، فقال يسوع أتركوها إنها ليوم تكفيني قد حفظته لأن الفقراء معكم في كل حين وأما أنا فلست معكم في كل حين ( أنظر : يوحنا : ١٢ : ٣ ـ ٨ ).

ـ المسيح (ع) مفرق للرحم والأقارب

أن الاعتقاد السائد عند المسيحيين أن يسوع المسيح ( عليه السلام ) هو الداعي إلى المحبة والسلام بين الناس جميعا ، ولكننا نجد خلاف هذا الاعتقاد في كتب العهد الجديد ، فهذا إنجيل متي ينقل عن المسيح ( عليه السلام ) قوله لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على


الأرض ، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا ، فأني جئت لا فرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها وأعداء الإنسان أهل بيته. ( أنظر متى : ١٠ : ٣٤ ـ ٣٦ ) بل لم يكتفي بذلك حتى أضرمها نارا كما ينقل لوقا في إنجيله ( أنظر لوقا : ١٢ : ٤٩ ـ ٥٣ ) جئت لألقي نارا على الأرض فماذا أريد لو اضطرمت أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض. كلا أقول لكم ، بل انقساما ... ولكن بالرغم من هذا فنحن نجد أن المسيحيين يصفون المسيح ( عليه السلام ) بأنه نبي الرأفة والمحبة والسلام ويعتقدون أن النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جاء بالقوة والسيف ، ويعتبرون الإسلام دين السيف!

ـ المسيح (ع) يجزع من الموت ويعاتب الله سبحانه

إذ تنقل كتب العهد الجديد أن المسيح ( عليه السلام ) وعند اقتراب ساعة ( موته ) قد جزع حتى الموت وتوسل بالله سبحانه أن تعبر عنه هذه الكأس ، ولما لم يستجب له الله سبحانه عاتبه وهو معلق على الخشبة لماذا تركه ، والقصة كما يذكرها إنجيل متى هي ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب ، فقال لهم نفسي حزينة جدا حتى الموت ، أمكثوا هنا واسهروا معي ، ثم تقدم قليلا وخر على وجهه وكان يصلي قائلا يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس أنظر متى ٢٦ : ٣٧ ـ ٤٠ وفي تلك الليلة صلى ثلاث مرات قائلا ومكررا لذلك الكلام بعينه. وبعد أن ألقوا القبض عليه وصلبوه


وأرادوا قتله ، صرخ بصوت معاتبا ربه لماذا تركه ، كما ينقل لنا ذلك متى في إنجيله أيضا ( أنظر متي : ٢٧ ـ ٤٦ ) ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني. فلا أدري كيف يمكن تفسير هذه الحادثة ، فهل الموت بالنسبة للانسان المؤمن إلا انتقال من عالم إلى عالم آخر خير منه ، وهذا ما يؤكد عليه الإسلام ، فهذا وصي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علي ابن أبي طالب ينقل عنه كلمته المشهورة لابن أبي طالب أنس بالموت من الطفل بثدي مه ويقول الله سبحانه في القرآن الكريم : ( يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) (١). فإن المؤمن يلتذ بالموت ولا سيما إذا كان قتلا في سبيل الله ، ولكننا نرى المسيح ( عليه السلام ) ( ابن الله ) يجزع منه حتى الموت.

وما هذا إلا غيض من فيض ومن شاء التعرف أكثر على شخصية المسيح ( عليه السلام في الأناجيل ، فليطالع العهد الجديد ليرى ما وصفت به المسيح ( عليه السلام ) من تناقضات في شخصيته ، وفي الواقع فإن القرآن الكريم هو الذي أجلى الحقيقة عن شخصية هذا النبي العظيم.

فالقرآن نزه ساحة عيسى المسيح ( عليه السلام ) عن كل شائبة

__________________

(١) سورة الجمعة الآية ٦.


ونقص ، فقد صور لنا المسيح ( عليه السلام ) نبيا ورسولا مباركا وديعا بارا ، لا جبارا ولا شقيا ، وعبدا موحدا خاضعا لله ، وغير مدع لشئ غير معقول من ألوهية أو اتحاد أو حلول ، ثم نجده في القرآن عزيزا محترما مرفوعا إلى السماء مصانا بالعزة الإلهية ، وأنه روح الله وكلمته وصنيعه ، ومستودع أسراره وحكمته.

وعلى العكس من ذلك نرى المسيح ( عليه السلام ) في العهد الجديد ، رجلا صانع للخمر وشريب لها (١) عاقا لأمه قاطعا ومفرقا للرحم ، مسرف يستأنس بمسح الامرأة الأجنبية ( الخاطئة ) لقدميه وتقبيلها وتدهينها بالطيب الغالي الثمن ، وأيضا أنه ملعون لأنه مصلوب على خشبة ، ويلصقون به الألوهية عنوة ، فهو الله وابن الله ، وغيرها من الأوصاف الكثيرة التي يرفضها العقل ويأباها.

فلا يبقى شك ولا ريب في أن ( بارقليطا ) الذي أشار إليه المسيح ( عليه السلام ) في الإنجيل والذي سيشهد له بالحق ( كما ذكر ذلك إنجيل يوحنا قائلا : ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي أنظر : يوحنا : ١٥ : ٢٦ ـ ٢٧ ) هو النبي الخاتم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي شهد له بالحق ، ورفع قدره ، ونزه ساحته المقدسة عن كل

__________________

(١) أنظر : إنجيل متي : ١١ : ١٨ ـ ٢٠ لأنه جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان. وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون هو ذا إنسان أكول وشريب خمر ، محب للعشارين والخطاة.


سوء ، وذلك من خلال الكتاب الإلهي الموحى إليه من قبل السماء ، أي ( القرآن الكريم ).


الشريعة

من الشبهات التي كانت تلقى إلينا دائما عن الإسلام ، هي أن في الدين الاسلامي أحكاما وتكاليفا لا تطاق أبدا ، ولأني أعيش في بلد أغلب سكانه من المسلمين ، فكنت أرى تلك العبادات والطقوس التي يؤديها المسلمون ، تقع في أغلب الأحيان محل للسخرية من قبلنا ، وكان السؤال والاشكال الأهم المطروح في هذه المسألة هو ما الغرض من كل هذه التكاليف الشاقة التي جاء بها الإسلام ، كالصلاة خمس مرات يوميا والصيام شهرا في السنة ، ودفع الزكاة والحج وغيرها من التكاليف؟

وفي اعتقادي فإن هذه الشبهة كانت ناتجة عن عدم فهم حقيقي وواقعي للشريعة ، ودورها في تكامل الإنسان وارتقاءه مدارج الكمال المنشود له ، ولا سيما من قبل المسيحيين الذين طرحوا الشريعة جانبا واكتفوا بالإيمان وحده سبيلا للنجاة ، إذ ليس التكاليف الإلهية والأحكام الشرعية إلا امتحانا إلهيا للإنسان في مختلف مواقف


الحياة ، ومن خلالها يمكن التمييز بين حزب الرحمن وحزب الشيطان ، بل هي المخرجة لكمالات الإنسان من القوة إلى الفعل ، فنستطيع تشبيه الشريعة والتكاليف الإلهية بالسلم الذي يتمكن من خلاله الإنسان للوصول إلى أعلى مراتب الكمال الإنساني. وقد أشار إلى هذا المعنى المسيح ( عليه السلام ) نفسه حسب ما تنقله كتب العهد الجديد ، فينقل لنا مرقس في إنجيله : أن رجل جاء بابنه مريضا به روح نجس إلى تلامذة المسيح ( عليه السلام ) فلم يقدروا على شفائه وإخراج الروح النجس منه ، فلما جاء المسيح ( عليه السلام ) أخرج ذلك الروح النجس من الولد ، فسأله تلاميذه لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه فقال لهم : هذا الجنس لا يمكن أن يخرج إلا بالصلاة والصوم. أنظر مرقس : ٩ : ١٤ ـ ٢٩ فالمسيح ( عليه السلام ) يشير إلى أن إخراج الأرواح النجسة وشفاء المرضى تحتاج إلى قوة إيمان عالية وهذا لا يتحصل إلا بالصلاة والصوم.

وعلى هذا تعتبر الشريعة الإلهية والتكاليف العملية التي يأمر بها الدين من أشرف النعم الإلهية التي من بها الله سبحانه على الإنسان.

وكما أشرت سابقا فإن النبي موسى ( عليه السلام ) أرسل بشريعة تناسب حال ذلك الزمان الذي بعث فيه ، والمسيح ( عليه السلام ) أيضا كما بينا لم ينقض الناموس والشريعة أبدا ، بل أنه جاء متمما لتلك الشريعة ، ولكن للأسف فإن الذين جاءوا من بعده هم


الذين طرحوا الشريعة واكتفوا بالنواميس الروحية بدلا عن التكاليف الشرعية ، ولكن بالرغم من ذلك فما زالت بعض الأحكام الشرعية والطقوس العبادية قائمة في المسيحية كالصلاة مثلا والوصايا الأخلاقية العشرة. وأيضا النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يأتي لنقض الشريعة بل أنه جاء متمما ومكملا للشريعة ، ولأنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاتم الأنبياء والرسل كانت شريعته هي الأخرى أكمل الشرائع وأتمها وهي باقية وخالدة إلى يوم القيامة ، وتتضمن قوانين وأحكام ثابتة ومتغيرة تستطيع من خلالها مواكبة متطلبات ومستجدات الحياة في الدنيا وحتى الساعة الموعودة.

ومن خصائص هذه الشريعة السمحاء هي شموليتها لكل مجالات الحياة الفردية والاجتماعية ، فلا يخلو فعل من أفعال الإنسان إلا وله حكم معين في هذه الشريعة المقدسة ، فهو إما أن يكون واجبا أو حراما أو مستحبا أو مكروها أو مباحا ، وتضمن هذه الشريعة للانسان الذي يتمكن من إخضاع كل أفعاله لا حكامها الشرعية من العيش سعيدا في الدنيا والآخرة.

وأيضا الصفة الأخرى المهمة هي عدم مخالفتها لفطرة الإنسان أبدا فليس فيها تكاليف شاقة ولا تطاق كما كنت أعتقد ، بل لم يكلف الله فيها نفسا إلا وسعها ، وما جعل الله فيها من حرج ، وهذا ما لمسته شخصيا من خلال ممارستي للطقوس العبادية التي أمرت بها ، وخضوعي للأحكام العملية التي أقرتها. فهي رفضت الرهبانية


والانزواء عن المجتمع ، وكذلك نهت عن الانغماس كليا في الحياة الدنيا ، بل تعاليمها تعتبر النمط الأوسط بين هذه وتلك.

ويمكن تقسيم الشريعة الإسلامية إلى قسمين :

أولا : جنبة عبادية وطقوس دينية ، تعتبر وسيلة لتمرين النفس على التوجه إلى الله ، والانقياد إلى طاعته ، وتوثيق الرابطة بين العبد ومولاه ، واعتقد أنها في هذه الجنبة موافقة مع المسيحية في أن الأعمال العبادية موجبة للقرب من الله العظيم ، وهذا ما نجده في حالات المسيح ( عليه السلام ) من كثرة وشدة العبادة التي نقلتها لنا كتب العهد الجديد ، فقد صام أربعين نهارا وأربعين ليلة وصار مع الوحوش في البرية ليجرب ن إبليس ( أنظر : متى ٤ ، لوقا : ٤ ، مرقس : ١ ) وكان يأمر تلاميذه بأن لا يملوا من الصلاة أبدا. ( أنظر : لوقا : ١٨ ـ ١ ) ، ولكن العبادات التي جاء بها الإسلام تختلف كثيرا عما هو موجود في المسيحية ، من حيث الكمية والكيفية ، فالصلاة مثلا تلزم الشريعة الإسلامية الإنسان بأدائها خمس مرات يوميا ، وبكيفية خاصة فيها قيام وركوع وسجود في حين أن الصلاة في المسيحية تقتصر على بعض الصلوات والقداس الكبير يوم الأحد ، وهي كما تعلمتها في الكنيسة وكنت أمارسها ، لا سجود فيه ولا ركوع ، بل كل ما في الأمر هي قراءة بعض نصوص من الإنجيل مع تراتيل وأناشيد خاصة ونحن جالسون على المقاعد أو واقفون ، وبعد ذلك نذهب لإعلان التوبة والاعتراف.


والذي وجدته شخصيا من خلال ممارستي لكلا الصلاتين هو الفرق الكبير بينهما ، ففي الصلاة التي أمر بها الإسلام يشعر الإنسان من خلال ركوعه وسجوده لربه وخالقه العظيم ، حالة من الخشوع ونوع من الارتباط والقرب منه سبحانه ، في حين لا يشعر الإنسان ذلك في الصلاة الكنيسية ، وأعتقد أن الصلاة في المسيحية هي الأخرى قد حرفت ، فإن العهد الجديد عندما كان ينقل لنا الصلاة التي كان يؤديها المسيح ( عليه السلام ) كان يخر على وجهه ساجدا في صلاته كما تذكره الأناجيل في ليلة التسليم ( أنظر متى : ٢٦ : ٣٩ ) ( ثم تقدم قليلا وخر على وجهه وكان يصلي ) في حين أن صلاتنا الحالية لا أثر للسجود فيها.

ثانيا : الجنبة الاجتماعية والمعاملات بين الناس ، فالشريعة في أحكامها هذه تسعى لتنظيم الأمور المعيشية والحياتية في المجتمع بشكل يؤدي إلى نشر العدالة والألفة والمحبة بين أفراده ، ومراعاة المصالح العامة التي تؤدي إلى استقرار ونظم المجتمع.

والشئ الملفت للنظر حقا في هذه الأحكام والقوانين أنها جاءت قبل أربعة عشر قرنا ، ولكنها إلى يومنا هذا تعتبر من أرقى القوانين التي توصل إليها العقل البشري في طول هذه المدة ، وهذا ما اعترف به الكثير من العلماء في المجالات والعلوم المختلفة ، وهذا دليل قوي آخر على أن مصدر هذه الشريعة هو السماء والوحي ، إذ أنه من المستحيل أن تكون من فكر وخيال رجل عاش وترعرع في


الجزيرة العربية التي كانت غائطة في ظلمات الجهل ، والتي كانت تسودها عادات وتقاليد وأحكام يكاد لا يشم منها رائحة الإنسانية.

فلا يبقى شك ولا ريب في أن هذا الرجل كانت له علاقة ورابطة بالسماء ، وأنه النبي الخاتم الذي بشر به المسيح ( عليه السلام ) في الإنجيل.


الخاتمة

إن الذين ذكرته في هذه الأوراق ، هو نبذة مختصرة عن رحلتي من المسيحية إلى الإسلام ، وما انكشف لي فيها من الحقائق ، وقد رمت الاختصار قدر الإمكان في هذا البحث ، وكان بودي أن أشير إلى موضوع اعتبره مهما جدا في هذا البحث ، وهي المسألة الأخلاقية والروحية ، والسلوك العرفاني في الإسلام والمسيحية ، والطرق و المسالك التي تبناها الاثنان لوصول الإنسان إلى كماله النهائي وهو القرب من خالقه وربه ، وفق النظرية الإلهية. ولكني لإحساسي بأهمية هذه الموضوع ، آثرت أن أفرد له بحثا ورسالة مستقلة ، أتعرض إليه فيها بشكل مفصل ، إنشاء الله تعالى.

وفي الحقيقة فالذي دفعني لكتابة هذا البحث هو احساسي وشعوري بالمسؤولية الإنسانية اتجاه أبناء جلدتي ، عسى أن يكون صوتا للحق يقرع أذان قلوبهم فيستفيقوا من نوم الغفلة ، فالمشكلة التي يعيشها أغلب أفراد العائلة البشرية ـ وللأسف الشديد ـ هي


ابتعادهم عن الهدف الأساس الذي خلقنا من أجله ، وصار الهم الشاغل لهم هو الدنيا ، والانشغال بزينتها وزخرفها ، وأما الدين والمسائل الروحية والحب الإلهي ، أصبحت أمورا هامشية عند أغلب الناس أو أنهم غفلوا عنها كليا.

وأيضا فهذه دعوة لإخواني المسيحيين الذين ابتعدوا كثيرا عن التعاليم والعقائد التي جاء بها السيد المسيح ( عليه السلام ) فهم يتبعونه بالاسم فقط ، وأما ما يحملونه من عقائد وتعاليم في الوقت الحاضر فهي مخالفة له كثيرا ، فالعقائد التوحيدية التي جاء بها ، تحولت إلى عقائد أشبه بالوثنية كالتثليث والبنوة ، والشريعة والناموس الذي أكد عليها وأوصى بها مرارا ، طرحت أرضا واكتفي بدلا عنها النواميس الروحية والإيمان المجرد.

فهذه دعوة لكل مسيحي حر باحث عن الحق والحقيقية ، أن لا يكتفي بقبول ما يلقى إليه من قبل الكنيسة على أنه من الأمور المسلمة واليقينية ، بل ليجد في البحث والتحقيق العميق في عقائده وأمور دينه ، لأنها مسألة ذات أهمية كبيرة ، فإن الحياة الأخروية الأبدية التي نحن مقبلون عليها ، سعادتها وشقائها ما هي إلا نتيجة لعقائدنا وأعمالنا في حياتنا الدنيا فالدنيا مزرعة الآخرة فيجب إعطائها اهتماما كثيرا من فكرنا ووقتنا ، وهذا أمر عظيم وخطير ، فحري باللبيب أن يجهد نفسه وفكره في انتخاب الطريق الصحيح الذي يوصله إلى السعادة في ذلك العالم. وأخيرا فإن الإنسان الذي


يروم اتباع الحق بعد كشفه للحقيقة لا بد أن يواجه مشاكل وصعوبات كثيرة ، فقد يحارب من قبل أهله وأقاربه ، ويهجره أحبائه وأصدقائه ، وقد تضيق عليه سبل العيش ، ولكنها كما أعتقد لها طعم ولذة خاصة لأنها في عين الله ، ولأجل الله وحبه ، وبالتأكيد فإن الله الرب الرحيم سيخلفه بدلا عنها الرضا والقناعة في الدنيا ، والسعادة والعيش في جنة النعيم عند مليك مقتدر في الآخرة.

وارتأيت أن يكون مسك الختام لهذا البحث ، آيات من الكلام الإلهي الموحى ( القرآن ) تحكي قصة رجل مؤمن يدعو قومه إلى الحق ، والآيات هي :

( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون * وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * ءأتخذ من دونه آلهة أن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين * إني آمنت بربكم فاسمعون * قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) (١).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

__________________

(١) سورة يس آية ٢٠ ـ ٢٧.


المصادر

المصادر الإسلامية

ـ القرآن الكريم ـ الميزان في تفسير القرآن ... العلامة محمد حسين الطباطبائي / الطبعة الثالثة.

ـ الهدى إلى دين المصطفى ... الشيخ محمد جواد البلاغي الطبعة الثانية.

ـ بحار الأنوار ... العلامة المحدث محمد باقر المجلسي.

ـ الإلهيات ... الأستاذ المحقق الشيخ جعفر السبحاني.

ـ الاعلام في نصرة الإسلام ... فخر الإسلام محمد صادق.

ـ السيرة الحلبية ... العلامة علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي.

ـ تاريخ الطبري ... محمد بن جرير الطبري.

ـ سيرة المصطفى ... هاشم معروف الحسني.


المصادر المسيحية

ـ الكتاب المقدس : ( العهد القديم والعهد الجديد ) الترجمة العربية ( جمعية الكتاب المقدس في لبنان الطبعة الأولى ١٩٩٣ ).

ـ معجم اللاهوت الكتابي : الترجمة العربية ـ أشرف على الترجمة ـ نيافة المطران أنطونيوس نجيب.

ـ كتاب العهد الجديد : مترجم من اللغة اليونانية إلى العربية مع ملحق المبادئ الروحية الأربعة. ( دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط ).

ـ تعاليم الكتاب المقدس : القس بسام ميخائيل مدني ـ مطبوعات ساعة الاصلاح ١٩٧٧ ـ.

ـ تفسير العهد الجديد : العهد الجديد بترجمته العربية المعروفة بترجمة البستاني ـ فاندايك ـ وهي من الترجمات الأكثر انتشارا في العالم العربي ( طبع جمعية الكراريس البريطانية وأعادت طباعته جمعية الكتاب المقدس ).

ـ قاموس الكتاب المقدس : تأليف نخبة من الأساتذة ذوي الاختصاص من اللاهوتيين الهيئة المشرفة ( الدكتور بطرس عبد الملك ـ الدكتور جون الكسندر طمسن ـ الأستاذ إبراهيم مطر ) ( صدر عن دار الثقافة ـ القاهرة ١٩٩١ م ).


ـ المسيح في الفكر الاسلامي الحديث وفي المسيحية ـ تأليف الأب الدكتور منير خوام اختصاص في اللاهوت ـ علم النفس ـ الفلسفة ـ وهي الأطروحة التي قدمها في الجامعة اليسوعية بيروت ـ لبنان ) الطبعة الأولى.

ـ نظرة عن قرب في المسيحية : بقلم الكاتبة الأميركية باربارا براون ـ ترجمة المهندس مناف حسين الياسري ـ ( شركة التوحيد للنشر ـ ١٩٩٥ م ).

هبة السماء رحلتي من المسيحية الى الاسلام

المؤلف:
الصفحات: 230