بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة
والسلام على أفضل الخلق اجمعين ، سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله
على أعدائهم لعنة دائمة إلى يوم الدين.
وبعد ..
السيدة زينب الكبرى : ثاني اعظم سيدة في
سيدات أهل البيت المحمدي ، كانت حياتها تزدحم بالفضائل والمكرمات ، وتموج بموجبات
العظمة والجلالة ، والقداسة والروحانية ، وتتراكم فيها الطاقات والكفاءات
والقابليات ، ومقومات الرقي والتفوق.
من هنا .. فكل صفحة من صفحات حياتها
المشرقة جديرة بالدراسة والتحقيق ، فمن ناحية تعتبر القراءة في ملف حياتها نوعاً
من أفضل انواع العبادة وسبل التقرب إلى الله سبحانه ، لأنها
إطلاع على حياة
سادات أولياء الله تعالى.
ومن ناحية أخرى : التدبر في اللقطات
التاريخية التي وصلت إلينا عن حياة هذه السيدة يعطي الانسان دروساً مفيدة تنفعه في
كثير من مجالات حياته.
يضاف إلى ذلك : أن التأليف عن حياتها
المتلألأة يعتبر محاولة لإعطاء صورة واضحة عن خير قدوة للنساء المؤمنات ، بل خير
مقتدى لكل امرأة تبحث عن السعادة في الحياة ، والفوز بجنة عرضها السماوات والأرض.
وكم هو جيد وجميل أن نقرأ حياة هذه
السيدة العظيمة في كتاب خط بقلم واحد من ألمع المتألقين في سماء الخطابة والتأليف
، ورجل شجاع من أبرز المجاهدين ـ في سبيل الله ـ بلسانه وقلمه ، ألا وهو العلامة
الكبير ، والخطيب البارع : السيد محمد كاظم القزويني ، رضوان الله عليه.
إن طبيعة كون العلامة القزويني خطيباً
حسينياً مميزاً ، ومحاضراً اجتماعياً قديراً ، كانت تجعله يتوصل إلى كثير من
النتائج النافعة في مجال دراسة حياة السيدة زينب الكبرى 3.
ولعل أول مرة انقدحت في ذهنه فكرة
التأليف عن حياة السيدة زينب ، هو يوم كان مشغولاً بتأليف كتابه عن حياة سيدة نساء
العالمين الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء 3
، سنة
١٣٩٦ هـ ، لكن
العوائق كانت تحول بينه وبين تطبيق الفكرة وتحقيق تلك الأمنية.
وإلى أن عزم على الكتابة ، وبدأ
بالتأليف عن حياة السيدة ، في سنة ١٤٠٩ هـ.
لقد كان العلامة القزويني يحاول ـ بكل
جد ـ جمع مواد تاريخية كافية عن مرحلة ما قبل فاجعة كربلاء في حياة السيدة زينب ،
وتسليط الأضواء الكشافة على جوانب تلك المرحلة ، وتناولها بلمسات تحليلية ، فلقد
عاشت السيدة ـ قبل الفاجعة العظمى ـ حوالي ستاً وخمسين سنة ، وكانت حياتها مليئة
بالحوادث والوقائع والمستجدات ، وكان لها دور مهم في جميع تلك الحوادث ، فقد كانت
قوية الشخصية ، وسيدة مواقف ، وصاحبة كلمة ، وزعيمة دور قيادي لنساء أهل البيت ..
بل للنساء المؤمنات جمعاء.
لكن ..
لكن ماذا عن حياتها يوم كانت طفلةً في
عمر الزهور وفقدت أمها الزهراء؟!
وماذا عن حياتها يوم كانت بنتاً في دار
أبيها؟!
وماذا عن حياتها حين كانت سنداً وظهراً
لوالدها وأخويها؟!
وماذا من عينات ومعلومات عن حياتها
الزوجية؟!
وماذا كانت مناهجها في تربية اطفالها
وثمرات فؤادها؟!
وماذا كان سر نجاحها في إدارة بيتها
العائلي؟!
وما هي تفاصيل دورها القيادي والإصلاحي
في التوجيه النسوي؟
وماذا عن دروسها ومحاضراتها التي كانت
تلقيها على نساء الكوفة مدة أربع سنوات؟
وكيف استطاعت أن تجمع بين الحجاب
والثقافة ، والعفة والتعليم ، والدين والحضارة ، والمنزل والمجتمع؟؟!
وماذا عن جانب العبادة ، والزهد ،
والسخاء ، وحب الخير للآخرين .. في حياتها؟؟!
وماذا عن العلوم التي وصلت إليها مباشرة
.. ودون التعلم من أحد؟!!
وما هي ـ بالضبط ـ مميزاتها الفريدة
التي جعلتها ـ بجدارة ـ ثاني اعظم سيدة في نساء أهل البيت .. بل في سيدات تاريخ
البشر؟
وما هي مواصفاتها النفسية النادرة التي
أهلتها ان تبقى كوكباً مضيئاً يحلق في سماء المجد والخلود؟ ويظل إسمها لامعاً ـ
إلى جنب إسم أخيها الإمام الحسين ـ رمزاً لخير من نصر الدين ، وصرخ في وجه
الظالمين؟!
وما هي الصورة الواضحة التي أعطتها
السيدة زينب عن المرأة المؤمنة المثالية؟!
وماذا .. وماذا ..؟؟
أجل ..
كان العلامة القزويني يبذل قصارى جهده
في جمع المواد التاريخية عن حياة هذه السيدة العظيمة ، لكنه ـ مع الأسف ـ أصيب
بمرض عضال ، وصار المرض ينخر في جسمه بسرعة ، ويجعل سير التأليف بطيئاً ، حتى أودى
به إلى الوفاة ، قبل إكمال بعض فصول هذا الكتاب.
وقد كتب بعض صفحات هذا الكتاب على سرير
« مستشفى ابن سينا » في الكويت ، حيث كان راقداً هناك لاجراء بعض الفحوصات الطبية
وماحولة إكتشاف علاج لمرضه.
وقد كانت رغبته لإنجاز وإكمال هذا
الكتاب شديدة وملحة ، لأسباب متعددة ، منها :
١ ـ انه رأى في المنام رؤيا شجعته على
مواصلة هذا التأليف.
٢ ـ لإحتمال وفاته بسبب المرض الذي
أصابه.
أما الرؤيا ، فإنه ـ في أثناء تأليف
الكتاب وبعد فراغه من كتابة فصل ( مروان يخطب بنت السيدة زينب ليزيد بن معاوية ) ـ
رأى في المنام المجتهد الفقيه آية الله السيد حسين القمي ـ المتوفى سنة
١٣٦٧ هـ قد اقبل
إليه واعتنقه معانقة حارة ، وقال له ـ بصيغة الدعاء : « قبل الله يدك » ، أو بصيغة
الإخبار ـ : « إن الله تعالى يقبل يدك »!
واستيقظ السيد المؤلف من نومه ، وصار
يفكر ـ طويلاً ـ في تفسير رؤياه حيث اعتبرها رؤيا مهمة ، ورغم انه كانت لديه
معلومات واسعة وخبرة جيدة في علم تفسير الأحلام إلا أنه استفسر عن تعبير رؤيا من
أحد العلماء المتخصصين في تعبير المنام.
فقال له العالم : هل قمت بخدمة لواحدة
من أقرباء الامام الحسين 7
مثل : زوجته أو أخته؟
فقال السيد : نعم ، انا مشغول بتأليف
كتيب حول السيدة زينب الكبرى 3.
فقال العالم : إن خدمتك نالت رضى الإمام
الحسين 7 وتفسير كلمة
« إن الله يقبل يدك » هو : أن الله تعالى قد تقبل منك ما كتبته.
* * * *
وحين تأليفه لهذا الكتاب كان يطلب مني
أن أصطحب معي ما كتبه إلي داري ، لألقي نظرة فاحصة على الكتاب ، وأبدي بعض
الملاحظات أو الإقتراحات.
وبعد وفاته ( رحمة الله عليه ) رأيت القيام
ببعض اللمسات
التكميلية على
الكتاب ، مع الانتباه إلى بعض الصلاحيات التي منحها لي في السنوات الأخيرة من
حياته.
رأيت القيام بهذا الأمر لسببين :
الأول ـ وهو السبب الرئيسي ـ : القيام
بخدمة متواضعة لسيدتي ومولاتي زينب الكبرى 3.
الثاني : براً مني بوالدي رحمة الله
عليه.
* * * *
وأود جلب إنتباه القارئ الكريم إلى عدة
نقاط :
الأولى : لقد حاولت ـ قدر الإمكان ـ أن
أجعل فاصلاً مميزاً بين الكتاب والإضافات التي هي مني ، فجعلت الإضافات في الهامش
، وكتبت في نهايتها : « المحقق ».
وهذا ما سيشعر به القراء الكرام الذين
تعودوا على نكهة قلم السيد الوالد.
النقطة الثانية : إن الفصل الأخير من
هذا الكتاب ـ بكامله ـ هو من إضافاتي ، لكني حاولت ـ غالباً ـ ذكر الأشعار التي
كنت أعلم إعجاب الوالد بها.
النقطة الثالثة : كان عملي ـ في إعداد
الكتاب ـ : عبارة عن مراجعة الكتاب من أوله إلى آخره ، وضبط نصوصه ، وذكر مصادره ،
وشرح بعض الكلمات
الغامضة بعد مراجعة
كتب اللغة.
النقطة الرابعة : بما أن هناك اختلافاً
في أرقام صفحات وأجزاء المصادر ، لتعدد طبعات بعض الكتب ، فقد ذكرنا في نهاية
الكتاب قائمة بأسماء المصادر الرئيسية ، لبيان الإسم الكامل للكتاب والمؤلف ، وذكر
سنة ومحل طبع الكتاب ، تسهيلاً للقارئ الكريم.
مؤلف
الكتاب
والآن .. إليك لمحة خاطفة وسريعة جداً
عن حياة مؤلف هذا الكتاب : العلامة القزويني :
هو السيد محمد كاظم بن المجتهد الفقيه
آية الله السيد محمد إبراهيم بن العالم الكبير المرجع الديني في عصره : آية الله
العظمى السيد محمد هاشم الموسوي القزويني.
ولد في مدينة كربلاء المقدسة ، سنة ١٣٤٨
هـ ، وهو ينحدر من أسرة تموج بالفقهاء والعلماء ، والخطباء والشعراء ، ورجال الفكر
والأدب والقلم ، وتعتبر أسرته من أشرف الأسر والعشائر التي سكنت أرض كربلاء منذ
أكثر من مائتين وخمسين سنة.
وقد شاءت المقدرات الإلهية ان يكون
السيد المؤلف وحيد ابويه ، فقد كان الموت قد اغتال ـ قبل ذلك ـ جميع اخوته ش
وأخواته ، البالغ عددهم ثلاثة عشر ولداً .. ما بين ولد وبنت ، وكان جميعهم براعم
في عمر الصبى والطفولة.
ثم وجهت الحوادث سهامها إليه منذ عمر
الطفولة ، ففجع بوفاة والدته الحنونة وعمره عشر سنوات ، فصار الطفل المدلل لوالده
، وبلغ الثانية عشرة من عمره ، فمات والده ، وبعد ذلك تعرض لظروف قاسية عصفت
بحياتته من كل جانب ، لكن نسبة « الثقة بالنفس » و « التوكل على الله تعالى » كانت
قوية في نفسيته ، فجعلته صامداً أمام تلك الأعاصير!
أكمل دراسته الدينية في الحوزة العلمية
في مدينة كربلاء المقدسة ، حتى بلغ درجة عالية من العلم والثقافة ، وتخصص في
الخطابة والمنبر فكان من أبرز الخطباء في عصره.
كانت له محاضرات دينية مركزة في ليالي
شهر رمضان المبارك ، وكانت مجالسه تمتاز بكونها تربوية وتوجيهية .. وليست تاريخية
بحتة ، وامتازت ـ أيضاً ـ بأن غالبية الحضور ـ في محاضراته ـ كانوا من الشباب
والطبقة المثقفة الواعية.
وقد ربى العلامة القزويني عدداً كبيراً
وجيلاً مميزاً من خطباء المنبر الحسيني ، هم اليوم من أبرز وأشهر خطباء العالم
الإسلامي الشيعي في عصرنا الحاضر.
في سنة ١٣٨٠ هـ أسس مؤسسة دينية باسم (
رابطة النشر الإسلامي ) كان هدفها تزويد مسلمي العالم بالكتب التي تتحدث عن مذهب
أهل البيت ، مجاناً وبلا ثمن ، وكان نشاط هذه المؤسسة مركزاً في البداية على بلاد
المغرب العربي ، ثم شمل الجزائر وليبيا وتونس ، وبعض الدول الإفريقية كالسنغال
ونيجيريا.
واستطاع السيد القزويني ـ عن طريق هذه
المؤسسة ـ أن ينبه كثيراً من المغاربة المغفلين الذين كانوا يتخذون ( يوم عاشوراء
) يوم عيد وسرور وافراح وأعراس ، على طريقة بني أمية.
فقد كان يوم العاشر من المحرم أكبر عيد
شعبي في بلاد المغرب ، وكان يعرف باسم ( عيد عاشوراء ) فسار السيد القزويني إلى
تلك البلاد سنة ١٣٨٨ هـ ، ونشر مقالة نارية ملتهبة في صحيفة « العلم » المغربية
قبل يوم عاشوراء باسبوعين ، ندد فيها المغاربة عن اتخاذ يوم حزن آل الرسول يوم عيد
وفرح ، واعتبر ذلك تحدياً سافراً وحرباً ضد النبي الكريم ، وأنذرهم الأخطار
الكبيرة الناتجة عن هذا الموقف المخزي تجاه أسرة رسول الله الطيبة الطاهرة المطهرة!
فاستولى الخوف والفزع على المغاربة ، في
تلك السنة التي نشرت فيها المقالة ، وهكذا تم إلغاء ذلك اليوم عن كونه عيداً ،
وصار كبقية ايام السنة بلا أفراح ولا تهاني.
وهذا موقف مشرق دل على كفاءة السيد
القزويني ونجاح
خطته الحكيمة.
وتستطاعت هذه المؤسسة ـ رغم ضعف
ميزانيتها ـ أن تنشر أكثر من مليوني كتاب خلال عشرين سنة.
أمات عن الجهاد بالقلم ، فقد بدأ
العلامة القزويني بكتابة المقالات وتأليف الكتب في مرحلة مبكرة من شبابه ، وكان من
أبرز مؤلفاته : « شرح نهج البلاغة » ، وسلسلة كتب عن حياة أهل البيت المعصومين (
صلوات الله عليهم اجمعين ) تحت عنوان : « ... من المهد الى اللحد » فأكمل منها عن
حياة ستة من المعصومين ، وأخيراً بدأ بتأليف موسوعة كبيرة وفريدة عن حياة الإمام
جعفر الصادق ( عليه الصلاة والسلام ) في حوالي خمسين مجلداً ، ويعتبر هذا المشروع
الضخم من أوسع ما قدمه من عطاء خالد.
ومن النقاط اللامعة في حياة العلامة
القزويني : هو أنه قام برحلة تبليغية إلى قارة أستراليا عام ١٣٩٨ هـ ، لإيصال صوت
الإسلام وأهل البيت :
إلى المسلمين الشيعة هناك ، وقد كانوا يرزحون تحت وطأة الفقر الثقافي والإيماني
وغياب الوعي الديني ، ومضاعفات الإغتراب والإبتعاد عن الأوساط الإسلامية. وفي
مدينة « سيدني » أسس مسجداً ضخماً المحاضرات باسم ( مسجد فاطمة الزهراء 3 ) وألقى عشرات المحاضرات الدينية
المركزة الهادفة خلال سفرته التي استغرقت أكثر من شهر ، وكان بمنزلة الفاتح العظيم
الذي يدخل تلك البلاد النائية ، ويحدث تحولاً مهماً
في نفوس وأرواح
أولئك الأفراد ، ويعيد إليهم روح الإيمان والإلتزام بمبادئ الادين الحنيف ،
والإعتزاز والإفتخار بالمذهب الحق : « مذهب أهل البيت : ».
* * * *
سكن في وطنه ( مدينة كربلاء المقدسة )
حوالي ستاً وأربعين سنة ، ثم هاجر من العراق إلى الكويت سنة ١٣٩٤ هـ ، وبقي فيها
حوالي ست سنوات ، قام خلالها بنشاط ديني واسع ومكثف ، وتربية جيل مؤمن من الشباب.
ثم هاجر من الكويت إلى ايران عام ١٤٠٠ هـ ، وسكن في مدينة قم المقدسة ، فاستعمر في
العطاء عبر المنبر والقلم ، فكان خيرا معلم ومرب وخير ناع لسيد الشهداء الإمام
الحسين 7.
قبل وفاته بسنتين ونصف تقريباً أصيب
بمرض يتلف ـ بالتدريج ـ إثنين من أعصاب المخ ، وهما المسؤولان عن الحركة الإرادية
لتحريك اللسان للمتكلم والتلفظ ، ولقوة ابتلاع الطعام ، وأخيراً أودى به المرض إلى
الوفاة ، بعد معاناة مريرة في الأشهر الأخيرة من حياته.
فارق الحياة وانتقل إلى رحمة الله تعالى
، يوم الخميس ١٣ / جمادى الثانية / ١٤١٥ هـ ، رضوان الله عليه.
وجرى لجنازته تشييع عظيم في مدينة قم
المقدسة ، اشترك فيه مختلف طبقات المجتمع ، ومن كافة
الجنسيات.
ترك من بعده : ثلاث بنات وخمسة بنين ،
تخصص إثنان منهم في الخطابة والتأليف ، وتفرغ ثلاثة منهم للفقه والإجتهاد.
وختاماً .. لا يفوتني أن أشكر الله
تعالى أولاً وقبل كل أحد على أن وفقني لتحقيق وإخراج هذا الكتاب ، ثم أشكر كل من
كانت له مسهمة أو تعاون في هذا المجال ، وأخص منهم بالذكر سماحة الخطيب البارع
المخلص الشيخ علي أكبر القحطاني ، حيث زودنا بكل ما في مكتبته العامرة من كتب ومؤلفات
حول اليسدة زينب الكبرى 3.
|
مصطفى بن محمد كاظم
القزويني
٩ / ١٢ / ١٤٢٠ هـ
قم ـ إيران
|

بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إليك يا سيدنا ومولانا
يا سيد الشهداء وسبط رسول الله
يا أبا عبد الله الحسين.
إليك أهدي هذه الصحائف التي تتحدث عن
رضيعتك في المواهب ، وشقيقتك في العظمة ، وزمليتك في الجهاد ، وشريكتك في المصائب
: السيدة زينب الكبرى.
عليط وعليها وعلى جدكما وأبيكما وأمكما
وأخيكما ـ الإمام الحسن ـ آلاف التحية والثناء والسلام.
فهل تتفضل علي بقبول هذه الخدمة الضئيلة؟
|
محمد كاظم القزويني
مدينة قم ـ إيران
سنة ١٤٠٩ هـ
|
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما هو أهله ، والصلاة
والسلام على خير خلقه ، وأشف بريته : محمد وآله الطاهرين ، الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهرهم تطهيراً.
وبعد ، يوجد في تاريخ البشر عدد كبير من
الرجال وعدد من النساء الذين نبغوا نبوغاً في شتى الفنون والعلوم ، فطار صيتهم في
العالم ، وكان نصيبهم من المجتمعات البشرية كل إعجاب وتقدير ، وإكبار وتجليل ،
لأنهم امتازوا عن غيرهم بشتى المزايا.
وكل إنسان إمتاز بمزية أو بمزايا فمن
الطبيعي أن يفضل على غيره من ناقدي تلك المزايا.
وقد كان أولياء الله في طليعة النابغين
، لتعدد جوانب النبوغ فهيم.
والبيت النبوي الطاهر الشريف يضم رجالات
وسيدات كانوا العناوين البارزة في صحيفة الإيجاد والتكوين ، وفي طليعة العظماء
الذين من المستحيل أن يجود الدهر بأمثالهم.
ونحن نريد أن نتحدث ـ في هذا الكتاب ـ
عن حياة سيدة كانت تعيش قبل ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن ، وقد امتازت حياتها ـ بجميع
جوانبها ـ عن حياة غيرها من سيدات التاريخ.
إنها السيدة زينب الكبرى بنت الإمام علي
أمير المؤمنين 8.
إنها نادرة من نوادر الكون ، وآية إبداع
في خلق الله تعالى ، وملتقى آيات العظمة ، ومفخرة التاريخ.
ونحن إذا استقرأنا أسباب العظمة وموجبات
الشرف في تاريخ البشر ـ على اختلاف انواعها وأقسامها ـ نجد كلها أو جلها مجتمعة
ومتوفرة في السيدة زينب الكبرى.
فإذا تحدثنا عن السيدة زينب على صعيد
قانون الوراثة ، فإننا نجدها مطوقة بهالات من الشرف .. كل الشرف.
شرف لم تسبقها اليه أنثى سوى أمها
السيدة فاطمة الزهراء 3
ولم يلحقها لاحق ، ولا يطمع في إدراكه طامع ، فهي البنت الكبرى للإمام
أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب 7
ذلك المولى الذي يعتبر ثاني أعظم رجل في عالم الكون والوجود ،
فهو أشرف من أظلت
عليه الخضراء ، وأقلته الغبراء بعد شخصية الرسول الأقدس 6.
وأمها : السيدة فاطمة الزهراء 3 وهي سيدة نساء العالمين ، وأفضل وأشرف
أنثى في عالم النساء.
فما تقول في هذه الأم التي انجبت وأرضعت
بنتاً إمتازت بالنضج المبكر ، وارتضعت المواهب والفضائل من سدر أشرف أمهات العالمين؟!
وكبرت ونمت في حجر بنت رسول الله 6
وعزيزته وحبيبته؟!
فالسيدة زينب حصيلة أبوين ، كانت حياة
كل واحد منهما مشرقة بالمزايا والمكرمات ، وكل صفحة منها تفتح للانسان آفاقاً
واسعة يطير الفكر في أرجائها ، وتسبح كواكب الفضائل في فضائها.
أجل!
إنها زينب.
وما أدراك من زينب!
هي زينب بنت النبي المؤتمن
|
|
هي زينب أم المصائب والمحن
|
هي بنت حيدرة الوصي وفاطم
|
|
وهي الشقيقة للحسين وللحسن
|
ثم .. أليس النسب الرفيع من أسباب
العظمة؟!
أو ليس العلم الغزير ـ بما فيه الفصاحة
والبلاغة ـ من موجبات الشرف؟!
أو ليس الصبر على المكاره والفجائع
الدامية والحوادث المذهلة فضيلة؟!
أو ليست الشجاعة ومواجهة العدو شرس ،
المتجبر الطاغي السفاك تدل على قوة القلب ، وثبات القدم ، والإيمان الصادق ،
والعقيدة الراسخة؟!
أو ليست صفة الوفاء والعاطفة والشفقة
والحياء والعفة ، في طليعة الفضائل؟!
فما تقول لو أن هذه الصفات وغيرها من
مكارم الأخلاق إجتمعت ـ بصورة وافرة ـ في سيدة؟!
الا تعتبر تلك السيدة نادرة الكون
ومفخرة التاريخ؟!
بعد هذه اللمحة الخاطفة عن بعض جوانب
العظمة في
السيدة زينب الكبرى
نقول :
كيف يمكن لنا الإحاطة بحياة سيدة قضت
معظم حياتها في الخدر ، ووراء الستر ، ولم يطلع على حياتها العائلية إلا أهلها
وذووها؟
والرزية كل الرزية : أن التأريخ قد
ظلمها كما ظلمها الناس. التاريخ ظلمها كما ظلم أباها وإخوتها وأسرتها الطاهرة ،
ولم يعبأ المؤرخون بترجمة حياتها كما ينبغي ، وكما تتطلبه هذه الشخصية.
ورغم كل ذلك ، رأينا نجمع بعض ما وصل
إلينا من معلومات وعينات تاريخية حولها ، ونسلط الأضواء على بعض جوانب حياتها
الشريفة ، ونسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لتحقيق هذا الهدف ، إنه ولي التوفيق.
المؤلف
الفصل الأول
تاريخ
ميلاد السيدة زينب
ولادة
السيدة زينب
إسمها
وكنيتها
تاريخ ميلاد السيدة زينب
في غضون السنة السادسة من الهجرة استقبل
البيت العلوي الفاطمي الطاهر ـ بكل فرح وسرور ، وغبطة وحبور ـ الطفل الثالث من
أطفالهم ، وهي البنت الأولى للإمام أمير المؤمنين والسيدة فاطمة الزهراء 8.
ففي اليوم الخامس من شهر جمادى الأولى
ولدت السيدة زينب ، وفتحت عينها
في وجه الحياة ، في دار يشرف عليها ثلاثة هم أطهر خلق الله تعالى : محمد رسول الله
، وعلي أمير المؤمنين ، وفاطمة سيدة نساء العالمين ، صلى الله عليهم أجمعين.
هذا هو القول المشهور بين الشيعة ـ
حالياً ـ وهناك أقوال
تاريخة أخرى في
تحديد يوم وعام ميلادها المبارك.
ويجدر ـ هنا ـ أن نشير إلى جريمة
تاريخية ارتكبها عملاء الأمويين وأعجب بها المنحرفون الذين وجدوا هذه الجريمة ـ أو
الأكذوبة التاريخية ـ تلائم شذوذهم الفكري ، وانحرافهم العقائدي.
فقد ذكرت الكاتبة بنت الشاطئ في كتابها
« بطلة كربلاء » ما نصه :
« إنها الزهراء بنت النبي ، توشك أن تضع
في بيت النبوة مولوداً جديداً ، بعد أن أقرت عيني الرسول بسبطيه الحبيبين : الحسن
والحسين ، وثالث لم يقدر الله له أن يعيش ، هو المحسن بن علي ... » .
من الثابت أن المحسن بن الإمام علي هو
الطفل الخامس لا الثالث ، وهو الذي قتل وهو جنين في بطن أمه بعد أن عصروا السيدة
فاطمة الزهراء بين حائط بيتها والباب ، وبسبب الضرب المبرح الذي أصاب جسمها وكان
السبب في سقوط الجنبن.
ولكن هذه الكاتبة المصرية تستعمل
المغالطة والتزوير ، وتحاول إحقاق الباطل وإبطال الحق وتقول : إن السيدة زينب
ولدت بعد المحسن بن
علي الذي لم يقدر له أن يعيش!
فانظر كيف تحاول بنت الشاطئ تغطية
الجنايات التي قام بها بعض الناس بعد وفاة رسول الله 6
واقتحامهم بيت السيد فاطمة الزهراء 3
لإخراج الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7
ليبايع خليفتهم ، ودفاع السيدة فاطمة عن زوجها ، وعدم سماح لهم باقتحام دارها ،
وماجرى عليها من الضرب والركل والضغط ، فكانت النتيجة سقوط جنينها الذي سماه رسول
الله 6 ـ في حياته
ـ محسناً ، وهو ـ يومذاك ـ جنين في بطن أمه!!
وقد ذكرنا بعض ما يتعلق بتلك المأساة في
كتابنا : ( فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد ).
ولادة السيدة زينب
ولما ولدت السيدة زينب 3 أخبر النبي الكريم بذلك ، فأتى منزل
إبنته فاطمة ، وقال : يا بنية إيتيني ببنتك المولودة.
فلما أحضرتها أخذها النبي وضمها إلى
صدره الشريف ، ووضع خده على خدها فبكى بكاءً شديداً عالياً ، وسالت دموعه على خديه.
فقالت فاطمة : مم بكاؤك ، لا أبكى الله
عينك يا أبتاه؟
فقال : يا بنتاه يا فاطمة ، إن هذه
البنت ستبلى ببلايا وترد عليها مصائب شتى ، ورزايا أدهى.
يا بضعتي وقرة عيني ، إن من بكى عليها ،
وعلى مصائبها يكون ثوابه كثواب من بكى على أخويها.
ثم سماها زينب.
إسمها وكنيتها
إسمها
: زينب
إن الأسماء مشتقة من المصادر ، والمصادر
ـ طبعاً ـ لها معنىً ومفهوم ، فما هو معنى كلمة « زينب »؟
الجواب : هناك قولان في هذا المجال :
الأول : إن « زينب » كلمة مركبة من : «
زين » و « أب ».
الثاني : إن « زينب » كلمة بسيطـة وليست
مركبة ، وهي إسم لشجرة أو وردة.
وعلى كل حال .. فلا خلاف في أن هذا
الإسم جميل وحسن المعنى .. على كل تقدير.
كنيتها
: « أم كلثوم » و « أم الحسن » .
يوجد ـ في كتب التراجم ـ اضطراب شديد
حول هذا الإسم وهذه الكنية ، فالمشهور أن السيدتين : زينب وأم كلثوم بنتان للإمام
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من السيدة فاطمة الزهراء 8 .
وقد جاء التعبير عن السيدة زينب الكبرى
ـ في بعض الأقوال التاريخية وعلى لسان بعض الخطباء والمؤلفين ب « العقيلة » ، وهذا
وصـف للسيـدة زينب وليس إسٍماً
، ونحن نجد في كتب
اللغة معاني عديدة
لكلمة « العقيلة » ، فمنها : المرأة الكريمة ، النفيسة ، المخدرة .
ومعنى الكريمة : المحترمة.
الفصل الثاني
السيدة
زينب في عهد جدها الرسول
السيدة
زينب في عهد أمها البتول
السيد
زينب في عهد والدها أمير المؤمنين
السيدة
زينب تعلم تفسير القرآن لنساء الكوفة
السيدة
زينب مع أخيها الإمام الحسن المجتبى
العلاقات
الودية بين السيدة زينب
وأخيها
الإمام الحسين
السيدة زينب في عهد جدّها الرسول
إن الذكاء المفرط ، والنضج المبكر
يمهدان للطفل أن يرقى إلى أعلى الدرجات ـ إذا استغلت مواهبه ـ وخاصةً إذا كانت
حياته محاطة بالنزاهة والقداسة ، وبكل ما يساعد على توجيه الطفل نحو الأخلاق
والفضائل.
بعد ثبوت هذه المقدمة نقول :
ما تقول في طفلة : روحها أطهر من ماء
السماء ، وقلبها أصفى من المرآة ، وتمتاز بنصيب وافر من الوعي والإدراك ، تفتح
عينها في وجوه أسرتها الذين هم أشرف خلق الله ، وأطهر الكائنات ، وتنمو وتكبر
وتدرج تحت رعاية والد لا يشبه آباء العالم ، وفي حجر والدة فاقت بنات حواء شرفاً
وفضلاً وعظمة؟!!
وإذا تحدثنا عن حياتها على ضوء علم
التربية ، فهناك يجف القلم ، ويتوقف عن الكتابة ، لأن البحث عن حياتها التربوية
يعتبر
بحثاً عن الكنز
الدفين الذي لا يعرف له كم ولا كيف.
ولكن الثابت القطعي أنها تربية نموذجية
، وحيدة وفريدة.
وهل يستطيع الباحث أو الكاتب أو المتكلم
أن يدرك الجو العائلي المستور في بيت الإمام علي والسيدة فاطمة الزهراء 8؟
لقد روي أن رسـول الله ـ 6 ـ قرأ قوله تعالى : « فـي بيـوت إذن الله
ان ترفع ويذكـر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ...
»
فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله أي بيوت هذه؟
فقال : بيوت الأنبياء.
فقام إليه أبوبكر فقال : يا رسول الله
هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت علي وفاطمة.
فقال النبي : « نعم ، من أفضلها » .
ويجب أن لا ننسى أن الإمام أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب 7
ـ الذي أعطى المناهج التربوية للأجيال ، وأضاء طرق التربية الصحيحة للقرون ـ لابد
وأنه يبذل إهتماماً بالغاً
وعنايةً تامةً في
تربية عائلته ، ويمهد لهم السبيل حتى ينالوا قمة الأخلاق والفضائل.
وخاصةً حينما يجد فيهم المؤهلات
والإستعداد لتقبل تلك التعاليم التربوية.
ومن الواضح أن السيدة زينب ـ بمواهبها
واستعدادها النفسي ـ كانت تتقبل تلك الأصول التربوية ، وتتبلور بها ، وتندمج معها .
وأكثر إنطباعات الإنسان النفسية يكون من
أثر التربية ، كما
* * * *
أن أعماله وأفعاله ،
بل وحتى حركاته وسكناته ، وتصرفاته وأخلاقه وصفاته نابعة من نوعية التربية التي
أثرت في نفسه كل الأثر.
إذن ، فمن الصحيح أن نقول : إن السيدة
زينب تلقت دروس التربية الراقية العليا في ذلك البيت الطاهر ، كالعلم ـ بما في ذلك
الفصاحة والبلاغة ، والإخبار عن المستقبل ـ ومعرفة الحياة ، وقوة النفس وعزتها ،
والشجاعة والعقل الوافر ، والحكمة الصحيحة في تدبير الأمور ، واتخاذ ما يلزم ـ من
موقف أو قرار ـ
تجاه ما يحدث.
بالإضافة إلى إيمانها الوثيق بالله
تعالى ، وتقواها ، وورعها وعفافها ، وحيائها ، وهكذا إلى بقية فضائلها ومكارمها.
وقد كان رسول الله 6 يغمر أطفال السيدة فاطمة الزهراء 3 بعواطفه ، ويشملهم بحنانه ، بحيث لم
يعهد من جد أن يكون مغرماً بأحفاده إلى تلك الدرجة.
وكان 6
ـ إذا زارهم في بيتهم أو زاروه في بيته ـ يعطر خدودهم وشفاههم بقبلاته ، ويلصق خده
بخدودهم.
ويعلم الله تعالى كم من مرة حظيت السيدة
زينب 3 بهذه العواطف
الخاصة؟!
وكم من مرة وضع الرسول الأقدس 6 خده الشريف على خد حفيدته زينب؟! وكم
من مرة أجلسها في حجره؟!
وكم من مرة تسلقت زينب أكتاف جدها
الرسول؟!
ويؤسفنا أنه لم تصل إلينا تفاصيل أو
عينات تاريخية تنفعنا في هذا المجال ، وحول السنوات الخمس التي عاشتها السيدة تحت
ظل الرسول الأعظم 6.
السيدة زينب في عهد أمها البتول
تستأنس البنت بأمها أكثر من استيناسها
بأبيها ، وتنسجم معها أكثر من غيرها ، وتعتبر روابط المحبة بين الأم والبنت من
الأمور الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل ، فالأنوثة من أقوى الروابط بين الأم
وبنتها.
وإذا نظرنا إلى هذه الحقيقة من زاوية
علم النفس ، فإن الأم تعتبر ينبوعاً للعاطفة والحنان ، والبنت ـ بطبعها وطبيعتها ـ
متعطشة إلى العاطفة ، فهي تجد ضالتها المنشودة عند أمها ، فلا عجب إذا اندفعت نحو
أمها ، وانسجمت معها روحاً وقلباً وقالباً.
والسيدة زينب الكبرى كانت مغمورة بعواطف
أمها الحانية العطوفة ، وقد حلت في أوسع مكان من قلب أم كانت أكثر أمهات العالم
حناناً ورأفةً وشفقةً بأطفالها.
والسيدة زينب الكبرى تعرف الجوانب
الكثيرة من آيات عظيمة أمها سيدة نساء العالمين وحبيبة رسول الله وقرة عينه وثمرة
فؤاده ، وروحه التي بين جنبيه ، 6.
فقد فتحت السيدة زينب الكبرى عينيها في
وجه أطهر أنثى على وجه الأرض ، وعاشت معها ليلها ونهارها ، وشاهدت من أمها أنواع
العبادة ، والزهد ، والمواساة والإيثار ، والإنفاق في سبيل الله ، وأطعام الطعام
مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
وشاهدت حياة أمها الزوجية ، والإحترام
المتبادل بينها وبين زوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7 ، وإطاعتها له ، وصبرها على خشونة
الحياة وصعوبة المعيشة ، ابتغاء رضى الله تعالى.
كما عاصرت السيدة زينب الحوادث المؤلمة
التي عصفت بأمها البتول بعد وفاة أبيها الرسول ، وما تعرضت له من الضرب والأذى ،
كما سبقت منا الإشارة إلى ذلك.
وانقضت عليها ساعات اليمة وهي تشاهد
أمها العليلة ، طريحة الفراش ، مكسورة الضلع ، دامية الصدر ، محمرة العين.
كما رافقت أمها الزهراء 3 إلى مسجد رسول الله ـ 6 ـ حين إلقاء الخطبة ، كما ستقرأ ذلك في
فصل ( بعض ما روي عن السيدة زينب ) إن شاء الله تعالى.
السيدة زينب في عهد والدها أمير المؤمنين
بعد أن وصل الإمام أمير المؤمنين 7 من البصرة إلى الكوفة ، واستقر به
المكان ، إلتحقت به العوائل من المدينة إلى الكوفة.
ومن جملة السيدات اللواتي هاجرن من
المدينة إلى الكوفة هي السيدة زينب 3
وقد سبقها زوجها عبد الله بن جعفر ، حيث كان في جيش الإمام لدى وصوله إلى البصرة.
والمستفاد من مطاوي التواريخ والأحاديث
أن الإمام أمير المؤمنين 7
ـ بعد انقضاء مدة من وصوله إلى الكوفة ـ نزل في دار الامارة ، وهو المكان المعد
لحاكم البلدة ، ومع تواجد الإمام في الكوفة لم يكن هناك حاكم أو أمير غيره ،
فلماذا لا ينزل في دار الإمارة؟
ويتبادر إلى الذهن أن دار الامارة كانت
مشتملة على حجرات وغرف عديدة واسعة ، وكان كل من البنات والأولاد
( المتزوجين )
يسكنون في حجرة من تلك الحجرات ، والسيدة زينب كانت تسكن مع زوجها في حجرة أو غرفة
من غرف دار الإمارة.
ومكثت السيدة زينب 3 في الكوفة سنوات
وعاصرت الأحداث
والإضطرابات الداخلية التي حدثت : من واقعة صفين إلى النهروان ، إلى الغارات التي
شنها عملاء معاوية على بلاد الإمام أمير المؤمنين 7.
إنقضت تلك السنوات المريرة ، المليئة
بالآلام والمآسي ، وانتهت تلك الصفحات المؤلمة بالفاجعة التي اهتزت منها السماوات
والأرضون ، وهي حادثة استشهاد الإمام أمير المؤمنين 7.
لقد كانت العلاقات الودية بين الإمام
أمير المؤمنين وبين أولاده وبناته على أطيب ما يمكن ، وفي جو من الصفاء والوفاء ،
والعاطفة والمحبة.
والإمام أمير المؤمنين هو السلطان
الحاكم على نصف الكرة الأرضية ، ومعه عائلته المصونة وأبناؤه المكرمون ، ولكنه ـ
في شهر رمضان من تلك السنة ، وهي السنة الأخيرة والشهر الأخير من حياته ـ كان يفطر
ليلة عند ولده الإمام الحسن ، وليلة عند ولده الإمام الحسين 8 وليلة عند السيدة زينب التي كانت تعيش
مع زوجها عبد الله بن جعفر ، كل ذلك
تقويةً لأواصر
المحبة والتواصل
بينه وبين أشباله وبناته.
وفي الليلة التاسعة عشر من شهر رمضان ،
كانت النوبة للسيدة زينب ، وأفطر الإمام في حجرتها وقدمت له طبقاً فيه رغيفان من
خبز الشعير ، وشيء من الملح ، وإناء من لبن.
كان هذا هو فطور الإمام أمير المؤمنين
الذي كان يحكم على نصف العالم ، وأنهار الذهب والفضة تجري بين يديه.
واكتفى الإمام ـ تلك الليلة ـ برغيف من
الخبز مع الملح فقط.
ثم حمد الله وأثنى عليه ، وقام إلى صلاة
، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرعاً إلى الله تعالى.
ولا أعلم لماذا بات الإمام في حجرة
ابنته السيدة زينب ـ تلك الليلة ـ؟
ولعله اختار المبيت في بيتها حتى تشاهد
وترى ، وتروي مشاهداتها ومسموعاتها عن أبيها أمير المؤمنين في تلك الليلة ، إذ
كانت تلك الليلة تمتاز عن بقية الليالي ، فإنها تحدثنا فتقول :
إنه 7
قال لأولاده : « إني رأيت ـ في هذه الليلة ـ رؤيا هالتني ، وأريد أن أقصها عليكم
».
قالوا : وما هي؟
قال : « إني رأيت ـ الساعة ـ رسول الله 6 في منامي وهو يقول لي : يا أبا الحسن
إنك قادم إلينا عن قريب ، يجيء إليك أشقاها فيخضب شبيتك من دم رأسك ، وأنا ـ والله
ـ مشتاق إليك ، وإنك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان ، فهلم إلينا فما عندنا
خير لك وأبقى ».
فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب
، وأبدوا العويل ، فاقسم عليهم بالسكوت ، فسكتوا.
وتقول السيدة زينب 3 :
لم يزل أبي ـ تلك الليلة ـ قائماً
وقاعداً وراكعاً وساجداً ، ثم يخرج ساعةً بعد ساعة ، يقلب طرفه في السماء وينظر في
الكواكب وهو يقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، وإنها الليلة التي وعدت بها. ثم يعود
إلى مصلاّه ويقول : اللهم بارك لي في الموت. ويكثر من قول : « انا لله وإنا إليه
راجعون » ، « ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » ، ويصلي على النبي وآله ـ 6 ـ ويستغفر الله كثيراً.
تقول : فلما رأيته ـ في تلك الليلة ـ
قلقاً متململاً
كثير الذكر
والإستغفار ، أرقت معه ليلتي وقلت : يا
أبتاه ما لي أراك في هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟
قال ـ 7
ـ : يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً ، وما دخل
في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة.
ثم قال : إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقلت : يا أبتاه ، ما لك تنعى نفسك في
هذه الليلة؟
قال : يا بنية قد قرب الأجل وانقطع
الأمل.
قالت : فبكيت ، فقال لي : يا بنية لا
تبكي فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلى النبي 6.
تقول 3
: ثم إنه نعس وطوى ساعة ، ثم استيقظ من نومه وقال : يا بنية إذا قرب وقت الأذان
فأعلميني.
ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من
الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
فجعلت أرقب وقت الأذان ، فلما لاح الوقت
أتيته ومعي إناء فيه ماء ، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء ، وقام ولبس ثيابه وفتح باب
الحجرة ، ثم نزل إلى ساحة الدار.
وكانت في الدار إوز
قد أهديت إلى أخي الحسين ، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه ـ ولم يصحن
قبل تلك الليلة ـ فقال 7
: « لا إله إلا الله ، صوارخ تتبعها نوائح ، وفي غداة غد يظهر القضاء ».
فقلت : يا أبتاه هكذا تتطير؟!
فقال : « يا بنية! ما منا ـ أهل البيت ـ
من يتطير ، ولا يتطير به ، ولكن قول جرى على لساني ».
ثم قال ـ 7
ـ : « يا بنية! بحقي عليك إلا ما أطلقتيه ، فقد حبست ما ليس له لسان ، ولا يقدر
على الكلام إذا جاع أو عطش ، فأطعميه واسقيه وإلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض
».
فلما وصل إلى الباب عالجه ليفتحه ،
فتعلق الباب بمئزره ، فانحل مئزرة حتى سقط ، فأخذه وشده وهو يقول :
أشـدد حيازيمك للموت
|
|
فإن المـوت لاقيكـا
|
ولا تجـزع من الموت
|
|
إذا حــل بنـاديكـا
|
كما أضحكـك الـدهر
|
|
كذاك الدهـر يبكيكـا
|
ثم قال : « اللهم بارك لنا في الموت ،
الله مبارك لي في لقائك ».
تقول السيدة أم كلثوم :
وكنت أمشي خلفه ، فلما سمعته يقول ذلك
قلت : واغوثاه يا أبتاه! أراك تنعى نفسك منذ الليلى؟!
فقال ـ 7
ـ : « يا بنية! ما هو بنعاء ، ولكنها
دلالات وعلامات
للموت .. يتبع بعضها بعضاً ».
ثم فتح الباب وخرج.
فجئت إلى أخي الحسن فقلت : يا أخي قد
كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا ، وهو قد خرج في هذا الليل الغلس ، فالحقه.
فقام الحسن 7 وتبعه ، فلحق به قبل أن يدخل الجامع ،
فأمره الإمام بالرجوع ، فرجع.
أيها القارئ الكريم :
هنا ننقل ما ذكره المؤرخون ، ثم نعود
إلى حديث السيدة زينب 3:
لقد جاء الإمام علي 7 حتى دخل المسجد ، فصعد على المئذنة
ووضع سبابتيه في أذنيه وتنحنح ، ثم أذن فلم يبق في الكوفة بيت إلا اخترقه صوته ،
ثم نزل عن المئذنة وهو يسبح الله ويقدسه ويكبره ، ويكثر من الصلاة على النبي 6.
وكان يتفقد النائمين في المسجد ويقول
للنائم : الصلاة
يرحمك الله ، قم إلى
لصلاة المكتوبة ، ثم يتلو : «
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ».
... ثم اتجه نحو المحراب وقام يصلي ،
وكان 7 يطيل الركوع
والسجود ، فقام ابن ملجم ( لعنه الله ) لارتكاب أكبر جريمة في تاريخ الكون ، وأقبل
مسرعاً حتى وقف بأزاء الاسطوانة التي كان الإمام يصلي عندها ،
فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وسجد السجدة الأولى ورفع رأسه منها ، فتقدم اللعين
ورفع السيف وهزه ثم ضرب الإمام على رأسه الشريف ، فوقعت الضربة على مكان الضربة
التي ضربه عمرو بن عبدود العامري ، يوم الخندق.
فوقع الإمام 7 على وجهه قائلاً : بسم الله وبالله
وعلى ملة رسول الله ، فزت ورب الكعبة ، هذا ما و عد الله ورسوله ، وصدق الله
ورسوله.
وسال الدم على وجهه الشريف ، وشيبته
المقدسة ، وعلى
صدره وأزياقه
، حتى اختضبت شيبته وتحقق ما أخبر عنه الرسول الكريم.
وفي هذه اللحظة الأليمة هتف جبرئيل ـ
بين السماء والأرض ـ ذلك الهتاف السماوي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الأنبياء
والأوصياء.
لقد هتف جبرئيل بشهادة الإمام علي 7 كما هتف ـ يوم أحد ـ بفتوته وشهامته
يوم قال : « لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذوالفقار ».
فقد اصطفقت أبواب المسجد الجامع
، وضجت الملائكة في السماء ، وهبت ريح عاصفة سوداء مظلمة ، ونادى جبرئيل بصوت سمعه
كل مستيقظ :
« تهدمت ـ والله ـ أركان الهدى ،
وانطمست ـ والله ـ نجوم السماء وأعلام التقى ، وانفصمت ـ والله ـ العروة الوثقى ،
قتل ابن عم محمد المصطفى ، قتل الوصي المجتبى ، قتل علي المرتضى ، قتل ـ والله ـ
سيد الأوصياء ، قتله أشقى
الأشقياء ».
فلما سمعت السيدة أم كلثوم نعي جبرئيل
لطمت على وجهها وخدها ، وشقت جيبها وصاحت : واأبتاه! واعلياه! وامحمداه! واسيداه!
... ثم حملوا الإمام ـ والناس حوله
يبكون وينتحبون ـ وجاؤوا به إلى الدار. فاقبلت بنات رسول الله وسائر بنات الإمام ،
وجلسن حول فراشه ينظرن إلى أسد الله وهو بتلك الحالة ، فصاحت السيدة زينب وأختها :
أبتاه من للصغير حتى يكبر؟! ومن للكبير بين الملأ؟!
يا ابتاه! حزننا عليك طويل ، وعبرتنا لا
ترقأ.
فضج الناس ـ من وراء الحجرة ـ بالبكاء
والنحيب ، وشاركهم الإمام 7
وفاضت عيناه بالدموع.
وفي ليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان
، في الساعة الأخير من حياة الإمام 7
كانت السيدة زينب 3
جالسة عنده تنظر في وجهه ، إذ عرق جبين الإمام ، فجعل يمسح العرق بيده ، فقالت
زينب : يا أبه أراك تمسح جبينك؟
قال : يا بنية سمعت جدك رسول الله ( صلى
الله عليه وآله
وسلم ) يقول : « إن
المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلو الرطب ، وسكن انينه ».
فعند ذلك ألقت زينب بنفسها على صدر
أبيها وقالت : يا ابه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء ، وقد أحببت أن أسمعه منك.
فقال 7
: « يا بنية! الحديث كما حدثتك أم أيمن ، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد
، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس ، فصبراً صبراً ».
ثم التفت الإمام إلى ولديه الحسن
والحسين 8 وقال : « يا
أبا محمد ويا أبا عبد الله ، كأني بكما وقد خرجت عليكما من بعدي الفتن من ها هنا
وها هنا ، فاصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
يا ابا عبد الله! أنت شهيد هذه الأمة ،
فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه.
ثم أغمي عليه وأفاق ، وقال : هذا رسول
الله وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله ، وكلهم يقولون : عجل قدومك علينا فإنا
إليك مشتاقون.
ثم أدار عينيه في وجوه أهل بيته وقال
لهم : « استودعكم الله » ، وتلا قوله تعالى « لمثل هذا فليعمل العاملون »
وقوله سبحانه « إن الله
مع الذين اتقوا والذين هم محسنون »
.
ثم تشهد الشهادتين وفارق الحياة.
فعند ذلك صرخت زينب وأم كلثوم وجميع
نسائه وبناته ، وشققن الجيوب ، ولطمن الخدود ، وارتفعت الصيحة في الدار.
... ولما فرغ أولاد الإمام 7 من تغسيله ، نادى الإمام الحسن أخته
زينب وقال : يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله ـ وكان قد نزل به جبرئيل من الجنة
ـ.
فبادرت السيدة زينب مسرعة حتى أتته به ،
فلما فتحته فاحت الدار لشدة رائحة ذلك الطيب.
أيها القارئ الكريم : هذا بعض ما يرتبط
بالسيدة زينب في حياة أبيها العظيم الإمام علي أمير المؤمنين 7 وقد اقتطفنا ما يرتبط بمقتل أبيها من
كتابنا : الإمام علي من المهد إلى اللحد.
السيدة زينب
مع أخيها الإمام الحسن المجتبى
إن الاحترام اللائق ، والتقدير الرفيع
كان متبادلاً بين السيدة زينب الكبرى وبين أخيها الأكبر ، وهو السبط الأول لرسول
الله 6 : الإمام
الزكي ، الحسن المجتبى 7.
إن السيدة زينب كانت تنظر إلى أخيها
الامام الحسن من مناظرين :
١ ـ منظار الأخوة.
٢ ـ منظار الإمامة.
فمن ناحية : يعتبر الإمام الحسن الأخ
الأكبر للسيدة زينب 3
ومن المعلوم أن الأخ الأكر له مكانة خاصة عند الإخوة والأخوات ، وقد ورد في الحديث
الشريف : « الأخ الأكبر
بمنزلة الأب »
ومن ناحية أخرى : يعتبر الإمام الحسن 7 إمام زمان السيدة زينب بعد شهادة
الإمام أمير المؤمنين 7
ولهذا فإن احترامها لاخيها كان ينبعث من هذين المنطلقين.
وتجدر الإشارة إلى أن كل ما سنذكره ـ من
الروابط القلبية بين السيدة زينب والإمام الحسين ـ فهي ثابتةً بينها وبين أخيها
الإمام الحسن أيضاً.
وإذا كان التاريخ قد سكت عن التفاصيل
فإن أصل الموضوع ثابت.
ونكتفي ـ هنا ـ بما ذكر في بعض الكتب من
موقف السيدة زينب حينما حضرت عند أخيها الإمام الحسن ساعة الوفاة :
« ... وصاحت زينب : وا أخاه! وا حسناه!
وا قلة ناصراه! يا أخي من الوذ به بعدك؟!
وحزني عليك لا ينقطع طول عمري! ثم إنها
بكت على أخيها وهي تلثم خديه وتتمرغ عليه ، وتبكي طويلاً ».
العلاقات الودّية
بين السيدة زينب وأخيها الإمام الحسين
إن روابط المحبة ، والعلاقات الودية بين
الإخوة والأخوات كانت من قديم الزمان ، حتى صارت يضرب بها المثل في المحبة والمودة
بين اثنين ، فيقال : كأنهما أخوان ، أو كأنهما أخ وأخت.
ولكن العلاقات الودية وروابط المحبة بين
الإمام الحسين وبين أخته السيدة زينب 8
كانت في القمة وكانت تمتاز بمزايا ، ولا أبالغ إذا قلت : لا يوجد ولم يوجد في
العالم أخ وأخت تربطهما روابط المحبة والوداد مثل الإمام الحسين وأخته السيدة
زينب. فإن كلاً منهما كان قد ضرب الرقم القياسي في مجال المحبة الخالصة ،
والعلاقات القلبية.
وكيف لا يكونان كذلك وقد تربيا في حجر
واحد وتفرعا
من شجرة واحدة؟!
ولم تكن تلك العلاقات منبعثة عن عاطفة
القرابة فحسب ، بل عرف كل واحد منهما ما للآخر من الكرامة ، وجلالة القدر وعظم
الشأن.
فالسيدة زينب تعرف أخاها بأنه :
سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول 6 وتعلم بأن الله تعالى قد أثنى على
أخيها في آيات كثيرة من القرآن الكريم ، كآية المباهلة ، وآية المودة ، وآية
التطهير ، وسورة « هل أتى » ، وغيرها من الآيات والسور.
بالاضافة إلى أنها عاشت سنوات مع اخيها
في بيت واحد ، وشاهدت ما كان يتمتع به اخوها من مكارم الأخلاق والعبادة والروحانية
، وعرفت ما لأخيها من علو المنزلة وسمو الدرجة عند الله عزوجل.
وتعلم انه إمام منصوب من عند الله تعالى
، منصوص عليه بالإمامة العظمى والولاية الكبرى من الرسول الأقدس 6.
مع توفر شروط الإمامة ولوازمها فيه ،
كالعصمة ، والعلم بجميع أنواع العلوم ، وغير ذلك.
وهكذا يعرف الإمام الحسين 7 أخته السيدة زينب
حق المعرفة ، ويعلم
فصائلها وفواضلها وخصائصها.
ومن هنا يمكن لنا أن نطلع على شيء من
مدى الروابط القوية بين هذا الأخ العظيم وأخته العظيمة.
وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين
( عليه اسلام ) كان يقرأ القرآن الكريم ـ ذات يوم ـ فدخلت عليه السيدة زينب ، فقام
من مكانه وهو يحمل القرآن بيده ، كل ذلك احتراماً لها.
الفصل الثالث
زواج
السيدة زينب 3
عبد
الله بن جعفر
زواج السيدة زينب عليها السلام
لمّا بَلَغت السيدة زينب الكبرى 3 مَبلَغ النساء ، خطَبَها ـ فيمَن
خطَبَها ـ ابنُ عمّها : عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
وكان الإمام أمير المؤمنين 7 يَرغَبُ أن يتزوّج بناته من أبناء
عُمومتهنّ : أولاد عقيل وأولاد جعفر ، ولعلّ السبب في ذلك هو كلام رسول الله 6 ـ حينَ نظر الى أولاد الإمام علي
وأولاد جعفر بن أبي طالب ـ فقال : ـ « بَناتُنا لبَنينا ، وبَنونا لبَناتنا ».
وحصلت الموافقة على الزواج ، وتمّ العقد
المبارك في جوّ عائلي يَغمره الودّ والمحبّة ، وزُفّت السيدة زينب ( عليها
السلام ) إلى دار
زوجها عبد الله بن جعفر .. بكلّ إجلال واحترام. وأنجَبَت منه أولاداً كانوا ثمرات
تلك الشجرة الطيّبة ، وفروع أغصانها ، فلقد وَرِثوا المجد والشرف من الجانبين.
عبد الله بن جعفر
لا أراني بحاجة إلى التحدّث عن حياة
جعفر الطيّار ـ رضوان الله عليه ـ والد عبد الله ، ولا أجدُ ضرورة إلى التحدّث عن
حياة سيدنا أبي طالب 7
أو عقيل أو بقيّة رجالات وسيّدات هذه الأسرة ، الذين يَنحدرون عن سيّدنا أبي طالب.
وإنّما المقصود ـ هنا ـ هو التحدّث عن
حياة عبد الله بن جعفر ، وذلك لكونه زوج السيدة زينب الكبرى 3.
كان عبد الله شخصيّة لامعة في عصره ،
يمتاز عن غيره نسباً وحسباً ، وجوداً وكرماً ، فقد ذكره أرباب التراجم ـ من
الفريقين ( السُنّة والشيعة ) في كتب التاريخ والحديث والرجال ـ بكلّ ثناء وتقدير
، وعدوّه من أصحاب رسول الله 6
والإمام أمير المؤمنين ، والإمام الحسن والإمام الحسين والإمام السجاد :.
وقد كان رابِط الجأش
قويّ القلب ، شُجاعاً ، شملته ـ في طفولته ـ بركة دعاء رسول الله 6 وامتدّت إلى آخر حياته.
فقد ذكر سبطُ إبن الجوزي في كتابه (
تَذكرة الخواص ) في ذِكر أولاد جعفر بن أبي طالب :
« عبد الله ، وبه كان يُكنّى
، ومحمد ، وعَون ، وأمّهم : أسماء بنت عميس ، ولدتهم بأرض الحبشة
وكان جعفر قد هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية.
وأشهرهم : عبد الله ، وكان من الأجواد ،
وهو من الطبقة الخامسة ممّن توفّي
رسول الله 6 وهو
حَدث ، ولمّا ولدته
أمّه أسماء بالحبشة ، وُلد ـ بعد ذلك بأيّام ـ للنجاشي وَلَد
فسمّاه عبد الله ، تبرّكاً باسمه ، وأرضعت أسماءُ عبد الله بن النجاشي بلَبَن
ابنها عبد الله.
وقال ابن سعد في كتاب ( الطبقات )
:
حدّثنا الواقدي ، عن محمد بن مسلم ، عن
يحيى بن أبي يعلى ، قال :
سمعت عبد الله بن جعفر يقول : « أنا
أحفظُ حينَ دخل رسول الله 6
على أمّي فنعى إليها أبي ، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تَذرفان
ـ أو تهرقان ـ بالدموع حتّى تقطر لحيته.
ثم قال : « اللهم إنّ جعفراً قد قَدم
إلى أحسن الثواب ، فاخلفه في ذريّته بأحسن ما خلفت أحداً مِن عبادك في ذريّته ».
ثمّ قال : « يا أسماء! ألا أُبشّركِ؟ »
قالت أمّي : بلى ، بأبي انت وأمّي يا
رسول الله!
قال : « فإن الله قد جعل لجعفر جناحين
يطير بهما في الجنة ».
فقالت : يا رسول الله فأعلم الناس بذلك.
فقام رسول الله فأخذ بيدي ومسح برأسي ،
ورقى المنبر ، فاجلسني أمامه على الدرجة السفلى ـ والحزن يُعرف عليه ـ
فتكلّم وقال :
« إنّ المرء كثير بأخيه وابن عمّه ، ألا
: إنّ جعفراً قد استشهد ، وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنّة ».
ثم نزل رسول الله 6 ودخل بيته وأدخلني معه ، وأمر بطعام
فصُنع لأهلي.
ثمّ أرسل إلى أخي ، فتغدّينا عنده غذاءً
طيّباً مباركاً ...
وأقمنا ثلاثة أيام ، ندور معه في بيوت
أزواجه ثم رجعنا إلى بيتنا.
فأتانا رسول الله وأنا أُساوم بشاة أخاً
لي
، فقال : « اللهم
بارِك له في صفقته »
، فما بِعت شيئاً ولا اشتريت إلا بورك فيه ».
ولعبد الله بن جعفر حوار وكلام في مجلس
معاوية بن أبي سفيان ، يدلّ على ما كان يتمتّع به عبد الله من قوّة القلب ، وثَبات
الجَنان ، والإيمان الراسخ بالمبدأ والعقيدة ، وعدم الإكتراث بالسلطات الظالمة
الغاشمة.
أضف إلى ذلك الفصاحة والبلاغة ،
والمستوى الأدبي الأعلى الأرقى. فقد ذكر إبن أبي الحديد في ( شرح نهج البلاغة ) عن
المدائني :
قال : بينا معاوية ـ يوماً ـ جالس ،
وعنده عمرو بن العاص إذ قال الآذِن
: قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
فقال عمرو : والله لأسوأنّه اليوم!
فقال معاوية : لا تفعل يا أبا عبد الله
، فإنّك لا تنتصف منه ، ولعلّك أن تُظهر لنا من مغبّته ما هو خفيّ عنّا ،
وما لا نحبّ ان نعلمه منه!!
وغشيهم عبد الله بن جعفر
فأدناه معاوية وقرّبه.
فمال عمرو إلى جُلساء معاوية فنال مِن
علي 7 جهاراً غير
ساترٍ له ، وثلبه ثلباً قبيحاً!!
فالتمع لون عبد الله ، واعتراه الأفكَل
حتى أرعدت خصائله
ثم نزل عن السرير كالفنيق فقال عمرو :
مَه يا أبا جعفر؟
فقال له عبد الله : مَه؟ لا أمّ لك؟ ثم
قال :
أظنّ الحِلمَ دلّ عليّ قومي
|
|
وقد يتجهّل الرجل الحليم
|
ثمّ حسَر عن ذراعيه
، وقال :
يا معاوية! حتى متى نتجرّع غيظك؟
وإلى كم الصبر على مكروه قولك ، وسيّئ
أدبَك ، وذَميم أخلاقك؟
هَبَلَتك الهبول!!
أما يَزجُرك ذمامُ المجالسة من القَذع
لجليسك إذا لم يكن له حرمة من دينك تَنهاك
عمّا لا يَجوز لك؟!
أما : والله لو عطفتك أواصر الأرحام ،
أو حاميتَ عن سهمك من الإسلام ما أرخَيتَ ـ لبني الإماء المُتك
والعَبيد المُسك ـ أعراض
قومك.
وما يَجهل موضع الصَفوة إلا أهل نَجوة .
وإنّك لتعرف وشائط قريش
، وصقوة عوائدها ، فلا يَدعوّنك تصويبُ ما فَرط مِن خَطاك في سفك دماء المسلمين ،
ومُحاربة أمير المؤمنين ، إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه ، فاقصد
لمنهج الحقّ ، فقد طال عمهُك عن سبيل الرشد
، وخَبطُك في دَيجور ظلمة الغيّ ، فإن أبَيت إلا أن تُتابعَنا في قُبح اختيارك
لنفسك فاعفِنا عن سوء القالة فينا إذا ضمّنا وإيّاك الندي
، وشأنُك وما تريد إذا خلَوت ، والله حسيبُك ، فوالله لولا ما جعل الله لنا في
يديك لما أتيناك.
ثم قال : إنّك إن كلّفتني ما لم أُطِق
ساءك ما سرّك منّي مِن خُلق.
فقال معاوية : يا أبا جعفر : اقسمتُ
عليك لَتجلسنّ ، لعن الله من أخرجَ ضبّ صدرك مِن وجاره
، محمولٌ لك ما قلتَ ، ولكَ
عندنا ما أمّلت ،
فلو لم يكن مَجدك ومَنصِبُك لكان خَلقُك وخُلُقك شافِعَين لك إلينا ، وأنت إبن ذي
الجناحين وسيد بني هاشم.
فقال عبد الله : كلا ، بل سيّدا بَني
هاشم حسنٌ وحسين ، لا يُنازعهما في ذلك أحَد.
فقال معاوية : يا أبا جعفر أقسمتُ عليك
لما ذكرتَ حاجة لك قضيتها كائنةً ما كانت ، ولو ذهبت بجميع ما أملك.
فقال : أمّا في هذا المجلس فلا.
ثمّ انصَرف ، فأتبعه معاوية بصُرّة.
فقال : والله لَكأنّه رسول الله ، مشيُه وخَلقه وخُلقه وإنّه لمن شكله ، ولودَدتُ
أنّه أخي بنفيس ما أملك.
ثمّ التفت إلى عمرو فقال : أبا عبد الله
ما تَراه منَعَه مِن الكلام معك؟
قال : ما لا خفاء به عنك.
قال : أظنّك تقول : إنّه هابَ جوابك ،
لا والله ولكنّه ازدَراك واستحقَرك
ولم يَرك للكلام أهلاً ، أما رأيت إقباله عليَّ
دونَكَ ، زاهداً
بنفسه عنك.
فقال عمرو : هل لك أن تَسمع ما أعددته
لجوابه؟
قال معاوية : إذهب ، إليك أبا عبد الله
، فلاتَ حين جواب سائر اليوم ، ونهض
معاوية وتفرّق الناس.
لماذا لم يخرج عبد الله مع الإمام الحسين 7؟
هناك سؤال قد يتبادر إلى بعض الأذهان
وهو : لماذا لم يَخرج عبدالله بن جعفر مع الإمام الحسين 7 في رِحلته إلى العراق؟
لإجابة هذا السؤال : هناك أكثر من
إحتمال ، لأنّنا لا نَعلم ـ بالضبط ـ الجواب الصحيح ، لكنّ الذي يتبادر إلى ذهني ـ
والله العالم ـ : أنّه كان من اللازم أن تَبقى بقيّة من أهل البيت في المدينة
المنوّرة ، لكي لا يَنجح بنو أميّة في إكمال خطّتهم الرامية إلى استئصال شجرة آل
الرسول الكريم ، وكان اللازم أن تكون تلك البقيّة في مستوى رفيع من قوّة
الشخصية والمكانة
الإجتماعية .. رجالاً ونساءً ، لكي يستطيعوا المحافظة على امتداد خط الإسلام
الأصيل الذي يَنحصر في آل محمد وعلي ( عليهما وآلهما الصلاة والسلام ) ولكي يكونوا
على درجة جيّدة بحيث يَحسب لهم الأعداء ألف حساب ، ولا يَسهُل عليهم إبادة تلك
البقيّة.
من هنا .. فاننا نقرأ ـ اسماء ثلة من
الذين بقوا في المدينة المنورة ، ولم يخرجوا مع الامام الحسين (ع). ومن جملة هذه
الثلة الطيبة نقرا في القائمة.
١ ـ عبد الله بن جعفر ، مع الانتباه الى
علاقاته الديبلوماسية الظاهرية المُسبَقة مع الطاغية معاوية ، والاحترام الفائق
الذي كان معاوية يُظهره له.
٢ ـ محمد بن الإمام أمير المؤمنين علي 7 المشهور بـ « ابن الحنفيّة ».
٣ ـ السيدة أم سلمة ، زوجة رسول الله 6.
٤ ـ أمّ هاني ، أخت الإمام علي بن أبي
طالب 7.
٥ ـ السيدة أم البنين ، قرينة الامام
أمير المؤمنين 7
ووالدة أشباله الأربعة.
٦ ـ السيدة المكرّمة ليلى ، قرينة الامام
الحسين ( عليه
السلام ) بناءً على
القول بعدم وجودها في رحلة كربلاء.
٧ ـ السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين 7 حيث كانت مريضة .. مرضاً يَصعُب معه
السفر.
هذا .. وهناك احتمال بأنّ سبب عدم ذهاب
عبد الله بن جعفر كان كِبَر السنّ ، ولكن قد يُضعّف هذا الاحتمال ما ثَبت ـ
تاريخيّاً ـ من أن عمره ـ يومذاك ـ كان حوالي خمس وخمسين سنة ، ولا يُعتبر هذا
المقدار من العمر كثيراً ، إلا إذا كانت الحياة مقرونة بعواصف نفسيّة أو جسميّة
تُسرع الشيخوخة والهرم إلى الانسان.
وهناك إحتمال ثالث ذكره البعض : أن عبد
الله بن جعفر كان قد فقد بصره قبل رحلة كربلاء ، وهذا الاحتمال يَصلح سبباً وجيهاً
لعدم ذهابه ، لكن بشرط أن يَثبت تاريخياً. والله العالم بحقائق الأمور.
الفصل الرابع
أولاد
السيدة زينب 3
مروان
يخطب بنت السيدة زينب 3
ليزيد
بن معاوية
أولاد السيدة زينب عليها السلام
لقد اختلف المؤرّخون في عدد أولاد
السيدة زينب 3 وأسمائهم.
ففي كتاب ( إعلام الورى ) للطبرسي :
«علي وجعفر وعون الأكبر ، وأُمّ كلثوم».
وقيل : علي ، وعون الأكبر ، ومحمد ،
وعباس ، وأمّ كلثوم .
أما محمد وعون فقد استُشهدا في نُصرة
خالهما : الإمام الحسين 7
في يوم عاشوراء بكربلاء.
وأمّا أم كلثوم فقد تزوّج بها ابن عمّها
القاسم بن محمد بن جعفر ، وقد استُشهد في فاجعة كربلاء.
مروان يَخطب بنت السيدة زينب عليها السلام
ليزيد بن معاوية
لقد كان البيت الأموي معقّداً بعُقدة
الحِقارة النفسيّة ، بالرغم من السلطة الزمنيّة التي اغتصبوها زوراً وبهتاناً ،
وظلماً وعدوانا.
فقد كانت صفحات تاريخهم ـ خَلَفاً عن
سَلَف ـ سوداء مظلمة مُدلَهمّة ، ملوّثة مشوّهة من مساويهم ومَخازيهم.
فتلك ( حمامة ) وهي مِن جَدّات معاوية ،
وكانت مِن بغايا مكّة ومن ذوات الأعلام ، أي : كان العَلَم يُرفرف على دارها ( بيت
الدعارة ) لِيَعرف الزُناة ذلك ، ويقصدوها للفجور بها.
وتلك هند ـ والدة معاوية ـ السافلة
القذرة ، ذات السوابق العَفِنة ، والملَفّ الأسود ، آكلة الأكباد ، المُمتلئة
حِقداً وعداءً على الإسلام والمسلمين.
وذاك أبو سفيان : قُطب المشركين ، وشيخ
المُلحدين ، ورأس كلّ فتنة ، وحامل كلّ راية رُفعت لحرب رسول الله 6 وقائد كلّ جيش خرج لقتال المسلمين في
أيام النبي الكريم.
وهذا معاوية ، خَلَفُ هذا السلف ،
وحصيلة هذه الجراثيم ، وثمرة تلك الشجرة الملعونة في القرآن ، وهو يعلم أنّ الناس
يعلمون هذه السوابق ، ويَعرفون معاوية حقّ المعرفة.
فكيف يَجبر هذا الشعور بالنقص .. الذي
لا يُفارقه؟!
وكيف يستر هذه العيوب التي أحاطت به
وغَمرته؟
كان الإحساس والشعور ـ بهذه السوابق
العفنة ، والملفّات الوسخة ـ يحُزّ في صدر معاوية.
فهو يُحاول أن يَكسب شيئاً من الشرف
والمجد ، لِيَملأ هذا الفراغ ويتخلّص من هذا الشعور ، ويُغطّي على وَصمات الخزي من
سجلّ حياته ومن صفحات تاريخه ، ويتشبّث بشتّى الوسائل ، ولكنّ محاولاته كانت تَبوء
بالفشل.
ومن جملة الطرق والوسائل التي حاول
معاوية ـ من خلالها ـ إكتساب الشرف والسؤدد ، هي مُصاهرة الأشراف ، لإكتساب الشرف
منهم.
وكان البيت العَلَوي الطاهر على علم
وبصيرة من نوايا معاوية وأهدافه ، ولهذا كانوا يَسدّون عليه كلّ باب يمكن أن يدخل
منه.
فلقد أوصى الإمام أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب 7 عند وفاته :
أن يتزوّج المُغيرة بن الحارث بن الزبير بن عبد المطّلب بأُمامة بنت زينب بنت رسول
الله 6.
تلك السيدة التي أوصت مولاتنا فاطمة
الزهراء 3 أمير المؤمنين
أن يتزوّج بها ، حيث قالت : « وتزوّج بأُمامة إبنة أُختي ، فإنّها لأولادي مِثلي
».
وإنّما أوصى الإمام بذلك كي لا يتزوّج
بها معاوية ، فالإمام كان يعلم ـ بعلم الإمامة ـ بأنّ معاوية سوف يُحاول أن يتزوّج
بها ،
ويَفتخر بأنّه صاهر
رسول الله 6 وأنّ حفيدة
النبيّ قد صارت في حِبالته.
ولهذا أغلق الإمام الباب على معاوية ،
وتركه في ظلمات نسَبه وحَسَبه!
وبعد سنوات قام معاوية بمحاولة أخرى ،
فلقد كتَبَ إلى زميله ونظيره في الدَناءة واللؤم والحقارة والصلافة والوقاحة :
مروان بن الحَكَم ، ابن الزرقاء الزانية ـ وكان حاكماً على الحجاز مِن قِبَل
معاوية ـ أن يخطب أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر ، وأمّها السيدة زينب ـ ليزيد بن
معاوية.
وجاء مروان إلى عبد الله بن جعفر ،
وأخبَره بذلك.
ومن الواضح : أن عبد الله بن جعفر هو
أبو الفتاة ، وله عليها الولاية ، وهو يَعلم نوايا معاوية وهدفه من هذه المصاهرة ،
ولكنّه
يَعتبر الإمام
الحسين 7 كبير الأسرة
، وسيّد العائلة ، وأشراف أفراد العشيرة ، فلا ينبغي لعبد الله بن جعفر أن يُنعم
بالقَبول ويوافق بدون موافقة الإمام الحسين ، فتخلّص من هذا الطلب المُحرج ، ومن
هذه الحيلة الشيطانيّة فقال : « إنّ أمرها ليس إليّ ، إنّما هو إلى سيدنا الحسين ،
وهو خالُها ». فأخبر عبد الله الإمام الحسين بذلك.
فقال الإمام : « أستخيرُ الله تعالى ،
اللهم وفّق لهذه الجارية رِضاك من آل محمد ».
فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول الله 6 أقبَل مروان حتى جلس إلى [ جَنب ]
الحسين 7 وعنده مِن
الجِلّة.
فقال مروان : إنّ أمير المؤمنين [
معاوية ] أمَرَني بذلك ، وأن
أجعَل مَهرها حُكم
أبيها بالغاً ما بلغ مع صُلح
مابين هذين الحَيّين مع قضاء
دَينه .
واعلم أنّ مَن يَغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبطه بكم!!
والعجَب كيف يُستَمهَر يزيد وهو كُفوُ
مَن لا كفوَ له!!
وبوجهه يُستسقى الغمام!!
فرُدّ خيراً يا أبا عبد الله؟
أقول : قبل أن أذكر تكملة هذا الخبر
أودّ التعليق على كلمات مروان :
من الصحيح أن نقول : إنّ الصلافة
والوقاحة لا حدّ لهما ولا نهاية ، وإنّ دِناءة النَفس وخساسة الروح تُسبّب إنقلاب
المفاهيم إلى صورة أخرى.
فالحقير يَنقلب شريفاً ، والنَذل يُعتبر
مُحترماً ، والوجه الذي لم يَسجُد لله يُستَسقى به الغمام ، ووليد الكفر والفجور
يُغتَبَط
به ، والسافل
المنحَط يَصير أرفع وأجلّ مِن أن يُطالَب بالمهر ، بل ينبغي أن تُهدي العظماء
فَتياتها إليه هدايا بلا مَهر!!!
هذا هو منطق مروان ، وعصارة دماغه ،
وكيفيّة تفكيره ، ومَدى إدراكه للقيم والمفاهيم. وقد تجرّأ أن يَرفع صوته بهذه
الأكاذيب التي لا يَجهلها أحد .. وكأنّه لا يعلم مع مَن يتكلّم ، وعمّن يتحدّث
ويمدَح؟!
فأجابه الإمام الحسين 7 بجوابٍ ألقَمَه حَجراً ، وزَيّف
أباطيله وأضاليله ، وفنّد تلك الترّهات التي صدرت مِن أقذر لسان ، وألعن وأحقر
إنسان.
والآن .. إليك تكملة الخبر :
فقال ـ 7
ـ : « الحمد لله
الذي اختارنا لنفسه ، وارتضانا لدينه ، واصطفانا على خلقه ... إلى آخر كلامه
».
أُنظر إلى قوّة المنطق ، وعُلوّ مستوى
النفس ، وشِرافة الروح ، وقداسة السيرة ، وغير ذلك ممّا يتجلّى في جواب الإمام
الحسين 7 لمروان بن
الحَكم.
فهو 7
يَفتتح كلامه بحمد الله تعالى الذي اصطفاهم واختارهم ، وهذا منتهى البلاغة والكلام
المناسب لمُقتضى الحال ، فتراه يُصرّح أنه من الأسرة التي اختارهم الله تعالى
للإمامة واصطفاهم ، ومعنى ذلك توفر المؤهلات فيهم ،
وتواجد الفضائل
والمزايا والخصائص التي لا توجد في غيرهم ، فهم في أعلى مستوى من الشرف ، وفي ذروة
العظمة الممنوحة لهم من الله تعالى ، والفرق بينهم وبين غيرهم كالفرق بين الثُريّا
والثَرى ، والجواهر والحصى.
إذن ، فهناك البون الشاسع بينهم وبين
غيرهم من الناس الذين لم يَتلوّثوا بالجرائم ، ولم يُسوّدوا صحائف اعمالهم
بالمخازي ، فكيف بمعاوية ويزيد و مروان ، والذين هم من هذه الفصيلة!
ثم قال الإمام : « يا مروان ، قد قلتَ ،
فسمعنا ،
أمّا
قولك : « مَهرها حُكم أبيها بالغاً ما بلغ
» ، فلَعمري لو
أردنا ذلك ما عَـدَونا
سنّة رسول
الله 6 في بناته ونسائه وأهل بيته ، وهو
اثنتا عشرة
أوقية ، يكون أربعمائة وثمانين درهماً.
وأمّا
قولك : « مع قضاء دَين أبيها » فمتى كنّ نساؤنا يقضين
عنّا ديوننا؟!
وأمّا
« صلح ما بين
هذين الحيّين » فإنّا قوم عادَيناكم في الله ، ولم نَكن نصالحكم للدنيا ، فلقد
أعيى النسب ، فكيف السبب؟
يُريد مروان أن يُصلح بين الخير والشرّ
، وبين الفضائل والرذائل ، وبين أولياء الله وأعدائه ، بذلك الزواج المقصود.
وكيف يمكن الصلح بين هاتين الفئتين؟!
فهل يَتنازل أولياء الله تعالى لأعداء
الله ، ويَعترفون لهم بقيادتهم المُغتصبة ، وزعامتهم الملوّثة ، وجرائمهم
ومَخازيهم؟؟!!
هل هذا معنى الصلح بين الحَيّين؟!
أو يَجب على المجرمين ـ المناوئين
لأولياء الله ـ أن يَتوبوا ويَرتَدعوا عن أعمالهم اللااسلامية ، ويُنقادوا لأهل
البيت الذين فرض الله تعالى مودّتهم ، وأوجب طاعتم وولايتهم؟!
فإن كان المقصود : المعنى الأول ، فهو
مستحيل شرعاً وعقلاً.
لأنّ الإعتراف ـ للمفسدين ـ بالصلاح
والتقوى يُعتبر سَحقاً للمفاهيم الإسلامية ، وإبطالاً للحقّ ، وإحقاقاً للباطل ،
وحاشا أهل بيت رسول الله ( عليهم صلوات الله ) مِن هذا التنازل المُشين المُزري.
وإن كان المقصود من الصُلح : المعنى
الثاني ، فهذا لا يتوقّف على المصاهرة ولا يحتاج الى هذا الزواج السياسي ، فإن كان
البيت الأموي يؤمن بالحقّ في آل رسول الله فليَعترف لهم بذلك ، وليَنسحب من ساحة
القيادة ، وليَنزل عن منصّة الحكم ، وعند ذلك يتحقّق الصلح المَنشود .. على حدّ
زعمهم.
ولكنّ مروان لا يفهم هذه الأمور ، أو
يفهم ولكنّه يجحد بالحقّ وهو مستيقن به ، وإنّما يريد أن يُحقّق هدفه الميشوم عن
طريق المغالطة في الكلام والتزوير في الحقائق والمفاهيم.
ومن غَباوته انه كان يظنّ أن الإمام
الحسين 7 يَنخدع بهذه
الأساليب المُلتَوية والخُداع المكشوف.
ثم هلمَ معي لنَنظر إلى البيت العَلوي
النبوي الشامخ ، والشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، فالقرآن
الكريم يُمطر عليهم وابِل المدح والثناء.
بدءاً بصاحب الشريعة الإسلامية النبي
الأقدس 6 إلى سيّد
العترة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7
إلى سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء 3
إلى سيّدي شباب أهل الجنة ، رَيحانتي رسول الله : الإمام الحسن والإمام الحسين 8 إلى بقية الأئمة الطاهرين ( سلام الله
عليهم أجمعين ).
فهذه آية التطهير ، وتلك آية المباهلة ،
وتلك آية المودّة ، وتلك سورة هل أتى ، وتلك آية التبليغ ، وتلك آية « إنّما وليّكم الله
... ».
وكلّها آيات تقدير ، وباقات تمجيد ،
وعلائم وتصريحات بالإشادة بجلالة قَدرهم وعلوّ شأنهم ، مَن صلاتهم وإنفاقهم
وإطعامهم ، وجهادهم وإيثارهم ، وعِصمتهم وقداستهم وغير ذلك.
وهذه مئات الآلاف من الكتب التي تَشهد
بخصائصهم ومزاياهم وفضائلهم ومكارمهم ومناقبهم.
إذن ، فمن الطبيعي أن تَحصل العداوة
والخُصومة بين هاتين الطائفتين ، فالتناقض موجود دائماً بين الفضائل والرذائل ،
وبين الخير والشر ، وبين النور والظلام ، فكيف يُمكن الصُلح بين هذين الحيّين
وهاتين العشيرتين .. كما زَعَمه مروان؟!
« فإنّا قوم عاديناكم في الله ، ولم نكن نُصالحكم
للدنيا » إنّ الإمام الحسين 7 يَكشِف الغطاء عن أسباب النزاع وموجبات
الخصومة بين بني هاشم وبين بني أمية ، إذ قد يكون سبب العداوة ـ بين فِرقتين أو
عشيرتين ـ لأجل شيء مادي ، كالمال والرئاسة وما شابَه ذلك. وقد يكون سبب العداوة
عقائدياً ودينيّاً ، فكيف يمكن الوئام والوفاق بين طائفتين هما على طرَفَي نَقيض
من الناحية العقائديّة؟!
هذا .. ومن الواضح ـ تاريخياً ـ أنّ
الطائفة التي بَدأت في
إظهار العداوة
وإشعال نار الفتنة والتفرقة هم بنو أميّة ، وعلى رأسهم أبو سفيان .. شيخ المشركين
أوّلاً ، ورئيس المنافقين آخراً.
فمن الذي قاد جيش المشركين من مكة إلى
حرب رسول الله 6
يوم بدر؟!
ومن الذي قاد جيش المشركين في واقعة أحد؟!
ومن الذي شقّ بطن حمزة سيد الشهداء وعمّ
رسول الله ، وأخرج قلبه وكبده ، وجَدَع أنفه وأذنيه ، ومَثّل به شرّ مُثلة؟!
أليست هي هند زوجة أبي سفيان؟!
ومن الذي قاد جيوش الأحزاب في غزوة
الخندق؟!
ومَن .. ومَن..؟!
ومن الذي قال ـ يوم بويع لعثمان بن
عفّان ـ : تلقّفوها يا بني عبد شمس ، فوالذي يَحلِف به أبو سفيان : لا جنّة ولا
نار؟!
أليس هو أبا سفيان؟!
ومن الذي حارب الإمام عليّاً 7 يوم صفّين ، وأقام تلك المجزرة الرهيبة
التي كاد أن ينقطع فيها نسل العرب؟!
ومن الذي سنّ لعن الإمام علي أمير
المؤمنين 7 على المنابر
وفي قنوت الصلاة ، حتى قال الشاعر :
لَعَنته بالشام سبعين عاماً
|
|
لَعَن الله كهلها وفتاها
|
أليس هو معاوية؟
نحن لا نريد أن نفتح ملفّات أبي سفيان
وابنه معاوية في هذه السطور ، فالحديث عنهما طويل طويل ، فهذه مئات الكُتب
والمؤلّفات .. مِن الصحاح وغيرها ـ على مرّ القرون ـ تَرفع الستار وتكشف الغطاء
والقناع عن هويّتهما ، وتُبيّن سَريرتهما ونَفسيّتهما ، وسوابقهما ولواحقهما ،
وتُعرّفهما للملأ الإسلامي ـ إذا كان واعياً ـ وتوضّح مواقف كل واحد منهما تجاه
الدين الإسلامي ورجالات المسلمين!!
وأمّا معنى كلام الإمام الحسين ـ 7 ـ : « فلقد أعيى النسب ، فكيف بالسبب؟
» فإنّ بني هاشم كانوا هم الصفوة من قريش ، وبنو أمية كانوا يدّعون أنّهم من قريش
، إذن .. فالنسب
موجود بين هاتين
العشيرتين : بني هاشم وبني أمية ، وقد أعيى وعجَزَ هذا النسب وهذه القرابة أن تكون
سبباً للصلح والوئام بين هاتين العشيرتين ، فهل تنفع المصاهرة للإصلاح بينهما؟
وأمّا
قولك : « العجب ليزيد كيف يُستمهر؟
» ، فقد
استُمهر
مَن هو خير
من يزيد ، ومن أب يزيد ، ومن جدّ يزيد!!
إنّ مروان لا يَعلم بأنّ المهر شرطٌ في
الزواج ، وأن « لا زواجَ بلا مهر » بصَرف النظر عن طرَفي النكاح ـ وهما : الزوج
والزوجة ـ وشؤونهما ، سواءً كان أحد الطرفين وضيعاً أو شريفاً ، غنيّاً أو فقيراً.
فإنّ رسول الله 6 الذي هو أشرف الكائنات وأفضل المخلوقين
، وسيد الأنبياء والمرسلين ـ والذي كانت إحدى نَعليه أشرف من جميع بني أميّة قاطبة
ـ قد أمهر نساءه ، ولكن مروان يقول : والعجب كيف يُطلب المهر من يزيد؟
ويتجاوز مروان حدود الصلافة والكذب
ويقول : « إنّ يزيد كفوُ مَن لا كفوَ له » أي : انّ يزيد يُعتبر كُفواً ونظيراً
لطائفة خاصّة من الناس ، وطبقة عالية وراقية من المجتمع ، وهم العظماء والأشراف
الذين ليس لهم نظير يُماثلهم في الشرف ويُساويهم في العظمة ، فإن يزيد كُفوهم
ونظيرهم في المجد والشرف.
ويُجيبه الإمام الحسين 7 : وأمّا قولك
: « إنّ يزيد
كفوُ من لا كفو له » فمن كان كفوه قبل
اليوم فهو كفوه اليوم ، ما زادته إمارته في الكفاءة شيئاً.
يقول الإمام 7 : إنّ يزيد الذي هو حفيد أبي سفيان شيخ
المنافقين ، وحصيلة هند : آكلة الأكباد ، وثمرة حمامة : ذات العلم ، وابن معاوية :
فرع الشجرة الملعونة في القرآن ، وابن ميسون النصرانية ، كلّ مَن كان كفوه ـ أي :
نظيره ومَثيله ومُساويه ـ قبلَ اليوم .. فهو كفوه اليوم أيضاً. إن يزيد هوَ هو ،
لم تتغيّر ماهيّته ،
ولم تتبدّل هويّته ،
بل حاضره مثل ماضيه ، ولاحقُه مثل سابقه ، والإمارة المُغتصبة التي تقمّصها ما
زادته إلا زوراً وبُهتاناً.
وأمّا
قولك : « بوجهه يُستسقى الغمام
» ، فإنّما كان
ذلك بوجه رسول الله 6.
أقول : الوجه والجاه : القدر والمنزلة.
وقد كان المسلمون ـ فيما مضى ـ إذا قلّت عندهم الأمطار يخرجون إلى الصحراء لصلاة
الإستسقاء ، ويسألون من الله تعالى أن يَسقيهم المطر ، ولا شك أنّ الذي يتقدّم
الناس ويدعو الله تعالى ينبغي أن يكون وجيهاً ، بأن يكون له قدر ومنزلة عند الله (
عزّ وجل ).
ولهذا كان الأنبياء يتقدّمون في صلاة
الإستسقاء ، ويدعون الله تعالى فيستجيب لهم ، وهكذا نبيّنا وبعض أئمة أهل البيت (
صلوات الله عليهم أجمعين ) سألوا الله تعالى أن يسقيهم المطر ، فاستجاب الله
دعاءهم لمنزلتهم وقدرهم عند الله سبحانه.
وقد قال سيدنا أبو طالب 7 ـ في شأن رسول الله 6 ـ :
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه
|
|
ثمال اليتامى ، عصمةً للأرامل
|
وقد تكرّر من رسول الله الإستسقاء ،
فاستجاب الله دعاءه
وأرسل غيثاً مدراراً
، كل ذلك كرامة لوجه رسول الله وجاهه ومنزلته العظيمة عند الله سبحانه ، ولكن
مروان يقول : « بوجه يزيد يُستسقى الغمام!! ».
وأنا أقول : نعم ، بوجهه يُستسقى الغمام
، لفجوره وخموره ، وقماره ومنكراته ، وموبقاته ومخازيه ، وجرائمه ونسبه. وبهذه
الفضائل!! يُستسقى بوجهه الغمام!!
اليس هكذا؟!
« واعلم أنّ مَن يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبط
يزيد بكم ». يقول هذا الأحمق : إنّ الذين
يتمنّون أن يخطب يزيد منهم ، أكثر مِن الذين يتمنّون أن يخطبوا منكم فتياتكم!!
إنّ مروان اللعين يريد أن يقول : إنكم
تزدادون شرفاً بهذه المصاهرة ، وأمّا يزيد فإنّه لا يزداد شرفاً بها ، لأنّه أرفع
منزلةً وأعلى قدراً مِن أن يتشرّف بهذه المصاهرة.
إقرأ كلامه واضحك!
فأجابه الإمام : وأمّا قولك :
« مَن
يغبطنا به أكثر ممّن يغبطه بنا ، فإنّما يَغبطنا به أهل الجهل ، ويغبطه بنا أهل
العقل ».
ومعنى كلام الإمام : أنّ الذين يجهلون
القيم الإنسانية ، والمفاهيم الدينية هم الذين يتمنّون أن يخطب يزيد منهم ، لأنهم
ينظرون إلى ما يتمتّع به يزيد من متاع الدنيا والرفاه والرخاء.
وأمّا العقلاء ، الذين يفهمون المقاييس
الأخلاقية ، والقيم الروحيّة ، فهم يتمنّون أن يخطبوا منّا فتياتنا ، لأنّنا في
أوج العظمة ، وذروة الشرف ، وقمّة الفضائل.
ثم قال الإمام ـ بعد كلام ـ : « إشهدوا جميعاً أنّي قد
زوّجت أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر من ابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر ، على
أربعمائة وثمانين درهماً ، وقد نحلتها ضيعتي بالمدينة وإنّ غَلّتها في
السنة ثمانية آلاف دينار ، ففيها لهما غنى إن شاء
الله ».
أقول : قد اشتهر ـ في ذلك الزمان ـ كلام
رسول الله 6 أنّه قال :
« بناتُنا لبنينا ، وبنونا لبناتنا » ، ومَن أولى من الإمام الحسين بتطبيق هذا
الكلام؟. وقد سبقه إلى ذلك أبوه أمير المؤمنين 7
حينما زوّج ابنته زينب الكبرى من ابن عمّها عبد الله بن جعفر.
ولهذا بادر الإمام الحسين 7 إلى تزويج إبنة أخته من ابن عمّها ،
وقد دفع الصداق من ماله ، وأمّن حياتهما
الاقتصادية بتلك
المزرعة ، الكثيرة البركة ، التي وهبها لها.
فتغيّر وجه مروان ، وقال : « أغدراً يا
بني هاشم؟ تأبون إلا العداوة؟ ».
إنّ هذا العدو الغادر ينسب الغدر
والعداوة إلى آل رسول الله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
فقال مروان :
أردنـا صهركم لِنُجِدّ وُدّاً
|
|
قـد اخلقه به حدث الزمان
|
فلمّـا جئتكـم فجَبَهتموني
|
|
و بُحتم بالضمير من الشنان
|
وهنا .. ما أراد الإمام الحسين 7 أن يستمرّ في محاورة ذلك الحقير ، وأن
يُلقم مروان الحجر أكثر من هذا ، فتقدّم ذكوان
وأجاب مروان :
أمـاط الله عنهم كـل رجـسٍ
|
|
وطهّرهـم بـذلك فـي المثاني
|
فمـا لهم سـواهم مـن نظيـر
|
|
ولا كفـوٌ هنـاك و لا مُدانـي
|
أيجعـل كـلّ جبـارٍ عنيدٍ
|
|
إلى الأخيار من أهل الجنان؟
|
أقول : لقد روى الشيخ المجلسـي ( رحمة
الله عليه ) هذا الخبر في كتاب ( بحار الأنوار ) عن بعض الكتب القديمة ، ونسبه إلى
الإمام الحسـن المجتبـى 7
.
وليس بصحيح ، لأن إمارة يزيد كانت بعد مقتل الإمام الحسين 7 ، وهذه الخطبة كانت في أيّام إمارة
يزيد وكونه وليّاً للعهد.
الفصل الخامس
إستعراض موجَز لحياة السيدة زينب الكبرى
بمقدار ما كانت حياة السيدة زينب الكبرى
3 مشفوعة
بالقداسة والنزاهة ، والعفاف والتقوى ، والشرف والمجد ، كانت مليئة بالحوادث
والمآسي والرزايا ، منذ نعومة أظفارها وصِغر سنّها إلى أواخر حياتها.
فلقد فُجعت بجدّها الرسول الأعظم 6 وكان لها من العمر ـ يومذاك ـ حوالي
خمس سنوات ، ولكنّها كانت تُدرك هول الفاجعة ومُضاعفاتها.
ومن ذلك اليوم تغيّرت معالم الحياة في
بيتها ، وخيّمت الهموم والغموم على أسرتها ، فقد هجم رجال السقيفة على دارها
لإخراج أبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7
من البيت لأخذ البيعة منه ، بعد أن أحرقوا باب الدار وكادوا أن يُحرقوا الدار بمَن
فيها.
وقد ذكرنا في كتاب : ( فاطمة الزهراء من
المهد الى اللحد ) شيئاً من تلك المصائب التي انصبّت على السيدة فاطمة الزهراء 3 من الضرب المبرّح وإسقاط الجنين ، وغير
ذلك ممّا
يطول الكلام بذكره.
وكانت جميع تلك الحوادث بمرأى من السيدة
زينب ومَسمَع ، فلقد سمعت صراخ أمّها من بين الحائط والباب ، وشاهدت الأعداء الذين
أحاطوا بها يضربونها بالسوط والسيف المغمَد ، وغير ذلك ممّا أدّى إلى إسقاط إبنها
المحسن ، وكسر الضلع ، وتورّم العضُد الذي بقي أثره إلى آخر حياتها.
و ـ بعد شهور ـ فُجعت السيدة زينب بوفاة
أمّها ( سلام الله عليها ) وهي في رَيَعان شبابها ، لأنّها لم تبلغ العشرين من
العمر ، ودُفنت ليلاً وسرّاً ، في جوّ من الكتمان ، وعُفّي موضع قبرها إلى هذا
اليوم.
ومنذ ذلك الوقت كانت السيدة زينب ترى
أباها أمير المؤمنين 7
جليس الدار ، مسلوب الإمكانيات ، مدفوعاً عن حقّه ، صابراً على طول المدة وشدّة
المحنة.
وبعد خمس وعشرين سنة ـ وبعد مقتل عثمان
ـ أكرهوه أن يوافق على بيعة الناس له ، فبايعوه بالطوع والرغبة ، وبلا إجبار أو
إكراه من أحد ، وكان أول من بايعه : الطلحة والزبير ، وكانا أوّل مَن نكث البيعة
ونقض العهد ، والتحقا في مكّة بعائشة ، وحرجوا طالبين بدم عثمان ، وقادا الناكثين
( للبيعة ) من المناوئين للإمام أمير المؤمنين 7
، وقصدا البصرة وأقاما مجزرة رهيبة ـ في واقعة الجمل المعروفة ـ وكانت حصيلتها
خمسة وعشرين ألف قتيل.
وبعد فترة قصيرة أقام معاوية واقعة
صفّين ، وقاد القاسطين ، واشتدّ القتال وكاد نسل العرب أن ينقطع من كثرة القتلى ،
وتوقّف القتال لأسباب معروفة مفصّلة.
ثمّ أعقبتها واقعة النهروان التي قُتل
فيها أربعة آلاف.
وتُعتبر هذه الحروب من أهمّ الإضطرابات
الداخلية في أيام خلافة الإمام أمير المؤمنين 7.
وانتهت تلك الأيام المؤلمة بشهادة
الإمام أمير المؤمنين 7
ومَقتله على يد عبد الرحمن ابن ملجم!
ولمّا قام اخوها : الإمام الحسن المجتبى
7 بأعباء
الإمامة تخاذل بعض أصحابه في حربه مع معاوية ، وصدرت منهم الخيانة العظمى التي
بقيت وصمة عارها إلى هذا اليوم ، فاضطرّ الإمام الحسن 7 إلى إيقاف القتال حِقناً لدماء مَن بقي
من أهل بيت رسول الله 6.
وخلا الجوّ لمعاوية بن أبي سفيان
وعُملائه ، وظهر منهم أشدّ أنواع العداء المكشوف للإمام أمير المؤمنين 7 ، وسنّ معاوية لعن الإمام على المنابر
في البلاد الاسلامية ، وأمر باختلاق الأحاديث في ذمّ الإمام والمسّ بكرامته.
كلّ ذلك بمرأى من السيدة زينب ومسمع.
وطالت مدّة الإضطهاد عشر سنين ، وانتهت
إلى دسّ السمّ إلى
الإمام الحسن 7 بمكيدة من معاوية ، وقضى الإمام نحبه
مسموماً ، ورشقوا جنازته بالسهام حتى لا يدفن عند قبر جدّه رسول الله 6.
وهكذا امتدّت سنوات الكبت والضغط ، وبلغ
الظلم الأموي القمّة ، وتجاوز حدود القساوة ، وانصبّت المصائب على الشيعة في كلّ
مكان ، بكيفيّة لا مثيل لها في التاريخ الإسلامي يومذاك ، مِن قطع الأيدي والأرجل
، وسمل العيون ، وصلب الأجساد ، وأمثال ذلك من الأعمال الوحشيّة البربريّة!
وعاصر الإمام الحسين 7 تلك السنوات السود التي انتهت بموت
معاوية واستيلاء إبنه يزيد على منصّة الحكم.
هذه عُصارة الخلاصة للجانب المأساوي في
حياة السيدة زينب الكبرى 3
المليء بالكوارث والحوادث ، طيلة نيّف وأربعين سنة من عمرها.
وأعظم حادثة ، وأهمّ فاجعة حدثت في حياة
السيدة زينب هي فاجعة كربلاء التي أنست ما قبلها من الرزايا ، وهوّنت ما بعدها من
الحوادث والفجائع.
الفصل السادس
السيدة
زينب وفاجعة كربلاء
مجيء
إبن زياد إلى الكوفة
يوم
التروية
الإمام
الحسين يصطحب العائلة
الإمام
الحسين في طريق الكوفة
السيدة زينب وفاجعة كربلاء
لا بدّ مِن أن نبدأ من أوائل الواقعة ،
مع رعاية الإختصار ، ليكون القارئ على بصيرة أكثر من الأمر :
مات معاوية بن أبي سفيان في النصف من
شهر رجب ، سنة ٦٠ من الهجرة ، وجلس ابنه يزيد على منصّة الحكم ، وكتب إلى الولاة
في البلاد الاسلامية يُخبرهم
بموت معاوية ، ويطلب منهم أخذ البيعة له من الناس.
وكتب إلى والي المدينة كتاباً يأمره
بأخذ البيعة له من أهل المدينة بصورة عامّة ، ومن الإمام الحسين 7 بصورة خاصّة ، وإن امتنع الإمام عن
البيعة يلزم قتله ، وعلى الوالي تنفيذ الحُكم.
واستطاع الإمام الحسين أن يتخلّص مِن
شرّ تلك البيعة ،
وخرج إلى مكة في
أواخر شهر رجب ، وانتشر الخبر في المدينة المنوّرة أن الإمام امتنع عن البيعة
ليزيد. وانتشر الخبر ـ أيضاً ـ في مكة ، ووصل الخبر إلى الكوفة والبصرة.
وكانت رحلة الإمام الحسين إلى مكة بداية
نهضته 7 ، وإعلاناً
واعلاما صريحاً بعدم اعترافه بشرعيّة خلافة يزيد ، واغتصاب ذلك المنصب الخطير.
وهكذا استنكف المسلمون أن يدخلوا تحت
قيادة رجل فاسد فاسق ، مُستهتر مفتضح ، متجاهر بالمنكرات.
فجعل أهل العراق يكاتبون الإمام الحسين 7 ويطلبون منه التوجّه إلى العراق
ليُنقذهم من ذلك النظام الفاسد ، الذي غيّر سيماء الخلافة الإسلامية بأبشع صورة
وأقبح كيفيّة!
كانت الرسل والمراسلات متواصلة بين
الكوفة ومكة ، ويزداد الناس إصراراً وإلحاحاً على الإمام الحسين أن يُلبّي طلبهم ،
لأنه الخليفة الشرعي لرسول الله 6
المنصوص عليه بالخلافة من جدّه الرسول الكريم.
فأرسل الإمام الحسين 7 إبنَ عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ،
والتفّ الناس حول مسلم ، وبايعوه لأنّه سفير الإمام ومبعوثه ، وبلغ عدد الذين
بايعوه ثمانية عشر ألفاً ، وقيل : أكثر مِن
ذلك. فكتب مسلم إلى
الإمام يُخبره باستعداد الناس للتجاوب معه ، والترحيب به ونصرته ـ كما فهمه مسلم
مِن ظواهر الأمور ـ.
وقرّر الإمام أن يخرج من مكة نحو العراق
مع عائلته المصونة وإخوته وأخواته ، وأولاده وأبناء عمّه وجماعة مِن أصحابه
وغيرهم.
وخاصّة بعدما عَلِم بأنّ يزيد قد بعث
عصابة مسلّحة ، مؤلّفة من ثلاثين رجل ، وأمرهم بقتل الإمام الحسين 7 في مكّة ، أينما وجدوه .. حتى لو كان
مُتعلّقاً بأستار الكعبة!
مجيء ابن زياد الى الكوفة
وجاء عبيد الله بن زياد ابن أبيه من
البصرة الى الكوفة والياً عليها من قِبل يزيد بن معاوية ، وجعل يهدّد الناس بجيش
موهوم ، قادم من الشام.
واجتمع حوله الذين كانوا لا يتعاطفون مع
الإمام الحسين ، وجعل ابن زياد يُفرّق الناس عن مسلم بالتهديد والتطميع ، فانفرج
الناس عن مسلم ، وتفرّقوا عنه.
وفي اليوم الذي خرج الإمام الحسين 7 من مكة نحو العراق كانت الأمور منقلبة
ضدّ مسلم في الكوفة ، وأخيراً أُلقي عليه القبض وقُتل ( رضوان الله عليه ).
وفي أثناء الطريق بلغ خبر شهادة مسلم
إلى الإمام الحسين ، فكانت صدمة على قلبه الشريف.
ولا نعلم ـ بالضبط ـ هل رافقت السيدة
زينب الكبرى عائلة
أخيها من المدينة؟
أم أنّها التَحقت به بعد ذلك؟
وخَفيت علينا كيفيّة خروجها من المدينة
المنوّرة إلى مكّة ، ولكنّنا نعلم أنّها كانت مع عائلة أخيها حين الخروج من مكّة ،
وفي اثناء الطريق نحو الكوفة ، وعاشت أحداث الطريق من لقاء الحرّ بن يزيد الرياحي
بالإمام ، ومُحاولته إلقاء القبض على الإمام في أثناء الطريق وتسليمه إلى عبيد
الله بن زياد.
وإلى أن وصلوا إلى كربلاء في اليوم
الثاني من المحرّم ، ونزل الإمام ومَن معه ، ونَصَبوا الخيام ينتظرون المُقدّرات
والحوادث.
يوم التروية
يوم التروية : هو اليوم الثامن من شهر
ذي الحجة ، وهو اليوم الذي يزدحم فيه الحُجّاج
في بلدة مكة المكرمة ، فالقوافل تدخل مكّة من جميع أبوابها.
وطائفة من الحجاج يخرجون في هذا اليوم
إلى منى ويبيتون فيها ليلة واحدة ، فإذا أصبح الصباح من يوم عرفة ـ وهو اليوم
التاسع ـ يخرجون إلى أرض عرفات.
وبعضهم يبقى في مكة حتى يوم عرفة ، ثم
يخرج إلى عرفات ، إستعداداً لأداء مناسك الحجّ.
في هذا اليوم الذي كانت مكة تموج
بالحجّاج ، خرج الإمام الحسين 7
من مكّة ، بجميع من معه من الأهل والأولاد والأصحاب.
إذن ، فمِن الطبيعي أن تكون مغادرة
الإمام الحسين من مكة ـ في هذا اليوم ـ تجلب إنتباه الحجّاج ، وتدعو للتساؤل ،
وخاصّةً بعد أن علموا بأنّ الإمام مكث في مكّة .. طيلة أربعة أشهر ، فما الذي دعاه
أن يُغادر مكّة في هذا اليوم الذي يقصد الحجاج مكة لأداء المناسك الحج؟!
وما المانع من أن يبقى الإمام أياماً
قلائل لإتمام حجّة ، ثم مغادرة مكة؟
والإمام الحسين 7 أولى من غيره بأداء الحج ورعاية هذه
الأمور!
فلا عجب إذا تقدّم إليه بعض الناس
يعترضون عليه ويسألونه عن سبب خروجه من مكة في هذا اليوم ، فكان الإمام يُجيب كلّ
واحد منهم بما يُناسب مستواه الفكري والعقلي.
إنّ هناك دواع ودوافع وأسباباً كثيرة
اجتمعت ، وفرضت على الإمام أن يخرج من مكة في ذلك اليوم ، ونسأل الله تعالى أن
يوفّقنا لذكر بعضها في كتاب ( الإمام الحسين من المهد الى اللحد ) إن شاء الله
تعالى.
ومِن جملة الذين تقدّموا إلى الإمام
وسألوه عن سبب خروجه هو عبد الله بن جعفر زوج السيدة زينب الكبرى.
فإنّه حاول ـ حسب تفكيره ـ أن يَردّ
الإمام عن مغادرة مكّة نحو العراق ، ولكن الإمام قال له : « إنّي رأيت رسول الله 6 في المنام ، وأمرني بما أنا ماضٍ له ».
فقال له : فما تلك الرؤيا؟
قال : « ما حدّثت أحداً بها ، ولا أنا
مُحدّثٌ بها حتى ألقى ربّي » .
فلمّا يئس منه عبد الله بن جعفر أمر
إبنَيه عوناً ومحمّداً بمرافقة الإمام ، والمسير معه ، والجهاد دونه.
وفي كتاب « المنتخب » للطُريحي أن محمد
بن الحنفية لمّا بلغه الخبر أن أخاه الإمام الحسين خارج من مكة إلى العراق ، جاءه
وأخذ بزمام ناقته وقد ركبها ، وقال له :
يا أخي! ألم تَعِدني النظر فيما سألتك؟
قال : بلى.
قال : فما حمَلَك على الخروج عاجلاً؟
فقال : قد أتاني رسول الله 6 بعدما فارقتُك وقال :
« يا حسين أُخرج إلى العراق فإنّ الله
شاء أن يراك قتيلاً مُخضّباً بدمائك ».
فقال محمد : إنّا لله وإنّا إليه راجعون
، فإذا علمتَ أنّك مقتول فما معنى حَملك هؤلاء النساء معَك؟
فقال : لقد قال لي جدّي :
« إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا ،
وهنّ أيضاً لا يُفارقنَني ما دُمت حيّا
» .
الإمام الحسين يَصطحب العائلة
لقد عرفنا أن الإمام الحسين 7 كان يعلم ـ بِعلم الإمامة ـ بأنّه
سيفوز بالشهادة في أرض كربلاء ، وكان يعلم تفاصيل تلك الفاجعة وأبعادها.
ولعلّ بعض السُذّج من الناس كان يعتبر
اصطحاب الإمام الحسين عائلته المكرّمة إلى كربلاء منافياً للحكمة ، لأن معنى ذلك
تعريض العائلة للإهانة والمكاره ، وأنواع الاستخفاف.
وما كان أولئك الناس يعلمون بأنّ اصطحاب
الإمام الحسين 7
عائلته المَصونة ـ وعلى رأسهن السيدة زينب ـ كان من أوجب لوازم نجاح نهضته
المباركة.
إذ لولا وجود العائلة في كربلاء لكانت
نهضة الإمام ناقصة ، غير متكاملة الأجزاء والأطراف.
فإنّ أجهزة الدعاية الأموية ما كانت
تتحاشى ـ بعد إرتكاب
جريمة قتل الإمام
الحسين ـ أن تُعلن براءتها من دم الإمام ، بل وتُنكر مقتل الإمام نهائياً ، وتنشر
في الأوساط الإسلامية انّ الإمام توفّي على أثر السكتة القلبيّة ، مثلاً!!
وليس في هذا الكلام شيء من المبالغة ،
ففي هذه السنة ـ بالذات ـ إنتشرت في بعض البلاد العربية مجموعة من الكتب الضالّة
التائهة ، بأقلام عُملاء مُستأجرين ، من بهائم الهند ، وكلاب باكستان ، وخنازير
نَجد.
ومن جملة تلك الأباطيل التي سوّدوا بها
تلك الصفحات ، هي إنكار شهادة الإمام الحسين ، وأن تلك الواقعة لا أصل لها أبداً.
ولا أُجيب ـ على ما ذكره أولئك الكُتّاب
العملاء ـ سوى بقول الشاعر :
مِن أين تَخجل أوجهٌ أمويّة
|
|
سَكَبت بلذّات الفجور حياءها؟
|
فهذه الفاجعة قد مرّت عليها حوالي أربعة
عشر قرناً ، وقد ذكرها الألوف من المؤرخين والمحدّثين ، واطّلع عليها القريب
والبعيد ، والعالم والجاهل ، بل وغير المسلمين ايضاً لم يتجاهلوا هذه الفاجعة
المروّعة.
وتُقام مجالس العزاء في ذكرى إستشهاد
الإمام الحسين 7
في عشرات الآلاف من البلاد ، في جميع القارّات ، حتى صارت هذه الفاجعة أظهر من
الشمس ، وصارت كالقضايا البديهيّة
التي لا يمكن
إنكارها أو التشكيك فيها ، بسبب شُهرتها في العالم.
وإذا بأفراد قد تجاوزوا حدود الوقاحة ،
وضربوا الرقم القياسي في صلافة الوجه وانعدام الحياء ، يأتون وينكرون هذه الواقعة
كلّياً.
ولقد رأيتُ بعض مَن يدور في فلك
الطواغيت ، ويجلس على موائدهم ، ويملأ بطنه من خبائثهم ، أنكر واقعة الجمل وحرب
البصرة نهائيّاً ، تحفّظاً على كرامة إمراءة خرجت تقود جيشاً لمحاربة إمام زمانها
، وأقامت تلك المجزرة الرهيبة في البصرة ، التي كانت ضحيّتها خمسة وعشرين ألف
قتيل.
هذه محاولات جهنّمية ، شيطانية ، يقوم
بها هؤلاء الشواذ ، وهم يظنّون أنّهم يستطيعون تغطية الشمس كي لا يراها أحد ،
ويريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يُتمّ نوره.
وهذه النشاطات المسعورة ، إن دلّت على
شيء فإنّما تدل على هويّة هؤلاء الكُتّاب وماهيّتهم ، وحتى يَعرف العالَم كله أن
هؤلاء فاقدون للشرف والضمير ـ بجميع معنى الكلمة ـ ولا يعتقدون بدينٍ من الأديان ،
ولا بمبدأ من المبادئ ، سوى المادة التي هي الكل في الكلّ عندهم!!
أعود إلى حديثي عن إصطحاب الإمام الحسين
7 عائلته
المكرّمة في تلك النهضة :
إنّ تواجد العائلة في كربلاء ، وفي
حوادث عاشوراء بالذات
لم يُبقِ مجالاً
للأمويين ولا لغيرهم ـ في تلك العصور ـ لإنكار شهادة الإمام الحسين.
إنّ الأمويين الأغبياء ، لو كانوا
يَفهمون لاكتَفوا بقتل الإمام الحسين فقط ، ولم يُضيفوا إلى جرائمهم جرائم أخرى ،
مِثل سَبي عائلة الإمام الحسين 7
، ومُخدّرات الرسالة ، وعقائل النبوة والوحي ، وبنات سيد الأنبياء والمرسلين.
ولكنّهم لكي يُعلنوا إنتصاراتهم في قتل
آل رسول الله :
أخذوا العائلة المكرّمة سبايا من بلد إلى بلد.
وكانت العائلة لا تدخل إلى بلد إلا
وتوجد في أهل ذلك البلاد الوعي واليقظة ، وتكشف الغطاء عن جرائم يزيد ، وتُزيّف
دعاوى الأمويّين حول آل رسول الله : بأنّهم خوارج وأنّهم عصابة مُتمرّدة على
النظام الأموي.
ونُلخّص القول ـ هنا ـ فنقول : كان وجود
العائلة ـ في هذه الرحلة ، والنهضة المباركة ـ ضرورياً جداً جداً ، وكان جزءاً
مُكمّلاً لهذه النهضة.
إنّ هذه الأسرة الشريفة كانت على جانب
عظيم من الحِكمة واليقظة ، والمعرفة وفهم الظروف ، واتّخاذ التدابير اللازمة كما
تقتضيه الحال .
الإمام الحسين في طريق الكوفة
رويَ أن الإمام الحسين 7 لمّا نزل الخزيمية
قام بها يوماً وليلة ، فلمّا أصبح أقبلت إليه أخته زينب 3 فقالت :
يا أخي! ألا أُخبرك بشيء سمعته البارحة؟
فقال الحسين 7 : وما ذاك؟
فقالت : خَرجتُ في بعض الليل فسمعت
هاتفاً يهتف ويقول :
ألا يـا عيـنُ فاحتفلي بجهد
|
|
ومَن يبكي على الشهداء بعدي
|
علـى قـومٍ تسـوقهم المنايا
|
|
بمقـدار إلـى إنجـاز وعـدِ
|
__________________
فقال لها الحسين 7 : يا أختاه كل الذي قُضيَ فهو كائن.
وقد التقى الإمام الحسين 7 في طريقه إلى الكوفة برجل يُكنّى « أبا
هرم » ، فقال : يابن النبي ما الذي أخرجك من المدينة؟!
فقال الإمام : « ... وَيحَك يا أبا هرم!
شَتَموا عِرضي فصَبرتُ ، وطلِبوا مالي فصبرتُ
، وطلبوا دمي فهربت!
وأيمُ الله ليَقتلونني ، ثمّ
ليُلبِسنّهم الله ذُلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وليُسلّطنّ عليهم من يُذلّهم.
الفصل السابع
وصول
الإمام الحسين إلى أرض كربلاء
زَحف
جيش الأموي
نحو
خيام آل محمد :
وصول الإمام الحسين إلى أرض كربلاء
وفي الطريق إلى الكوفة ، إلتقى الإمام
الحسين 7 بالحرّ بن
يزيد الرياحي ، وكان مُرسلاً مِن قِبَل ابن زياد في ألف فارس ، وهو يريد أن يذهب
بالإمام إلى ابن زياد ، فلم يوافق الإمام الحسين على ذلك ، واستمرّ في السير حتى
وصل إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم سنة ٦١ للهجرة.
فلمّا نزل بها ، قال : ما يُقال لهذه
الأرض؟
فقالوا : كربلاء!
فقال الإمام : « اللهم إنّي أعوذُ بك من
الكرب والبلاء » ، ثم قال لأصحابه : إنزِلوا ، هاهنا مَحَطّ رحالنا ، ومَسفك
دمائنا ، وهنا محلّ قبورنا. بهذا حدّثني جدّي رسول الله
6.
قال السيد ابن طاووس في كتاب « الملهوف
» :
لمّا نزلوا بكربلاء جلس الإمام الحسين 7 يُصلح سيفه ويقول :
يـا دهرُ أفٍ لك من خليل
|
|
كم لك بالإشراق و الأصيل
|
مِن طـالبٍ وصاحبٍ قتيل
|
|
والدهـر لا يقنـعُ بالبَديل
|
وكـلّ حيّ سالكٌ سبيلـي
|
|
ما أقربَ الوعد من الرحيلِ
|
وإنّما الأمر إلى الجليلِ
فسمعت السيدة زينب بنت فاطمة 3 ذلك ، فقالت : يا أخي هذا كلام مَن
أيقَن بالقَتل!
فقال : نعم يا أختاه.
فقالت زينب : واثكلاه! ينعى إليّ الحسين
نفسه.
وبكت النِسوة ، ولَطمن الخدود ، وشقَقن
الجيوب ، وجعلت أمّ كلثوم تنادي : وامحمّداه! واعليّاه! وا أمّاه! وا فاطمتاه!
وإنّما الأمر إلـى الجليـل
|
|
وكـلّ حيّ فإلـى سبيلـي
|
ما أقرب الوعد إلى الرحيل
|
|
إلـى جنـانٍ وإلى مقيـلِ
|
واحَسَناه!
واحُسيناه! واضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله ... إلى آخره.
ورَوى الشيخ المفيد في كتاب ( الإرشاد )
هذا الخبر بكيفيّة أُخرى وهي :
قال علي بن الحسين [ زين العابدين ] 8 :
إنّي جالس في تلك العشيّة التي قُتل أبي
في صبيحتها ، وعندي عمّتي زينب تُمرّضني ، إذ اعتزل أبي في خِباء له
، وعنده جوين مولى أبي ذرٍ الغفاري ، وهو يعالج سيفه
ويُصلحه ، وأبي يقول :
يا دهـر أفّ لك من خليل
|
|
كم لك بالإشراق والأصيل
|
مِـن صاحب وطالبٍ قتيل
|
|
والدهـر لا يقنـع بالبديل
|
وإنّمـا الأمـر إلى الجلل
|
|
وكلّ حـي سـالكٌ سبيلي
|
فأعادها مرّتين أو ثلاثاً ، حتّى
فهمتُها ، وعَرفت ما أراد ، فخَنَقتني العبرة ، فرددتها ، ولَزِمتُ السكوت ،
وعلِمت أنّ البلاء قد نزل.
وأمّا عمتي : فإنّها سَمِعت ما سمعتُ ،
وهي إمرأة ، ومن شأنها النساء : الرقّة والجزع ، فلم تِملِك نفسها ، إذ وَثَبت
تجرّ ثوبها ،
حتى انتهت إليه
فقالت :
واثكلاه! ليتَ الموت أعدَمَني الحياة ،
اليوم ماتت أُمّي فاطمة ، وأبي علي ، وأخي الحسن ، يا خليفة الماضين وثِمال
الباقين!
فنظر إليها الإمام الحسين فقال لها : يا
أُخيَّة! لا يُذهِبنّ حِلمَك الشيطان.
وتَرقرَقَت عيناه بالدموع ، وقال : يا
أُختاه ، « لو تُرك القَطا لغَفا ونامَ » .
فقالت : يا ويلتاه! أفتغتصب نفسك
اغتصاباً؟ فذاك أقرَحُ لقلبي ، وأشدّ على نفسي ،
ثمّ لطمت وجهها! وأهوَت إلى جيبِها فشقّته ، وخرّت مغشيّاً عليها.
فقام إليها الإمام الحسين 7 فَصَبّ على وجهها الماء ، وقال لها :
إيهاً يا أُختها! إتّقي الله ، وتَعزّي
بعزاء الله ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأنّ أهل السماء لا يَبقون ، وأنّ كلّ
شيء هالِك إلا وجه الله ، الذي خلق الخلق بقُدرته ، ويَبعث الخلق ويعيدهم وهو فردٌ
وحده.
جدّي خيرٌ مني ، وأبي خيرٌ منّي ،
وأُمّي خيرٌ منّي ، وأخي [ الحسن ] خيرٌ منّي ، ولي ولكلّ مسلم برسول الله 6 أُسوة.
فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : « يا
أُختاه إني أقسمتُ عليكِ ، فأبِرّي قَسَمي .
لا تَشُقّي عَلَيّ جَيباً ، ولا تَخمشي
عليّ وجهاً ، ولا تَدعي عليّ بالويل والثُبور إذا أنا هلكتُ ».
ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندي ، وخرج
إلى أصحابه ...
* * * *
أقول : سمعتُ من بعض الأفاضل : أنّ هذه
الأبيات كانت مشؤمة عند العَرب ، ولم يُعرف قائلُها ، وكان المشهور عند الناس :
أنّ
كلّ مَن أحسّ بخطر
الموت أو القتل كان يتمثّل بهذه الأبيات.
ولا يَبعدُ هذا الكلام من الصحّة ، لأنّ
الأبيات مُشتملة على عتاب الدهر وتوبيخه لا غير ، ولعلّ لهذا السبب أحسّت السيدة
زينب باقتراب الخطر من أخيها الإمام الحسين 7
وقالت : هذا الحسين يَنعى إليّ نفسه.
وهكذا الإمام زين العابدين 7 تَراه قد استَنبَطَ من قراءة هذه
الأبيات نُزول البلاء.
حيث إنّ هذه الأبيات لا تُصرّح ـ
بظاهرها ـ بشيء من هذه الأمور ، كخطر الموت أو اقتراب موعد القتل.
* * * *
هذا .. والظاهر أنّ نهي الإمام الحسين
أُخته السيدة زينب عن شقّ الجيب وخَمش الوجه إنّما كان خاصّاً بساعة قتل الإمام ،
بعد الإنتباه إلى قول الإمام : « إذا أنا هلكتُ ».
وبعبارة أخرى : إنما منَعَها أن تَشُقّ
جيبها أو تخمش وجهها ساعة مصيبة مقتل الإمام وشهادته. والسيدة زينب إمتثَلت أمر أخيها
، ولم تفعل شيئاً من هذا القبيل عند شهادة الإمام في كربلاء. وإنّما قامت ببعض هذه
الأعمال في الكوفة ، وفي الشام في مجلس يزيد ، عندما شاهدت ما قام به يزيد ( لعنة
الله عليه ) من أنواع الإهانة برأس الإمام الحسين 7.
ولعلّ نهي الإمام أخته عن شقّ الجيب ـ في
تلك الساعة أو الساعات الرهيبة ـ كان لهذه الحِكمة : وهي أن لا يظهر منها أثر
الضعف والإنكسار والإنهيار ، أمام أولئك الأعداء الألدّاء ، فقد كان المطلوب من
السيدات ـ حينذاك ـ الصبر والتجلّد وعدم الجزع أمام المصائب.
لانّ هذا النوع من الشجاعة ـ وفي تلك
الظروف بالذات ـ ضروري أمام العدوّ الحاقد ، الذي كان يتحيّن كلّ فرصة للقيام بأيّ
خطوة تُناسب نفسيّته اللئيمة ، تجاه تلك العائلة المكرّمة الشريفة ، وكانت مواجهة
الحوادث بصبر جميل ومعنويّات عالية ، تعني تفويت الفُرص أمام تفكير العدوّ القيام
بأيّ نوع من أنواع الاعتداء والإهانة وسحق الكرامة تجاه تلك السيدات الطاهرات
المفجوعات ، اللواتي فقدن المُحامي والمدافع عنهن!
زحف الجيش الأموي
نحو خيام آل محمد عليهم السلام
كانت السيدة زينب 3 تَشعر باقتراب الخطر يوماً بعد يوم ،
وساعةً بعد ساعة ، وكيف لا؟ والسيل البشري يتدفّق نحو أرض كربلاء لقتل ريحانة رسول
الله وسبطه الحبيب؟
وآخر راية وصلت إلى كربلاء : راية شمر
بن ذي الجوشن في ستّة آلاف مقاتل ، ومعه الحُكم الصادر مِن عبيد الله بن زياد ،
يأمر فيه ابن سعد أن يُخيّر الإمام الحسين بين أمرين :
١ ـ الإستسلام.
٢ ـ الحرب.
فزحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمد : ونظرت السيدة زينب إلى أسراب من الذئاب
تتراكض نحو بيوت الرسالة والإمامة.
ويعلم الله تعالى مدى الخوف والقلق
والإضطراب الذي استولى على قلوب آل رسول الله.
وأقبلت السيدة زينب تبحث عن أخيها ،
لتُخبره بهذا الهجوم المُفاجئ في تلك السويعات الأخيرة من اليوم التاسع من المحرّم
، قريب الغروب.
وأخيراً ، وصلت إلى خيمة الإمام الحسين 7 وإذا بالإمام جالس ، وقد احتضن ركبتيه
، ووضع رأسه عليهما ، وقد غلبه النوم.
واستيقظ الإمام على صوت أخته الحوراء
تُخاطبه ـ بصوت مليء بالرُعب ، مزيج بالعاطفة والحنان ـ .. قائلةً :
أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟
فرفع الإمام الحسين رأسه وقال : أُخيّه!
إنّي رأيت رسول الله 6
الساعة في المنام ، وقال لي : « إنّك تروح إلينا ».
أو « إنّي رأيت ـ الساعة ـ محمداً 6 وأبي عليّاً ، وأمّي فاطمة ، وأخي
الحسن وهم يقولون : يا حسين إنّك رائحٌ إلينا عن قريب » .
فلطمت السيدة زينب وجهها ، وصاحت :
واويلاه ، وبكت.
فقال لها الإمام الحسين : ليس لك الويل
يا أخيّة ، لا تُشمِتي القوم بنا ، أُسكتي رحمك الله. .
فنهض الإمام الحسين 7 وأرسل أخاه العبّاس ابن علي مع عشرين
فارساً من أصحابه ، وقال : « يا عباس إركب ـ بنفسي أنت يا أخي ـ حتّى تلقاهم وتقول
لهم مالكم وما بدا لكم؟؟ وتسألهم عمّا جاء بهم؟
فأتاهم العباس وقال لهم : ما بَدا لكم
وما تريدون؟
قالوا : قد جاء أمر ابن زياد أن نَعرِض
عليكم : أن تنزلوا على حُكمه ، أو نُناجزكم!
فقال العباس : لا تَعجَلوا حتى أرجع إلى
أبي عبد الله ، فأعرض عليه ما ذكرتم.
فتوقّف الجيش ، وأقبل العباس إلى أخيه
الإمام الحسين 7
وأخبره بما قاله القوم.
فقال الإمام إرجع إليهم .. فإن استطعت
أن تؤخّرهم إلى غدٍ وتدفعهم عنّا العشيّة ، لعلّنا نُصلّي لربنا الليلة
وندعوه .. فهو يعلم
أني أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه؟
فمضى العباس إلى القوم فاستمهلهم ،
وأخيراً .. وافقوا على ذلك.
الفصل الثامن
ليلة
عاشوراء
أزمة
الماء
ليلة عاشوراء
إن مشكلة كبيرة واحدة تحدث في حياة
الإنسان قد تسلبه القرار والاستقرار ، وتورثه الأرق والقلق والسهر ، وترفض عيناه
النوم ، فكيف إذا أحاطت به عشرات المشاكل الكبيرة؟!
من الواضح أن أقل ما يمكن أن تسببه تلك
المشاكل هو : الإنهيار العصبي ، وفقدان الوعي ، واختلال المشاعر وتبلبل الفكر ،
وتشتت الخاطر.
فهل نستطيع أن نتصور كيف انقضت ليلة
عاشوراء على آل رسول الله؟!
فالهموم والغموم ، والخوف والتفكر حول
الغد ، وما يحمله من الكوارث والفجائع ، وبكاء الأطفال من شدة العطش ، ـ وغير ذلك
من المميزات تلك الليلة ـ جعلت الليلة فريدة من نوعها في تاريخ حياة أهل البيت :.
وفي ساعة من ساعات تلك الليلة خرج
الإمام الحسين 7
من منطقة المخيم ، راكباً جواده ، يبحث في تلك الضواحي حول التلال والربووات ـ
المشرفة على منطقة المخيم ـ التي كان من الممكن أن يمكن العدو خلفها غداً ، إذا
اشتعلت نار الحرب.
ويرافقه في تلك الجولة الإستطلاعية نافع
بن هلال ، وهو ذلك البطل الشجاع المقدام ، وكان من أخص أصحابه وأكثرهم ملازمة له ،
فلنستمع إليه :
إلتفت الإمام خلفه وقال : من الرجل؟
نافع؟
قلت : نعم ، جعلني الله فداك!! أزعجني
خروجك ليلاً إلى جهة معسكر هذا الطاغي.
فقال : يا نافع! خرجت أتفقد هذه التلال
مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم تحملون ويحملون.
ثم رجع 7
وهو قابض على يساري ، وهو يقول : « هي ، هي ، والله ، وعد لا خلف فيه ».
ثم قال : يا نافع! ألا تسلك ما بين هذين
الجبلين من وقتك
هذا ، وتنجو بنفسك؟
فوقعت على قدميه ، وقلت : إذن ثكلت
نافعاً أمه!!
سيدي : إن سيفي بألف ، وفرسي مثله ، فو
الله الذي من علي بك لا أفارقك حتى يكلا عن فري وجري .
ثم فارقني ودخل خيمة أخته ، فوقفت إلى
جنبها
رجاء أن يسرع في خروجه منها.
فاستقبلته زينب ، ووضعت له متكئاً ،
فجلس وجعل يحدثها سراً ، فما لبثت أن اختنقت بعبرتها ، وقالت : وا أخاه! أشاهد
مصرعك ، وأبتل برعاية هذه المـذاعير
من النساء؟ والقوم ـ كما تعلم ـ ما هم عليه من الحقد القديم.
ذلك خطب جسيم ، يعز علي مصرع هؤلاء
الفتية الصفوة ، وأقمار بني هاشم!
ثم قالت : أخي هل إستعلمت من أصحابك
نياتهم؟ فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة ، واصطكاك الأسنة!
فبكى 7
وقال : أما والله لقد لهزتهم وبلوتهم ،
وليس فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون
بالمنية دوني إستيناس الطفل بلبن أمه.
قال نافع بن هلال : فلما سمعت هذا منه
بكيت ، واتيت حبيب بن مظاهر ، وحكيت له ما سمعت منه ومن أخته زينب.
فقال حبيب : والله لو لا انتظار أمره
لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة!
قلت : إني خلفته عند أخته وهي في حال
وجل ورعب ، وأظن أن النساء أفقن وشاركنها في الحسرة والزفرة ، فهل لك ان تجمع
اصحابك وتواجههن بكلام يسكن قلوبهن ويذهب رعبهن؟ فلقد شاهدت منها ما لا قرار لي مع
بقائه.
فقال لي : طوع إرادتك ، فبرز حبيب ناحية
، ونافع إلى ناحية ، فانتدب أصحابه.
فتطالعوا من مضاربهم
فلما اجتمعوا قال ـ لبني هاشم ـ : إرجعوا إلى منازلكم ، لا سهرت عيونكم!!
ثم خطب أصحابه وقال : يا أصحاب الحمية
وليوث
الكريهة!
هذا نافع يخبرني الساعة بكيت وكيت ، وقد
خلف أخت سيدكم وبقايا عياله يتشاكين ويتباكين. أخبروني عما أنتم عليه؟
فجردوا صوارمهم ، ورموا عمائمهم ،
وقالوا : يا حبيب! والله الذي من علينا بهذا الموقف! لئن زحف القوم لنحصدن رؤوسهم
، ولنلحقنهم بأشياخهم أذلاء ، صاغرين ولنحفظن وصية رسول الله في أبنائه وبناته!
فقال : هلموا معي.
فقام يخبط الأرض
، وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب الخيم ، ونادى : « يا أهلنا ويا سادتنا! ويا
معشر حرائر رسول الله! هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلا في رقاب من يبغي
السوء بكم ، وهذه أسنة غلمانكم أقسموا أن لا يركزوها إلا
في صدور من يفرق
ناديكم!
فقال الإمام الحسين 7 : أخرجهن عليهم يا آل الله!
فخرجن ، وهن ينتدبن
ويقلن : حاموا أيها الطيبون عن الفاطميات ، ما عذركم إذا لقينا جدنا رسول الله ،
وشكونا إليه ما نزل بنا؟
وكان حبيب وأصحابه حاضرين يسمعون
وينظرون ، فو الله الذي لا إله إلا هو ، لقد ضجوا ضجة ماجت منها الأرض ،
واجتمعت لها خيولهم
وكان لها جولة واختلاف صهيل ، حتى كأن كلاً ينادي صاحبه وفارسه.
وروي عن فخر المخدرات السيدة زينب 3 أنها قالت : « لما كانت ليلة عاشر من
المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته
جالساً وحده ، يناجي ربه ، ويتلو القرآن.
فقلت ـ في نفسي ـ : أفي مثل هذه الليلة
يترك أخي وحده؟ والله لأمضين إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك.
فأتيت إلى خيمة العباس ، فسمعت منها
همهمة ودمدمة ،
فوقفت على ظهرها
فنظرت فيها ، فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة ، وبينهم
العباس بن أمير المؤمنين ، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته ؛ فخطب فيهم خطبة
ـ ما سمعتها إلا من الحسين ـ : مشتملة على الحمد والثناء لله والصلاة والسلام على
النبي وآله.
ثم قال ـ في آخر خطبته ـ : يا إخوتي!
وبني إخوتي! وبني عمومتي! إذا كان الصباح فما تقولون؟
قالوا : الأمر إليك يرجع ، ونحن لا
نتعدى لك قولاً.
فقال العباس : إن هؤلاء ( أعني الأصحاب
) قوم غرباء ، والحمل ثقيل لا يقوم إلا بأهله ، فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى
القتال أنتم.
نحن نقدمهم إلى الموت لئلا يقول الناس :
قدموا أصحابهم ، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة.
فقامت بنو هاشم ، وسلوا سيوفهم في وجه
أخي العباس ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه!
قالت زينب : فلما رأيت كثرة إجتماعهم ،
وشدة عزمهم ، وإظهار شيمتهم ، سكن قلبي وفرحت ، ولكن خنقتني العبرة ، فأردت أن
أرجع إلى أخي الحسين وأخبره بذلك ، فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة ،
فمضيت إليها ووقفت بظهرها ، ونظرت فيها ، فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم ،
مجتمعين كالحلقة ، بينهم حبيب بن مظاهر ، وهو يقول :
« يا اصحابي! لم جئتم إلى هذا المكان؟
أوضحوا كلامكم ، رحمكم الله ».
فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة!
فقال لهم : لم طلقتم حلائلكم؟
قالوا : لذلك.
قال حبيب : فإذا كان الصباح فما أنتم
قائلون؟
فقالوا : الرأي رأيك ، لا نتعدى قولاً
لك.
قال : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى
القتال أنتم ، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشمياً مضرجاً بدمه وفينا عرق يضرب ،
لئلا يقول الناس : قدموا ساداتهم للقتال ، وبخلوا عليهم بأنفسهم.
فهزوا سيوفهم على وجهه ، وقالوا : نحن
على ما أنت عليه.
قالت زينب : ففرحت من ثباتهم ، ولكن
خنقتني العبرة ،
فانصرفت عنهم وأنا
باكية ، وإذا بأخي الحسين قد عارضني
، فسكنت نفسي ، وتبسمت في
وجهه.
فقال : أخيه.
قلت : لبيك يا أخي.
فقال : يا أختاه! منذ رحلنا من المدينة
ما رأيتك متبسمة ، أخبريني : ما سبب تبسمك؟
فقلت له : يا أخي! رأيت من فعل بني هاشم
والأصحاب كذا وكذا.
فقال لي : يا أختاه! إعلمي أن هؤلاء
أصحابي من عالم الذر ، وبهم وعدني جدي رسول الله 6.
هل تحبين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم؟
فقلت : نعم.
فقال : عليك بظهر الخيمة.
قالت زينب : فوقفت على ظهر الخيمة ،
فنادى أخي الحسين : « إين إخواني وبنو أعمامي »؟
فقال الحسين : أريد أن أجدد لكم عهداً.
فأتى أولاد الحسين وأولاد الحسن ،
وأولاد علي وأولاد جعفر وأولاد عقيل ، فأمرهم بالجلوس ، فجلسوا.
ثم نادى : أين حبيب بن مظاهر ، أين زهير
، أين نافع بن هلال؟ أين الأصحاب؟
فأقبلوا ، وتسابق منهم حبيب بن مظاهر ،
وقال : لبيك يا أبا عبد الله!
فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم ، فأمرهم
بالجلوس فجلسوا.
فخطب فيهم خطبةً بليغة ، ثم قال :
« يا أصحابي! إعملوا أن هؤلاء القوم ليس
لهم قصد سوى قتلي وقتل من هو معي ، وأنا أخاف عليكم من القتل ، فأنتم في حل من
بيعتي ، ومن أحب منكم الإنصراف فلينصرف في سواد هذا الليل.
فعند ذلك قامت بنو هاشم ، وتكلموا بما
تكلموا ، وقام الأصحاب وأخذوا يتكلمون بمثل كلامهم.
فلما رأى الحسين حسن إقدامهم ، وثبات
أقدامهم ، قال : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم ، وانظروا إلى منازلكم في الجنة.
فكشف لهم الغطاء ، ورأوا منازلهم وحورهم
وقصورهم فيها ، والحور العين ينادين : العجل العجل! فإنا مشتاقات إليكم.
فقاموا بأجمعهم ، وسلوا سيوفهم ، وقالوا
: يا أبا عبد الله! إئذن لنا أن نغير على القوم ، ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم
ما يشاء.
فقال : إجلسوا رحمكم الله ، وجزاكم الله
خيراً.
ثم قال : ألا ومن كان في رحله إمرأة
فلينصرف بها إلى بني أسد.
فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا
سيدي؟
فقال : إن نسائي تسبى بعد قتلي ، وأخاف
على نسائكم من السبي.
فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته ، فقامت
زوجته إجلالاً له ، فاستقبلته وتبسمت في وجهه.
فقال لها : دعيني والتبسم!
فقالت : يا بن مظاهر! إني سمعت غريب
فاطمة! خطب فيكم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة ، فما علمت ما يقول؟
قال : يا هذه! إن الحسين قال لنا : ألا
ومن كان في رحله إمرأة فليذهب بها إلى بني عمها ، لأني غداً أقتل ، ونسائي تسبى.
فقالت : وما أنت صانع؟
قال : قومي حتى ألحقك ببني عمك : بني
أسد.
فقامت ، ونطحت رأسها بعمود الخيمة ،
وقالت :
« والله ما انصفتني يا بن مظاهر ، أيسرك
أن تسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي؟!
أيسرك أن تسلب زينب إزارها من رأسها
وأنا استتر بإزاري؟!
أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول الله ويسود
وجهي عند فاطمة الزهراء؟!
والله أنتم تواسون الرجال ، ونحن نواسي
النساء ».
فرجع علي بن مظاهر إلى الإمام الحسين 7 وهو يبكي.
فقال له الحسين : ما يبكيك؟
قال : سيدي .. أبت الأسدية إلا مواساتكم!!
فبكى الإمام الحسين ، وقال : جزيتم منا
خيراً.
__________________
أزمة الماء
كانت السيدة زينب 3 ركناً مهماً في الأسرة الشريفة الطيبة
، وانطلاقاً من صفة العاطفة المثالية التي كانت تمتاز بها ، فقد كانت تشعر
بالمسؤلية عن كل ما يرتبط بحياة الأسرة .. بجميع أفرادها.
فكانت مفزعاً للكبار والصغار ، وملاذاً
لجميع أفراد العائلة ، ومعقد آمالهم ، فلعلها كانت تدخر شيئاً من الماء منذ بداية
أزمة الماء عندهم.
فكان بعض العائلة يأملون أن يجدوا عندها
الماء ، جرياً على عادتها وعادتهم ، ولهذا قالت سكينة بنت الإمام الحسين 7 :
« عز ماؤنا ليلة التاسع من المحرم
، فجفت الأواني ، ويبست الشفاه
حتى صرنا تنوقع الجرعة من الماء فلم نجدها.
فقلت ـ في نفسي ـ : أمضي إلى عمتي زينب
، لعلها أدخرت لنا شيئاً من الماء!!
فمضيت إلى خيمتها ، فرأيتها جالسة ، وفي
حجرها أخي عبد الله الرضيع ، وهو يلوك بلسانه من شدة العطش ، وهي تارةً تقوم ،
وتارةً تقعد.
فخنقتني العبرة ، فلزمت السكوت خوفاً من
أن تفيق بي عمتي فيزداد حزنها.
فعند ذلك إلتفتت عمتي وقالت : سكينة؟
قلت : لبيك.
قالت : ما يبكيك؟
قلت : حال أخي الرضيع أبكاني.
ثم قلت : عمتاه! قومي لنمضي إلى خيم
عمومتي ،
وبني عمومتي ، لعلهم
ادخروا شيئاً من الماء!
قالت : ما أظن ذلك.
فمضينا واخترقنا الخيم ، بأجمعهم ، فلم
نجد عندهم شيئاً من الماء.
فرجعت عمتي إلى خيمتها ، فتبعتها من نحو
عشرين صبي وصبية ، وهم يطلبون منها الماء ، وينادون : العطش العطش ... »
الفصل التاسع
يوم
عاشوراء
مقتل
سيدنا علي الأكبر 7
مقتل
أولاد السيدة زينب ( عليها اسلام )
مقتل
سيدنا أبي الفضل العباس 7
مقتل
الطفل الرضيع 7
يوم عاشوراء
أصبح الصباح من يوم عاشوراء ، واشتعلت
نار الحرب وتوالت المصائب ، الواحدة تلو الأخرى ، وبدأت الفجائع تترى!
فالأصحاب والأنصار يبرزون إلى ساحة
الجهاد ، ويستشهدون زرافات ووحدانا ، وشيوخاً وشباناً.
ووصلت النوبة إلى أغصان الشجرة النبوية
، ورجالات البيت العلوي ، الذين ورثوا الشجاعة والشهامة ، وحازوا عزة النفس ، وشرف
الضمير ، وثبات العقيدة ، وجمال الإستقامة.
مقتل سيدنا علي الأكبر
وأول من تقدم منهم إلى ميدان الشرف : هو
علي بن الحسين الأكبر 8
، فقاتل قتال الأبطال ، وأخيراً .. إنطفأت شمعة حياته المستنيرة ، وسقط على الأرض
كالوردة التي تتبعثر أوراقها.
وتبادر الإمام الحسين 7 إلى مصرع ولده ، ليشاهد شبيه رسول الله
6 مقطعاً
بالسيوف إرباً إرباً.
ولا أعلم كيف علمت السيدة زينب بهذه
الفاجعة المروعة ، فقد خرجت تعدو ، وهي السيدة المخدرة اللمحجبة الوقورة!
خرجت من الخيمة مسرعة وهي تنادي : « وا
ويلاه ، يا حبيباه ، يا ثمرة فؤاداه ، يا نور عيناه ، يا أخياه وابن أخياه ،
واولداه ، واقتيلاه ، واقلة ناصراه ، واغريباه ، وامهجة قلباه.
ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء ، ليتني
وسدت الثرى ».
وجاءت وانكبت عليه ، فجاء الإمام الحسين
7 فأخذ بيدها
، وردها إلى المخيم ، وأقبل بفتيانه إلى المعركة وقال : إحملوا أخاكم ، فحملوه من
مصرعه وجاؤا به حتى وضعوه عند الخيمة التي كانوا يقاتلون أمامها.
مقتل أولاد السيدة زينب
وإلى أن وصلت النوبة إلى أولاد السيدة
زينب 3 وأفلاذ
كبدها.
أولئك الفتية الذين سهرت السيدة زينب
لياليها ، وأتبعت أيامها ، وصرفت حياتها في تربية تلك البراعم ، حتى نمت وأورقت.
إنها قدمت أغلى شيء في حياتها في سبيل
نصرة أخيها الإمام الحسين 7.
وتقدم أولئك الأشبال يتطوعون ويتبرعون
بدمائهم وحياتهم في سبيل نصرة خالهم ، الذي كان الإسلام متجسداً فيه وقائماً به.
وغريزة حب الحياة إنقلبت ـ عندهم ـ إلى
كراهية تلك الحياة.
ومن يرغب ليعيش في أرجس مجتمع متكالب ،
يتسابق على إراقة دماء أطهر إنسان يعتبر مفخرة أهل السماء والأرض؟!
وكان عبد الله بن جعفر ـ زوج السيده
زينب ـ قد أمر ولديه : عوناً ومحمداً ان يرافقا الإمام الحسين 7 ـ لما أراد الخروج من مكه ـ والمسير
معه ، والجهاد دونه.
فلما انتهى القتال إلى الهاشميين برز
عون بن عبد الله بن جعفر ، وهو يرتجز ويقول :
إن تنكروني فأنا ابن جعفر
|
|
شهيد صدق في الجنان أزهر
|
يطيـر فيها بجناح أخضر
|
|
كفى بهذا شـرفاً في المحشر
|
فقتل ثلاثة فرسان ، وثمانية عشر راجلاً
، فقتله عبد الله بن قطبة الطائي.
ثم برز أخوه محمد بن عبد الله بن جعفر ،
وهو ينشد :
أشكـو إلى الله من العدوان
|
|
فعال قوم في الردى عميان
|
قـد بدلـوا معـالم القرآن
|
|
ومحكـم التنزيـل والتبيان
|
وأظهروا الكفر مع الطغيان
فقتل عشرة من الأعداء ، فقتله عامر بن
نهشل التميمي.
ولقد رثاهما سليمان بن قبة بقوله :
وسمي النبـي غودر فيهم
|
|
قد علوه بصارم مصقول
|
فإذا ما بكيت عيني فجودي
|
|
بدمـوع تسيل كل مسيل
|
واندبي إن بكيت عوناً أخاه
|
|
ليس فيما ينوبهم بخذول
|
أقول
: لم أجد في كتب المقاتل أن السيدة زينب الكبرى 3
صاحت أو ناحت أو صرخت أو بكت في شهادة ولديها ، لا في يوم عاشوراء ولابعده.
ومن الثابت أن مصيبة ولديها أوجدت في
قلبها الحزن العميق ، بل والهبت في نفسها نيران الأسى وحرارة الثكل ، ولكنها 3 كانت تخفي حزنها على ولديها ، لأن جميع
عواطفها كانت متجهة إلى الإمام الحسين 7.
وهناك وجه آخر قد يتبادر إلى الذهن :
وهو أن بكاءها على ولديها قد كان يسبب الخجل والإحراج لأخيها الإمام الحسين ،
باعتبار أنهما قتلا بين يديه ودفاعاً عنه ، فكان السيدة زينب ـ بسكوتها ـ تريد أن
تقول للإمام الحسين 7
: ولداي فداء لك ، فلا يهمك ولا يحرجك أنهما قتلا بين يديك. والله العالم.
مقتل سيدنا أبي الفضل العباس
لقد كانت العلاقات الودية بين السيدة
زينب وبين أخيها أبي الفضل العباس 8
تمتاز بنوع خاص من تبادل المحبة والإحترام ، فقد كانت السيدة زينب تكن إخوتها من
أبيها كل عكاطفة وود ، وكان ذلك العطف والتقدير يظهر من خلال كيفية تعاملها مع
إخوانها الأكارم.
وكان سيدنا أبو الفضل العباس ـ بشكل خاص
ـ يحترم أخته زينب احتراماً كثيراً جداً.
وفي طوال رحلة قافلة الإمام الحسين 7 من مكة نحو العراق .. كان العباس هو
الذي يقوم بشؤون السيدة زينب ، من مساعدتها حين الركوب أو النزول من المحمل ويبادر
إلى تنفيذ الأوامر والطلبات بكل سرعة .. ومن القلب.
فالسيدة زينب 3 محترمة ومحبوبة عند الجميع ،
يحبونها لعواطفها
وأخلاقها المثالية ، يضاف إلى ذلك : أنها عميدة الأسرة ، وعقيلة بني هاشم ، وابنة
فاطمة الزهراء ، وسيدة نساء أهل البيت.
ومنذ وصول قافلة الإمام الحسين إلى أرض
كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم ، إختار سيدنا العباس بن أمير المؤمنين 8 لنفسه نوعاً خاصاً من العبادة : وهي
أنه كان إذا جن الليل يركب الفرس ويحوم حول المخيمات لحراسة العائلة.
والعباس : إسم لامع وبطل شجاع ، تطمئن
إليه نفوس العائلة والنساء والأطفال ، ويعرفه الأعداء أيضاً ، فقد ظهرت منه ـ يوم
صفين ـ شجاعة عظيمة جعلت إسمه يشتهر عند الجميع بالبطولة والبسالة ، ولا عجب من
ذلك فهو ابن أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب 7.
وفي يوم عاشوراء ، لما قتل أكثر أصحاب
الإمام الحسين 7
أقبل العباس إلى أخيه الحسين واستأذنه للقتال ، فلم يأذن له ، وقال : « أخي أنت
صاحب لوائي ، فإذا غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات ».
فقال العباس : يا سيدي لقد ضاق صدري
وأريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين.
فقال له الإمام الحسين 7 : « إذن .. فاطلب
لهؤلاء الأطفال
قليلاً من الماء ».
فأقبل العباس وحمل القربة وتوجه نحو
النهر ليأتي بالماء ... ، وإلى أن وصل إلى الماء وملأ القربة ، وتوجه نحو خيام
الإمام الحسين 7.
فجعل الأعداء يرمونه بالسهام ـ كالمطر ـ حتى صار درعه كالقنفذ ، ثم قطعوا عليه
الطريق وأحاطوا به من كل جانب ، فحاربهم وقاتلهم قتال الأبطال ، وكان جسوراً على
الطعن والضرب.
فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة
وضربه بالسيف على يمينه فقطعها ، فأخذ السيف بشماله واستمر في القتال ، فضربه لعين
على شماله فقطع يده ، وجاءته السهام والنبال من كل جانب ، وجاء سهم وأصاب القربة
فأريق ماؤها ، وضربه الأعداء بعمود من حديد على رأسه ، فسقط على الأرض صريعاً ،
ونادى ـ بأعلى صوته ـ : أدركني يا أخي!
وكان الإمام الحسين 7 قد وقف على ربوة عند باب الخيمة .. وهو
ينظر إلى ميدان القتال ، وكانت السيدة زينب واقفة تنظر إلى وجه أخيها ، وإذا
بالحزن قد غطى ملامح الإمام الحسين! فقالت زينب : أخي مالي أراك قد تغير وجهك؟
فقال : أخيه لقد سقط العلم وقتل أخي
العباس!
فكان السيدة زينب إنهد ركنها ، وجلست
على الأرض وصرخت : وا أخاه! وا عباساه!
وا قلة ناصراه ، واضيعتاه من بعدك يا
أبا الفضل!
فقال الإمام الحسين : « إي والله ، من
بعده وا ضيعتاه! وا إنقطاع ظهراه!
وأقبل الحسين ـ كالصقر المنقض ـ حتى وصل
إلى أخيه فرآه صريعاً على شاطئ الفرات ، فنزل عن فرسه ووقف عليه منحنياً ، وجلس
عند رأسه ، وبكى بكاءً شديداً ، وقال : « يعز ـ والله ـ علي فراقك ، الآن إنكسر
ظهري ، وقلت حيلتي ، وشمت بي عدوي ».
مقتل الطفل الرضيع
قال السيد ابن طاووس
: لما رأى الحسين 7
مصارع فتيانه وأحبته عزم على لقاء القوم بمهجته ، ونادى :
هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟
هل من موحد يخاف الله فينا؟
هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا؟
هل من معين يرجو ما عند الله بإعانتنا؟
فارتفعت اصوات النساء بالعويل ، فتقدم
الإمام 7 إلى باب
الخيمة وقال لأخته زينب : ناوليني ولدي الرضيع حتى أودعه.
فأخذه وأوما إليه ليقبله فرماه حرملة بن
كاهل بسهم فوقع في نحره فذبحه.
فقال الحسين لأخته زينب : خذيه.
ثم تلقى الدم بكفيه فلما امتلأتا رمى
بالدم نحو السماء وقال : هون علي ما نزل بي أنه بعين الله.
قال الإمام الباقر 7 : فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى
الأرض.
وفي رواية أخرى : أن الإمام الحسين 7 حينما طلب طفله الرضيع ليودعه ، أقبلت
السيدة زينب 3 بالطفل ،
وقد غارت عيناه من شدة العطش ، فقالت : يا أخي هذا ولدك له ثلاثة أيام ما ذاق
الماء ، فاطلب له شربة ماء.
فأخذه الإمام الحسين 7 على يده ، وأقبل نحو أهل الكوفة وقال :
« يا قوم : قد قتلتم أخي وأولادي وأنصاري ، وما بقي غير هذا الطفل ، وهو يتلظى
عطشاً ، من غير ذنب أتاه إليكم ، فاسقوه شربةً من الماء ، ولقد جف اللبن في صدر
أمه!
يا قوم! إن لم ترحموني فارحموا هذا
الطفل ، فبينما
هو يخاطبهم إذا أتاه
سهم فذبح الطفل من الأذن إلى الأذن!!
فجعل الإمام الحسين 7 يتلقى الدم حتى امتلأت كفه ، ورمى به
إلى السماء ، وخاطب نفسه قائلاً : « يا نفس اصبري واحتسبي فيما أصابك » ثم قال :
إلهي ترى ما حل بنا في العاجل ، فاجعل ذلك ذخيرةً لنا في الآجل ».
وجاء في بعض كتب التاريخ : أن الإمام
الحسين 7 لما رجع
بالرضيع مذبوحاً إلى الخيام ، رأى الأطفال والبنات ـ ومعهن أم الرضيع ـ واقفات
بباب الخيمة ينتظرن رجوع الإمام ، لعلهن يحصلن على بقايا من الماء الذي قد يكون الإمام
سقاه لطفله.
فلما رأى الإمام الحسين ذلك ، غير طريقه
، وذهب وراء الخيام ، ونادى أخته زينب لتأتي وتمسك جثمان الرضيع لكي يخرج الإمام
خشبة السهم من نحر الطفل!!
ويعلم الله ماذا جرى على قلب الإمام
الحسين وقلب السيدة زينب 8
ساعة إخراج السهم من نحر الطفل.
ثم إن الإمام حفر الأرض ودفن طفله
الرضيع تحت التراب.
١ ـ كتاب « معالي السبطين » ، ج ١ ، ص
٢٥٩ ، المجلس السادس عشر.
الفصل العاشر
الإمام
الحسين يودع ولده المريض
الإمام
الحسين يودع السيدة زينب
الإمام
الحسين يخرج إلى ساحة الجهاد
عودة
فرس الإمام إلى المخيم
ذهاب
السيدة زينب إلى المعركة
الإمام الحسين عليه السلام
يودع ولده المريض
كانت ساعات يوم عاشوراء تقترب نحو العصر
، دقيقة بعد دقيقة ، والإمام الحسين 7
يعلم باقتراب تلك اللحظة التي يفارق فيها الحياة بأفجع صورة وأفظع كيفية.
وها هو ينتهز تلك اللحظات ليقوم بما
يلزم ، فقد جاء ليودع ولده البار المريض : الإمام زين العابدين علي بن الحسين 8.
وكانت السيدة زينب 3 ـ والتي تفايضت صحيفة أعمالها بالحسنات
ـ قد أضافت إلى حسناتها حسنةً أخرى ، وهي تمريض الإمام زين العابدين 7 وتكفل شؤونه.
ودخل الإمام الحسين على ولده في خيمته ،
وهو طريح على
نطع الأديم
، فلا سرير ولا فراش وثير ، قد امتص المرض طاقات بدنه ، لا طاقات روحه المرتبطة
بالعالم الأعلى.
فدخل عليه ، وعنده السيدة زينب تمرضه ،
فلما نظر علي بن الحسين إلى أبيه أراد أن ينهض فلم يتمكن من شدة المرض ، فقال
لعمته :
« سنديني إلى صدرك ، فهذا ابن رسول الله
قد أقبل ».
فجلست السيدة زينب خلفه ، وسندته إلى
صدرها.
فجعل الإمام الحسين 7 يسأل ولده عن مرضه ، وهو يحمد الله
تعالى ، ثم قال : يا أبت ما صنعت اليوم مع هؤلاء المنافقين؟
فقال له الحسين 7 : « يا ولدي إستحوذ عليهم الشيطان ،
فأنساهم ذكر الله ، وقد شب القتال بيننا وبينهم ، حتى فاضت الأرض بالدم منا ومنهم
».
فقال : يا أبتاه أين عمي العباس؟
فلما سأل عن عمه إختنقت السيدة زينب
بعبرتها ، وجعلت تنظر إلى أخيها كيف يجيبه؟ لأنه لم يخبره ـ قبل ذلك ـ بمقتل
العباس خوفاً من أن يشتد مرضه.
فقال : « يا بني إن عمك قد قتل ، وقطعوا
يديه على شاطئ الفرات ».
فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً حتى
غشى عليه ، فلما افاق من غشيته جعل يسأل أباه عن كل واحد من عمومته ، والحسين 7 يقول له : قتل.
فقال : وأين أخي علي ، وحبيب بن مظاهر ،
ومسلم بن عوسجة وزهير بن القين؟
فقال له : يا بني! إعلم أنه ليس في
الخيام رجل إلا أنا وأنت ، وأما هؤلاء الذين تسأل عنهم فكلهم صرعى على وجه الثرى.
فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً ، ثم
قال ـ لعمته زينب ـ : يا عمتاه علي بالسيف والعصا.
فقال له أبوه : وما تصنع بهما؟
قال : أما العصا فاتوكأ عليها ، وأما
السيف فأذب به بين يدي أبن رسول الله 6
فإنه لا خير في الحياة بعده.
فمنعه الحسين 7 عن ذلك وضمه إلى صدره ، وقال له : يا
ولدي! أنت أطيب ذريتي ، وأفضل عترتي ، وأنت خليفتي على هؤلاء العيال والأطفال ،
فإنهم غرباء ،
مخذولون ، قد شملتهم
الذلة
، واليتم ، وشماتة الأعداء ، ونوائب الزمان.
سكتهم إذا صرخوا ، وآنسهم إذا استوحشوا
، وسل خواطرهم بلين الكلام ، فإنه ما بقي من رجالهم من يستأنسون به غيرك ، ولا أحد
عندهم يشتكون إليه حزنهم سواك.
دعهم يشموك وتشمهم ، ويبكوا عليك وتبكي
عليهم ».
ثم لزمه بيده وصاح بأعلى صوته : « يا
زينب! ويا أم كلثوم ، ويا رقية! ويا فاطمة!
إسمعن كلامي ، وأعلمن أن إبني هذا
خليفتي عليكم وهو إمام
مفترض الطاعة ».
ثم قال له : « يا ولدي بلغ شيعتي عني
السلام ، وقل لهم : إن أبي مات غريباً فاندبوه ، ومضى شهيداً فابكوه ».
الإمام الحسين يودع السيدة زينب
يعتبر التوديع نوععاً من التزود من
الرؤية ، فالمسافر يتزود من رؤية من سيفارقهم وهم يتزودون من رؤيته ، والوداع يخفف
ألم البعد والفراق ، لأن النفس تكون قد استوفت قسطاً من رؤية الغائب ، وتوطنت على
المفارقة ومضاعفاتها.
ولهذا جاء الإمام الحسين 7 ليودع عقائل النبوة ، ومخدرات الرسالة
، وودائع رسول الله 6.
ليودع النساء والأخوات والبنات وأطفاله
الأعزاء ، وليخفف عنهم صدمة مصيبة الفراق.
قد تحدث في هذا العالم حوادث وقضايا
يمكن شرحها ووصفها ، وقد تحدث أمور يعجز القلم واللسان عن شرحها ووصفها ، بل لا
يمكن تصورها.
إنني أعتقد أن تلك الدقائق واللحظات ـ
من ساعات
التوديع ـ كانت
تجاوزت حدود الوصف والبيان.
فالأحزان قد بلغت منتهاها ، والقلق
والاضطراب قد بلغ أشده ، والعواطف قد هاجت هيجان البحار المتلاطمة ، والدموع
متواصلة تتهاطل كالمطر ، وأصوات البكاء لا تنقطع ، والقلوب ملتهبة ، بل مشتعلة ،
والهموم والغموم متراكمة مثل تراكم الغيوم.
فبعد أن قتل جميع أصحاب الإمام الحسين 7 وبنو هاشم ، ولم يبق من الرجال أحد ،
عزم الإمام على لقاء الله تعالى ، وعلى ملاقاة الأعداء بنفسه المقدسة ، فأقبل إلى
المخيم للوداع ، ونادى : « يا سكينة ويا فاطمة ، يا زينب ويا أم كلثوم : عليكن مني
السلام ، فهذا آخر الإجتماع ، وقد قرب منكن الإفتجاع!
فعلت أصواتهن بالبكاء ، وصحن : الوداع
.. الوداع ، الفراق .. الفراق ، فجاءته عزيزته سكينة وقالت : يا أبتاه إستسلمت
للموت؟ فإلى من أتكل؟
فقال لها : « يا نور عيني كيف لا يستسلم
للموت من لا ناصر له ولا معين ، ورحمة الله ونصرته لا تفارقكم في الدنيا والآخرة ،
فاصبري على قضاء الله ولا تشكي ، فإن الدنيا فانية ، والآخرة باقية.
قالت : أبه ردنا إلى حرم جدنا رسول الله؟
فقال الإمام الحسين : هيهات ، لو ترك
القطا لغفا ونام.
فبكت سكينة فأخذها الإمام وضمهما إلى
صدره ، ومسح الدموع عن عينيها.
ثم إن الإمام الحسين 7 دعى النساء بأجمعهن ، وقال لهن : «
إستعدوا للبلاء ، واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل
عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذب أعاديكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية
بأنواع النعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم ».
ثم أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن ، فسألته
السيدة زينب عن سبب ذلك ، فقال : « كأني أراكم عن قريب كالإماء والعبيد يسوقونكم
أمام الركاب ويسومونكم سوء العذاب!!
فلما سمعت السيدة زينب ذلك بكت ونادت :
واوحدتاه ، واقلة ناصراه ، ولطمت على وجهها!
فقال لها الإمام الحسين : « مهلاً يا
بنة المرتضى ، إن البكاء طويل »!!
ثم أراد الإمام أن يخرج من الخيمة
فتعلقت به السيدة زينب وقالت : « مهلاً يا أخي ، توقف حتى أتزود منك ومن
نظري إليك ، وأودعك
وداع مفارق لا تلاقي بعده »؟ فجعلت تقبل يديه ورجليه.
فصبرها الإمام الحسين ، وذكر لها ما أعد
الله للصابرين.
فقالت : يا بن أمي طب نفساً وقر عيناً
فإنك تجدني كما تحب وترضى.
فقال لها الإمام الحسين : « أخيه إيتيني
بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد ، اجعله تحت ثيابي لئلا أجرد بعد قتلي ، فإني مقتول
مسلوب ، فارتفعت اصوات النساء بالبكاء.
ولما أراد الإمام أن يخرج نحو المعركة
نظر يميناً وشمالاً ونادى : هل من يقدم إلي جوادي؟
فسمعت السيدة زينب ذلك ، فخرجت وأخذت
بعنان الجواد ، وأقبلت إليه وهي تقول : لمن تنادي وقد قرحت فؤادي؟!
وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين 7 أوصى أخته السيدة زينب قائلاً : « يا
أختاه! لا تنسيني في نافلة الليل ».
الإمام الحسين يخرج إلى ساحة الجهاد
كانت تلك اللحظات من أصعب الساعات في
حياة السيدة زينب ، من هول قرب الفاجعة والمستقبل المخيف المرعب.
وهل يستطيع القلم واللسان من وصف تلك
الدقائق ، وتأثيرها على قلب السيدة زينب 3؟
لقد توجه أخوها إلى ساحة القتال بعد أن
قدم أعز أصحابه ، وأشرف شبابه ، وأكرم عشيرته ضحايا في سبيل الله ، ولم يبق له
ومعه أحد من الرجال سوى ولده العليل.
ونتيجة الذهاب إلى المعركة معلومة :
القتل والشهادة!!
لقد ترك الإمام الحسين 7 أغلى ما عنده ، وهم عائلته الذين هم
أشرف عائلة على وجه الأرض ، وأكثرها عفافاً وخفارة ، وهن مخدرات الرسالة وعقائل
النبوة ، اللاتي كانت حياتهن مشفوعة بالعز والإحترام.
تركهم في وسط البر الأقفر ، قد أحاط بهن
سفلة المجتمع ، وأراذل الناس ، من باعة الضمائر ، والهمج الرعاع ، وفاقدي الفضيلة.
أولئك الذين سلموا أنفسهم واستسلموا لأقذر سلطة في التاريخ ، وأرجس جهاز حاكم في
العالم.
والعائلة المكرمة تعرف إتجاه أولئك
الأشرار الأوباش ، ونفسياتهم ، فالمخاوف والأخطار تهاجم قلوب العائلة الشريفة من
كل جانب.
فمن ناحية : الإحساس باقتراب الخطر من
حياة الإمام الحسين 7.
ومن ناحية أخرى : ترقب إستيلاء العدو
الشرس المتوحش على سرادق الوحي ومخيمات النبوة.
ومضاعفات هذه الاحتمالات من العواصف
والأعاصير التي سوف تجتاح حياة السيدات .. كلها أمور تدعو إلى القلق والخوف
والوحشة.
والآن .. نقرأ ما جاء في كتب التاريخ
حول ذهاب الإمام الحسين إلى ساحة المعركة :
ولما قتل جميع أصحاب الإمام الحسين 7 ورجال أهل بيته ، ولم يبق منهم أحد ،
عزم الإمام على لقاء القوم بنفسه ، فدعى ببردة رسول الله 6 فالتحف بها ، وأفرغ عليها درعه الشريف
، وتقلد
سيفه ، واستوى على
متن جواده ، ثم توجه نحو ميدان الحرب والقتال ، فوقف أمام القوم وجعل يخاطب أهل
الكوفة بقوله :
« ويلكم على م تقاتلونني؟!
على حق تركته؟!
أم على شريعة بدلتها؟!
أم على سنة غيرتها »؟!
فقالوا : بل نقاتلك بغضاً منا لأبيك ،
وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين.
وجاء في بعض كتب التاريخ : أن الإمام
الحسين 7 وقف أمام
القوم وسيفه مصلت في يده ، آيساً من الحياة ، عازماً على الموت ، وهو يقول :
أنـا ابن علي الطهر من آل هاشم
|
|
كفانـي بهذا مفخـراً حين أفخر
|
وجـدي رسول الله أكرم من مشى
|
|
ونحن سراج الله في الخلق نزهر
|
وفـاطم أمي من سلالة أحمـد
|
|
وعمّي يدعى ذا الجناحين جعفر
|
وفينـا كتـاب الله أنزل صادقاً
|
|
وفينا الهدى والوحي بالخير يذكر
|
ونحـن أمان الله للنـاس كلهـم
|
|
نسـر بهذا فـي الأنـام ونجهر
|
ونحن ولاة الحوض نسقي ولاتنا
|
|
بكأس رسول الله مـا ليس ينكر
|
وشيعتنا في الحشر أكرم شيعـة
|
|
ومبغضنـا يوم القيـامة يخسر
|
فطـوبى لعبد زارنا بعد موتنـا
|
|
بجنة عدن صفوها لا يكدر
|
فصاح عمر بن سعد : « الويل لكم! أتدرون
لمن تقاتلون؟! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتال العرب ، إحملوا عليه من كل
جانب ». فحملوا عليه وحمل عليهم كالليث المغضب ، فقتل منهم مقتلةًَ عظيمة ، وكانت
الرجال تشد عليه فيشد عليها ، فتنكشف عنه كالجراد
المنتشر!
فحمل على ميمنة عسكرهم وهو يقول :
الموت أولى من ركوب العار
|
|
والعـار أولى من دخول النار
|
ثم حمل على ميسرة الجيش وهو يقول :
أنـا الحسين بن علـي
|
|
آليـت أن لا أنـثنـي
|
أحمـي عيـالات أبي
|
|
أمضي على دين النبي
|
فجعلوا يرشقونه بالسهام والنبال حتى صار
درعه كالقنفذ ، فوقف ليستريح وقد ضعف عن القتال ، فبينما هو واقف إذ أتاه حجر
فأصاب جبهته المقدسة ، فسال الدم على وجهه ، فأخذ الثوب ليسمح الدم عن عينه ،
فأتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب ، فوقع السهم على صدره قريباً من قلبه ، فقال الإمام
الحسين : « بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله » ، ورفع رأسه إلى
السماء وقال : « إلهي .. إنك تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبي
غيره »!
ثم أخذ السهم وأخرجه من قفاه فانبعث
الدم كالميزاب ، فوضع يده على الجرح فلما امتلأت دماً رمى به إلى السماء ، ثم وضع
يده على الجرح ثانياً فلما امتلأت لطخ به
رأسه ولحيته ، وقال
: « هكذا أكون حتى القى جدي رسول الله وأنا مخضوب بدمي وأقول : يا رسول الله قتلني
فلان وفلان ».
فعند ذلك طعنه صالح بن وهب بالرمح على
خاصرته طعنةً ، سقط منها عن فرسه إلى الأرض على خده الأيمن ، وهو يقول : « بسم
الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله » ثم جعل يجمع التراب بيده ، فيضع
خده عليها ثم يناجي ربه قائلاً : « صبراً على قضائك وبلائك ، يا رب لا معبود سواك
».
ثم وثب ليقوم للقتال فلم يقدر ، فبكى
بكاءً شديداً ونادى : « واجداه وامحمداه ، وا أبتاه واعلياه ، واغربتاه ، واقلة
ناصراه!!
ءأقتل مظلوماً وجدي محمد المصطفى؟!
ء أذبح عطشاناً وأبي علي المرتضى؟!
ءأترك مهتوكاً وأمي فاطمة الزهراء »؟!
فخرج عبد الله بن الإمام الحسن 7 وهو غلام لم يراهق ( في الحادية عشر من
عمره ) من عند النساء ،
فشد حتى وقف إلى جنب
عمه الحسين ، فلحقته زينب بنت علي لتحسبه ، فأبى وامتنع عليها إمتناعاً شديداً وقال
: والله لا أفارق عمي وجاء حتى جلس عند الإمام ، وجعل يطلب منه أن ينهض ويرجع إلى
المخيم ، وفي هذه الأثناء .. أقبل أبحر بن كعب إلى الحسين والسيف مصلت بيده ، فقال
له الغلام : ويلك يا بن الخبيثة اتقتل عمي! فضربه أبحر بالسيف فاتقاه الغلام بيده
وأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، ونادى الغلام : يا عماه ، فأخذه الإمام الحسين
وضمه إليه وقال : « يا بن أخي إصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الأجر ، فإن الله
يلحقك بآبائك الصالحين » ، فرماه حرملة بسهم فذبحه في حجر عمه الحسين.
وبقي الإمام الحسين 7 مطروحاً على الأرض .. والشمس تصهر عليه
، فنادى شمر بالعسكر : ما وقوفكم؟! إحملوا عليه.
فحملوا عليه من كل جانب ، وضربه زرعة بن
شرؤيك بالسيف على كتفه ، وطعنه الحصين بن نمير بالرمح في صدره.
فصاح عمر بن سعد : ويلكم أنزلوا وحزروا
رأسه! وقال لرجل : ويلك إنزل إلى الحسين وأرحه!
فأقبل عمرو بن الحجاج ليقتل الحسين ،
فلما دنى ونظر إلى عينيه ولى راجعاً مدبراً ، فسألوه عن سبب رجوعه؟ قال : نظرت إلى
عينيه كأنهما عينا رسول الله!!
وأقبل شبث بن ربعي فارتعدت يده ورمى
السيف هارباً ...
عودة فرس الإمام الحسين إلى المخيم
وكان فرس الإمام الحسين .. فرساً أصيلاً
من جياد خيل رسول الله 6
ـ وقد بقي حياً إلى ذلك اليوم ـ فلما رأى ما جرى على صاحبه ( أي سقوط الإمام عن
ظهره إلى الأرض ) جعل يحمهم ويصهل ويشم الإمام الحسين ويمرغ ناصيته بدمه ، ثم توجه
نحو خيام الإمام 7
بكل سرعة .. وهو هائج هياجاً شديداً ، وقد ملأ البيداء صهيلاً عظيماً ، فلما وصل
إلى المخيم جعل يضرب الأرض برأسه عند خيمة الإمام الحسين ، وكأنه يريد إخبار
العائلة بما جرى على راكبه ، حتى سقط على الأرض عند باب الخيمة.
فخرجت النساء والأطفال من الخيام فرأين
الفرس خالياً من راكبه ، فارتفعت صياح النساء ، وخرجن حافيات باكيات ،
يضربن وجوههن ، لما
نزل بهن من المصيبة والبلاء ، وهن يصحن : « وا محمداه ، واعلياه ، وافاطماه ،
واحسناه ، واحسيناه ».
وصاحت سكينة : « قتل ـ والله ـ أبي
الحسين ، ونادت : واقتيلاه ، وا أبتاه ، واحسيناه ، واغربتاه ».
ذهاب السيدة زينب إلى المعركة
ولما سقط الإمام الحسين 7 على الأرض خرجت السيدة زينب من باب
الخيمة نحو الميدان ، وهي تنادي : وا أخاه ، واسيداه ، وا أهل بيتاه ، ليت السماء
أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل.
ثم وجهت كلامها إلى عمر بن سعد ، وقالت
: يا بن سعد! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟!
فلم يجبها عمر بشيء.
فنادت : ويحكم!! ما فيكم مسلم؟!
فلم يجبها أحد بشيء.
ثم انحدرت نحو المعركة وهي تركض مسرعةً
، فتارةً تعثر
بأذيالها ، وتارةً
تسقط على وجهها من عظم دهشتها حتى وصلت إلى وسط المعركة ، فجعلت تنظر يميناً
وشمالاً ، فرأت أخاها الحسين 7
مطروحاً على وجه الأرض ، وهو يخور في دمه ، ويقبض يميناً وشمالاً ، ويجمع رجلاً
ويمد أخرى ، والدماء تسيل من جراحاته ، فجلست عنده وطرحت نفسها على جسده الشريف ،
وجعلت تقول :
ءأنت الحسين؟!
ءأنت أخي؟!
ءأنت ابن أمي؟!
ءأنت نور بصري؟!
ءأنت مهجة فؤادي؟!
ءأنت حمانا؟!
ءأنت رجانا؟!
ءأنت ابن محمد المصطفى؟!
ءأنت ابن علي المرتضى؟!
ءأنت ابن فاطمة الزهراء؟
كل هذا ، والإمام الحسين لا يرد عليها
جواباً ، لأنه كان مشغولاً بنفسه ، وقد استولى عليه الضعف الشديد بسبب نزف الدم
وكثرة الجراحات.
فقالت : أخي! بحق جدي رسول الله إلا ما
كلمتني ، وبحق أبي : علي المرتضى إلا ما خاطبتني ، وبحق أمي فاطمة الزهراء إلا ما
جاوبتني.
يا ضياء عيني كلمني.
يا شقيق روحي جاوبني.
فعند ذلك جلست خلفه ، وأدخلت يديها تحت
كتفه وأجلسته حاضنةً له بصدرها.
فانتبه الإمام الحسين من كلامها ، وقال لها
ـ بصوت ضعيف ـ : « أخيه زينب! كسرتي قلبي ، وزدتيني كرباً على كربي ، فبالله عليك
إلا ما سكنت وسكت ».
فصاحت : « وايلاه! يا أخي وابن أمي ،
كيف أسكن وأسكت ، وانت بهذه الحالة ، تعالج سكرات الموت؟!
روحي لروحك الفداء! نفسي لنفسك الوقاء
».
فبينما هي تخاطبه ويخاطبها ، وإذا
بالسوط يلتوي على كتفها ، وقائل يقول : تنحي عنه ، وإلا الحقتك به ، فالتفت وإذا
هو شمر بن ذي الجوشن ( لعنه الله ).
فاعتنقت أخاها ، وقالت : والله لا أتنحى
عنه ، وإن ذبحته فأذبحني قبله.
فجذبها عنه قهراً ، وقال : والله إن
تقدمت إليه لضربت عنقك بهذا السيف.
ثم جلس اللعين على صدر الإمام ، فتقدمت
السيدة زينب إليه ، وجذبت السيف من يده.
وقالت : يا عدو الله! إرفق به لقد كسرت
صدره ، واثقلت ظهره ، فبالله عليك إلا ما أمهلته سويعةً لا تزود منه.
ويلك! أما علمت أن هذا الصدر تربى على صدر
رسول الله وصدر فاطمة الزهراء؟!
ويحك! هذا الذي ناغاه جبرئيل ، وهز مهده
ميكائيل!!
... دعني أودعه ، دعني أغمضه ، ... فلم
يعبأ اللعين بكلامها ، ولا رق قلبه عليها.
ويستفاد من بعض كتب المقاتل أن السيدة
زينب 3 لم تكن هناك
حين مجيء الشمر ، بل أسرعت إلى المخيم ، إمتثالاً لأمر الإمام الحسين 7 حيث أمرها بالرجوع إلى الخيام.
ووقعت الفاجعة العظمى والرزية الكبرى ،
ألا وهي : مقتل الإمام المظلوم أبي عبد الله الحسين 7.
فبدأت الأرض ترتجف تحت أرجل الناس ،
وانكسفت الشمس ، وأمطرت السماء دماً عبيطاً
وتراباً أحمر.
فاقبلت العقيلة زينب إلى مخيم الإمام
زين العابدين 7
وقالت : يا بن أخي : ما لي أرى الكون قد تغير؟ والشمس منكسفة؟ والأرض ترجف؟!
فقال لها : يا عمة : أنا عليل مريض لا
أستطيع النهوض إرفعي جانب الخيمة وسنديني إلى صدرك لا نظر ما الذي جرى!
فنظر إلى المعركة وإذا بفرس أبيه الحسين
يجول في الميدان خالي السرج وملقى العنان ، ورأي رمحاً عليه رأس الإمام الحسين!
فقال يا عمة : إجمعي العيال والأطفال ،
لقد قتل أبي
الحسين ، قتل أسد
الله الباسل ، قتل إبن سيد الأوصياء ، قتل إبن فاطمة الزهراء ، ثم غشي عليه وسقط
على الأرض مكبوباً على وجهه.
فأخذت السيدة زينب رأسه ووضعته في حجرها
ونادت :
إجلس تفديك عماتك.
إجلس تفديك أخواتك.
إجلس يا بقية السلف.
إجلس يا نعم الخلف.
وهو لا يجيب نداها ، ولا يسمع شكواها ،
فعند ذلك إنكبت عليه ومسحت التراب عن خديه ونادت : يا زين العباد ، يا مهجة الفؤاد
، ففتح عينيه ...
الفصل الحادي
عشر
الهجوم
على المخيمات لسلب النساء
إحراق
خيام الإمام الحسين 7
السيدة
زينب تجمع العيال والأطفال
ليلة
الوحشة
ترحيل
العائلة من كربلاء
نياحة
السيدة زينب على سيد الشهداء
الهجوم على المخيمات لسلب النساء
وبعد ما قتل الإمام الحسين 7 بمدة قصيرة .. هجم جيش الأعداء بكل
وحشية على خيام الإمام الحسين 7
، وهم على خيولهم!! حتى سحق سبعة من الأطفال تحت حوافر الخيل .. ساعة الهجوم
وقد سجل التاريخ أسماء خمسة منهم ، وهم :
بنتان للإمام الحسن المجتبى 7.
طفلان لعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب
، وإسمهما :
سعد وعقيل.
عاتكة بنت مسلم بن عقيل ، وكان عمرها
سبع سنوات.
محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب
وكان له من العمر سبع سنوات.
نعم ، لقد كان الهجوم على العائلة ـ
المفجوعة لتوها ـ بعيداً عن الرحمة والإنسانية ، وقد وصف التاريخ ذلك الهجوم بقوله
:
وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول ،
وقرة عين الزهراء البتول ، حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها!! .
وكانت المرأة تجاذب على إزارها وحجابها
.. حتى تغلب على ذلك.
وخرجن بنات آل الرسول وحريمه يتساعدن
على البكاء ، ويندبن لفراق الحماة والأحباء.
قال حميد بن مسلم : رأيت امرأة من بني
بكر بن وائل ـ كانت مع زوجها في عسكر عمر بن سعد ـ فلما رأت القوم قد اقتحموا على
نساء الإمام الحسين في خيامهن ، وهم يسلبونهن ، أخذت سيفاً وأقبلت نحو الخيام
وقالت :
« يا آل بكر بن وائل
اتسلب بنات رسول الله؟!
لا حكم إلا لله!!
يا لثارات رسول الله!! »
فأخذها زوجها ، وردها إلى رحله.
قالت فاطمة بنت الإمام الحسين 7 :
« كنت واقفة بباب الخيمة ، وأنا أنظر
إلى أبي وأصحابه
مجزرين كالأضاحي على
الرمال ، والخيول على أجسادهم تجول!!
وأنا أفكر فيما يقع علينا بعد أبي .. من
بني أمية!
أيقتلوننا أم يأسروننا؟
فإذا برجل على ظهر جواده ، يسوق النساء
بكعب رمحه ، وهن يلذن بعضهن ببعض ، وقد أخذ ما عليهن من أخمرة وأسورة
وهن يصحن : « وا جداه! وا أبتاه! وا علياه! وا قلة ناصراه! واحسيناه!
أما من مجير يجيرنا؟
أما من ذائد يذود عنا؟ »
قالت : فطار فؤادي ، وارتعدت فرائصي ،
فجعلت أجيل بطرفي يميناً
وشمالاً على عمتي أم كلثوم خشيةً منه أن يأتيني.
فبينا أنا على هذه الحالة وإذا به قد
قصدني ، ففررت منهزمة ، وأنا أظن أني أسلم منه!! وإذا به قد تبعني ، فذهلت خشيةً
منه ، وإذا بكعب الرمح بين كتفي ، فسقطت على وجهي
فخرم أذني ، وأخذ
قرطي ومقنعتي ، وترك الدماء تسيل على خدي ، ورأسي تصهره الشمس ، وولى راجعاً إلى
المخيم وأنا مغشي علي!!
وإذا بعمتي عندي تبكي ، وهي تقول :
قومي نمضي ، ما أعلم ما جرى على البنات
، وعلى أخيك العليل؟
فما رجعنا إلى الخيمة إلا وهي قد نهبت
وما فيها.
وأخي : علي بن الحسين مكبوب على وجهه ،
لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام ، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا!!
وروي عن السيدة زينب 3 أنها قالت : كنت ـ في ذلك الوقت ـ
واقفة في الخيمة إذ دخل رجل أزرق العينين
فأخذ ما كان في الخيمة ، ونظر إلى علي بن الحسين وهو على نطع من الأديم
وكان مريضاً فجذب النطع من تحته ، ورماه إلى الأرض!!
قال حميد بن مسلم : انتهيت إلى علي بن
الحسين ، وهو مريض ومنبسط على فراش ، إذ أقبل شمر بن ذي الجوشن ومعه جماعة من
الرجالة ، وهم يقولون [ له ] : ألا تقتل هذا العليل؟
فهم اللعين بقتله ، فقلت : سبحان الله!
أتقتل الصبيان؟! إنما هو صبي.
فلم يمتنع اللعين وسل سيفه ليقتله ،
فألقت زينب 3 بنفسها عليه
وقالت : والله لا يقتل حتى أقتل.
فأخذ عمر بن سعد بيده وقال : أما تستحي
من الله ، تريد أن تقتل هذا الغلام المريض؟!
فقال شمر : قد صدر أمر الأمير عبيد الله
بن زياد أن أقتل جميع أولاد الحسين.
فبالغ عمر في منعه ، فكف عنه.
إحراق خيام الإمام الحسين عليه السلام
ولما فرغ القوم من النهب والسلب ، أمر
عمر بن سعد بحرق الخيام.
فأضرموا الخيم ناراً ، ففررن بنات رسول
الله من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ..
وذكر في بعض كتب المقاتل : أن زينب
الكبرى 3 أقبلت إلى
الإمام زين العابدين 7
وقالت :
يا بقية الماضين وثمال الباقين!
قد أضرموا النار في مضاربنا فما رأيك
فينا؟
فقال 7
: عليكن بالفرار.
ففررن بنات رسول الله صائحات باكيات.
قال بعض من شهد ذلك :
رأيت امرأة جليلة واقفة بباب الخيمة ،
والنار تشتعل من جوانبها ، وهي تارةً تنظر يمنة ويسرة ، وتارةً أخرى تنظر إلى
السماء ، وتصفق بيديها ، وتارةً تدخل في تلك الخيمة وتخرج.
فأسرعت إليها وقلت : يا هذي! ما وقوفك
ها هنا والنار تشتعل من جوانبك؟! وهؤلاء النسوة قد فررن وتفرقن ، ولم لم تلحقي بهن؟!
وما شأنك؟!
فبكت وقالت : يا شيخ إن لنا عليلاً في
الخيمة ، وهو لا يتمكن من الجلوس والنهوض ، فكيف أفارقه وقد أحاطت النار به؟
وعن حميد بن مسلم قال : رأيت زينب ـ حين
إحراق الخيام ـ قد دخلت في وسط النار ، وخرجت وهي تسحب إنساناً من وسط لهيب النار
، فظننت أنها تسحب ميتاً قد احترق ، فاقتربت لأنظر إليه ، فإذا هو زين العابدين
علي بن الحسين.
أيها القارئ الكريم : أنظر إلى هذه
العملية الفدائية ، وهذه التضحية بالحياة!!
كيف تقتحم هذه السيدة الجليلة المكان
المشحون بلهيب النار ، لتنقذ ابن أخيها ـ ، وإن شئت فقل : إمام زمانها ـ من بين
أنياب الموت؟!
فهل تعرف نظيراً لهذه السيدة فيما قامت
به من الخطوات والأعمال؟!
إنها مغامرة بالحياة من أجل الدين.
إنها إبنة ذلك البطل العظيم الذي كان
يخوض غمار الموت ـ بين يدي رسول الله 6
ـ للدفاع عن الإسلام والمحافظة على حياة نبي الإسلام.
إنها إبنة أسد الله الغالب الإمام علي
بن أبي طالب 8.
السيدة زينب تجمع العيال والأطفال
لقد أوصى الإمام الحسين أخته السيدة
زينب بالمحافظة على العيال والأطفال بعد استشهاده 7
، ويعلم الله كم كان تنفيذ هذه الوصية أمراً صعباً ، وخاصةً بعد الهجوم الوحشي على
مخيمات الإمام الحسين 7
وعبد إحراق الخيام وتبعثر النساء والأطفال في الصحراء!
ففي ساعة الهجوم على الخيام كانت النساء
تلجأ إلى السيدة زينب ، وتخفي أنفسهن خلفها ، وكان الأطفال ـ أيضاً ـ يفزعون إليها
ويتسترون وراءها خوفاً من الضرب بالسياط والعصي ، فكانت السيدة زينب 3 تحافظ عليهم ـ كما يحافظ الطير على
فراخه حين هجوم الصقور على عشه ـ فتجعل جسمها مانعاً من ضرب النساء والأطفال ، وقد
إسود ظهرها ـ في مدة زمنية قصيرة ـ بسبب الضرب المتوالي على جسمها!
وبعد الهجوم والإحراق بدأت السيدة زينب
تتفقد النساء والأطفال ، وتنادي كل واحدة منهن باسمها ، وتعدهم واحدةً واحدة ،
وتبحث عمن لا تجده مع النساء والأطفال!
ونقرأ في بعض الكتب : أن السيدة زينب 3 لما بدأت بجمع العيال والأطفال ، لم
تجد طفلين منهم ، فذهبت تبحث عنهما هنا وهناك ، وأخيراً .. وجدتهما معتنقين نائمين
، فلما حركتهما فإذا هما قد ماتا من الخوف والعطش!!
ولما سمع العسكر بذلك قالوا لا بن سعد :
رخص لنا في سقي العيال ...
وذكر في بعض الكتب أن طفلين لعبد الرحمن
بن عقيل كانا مع الحسين ، إسمهما : سعد وعقيل ، وأنهما ماتا من شدة العطش ومن
الدهشة والذعر ، بعد مقتل الإمام الحسين 7
وهجوم الأعداء على المخيم للسلب. وأمهما : خديجة بنت الإمام علي بن أبي طالب 7.
ليلة الوحشة
باتت العائلة المفجوعة ليلة الحادية
عشرة من المحرم بحالة لا يستطيع أي قلم شرحها ووصفها ، ولا يستطيع اي مصور أن يصور
جانباً واحداً من جوانب تلك الليلة الرهيبة.
قبل أربع وعشرين ساعة من تلك الليلة
باتت العائلة المكرمة وهي تملك كل شيء ، وهذه الليلة أظلمت عليها وهي لا تملك
شيئاً.
رجالها صرعى مرملون بدمائهم ، وأطفالها
مذبحون ، والأموال قد نهبت ، والأزر والمقانع سلبت ، والظهور والمتون قد سودتها
السياط وكعاب الرماح.
ليس لهم طعام حتى يقدموه إلى من تبقى من
الأطفال ، ولا تسأل عن المراضع اللواتي جف اللبن في صدورهن جوعاً وعطشاً.
واستولت على العائلة ـ وخاصةً الأطفال ـ
حالة الفواق ، وهي
حالة تشنج تحصل
للإنسان حينما يبكي كثيراً ، فتتشنج الرئة ، ويخرج النفس متقطعاً.
يا للفاجعة ، يا للمأساة ، يا للمصائب.
لا غطاء ، ولا فراش ، ولا ضياء ، ولا
أثاث ، ولا طعام.
قد أحدقت السيدات بالإمام زين العابدين 7 وهو بقية الماضين ، وثمال الباقين ،
وهن يتفكرن بما خبأ لهن الغد من أولئك السفاكين.
فالفاجعة لم تنته بعد ، والظلم ـ بجميع
أنواعه ـ بالنتظار آل رسول الله الطيبين الطاهرين ، والحوادث المؤلمة سوف تمتد إلى
غد وما بعد غد ، وإلى أيام وشهور ، مما لا بالبال ولا بالخاطر.
وسوف تبدأ رحلة طويلة مليئة بالآلام
والأهات والدموع.
وحكي أن السيدة زينب 3 تفقدت العائلة في ساعة من ساعات تلك
الليلة ، وإذا بالسيدة الرباب لا توجد مع النساء ، فخرجت السيدة زينب ومعها أم
كلثوم ، وهما تناديان : يا رباب .. يا رباب.
فسمعها رجل كان موكلاً بحراسة العائلة ،
فسألها ماذا تريدين؟!
فقالت السيدة زينب : إن إمرأةً منا
مفقودة ولا توجد مع النساء.
فقال الرجل : نعم ، قبل ساعة رأيت امرأة
منكم إنحدرت نحو المعركة!
فأقبلت السيدة زينب حتى وصلت إلى
المعركة ، وإذا بها ترى الرباب جالسة عند جسد زوجها الإمام الحسين 7 وهي تبكي عليه بكاءً شديداً وتنوح ،
وتقول في نياحتها :
وا حسيناه وأين مني حسين
|
|
أقصـدته أسنة الأدعيـاء
|
غادروه فـي كربلاء قتيلاً
|
|
لا سقى الله جانبي كربلاء
|
فأخذت السيدة زينب 3 بيدها وأرجعتها معها إلى حيث النساء
والأطفال.
وفي هذا الجو المتوتر ، والوضع المقرح
للفؤاد ، يقول الإمام زين العابدين 7
: « فتحت عيني ليلة الحادية عشر من المحرم ، وإذا أنا أرى عمتي زينب تصلي نافلة
الليل وهي جالسة ، فقلت لها : يا عمة أتصلين وأنت جالسة »؟
قالت : نعم يابن أخي ، والله إن رجلي لا
تحملني!!
ترحيل العائلة من كربلاء
لقد جاءوا بالنياق المهزولة لترحيل آل
رسول الله ، فلا غطاء ولا وطاء!!
آل رسول الله ، أشرف أسرة وأطهرها
وأتقاها على وجه الأرض ، وكأنهن سبايا الكفار والمشركين!!
لقد كان تعامل الأعداء معهن في منتهى
القساوة والفظاظة وكأنهم يحاولون الإنتقام منهن ، ويطلبون بثارات بدر وحنين!
وهل أستطيع أن أكتب ـ هنا ـ شيئاً من
مواقف بني أمية تجاه آل رسول الله؟!
والله .. إنها وصمة خزي وعار لا تمحى
ولا تزول بمرور القرون.
لقد وصموا بها جبهة التاريخ الإسلامي
النزيه المشرق الوضاء.
عن كتاب ( أسرار الشهادة ) للدربندي :
ثم أمر عمر بن سعد بأن تحمل النساء على الأقتاب
، بلا وطاء ولا حجاب ، فقدمت النياق إلى حرم رسول الله 6 وقد أحاط القوم بهن ، وقيل لهن :
تعالين واركبن ، فقد أمر إبن سعد بالرحيل.
فلما نظرت زينب 3 إلى ذلك نادت وقالت : سود الله وجهك يا
بن سعد في الدنيا والآخرة! تأمر هؤلاء القوم بأن يركبونا ونحن ودائع رسول الله؟!
فقل لهم : يتباعدوا عنا ، يركب بعضنا
بعضاً.
فتنحوا عنهن ، فتقدمت السيدة زينب ،
ومعها السيدة أم كلثوم ، وجعلت تنادي كل واحدة من النساء باسمها وتركبها على
المحمل ، حتى لم يبق أحد سوى زينب 3!
فنظرت يميناً وشمالاً ، فلم تر أحداً
سوى الإمام زين العابدين وهو مريض ، فأتت إليه وقالت :
قم يابن أخي واركب الناقة.
قال : يا عمتاه! إركبي أنت ، ودعيني أنا
وهؤلاء القوم.
فالتفتت يميناً وشمالاً ، فلم تر إلا
أجساداً على الرمال ، ورؤوساً على الأسنة بأيدي الرجال
، فصرخت وقالت :
واغربتاه! وا أخاه! وا حسيناه! وا
عباساه! وا رجالاه! وا ضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله ...
فأقبلت فضة وأركبتها ..
نياحة السيدة زينب على سيد الشهداء
وفي يوم الحادي عشر من المحرم .. لما
أراد الأعداء أن يرحلوا بقافلة نساء آل رسول الله من كربلاء إلى الكوفة ، مروا بهن
على مصارع القتلى ـ وهم جثث مرملة ومطروحة على التراب ـ فلما نظرت النسوة إلى تلك
الجثث صحن وبكين ولطمن خدودهن. وأما السيدة زينب الكبرى 3 فقد كانت تلك الساعة من أصعب الساعات
على قلبها ، وخاصةً حينما نظرت إلى جثة أخيها العزيز الإمام الحسين وهو مطروح على
الأرض بلا دفن ، وبتلك الكيفية المقرحة للقلب!!
يعلم الله تعالى مدى الحزن الشديد
والألم النفسي الذي خيم على قلب السيدة زينب وهي ترى أعز أهل العالم ، وأشرف من
على وجه الأرض بحالة يعجز القلم واللسان عن وصفها.
فقد مد أولئك الذئاب المفترسة ( الذين
لا يستحقون إطلاق إسم
البشر عليهم ، فكيف
باسم الإنسان ، وكيف باسم المسلم ) أيديهم الخبيثة إلى جسد أطهر إنسان على وجه
الكرة الأرضية آنذاك. وأرقوا دماءً كانت جزءاً من دم الرسول الأقدس ، وقطعوا نحراً
قبله رسول الله 6
مئات المرات ، وعفروا خداً طالما إلتصق بخد الرسول الأطهر ، ورضوا وسحقوا جسداً
كان يحمل على أكتاف الرسول الأعظم ، وكان محله في حجر الرسول ، وعلى صدره وظهره.
لقد كان الرسول الكريم يحافظ على ذلك
الجسم العزيز ، حتى من النسيم والمطر .. فكيف من غيره؟
نعم ، إن المجرمين الجناة كانوا في سكرة
موت الضمير ، وفقدان الوعي والإدراك للمفاهيم ، فانقلبوا إلى سباع ضارية ، وذئاب
مفترسة ، ووحوش كاسرة ، لا تفهم معنى العاطفة والشرف والفضيلة ، ولا تدرك إلا
هواها الشيطاني.
فصنعت ما صنعت بذلك الإمام ، المتكامل
شرفاً وعظمة ، وجعلت جسمه هدفاً لسيوفها ورماحها وسهامها ، وميداناً لخيولها ، وهم
يحاولون أن لا يتركوا منه أثراً يرى ، ولا أعضاء فتوارى.
كان هذا المنظر والمظهر المشجي ، المقرح
للقلب ، الموجع للروح بمرأى من السيدة زينب الكبرى.
فهي ترى نفسها بجوار جثمان إمامها ،
وإمام العالم كله ، وسيد شباب أهل الجنة ، فلا عجب إذا اختضنته تارةً وألقت
نفسها عليه تارةً
أخرى.
تبكي عليه بدموع منهمرة متواصلة ،
وتندبه من أعماق نفسها ، ندبةً تكاد روحها تخرج مع زفراتها وآهاتها!
تندبه بكلمات منبعثة من أطهر قلب ،
خالية عن كل رياء وتصنع ، وكل كلمة منها تعتبر إعلاناً عن حدوث أكبر فاجعة ، وأوجع
مصيبة.
إنها سجلت تلك الكلمات على صفحات
التاريخ لتكون خالدةً بخلود الأبد ، تقرؤها الأجيال قرناً بعد قرن ، وأمةً بعد أمة
، كي تستلهم منها الدروس والعبر ... ولكي تبقى المدرسة الزينبية خالدةً بخلود كل
المفاهيم العالية والأصول الإنسانية.
نعم ، كلمات تقرع الأسماع اليقظة كصوت
الرعد ، فتضطرب منها القلوب وتتوتر منها الأعصاب ، وتسخن الغدد الدمعية المنصوبة
على قمة العينين ، فلا تستطيع الغدد حبس الدموع ومنعها عن الخروج والهطول.
وتضيق الصدور فلا تستطيع كبت الآهات ،
والنحيب والزفير.
أجل .. إنها معجزة وأية معجزة ، صدرت من
سيدة قبل أربعة عشر قرناً ، أراد الله تعالى لها البقاء ، لتكون تلك المعجزة غضة ،
وكأنها حادثة اليوم وحدث الساعة.
أجل ...
كان المفروض أن تفقد السيدة زينب الكبرى
وعيها ، وتنهار أعصابها ، وتنسى كل شيء حتى نفسها ، وتتعطل ذاكرتها أمام جبال
المصائب والفجائع ، والهموم والأحزان.
نعم ، هكذا كان المفروض ، ولكن إيمانها
الراسخ العجيب بالله تعالى ، وقلبها المطمئن بذكر الله ( عزوجل ) كان هو الحاجز عن
صدور كل ما ينافي الوقار والإتزان ، والخروج عن الحالة الطبيعية.
وليس معنى ذلك السكوت الذي يساوي عدم
الإهتمام بتلك الفاجعة أو عدم المبالاة بما جرى ، بل لا بد من إيقاظ الشعور العام
بتلك الجناية العظمى ، التي صدرت من أرجس عصابة على وجه الأرض.
فلا عجب إذا هاجت أحزانها هيجان البحار
المتلاطمة الأمواج ، وتفايض قلبها الكبير .. بالعواطف والمحبة ، وجعلت تندب أخاها
بكلمات في ذروة الفصاحة والبلاغة ، وتعتبر أبلغ كلمات سجلها التاريخ في الرثاء
والتأبين ، وفي مقام التوجع والتفجع.
قال الراوي : فوالله لا أنسى زينب بنت
علي وهي تندب أخاها
الحسين بصوت حزين
وقلب كئيب :
« يا محمداه ، صلى عليك مليك السماء ،
هذا حسين مرمل بالدماء ، مقطع الأعضاء ، مسلوب العمامة والرداء ، محزوز الرأس من
القفا. ونحن بناتك سبايا.
إلى الله المشتكى ، وإلى محمد المصطفى ،
وإلى علي المرتضى ، وإلى فاطمة الزهراء ، وإلى حمزة سيد الشهداء.
يا محمداه! هذا حسين بالعراء
، تسفي عليه ريح الصباء ، قتيل أولاد البغايا.
واحزناه! واكرباه عليك يا أبا عبد الله.
بأبي من لا هو غائب فيرتجي ، ولا جريح
فيداوى.
بأبي المهموم حتى قضى.
بأبي العطشان حتى مضى ... »
فأبكت ـ والله ـ كل عدو وصديق.
واعتنقت زينب جثمان أخيها ، ووضعت فمها
على نحره وهي تقبله وتقول :
« أخي لو خيرت بين المقام عندك أو
الرحيل لاخترت
المقام عندك ، ولو
أن السباع تأكل من لحمي.
يابن أمي! لقد كللت عن المدافعة لهؤلاء
النساء والأطفال ، وهذا متني قد أسود من الضرب!! .
الفصل الثاني
عشر
مدينة
الكوفة
قافلة
آل الرسول تصل الكوفة
مدينة الكوفة
لقد كانت الكوفة : مدينة موالية للإمام
أمير المؤمنين 7
وكان أهلها ـ رجالاً ونساءً ـ قد تطبعوا بأحسن الإنطباعات في ظل حكومة الإمام علي
بن أبي طالب 7 بسبب
المناهج الصحيحة التي انتهجها الإمام لتربية وإدارة شعبه.
وكانت لدى أهل الكوفة أحسن الإنطباعات
عن الإمام ، نظراً لسيرته الشخصية والإجتماعية والحكومية ، وأسلوب تعامله مع أفراد
الشعب إبان حكومته عليهم ، فعواطفه التي شملت جميع طبقات الشعب ، وتوفير لوازم
الحياة لهم ، ومواساته معهم في السراء والضراء ، وعدله الواسع الشامل وعطاياه
السنية ، وسخاؤه وكرمه ، وعلمه الجم ، وغير ذلك من الفضائل التي تركت إنعكاساتها
الإيجابية في نفوس أهل الكوفة ، وأثرت فيهم أحسن الأثر.
كل هذه الأمور .. جعلت الطابع العام
الغالب على الكوفة : هو الولاء والمحبة لآل رسول الله 6.
ومن الطبيعي أن كل عصر ومصر لا يخلو من
الأشرار والسفلة ، حتى المدينة المنورة ـ في عهدها الزاهر .. في عصر الرسول الكريم
ـ كانت تحتوي على عناصر المنافقين وغيرهم.
وهنا سؤال يقول : إذا كانت مدينة الكوفة
موالية للإمام .. فكيف صدرت من أهلها تلك المواقف المخزية تجاه الإمام الحسين 7؟!
إن الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى
مزيد من الشرح والتفصيل ، وهو خارج عن أسلوب الكتاب ، ولكننا نذكر ـ الآن ـ ،
مثالاً توضيحياً لهذا البحث ونترك دراسة الموضوع إلى فرصة أخرى :
قد تحدث في فرد من الناس أو شعب من
الشعوب حالة شاذة ، غير طبيعية ، تشبه حالة السكر وفقدان الوعي ، فإذا زالت آثار
السكر .. عاد الوعي ، ثم الحالة الطبيعية ، ثم الندم!
وفعلاً .. ترى ذلك الفرد ـ أو الشعب ـ
يتعجب من تصرفاته الشاذة خلال حالة سكره ، بل ويتعجب منه عقلاء العالم!
ومن الثابت أن العقلاء لا يقبلون أي عذر
من ذلك الفرد أو الشعب الذي مر بتلك الحالة الشاذة ، لأن العقل والدين يفرضان على
الإنسان أن يوفر في نفسه وقلبه وذهنه خلفية علمية ومناعة دينية وإيمانية تبعده عن
هذا النوع من الحالات الشاذة ، وتحفظه من السقوط في هكذا منعطفات مصيرية محتملة.
وذلك يحصل بتقوية الإيمان بالله تعالى
وبيوم القيامة .. في قلب الإنسان ، ثم الإستمرار في شحن النفس بالطاقة الإيمانية
التي تقوم بدور مهم في إبعاد الإنسان عن مراكز وصالات وأجواء الإنحراف العقائدي
والسلوكي ، وتحميه من السقوط في مهاوي جهنم.
أجل ..
لقد كانت مدينة الكوفة ـ قبل عشرين سنة
من تاريخ فاجعة كربلاء ـ : عاصمةً للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7 ومركزاً لحكومته ، ومقراً لقيادته.
وكانت السيدة زينب ـ حينذاك ـ في أوج العظمة
والجلالة ، وكانت سيدات الكوفة يتمنين الحضور عندها ، وإذا كانت السيدة زينب تنظر
إلى إحداهن نظرة ، أو تتكلم معها كلمة ، لكان قلبها يمتلئ فرحاً وسروراً ، وتشعر
بالشرف والفخر ، لأن إبنة أمير المؤمنين نظرت إليها أو تكلمت معها!!
ولكن اليوم .. وبعد حوالي عشرين سنة ،
تغيرت الأوضاع عما كانت عليه قبل ذلك!! وأخذت الكوفة طابعاً شاذاً يختلف عما مضى ،
فقد إنقلبت إلى جو من الإرهاب والإرعاب ، وانتشر الآلاف من الشرطة والجواسيس ، وهم
في حالة التأهب والإستعداد ، خوفاً من هياج الناس ، وخنقاً لكل صوت يرتفع ذد
السلطة.
هذا .. ويضاف إلى ذلك : أن المئات ـ أو
الآلاف ـ من الموالين للإمام أمير المؤمنين 7
كان الطاغية ابن زياد قد سجنهم كي لا يلتحقوا بأصحاب الإمام الحسين في كربلاء.
وهناك من أخفى نفسه في البيوت كي لا
يتعرض للقتل من قبل السلطة حيث لم يستطع الإلتحاق بالإمام بسبب الأعداد الهائلة من
الشرطة التي كانت السلطة قد نشرتهم في جميع نواحي وبوابات مدينة الكوفة.
وعدا من التحق بالإمام الحسين في كربلاء
ـ من أهل الكوفة ـ ونصروه ، وقتلوا في سبيل الدفاع عنه ، ويبلغ عددهم أكثر من
عشرين رجل ، مذكورة أسماؤهم في الكتب المفصلة التي تتحدث عن فاجعة كربلاء الدامية.
قافلة آل الرسول تصل الكوفة
وذكر الطريحي في كتاب ( المنتخب ) عن
مسلم الجصاص قال :
دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة
بالكوفة ، فبينما أنا أجصص الأبواب ، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة
، فأقبلت على خادم كان يعمل معنا ، فقلت : ما لي أرى الكوفة تضج؟
قال : الساعة أتوا برأس خارجي خرج على
يزيد بن معاوية.
فقلت : من هذا الخارجي؟
قال : الحسين بن علي!
فتركت الخادم حتى خرج ، ولطمت على وجهي
، حتى
خشيت على عيني أن
تذهبا ، وغسلت يدي من الجص ، وخرجت من ظهر القصر ، وأتيت إلى الكناس
فبينا أنا واقف ، والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبلت نحو أربعين شقة ،
تحمل على أربعين جملاً ، فيها الحرم
والنساء وأولاد فاطمة.
وإذا بعلي بن الحسين على بعير بغير وطاء
، وأوداجه تشخب دماً ، وهو مع ذلك يبكي ويقول :
يا أمة السوء لا سقياً لربعكم
|
|
يـا أمة لـم تراع جدنـا فينا
|
إلى آخر الأبيات.
وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين
على المحامل بعض التمر والخبز والجوز ، فصاحت بهم أم كلثوم :
يا أهل الكوفة! إن الصدقة علينا حرام!
وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال
وأفواههم ، وترمي به إلى الأرض.
كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم!!
ثم إن أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل
وقالت :
« صه يا أهل الكوفة! تقتلنا رجالكم ،
وتبكينا نساؤكم؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله ، يوم فصل القضاء ».
فبينما هي تخاطبهن ، وإذا بضجة قد
ارتفعت ، وإذا هم قد أتوا بالرؤوس ، يقدمهم رأس الحسين 7 وهو رأس زهري ، قمري
، أشبه الخلق برسول الله 6
ولحيته كسواد السبج ـ قد انتصل
منها الخضاب ، ووجهه
دارة قمر طالع ـ والريح
تلعب بها
يميناً وشمالاً ،
فالتفتت زينب ، فرأت رأس أخيها ، فنطحت جبينها بمقدم المحمل ، حتى رأينا الدم يخرج
من تحت قناعها ، وأومأت إليه بخرقة ، وجعلت تقول :
يـا هـلالاً لمـا استتـم كمالاً
|
|
غالـه خسفه فأبـدى غروبا
|
ما توهمت يـا شقيق فـؤادي
|
|
كـان هذا مقـدراً مكتوبـاً
|
يا أخي! فاطم الصغيرة كلمها
|
|
فقـد كـاد قلبهـا أن يذوبا
|
إلى آخر الأبيات .
وجاء في التاريخ : أن قافلة آل الرسول
لما اقتربت من الكوفة ، إجتمع أهلها للنظر إليهن ، فأشرفت إمرأة من الكوفيات ـ من
سطح دارها ـ وقالت : من أي الأسارى أنتن؟
قلن : نحن أسارى آل محمد!
فنزلت من سطحها وجمعت ملاءاً وأزراً
ومقانع ، فاعطتهن فتغطين.
الفصل الثالث
عشر
خطبة
السيدة زينب في الكوفة
نص
خطبة السيدة زينب في الكوفة
شرح
خطبة السيدة زينب في الكوفة
كيف
ولماذا قطعوا على السيدة زينب خطابها
نص
خطبة السيدة زينب برواية أخرى
خطبة السيدة زينب في الكوفة
تعتبر خطبة السيدة زينب ـ في الكوفة وفي
مجلس يزيد في الشام ـ في ذروة الفصاحة ، وقمة البلاغة ، وآيةً في قوة البيان ،
ومعجزة في قوة القلب والأعصاب ، وعدم الوهن والانكسار أمام طاغية بني أمية ومن كان
يحيط به من الحرس المسلحين ، والجلاوزة والجلادين الذين كانوا على أهبة الإستعداد
ينتظرون الأوامر كي ينفذوها بأسرع ما يمكن من الوقت.
وهنا سؤال قد يتبادر إلى الذهن وهو :
إن السيدة زينب كانت سيدة المحجبات
المخدرات ، ولم يسبق لها أن خطبت في مجلس رجال أو معجم عام ، وليس من السهل عليها
أن ترفع صوتها وتخطب في تلك الأجتماعات ، فلماذا قامت السيدة بإلقاء الخطب على
مسامع الجماهير مع تواجد الإمام زين العابدين 7؟
ومع العلم أن الإمام زين العابدين كان
أقوى وأقدر منها على فنون الخطابة ، وأولى من التحدث في جموع الرجال؟
لعل الجواب هو : أن الضرورة أو الحكمة
إقتضت أن يسكت الإمام زين العابدين طيلة هذه المسيرة كي لا يجلب إنتباه الناس إلى
قدرته على الكلام ، وحتى يستطيع أن يصب جام غضبه كله على يزيد ، في الجامع الأموي
، بمرأى ومسمع من آلاف المصلين الذين حضروا يومذاك لأداء صلاة الجمعة خلف يزيد.
فلو كان الإمام زين العابدين 7 يخطب في أثناء هذه الرحلة .. في الكوفة
وغيرها ، فلعله لم وين يكن يسمح له بالخطابة في أي مكان آخر ، فكانت تفوته الفرصة
الثمينة القيمة ، وهي فرصة التحدث في تلك الجماهير المتجمهرة في الجامع الأموي ،
علماً بأنه لم يبق من آل الرسول في تلك العائلة رجل سوى الإمام زين العابدين.
ولهذا السبب كانت السيدة زينب تتولى
الخطابة في المواطن والأماكن التي تراها مناسبة.
وليس معنى ذلك أنها فتحت الطريق أمام
النساء ليخطبن في جموع الرجال ، أو المجتمعات العامة كالأسواق والساحات وغيرها ،
بل إن الضروري القصوى كانت وراء خطبتها 3.
هذا أولاً.
ثانياً : لقد كانت حياة الإمام زين
العابدين 7 مهددة
بالخطر طوال هذه الرحلة ـ وخاصة في الكوفة ـ فكم من مرة
حكموا على الإمام
بالقتل والإعدام ، لولا أن دفع الله تعالى عنه شرهم؟!
فما ظنك لو كان الإمام 7 يخطب في شارع الكوفة أو في مجلس الدعي
بن الدعي عبيد الله بن زياد ، والحال هذه؟!
هل كان يسلم من القتل؟
طبعاً : لا.
إنهم أرادوا أن يقتلوه وهو ـ بعد ـ لم
يخطب شيئاً ، فكيف لو كان يخطب في الناس ويكشف لهم عن مساوئ بني أمية ومخازيهم ،
ويبين لهم أبعاد ومضاعفات جريمة مقتل الإمام الحسين 7
وأصحابه وأهل بيته؟؟!
* * * *
نص خطبة السيدة زينب في الكوفة
والآن .. نذكر نص الخطبة ، ثم نشرح بعض
كلماتها :
قال بشير بن خزيم الأسدي
:
ونظرت إلى زينب بنت علي 7 يومئذ فلم أر خفرةً ـ والله ـ أنطق
منها
، كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا.
فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأجراس ، ثم
قالت :
« الحمد لله والصلاة على أبي : محمد
وآله الطيبين الأخيار.
أما بعد :
يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر!!
أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت
الرنة.
إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد
قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم.
ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف؟ والصدر
الشنف؟ وملق الإماء؟ وغمز الأعداء؟
أو كمرعى على دمنة؟ أو كفضة على ملحودة؟
ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله
عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون؟ وتنتحبون؟
إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا
قليلاً.
فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن
ترحضوها بغسل بعدها أبداً.
وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة؟
ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهلا الجنة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ،
ومنار حجتكم ، ومدرة
سنتكم؟؟
ألا ساء ما تزرون ، وبعداً لكم وسحقاً ،
فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم
الذلة والمسكنة.
وَيلكم يا أهل الكوفة!
أتدرون أيّ كبدٍ لرسولا لله فَرَيتُم؟!
وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟!
وأي دم له سفكتم؟!
وأيّ حرمةٍ له هتكتم؟!
لقد جئتم بها صَلعاء عَنقاء سَوداء
فَقماء ، خَرقاء شَوهاء ، كطِلاع الأرض وملء السماء.
أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب
الآخرة أخزى ، وأنتم لا تُنصَرون.
فلا يَستَخفّنكم المُهَل ، فإنّه لا
يَحفِزُه البِدار ، ولا يَخافُ فَوتَ الثار ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد ».
قال الراوي : « فوالله لقد رأيت الناس ـ
يومئذ ـ حَيارى
يبكون ، وقد وضعوا
أيديهم في أفواههم. ورأيت شيخاًَ واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول
: « بأبي أنتم وأمي!! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير
النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى ».
شرح خطبة السيدة زينب
في الكوفة
قبل أن أبدأ بشرح بعض كلمات الخطبة أجلب
إنتباه القارئ الذكي إلى بعض ما يرويه الراوي لهذه الخطبة ، وهو قوله :
«
فلم أر خفرة ـ والله ـ أنطق منها »
يقال : خفرت الجارية : إذا استحت أشد
الحياء ، فهي خفرة. ومن الطبيعي أن المرأة الخفرة يمنعها حياؤها من أن ترفع صوتها
، أو تخطب في مكان مزدحم ، فمن الواضح أنها إذا لم تمارس الخطابة لا تقوى على
النطق والتكلم كما ينبغي ، ولكن راوي هذه الخطبة يقول : « فلم أر خفرة ـ والله ـ
أنطق منها » أي : لم أر أقوى منها على التكلم ، وأقدر على الخطابة ، رغم كونها
شديدة الحياء.
«
كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب »
إن الإمام أمير المؤمنين 7 هو إمام الخطباء والبلغاء والمتكلمين ،
وقد كان له أسلوب خاص ، ومستوى رفيع في كلامه وخطبه ، يمتاز عن كلام غيره ، وفي
أعلى قمة الفصاحة والبلاغة ، وجودة التعبير ، وعلو المستوى الأدبي والعلمي.
فمن ناحية : كان يسترسل في كلام .. دون
أي توقف أو شرود ذهني ، وكان ينطق بالحروف .. دون أي تلكؤ في التلفظ ، فقد كان في
غاية التمكن من الكلام والخطابة.
ومن ناحية أخرى : كانت الكلمات الأدبية
الرفيعة منقادة له بشكل عجيب ، فهي تنبع من لسانه نبعاً طبيعياً .. دون أي تكلف أو
تحضير مسبق ، وكان لصوته نبرة معينة.
وراوي هذه الخطبة كان ممن رأى الإمام
أمير المؤمنين 7
وسمع كلامه ، وها هو الآن .. يستمع إلى كلام السيدة زينب 3 وبالمقارنة بين الكلامين يظهر له أن
خطبة السيدة زينب صورة طبق الأصل لكلام أبيها ، من ناحية الأسلوب والبيان والمستوى
وغير ذلك.
«
وقد أومات إلى الناس أن اسكتوا ، فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأجراس ».
في ذلك المجتمع المتدفق بالسيل البشري ،
وفي ذلك الجو المملوء بالهتافات والأصوات المرتفعة من الناس ، وأصوات الأجراس
المعلقة في أعناق الإبل.
في بلدة إنتشر في جميع طرقها الآلاف من
الشرطة كي يخنقوا كل صوت يرتفع ضد السلطة ، ويراقبوا حركات الناس وسكناتهم بكل دقة
، ويقضوا على كل إنتفاضة متوقعة.
في هذه الظروف وصل موكب آل رسول الله
إلى الكوفة ، محاطاً بالحرس ، عملاء بني أمية ، وشر طبقات البشر ، وأرجس جميع
الأمم.
في تلك الأجواء والظروف أشارت السيدة
زينب الكبرى 3 إلى الناس
أن اسكتوا. فتصرفت في الانسان والحيوان والجماد. إحتبست الانفاس في صدور الناس ،
ووقفت الإبل وسكنت عن الحركة ، وسكنت الأجراس المعلقة فوق الإبل.
نعم ، بإشارة واحدة ، وبتلك الروح
القوية ، والنفس المطمئنة استولت على الموقف.
فقالت :
«
الحمد الله ، والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار »
افتتحت كلامها بحمد الله ، ثم الصلاة
على أبيها ، رسول الله 6
وهذا منتهى البلاغة ، فإنها ـ بهذا الإفتتاح ـ عرّفت نفسها ـ لتلك الجماهير
المتجمهرة ـ بأنها بنت رسول الله ، فالحفيدة تعتبر بنتاً ، كما إن الجد يعتبر أباً
، ولهذا قالت : الصلاة على أبي : محمد 6
ومما يستفاد من هذا التعبير هو التأكيد
على مسألة مهمة جداً وهي مسألة بنوّة أولاد السيدة فاطمة لرسول الله 6 كما هو صرح آية المباهلة في قوله تعالى
« قل تعالوا
ندع أبناءنا وأبناءكم ... »
وقد كان أئمة أهل البيت : يؤكدون على هذه النقطة ، كما أن
أعداءهم النواصب كانوا يحاولون ـ دائماً ـ التشكيك والمناقشة فيها ، وقد ذكرنا
كلمة موجزة حول هذه النقطة في كتابنا : فاطمة الزهراء 3 من المهد إلى اللحد.
«
أما بعد ، يا أهل الكوفة! يا أهل الختل والغدر
»
الختل : الغدر
، وقال البعض : هو الخدعة عن غفلة .
وفي نسخة : « والختر » : وهو شبه الغدر
، لكنه أقبح أنواع الغدر .
لقد كانت لهذه الكلمات أشد الأثر في
نفوس أهل الكوفة ، فإنها قد أوجدت فيهم اليقظة والوعي بصورة عجيبة ، حتى شعروا أن
ضمائرهم بدأت تؤنبهم ، وان وجدانهم صار يوبخهم على جرائمهم الفجيعة وجناياتهم
العظيمة.
فقد ذكرتهم كلمات السيدة زينب 3 بماضيهم المخزي وتاريخهم الأسود ، حيث
صدر منهم الغدر مرات عديدة ، فمنها :
١ ـ في يوم صفين عند تحكيم الحكمين ،
غدر أهل الكوفة بالإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب 7
الذي كان الحق يتجسد
فيه بأكمل وجه ، وخذلوه بتلك الكيفية المؤلمة!
٢ ـ وحينما قتل الإمام أمير المؤمنين
تهافت أهل الكوفة على مبايعة إبنه الإمام الحسن المجتبى 7. وعندما خرج معاوية لحرب الإمام الحسن
، خذله أهل الكوفة وقعدوا عن نصرته غدراً منهم ، فخلا الجو لمعاوية وفعل ما فعل ،
وضرب الرقم القياسي في الجريمة واللؤم!
٣ ـ وبعد موت معاوية أرسل أهل الكوفة
إثني عشر ألف رسالة إلى الإمام الحسين 7
أيام إقامته في مكة ، يطلبون منه التوجه إلى العراق لينقذهم من الإستعمار الأموي
الغاشم. وضمنوا رسائلهم الأيمان المغلظة ، والعهود المؤكدة .. لنصرة الإمام
والدفاع عنه بأموالهم وأنفسهم.
فبعث إليهم سفيره مسلم بن عقيل ، فبايعه
الآلأاف من أهل الكوفة ، ثم تفرقوا عنه وغدروا به ، وفسحوا المجال للدعي بن الدعي
: عبيد الله بن زياد أن يلقي القبض على مسلم بن عقيل ويقتله ، واجتمع أطفال الكوفة
وشدوا حبلاً برجل مسلم ، وجعلوا يسحبون جثمانه الطاهر في أسواق الكوفة .. بمرأى من
الناس!!!
٤ ـ وحينما لبى الإمام الحسين 7 رسائل أهل الكوفة وجاء إلى العراق ،
ووصل إلى أرض كربلاء ، ومعه عائلته والصفوة الطيبة من رجال أهل بيته ، خرج أهل
الكوفة ، وقتلوا جميع من كان مع الإمام ، وأخيراً .. قتلوا الإمام الحسين عطشاناً
وبتلك الكيفية المقرحة للقلوب ، ثم أحرقوا خيام الإمام ، وأسروا عائلته ونساءه
وأطفاله ، وقطعوا الرؤوس من الأبدان ورفعوها على رؤوس الرماح ، وجاءوا بها من
كربلاء إلى الكوفة.
هذا هو الملف الأسود ، المليء بالغدر
والخيانة.
فحينما نظرت السيدة زينب 3 إلى دموع أهل الكوفة ، وسمعت أصوات
بكائهم لم تنخدع بهذه المظاهر الجوفاء ، بل وجهت خطابها إلى جميع الحاضرين هناك ،
ولعلها كانت تقصد بكلامها الذين إشتركوا في جريمة فاجعة كربلاء .. بشكل أو بآخر ،
ولم تقصد كل من كان حاضراً وسامعاً لخطابها:
«
أتبكون؟! »
إعتبرت السيدة زينب 3 بكاءهم ـ لدى المقايسة مع ما قاموا به
من الجرائم ـ نوعاً من النفاق والتلون المشين ، فإن رجالهم الذين باشروا الجريمة ـ
وهي مجزرة كربلاء الدامية ـ ونساءهم هن اللواتي قمن بتربية
أولئك الرجال .. على
الغدر ، وهاهم يبكون!!
يبكون وهم يشاهدون تلك الرؤوس المقدسة
على رؤوس الرماح ، ويشاهدون حفيدات الرسالة وبنات الإمامة على النياق .. بتلك
الحالة المقرحة للقلوب!
من الطبيعي أن يبكي كل من يشاهد هذه
المشاهد ، ولكن ..
ما هي فائدة هذا البكاء؟!
ولماذا عدم القيام بتغيير أنفسهم؟!
لماذا عدم بناء نفوسهم ونفسياتهم؟!
لماذا عـدم الهجوم على مـن أصدر الأوامر
وهـو الطاغية ابن زياد وحاشيته الفاسدة؟!
إن الحاكم الطاغي لا يستطيع الظلم
والتعدي إلا مع وجود الأرضية المساعدة والأجواء الملائمة للظلم والطغيان. والناس ـ
بنفاقهم وخذلانهم لآل الرسول الكريم ـ هم الذين مهدوا للظالمين القيام بتلك
الفاجعة المروعة!
وهذا درس لكل مجتمع يؤمن بالله واليوم
الآخر ، ويريد أن يعيش في ظل حكومة عادلة.
«
فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة ».
رقأت الدمعة : سكنت
أو إنقطعت بعد جريانها وجفت. الرنة : الصوت الحزين عند البكاء.
لما رأت السيدة زينب 3 ذلك البكاء الذي كله نفاق .. دعت عليهم
، ومن ذلك القلب الملتهب بالمصائب والأحزان ، دعت أن تمر عليهم ظروف وأحوال تجعل
بكاءهم متواصلاً ودموعهم مستمرةً في الجريان ، لا تهدأ ولا تنقطع ، ولا تهدأ رنتهم
، أي : بكاءهم المصحوب بالنحيب والعويل ، بعد أن قاموا بتلك الأعمال الإجرامية.
وهنا .. نقطة مهمة يجب أن لا نغفل عنها
، وهي :
رغم أن في أغلب المجتمعات يوجد الأخيار
والأشرار ، والطيبون وغيرهم ، ومدينة الكوفة كانت كذلك إلا أن الطابع العام عليهم
في ذلك اليوم كان هو التلون كل يوم بلون ، والغدر ، وقلة الإلتزام بالأسس الدينية.
من هنا .. فإذا جاءهم حاكم طاغ ، وعرف
منهم هذه الطبائع والصفات المذمومة يسهل عليه التسلط عليهم واتخذاهم مساعدين
وأعواناً له في تحقيق أهدافه الإجرامية
الفاسدة.
وهم ـ أيضاً ـ يتسارعون إلى التجاوب
والتعاطف معه ، غير مبالين بنتائج ذلك.
وعلاج هذا المجتمع هو التكلم معهم بكل
صراحة ، وبالكلام اللاذع ، فالملف الأسود لأهل الكوفة كان يقتضي أن تواجههم السيدة
زينب 3 بهذه الشدة
وبأعلى درجات التوبيخ والشجب والمؤاخذة إزاء ما اقترفوه من جرائم متتالية ، كل
واحدة منها تهتز منها الجبال.
نعم .. لم يكن ينفع معهم ـ يومذاك ـ إلا
هذا الأسلوب من الكلام اللاذع ، فلم تعد النصائح والمواعظ تؤثر فيهم!
والسيدة زينب ـ بملاحظة أنها إمرأة
، وأنها بنت الإمام أمير المؤمنين ـ كانت لها القدرة على التعنيف في الكلام مع
الناس ، ولإمتلاكها القدرة العظيمة على البيان والخطابة ، فقد كانت مؤهلة للقيام
بهذا الدور الكبير ، لإيقاظ بعض تلك الضمائر الميتة من سباتها
العميق.
ولا نعلم ـ بالضبط ـ كيفية إلقائها
للخطبة من ناحية درجة الحماس والحرارة ، ولكننا نعلم أنها ورثت الخطابة من جدها
رسول الله إمام الفصاحة ، ومن والدها : إمام نهج البلاغة!!
«
إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً ».
شبهت السيدة زينب أهل الكوفة بالمرأة
التي نقضت غزلها ، وهذا التشبه مستقى من القرآن الكريم ـ ويا له من مستوى رفيع في
البلاغة والأدب الراقي ـ وإليك بعض التوضيح :
قال الله تعالى ـ في القرآن الكريم ـ :
« ولا
تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ».
وقد جاء في كتب تفسير القرآن الكريم أن
امرأةً حمقاء من قريش ، تسمى بـ « ريطة بنت عمرو بن كعب »
كانت تغزل ـ
مع جواريها ـ الصوف
والشعر ـ من الصباح إلى نصف النهار ـ وتصنع بذلك خيوطاً جاهزة للنسيج ، ثم تأمرهن
أن ينقضن ما غزلن طوال هذا الوقت ، ولا يزال دأبها ذلك.
« من بعد قوة »
أي : كانت تنكث غزلها من بعد إحكام وإتقان وإستحكام وفتل للغزل ، في المرة الأولى
وكأنها تريد أن تصنع من ذلك الغزل أقمشة. فبعد النكث والنقض كان يفقد الصوف معظم
قوته.
« انكاثاً »
جمع نكث ، وهو الصوف والشعر ، يبرم ـ ويعمل منه الخيوط ـ ثم ينكث : أي : ينقض ويفل
ليغزل مرةً ثانية.
وقد شبه الله تعالى ناقض العهد بتلك
المرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة وإتقان.
« تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم »
أيمان ـ جمع يمين ـ : وهو القسم والحلف.
الدخل : المكر والخيانة.
أي : كانوا يحلفون بالوفاء بالعهد ،
ويضمرون في أنفسهم الخيانة. وكان الناس يطمئنون إلى عهدهم ..
لكن أولئك كانوا
ينقضون العهد.
وبعد هذا التمهيد .. نقول : لقد شبهت
السيدة زينب 3 أهل الكوفة
بتلك المرأة الحمقاء ، من ناحية عدم الوفاء بعهودهم ونقضهم لها. بسبب صفة الغدر
المتجذرة في نفسياتهم اللئيمة ، البعيدة عن الإنسانية ، وعن التفكير في نتائج
الأمور ومضاعفاتها.
«
ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف »
الصلف : صلف الرجل : تمدح بما ليس عنده
، إعجاباً بنفسه وتكبراً .
ويقال : أصلفت الرجل إذا أبغضته ومقته ،
ويعبر عن البخيل ـ أيضاً ـ بهذه الكلمة.
هذا ما ذكره علماء اللغة ، ولكن الذي
يتبادر إلى الذهن ـ من كلمة الصلف ـ : هو الوقح ، ولا مانع من تفسير الكلمة بهذا
المعنى .. فبكاؤهم بعد ارتكابهم تلك الجرائم يدل على شدة وقاحتهم وقلة حيائهم.
النطف : المتلطخ بالعيب.
«
والصدر الشنف »
الشنف : شدة البغض .
والشنف : المبغض. والمعنى :
الصدر الذي يحتوي على شدة البغض والعداء لأهل البيت :.
«
وملق الإماء »
الملق ـ بفتح اللام ـ الود واللُطف ،
وأن تعطي باللسان ما ليس في القلب والفعل .
والمعنى : أنكم مجتمع للصفات الرذيلة ،
ففيكم حالة التملق والتذلل لمن لا يستحق ذلك من الحكام الخونة أمثال : يزيد وابن
زياد اللئيمين ، وحاشيتهما القذرة ، فكما أن الإماء ـ جمع أمة ـ : وهي العبدة.
يتملقن إلى المالك لجلب مودته ، ويعطينه باللسان من الود
والمشاعر ما ليس في
قلوبهن ، بل يفكرن في مصالحهن حتى لو استوجب ذلك لهن التذلل والتملق والخضوع لمن
ليس أهلاً لذلك ، أنتم ـ يا أهل الكوفة! كذلك تتملقون إلى حكامكم .. من منطلق
المصالح ، لا الإخلاص والوفاء!
«
وغمز الأعداء »
الغمز : الإشارة بالجفن والحاجب
ولعل السيدة زينب 3
تقصد من هذه الكلمة : أنكم يا أهل الكوفة انتم غمز الأعداء ، أي : إن الأعداء (
وهم : ابن زياد وحاشيته ) ينظرون إليكم من جانب عيونهم غمزاً .. ويتعاملون معكم
بمنتهى التحقير والإذلال ، فلا كرامة لكم عندهم ، بل يريدونكم عبيداً وخدماً
وجسوراً للوصول إلى أهدافهم .. من دون أن يكنوا إليكم أية محبة أو تقدير أو
إحترام. فيعتبر هذا الكلام ـ من السيدة زينب ـ تنبيهاً لأهل الكوفة على مدى فقدان
عزة النفس لديهم ، حيث جعلوا أنفسهم أدوات طيعة وذليلة بيد أفراد لؤماء ، وهم
ناسين للكرامة التي أرادها الله تعالى للبشر.
إننا نرى ـ في زماننا هذا ـ أن الموظفين
المتكبرين
لا يرفعون رؤوسهم
ليستمعوا إلى ما يقوله المراجع لهم ، بل ينظرون إليه بجانب عيونهم تحقيراً
وإذلالاً له!!
وهكذا كانت نظرة الحكام إلى أعوانهم
والمتعاطفين معهم.
ثم ذكرت السيدة زينب 3 مثالاً آخر لبيان حقيقة أهل الكوفة
والكشف عن واقعهم ، وأن ظاهرهم يختلف ـ تماماً ـ عن باطنهم ، وأن ما يقولونه
بألسنتهم ، فشبهتهم بالأعشاب التي تنبت وتنمو في أماكن وسخة وغير صحية ، فقالت 3 :
«
أو كمرعى على دمنة »
المرعى : محل العشب الذي يسرح فيه
القطيع.
الدمنة : المحل الذي تتراكم فيه أرواث
الحيوانات وابوالها وتختلط مع التراب في مرابضهم ، فتتلبد وتتماسك الأوساخ
المتكونة من الروث والبول والتراب ، ثم ـ بسبب الرطوبة الموجودة ـ ينبت هناك نبات
أخضر ، جميل المنظر واللون ، ولكن الجذور نابتة في مكان وسخ مليء بالجراثيم
والميكروبات!
كذلك أهل الكوفة كان لهم ظاهر حسن ،
وكانت لهم حضارة عريقة ، لكن باطنهم وواقعهم كان قبيحاً ، يشتمل على الخبث والغدر
، والخيانة والكذب والنفاق ، والجرأة على الله تعالى ، وسحق القيم والمفاهيم ،
وعدم التخلق بالفضائل ، والتي من أبرزها : الوفاء بالعهد ، وترجيح الدين على كل
شيء.
هذا .. ونعود لنذكر ـ مرةً أخرى ـ أنه
كان في الكوفة جمع غفير من المؤمنين الأخيار الطيبين ، لكن الأشرار ـ بتعاونهم مع
الحكم الفاسد ـ كانوا قد شكلوا هذه الواجهة القبيحة ، وكونوا هذه السمعة السيئة
لجميع أهل البلد!!
ثم ذكرت السيدة زينب 3 مثالاً آخر فقالت :
«
وكفضة على ملحودة »
اللحد : القبر. الملحودة : الجثة
الموضوعة في القبر.
إذا وضعت علامة مصنوعة من الفضة على قبر
رجل منحرف دينياً ، فسوف يكون ظاهر القبر جميلاً ، لكن الجثة التي في داخل القبر
جيفةً متعفنة. كذلك أهل الكوفة كانوا أهل التمدن والحضارة والثقافة ، لكنهم في
الباطن كانوا بمنزلة
الجيفة ، حيث تجمعت فيهم المساوئ الأخلاقية ، كنقض العهد والغدر والخيانة وغيرها ،
فكونت لهم سوء الملف والسوابق المخزية.
وفي نسخة : « كقصة على ملحودة »
والقصة : هي : الجص : وهي البودرة
والتراب المطبوخ الذي يخلط مع الماء فيصير طيناً ابيض اللون ، ويوضع ذلك الطين ما
بين الطابوق ويكون سبباً لتماسك أجزاء البناء .
فما فائدة ذلك القبر الذي يجصص ـ ليكون
جميل الظاهر ـ ، لكنه يتضمن جثماناً نتناً لرجل خبيث أو إمرأة منحرفة؟!!
وقد يستفاد ـ من بعض كتب التاريخ ـ أن
المتفرجين والمستمعين لخطاب السيدة زينب 3
إنقسموا إلى ثلاث أقسام :
١ ـ قوات الشرطة التابعين لابن زياد.
٢ ـ المحايدين.
٣ ـ الأفراد الذين تفاعلوا مع كلمات
خطبة السيدة زينب
3
وتأثروا بكلامها ، وبدأوا يبكون!!
كيف لا .. وهم يسمعون صوتاً يشبه صوت
الإمام أمير المؤمنين 7
من ابنته الشجاعة!
ولعلها كانت تخطب في ساحة كبيرة من
ساحات مدينة الكوفة ، حيث كانت تستوعب أكبر قدر ممكن من الجماهير : المستمعين
والمتفرجات ، الذين وقفوا على جانبي الطريق ، أو على سطوح دورهم ينظرون ويستمعون.
«
ألا : ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون »
هذه الجملة مقتبسة من قوله تعالى : « ترى كثيراً منهم
يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم
خالدون ».
والمعنى : بئس ما قدموا من العمل
لمعادهم في الآخرة ، أن سخط الله اليهم. والمعنى ـ هنا ـ يا أهل الكوفة : إن
أعمالكم قد أوجبت عليكم غضب الله وسخطه ، والبقاء الدائم في نار جهنم.
«
أتبكون وتنتحبون »؟!
الإنتحاب : رفع الصوت بالبكاء الشديد.
«
إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً »
إشارة إلى قوله تعالى : « فليضحكوا قليلاً
وليبكوا كثيراً »
، والمعنى : فليضحك هؤلاء المنافقون قليلاً ، لأن الضحك ـ حتى لو إستمر ـ فإنه
ينتهي بفناء الدنيا ، وهو قليل لدى المقايسة مع بكائهم الدائم في يوم القيامة ،
لأن ذلك : « يوم كان
مقداره خمسين ألف سنة »
وهم يبكون فيه كثيراً .. وباستمرار.
وهذا تهديد وإنذار من السيدة زينب لأهل
الكوفة ، وليس أمراً لهم بالضحك ، بل أمر بالتقليل من الضحك ، ـ وتهديد ضمني ـ أن
لا مبرر لضحك وفرح يتعقبه بكاء طويل وعذاب مستمر.
«
فلقد ذهبتم بعارها وشنارها »
يقال : ذهب بها : أي إستصحبها. والعار :
كل شيء
يلزم منه عيب
أو كل ما يعير به الإنسان من قول أو فعل ، أو يلزم منه عيب أو سب.
والشنار : العيب والعار
والأمر المشهور بالشنعة.
«
ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً »
ترحضوها : تغسلوها.
غسل : ما يغسل به ، كالماء والمواد
المنظفة المزيلة للأوساخ.
قد يقوم الإنسان بجريمة صغيرة يستطيع
محاصرة مضاعفاتها ، وقد تكون الجريمة كبيرة جداً تأبى أن يحاصر أحد مضاعفاتها
وآثارها ، أو ينسب الغفلة أو السهو والإشتباه إلى مباشر تلك الجريمة ، ويجعل
الإعتذار سبباً وطريقاً للعفو عن ذلك المجرم وإغلاق ملفه. فالمعنى : لا يمكن لكم
التخلص من مضاعفات هذه الجناية العظمى ، فقد تعلقت الجريمة بأعناقكم ، وسجلت
في التاريخ .. بحيث
لا يمكن تغطيتها أو إنكارها!! أو ذكر توجيهات واهية وسخيفة لهذا الجرم العظيم
والذنب الجسيم!
«
وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة؟ »
رحض : رحض الثوب : غسله.
أي : كيف تغسلون عن أنفسكم ، وتمحون
وتمسحون عن ملفكم هذه الفاجعة العظيمة ، وهي قتل ولد رسول الله خاتم الأنبياء 6؟!
وبعبارة أخرى :
كيف وبأي وجه يمكن لكم أن تبرروا قتل
سليل خاتم النبوة؟! والسليل : هو الولد.
كيف يمكن لكم غسل هذا الذنب العظيم عن
أنفسكم؟!
وهل هناك مجال للإعتذار في ارتكاب جريمة
بهذا الحجم ومع تلكم الكيفية والملحقات؟؟!!
«
ومعدن الرسالة؟ وسيد شباب أهل الجنة؟ »
إن الإمامة : هي إمتداد للرسالة ، وكما
أن الرسول يختاره الله تعالى .. لا الناس ، كذلك الإمام والخليفة ..
يختاره الله تعالى
أيضاً .. وليس الناس
والإمام الحسين 7 هو الخليفة الشرعي الثالث لرسول الله 6 في أمته.
فلم يكن الإمام الحسين 7 رجلاً مجهولاً خامل الذكر ، غير معروف
عند الناس ، بل كان مشهوراً عند جميع المسلمين بكل ما للعظمة والجلالة والقداسة من
معان ، وأحاديث رسول الله في مدحه والثناء عليه .. كانت محفوظة في ذاكرة الجميع ،
وآيات القرآن الكريم كانت تمجده بما هو أهل لذلك ، فـ « آية التطهير » تشهد له
بالعصمة والطهارة عن كل رجس ، وآية « إطعام الطعام » تنبئ عن نفسيته التي بلغت
القمة في الإخلاص وحب الخير للآخرين ، و « آية القربى » جعلت إظهار المحبة ومشاعر
الود له أجراً لبعض أتعاب الرسول الكريم ، و « آية المباهلة » اعلنت أنه الإبن
المميز للرسول الأقدس 6
وأنه واحد من « أهل البيت » الذين بدعائهم يغير الله تعالى الموازين الكونية.
وأحاديث النبي العظيم حول مكانته ومنزلة
أخيه الإمام الحسن .. كانت أشهر من الشمس في رائعة النهار ، كقوله 6 : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة
» ، « الحسن والحسين إمامان .. إن
قاما وإن قعدا » « حسين
مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً » .
وكانت هذه الأحاديث وأمثالها قد ملأت
آذان صحابة الرسول وتابعيهم .. المنتشرين في كل البلاد .. وخاصة الكوفة.
فجريمة قتل الإمام الحسين لا يمكن أن
تقاس بجريمة قتل غيره من الأبرياء ، لأن المقتول ـ هنا ـ عظيم فوق كل ما يتصور ،
فيكون حجم جريمة قتله أكبر وأعظم من جريمة قتل أي بريء ، فلا يمكن لأهل الكوفة أن
يغسلوا عن أنفسهم هذه الجريمة الكبرى.
ثم استمرت السيدة زينب بذكر سلسلة من
جوانب العظمة المتجمعة في أخيها سيد الشهداء الإمام الحسين 7 لتبين ـ للناس ـ حجم الخسارة الفادحة ،
ومضاعفات هذا الفراغ الذي حصل في كيان الأمة الإسلامية ، وهو قتل الإمام المنتخب
من عند الله تعالى لهداية البشر ، فقالت 3
:
«
وملاذ خيرتكم »
الملاذ : الملجأ ، والحصن الآمن الذي
يحتمى به
ويلجأ إليه في
الشدائد.
خيرتكم : المؤمنين الأبرار ، المتفوقين
في درجة إيمانهم بالله تعالى ، وفي جوانبهم الأخلاقية والإيمانية ، كالتقوى ،
والعقيدة الراسخة ، وحماية وحراسة الدين ، تقديم الدين على كل مصلحة .. مادية كانت
أو غيرها!!
«
ومفزغ نازلتكم »
المفزع : من يفزع إليه ، ويلتجأ إليه.
النازلة : الشديدة من شدائد الدهر ..
تنزل بالقوم وقيل :
النازلة : هي المصيبة الشديدة.
«
ومنار حجتكم »
المنار : محل إشعاع النور. والحجة :
الدليل والبرهان للإستدلال على حقيقة شيء.
المنار : محل على سطح الدار ، كان الإنسان
الكريم يشعل النار فيه ليلاً ليعلن للناس أن هنا محلاً للضيافة ، فيستدل بنور تلك
النار التائهون عن الطريق ، أو المسافرون الذين وصلوا إلى البلد لتوهم ، وهم
يبحثون عن مأوى
يلجأون إليه حتى
يحين الصباح.
وتطلق هذه الكلمة ـ حالياً ـ على
الأضواء الكشافة القوية في درجة الإضاءة التي توضع على أبراج المراقبة في مطارات
العالم ، لإرشاد الطائرات إلى محل المطار ، وخاصةً في الليالي التي يخيم الضباب
على سماء المدينة.
لقد جعل الله تعالى الإمام الحسين 7 مصباح الهدى ، ينير الدرب لكل تائه أو
متحير ، ولكن الناس تجمعوا عليه وكسروا المصباح ، وهم غير مبالين بما ينتج عن ذلك
من مضاعفات ، ففي الظلام تقع حوادث السرقة والسطو على المنازل والبيوت ، وجرائم
الإغتصاب والقتل ، والضياع عن الطريق ، والسقوط في الحفائر ، وغير ذلك.
أما مع وجود المصباح فلا تحدث هذه
الجرائم والمآسي.
ولم يكن الإمام الحسين مناراً مادياً
فقط .. بل كان مناراً لمن يبحث عن الحقيقة ، ويسأل عن الدين ، ويريد الحصول على رد
الشبهات ، وما يتبادر إلى بعض الأذهان من تشكيكات. ولذلك فقد عبرت السيدة زينب عن
الإمام الحسين بـ « منار حجتكم ».
«
ومدرة سنتكم »
السنة : العام القحط
، وقيل : السنة المجدبة وقيل : غلب
إطلاق كلمة « السنة » على القحط ، مثل ما غلب إطلاق كلمة « الدابة » على الفرس .
هذا هو معنى السنة.
ولم أعثر ـ في المعاني التي ذكرت في كتب
اللغة معنى لكلمة « مدرة » ـ يتناسب مع كلمة « سنتكم » ، ويحتمل أن يكون تصحيفاً
لكلمة « ومدد » أي : من يزودكم بالمؤن المادية في سنوات القحط والجدب ، ويخلصكم من
المجاعة والموت. أو يزودكم بالأدلة المعنوية حينما تحتارون في قضاياكم الدينية ،
ومشاكلكم العائلية ، وتتلاعب بأفكاركم التشكيكات والأفكار المنحرفة أو المستحدثة ،
فتعيشون في ضياع .. لا تفرقون بين السنة والبدعة ، وبين القول الحق والأقوال
الباطلة المصبوغة بصبغة الدين!
ثم زادت السيدة زينب 3 من درجة توبيخ
الناس ، محاولة منها
لإيقاظ تلك الضمائر ، ولتعلن لهم أنهم سوف لا يصلون إلى أي هدف تحركوا من أجله
فقاموا بهذه الجريمة النكراء. فقالت :
«
ألا ساء ما تزرون »
أي : بئس ما حملتم على ظهوركم من الذنوب
والجرائم ، فهي من نوع لا يبقي أي مجال لشمول غفران الله وعفوه .. لكم.
«
وبعداً لكم وسحقاً »
بعداً : أي : أبعدكم الله تعالى ..
بعداً عن رحمته وغفرانه.
سحقاً : هلاكاً وبعداً ، يقال : سحق
سحقاً : أي : بعد أشد البعد.
«
فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي »
خاب : لم ينل ما طلب ، أو إنقطع رجاؤه.
تبت الأيدي ، التب : الخسران والهلاك
وقيل : القطع والبتر.
«
وخسرت الصفقة »
الصفقة : معاملة البيع أو أية معاملة
أخرى. والمعنى أنكم ـ يا أهل الكوفة ـ خسرتم المعاملة ، معاملة بيع الدين والآخرة
في قبال الدنيا ، فمن الجنون أن يبيع الإنسان ذلك في قبال عذاب مستمر مزيج
بالإهانة والتحقير ، وبثمن قتل إبن رسول الله ، كل ذلك وهو يدعي أنه مسلم!!
ولعل المعنى : أنكم بعتم الحياة في ظل
حكومة الإمام الحسين 7
بالحياة في ظل سلطة يزيد ، وذهبتم إلى حرب الإمام الحسين لتحافظوا على كرسي يزيد
من الإهتزاز ، ولكن معاملتكم هذه .. خاسرة ، فسوف لا تتهنؤون في ظل حكومته ، فلا
كرامة ولا أمان ولا مستقبل زاهر!!
إن الدين والإنضواء تحت لواء من اختاره
الله تعالى هو الذي يوفر للإنسان الحياة السعيدة والعزة والكرامة.
أما الإعراض عن ذلك فسوف يجر الويلات
لكم ،
فتتوالى عليكم
حكومات جائرة ، فتعيشون حياةً ممزوجة بالتعاسة والذل ، الشامل لجميع جوانب حياتكم
الدينية والاقتصادية والسياسية والأمنية وغيرها.
وهنا أدمجت السيدة زينب 3 كلامها بالقرآن الكريم واستلهمت منه ذلك
فقالت :
«
وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة »
قال تعالى : « وضـربت عليهم الذلـة
والمسكنـة ، وبـاؤا بغضـب مـن الله ... ».
« وبؤتم بغضب من الله » أي رجعتم وقد
احتملتم معكم غضباً من الله تعالى ، وسوف يسبب لكم هذا الغضب العقاب الأليم والبعد
عن رحمة الله وغفرانه ، بكل تأكيد.
وإن الجريمة .. مهما كان حجمها أكبر
فسوف يكون غضب الله أشد ، وبالتالي يكون العذاب أكثر إيلاماً وأشد إهانةً وتحقيراً
، ويكون بعد المجرم عن عفو الله وغفرانه أكثر مسافة!
«
وضربت عليكم الذلة والمسكنة »
ضربت : أي كتبت : فلقد كتب الله تعالى
لكم الذل ، وقدر لكم المسكنة ، بسبب كفرانكم بنعمة وجود الإمام الحسين 7 والغدر به.
الذلة والذل : يعني الهوان ، وهو العذاب
النفسي المستمر ، بسبب الشعور بالحقارة والنقص والخوف من إعتداء الآخرين!
المسكنة : الفقر الشديد والبؤس
والتعاسة.
ثم بدأت السيدة زينب 3 بوضع النقاط على الحروف ، وذلك بالتحدث
عن الأبعاد الأخرى لحجم هذه الجريمة ـ أو الجرائم ـ النكراء فقالت :
«
ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ».
الكبد : كناية عن الولد ، وقد روي عن
رسول الله 6 أنه قال : «
أولادنا أكبادنا ... ».
فريتم : الفري : تقطيع اللحم.
لقد شبهت السيدة زينب الإمام الحسين
بكبد رسول الله ،
وشبهت جريمة قتل
الإمام بقطع كبد الرسول الكريم ، وكم يحمل هذا التشبيه في طياته من معان بلاغية ،
وحقائق روحانية ، إذ من الثابت أن مكانة الكبد في الجسم لها غاية الأهمية.
فكم يبلغ الإنحراف بمن يدعي أنه مسلم أن
يقتل إماماً هو بمنزلة الكبد من رسول الله 6؟
«
وأي كريمة له أبرزتم »؟
كريمة الرجل : إبنته ، فالسيدة زينب 3 بنت السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول
الله 6 فهي ـ إذن ـ
حفيدة الرسول الكريم ، والحفيدة تعتبر بنتاً للرجل ، وقد كان النبي الكريم يعبر عن
السيدة زينب ـ منذ الأيام الأولى من ولادتها ـ بكلمة « بنتي ».
وكانت هذه البنت المكرمة المحترمة تعيش
في دارها خلف ستار الحجاب والعفاف وتحافظ على حجابها اكثر من محافظتها على حياتها
، ولكن أهل الكوفة هجموا على خدرها وخيامها ، وسلبوا حجابها ، ثم أسروها وأبرزوها
إلى الملأ العام! وكانت هذه المصيبة أشد من جميع المصائب وقعاً على قلبها .. بعد
مصيبة مقتل أخيها الإمام السحين 7.
أيها القارئ الكريم .. توقف قليلاً
لتفكر وتعرف عظم الفاجعة : إذا كان سلب الحجاب عن إمرأة مؤمنة عفيفة عادية أصعب
عليها من ضربها بالسكاكين على جسمها .. فما بالك بسلب الحجاب عن سيدة المحجبات
وفخر المخدرات : زينب الكبرى 3؟!
فهذه الجريمة ـ لوحدها ـ تعتبر من أعظم
الجرائم التي ارتكبها أهل الكوفة تجاه بنت رسول الله 6!!
فكل ضمير حر لا يمكن له أن ينسى هذه
الجريمة!!
ولم تقتصر هذه المصيبة على السيدة زينب 3 بل شملت أخواتها الطاهرات من آل رسول
الله ، والنسوة اللواتي كن معها في قيد الأسر.
«
وأي دم له سفكتم »
أتعلمون ـ يا أهل الكوفة ـ أي دم لرسول
الله سفكتم!!
لقد اعتبرت السيدة زينب 3 الدم الذي سفك من الإمام الحسين ـ يوم
عاشوراء ـ هو دم رسول الله 6
إذ من الثابت أن الدم الذي كان يجري في عروق الإمام الحسين 7 لم يكن كدماء سائر الناس ، لأن الإمام
الحسين لم يكن رجلاً عادياً كبقية البشر ،
فكل قطرة من دمه
الطاهر كان جزءاً من دم رسول الله ، فالإمام الحسين : هو من « أهل البيت » ، وأهل
البيت : كتلة واحدة ، وقد صرح النبي الكريم بهذا المعنى يوم قال : « اللهم : إن
هؤلاء أهل بيتي وخاصتي وحامتي ، لحمهم لحمي ودمهم دمي ، يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني
ما يحزنهم ، انا سلم لمن سالمهم ، وحرب لمن حاربهم ... إنهم مني وأنا منهم ... »
فالذين أراقوا دم الإمام الحسين هم ـ في
الواقع ـ قد أ راقوا دم رسول الله 6
وهم يدعون أنهم مسلمون!!
«
وأي حرمة له هتكتم »
حرمة الرجل : ما لا يحل إنتهاكه ، وحرم
الرجل أهله.
وهتك الحرمة : يعني إهانة كرامة رسول
الله 6 في قتل إبنه
الحسين وسبي كريماته وبناته ، والهجوم عليهن في خيامهن .. بكل وحشية!
وأي إهانة أكبر من هذه الإهانة؟!
لقد كانت المرأة تمتاز في الإسلام
بصيانة معينة ، وكان كل من يهينها يستحق الذم واللوم من الجميع ، ولكن أهل الكوفة
ـ وبأمر من يزيد الطاغية وابن زياد اللعين ـ قاموا بأبشع أنواع الجرائم في مجال
إهانة رسول الله وإهدار كرامته!!
ولذلك نقرأ في كتاب واحد من أبرز علماء
أهل السنة هذا الكلام : « إذا دافعنا عن يزيد ، واعتذرنا له في قتله الإمام الحسين
بأنه كان يرى منه منافساً له في الخلافة ، فبماذا وكيف نعتذر له في سبيه لبنات
رسول الله وأسرهن بتلك الكيفية المؤلمة ، ثم الإنتقال بهن من بلد إلى بلد؟ ».
ثم استمرت السيدة زينب 3 تصف فاجعة كربلاء الدامية وملحقاتها من
سبي النساء الطاهرات .. بهذه الأوصاف المتتالية :
« لقد جئتم بها»أي
بهذه الجريمة التي لا مثيل لها في
تاريخ البشر.
«
صلعاء » : وهي الداهية الشديدة
، أو الأمر الشيدد. ولعل المراد : الجريمة المكشوفة التي لا يمكن تغطيتها بشيء.
«
عنقاء » : الداهية
وقيل : عنق كل شيء بدايته.
فلعل المعنى أن هذه الجريمة سوف تكون
بداية لسلسلة من الأزمات والويلات لكم ، فلا تتوقعوا خيراً بعد عملكم الشنيع هذا.
«
شوهاء » قبيحة
وفي نسخة : سوداء.
«
فقماء » : العظيمة
أو الشديدة هذا بعض ما ذكره اللغويون ، ولعل معنى
« فقماء » أي معقدة بشكل لا يمكن
معرفة طريق إلى حلها
أو التخلص من مضاعفاتها.
«
خرقاء ، كطلاع الارض » أي ملؤها.
« وملء السماء » لعل المعنى أن حجم هذه
الجريمة أكبر من أن تشبه أو توصف بمساحة أو حجم معين ، بل هي بحجم الأرض كلها ،
والسماء والفضاء كليهما. أي : أن حجمها أكبر من أن يتصور.
فإن قتل الإمام الحسين 7 وفقدان الأمة إياه يعني :
أولاً : إبتلاء كل حر في العالم ـ في
جميع الأجيال القادمة ـ بالحزن والأسى حينما يقرأ تفاصيل فاجعة كربلاء ، فحتى لو
لم يكن مسلماً يشعر بالحزن وتتسابق دموع عينيه بالهطول ، ويشعر بالإنزعاج والتذمر
من الذين ارتكبوا هذه الجريمة النكراء.
ثانياً : لقد حرم البشر .. ـ بمختلف
دياناتهم وطبقاتهم
وأعمارهم وأجيالهم
وبالادهم ـ من بركات وجود الإمام الحسين 7
والتي كانت تبقي آثاراً إيجابية مستمرةً ودائمةً إلى آخر عمر الدنيا!
ثالثاً : إن هذه الجريمة ـ بحجمها
الواسع ـ فتحت الطريق أمام كل من يحمل نفساً خبيثة في أن يقوم بكل ما تسول له نفسه
وتمليه عليه نفسيته في مجال الظلم والإعتداء على الآخرين ، وعدم التوقف عند أي حد
من الحدود في مجال الطغيان وسحق كرامة الآخرين.
وقد صرح الإمام الحسين 7 بهذا المعنى ـ حينما كان يقاتل أهل
الكوفة بنفسه ـ فقال : « ... أما إنكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا
قتله ، بل يهون عليكم عند قتلكم إياي ... ».
«
أفعجبتم أن مطرت السماء دما »
إن المصادر والوثائق التاريخية التي
تصرح بأن السماء أمطرت دماً بعد قتل الإمام الحسين 7
كثيرةً جداً.
وكان ذلك المطر أحمر يشبه الدم في لونه
وغلظته .. وهذه الحقيقة الكونية مذكورة في كتب الشيعة
والسنة ، القديمة
منها والحديثة.
وكان هذا المطر الأحمر كإعلان سماوي ـ
على مستوى الكون ـ لفظاعة حادث قتل الإمام الحسين 7
واستنكاراً لهذه الجريمة النكراء ، ولكن .. « ما أكثر العبر وأقل الإعتبار ».
وقد بقيت آثار تلك الدماء من ذلك المطر
على جدران مدينة الكوفة وحيطانها وعلى ثياب أهلها مدة تقرب من سنة كاملة.
لقد كان ذلك المطر تنديداً بفظاعة
الجريمة ، وإنذاراً للعاقبة السيئة لأهل الكوفة في يوم القيامة.
«
ولعذاب الآخرة أخزى »
أي : إن العقاب الصارم لقتلة الإمام
الحسين 7 سوف لا
يقتصر ولا ينحصر بالعذاب الدنيوي ، والصفعات الدنيوية المتتالية ، بل إن العذاب
الإلهي ينتظرهم في الآخرة.
إن الدنيا سوف تنتهي ويخرج كل إنسان من
قاعة
الإمتحان ، وعندها
يكون المجرمون في قبضة محكمة العدالة الإلهية ، فمن يخلصهم ـ في ذلك اليوم ـ من
رسول الله جد الحسين؟!
«
وأنتم لا تنصرون »
أي : لا تجدون من ينصركم يوم القيامة ،
ومن ينجيكم من العذاب الأليم ، لأن طرف النزاع : هو الإمام المظلوم البريئ المقتول
: الإمام الحسين 7
ذاك الرجل العظيم الذي زين الله تعالى العرش الأعلى باسمه « إن الحسين مصباح الهدى
وسفينة النجاة » ومن الواضح أنه سوف لا يتنازل عن حقه .. مهما كانت نفسيته المقدسة
عالية وفوق كل تصور. لأن المجرمين ضربوا أرقاماً قياسية في اللؤم والخبث والغدر
والجناية!
والمخاصم لأهل الكوفة : هو أشرف الخلق
وأعز البشر عند الله تعالى : وهو سيدنا محمد رسول الله 6 وهو أيضاً لا يتنازل عن دم إبنه الحبيب
العزيز ، وعن سبي بناته الطاهرات!
والمحامي : هو جبرئيل سيد أهل السماء ،
حيث يقف ظهراً لرسول الله في قضية ملف مقتل الإمام الحسين 7.
ونوعية الجريمة
وحجمها ومضاعفاتها .. تأبى شمول الغفران والعفو الإلهي لها ، لعدم وجود الفوضى في
أجهزة القضاء الإلهية ، فاللازم إعطاء كل ذي حق حقه.
هذا أولاً ..
وثانياً : إن من آثار هذه الجريمة
النكراء : هو أنها تمنع المجرم من التوفيق للتوبة والإنابة إلى الله ، كما صرح
بذلك الإمام زين العابدين علي بن الحسين 7.
ويجب علينا أن لا ننسى أن كبار قواد جيش
الكوفة .. كانوا من الذين قد كتبوا إلى الإمام الحسين بأن يأتي إليهم في الكوفة ،
ووعدوه بالنصر .. حتى لو آل الأمر إلى القتل والقتال ، وإلى التضحية ببذل دمائهم
وأرواحهم ، وختموا رسائلهم بتوقيعاتهم وأسمائهم الصريحة.
إلى درجة أن البعض منهم أعطى لنفسه
الجرأة في أن يكتب إلى الإمام الحسين 7
هذه الكلمات : « إن لم تأتنا فسوف نخاصمك غداً ـ يوم القيامة ـ عند جدك رسول الله
»!!
فهم ـ إذن ـ كانوا يعرفون الإمام الحسين
، « وليس من يعرف كمن لا يعرف » والأحاديث الشريفة تقول : « إن الله تعالى يغفر
للجاهل سبعين ذنباً .. قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً ».
«
فلا يستخفنكم المهل »
المهل ـ بضم الميم ـ جمع المهلة : وهي
بمعنى الإنظار والإمهال وعدم العجلة.
أي : لا يصير الإمهال والتأخير في
الإنتقام سبباً لخفة نفوسكم وانتعاشها من الطرب والفرح ، وبذلك تأخذكم سكرة
الإنتصار والظفر. فالإنتصار الذي يتعقبه العذاب الأليم ـ مع فاصل زمني قصير ـ لا
يعتبر إنتصاراً حقيقياً ، بل هو سراب مؤقت ، لا يعترف به العقلاء ، فـ « لا خير في
لذة وراءها النار »!
إن الإمهال ليس دليلاً على الإهمال ،
فإن الله تعالى قد يمهل ، ولكنه ( سبحانه ) لا يهمل.
وبناءً على هذا .. فلا يكون الإمهال
سبباً لتصور خاطئ منكم بأن علة تأخير العقاب هي أن الجريمة قد تم التغاضي والتغافل
عنها ، ولسوف تنسى بمرور الأيام ، لأنها شيء حدث وانتهى .. بلا مضاعفات لاحقة ، أو
أن الإنتقام غير وارد حيث أن الأمور قد فلتت من اليد.
كلا..ليس الأمر كذلك ، بل شاء الله
تعالى أن يجعل الدنيا دار إمتحان لجميع الناس : الأخيار والأشرار ، وقرر أن يدفع
كل من يخالف أوامر الله ضريبة مخالفته .. إن عاجلاً أو آجلاً.
فعدم تعجيل العقوبة
لا يعني أن الأمور منفلتة من يد الله الغالب القاهر العلي القيدر ، فهو المهمين
على العالم كله. لكنه قد يؤخر الجزاء لأسرار وحكم يعلمها سبحانه ، فهو لا يعجل
العذاب للعاصين ـ أحياناً أو غالباً ـ ولكنه بالمرصاد ، فكما أن الجندي الذي يجلس
وراء المتراس يراقب ساحة الحرب ، وينتظر الوقت المناسب للهجوم أو لإطلاق القذيفة ،
كذلك العذاب الإلهي ينزل في التوقيت المناسب .. مع ملاحظة سائر أسرار الكون. ولا
مناقشة في الأمثال.
قال تعالى : « ولا تحسبن الله
غافلاً عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، مهطعين مقنعي
رؤوسهم ، لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ».
وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي 7 أنه قال : « ولئن أمهل الله الظالم فلن
يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه وبموضع الشاجا من مساغ ريقه ».
«
فإنه لا يحفزه البدار »
« يحفزه » يقال : تحفز في مشيه : أي جد
وأسرع
فهو محتفز : أي : مستعجل والحفز :
الإعدال في الأمر للبطش وغيره.
« البدار » يقال : بدر إلى الشيء
مبادرةً وبداراً : أسرع وبدر فلاناً
بالشيء : عاجله به.
تقول السيدة زينب 3 : إعلموا ـ يا أهل الكوفة ـ : أن عدم
نزول العذاب الإلهي عليكم .. ليس سببه الإهمال ، فإن الله تعالى لا تدفعه العجلة
إلى إنزال العذاب ، لأن الحكمة الإلهية تجعل إطاراً للمقدرات الكونية ، ومنها :
إختيار التوقيت المناسب لنزول العذاب ، وإختيار نوعيته.
هذا أولاً ..
وثانياً .. لقد جاء في الحديث الشريف أن
رسول الله 6 سأل ربه أن
لا يعاجل أمته
بالعذاب في الدنيا ،
واستجاب الله تعالى لرسوله ذلك ، فجعل من القوانين الكونية عدم نزول العذاب الغيبي
على الأمة الإسلامية ـ في الدنيا ـ كرامةً واحتراماً لرسول الله ، وهذه الكرامة لم
تكن لغير نبي الإسلام ، من الأمم السالفة ، والأنبياء السابقين في الزمن.
فمعنى قول السيدة زينب 3 : « فإنه لا يحفزه البدار » أي : لا
يحث الله ـ سبحانه ـ شيء على تعجيل العقوبة والإنتقام ، لوجود أسباب وأسرار كونية
، ولعدم خوف إنفلات المجرم من قبضة العدالة الإلهية. ونقرأ في الدعاء : « ولا يمكن
الفرار من حكومتك ».
«
ولا يخاف فوت الثار ، وإن ربك لبالمرصاد »
فسوف يأتي الإمام المهدي المنتظر ( عجل
الله ظهوروه ) وينتقم من قتلة الإمام الحسين .. في الدنيا ، أما في الآخرة ..
فستكون أول دفعة ـ من البشر ـ يؤمر بهم إلى نار جهنم : هم قتلة الإمام الحسين 7.
المرصاد : المكمن ، وهو المكان الذي
يختفى فيه عن أعين الأعداء ، بانتظار التوقيت المناسب للهجوم أو الدفاع.
* * * *
قال الراوي :
« فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ
حيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم .
ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول : « بأبي أنتم وأمي!!
كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا
يخزى ولا يبزى ».
* * * *
إلى هنا إنتهى ما هو مذكور في الكتب حول
نص الخطبة ، وللقارئ الكريم أن يتساءل : ماذا حدث بعد ذلك؟
الجواب : هذا ما ستقرؤه في الصفحات
القادمة إن شاء الله.
كيف ولماذا قطعوا
على السيدة زينب خطابها؟
كانت السيدة زينب 3 الشجاعة المفجوعة تتكلم بصوت شجي ، وكل
كلمة منها تلهب احاسيس الحزن والأسى والندم في الناس ، حتى ضج الناس بالبكاء
والعويل ، وارتبكت قوات الأمن والشرطة ، وصار كل إحتمال للتمرد والإنتفاضة وارداً
، فكيف يتصرفون؟!
وماذا يصنعون حتى يقطعوا على السيدة
زينب خطابها ، ويصرفوا أذهان الناس إلى شيء آخر؟!
هناك من يقول : أمروا بحركة القافلة ،
وجاؤا بالرمح الذي عليه رأس الإمام الحسين ( عليه السالم ) وقربوه من محمل السيدة
زينب ، وتعالت صرخات الناس : هذا رأس الحسين .. هذا رأس الحسين!!
وكانت عينا الإمام مفتوحتين ، وهو ينظر
نظرةً فريدة ، وصفها المؤرخون بقولهم : « شاخص ببصره
نحو الأفق »!
وهنا لم تستطع السيدة زينب أن تستمر في
الخطبة رغم شجاعتها وانطلاقها بالكلام ، فهاج بها الحزن من ذلك المنظر الذي وتر
أعصابها ، وأوشك أن يقضي عليها .. بسبب الألم الذي بدأ يعصر قلبها العطوف عصرةً
يعلم الله درجتها.
فكان رد الفعل منها أنها نطحت جبينها
بمقدم المحمل .. وبكل قوة ، حتى سال الدم من رأسها وجبهتها ، وأومأت ( أي : أشارت
) إليه بخرقة ـ حسب العادة ، العشائرية المتبعة يومذاك ، عند رؤية جنازة الفقيد
الغالي ـ ، وشاهدت أن الناس يشيرون بأصابع أيديهم إلى رأس الإمام الحسين ، كما
يشيرون إلى مكان وجود الهلال في أول ليلة من الشهر!
فنادت السيدة زينب 3 :
يـا هلالاً لمـا استتم كمالا
|
|
غالـه خسفه فأبدى غروبا
|
ما توهمت يا شقيق فؤادي
|
|
كـان هذا مقـداراً مكتوبا
|
ويتصور أحد الشعراء ـ وهو الحاج هاشم
الكعبي ـ ذلك
الموقف الحزين ويقول
: كانت مع السيدة زينب 3
في محملها بنت صغيرة للإمام الحسين 7
فحينما رأت رأس أبيها بدأت تناديه : يا أبه .. يا أبه .. كلمني أين كنت! ولما لم
تسمع جواباً إنفجرت بالبكاء الشديد ، فنادت السيدة زينب مخاطبةً رأس أخيها العزيز
:
أخي : فاطم الصغيرة كلمها
|
|
فقـد كاد قلبهـا أن يذوبـا
|
* * * *
الإحتمال الثاني : أن الإمام علي بن
الحسين 7 تقدم إلى
عمته ـ ولعل ذلك كان بأمر من الشرطة ـ وقال : يا عمة! اسكتي ، ففي الباقي من
الماضي إعتبار ، وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة ، إن البكاء
والحنين لا يردان من قد أباده الدهر ، فسكتت.
نص خطبة السيدة زينب
برواية أخرى
وروى الشيخ الطبرسي في كتاب « الإحتجاج »
نص الخطبة مع وجود بعض الفروق بين النسختين ، ونحن نذكر ذلك ، تتميماً للفائدة :
قال حذيم الأسدي : لم أر ـ والله ـ
خفرةً قط انطق منها ، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي 7
وقد أشارت إلى الناس بأن انصتوا ، فارتدت ، الأنفاس وسكنت الأجراس ، ثم قالت ـ بعد
حمد الله تعالى والصلاة على رسوله ـ : « أما بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل
والغدر والخذل.
ألا فلا رقأت العبرة ولا هدأت الزفرة.
إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد
قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، هل فيكم إلا الصلف والعجب ، والشنف ،
والكذب ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة ، أو كفضة على ملحودة ،
ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون أخي؟!
أجل ـ والله ـ فابكوا فإنكم أحرى
بالبكاء ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فقد أبليتم بعارها ، ومنيتم بشنارها ،
ولن ترحضوها أبداً ، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد
شباب أهل الجنة ، وملاذ حربكم ، ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم وآسي كلمكم ، ومفزع
نازلتكم ، والمرجع إليه عند مقاتلتكم ، ومدرة حججكم ، ومنار محجتكم.
ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم ، وساء ما
تزرون ليوم بعثكم ، فتعساً تعساً!! ونكساً نكساً!! لقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ،
وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة ..
أتدرون ـ ويلكم ـ أي كبد لمحمد ( صلى
الله عليه وآله
وسلم ) فرثتم؟!
وأي عهد نكثتم؟!
وأي كريمة له أبرزتم؟!
وأي حرمة له هتكتم؟!
وأي دم له سفكتم؟!
لقد جئتم شيئاّ إداً ، تكاد السماوات
يتفطرن منه ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هداً؟!
لقد جئتم بها شوهاء ، صلعاء ، عنقاء ،
سوداء ، فقماء ، خرقاء ، كطلاع الأرض ، أو ملء السماء.
أفعجبتم أن تمطر السماء دماً ، ولعذاب
الآخرة أخزى ، وهم لا ينصرون.
فلا يستخفنكم المهل ، فإنه ( عز وجل )
لا يحفزه البدار ، ولا يخشى عليه فوت الثار ، كلا إن ربك لنا ، ولهم لبالمرصاد ،
ثم أنشأت تقول 3
:
مـاذا تقـول إذ قـال النبي لكم
|
|
مـاذا صنعتـم وأنتم آخر الأمم
|
بأهـل بيتـي وأولادي وتكرمتي
|
|
منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم
|
ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم
|
|
أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
|
إنـي لأخشى عليكم أن يحـل بكم
|
|
مثـل العذاب الذي أودى على إرم
|
ثم ولت عنهم ... » إلى آخر الرواية.
الفصل الرابع
عشر
دار
الإمارة
السيدة
زينب في مجلس ابن زياد
ماذا
جرى بعد ذلك؟
دار الإمارة
كانت دار الإمارة في الكوفة ـ قبل حوالي
عشرين سنة من فاجعة كربلاء ـ مقراً للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7 وكانت السيدة زينب تعيش في ذلك المكان
في ظل والدها أمير المؤمنين ، وهي في أوج العزة والعظمة ، وفي جو مملوء بالعواطف
والإحترام ، فيما بين إخوتها وذويها.
والآن! وبعد عشرين سنة أصبحت دار
الإمارة مسكناً للدعي بن الدعي : عبيد الله بن زياد ، وتبدلت معنويات دار الإمارة
مائة بالمائة ، فبعد أن كانت مسكن أولياء الله ، صارت مسكن الد أعداء الله ، وألأم
خلق الله.
واليوم دخلت السيدة زينب إلى دار
الإمارة ، وهي في حالة تختلف عما مضى قبل ذلك.
ذكر الشيخ المفيد في كتاب ( الإرشاد )
ما يلي :
ثم إن ابن زياد جلس في قصر الإمارة ،
وأذن للناس إذناً عاماً ، وأمر بإحضار رأس الإمام الحسين 7 فأحضر
ووضع بين يديه ،
وجعل ينظر إليه ويتبسم ، وكان بيده قضيب فجعل يضرب به ثناياه!!
وكان إلى جانبه رجل من الصحابة يقال له
: « زيد بن أرقم » وكان شيخاً كبيراً ، فلما رآه يفعل ذلك قال له : « إرفع قضيبك
عن هاتين الشفتين ، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ثنايا رسول الله ترتشف
ثناياه » ثم انتحب وبكى!
فقال ابن زياد : أتبكي؟ أبكى الله عينيك
، والله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لأضربن عنقك ، فنهض من بين يديه وصار إلى
منزله.
وجاء في التاريخ : أن إبن زياد أمر
بالسبايا إلى السجن ، فحبسوا وضيق عليهم ، ثم أمر أن يأتوا بعلي بن الحسين 8 والنسوة إلى مجلسه.
السيدة زينب في مجلس ابن زياد
ذكر الشيخ المفيد في كتاب « الإرشاد » :
« وأدخل عيال الحسين 7 على ابن زياد ، فدخلت زينب أخت الحسين
في جملتهم متنكرة وعليها أرذل ثيابها ، فمضت حتى جلست ناحيةً من القصر ، وحفت بها
إماؤها.
فقال ابن زياد ، من هذه التي انحازت
ناحيةً ومعها نساؤها؟!
فلم تجبه زينب.
فأعاد القول ثانيةً وثالثةً يسأل عنها؟
فقالت له بعض إمائها : هذه زينب بنت
فاطمة بنت رسول الله.
فأقبل عليها ابن زياد وقال لها : الحمد
لله الذي فضحكم
وقتلكم وأكذب
أحدوثتكم.
فقالت زينب : الحمد لله الذي أكرمنا
بنبيه محمد 6 وطهرنا من
الرجس تطهيرا ، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا والحمد لله.
فقال ابن زياد : كيف رأيت فعل الله بأهل
بيتك؟!
فقالت : ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم
كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون
إليه وتختصمون عنده فانظر لمن
الفلج يومئذ ، ثكلتك أمك يابن مرجانة!!
فغضب ابن زياد واستشاط
، فقال له عمرو بن حريث : أيها الأمير ، إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من
منطقها.
فقال ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من
طاغيتك الحسين
والعصاة المردة من
أهل بيتك.
فرقت زينب وبكت وقالت له : لعمري لقد
قتلت كهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت.
فقال ابن زياد : هذه سجاعة ، ولعمري لقد
كان أبوها سجاعاً شاعراً.
ثم التفت ابن زياد إلى علي بن الحسين
وقال له : من أنت؟
فقال : أنا علي بن الحسين.
فقال : أليس الله قد قتل علي بن الحسين؟
فقال علي : قد كان لي أخ يسمى علي بن
الحسين ، قتله الناس.
فقال ابن زياد : بل الله قتله.
فقال علي بن الحسين : الله يتوفى الأنفس
حين موتها.
فغضب ابن زياد وقال : ولك جرأة على
جوابي
وفيك بقية للرد علي؟! إذهبوا به فاضربوا عنقه.
فتعلقت به زينب عمته ، وقالت : يا بن
زياد! حسبك من دمائنا. واعتنقته وقالت : والله لا أفارقه ، فإن قتلته فاقتلني معه.
فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ، ثم
قال : عجباً للرحم! والله إني لأظنها ودت أني قتلتها معه ، دعوه فإني أراه لما به.
ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين وأهله
فحملوا إلى دار جنب المسجد الأعظم ، فقالت زينب بنت علي : « لا يدخلن علينا عربية
إلا أم ولد مملوكة ، فإنهن سبين وقد سبينا.
* * * *
في هذا الحوار القصير بين الخير والشر ،
وبين الفضيلة والرذيلة ، وبين القداسة والرجس ، وبين ربيبة الوحي وعقيلة النبوة
وبين الدعي ابن الدعي! إنكشفت نفسيات كل من الفريقين.
أرأيت كيف صرح ابن زياد بالحقد والعداء
لأهل بيت رسول الله 6
والشماتة وبذاءة السان ، وحقارة النفس ودناءة الروح ، وقذارة الأصل؟
فهو يحمد الله تعالى على قتل أولياء
الله ، وتدفعه صلافة وجهه أن يقول : « وفضحكم » ، وليت شعري أية فضيحة يقصدها؟!
وهل في حياة أولياء الله من فضيحة؟!
أليس الله تعالى قد أذهب عنهم الرجس
وطهرهم تطهيراً؟!
أليس نسبهم أرفع نسب في تاريخ العظماء؟!
أليست حياتهم متلألأة بالفضائل والمكارم؟!
وهل ـ والعياذ بالله ـ توجد في حياتهم
منقصة واحدة أو عيب واحد حتى يفتضحوا؟
ولكن ابن زياد يقول : « وفضحكم ».
ويزداد ذلك الرجس عتواً ويقول : « وأكذب
أحدوثتكم » الأحدوثة : ما يتحدث به الناس ، والثناء والكلام الجميل ،
والقران الكريم هو
الذي يثني على آل رسول الله 6
فهل اكذب الله تعالى القرآن الذي هو كلامه ( عزوجل )؟!
والرسول الأقدس ـ الذي ما ينطق عن الهوى
إن هو إلا وحي يوحى ـ قد أثنى على أهل بيته بالحق والصدق ، فهل أكذب الله تعالى
رسوله الأطهر ، الذي هو أصدق البرية لهجة؟!
وقد فرضت الضرورة على حفيدة النبوة ،
ووليدة الإمامة ، ورضيعة العصمة أن تتنازل وتجيب على تلك الكلمات الساقطة السافلة.
ماذا جرى بعد ذلك؟
قال الشيخ المفيد في ( الإرشاد ) : ولما
أصبح عبيد الله بن زياد بعث برأس الحسين 7
فدير به ( أي : طيف به ) في سكك الكوفة كلها وقبائلها.
فروي عـن زيد بن أرقم أنه قال : مر بـه
علي وهـو على رمـح وأنا في غرفة لي
فلما حاذاني سمعته يقرأ : «
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ».
فوقف ـ والله ـ شعري وناديت : رأسك ـ
والله ـ يابن رسول الله أعجب وأعجب.
وذكر السيد ابن طاووس في كتاب ( الملهوف
) : قال الراوي : ثم إن ابن زياد صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وقال ـ في بعض
كلامه ـ : « الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ، ونصر أمير المؤمنين يزيد وأشياعه ،
وقتل الكذاب بن الكذاب!!
فما زاد على هذا الكلام شيئاً حتى قام
إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ـ وكان من خيار الشيعة وزهادها ، وكانت عينه اليسرى
قد ذهبت يوم الجمل ، والأخرى يوم صفين ، وكان يلازم المسجد الأعظم فيصلي فيه إلى
الليل ـ فقال : يابن مرجانة! إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك ومن استعملك وأبوه ،
يا عدو الله! اتقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المسلمين؟!
فغضب ابن زياد وقال : من هذا المتكلم؟
فقال : أنا المتكلم يا عدو الله! أتقتل
الذرية الطاهرة التي قد أذهب الله عنها الرجس ، وتزعم أنك على دين الإسلام.
واغوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار
، لينتقمون منك ومن طاغيتك ، اللعين بن اللعين على لسان محمد رسول رب العالمين.
فازداد غضب ابن زياد حتى انتفخت أوداجه
، وقال : علي به ، فتبادرت الجلاوزة من كل ناحية ليأخذوه ، فقامت
الأشراف من بني عمه
، فخلصوه من أيدي الجلاوزة وأخرجوه من باب المسجد ، وانطلقوا به إلى منزله.
فقال ابن زياد : إذهبوا إلى هذا الأعمى
ـ أعمى الأزد ، أعمى الله قلبه كما أعمى عينه ـ فإيتوني به.
فانطلقوا إليه ، فلما بلغ ذلك الأزد
إجتمعوا واجتمعت معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم.
وبلغ ذلك ابن زياد ، فجمع قبائل مضر
وضمهم إلى محمد بن الأشعث ، وأمرهم بقتال القوم.
قال الراوي : فاقتتلوا قتالاً شديداً ،
حتى قتل بينهم جماعة من العرب.
ووصل أصحاب ابن زياد إلى دار عبد الله
بن عفيف ، فكسروا الباب واقتحموا عليه.
فصاحت ابنته : أتاك القوم من حيث تحذر!
فقال : لا عليك ناوليني سيفي ، فناولته
إياه ، فجعل يذب عن نفسه ويقول :
أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهر
|
|
عفيـف شيخي وابن أم عامر
|
كـم دارع مـن جمعكم و حاسر
|
|
وبـطـل جـدلتـه مغـاور
|
وجعلت ابنته تقول : يا أبت ليتني كنت
رجلاً أخاصم بين يديك اليوم هؤلاء القوم الفجرة ، قاتلي العترة البررة.
وجعل القوم يدورون عليه من كل جهة ، وهو
يذب عن نفسه فلم يقدر عليه أحد ، وكلما جاؤوه من جهة قالت ابنته : يا أبت جاؤوك من
جهة كذا ، حتى تكاثروا عليه وأحاطوا به.
فقالت أبنته : واذلاه يحاط بأبي وليس له
ناصر يستعين به.
فجعل يدير سيفه ويقول :
أقسم لو يفسح لي عن بصري
|
|
ضاق عليكم موردي ومصدري
|
فما زالوا به حتى أخذوه ، ثم حمل فأدخل
على ابن زياد.
فلما رآه قال : الحمد لله الذي أخزاك.
فقال له عبد الله بن عفيف : يا عدو الله
وبماذا أخزاني الله؟!
والله لو فرج لي عن بصري
|
|
ضاق عليك موردي ومصدري
|
فقال له ابن زياد : ماذا تقول ـ يا عبد
الله ـ في أمير المؤمنين عثمان بن عفان؟
فقال : يا عبد بني علاج ، يابن مرجانة ،
وشتمه ـ ما أنت وعثمان بن عفان أساء أم أحسن ، وأصلح أم أفسد ، والله تعالى ولي
خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحق ، ولكن سلني عنك وعن أبيك وعن يزيد وأبيه؟
فقال ابن زياد : والله لا سألتك عن شيء
أو تذوق الموت غصة بعد غصة.
فقال عبد الله بن عفيف : الحمد لله رب
العالمين ، أما أني قد كنت أسأل الله ربي أن يرزقني الشهادة من قبل أن تلدك أمك ،
وسألت الله أن يجعل ذلك على يدي ألعن خلقه ، وأبغضهم إليه ، فلما كف بصري يئست من
الشهادة ، والآن .. فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها ، وعرفني الإجابة بمنه
في قديم دعائي.
فقال ابن زياد : إضربوا عنقه.
فضربت عنقه وصلب في السبخة.
الفصل الخامس
عشر
ترحيل
آل رسول الله إلى الشام
السيدة
زينب الكبرى في طريق الشام
السيدة
زينب الكبرى في الشام
الدخول
في مجلس الطاغية يزيد
ماذا
حدث في مجلس يزيد؟
رأس
الإمام الحسين في مجلس الطاغية يزيد
ترحيل آل رسول الله إلى الشام
وقد جاء في كتب التاريخ : أن ابن زياد
كتب إلى يزيد بن معاوية رسالة يخبره فيها بقتل الإمام الحسين وأسر نسائه وعياله ،
وتفاصيل أخرى عن الفاجعة.
فكتب يزيد في جواب رسالته : أن يبعث
إليه برأس الحسين ورؤوس من قتل معه ، والنساء الأسارى.
فاستدعى ابن زياد بـ « مفخر بن ثعلبة
العائذي » و « شمر ابن ذي الجوشن » للإشراف على القافلة ومن معها من الحرس ، وسلم
إليهم الرؤوس والأسرى ، وأمر بـ « علي بن الحسين » أن تغل يديه إلى عنقه بسلسلة من
حديد!
فساروا بهن إلى الشام كما يسار بسبايا
الكفار ، يتصفح وجوههن أهل الأقطار!
السيدة زينب الكبرى في طريق الشام
لا نعلم ـ بالضبط ـ كم طالت المدة التي
تم فيها قطع المسافة بين الكوفة والشام ، ولكننا نعلم أنها كانت رحلة مليئة
بالإزعاج والإرهاق وأنواع الصعوبات ، فقد كان الأفراد المرافقون للعائلة المكرمة
قد تلقوا الأوامر بأن يعاملوا النساء والأطفال بمنتهى القساوة والفظاظة ، فلا
يسمحوا لهم بالإستراحة اللازمة من أتعاب الطريق ومشاقه وصعوباته ، بل يواصلوا
السير الحثيث ، للوصول إلى الشام وتقديم الرؤوس الطاهرة إلى الطاغية يزيد.
ومن الثابت ـ تاريخياً ـ أنه كان للسيدة
زينب 3 الدور
الكبير في : إدارة العائلة ، والمحافظة على حياة الإمام زين العابدين 7 وحماية النساء والأطفال ، والتعامل
معهم بكل عاطفة وحنان .. محاولة منها ملأ بعض ما كانوا يشعرون به من الفراغ
العاطفي ،
والحاجة إلى من يهون
عليهم مصائب الأسر ومتاعب السفر.
وروي عن الإمام علي بن الحسين 7 أنه قال :
« إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها :
الفرائض والنوافل .. من قيام ، عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام!
وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس!
فسألتها عن سبب ذلك؟
فقالت : أصلي النوافل من جلوس لشدة
الجوع والضعف ، وذلك لأني منذ ثلاث ليال ، أوزع ما يعطونني من الطعام على الأطفال
، فالقوم لا يدفعون لكل منا إلا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة!!
أجل ..
وقد كانت الحكمة والمصلحة تقتضي أن
الإمام زين العابدين 7
يبقى بمعزل عن انتباه الأعداء والجواسيس المرافقين ، ولا يتكلم بأية جملة من شأنها
جلب الإنتباه إليه. ولذلك فقد جاء في التاريخ : أن الإمام علي بن الحسين ما كان
يكلم أحداً من القوم .. طوال الطريق
إلى أن وصلوا إلى
باب قصر يزيد بدمشق!
من هنا .. فقد كان الدور الأكبر ملقى
على عاتق السيدة الكفوءة زينب العظيمة ( عليها الصلاة والسلام ).
ورغم قلة المعلومات التي وصلتنا عما جرى
على السيدة زينب في طريق الشام من الحوادث ، إلا أننا نذكر هذه المقطوعات والعينات
التاريخية التي تعبر للقارئ المتدبر الذكي عن أمور كثيرة ، وعن الدور العظيم
والمسؤوليات الجسيمة التي قامت بها السيدة زينب الكبرى 3 طوال هذه الرحلة :
ونقرأ في بعض كتب التاريخ : أن في
طريقهم إلى الشام مروا على منطقة « قصر مقاتل »
وكان ذلك اليوم يوماً شديد الحر ، وقد نزفت القربة التي كانت معهم وأريق ماؤها
فاشتد بهم العطش ، وأمر عمر بن سعد جماعة من قومه أن يبحثوا عن الماء ، وأمر أن
تضرب خيمة ليجلس
فيها هو وأصحابه ،
لكي تحميهم من حرارة الشمس ، وتركوا عائلة الإمام الحسين 7 وجميع النساء والأطفال .. تصهرهم الشمس
، وأقبلت السيدة زينب 3
إلى ظل جمل هناك ، وقد أمسكت بالإمام علي بن الحسين 8
وهو في حالة خطيرة .. قد أشرف على الموت من شدة العطش ، وبيدها مروحة تروحه بها من
الحر ، وهي تقول : « يعز علي أن أراك بهذا الحال يا بن أخي »!
وذهبت السيدة سكينة بنت الإمام الحسين 7 إلى ظل شجرة كانت هناك ، وعملت لنفسها
وسادةً من التراب ونامت عليها ، فما مضت ساعة إلا وبدأ القوم يرحلون عن ذلك المكان
مع السبايا ، وتركوا سكينة نائمة في مكانها.
فقالت فاطمة الصغرى ـ وكانت عديلة سكينة
ـ للحادي : « أين أختي سكينة؟! والله لا أركب
حتى تأتي بأختي ».
فقال لها : وأين هي؟
قالت : لا أدري أين ذهبت.
فصاح السائق للقافلة بأعلى صوته : يا
سكينة هلمي واركبي مع النساء؟
فلم تستيقظ سكينة من نومتها لشدة ما بها
من التعب والإرهاق ، وبقيت نائمة.
ولما أضر بها الحر والعطش إنتبهت من
نومتها ، وجعلت تمشي خلف غبار القافلة وهي تصيح : « أخيه فاطمة! ألست عديلتك في
المحمل! وأنت الآن على الجمل وأنا حافية؟! ».
فعطفت عليها أختها ، وقالت للحادي : «
والله لئن لم تأتني بأختي لأرمين نفسي من هذا الجمل ، وأطالبك بدمي عند جدي رسول
الله يوم القيامة »!
فقال لها : من تكون أختك؟
قالت : سكينة التي كان الحسين يحبها
حباً شديداً ، فرق لها الحادي ، ورجع إلى الوراء حتى وجد أختها وأركبها معها.
وقد جاء في التاريخ ـ أيضاً ـ أن في
ليلة من الليالي ، بينما القوم يسيرون في ظلام الليل ، بدأت السيدة سكينة بنت
الإمام الحسين 8
بالبكاء ، لأنها تذكرت أيام أبيها ، وما كان لها من العز والإحترام ، ثم هي ـ الآن
ـ أسيرة بعد أن كانت أيام أبيها عزيزة ، واشتد بكاؤها ، فقال لها الحادي : أسكتي
يا جارية! فقد آذيتيني ببكائك!
فما سكتت ، بل غلب عليها الحزن والبكاء
، وأنت أنة موجعة ، وزفرت زفرةً كادت روحها أن تخرج!!
فزجرها الحادي وسبها ، فجعلت سكينة تقول
ـ في بكائها ـ وا أسفاه عليك يا أبي! قتلوك ظلماً وعدوانا!
فغضب الحادي من قولها وأخذ بيدها وجذبها
ورمى بها على الأرض!!
فلما سقطت غشي عليها ، فما أفاقت إلا
والقافلة قد مشت ، فقامت وجعلت تمشي حافيةً في ظلام الليل ، وهي تقوم مرةً وتقعد
مرة!! وتستغيث بالله وبأبيها ، وتنادي عمتها ، وتقول : يا أبتاه مضيت عني وخلفتني
وحيدةً غريبةً ، فإلى من ألتجئ وبمن الوذ في ظلمة هذه الليلة في هذه البيداء؟!!
فركضت ساعة من الليل وهي في غاية الوحشة!
فلم تر أثراً من القافلة ، فسقطت مغشيةً عليها!!
فعند ذلك إقتلع الرمح ـ الذي كان عليه
رأس الحسين ـ من يد حامله ، وانشقت الأرض ونزل الرمح إلى نصفه في الأرض ، وثبت
كالمسمار الذي يثبت في الحائط!!
وكلما حاول حامل الرمح أن يخرجه من
الأرض .. لم يتمكن! واجتمعت جماعة من القوم وحاولوا إخراج الرمح فلم يستطيعوا ذلك.
فأخبروا بذلك عمر بن سعد ، فقال :
إسألوا علي بن الحسين عن سبب ذلك.
فلما سألوا الإمام 7 قال : قولوا لعمتي زينب تتفقد الأطفال
، فلربما قد ضاع منهم طفل.
فلما قيل لزينب الكبرى ذلك ، جعلت تتفقد
الأطفال وتنادي كل واحد منهم باسمه ، فلما نادت : بنيه سكينة لم تجبها! فرمت
السيدة زينب 3 بنفسها من
على ظهر الناقة! وجعلت تنادي : واغربتاه! واضيعتاه! واحسيناه!
بنيه سكينة : في أي أرض طرحوك!
أم في أي واد ضيعوك! ورجعت إلى وراء
القافلة وهي تعدو في البراري حافية ، وأشواك الأرض تجرح رجليها ، وتصرخ وتنادي!!
وإذا بسواد قد ظهر فمشت نحوه وإذا هي
سكينة ، فرجعتا معاً نحو القافلة.
وروي عن الإمام محمد الباقر 7 أنه سأل أباه علي بن الحسين 8 عما جرى له في طريق الشام؟
فقال الإمام علي بن الحسين : حملت على
بعير هزيل ، بغير وطاء ، ورأس الحسين 7
على علم ، ونسوتنا خلفي ، على بغال ، والحرس خلفنا وحولنا بالرماح ، إن دمعت من
أحدنا عين قرع رأسه بالرمح! حتى دخلنا دمشق ، صاح صائح : يا أهل الشام : هؤلاء
سبايا اهل البيت.
السيدة زينب الكبرى في الشام
ووصل موكب الحزن والأسى إلى دمشق :
عاصمة الأمويين ، ومركز قيادتهم ، وبؤرة الحقد والعداء ، ومسكن الأعداء الألداء.
وقد إتخذ يزيد التدابير اللازمة لصرف
الأفكار والأنظار عن الواقع والحقيقة ، محاولا بذلك تغطية الأمور وتمويه الحقائق ،
فأمر بتزيين البلدة بأنواع الزينة ، ثم الإعلان في الناس عن وصول قافلة أسارى
وسبايا ، خرج رجالهم من الدين فقضى عليهم يزيد وقتلهم وسبى نساءهم ليعتبر الناس
بهم ، ويعرفوا مصير كل من يتمرد على حكم يزيد!
ومن الواضح أن الدعاية والإعلام لها
دورها في تمويه الحقائق ، وخاصة على السذج والعوام من الناس.
إستمع إلى الصحابي : سهل بن سعد الساعدي
قال : « خرجت إلى بيت المقدس ، حتى توسطت الشام ، فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار ،
كثيرة الأشجار ، قد علقوا الستور والحجب والديباج ، وهم فرحون مستبشرون ، وعندهم
نساء يلعبن بالدفوف والطبول.
فقلت ـ في نفسي ـ : لا نرى لأهل الشام
عيداً لا نعرفه نحن. فرأيت قوماً يتحدثون ، فقلت : يا قوم لكم بالشام عيد لا نعرفه
نحن؟!
قالوا : يا شيخ نراك أعرابياً غريباً!
فقلت : أنا سهل بن سعد ، قد رأيت محمداً
6.
قالوا : يا سهل ، ما أعجبك السماء لا
تمطر دماً ، والأرض لا تنخسف بأهلها!
قلت : ولم ذاك؟
قالوا : هذا رأس الحسين عترة محمد يهدى
من أرض العراق!
فقلت : واعجباه .. يهدى رأس الحسين
والناس يفرحون؟!
ثم قلت : من أي باب يدخل؟
فأشاروا إلى باب يقال له : « باب
الساعات ».
فبينا أنا كذلك إذ رأيت الرايات يتلو
بعضها بعضاً ، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان
عليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله 6.
فإذا أنا من ورائه رأيت نسوةً على جمال
بغير وطاء ، فدنوت من أولاهن ، فقلت : يا جارية : من أنت؟
فقالت : أنا سكينة بنت الحسين.
فقلت لها : الك حاجة إلي؟ فأنا سهل بن
سعد ممن رأى جدك وسمعت حديثه.
قالت : يا سهل : قل لصاحب هذا الرأس أن
يقدم الرأس أمامنا ، حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى حرم رسول الله.
قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس فقلت له
: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة ديناراً؟
قال : ما هي؟
قلت : تقدم الرأس أمام الحرم.
ففعل ذلك.
فدفعت إليه ما وعدته ... ».
* * * *
ولما أدخلوهن دمشق طافوا بهن في الشوارع
المؤدية إلى قصر الطاغية يزيد ، ومعهن الرؤوس على الرماح ، ثم جاؤوا بهن حتى
أوقفوهن على دكة كبيرة كانت أمام باب المسجد الجامع ، حيث كانوا يوقفون سبايا
الكفار على تلك الدكة ، ويعرضونهم
للبيع ، ليتفرج عليهم المصلون لدى دخولهم إلى المسجد وخروجهم منه ، وبذلك يختاروا
من يريدونه للإستخدام ويشتروه.
نعم ، إن الذين كانوا يعتبرون أنفسهم
مسلمين ، ومن أمة محمد رسول الله .. أوقفوا آل الرسول على تلك الدكة.
يا للأسف!
يا للمأساة!
يا للفاجعة!
يا للمصيبة!
وجاء شيخ
ودنى من نساء الحسين 7
وقال :
« الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم ، وأراح
البلاد من رجالكم ، وأمكن أمير المؤمنين منكم ».
فقال له علي بن الحسين 7 : « يا شيخ : هل قرأت القرآن »؟
قال : نعم.
قال : فهل عرفت هذه الآية : « قل لا أسألكم عليه
أجراً إلا المودة في القربى » ؟
قال الشيخ : قد قرأت ذلك.
فقال له الإمام : « نحن القربى يا شيخ ،
فهل قـرأت : « وآت ذا
القـربى حقـه »؟
فقال الشيخ : قد قرأت ذلك.
فقال الإمام : « فنحن القربى يا شيخ ،
فهل قرأت
هذه الآية « واعلموا أنما غنمتم
من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى »
»؟
قال : نعم.
فقال الإمام : « فنحن القربى يا شيخ ،
وهل قرأت هذه الآية : «
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً »
».
قال الشيخ : قد قرأت ذلك.
فقال الإمام : « نحن أهل البيت الذين
خصنا الله بآية الطهارة يا شيخ ».
قال الراوي : بقي الشيخ ساكتاً نادماً
على ما تكلم به ، وقال ـ متعجباً ـ : تالله إنكم هم؟!
فقال علي بن الحسين : « تالله إنا لنحن
هم .. من غير شك ، وحق جدنا رسول الله إنا لنحن هم ».
فبكى الشيخ ورمى عمامته ، ثم رفع رأسه
إلى السماء وقال : اللهم إني أبرأ إليك من عدو آل محمد ، من الجن والإنس.
ثم قال : هل لي من توبة؟
فقال له الإمام : « نعم ، إن تبت تاب
الله عليك ، وأنت معنا ».
فقال الشيخ : أنا تائب.
فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ ، فأمر
به فقتل.
الدخول في مجلس الطاغية يزيد
روي عن الإمام علي بن الحسين 8 أنه قال : « لما أرادوا الوفود بنا على
يزيد بن معاوية أتونا بحبال وربطونا مثل الأغنام
وكان الحبل بعنقي وعنق أم كلثوم ، وبكتف زينب وسكينة والبنيات ، وساقونا وكلما
قصرنا عن المشي ضربونا ، حتى أوقفونا بين يدي يزيد ، فتقدمت إليه ـ وهو على سرير
مملكته ، وقلت له : ما ظنك برسول الله لو يرانا على هذه الصفة »؟!
فأمر بالحبال فقطعت من أعناقنا
واكتافنا.
وروي ـ أيضاً ـ أن الحريم لما أدخلن إلى
يزيد بن
معاوية ، كان ينظر
إليهن ويسأل عن كل واحدة بعينها وهن مربطات بحبل طويل ، وكانت بينهن امرأة تستر
وجهها بزندها ، لأنها لم تكن عندها ما تستر به وجهها.
فقال يزيد : من هذه؟
قالوا : سكينة بنت الحسين.
فقال : أنت سكينة؟
فبكت واختنقت بعبرتها ، حتى كادت تطلع
روحها!!
فقال لها : وما يبكيك؟
قالت : كيف لا تبكي من ليس لها ستر تستر
وجهها ورأسها ، عنك وعن جلسائك؟!
ماذا حدث في مجلس يزيد؟
وروى الشيخ المفيد في كتاب ( الإرشاد )
: قالت فاطمة بنت الحسين 7
:
« فلما جلسنا بين يدي يزيد رق لنا! فقام
إليه رجل من أهل الشام أحمر فقال : « يا
أمير المؤمنين! هب لي هذه الجارية ـ وهو يعنيني ـ
، وكنت جارية وضيئة فأرعدت ،
وظننت أن ذلك جائزلهم ، فأخذت بثياب
عمتي : زينب ، ـ
وكانت تعلم أن ذلك لا يكون ـ وقلت :
« يا عمتاه : أوتمت وأستخدم »؟
فقالت زينب : « لا ، ولا كرامة لهذا
الفاسق » ، وقالت ـ للشامي ـ :
« كذبت ـ والله ـ ولؤمت ، والله ما ذلك
لك ولا له ».
فغضب يزيد ، وقال : كذبت والله ، إن ذلك
لي! ولو شئت أن أفعل لفعلت.
قالت [ زينب ] : « كلا ، والله ما جعل
الله ذلك لك إلا أن تخرج عن ملتنا ، وتدين بغير ديننا »!
فاستطار يزيد غضباً ، وقال :
« إياي تستقبلن بهذا؟ إنما خرج من الدين
أبوك وأخوك »!!؟
فقالت زينب : « بدين الله ، ودين أبي ،
ودين أخي إهتديت أنت وجدك وأبوك .. إن كنت مسلماً »!
قال : كذبت يا عدوة الله!!
قالت له : « أنت أمير تشتم ظالماً ،
وتقهر
بسلطانك ».
فكأنه استحيى وسكت ، فعاد الشامي فقال :
هب لي هذه الجارية؟
فقال يزيد : « أعزب! وهب الله لك حتفاً
قاضياً »!
فقال الشامي : من هذه الجارية؟
قال يزيد : هذه فاطمة بنت الحسين ، وتلك
زينب بنت علي بن أبي طالب!!
فقال الشامي : الحسين بن فاطمة .. وعلي
بن أبي طالب؟!
قال : نعم.
فقال الشامي : لعنك الله ـ يا يزيد ـ
اتقتل عترة نبيك ، وتسبي ذريته؟ والله ما توهمت إلا أنهم سبي الروم.
فقال يزيد : والله لألحقنك بهم.
ثم أمر به فضرب عنقه.
رأس الإمام الحسين عليه السلام
في مجلس الطاغية يزيد
وجاء في التاريخ : ثم وضع رأس الحسين 7 بين يدي يزيد ، وأمر بالنساء أن يجلس
خلفه ، لئلا ينظرن إلى الرأس ، لكن زينب لما رأت الرأس الشريف هاج بها الحزن ،
فأهوت إلى جيبها فشقته ثم نادت ـ بصوت حزين يقرح القلوب ـ : « يا حسيناه!
يا حبيب رسول الله!
يابن مكة ومنى!
يابن فاطمة الزهراء سيدة النساء!
يابن المصطفى »!
قال الراوي : فأبكت ـ والله ـ كل من كان
حاضراً في المجلس ، ويزيد ساكت!
ثم دعى يزيد بقضيب خيزران ، فجعل ينكت
به ثنايا الإمام الحسين 7.
فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي وقال :
ويحك يا يزيد! أتنكت بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة؟! أشهد لقد رأيت النبي يرشف
ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول : « أنتما سيدا شباب أهل الجنة ، قتل الله
قاتليكما ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا ».
فغضب يزيد وأمر بإخراجه ، فأخرج سحباً.
* * * *
وجعل يزيد يقول :
ليت أشياخي ببـدر شهدوا
|
|
جزع الخزرج من وقع الأسل
|
لأهلوا و استهلـوا فرحـا
|
|
ثم قالـوا : يا يزيد لا تشـل
|
قد قتلنـا القرم من ساداتهم
|
|
وعـدلنـاه ببـدر فـاعتـدل
|
لعبـت هـاشـم بالملـك فـلا
|
|
خبـر جـاء ولا وحـي نـزل
|
لست من خندف إن لم أنتقم
|
|
من بنـي أحمد ما كان فعل
|
الفصل السادس
عشر
لماذا
خطبت السيدة زينب في مجلس يزيد؟
خطبة
السيدة زينب 3 في مجلس الطاغية يزيد
شرح
خطبة السيدة زينب في مجلس يزيد
نص
خطبة السيدة زينب
على
رواية أخرى
لماذا خطبت السيدة زينب
في مجلس يزيد؟
لقد شاهدت السيدة زينب الكبرى 3 في مجلس يزيد مشاهد وقضايا ، وسمعت من
يزيد كلمات تعتبر من أشد أنواع الإهانة والإستخفاف بالمقدسات ، وأقبح أشكال
الإستهزاء بالمعتقدات الدينية ، وأبشع مظاهر الدناءة واللؤم .. في تصرفاته الحاقدة!!
مظاهر وكلمات ينكشف منها إلحاد يزيد
وزندقته وإنكاره لأهم المعتقدات الإسلامية.
مضافاً إلى ذلك .. أن يزيد قام بجريمة
كبرى ، وهي أنه وضع رأس الإمام الحسين 7
أمامه وبدأ يضرب بالعصا على شفتيه وأسنانه ، وهو ـ حينذاك ـ يشرب الخمر!!
فهل يصح ويجوز للسيدة زينب أن تسكت ،
وهي إبنة صاحب الشريعة الإسلامية ، الرسول الأقدس سيدنا محمد 6؟!
كيف تسكت .. وهي تعلم أن بإمكانها أن تزيف
تلك الدعاوى وتفند تلك الأباطيل ، لأنها مسلحة بسلاح المنطق المفحم ، والدليل القاطع
، وقدرة البيان وقوة الحجة؟!
ولعل التكليف الشرعي فرض عليها أن تكشف
الغطاء عن الحقائق المخفية عن الحاضرين في ذلك المجلس الرهيب ، لأن المجلس كان
يحتوي على شخصيات عسكرية ومدنية ، وعلى شتى طبقات الناس. فقد كان يزيد قد أذن
للناس إذناً عاماً لدخول ذلك المجلس ، فمن الطبيعي أن تموج الجماهير في ذلك المكان
وحول ذلك المكان ، وقد خدعتهم الدعايات الأموية ، وجعلت على أعينهم أنواعاً من
الغشاوة ، فصاروا لا يعرفون الحق من الباطل ، منذ أربعين سنة طيلة أيام حكم معاوية
بن أبي سفيان على تلك البلاد.
وعلامات الفرح والسرور تبدو على الوجوه
بسبب إنتصار السلطة على عصابة عرفتهم أجهزة الدعاية الأموية بصورة مشوهة.
وقد تعود أهل الشام على مشاهدة قوافل
الأسرى التي كانت تجلب إلى دمشق بعد الفتوحات.
أما ينبغي لحفيدة رسول الله 6 أن تنتهز هذه الفرصة ، وتجازف بحياتها
في سبيل الله ، وتنفض الغبار عن الحق والحقيقة ، وتعرف الباطل بكل صراحة ووضوح؟
بالرغم من أنها كانت أجل شأناً ، وأرفع
قدراً من أن تخطب في مجلس ملوث لا يليق بها ، لأنها سيدة المخدرات والمحجبات!
ولكن الضرورة أباحت لها أن توقظ تلك
الضمائر التي عاشت في سبات ، وتعيد الحياة الى القلوب التي أماتتها الشهوات ،
وغمرتها أنواع الفجور ، والإنحراف عن الفطرة ، فباتت وهي لم تسمع كلمة موعظة من
واعظ ، ولا نصيحة من ناصح.
خطبة السيدة زينب عليها السلام
في مجلس الطاغية يزيد
لقد روى الشيخ الطبرسي في كتاب «
الإحتجاج » خطبة السيدة زينب الكبرى 3
، ورواها ـ أيضاً ـ السيد ابن طاووس في كتاب « الملهوف ».
وبين الروايتين بعض الفروق والإضافات
المهمة ، ونحن نذكر ـ أولاً ـ نص الخطبة على رواية الطبرسي ، ثم نذكر شرحاً
متواضعاً للخطبة .. وبعد الفراغ من شرحها ، نذكر نصاً آخر للخطبة على رواية أخرى
من دون أن نشرح كلمات النص الثاني.
ونكتفي بذكر توضيحات مختصرة لبعض كلمات
الخطبة ـ على رواية ابن طاووس ـ في هامش الصفحة ، والله المستعان.
روى الشيخ الطبرسي في كتاب « الإحتجاج »
ما يلي :
« إحتجاج زينب بنت علي بن أبي طالب ،
حين رأت يزيد ( لعنه الله ) يضرب ثنايا الحسين 7
بالمخصرة .
« روى شيخ صدوق من مشايخ بني هاشم ،
وغيره من الناس : أنه لما دخل علي بن الحسين 7
وحرمه على يزيد ، وجيء برأس الحسين 7
ووضع بين يديه في طست ، فجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده ، وهو يقول :
لعبـت هاشم بالملـك فـلا
|
|
خبـر جاء ولا وحـي نزل
|
ليـت أشياخـي ببدر شهدوا
|
|
جزع الخزرج من وقع الأسل
|
لأهلـوا و استهلـوا فرحـا
|
|
ولقالـوا : يا يزيد : لا تشل
|
فجـزينـاه ببـدر مثـلاً
|
|
وأقمنـا مثل بـدر فاعتـدل
|
لسـت من خندف إن لم أنتقم
|
|
من بني أحمد ما كان فعل
|
قالوا : فلما رأت زينب ذلك أهوت إلى
جيبها فشقته ، ثم نادت
بصوت حزين يقرح القلوب : « يا حسيناه! يا حبيب رسول الله ، يا بن مكة ومنى ، يا بن
فاطمة الزهراء سيدة النساء ، يا بن محمد المصطفى ».
قال : فأبكت ـ والله ـ كل من كان ،
ويزيد ساكت ، ثم قامت على قدميها ، وأشرفت على المجلس ، وشرعت في الخطبة ، إظهاراً
لكمالات محمد 6
وإعلاناً بأنا نصبر لرضى الله ، لا لخوف ولا دهشة ، فقامت إليه زينب بنت علي ،
وأمها فاطمة بنت رسول الله ، وقالت :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة على
جدي سيد المرسلين.
صدق الله سبحانه ، كذلك يقول : « ثم كان عاقبة الذين
أساؤا السوئى أن كذبوا بآيات الله ، وكانوا بها يستهزئون ».
أظننت ـ يا يزيد ـ حين أخذت علينا أقطار
الأرض
، وضيقت علينا آفاق السماء ، فأصبحنا لك في إسار ، نساق إليك سوقاً في قطار ، وأنت
علينا ذواقتدار ، أن بنا من الله هواناً ، وعليك منه كرامةً
وامتنانا
، وأن ذلك لعظم خطرك وجلالة قدرك ، فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، تضرب أصدريك
فرحاً ، وتنفض مذرويك مرحاً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة
والأمور لديك متسقة ، وحين صفى لك ملكنا ، وخلص لك سلطاننا ، فمهلاً مهلا ، لا تطش
جهلاً ، أنسيت قول الله ( عزوجل ) : « ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير
لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ، ولهم عذاب مهين »
.
أمن العدل ـ يابن الطلقاء ـ تخديرك
حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ،
تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهن أهل المناقل ، ويتبرزن لأهل المناهل
، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والشريف والوضيع ، والدنيئ والرفيع ، ليس معهن
من رجالهن ولي ، ولا
من حماتهن حمي ، عتواً منك على الله ، وجحوداً لرسول الله ، ودفعاً لما جاء به من
عند الله.
ولا غرو منك ولا عجب من فعلك ، وأنى
ترتجى مراقبة إبن من لفظ فوه أكباد الشهداء ، ونبت لحمه بدماء السعداء ، ونصب
الحرب لسيد الأنبياء ، وجمع الأحزاب ، وشهر الحراب ، وهز السيوف في وجه رسول الله 6. أشد العرب لله جحوداً ، وأنكرهم له
رسولاً ، وأظهرهم له عدواناً ، وأعتاهم على الرب كفراً وطغياناً.
ألا إنها نتيجة خلال الكفر ، وضب يجرجر
في الصدر لقتلى يوم بدر.
فلا يستبطى في بغضنا ـ أهل البيت ـ من
كان نظره إلينا شنفاً وإحناً وأضغانا ، يظهر كفره برسول الله ، ويفصح ذلك بلسانه
وهو يقول ـ فرحاً بقتل ولده وسبي ذريته ، غير متحوب ولا مستعظم ، يهتف بأشياخه ـ :
لأهلـوا واستهلـوا فرحاً
|
|
ولقالوا : يا يزيد : لا تشل
|
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله ـ وكانت
مقبل رسول الله 6
ـ ينكتها بمخصرته ، قد التمع السرور بوجهه.
لعمري لقد نكأت القرحة ، واستأصلت
الشأفة ، بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنة ، وابن يعسوب الدين
، وشمس آل عبد المطلب.
وهتفت بأشياخك ، وتقربت بدمه إلى الكفرة
من أسلافك ، ثم صرخت بندائك ، ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك ، ووشيكاً تشهدهم ولن
يشهدوك ، ولتود يمينك ـ كما زعمت ـ شلت بك عن مرفقها وجذت ، وأحببت أمك لم تحملك ،
وإياك لم تلد ، حين تصير
إلى سخط الله ، ومخاصمك رسول الله 6.
اللهم خذ بحقنا ، وانتقم من ظالمنا ،
واحلل غضبك على من سفك دماءنا ، ونقض ذمارنا ، وقتل
حماتنا ، وهتك عنا سدولنا.
وفعلت فعلتك التي فعلت ، وما فريت إلا
جلدك ، وما جزرت إلا لحمك ، وسترد على رسول الله بما تحملت من دم ذريته ، وانتهكت
من حرمته ، وسفكت من دماء عترته ولحمته ، حيث يجمع به شملهم ، ويلم به شعثهم ،
وينتقم من ظالمهم ، ويأخذ لهم بحقهم من أعدائهم ، فلا يستفزنك الفرح بقتلهم ، « ولا تحسبن الذين
قتلوا في سبيل الله أمواتاً ، بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من
فضله ».
وحسبك بالله ولياً وحاكماً ، وبرسول
الله خصماً ، وبجبرائيل ظهيرا.
وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المسلمين
أن « بئس
للظالمين بدلاً » وأيكم شر مكاناً
وأضل سبيلا.
وما استصغاري قدرك ، ولا استعظامي
تقريعك توهماً لانتجاع الخطاب فيك ، بعد أن تركت
عيون المسلمين ـ به
ـ عبرى ، وصدورهم ـ عند ذكره ـ حرى.
فتلك قلوب قاسية ، ونفوس طاغية ، وأجسام
محشوة بسخط الله ، ولعنة الرسول ، قد عشش فيها الشيطان وفرخ ، ومن هناك مثلك ما
درج .
فالعجب كل العجب لقتل الأتقياء ، وأسباط
الأنبياء ، وسليل الأوصياء ، بأيدي الطلقاء الخبيثة ، ونسل العهرة الفجرة!!
تنطف أكفهم من دمائنا ، وتتحلب أفواههم
من لحومنا.
تلك الجثث الزاكية على الجبوب الضاحية ،
تنتابها العواسل ، وتعفرها أمهات الفواعل.
فلئن اتخذتنا مغنماً ، لتجد بنا ـ
وشيكاً ـ مغرماً ، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك ، وما الله بظلام للعبيد.
فإلى الله المشتكى والمعول ، وإليه
الملجأ والمؤمل.
ثم كد كيدك ، واجهد جهدك.
فوالله الذي شرفنا بالوحي والكتاب ،
والنبوة والإنتخاب ، لا تدرك
أمدنا ، ولا تبلغ غايتنا ، ولا تمحو ذكرنا ، ولا يرحض عنك عارها.
وهل رأيك إلا فند؟ وأيامك إلا عدد؟ وجمعك
إلا بدد؟
يوم ينادي المنادي : ألا : لعن الله
الظالم العادي.
والحمد لله الذي حكم لأوليائه بالسعادة
، وختم لأصفيائه بالشهادة ، ببلوغ الإرادة ، ونقلهم إلى الرحمة والرأفة ، والرضوان
والمغفرة.
ولم يشق ـ بهم ـ غيرك ، ولا ابتلي ـ بهم
ـ سواك.
ونسأله أن يكمل لهم الأجر ، ويجزل لهم
الثواب والذخر ، ونسأله حسن الخلافة ، وجميل الإنابة ، إنه رحيم ودود ».
فقال يزيد ـ مجيباً لها ـ :
يـا صيحة تحمد مـن صوائح
|
|
ما أهون الموت على النوائح
|
__________________
شرح خطبة السيدة زينب
في مجلس يزيد
قبل أن نبدأ بشرح بعض كلمات هذه الخطبة
نجلب إنتباه القارئ الكريم إلى هذا التمهيد :
تدبر قليلاً لتتصور أجواء ذلك المجلس
الرهيب ، ثم معجزة السيدة زينب الكبرى في موقفها الجريئ!
بالله عليك! أما تتعجب من سيدة أسيرة
تخاطب ذلك الطاغوت بذلك الخطاب؟
وتتحداه تحدياً لا تنقضي عجائبه؟
ولا تهاب الحرس المسلح الذي ينفذ
الأوامر بكل سرعة وبدون أي تأمل أو تعقل؟!
وأعجب من ذلك سكوت يزيد أمام ذلك الموقف
مع قدرته وإمكاناته؟
وكأنه عاجز لا يستطيع أن يقول شيئاً أو
يفعل شيئاً!
أليس من العجيب أن يزيد ـ وهو طاغوت
زمانه ، وفرعون عصره ـ لم يستطع أو لم يتجرأ على أن يرد على السيدة زينب كلامها ،
بل يشعر بالعجز والضعف عن مقاومة السيدة زينب ، ويكتفي بقراءة قول الشاعر :
« يا صيحة تحمد من صوائح »!
فما معنى هذا البيت في هذا المقام؟!
وما المناسبة بين هذا البيت وبين كلمات
خطبة السيدة زينب؟
فهل كانت حرفة السيدة زينب النياحة حتى
ينطبق عليها قول يزيد : « ما أهون النوح على النوائح »؟
وما يدرينا مدى ندم يزيد بن معاوية من
مضاعفات جرائمه التي ارتكبها؟ وخاصة تسيير آل رسول الله من العراق إلى الشام.
فإنه ـ بالقطع واليقين ـ ما كان يتصور
أن سيدة أسيرة سوف تغمسه في بحار الخزي والعار ،
فلا يستطيع يزيد أن
يغسل عن نفسه تلك الوصمات .. إلى يوم القيامة.
وتكشف الغطاء عن هوية يزيد ، وترفع
الستار عن ماهيته وأصله ، وحسبه ونسبه ، وسوابقه ولواحقه ، وتخاطبه بكل تحقير ،
وتقرع كلماتها مسامع يزيد ، وكأنها مطرقة كهربائية ، ترتج منها جميع أعصابه ،
فيعجز عن كل مقاومة!!
والآن إليك شرحاً موجزاً لبعض كلمات هذه
الخطبة الحماسية الملتهبة :
«
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على جدي سيد المرسلين »
إفتتحت كلامها بحمد الله رب العالمين ،
ثم الصلاة على جدها : سيد المرسلين ، فهي ـ بهذه الجملة ـ عرفت نفسها للحاضرين
أنها حفيدة رسول الله سيد المرسلين 6
حتى يعرف الحاضرون أن هذه العائلة المسبية الأسيرة هي من ذراري رسول الله ، لا من
بلاد الكفر والشرك. ثم قرأت السيدة هذه الآية :
« صدق الله سبحانه ، كذلك يقول : « ثم كان عاقبة الذين
أساؤا السوئى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها
يستهزؤون
»
».
وما أروع الإستشهاد بها ، وخاصةً في
مقدمة خطبتها!!
وعاقبة كل شيء : آخره ، أي : ثم كان آخر
أمر الذين أساؤا إلى نفوسهم ـ بالكفر بالله وتكذيب رسله ، وارتكاب معاصيه ـ السوئى
، أي : الصفة التي تسوء صاحبها إذا أدركته ، وهي عذاب النار.
« أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون »
أي : بسبب تراكم الذنوب والمعاصي في ملف أعمالهم حصل منهم التكذيب بآيات الله
والحقائق الثابتة ، وظهر منهم الإستهزاء بها وبالمقدسات الدينية.
وهي 3
تشير بكلامها ـ هذا ـ إلى تلك الأبيات التي قالها يزيد :
« لعبت هاشم بالملك فلا
|
|
خبر جاء ولا وحي نزل
|
ومعنى هذا البيت من الشهر : أن بني هاشم
ـ والمقصود من بني هاشم : هو رسول الله ـ لعب بالملك بإسم النبوة والرسالة ،
والحال أنه لم ينزل عليه وحي من السماء ، ولا جاؤه خبر من عند الله تعالى.
فتراه ينكر النبوة والقرآن والوحي!!
وهل الكفر والزندقة إلا هذا؟!
ثم إن بعض الناس ـ بسبب أفكارهم
المحدودة ـ يتصورون ـ خطأ ـ أن الإنتصار في الحرب يعتبر دليلاً على أنهم على حق ،
وعلى قربهم من عند الله تعالى ، فتستولي عليهم نشوة الإنتصار والظفر ، ويشملهم
الكبرياء والتجبر بسبب التغلب على خصومهم ؛
ولكن السيدة زينب الكبرى 3 فندت هذه الفكرة الزائفة ، وخاطبت
الطاغية يزيد باسمه الصريح ، ولم تخاطبه بكلمة : « أيها الخليفة » أو « يا أمير
المؤمنين » وأمثالهما من كلمات الإحترام.
نعم ، خاطبته باسمه ، وكأنها تصرح بعدم
إعترافها بخلافة ذلك الرجس ، فقالت :
« أظننت ـ يا يزيد ـ حين أخذت علينا أقطار الأرض
وضيقت علينا آفاق السماء ، فاصبحنا لك في أسار ، نساق إليك سوقاً في قطار ، وأنت
علينا ذو اقتدار ، أن بنا من الله هوانا ، وعليك منه كرامة وامتنانا
»؟!
تصف السيدة زينب حالها ، وأحوال من معها
من العائلة المكرمة ، أنهم كانوا في أشد الضيق ، كالإنسان
الذي أخذوا عليه ،
أي : منعوه وحاصروه من جميع الجوانب والجهات ، بحيث لا يستطيع الخروج والتخلص من
الأزمة.
وبعد هذا التضييق والتشديد ، والمنع
والحبس « أصبحنا
نساق » مثل الأسارى الذين يأتون بهم من بلاد
الكفر عند فتحها.
«
سوقاً في قطار » يقال ـ ولا
مناقشة في الأمثال ـ : « قطار الإبل » أي : عدد من الإبل على نسق واحد وفي طابور
طويل ، وقد قرأنا أن جميع أفراد العائلة ومعهم الإمام زين العابدين والسيدة زينب 8 كانوا مربوطين ومكتفين بحبل واحد!
«
وأنت علينا ذو اقتدار » أي : نحن في حالة
الضعف وأنت في حالة القدرة.
«
أن بنا من الله هواناً ، وعليك منه كرامة وامتناناً »؟!
أي : أظننت ـ لما رأيتنا مغلوبين ،
ووجدت الغلبة والظفر لنفسك ـ أن ليس لنا جاه ومنزلة عند الله ، لأننا مغلوبون؟!!
وظننت أن لك عند الله جاهاً وكرامة لأنك غلبتنا وظفرت بنا ، وقتلت رجالنا ، وسبيت
نساءنا؟!!
«
و » ظننت : « أن ذلك لعظم خطرك »
أي : لعلو منزلتك.
«
وجلالة قدرك » عند الله تعالى؟!
وعلى أساس هذا الظن الخاطئ الذي « لا
يغني من الحق شيئاً » و « إن بعض الظن إثم » ، إستولت عليك نشوةً الإنتصار.
«
فشمخت بانفك » يقال : شمخ بأنفه
: أي رفع أنفه عزاً وتكبراً.
«
ونظرت في عطفك » العطف ـ بكسر
العين ـ : جانب البدن ، والإنسان المعجب بنفسه ينظر إلى جسمه وإلى ملابسه بنوع من
الأنانية وحب الذات والغرور.
«
تضرب أصدريك فرحاً » الأسدران : عرقان
تحت الصدغين ، وضرب أصدريه : أي : حرك رأسه ـ بكيفية خاصة ـ تدل على شدة الفرح
والإعجاب بالنفس .. إزاء ما حققه من إنتصار موهوم.
«
وتنفض مذرويك مرحاً »
يقال : جاء فلان ينفض مذرويه. إذا جاء
باغياً يهدد
الآخرين.
هذا ما ذكره اللغويون ، ولكن الظاهر أن
معنى « ينفض مذرويه » أي يهز إليتيه ، وهو نوع من حركات الرقص عند المطربين حينما
تأخذهم حالة الطرب والخفة.
«
حين رأيت الدنيا لك مستوسقة »
أي : مجتمعة.
«
والأمور لديك متسقة »
أي : منتظمة ، بمعنى : أنك رأيت الأمور
على ما تحب وترضى ، وعلى ما يرام بالنسبة إليك ، فكل شيء يجري كما تريد.
«
وحين صفى لك ملكنا ، وخلص لك سلطاننا »
أي : ومن أسباب فرحك ، وقيامك بالحركات
الطائشة التي تدل على شدة سرورك ، أنك رأيت من نفسك ملكاً وسلطاناً قد نجح في خطته
التي رسمها لإبادة منافسه ، وأسر نسائه.
لكن .. إعلم أيها المغرور : أن هذه
القدرة والمكانة التي اغتصبتها ـ وهي الخلافة ـ هي لنا أساساً ، لأن يزيد
كان يحكم بإسم خلافة
رسول الله 6.
ومن الواضح أن خلافة رسول الله لها
موارد خاصة ، وأن خلفاء رسول الله أفراد معينون ، منصوص عليهم بالخلافة ، وهم :
الإمام علي بن أبي طالب ، والأئمة الأحد عشر من ولده :
، ولكن الآن .. صارت تلك القدرة والسلطة بيد يزيد!!
بعد هذه المقدمة والتمهيد قالت :
«
فمهلاً مهلاً »
يقال ـ للمسرع في مشيه ، أو المتفرد
برأيه ـ : مهلاً. أو : على مهلك ، أي : أمهل ، ولا تسرع ، أي : ليس الأمر كما
تعتقد أو كما تظن ، أو : ليس هذا الإسراع في العمل صحيحاً منك فلا تعجل حتى نبين
لك حقيقةً الأمر.
«
لا تطش جهلاً » طاش فلان : أخذه
الغرور وفقد إتزانه ، فصار غير ناضج في تصرفاته.
أي : يا يزيد! لا تطش .. بسبب جهلك
بالحقائق ، وخلطك بين المفاهيم والقيم ، والإغترار بالظواهر.
«
أنسيت قول الله ( عزوجل ) : « ولا يحسبن الذين
كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين »؟!!
نملي : أي نطيل لهم المدة والمجال ، أو
نطيل أعمارهم ونجعل الساحة مفتوحة أمامهم « خير لأنفسهم » ، بل : إنما نطيل
أعمارهم ومدة سلطتهم وحكومتهم .. لتكون عاقبة أمرهم هي إزدياد الإثم والمعاصي في
ملف أعمالهم ، ولهم عذاب مهين ، أي : يجزيهم ـ في جهنم ، تعذيباً ممزوجاً مع
الإهانة والتحقير.
ثم خاطبته وذكرته بأصله السافل ، ونسبه
المخزي ، فقالت :
«
أمن العدل يا بن الطلقاء »
وهذه الكلمة إشارة إلى ما حدث يوم فتح
مكة ، فإن رسول الله 6
لما فتح مكة ـ وصارت تحت سلطته ـ كان بإمكانه أن يقتلهم لما صدرت منهم من مواقف
عدائية وحروب طاحنة ومتتالية ضد النبي الكريم ـ بالذات ـ وضد المسلمين بصورة عامة
، لكنه رغم كل
ذلك .. إلتفت إليهم
وقال لهم :
« يا معاشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟
»
قالوا : « خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ
كريم »
فقال لهم : « إذهبوا فأنتم الطلقاء »
وكان فيهم : معاوية وأبو سفيان.
ويزيد هو ابن معاوية ، وحفيد أبي سفيان
، ويطلق عليه ( ابن الطلقاء ) إذ قد يستعمل ضمير الجمع في مورد التثنية.
أما معنى كلمة « يابن الطلقاء »
فالطلقاء ـ جمع طليق ـ : وهو الأسير الذي أطلق عنه إساره ، وخلي سبيله.
إن رسول الله 6 فتح مكة ، فصارت البلدة ومن فيها تحت
سلطته وقدرته ، وكان بإمكانه أن ينتقم منهم أشد إنتقام ، وخاصة من أبي سفيان الذي
كان يؤجج نار الفتن ، ويثير الناس ضد رسول الله ، ويقود الجيوش والعساكر لمحاربة
النبي والمسلمين ، كما حدث ذلك يوم بدر وأحد ، وحنين
والأحزاب ، وهكذا
إبنه معاوية « الذي كان على دين أبيه » ، ولكن الرسول الكريم أطلقهما وخلى سبيلهما
في من أطلقهم.
قال الله تعالى : « فإذا لقيتم الذين
كفروا فضرب الرقاب ، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما مناً بعد وإما فداءً ،
حتى تضع الحرب أوزارها »
« فإما منا بعد » أي : إما أن تمنوا
عليهم مناً بعد أن تأسروهم ، أي : تحسنوا إليهم فتطلبوا منهم دفع شيء من المال
إزاء إطلاقكم سراحهم.
وكان رسول الله 6 مخيراً بين ضرب أعناقهم وبين المن
والفداء ، فاختار الرسول الكريم المن وأطلقهم بلا فداء ولا عوض.
والظاهر أن السيدة زينب تقصد من كلمة «
يابن الطلقاء » واحداً من معنيين :
المعنى الأول : أن تذكر يزيد بأنه ابن
الطليقين الذين أطلقهما رسول الله 6
مع أهل مكة ، وكأنهم عبيد ، فتكون الجملة تذكيراً له بسوء
سوابقه المخزية وملف
والده وجده!
والمعنى الثاني : أن تذكر يزيد بالإحسان
الذي بذله رسول الله لأسلاف يزيد حيث أطلقهم ، فقالت : « أمن العدل » أي : هل هذا
جزاء إحسان رسول الله 6
مع أسلافك .. أن تتعامل مع حفيدات الرسول هذا التعامل السيئ؟!
ولعل السيدة زينب قصدت المعنيين معاً.
ومن الواضح أنها لا تقصد ـ من كلامها
هذا ـ السؤال والإستفهام ، بل تقصد توبيخ يزيد على سلوكه القبيح ، ونفسيته المنحطة
، وتنكر عليه تعامله السيئ ، وتعلن له أنه بعيد ـ كل البعد ـ عن أوليات الفطرة
البشرية ، وهي جزاء الإحسان بالإحسان!!
«
تحذيرك حرائرك وإماءك »
يقال : خدر البنت : الزمها الخدر ، أي :
أقامها وراء الستر.
الحرائر ـ جمع حرة ـ : نقيض الأمة.
«
وسوقك بنات رسول الله سبايا »
السوق : يقال : ساق الماشية يسوقها
سوقاً : حثها على السير من خلف
وذلك يعني : الحث على السير من الوراء مع عدم الإحترام.
اقول : لا يرجى من يزيد العدل والعدالة
، ولكنه لما ادعى الخلافة لنفسه ، كان المفروض والمتوقع منه أن يكون عادلاً.
ولهذا خاطبته السيدة زينب بقولها : أمن
العدل أن تجعل جواريك والنساء الحرائر ـ الساكنات في قصرك ـ وراء الخدر ، وتسوق
بنات الرسالة وعقائل النبوة ، ومخدرات الوحي .. سبايا؟
«
قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن »
فبعد أن كن مخدرات مستورات ، لا يرى أحد
لهن ظلاً ، وإذا بهن يرين أنفسهن أمام أنظار الرجال الأجانب ، وبعد أن كن محجبات
.. وإذا بالأعداء قد سلبوهن ما كن يسترن به وجوههن .. من البراقع والمقانع!
«
تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد »
أي : يسوقهن الأعداء من كربلاء إلى
الكوفة ، ومنها إلى الشام ، ويمرون بهن على البلاد التي في طريق الشام.
وحينما كان يمر موكبهن على البلاد
والقرى والأرياف ، كان الناس ـ على اختلاف طبقاتهم ـ يخرجون للتفرج عليهن ،
وأحياناً كانوا يصعدون على سطوح دورهم للتفرج عليهن ، ولهذا قالت السيدة :
«
ويستشرفهن أهل المناقل ، ويتبرزن لأهل المناهل »
المناقل ـ جمع منقل ـ وهو الطريق إلى
الجبل. والمناهل ـ جمع منهل ـ : وهو الماء الذي ينزل عنده والمقصود : المنازل التي
في طريق المسافرين ، للتزود بالماء أو الإستراحة.
«
ويتصفح وجوههن القريب والبعيد »
يتصفح : أي يتأمل وجوههن لينظر إلى
ملامحهن!!
«
والشريف والوضيع ، والدنيء والرفيع »
والحال أنه « ليس معهن من رجالهن
ولي ، ولا من حماتهن حمي » ، عائلة
محترمة ، وليس معهن من رجالهن أحد يشرف على شؤونهن ويحرسهن ويحميهن من الأخطار
والأشرار ، لأن رجالهن قد قتلوا بأجمعهم ، ولم يبق منهم سوى الإمام زين العابدين
علي بن الحسين 7.
كل هذه الجرائم التي صدرت منك ، وبأمرك
كانت « عتواً منك
على الله »
العتو : هو التكبر.
«
وجحوداً لرسول الله »
الجحود : هو الإنكار مع العلم بأن هذا
هو الواقع والحق ، قال تعالى «
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ».
«
ودفعاً لما جاء به من عند الله »
الدفع : الإزالة والإبادة والرد.
أي : قمت بهذه الأعمال لأجل القضاء على
الإسلام ، وعلى ما جاء به رسول الله 6
من عند الله تعالى.
«
ولا غرو منك ، ولا عجب من فعلك »
لا غرو : لا عجب.
إن السيدة زينب 3 تعتبر تلك الجرائم ـ التي صدرت من يزيد
ـ أموراً طبيعية وظواهر غير عجيبة ، فـ « كل إناء بالذي فيه ينضح ».
وإن الآثار السلبية لعامل ـ بل عوامل ـ
الوراثة ، والإستمرار على شرب الخمر والفحشاء والفجور والعيش في أحضان العاهرات ،
كلها أسباب كان لها دورها في إيجاد هذه النتائج والعواقب السيئة للطاغية يزيد.
«
وأنى ترتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الشهداء ، ونبت لحمه بدماء السعداء؟ »
أي : كيف ومتى يتوقع الخوف من الله
تعالى .. من ابن من رمت من فمها أكباد الشهداء الأبرياء؟
هذه الكلمة إشارة إلى ما حدث في واقعة
أحد ، وإلى مقتل سيدنا حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء وعم رسول الله 6 حينما جاءت هند ـ أم معاوية ـ وجدة
يزيد ـ وشقت بطن سيدنا حمزة ، واخرجت كبده واخذت قطعة من كبده ، ووضعتها في فمها
وعضتها بأسنانها وحاولت أن تأكلها ، بسبب الحقد المتأجج في صدرها ، ولكن الله
تعالى أبى أن تدخل قطعة من كبد سيدنا حمزة في جوف تلك المرأة الساقطة ، فانقلبت
تلك القطعة صلبةً كالحجر ، فلم تؤثر أسنانها في الكبد ، فلفظتها ، ورمتها من فمها
، فاكتسبت بذلك لقب ( آكلة الأكباد )!!
ويزيد : هو حفيد هكذا امرأة حقودة.
وحقده على الدين وارتكابه للجرائم الكبيرة ليس بشيء جديد!!
«
ونصب الحرب لسيد الأنبياء »
لقد ذكرنا ـ في الفصل الرابع من هذا
الكتاب ـ أن أبا سفيان هو الذي كان يجهز الجيوش في مكة ، ويخرج لحرب رسول الله 6 وقتال المسلمين ، حينما كان النبي
الكريم في المدينة المنورة.
«
وجمع الأحزاب »
إن أبا سفيان هو الذي جمع العشائر
والقبائل الكثيرة .. من المشركين واليهود والنصارى وغيرهم ، وأمر بنفير عام وشامل
لمختلف الأعمار والديانات ، وخرج بجيش جرار كالسيل الزاحف ، للقضاء على الرسول
العظيم ومن معه من المسلمين ، في واقعة الأحزاب التي عرفت ـ فيما بعد ـ بـ « غزوة
الخندق ».
«
وشهر الحراب ، وهز السيوف في وجه رسول الله 6
»
الحراب ـ جمع حربة ـ : وهي آلة قصيرة من
الحديد ، محددة الرأس ، تستعمل في الحرب.
« وهز السيوف » كناية عن الخروج للحرب
وإصدار الأوامر للهجوم والغارة ، وبما أن أبا سفيان كان هو السبب في هذه الحروب
فقد جاءت كلمة « السيوف » بصيغة الجمع.
«
أشد العرب لله جحوداً ، وأنكرهم له رسولاً ، وأظهرهم له عدواناً ، وأعتاهم على
الرب كفراً وطغياناً ».
من الواضح أن العرب في مكة وغيرها ..
كانوا على درجات متفاوتة في نسبة إنكارهم لوجود الله تعالى ، أو إتخاذهم الأصنام
آلهة من دونه سبحانه.
فهناك من هو جاحد ومنكر مائة بالمائة ،
وهناك من هو جاحد ٧٠ % ، وهكذا.
ومنهم : من هو عازم على الإستمرار في
الكفر رغم علمه بالتوحيد ، ومنهم : من كان يعيش حالة الشك في الإستمرار في الكفر
أو الشرك.
ومنهم : من كان يحيك المؤامرات ضد النبي
الكريم بصورة سرية ، ومنهم : من كان يخرج لحرب رسول الله .. بشكل مكشوف.
ومنهم : من كان منكراً لله تعالى ..
ولكنه يتخذ موقف المحايد تجاه النبي الكريم ، ولا يبذل أي نشاط ضد الإسلام
والمسلمين.
ولكن الكافر الذي ضرب الرقم القياسي في
إنكار الله تعالى ، وإنكار رسالة النبي الكريم 6
: هو أبو سفيان.
هذه كلها صفات ومواصفات أبي سفيان ، وقد
ورثها منه حفيده يزيد ، حيث كان يشترك مع جده في جميع هذه الأوصاف والأحقاد ،
وبنفـس النسبة والدرجة ، لكن مـع
تبدُّل الظروف!
فلقد وقف أبو سفيان في وجه رسول الله 6 وحاربه وأظهر أحقاده.
وجاء ـ من بعده ـ إبنه معاوية ، فوقف في
وجه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7
وحاربه بكل ما لديه من طاقة وقوة ، وعلى مختلف الأصعدة والمجالات ، الإعلامية
والعسكرية وغيرها.
إن الوثائق التاريخية تقول : « مات
معاوية وعلى صدره الصنم » ، فكم تحمل هذه الكلمة من معان ودلالات ، « والحر تكفيه
الإشارة »!!
وقد جاء في التاريخ ـ أيضاً ـ : « مات
معاوية على غير ملة الإسلام ».
ثم جاء يزيد ـ من بعد معاوية ـ فكان
كالبركان يتفجر حقداً على آل رسول الله وأبناء الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب 7.
فماذا تراه يفعل؟!
وماذا تتوقع منه؟!
وخاصة وأنه يرى تحت تصرفه جيشاً كبيراً
ينفذ أوامره بكل سرعة ، ويطيعه طاعةً عمياء ، دون رعاية الجوانب الإنسانية أو
العاطفية أو الدينية. وكان له مستشار مسيحي حاقد إسمه : « سرجون » يملي عليه ما
يتبادر إلى ذهنه في كيفية القضاء على الإسلام ، ويرسم له الخطط للوصول إلى هذا
الهدف!
«
ألا : إنها نتيجة خلال الكفر »
ألا : حرف لجلب الإنتباه ، أو للتأكيد
على ما يخبر عنه.
النتيجة ـ هنا ـ العاقبة.
خلال ـ جمع خلة ـ وهي الخصلة.
أي : إن يزيد حينما أمر بقتل ريحانة
رسول الله الإمام الحسين 7
لم يكن لمجرد أنه كان يرى منه منافساً له في السلطة فقضى عليه ، بل إن ذلك كان من
منطلق الكفر والإلحاد ، ولذلك .. فهو لم يكتف بقتل الإمام ، بل أمر بسبي نسائه
وأطفاله ، وقام بغير ذلك من الجرائم والجنايات.
وهذه الأمور : هي نتيجة خبث نفسيته
الطائشة وأثر صفاته الكفرية الموروثة من أبيه وجده!
«
وضب يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر »
والضب ـ بكسر الضاد ـ : الغيظ الكامن
والحقد الخفي.
جرجر البعير : إذا ردد صوته في حنجرته.
أي : وحقد يتأجج في الصدر ، ويطالب يزيد
للأخذ بثارات المقتولين في غزوة بدر ، وهم أقطاب المشركين الذين كانوا قد خرجوا من
مكة لمحاربة رسول الله 6
وقتال المسلمين.
وهم المشركون الذين تمنى يزيد حضورهم
بقوله : « ليت أشياخي ببدر شهدوا » وهم : عتبة بن ربيعة ، وشيبة ، والوليد بن
شيبة.
أما عتبة فقتله عبيدة بن الحارث بن عبد
المطلب ، وأما شيبة وابنه الوليد فقد قتلهما الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
7.
إن جميع ما قام به الطاغية يزيد ، من
قتله الإمام الحسين وأصحابه وأهل بيته ، وسبي الطاهرات من نسائه وحرمه ، وإهانته
لرأس الإمام الحسين 7
تعتبر
نتيجة طبيعية للكفر
المكشوف والحقد الدفين في قلب يزيد ، فلم يكن يوجد في قلبه مقدار ذرة من الإيمان
بالله تعالى وبيوم القيامة ، بل إنه إتخذ منصب خلافة الرسول الكريم ، وسيلة لسلطته
على الناس ، وانهماكه في الشهوات ، ومحاربته للدين وعظماء الدين.
فقد كان يتجاهر بشرب الخمر ، ولعب
القمار وغيرهما من المنكرات التي حرمها الله سبحانه وبذلك أعطى الجرأة لجميع الناس
كي يجلسوا في الأماكن العامة ، ويرتكبوا ما شاؤا من المعاصي والذنوب ، من دون أي
خوف أو حذر ، أو حياء أو خجل ، أو إحترام لحدود الله تعالى ، أو رعاية للخطوط
الحمراء التي وضعها الله سبحانه حول بعض الأعمال المحرمة.
لقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام علي
بن موسى الرضا 8
أنه قال : « ... من نظر إلى الشطرنج فليلعن يزيد وآل يزيد ... »
«
فلا يستبطئ في بغضنا ـ أهل البيت ـ من كان نظره إلينا شنفاً وإحناً وضغناً »
وفي نسخة : « وكيف يستطبئ في بغضنا
»
أي : كيف لا يسرع إلى بغض أهل بيت رسول
الله 6 من كانت
نظرته وعقيدته فيهم عقيدة الكراهة والحقد.
والشنف والشنآن والإحن والأضغان :
معانيها متقاربة ، والمقصود منها : شدة الحقد والبغض.
«
يظهر كفره برسوله ، ويفصح ذلك بلسانه » :
إشارة إلى الأبيات التي أنشدها يزيد :
« لعبت هاشم بالملك فلا
|
|
خبر جاء ولا وحي نزل
|
فقد أظهر كفره برسالة النبي 6 وتجاهر بذلك ، واعتبر النبوة والرسالة
والوحي والقرآن كلها العاب ، وأنكرها جميعاً.
يفصح : أي يظهر ما في قلبه على لسانه.
«
وهو يقول ـ فرحاً بقتل ولده ، وسبي ذريته ، غير متحوب ولا مستعظم:
لأهلـوا واستهلوا فرحاً
|
|
ولقالوا : يا يزيد لا تشل »
|
غير متحوب : أي غير متأثم
أو غير متحرج من
القبيح. والحوبة :
من يأثم الإنسان في عقوقه .. كالوالدين.
والظاهر : أن السيدة زينب 3 تقصد أن يزيد كان يعيش حالة عدم
الإكتراث أو المبالاة بما قام به من جرائم ، وبما يصرح به من كلمات كفرية ، وبما
يشعر به من الفرح والسرور لقتله ابن رسول الله ، وسبي ذريته الطاهرة. إذ من الواضح
أن الذي لا يؤمن بيوم الجزاء لا يفكر في مضاعفات جرائمه ، ولا يشعر بالحرج أو
الخوف من أعماله التي سوف تجر إليه الويل!!
«
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله ـ وكان مقبل رسول الله 6
ـ ينكتها بمخصرته »
ثنايا ـ جمع الثنية ـ : وهي الأسنان
الأربع التي في مقدم الفم ، ثنتان من فوق وثنتان من تحت.
مقبل : موضع التقبيل.
ينكت : يضرب.
مخصرة : العصا ، وقيل : هي العصا التي
في أسفلها
حديدة محدة ، كحديدة
رأس السهم.
أقول : إن القلم ليعجز عن التعبير عن
شرح هذه المقطوعة من الخطبة!! وذلك لهول المصيبة ، فكيف تجرأ الطاغية يزيد على أن
يضرب تلك الثنايا المقدسة ، التي كانت موضعاً لتقبيل رسول الله .. مئات المرات ..
وفعل يزيد ذلك بمرأى من عائلة الإمام الحسين ونسائه وبناته؟!
ولم يكتف يزيد بالضرب مرةً واحدة أو
مرتين ، بل مرات متعددة ، وهو في ذلك الحال في أوج الفرح والإنتعاش!!
ولم يكن الضرب على الأسنان الأمامية فقط
، بل كان يضرب على شفتيه ووجهه الشريف ، ويفرق بين شفتيه بعصاه ليضرب على أسنانه!
إنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم
الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون!!
«
قد التمع السرور بوجهه »
قد يكون الفرح شديداً فيتدفق الدم إلى
الوجه فيحمر ، وبذلك تظهر آثار الفرح على ملامحه ، فيقال : إلتمع السرور بوجهه.
هكذا كانت فرحة يزيد حين ضربه تلك
الثنايا
الشريفة.
«
لعمري لقد نكات القرحة »
نكأ القرحة : قشرها بعد ما كادت تبرأ.
لعل المعنى : أن ضرب يزيد تلك الثنايا
صار سبباً لهيجان الأحزان من جديد ، وفجر دموع العائلة الكريمة ، فاستولى عليهن
البكاء والنحيب ، وخاصة أن بنتين من بنات الإمام الحسين 7 جعلتا تتطاولان ( أي : تقفان على رؤوس
أصابع رجليهما ) لتنظرا إلى الرأس الشريف ، من وراء كراسي الجالسين ، فلما نظرتا
إلى يزيد وهو يضرب الرأس الشريف ، ضجتا بالبكاء والعويل ، ولاذتا بعمتهما السيدة
زينب ، وقالتا : يا عمتاه! إن يزيد
يَضرب ثنايا أبينا ،
فقولي له : لا يفعل ذلك؟!
فقامت السيدة زينب 3 ولطمت على وجهها ونادت : « واحسيناه!
يابن مكّة ومِنى! يا يزيد : إرفع عودك عن ثنايا أبي عبد الله ».
«
واستأصَلتَ الشأفة »
يُقال : إستَأصل شأفته : أي أزاله من
أصله.
ولعلّ المعنى : يا يزيد : لقد قطعت شجرة
النبوة من جذورها بقتلك الإمام الحسين 7
فهو آخر من كان باقياً من أصحاب الكساء ، الذين نزلت فيهم « آية التطهير » وعبّر
الله تعالى عنهم ـ في القرآن الكريم ـ بكلمة « اهل البيت »
، فكلّ من كان يُقتل من هؤلاء الخمسة الطيّبة .. كانَ في الباقين ـ منهم ـ سلوة
لآل رسول الله ، وبقتل الإمام الحسين 7
إنقطعت شجرة أهل البيت من جذورها ، وكان ذلك بأمر يزيد وتنفيذ إبن زياد.
«
بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنّة ، وابن يعسوب
الدين
، وشمس آل عبد المطّلب »
يعسوب : النحلة التي يُعبّر عنها بـ «
المَلكة » في مملكة النحل ، وقد لقّب
رسول الله 6 الإمام أمير
المؤمنين علي بن ابي طالب 7
بلقب « يعسوب الدين » وشبّه شيعته بالنحل الذي يعيش في ظلّ تلك المملكة ويتّبع ذلك
اليعسوب ، واشتُهر بين المسلمين ـ في ذلك اليوم ـ هذا اللقب للإمام علي 7 ولذلك قال الشاعر :
ولايتي لأمير النحل تكفيني
|
|
عند الممات وتغسيلي وتكفيني
|
وطينتي عُجِنت من قَبل تكويني
|
|
بحبّ حيدر ، كيف النار تكويني؟!
|
ثمّ عبّرت السيدة زينب عن الإمام الحسين
7 بـ « شمس آل
عبد المطّلب » ، ويا لهذا التعبير من بلاغة راقية ، وتشبيه جميل ، فإنّ الإمام
الحسين كان هو الوجه المشرق الوضّاء والواجهة المُتلألأة لآل عبد المطلب بن هاشم ،
وسبب الفخر والإعتزاز لهم ، وهم كانوا المجموعة أو العشيرة الطيّبة لقبيلة قريش ،
وقريش كانت أشرف قبائل العرب.
«
وهَتَفتَ بأشياخك »
حينما قلتَ : « ليت أشياخي ببدر شهدوا »
فتمنّيت حضورهم ليروا إنتصارك الموهوم ، وأخذك لثارهم من آل رسول الله 6 ، مع أنّ أشياخك هم الذين خرجوا ـ من
مكة إلى المدينة ـ لقتال رسول الله ، وهم الذين بدؤا الحرب مع المسلمين ، فكانوا
بمنزلة الغُدّة السرطانيّة الخبيثة في جسم البشريّة ، وكان يلزم قطعها كي لا ينتشر
المرض والفساد في بقيّة أجزاء الجسم.
«
وتقرّبت بدمه إلى الكفرة من أسلافك »
أي : قُمتَ بإراقة دم الإمام الحسين 7 تقرّباً إلى أسلافك ، وقلتَ :
قد قَتَلنا القَرم مِن ساداتهم
|
|
وأقمنا مثل بدرٍ فاعتدَل
|
«
ثمّ صرختَ بندائك »
أي : بندائك لأشياخك. ومن هذه الجملة
يُستفاد أنّ يزيد كان رافعاً صوته حين قراءته لتلك الأبيات الكُفريّة ، والشعارات
الإلحادية.
«
ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك »
قال ابنُ مالك ـ ما معناه ـ : « لو :
حرفٌ يقتضي في الماضي إمتناع ما يليه ، واستلزامه لتاليه ».
وبناءً على هذا .. يكون معنى كلام
السيدة زينب 3 : يا يزيد!
لقد تمنّيتَ أسلافك لو كانوا حاضرين كي يشهدوك ويشهدوا أخذك لثارهم ، ولكنّ هذه
الأمنية لا تتحقّق لك ، فأسلافك موتى معذّبون في نار جهنّم ، ومن المستحيل أن
يعودوا الآن ويشهدوا ما قُمتَ به من الجرائم ، وليقولوا لك : سَلِمَت يداك!!
«
ووشيكاً تشهدهم ولن يشهدوك »
وشيكاً : أي : سريعاً أو قريباً
ويُقال : أمرٌ وشيك : أي : سريع
المعنى : يا يزيد : سوف تموت قريباً
عاجلاً ، لأنّ مُلكك يزول سريعاً ، ولا تطول أيام حياتك ، وتنتقل إلى عالم الآخرة
، إلى جهنّم فترى أسلافك هناك في الأغلال والقيود وفي صالات التعذيب ، وممرّات
السجون ، ولكنّهم لا يرونك ، أي : لا تجتمع معهم في مكان واحد ، لأنّك ستكون في
درجة أسفل منهم في طبقات نار جهنّم ، لأنّ جرائمك الموبقة تستوجب العذاب الأشدّ ،
لكنّك حين نزولك إلى ذلك المكان الأسفل ، سوف يكون طريقك عليهم ، فتراهم ولكنّهم
لا يرونك ، لأنّ شدة عذابهم يُشغلهم عن الإلتفات إلى ما حولهم ومَن حولهم مِن
الجُناة!
وقد رُوي عن رسول الله 6 أنّه قال : « إنّ قاتل الحسين بن علي
.. في تابوت من نار ، عليه نصف عذاب أهل الدنيا ، وقد شُدّت يداه ورجلاه بسلاسل من
نار ، مُنكّس في النار ، حتى يقع في قعر جهنّم ، وله ريحٌ يتعوّذ أهل النار إلى
ربهم من شدّة نتنه ، وهو فيها خالد ذائق
العذاب الأليم ، مع
جميع من شايع في قتله ، كلّما نضجت جلودهم بدّل الله ( عز وجل ) عليهم الجلود حتى
يذوقوا العذاب الأليم ، لا يُفَتّر عنهم ساعة ، ويُسقَون من حميم جهنّم ، فالويل
لهم من عذاب الله تعالى في النار ».
«
ولتودّ يمينُك ـ كما زعمت ـ شُلّت بك عن مِرفَقها وجُذّت »
شُلّت : الشلل : تعطّل أو تيبّسٌ في
حركة العضو أو وظيفته ، يُقال ـ في الدعاء ـ : شُلّت يمينك.
جُذّت : قُطعت أو كُسٍِرَت
المعنى : يا يزيد! إنّك في الدنيا زَعمت
أن أسلافك لو كانوا حاضرين .. لقالوا لك : « يا يزيد لا تُشَل » أمّا في يوم
القيامة ، حين تُعاقب تلك العقوبة الشديدة ، سوف تتمنّى أنّ يمينك كانت مشلولة أو
مقطوعة حتى لا تستطيع أن تَضرب بعصاك ثنايا الإمام الحسين 7.
وهذا إخبارٌ من السيدة زينب 3 بما يدور في ذهن يزيد حين يُلاقي جزاء
أعماله الإجراميّة.
وتتمنّى ـ أيضاً ـ حينما تُلاقي أشدّ
درجات العقوبة والتعذيب :
«
وأحبَبتَ أنّ أُمّك لم تحملك ، وإيّاك لم تَلِد حين تصير إلى سخط الله ومُخاصمك
رسول الله 6 »
أحبَبتَ ـ هنا ـ : بمعنى تَمنّيتَ من
أعماق قلبك أن أمّك لم تكن تحمل بك ، ولم تلدك حتى لا تكون مخلوقاً وموجوداً من
أول يوم ، ولم تَكتَسِب هذه السيئة الكبيرة التي دفعت بك إلى أسفل السافلين في
التابوت الموجود في اسفل طبقات جهنّم ، حيث يستقرّ فيه أفراد معيّنون من الجُناة
الذين جرّوا الوَيلات على البشريّة جمعاء ، وعلى كلّ الأجيال والبلاد والشعوب ،
وأسّسوا الأُسس ومهّدوا الطرق لمن يأتي من بعدهم من الطغاة والخَوَنة ، في أن
يقوموا بكلّ جريمة ، وبكل جُرأة!
إنّ الأحاديث الشريفة تقول : إنّ أهل
النار ـ جميعاً ـ يستغيثون بالموكّلين بهم من الملائكة .. أن لا يفتحوا باب ذلك
الصندوق ، لأنّ درجة الحرارة فيها أشدّ ـ بكثير ـ مِن
حرارة جهنّم نفسها!!
وتقول الأحاديث الشريفة : إنّه كلّما
خَفّت ونزلت درجة حرارة نار جهنّم .. تَفتَح الملائكة باب ذلك الصندوق لمدّة قليلة
فتزداد حرارة جهنّم كلّها بالحرارة الشديدة التي أُضيفت إليها من ذلك التابوت ،
كالقِدر الكبير للطعام الذي توضع فيه البقول ، وتوضع على نار خفيفة ، وفُجأةً
يرفعون درجة تلك النار إلى أقصى نسبة ممكنة ، فيحدث إضطراب عجيب في ذلك القدر وما
فيه!
ويُعبّر عن ذلك الصندوق بـ « التابوت »
وبالمعذّبين فيه بـ « أهل التابوت ».
وقد رُوي عن الإمام جعفر الصادق 7 أنّه قال : « ... إذا كان يوم القيامة
أقبل رسول الله 6
ومعه الحسين 7 ويده على
رأسه يقطر دماً ، فيقول : « يا ربّ سل أمّتي فيمَ ( أي : لمـاذا ) قتلوا ولـدي! »
ثمّ بدأت السيدة زينب 3 بالدعاء على يزيد ومَن شاركه في ظلم آل
رسول الله الطيّبين الطاهرين ، دَعَت عليهم مِن ذلك القلب المُلتَهِب بالمصائب
المُتتالية ، فقالت :
«
اللهم! خُذ بحقّنا ، وانتقم من ظالمنا ، واحلُل غضبك على من سفك دماءنا ، ونقضَ ذمارنا
، وقَتلَ حُماتنا ، وهتك عنّا سدولنا »
نَقَضَ : لم يُراع الحرمة والعهد.
الذمار : ما ينبغي حفظه والدفاع عنه ،
كالأهل والعِرض.
وقيل : ذمار الرجل : كل شيء يلزمه الدفع
عنه.
سدول ـ جمع سدل ـ السِتر.
ثم أرادت السيدة زينب 3 أن تُبيّن ليزيد حقيقة واقعيّة : وهي
أنّ جميع ما قُمتَ به ضدّ آل رسول الله ، مِن : قتل وسَبي ، وحمل الرؤوس من بلد
إلى بلد ، وإهانة
الرأس الشريف ،
والإفصاح عن الكلمات الكُفريّة الكامنة في الصدر ، وغيرها .. لا تعود عليك
بالفائدة والنَفع ، بل تعود عليك بالخسران والعقوبة ، حتى لو جعَلَتك تفرح لمدّة
قصيرة ، لكنّ هذا الفرح سوف لا يستمرّ ، بل يتعقّبه سلسلة متواصلة من أنواع
الخسارة والعذاب الجسدي والنفسي ، فقالت 3
:
«
وفعلت فِعلتك التي فعلت ، وما فرَيت إلا جلدك ، وما جَزَرت إلا لحمك »
فَريتَ : شققتَ وفتَتَّ
وقَطعتَ .
جزَرتَ : قطعتَ
ويُستعمل غالباً في نحر البعير وتقطيع لحمه.
«
وسترد على رسول الله بما تحمّلتَ من دم ذريّته ، وانتهكتَ من حرمته ، وسفكت من
دماء عترته ولُحمَته ».
اللُحمة : القرابة ، يُقال : بينهم
لُحمة نسب.
المعنى : سترِد على رسول الله 6 ـ بعد موتكَ ـ وأنت تحمل على ظهرك من
الجرائم ما لا تحملها الجبال الرواسي ، فيُخاصمك على كل واحدة واحدة منها .. أشدّ
أنواع الخصومة ، من دون أن يخفى عليه شيء!
«
حيثُ يُجمع به شملهم ، ويُلمّ به شعثهم ، وينتقم من ظالمهم ، ويأخذ لهم بحقّهم من
أعدائهم ».
الشعث : ما تَفرّقَ من الأمور أو
الأفراد ، يُقال ـ في الدعاء ـ : « لَمّ الله شعَثه ».
المعنى : سوف يجمع الله تعالى آل رسول
الله عند النبي الكريم في جبهة واحدة ـ وذلك في يوم القيامة ـ فيَشكو كلّ واحد من
آل الرسول إلى النبي الكريم كلّ ما لقيَ من الناس مِن عداءٍ وظلم ، فينتقم الله من
أعدائهم أشدّ الإنتقام. ومادام الأمر كذلك ، فاسمع يا يزيد :
«
فلا يستفزّنّك الفرح بقتلهم »
لا يستفزّنك : أي : لا يُخرجك الفرح عن
حالتك الطبيعيّة ، يُقال : إستفزّه : أي استخفّه ، أو ختَله حتى ألقاه في مهلكة.
فلا خير في فرحة قصيرة يتعقّبها حزن
دائم ، وعذاب أليم ، وخلود في النار.
ثمّ أدمجت السيدة زينب 3 كلامها بالقرآن الكريم ، فقالت :
« « ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً
بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله
... »
وحسبُك
بالله ولياً وحاكماً »
لعلّ المقصود من قولها « وحسبك بالله
وليّاً وحاكماً » أي : وليّاً للدم ، وآخذاً للثار ، فالإمام الحسين 7 هو : وصيّ رسول الله ، وسيّد أولياء
الله تعالى ، فمن الطبيعي : أن يكون الله ( عز وجل ) هو الطالب بثاره ، والوليّ
لدمه ، فهو الشاهد لمصيبة قتل الإمام الحسين ، وهو القاضي ، وهو الحاكم ، فهنا ..
الحاكم والقاضي هو الذي قد شَهِدَ الجريمة
بنفسه ، فلا يحتاج
إلى شهادة شهود ، وهو الذي يَعرف عظمة المقتول ظلماً ، وهو الذي يعلم أهداف القاتل
مِن وراء قتله للإمام ، وهو يزيد.
«
وبرسول الله خَصماً ، وبجبرائيل ظهيراً »
لقد روي عن الصحابي : إبن عباس أنّه قال
: « لمّا اشتدّ برسول الله 6
مرضه الذي مات فيه ، حضَرتُه وقد ضمّ الحسين إلى صدره ، يسيل من عرَقه عليه ، وهو
يجود بنفسه ويقول : « ما لي وليزيد! لا بارك الله فيه ، اللهم العن يزيد ».
ثمّ غُشيَ عليه طويلاً وأفاق ، وجعل
يُقبّل الحسين وعيناه تذرُفان ويقول : أما إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله ».
ثمّ صعّدَت السيدة زينب 3 من لهجتها في تهديد يزيد وإنذاره ،
مُغامرةً منها في حربها الكلاميّة ومُخاطرتها في كشف الحقائق ، وإهانتها للطاغية
يزيد ، فقالت :
«
وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب المسلمين أن
بئس
للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً وأضلّ سبيلاً »
مكّنَكَ : مهّد لتسلّطك على كرسيّ الحكم
على الناس والتلاعب بدماء المسلمين.
وهذا تصريح من السيدة زينب 3 ـ أمامَ يزيد ومَن كان حوله في مجلسه ـ
بعدم شرعيّة تسلّطه على رقاب الناس ، بل وعدم شرعيّة سلطة من مهّد ليزيد هذه
السلطة وهو أبوه معاوية بن أبي سفيان ، فهو الذي يتحمّل ما قام به يزيد من الجرائم
، مُضافاً إلى ما تحمّله هو من الجنايات وقتل الأبرياء. فسيكون عذابه أشد ، لأن جرائمه
أكثر ووزرَه أثقل. ولعلّ هذا المعنى هو المقصود من قول السيدة زينب ـ حكايةً منها
عن القرآن الكريم : « أيّكم شرّ مكاناً ».
«
وما استصغاري قَدرك ، ولا استعظامي تَقريعك »
التَقريع : الضرب مع العُنف والإيلام.
وفي نسخة :
«
ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظِم تقريعك »
.
الدواهي ـ جمع داهية ـ : دَواهي الدهر :
ما يُصيب الإنسان من نُوَبه.
لعلّ السيدة زينب 3 تقصد ـ من كلامها هذا ـ : أنّ يا يزيد!
من الصعب عليّ جداً أن أُخاطبك ، لأنّي في منتهى العفة والخدارة ، وأنت في غاية
اللؤم والحقارة ، ومن الصعب عليّ أن أُخاطب رجلاً نازل القدر والمكانة ، لكنّ
الضرورة والظروف المؤسفة وتقلّبات الدهر ، جعلتني أكون طرفاً لك في الخطاب ، لكي
أُبيّن لك فظاعة تقريعك لرأس أخي الإمام الحسين 7.
«
تَوَهّماً لإنتجاع الخطاب فيك »
الإنتجاع : إحتمال التأثير.
المعنى : ليس هدفي من مُخطابتك إحتمال
تأثير خطابي فيك ، بل هو ردّ فعل طبيعي لما شاهدته وأُشاهده من المصائب ، وعسى أن
يؤثّر كلامي في بعض الجالسين في هذا المجلس ، ممّن خفيَت عنهم الحقائق ، بسبب
تأثير الدعايات ، وأقول قَولي هذا .. لكي أُبطِل
وأُدمر ما أحرزته من
الإنتصارات الموهومة.
«
بعد أن تركتَ عيون المسلمين به عبرى »
أي : مُغرَورقة ومليئة بالدموع بسبب
استشهاد الإمام الحسين 7
بلا ذنب ، وبتلك الكيفية الفجيعة!
«
وصدورهم عند ذكره حرّى »
أي : ملتهبة من الحزن والأسى ، عند
تذكّر ما جَرت عليه من المصائب المقرحة للقلوب.
وهذا أمر طبيعي لكل مسلم ـ بل كلّ إنسان
ـ لم تتغيّر فيه الفطرة الأولية التي فطر الله الناس عليها ، فالتألّم من هكذا
فاجعة .. هو رد فعل طبيعي لكل من تكون صفة العاطفة سليمة لديه.
ثمّ ذكرت السيدة زينب 3 سبب عدم إحتمال تأثير خطابها في نفسيّة
يزيد وحاشيته ، فقالت 3
:
«
فتلك قلوب قاسية ، ونفوس طاغية ، وأجسام محشوّة بسخط الله ولعنة الرسول ، قد عشّش
فيها الشيطان وفَرّخ »
مَحشوّة : أي : مملوءة.
إنّ القلب إذا صار قاسياً ، والنفس إذا
أخذها الطغيان ، فسوف لا تكون الأرضيّة مساعدة فيهما لتقبّل المواعظ والنصائح.
يُضاف إلى ذلك .. أنّ الشيطان الرجيم
إذا وجد التفاعل والتجاوب من شخص ، فسوف يتربّع في فكره وذهنه ، ويتّخذه لنفسه
عشاً ووكراً ، ومسكناً ومحلاً للإقامة فيه ، ويكون بمنزلة جهاز التحكّم في الأشياء
، يتحكّم في ميوله واتّجاهاته ، فيوجّه الشخص حيثما يريد ، ويأمره بأنواع الإنحراف
والإنسلاخ عن الفطرة الإنسانية والعاطفة وجميع الصفات الحميدة ، ويعطيه الجُرأة
على اقتاحم المخاطر الدينية ، فإذا أراد الشيطان مغادرة فكر هذا المنحرف فإنّ هناك
فراخه ، أي : جنوده ، الذين يقومون مقامه ويؤدّون دوره في مهمّة الإغراء والتشجيع
على الجريمة من دون التفكير في مضاعفاتها السلبيّة.
«
ومن هناك مِثلك ما دَرَج »
ومن هناك : أي : وبسبب ذلك ، ونتيجة
لتلك الأسباب. وقيل : « ما » في « ما درج » : زائدة.
درج : يُقال : درج الصبيّ : أي : أخذ في
الحركة ومشى
مشياً قليلاً ..
أوّل ما يمشي. وقيل : درج
: أي نشأ وتقوّى.
«
فالعجب كلّ العجب لقتل الأتقياء ، وأسباط الأنبياء ، وسليل الأوصياء ، بأيدي
الطلقاء الخبيثة ، ونسل العَهَرة الفجرة »
الأتقياء ـ هنا ـ : الإمام الحسين 7 والمستشهدين معه.
أسباط ـ جمع سبط ـ : الحفيد.
السليل : الوَلَد.
العهرة ـ جمع عاهر وعاهرة ـ : الرجل
الزاني ، والمرأة الزانية.
الفجرة ـ جمع فاجر وفاجرة ـ : الرجل أو
المرأة التي تُمارس جريمة الزنا والفجور.
حقّاً إنّه عجيب ، بل هو من أعجب
الأعاجيب أن يُقتل أشرف وأطيب خلق الله تعالى على أيدي ذريّة العاهرين والعاهرات!!
ولكن .. هذه هي طبيعة الحياة الدنيا ،
أنّها تكون
قاعة امتحان للأخيار
والأشرار ، وللذين يضربون أرقاماً قياسيّة في الطيب أو الخبث.
ومن هنا .. بقيت « فاجعة كربلاء » خالدة
إلى يوم القيامة ، عند كلّ مجتمع يمتاز بالوعي والإدراك ، وفهم المفاهيم والقيم
الإنسانية ، وكلّما إزداد البشر نُضجاً وفَهماً أقبل على دراسة وتحليل هذه الفاجعة
بصورة أوسع ، والتفكير حولها بشكل أشمل ، والكتابة عنها بتفصيل أكثر.
وقد شاء الله تعالى أن يبقى هذا الملفّ
مفتوحاً لدى العقلاء المؤمنين ، ويُجدّد فتحه في كل عام ، بل في كل يوم ، لتحليل
ودراسة جزئيّات هذه الفاجعة!!
ولخلود فاجعة كربلاء ـ وإمتيازها على
بقيّة فجائع وكوارث التاريخ ـ أسباب متعددّة ، نذكر بعضها ، ليعرف ذلك كل من يبحث
عن إجابة هذا السؤال ، ويريد معرفة الواقع والحقيقة :
١ ـ إنّ الذين انصبّت عليهم مصيبة القتل
أو السبي .. ـ في هذه الفاجعة ـ كانوا هم أفضل طبقات البشر ، وأشرف خلق الله تعالى
.. رجالاً ونساءً ، بل كانوا في قمّة شاهقة ، ودرجة عالية من العظمة والجلالة
والإيمان بالله تعالى ، والنفسيّة الطيّبة ، بحيث لا مجال لأن نقيس بهم
غيرهم من البشر ..
مهما كانوا عظماء.
٢ ـ إنّ الذين ارتكبوا الجرائم ـ في هذه
الفاجعة ـ .. كانوا أخبث البشر ، وأكثر الناس لؤماً ، وأنزلهم نفسيّةً.
٣ ـ إنّ هذه الفاجعة مهّدَت الطريق
لسلسلة من الفجائع والجرائم والجنايات ، فأعطت الناس الجُرأة بأن لا يخافوا من أحد
، ولا يلتزموا بعقيدة أو دين ، فكان عمل مرتكبي هذه الفاجعة .. بمنزلة تأسيس
الأُسُس وفتح الطريق أمام كل خبيث ولئيم ، في أن يقوم بما تطيبُ له نفسه القذرة من
الجرائم والجنايات!
ولقد جاء في التاريخ : أنّ الإمام
الحسين 7 صرّح بهذه
الحقيقة ، أثناء مُقاتَلَته مع أهل الكوفة ، فقال : « ... يا أمّة السَوء : بئسما
خلفتهم محمداً في عترته ، أما إنّكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا
قتله ، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إيّاي ... ».
٤ ـ إنّ طبيعة الحياة : هي أنّ التاريخ
يُعيد نفسه .. لكن .. مع إختلاف الافراد والأجيال ، فكان ضروريّاً على كل مسلم أن
يستلهم الدروس والعبر من هذه الفاجعة الكبرى ، ويقوم بدراستها ومعرفة تحليلها ..
بشكل
شامل ، لكي لا
يَسقُط في الإمتحانات الإلهيّة الصعبة ، والمنعطفات الحادّة الخطيرة ، وحتى لا
تتكرّر مآسي وفجائع مشابهة.
وحتى لو تكرّرت ذلك فإنّه يبادر إلى
صفوف الأخيار ، ويتّخذ موقف الإنسان المؤمن الذي يخاف الله تعالى ، ويؤمن بيوم
الحساب ، وذلك لأنّ لديه خلفيّة دينيّة واسعة وشاملة عن فاجعة كربلاء ومضاعفاتها.
٥ ـ إنّ فتح ملف « فاجعة كربلاء »
والبكاء حين قراءة أو سماع تفاصيلها يعني : تأمين جاذبيّة قويّة ، تجذب الناس نحو
الدين بـ « إسم الإمام الحسين 7
» ، وبجاذبيّة عاطفيّة لا يمكن تَصَوُّر درجة قوّتها!!
وهنا .. ينبغي الإلتفات إلى حقيقة مهمّة
، وهي : أنّ الأدلّة العقليّة والإستدلالات المنطقيّة ـ في مجال دعوة الناس إلى
الإلتزام بالدين ـ تقوم بدَور الإقناع فقط ، لكن لابدّ لذلك من عامل يجذب الناس
لإستماع هذه الأدلّة ، وأقوى عوامل الجذب هو : العامل العاطفي ، وهو متوفّر في كلّ
بند من بنود هذه الفاجعة!
وهذه الجاذبيّة لا تقتصر على جذب الناس
نحو الدين فحسب ، بل تجذبهم نحو الفضائل والأخلاق ، والتطبيق العملي لبنود الدين ،
وتعلّم معالم وعقائد
وعبادات الدين من
أئمة أهل البيت :
.. لا مِن غيرهم.
فإنّ الله تعالى جعل شرط قبول الأعمال
ولاية أهل البيت وإتّباعهم ، لا مجرّد محبّتهم ، وجعل الله ( عز وجل ) الإسلام
الواقعي ينحصر في مذهب أهل البيت ، لا المذاهب الأخرى .. حتى لو كانت تلك المذاهب
مشتملة على ظواهر ومظاهر دينيّة ، فالمظهر وحده لا يكفي ، بل لابدّ من التمسّك
بالمحتوى الصحيح!
ولابدّ من التوقيع الإلهي على شرعيّة
ذلك المذهب ، عن طريق نزول الوحي على رسول الله الصادق الأمين ، أو ظهور المعجزات
من إمام ذلك المذهب.
ولذلك فقد اشتُهر وتواتر عن رسول الله 6 قوله : « مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح
، مَن ركبها نجى ، ومن تخلّف عنها غرِق ».
والآن .. نعود إلى شرح كلمات خطبة
السيدة زينب 3 :
تقول السيدة : إنّ قتل الأتقياء وأحفاد
الأنبياء وإبن الأوصياء ، كان على أيدي الطلقاء الخبيثة ، ونسل العهرة الفجرة.
إنّنا حينما نُراجع التاريخ الصحيح نجد
أنّ الذين
ارتكبوا فاجعة
كربلاء الدامية كانوا من أولاد الحرام!! بِدءاً من يزيد ، إلى ابن زياد ، إلى
الشمر ، إلى العشرة الذين سحقوا جسد الإمام الحسين 7
بعد شهادته ، بحوافر خيولهم!!
ولإلتحاق كلّ واحد منهم بأبيه قصّة
مذكورة في كتب « علم الأنساب ».
فقد جاء في التاريخ : أنّ إمرأة نصرانية
إسمها : « ميسون بنت بجدل الكلبي » زَنَت مع عبد أبيها ، فحملت بـ « يزيد » وبعد
الحمل بشهور تزوّجها معاوية.
وأمّا عبيد الله بن زياد ، فإنّ أمّه «
مرجانة » كانت مشهورة ـ عند الجميع ـ بالزنا المُستمرّ!!
وكلام الإمام الحسين 7 مشهور وصريح بأنّ عبيد الله وأباه زياد
كانا إبنَي زنا ، حيث قال الإمام : « ... الا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين
اثنتين : بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ... ».
وقد رويَ عن الإمام جعفر الصادق 7 أنّه قال : « قاتل الحسين 7 ولد زنا ».
«
تَنطِف أكُفّهم من دمائنا »
تنطِفُ : تقطرُ أو تسيل.
والظاهر أنّ هذا الكلام ـ أيضاً ـ
إستعارة بلاغيّة ، وتعني السيدة زينب 3
تلك الأيدي والأكفّ التي كانت تضرب بسيوفها ورماحها على أجسام آل رسول الله :
الإمام الحسين ورجال أهل بيته وأصحابه ، فتتقاطر أكفّهم وسيوفهم من دماء أولئك
الطيّبين.
«
وتتحلّب أفواههم من لحومنا »
تتحلّب : يُقال : حَلَبَ فلانٌ الشاة أو
الناقة : أي : إستخرج ما في ضَرعها من اللبن ، واستحلب اللبن : إستدرّه.
وتحلّب فوه أو الشيء : إذا سال.
لعل المراد : أنّه كما أنّ ولد الناقة
تتحلّب وتمتصّ بفمها الحليب من محالب أمّها ، كذلك كان الأعداء يمتصّون بأفواههم
من لحوم ودماء آل رسول الله 6
مصّاً قوياً بدافع الحقد والبغضاء!!
وهذه ـ أيضاً ـ إستعارة بلاغيّة وكناية
عن شدّة حقدهم وعدائهم.
ويُمكن أن تكون هذه الكلمة إشارةً إلى
ما فعلته « هند » جدّة يزيد ـ في غزوة أحد ـ : مِن شقّها لبطن سيّدنا حمزة بن عبد
المطّلب ، وإخراجها كبده ، ثم وضعه في فمها ومحاولتها أن تمضغه وتأكل منه ، حقداً
منها عليه ، لكونه عمّاً لرسول الله ، وقائداً كفوءاً في جيش المسلمين.
«
تلك الجُثث الزاكية ، على الجَبوب الضاحية »
الجَبوب : وجه الأرض الصلبة
وقيل : الجَبوب : التُراب.
الضاحية : يُقال ضحا ضَحواً : برز للشمس
، أو أصابه حرّ الشمس ، وأرض ضاحية الظلال : أي : لا شجر فيها.
إخبار من السيدة زينب 3 عن مصيبة بقاء الأجساد الطاهرة على وجه
الأرض عدّة أيام .. من غير دفن ، تصهرها الشمس بأشعّتها المباشرة ، كلّ ذلك .. رغم
كونهم سادات أولياء الله تعالى.
«
تَنتابها العواسل »
تنتابها : تأتي إليها مرّة بعد مرّة.
العواسل ـ جمع عاسِل ـ : وهو الذئب.
وهنا إحتمالان في المقصود من هذا
الكلام.
الإحتمال الأول : إنّ المقصود من «
العواسل » : هم الذين حضروا يوم عاشوراء لقتل الإمام الحسين 7 والصفوة الطيبة من ذريته وأهل بيته واصحابه.
عبّرت السيدة زينب 3
عن أولئك الاعداء بالذئاب ، لأنّهم كانوا يحملون صفة الذئاب وهي الإفتراس ،
ويُعبّر
عن هذا النوع من
التشبيه ـ في علم البلاغة والأدب ـ بـ « الإستعارة ».
وقد استعمل الإمام الحسين 7 هذا النوع من الإستعارة في خطبته التي
ألقاها قبل خروجه من مكّة نحو العراق ، حيث قال ـ فيها ـ : « ... خُيّرَ لي مصرع
أنا لاقيه ، وكأنّي بأوصالي تُقطّعها عُسلان الفلوات ، بين النواويس وكربلاء ...
».
وبناءً على هذا .. يكون المقصود من كلمة
« تَنتابها » الهجوم المتوالي والغارات المتتالية التي كان الأعداء يَشِنّونها على
أصحاب الإمام الحسين وخيامه .. يوم عاشوراء.
الإحتمال الثاني : هو أنّ الشأن والعادة
تقتضي أن لو بقيت جُثث أناس على الأرض ـ من غير دفن ـ ، وكانت المنطقة تتواجد فيها
الذئاب ، فإنّها تأتي إلى تلك الجثث وتأكل من لحومها.
إلا أنّ المعنى لم يحصل ـ بكلّ تأكيد ـ
بالنسبة إلى الجسد الطاهر للإمام الحسين 7
وأجساد أصحابه وأهل بيته الطاهرين ، الذين قُتلوا معه ، وبقيت أجسادهم على
الأرض لمدّة ثلاثة
أيام ، من غير دفن أو مواراة في الأرض ، من دون أن يتعرّض لها ذئب أو أيّ حيوان
مفترس آخر.
«
وتُعفّرها أمّهات الفراعل »
الفراعل ـ جمع فُرعُل ـ : ولد الضبع.
الظاهر أنّ هذا الكلام ـ أيضاً ـ
إستعارة بلاغيّة ، ولعلّها تشير إلى أولئك الأفراد العشرة الذين ركبوا خيولهم
وسحقوا جسد الإمام الحسين 7
بعد قتله .. بحوافر الخيل ، في يوم عاشوراء ، أو اليوم الحادي عشر من المحرّم.
قال الراوي : ثمّ نادى عمر بن سعد في
أصحابه : مَن ينتدبُ للحسين فيوطئ الخيل ظهره؟
فانتدب منهم عشرة وهم : إسحاق بن حوية ،
وأخنَس بن مرثد ، وحكيم بن طفيل ، وعمر بن صبيح الصيداوي ، ورجاء بن مُنقذ العبدي
، وسالم بن خَيثمة الجعفي ، وصالح بن وهب الجعفي ، وواحظ بن غانم ، وهاني بن ثَبيت
الحضرمي ، وأُسيد بن مالك ( لعنهم الله ) فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى رضّوا
ظهره وصدره!!
قال الراوي : وجاء هؤلاء العشرة حتى
وقفوا عند ابن زياد ، فقال له أحدهم:
نحن رضضنا الصدر بعد الظهر
|
|
بكـلّ يعبـوبٍ شديـد الأسـر
|
فقال ابن زياد : مَن أنتم؟
قالوا : نحن وطئنا بخيولنا ظهر الحسين
.. حتى طحنّا جناجن صدره!!
فأمر لهم بجائزة.
قال أبوعمرو الزاهد : فنظرنا في نسب
هؤلاء العشرة ، فوجدناهم جميعاً أولاد زنا!
«
فلئن اتّخذتنا مغنَماً ، لتجدُ بنا وشيكاً مُغرماً حين لا تجد إلا ما قدّمت يداك ،
وما الله بظلام للعبيد »
مَغنَماً : الغنيمة ، وجمعها : مغانم
وقيل : المَغنَم : هو كل ما حصل عليه الإنسان من أموال الحرب.
مُغرَماً : المُغرَم : المُثقل بالدَين
أو أسير الدَين وقيل :
المغرَم : مصدر وُضِعَ موضع الإسم ، ويُراد به مُغرَم الذنوب والمعاصي.
المعنى : يا يزيد! إنّك أمرت بأسرنا ،
وتعاملَت جلاوزتك معنا ـ في طريق الشام ـ تعامل السبايا والغنائم الحربيّة ، ولكن
.. إعلم أنّك ـ في القريب العاجل ـ سوف تجد نفسك مُثقلاً بالذنوب ومحاصراً
بالمعاصي التي يلزم عليك دفع ضريبتها ، والدفاع عن نفسك في محكمة العدل الإلهية ،
حيث لا تجد معك إلا ما قدّمت يداك : من جرائم وجنايات ، والتي مِن أبرزها : سبيِ
نساء آل رسول الله 6.
وفي ذلك الحين ترى نفسك وحيداً ذليلاً مهاناً ، من غير محام يدافع عنك ، ولا عذرٍ
لتبرّر به أعمالك ، ولا مال لتدفعه رشوةً وتُخلّص به نفسك ، بل تبقى أنت وأعمالك!!
«
فإلى الله المشتكى والمُعَوّل ، وإليه الملجأ والمؤمّل »
المُعَوّل : إسم مفعول بمعنى «
المُستعان » ، يقال :
عَوّلتُ عليه : أي استَعَنتُ به ،
وصَيّرت أمري إليه وقيل :
العَولُ : المُستعان به ، والعِوَل : الإتّكال والإستعانة ، يُقال : عَوَل الرجل
عليه : أي : إعتمد وإتّكل عليه ، واستعانَ به.
وبعد ما ذكرَت السيدة زينب 3 ما جرى على آل الرسول الطاهرين من
المصائب ، تقول « فإلى الله المُشتكى » وعليه الإعتماد والإتّكال والإستعانة به ..
لا إلى غيره ، فقد كان تعالى : هو الشاهد على ما جرى ، وسيكون هو المنتقم من
الأعداء ، المقتدر على إبادتهم وعقوبتهم. « وإليه المَلجأ والمؤمّل » فهو ـ سبحانه
ـ الملجأ لنا ولبقيّة أفراد العائلة المكرّمة ، وخاصّة بعد فقدنا لسيّدنا الإمام
الحسين 7 وتواجدنا في
عاصمة بني أميّة ، في قيد الأسر والسبي!
وهو « المؤمّل » : الذي نأمل منه أن
يُعيننا على ما أصابنا ، ويُعطينا الصبر الجميل على تحمّل ذلك ، ويمنحنا الأجر
الجزيل إزاء ما لاقيناه من المكاره والنوائب.
ثمّ عادت السيدة زينب 3 لتصبّ جاماً آخر من غضبها على المجرم
الأصلي لفاجعة كربلاء ، وهو يزيد الي قام بتلك الجرائم مباشرة ، أو أصدر الأوامر
لعامله اللعين ابن زياد ، الذي نفّذ أوامر يزيد من القتل والسبي والضرب وغير ذلك.
وكأنّها ترى أن كلّ ما خاطبته به غير
كافٍ لِما يستحقه من شجبٍ وتعنيف!
فقالت :
«
ثمّ كِد كيدك ، واجهد جهدك »
الكيد : إرادة مَضَرّة الغير خُفية ،
والحيلة السيّئة ، والخُدعة ، والمكر .
جَهَد جهداً : جدّ ، يُقال : طلب حتى
وصل إلى الغاية ، والجهد ، الوُسع والطاقة.
هذا كلام يَطغى عليه طابع التهديد
الشديد ، مِن سيّدة أسيرة ، ولكنّها واثقة من نفسها ـ أعلى درجات الثقة ـ أنّ جميع
نشاطات يزيد ـ والفصول اللاحقة من مخطّطاته ـ
سوف تفشل ، وسوف لا
يتوصّل إلى أيّ واحد من أهدافه!! بل ترجع عليه بشكل مُعاكس ، فكُرسيّه يتزعزع ،
وسلطته تضعُف ، وقدرته تذهب!
فالسيدة زينب 3 تريد أن تقول ليزيد : إصنع ما بدا لك ،
من تخطيط وتفكير ، وقَتل وإبادة ، وسَبي وأسر ، وابذل ما في وسعك من جهود ، فسوف
لا تصل إلى الهدف الذي حَلِمتَ به ، وهو إستئصال شجرة النبوة من جذورها .. بكافّة
أغصانها وفروعها وأوراقها ، وعدم إبقاء صغير أو كبير من آل رسول الله .. رجلاً كان
أو إمرأة!
«
ـ فو الله الذي شرّفنا بالوحي والكتاب ، والنبوّة والإنتخاب ـ »
القسم للتأكيد الأكثر ، وهو ـ في الواقع
ـ إنعكاس آخر لعلوّ مستوى درجة الثقة بالنفس والإتّكال على الله تعالى ، واليقين
بما يقوله الإنسان ويحلف من أجله ، وعِلم السيدة بحوادث المستقبل ، وما ستؤول إليه
الأمور ، فإنّ حوادث اليوم ، وأحداث المستقبل تُعتبر ـ أمام عين السيدة زينب 3 ـ في حدّ سواء ، لأن الله تعالى ميّزها
عن بقية سيدات البشر بأن يُوصّل إليها العلوم مباشرة .. عن طريق الإلهام .. ودون
تعلّم من البشر ،
ولذلك فإنّ حوادث
المستقبل معلومة وواضحة لها كاملاً كالحوادث المعاصرة ، ومثالها مثال مَن يُخرج
رأسه مِن نافذة الغرفة ، فيرى ـ بكلّ وضوح ـ كلّ ما هو موجود إلى آخر الشارع ،
وليس مثالها مثال من يجلس في غرفة ويفتح النافذة فلا يرى إلا ما يُقابل النافذة
فقط.
إنّنا نتلمّس ـ من كلمات القسم هذه ـ
المعنويّات العالية التي كانت تمتاز بها السيدة زينب 3
حين إلقائها لخطبتها ، فهي تفتخر وتعتزّ بمزاياها الفريدة فتقول : « فو الله الذي
شرّفنا بالوحي والكتاب » ، فالقرآن الكريم نزل على جدّ السيدة زينب وهو رسول الله
سيّدنا محمد 6 وفي دارها.
وكذلك اختار الله هذه الأسرة وانتخبها
لتكون فيهم النبوّة. وكأنّها تُعرّض بكلامها ليزيد : أن أنت بماذا تَعتز؟ وبماذا
تفتخر؟!
وهل توجد فيك فضيلة واحدة حتى تفتخر بها؟!
ولعلّ السيدة زينب كانت تقصد ـ أيضاً ـ
إسماع الجماهير المتواجدة في ذلك المجلس هذه الحقائق ، ومِن باب المَثل الذي يقول
: « إيّاك أعني واسمَعي يا جارَه ».
وبعد كلمات القسم تذكر السيدة زينب 3 الأمور التي أقسَمَت من أجلها :
«
لا تُدرِك أمَدَنا ، ولا تَبلُغ غايتنا ، ولا تمحو ذكرنا »
أمدنا : الأمد : الغاية والنهاية.
أي : مهما بذلت من الجهود ، وحاولتَ من
المحاولات ، فسوف تفشل في ذلك ، فقد حاول ذلك مَن كان قبلك ـ وهو معاوية ـ فلم
يستطع ذلك ، رغم أنّه كان أقوى منك.
«
ولا يُرحَضُ عنك عارُها »
يُرحض : يُغسل.
تُصرّح السيدة زينب 3 بحقيقة واقعيّة : وهي أنّ العار والخزي
وسبّة التاريخ ، سوف تكون ملازمة ليزيد إلى الأبد ، ولا يتمكّن من غَسلها ، لا هو
.. ولا مَن سيأتي من بعده من الشواذ الذين يُشاركونه في الإتجاه واللؤم.
إنّ التاريخ يقول : حينما بدأت الأمور
تنقلب على يزيد ، فقد صارت مجالس تعليم القرآن الكريم .. في الشام يتحدّث فيها
المعلّم عن جرائم يزيد في قتله الإمام الحسين 7
وسبيه نساء آل رسول الله ، ثمّ بدأ الناس يُنقّبون ويُنَبّشون في ملف يزيد ،
لِيَروا الفارق الواسع بين سيرته وأعماله ، وبين ما سمعوه أو قرأوه عن سيرة الرسول
الأعظم 6.
لمّا حدث كل هذا .. بدأ يزيد يُلقي باللوم
على ابن زياد ، وصار يلعنه ويقول : إنّه قتل الحسين من تِلقاء نفسه.
ولكنّ جميع هذه المحاولات باءَت بالفشل
والفضيحة الأكثر ليزيد!
«
وهل رأيُك إلا فَنَد ، وأيّامك إلا عدد ، وجمعك إلا بدَد »
فند : الفند : الخطأ في القول والرأي.
وقيل : الفند : هو الكَذِب.
لعلّ المعنى : أنّ رأيك ـ في تخطيطك
ومحاولتك للتخلّص من مضاعفات جريمتك ـ خطأ وضعيف.
«
وأيّامك إلا عدد »
العدد : هو الكميّة المتألّفة من
الوحدات ، فيختصّ بالمتعدّد في ذاته. وعدد : للتقليل : أي : معدود ، هو نقيض
الكَثرة.
لعلّ المعنى : يا يزيد إنّ أيامك
الباقية من عمرك قليلة ،
فسوف لا تبقى في هذه
الحياة إلا أياماً معدودة ، فأنتَ قريب إلى الموت والهلاك ، وبعد ذلك سوف تلاقي
جزاء أعمالك ، فالعذاب منك قريب.
إنّ جريمة قتل الإمام الحسين 7 أثّرت تأثيراً سلبيّاً في مقدار عمرك ،
فجعلته قصيراً جدّاً.
فقد جاء في التاريخ : أنّ يزيد عاش بعد
فاجعة كربلاء سنتين وشهرين وأربعة أيام
، فلم يَتَهنّا بطول الحياة وطول مدّة السلطة ، كما كان يتمنّى ذلك ، وكما كان
يُتوقّعه بعد القضاء على منافسه ـ حسب زعمه ـ وهو الإمام الحسين 7.
«
وجمعك إلا بدَد »
بدَد : يُقال بَدّهُ بَدّاً : أي
فَرّقَه ، وبَدّدَ الشيء : فَرّقَه
والتَبَدّد : التفرُّق.
المعنى : سوف يتفرّق جمعك وجلاوزتك ، وحاشيتك
التي كنت تسهرُ معهم على مائدة الخمر والقمار والغناء ،
فسوف يغيبون عن عينك
، لمرض أو موت ، أو تتغيّر نظرتهم بالنسبة إليك ، أو غير ذلك من الأسباب التي تجعل
كلّ يوم من الأيام يحمل لك حزناً وهمّاً جديداً ، فلا تتهنّا بمن حولك.
« يوم ينادي المنادي : ألا لعن الله
الظالم العادي »
المعنى : يوم تموت ، وتسمع صوتاً مرعباً
لمناد ينادي ـ من عند الله تعالى ـ : « ألا لعن الله الظالم العادي » فأوّل شيء
تراه بعد موتك هو : سماعك لهذا الصوت.
وكلمة « لعن الله الظالم » أي : أبعده
عن رحتمه وعفوه ومغفرته.
ثمّ .. بدأت السيدة زينب 3 تُمهّد لختام خطبتها الخالدة ، فقالت :
«
والحمد لله الذي حَكَم لأوليائه بالسعادة ، وختم لأصفيائه بالشهادة ، ببلوغ
الإرادة »
حَكَم لأوليائه : قضى لهم
، وقدّر لهم ذلك.
أصفيائه : الصفيّ مِن كلّ شيء صَفوُهُ ،
وجمعُه :
أصفياء.
بقلب مفعم بالإيمان بالله تعالى ،
والرضا بما يختاره الله لعباده ، بدأت السيدة زينب 3
تختم خطبتها بحمد الله سبحانه الذي قضى لأوليائه بالسعادة ، وتقصد من الأولياء ـ
هنا ـ : الإمام الحسين 7
ـ الذي هو سيد أولياء الله تعالى ـ وأصحابه الذي قُتلوا معه يوم عاشوراء ، ونالوا
ـ بذلك ـ شرف الشهادة.
إنّ الإنسان الذي يلتزم بالدين ، ويصنع
من نفسه وليّاً لله ـ وذلك بأدائه لِلَوازم العبودية لله سبحانه ـ سوف يحظى بنتائج
إلهيّة فريدة ، وهي عبارة عن المِنَح المميزة ، والألطاف الخاصّة التي يُفيضها
الله عليه ، والتي لا تشمل غيره من الناس ، ومن أبرز تلك الألطاف الخاصة : السعادة
الأبدية ، ولعلّ إلى هذا المعنى الرفيع أشار الله تعالى بقوله : « والله يختصّ برحمته
من يشاء ».
إنّ أولياء الله تعالى كانوا يفكّرون ـ
باستمرار ـ في جَلب رضى الله سبحانه.
أجَل .. كان هذا هو الهدف الذي يُشغلون
به بالهم ،
ويتحرّكون في هذا
المدار ويدورون حول هذا المحور.
ومن الطبيعي أنّهم كانوا ـ ولا زالوا ـ
على درجات ، فهناك مَن يكون وليّاً لله تعالى منذ السنوات الأولى من حياته ، وهناك
من يصير ولياً لله تعالى في مرحلة متقدّمة من العمر.
وعلى هذا الأساس يقضي الله ( عز وجل )
لهم بالفوز والتفوّق والسعادة الأبديّة ، بجميع ما لهذه الكلمة من معنى.
وأحياناً يُقدّر الله تعالى لهم بعض
المكاره والصعوبات ، وذلك لأسرار وحِكَم يعلمها الله سبحانه ، فترى الأولياء
يُظهرون من أنفسهم كلّ إستعداد وتحمّل وتقبّل لتلك المكاره ويستقبلونها بصدر واسع
وصبر جميل.
وختم الله تعالى لأصفيائه بالشهادة ،
فقد كانت حياتهم كلها خير وبركة منذ البداية إلى النهاية ، فمِن المؤسف ـ حقّاً أن
يموت الوليّ ميتةً طبيعية على الفراش ، بل المتوقّع له أن يوفّقه الله تعالى
للشهادة والقتل في سبيله ، لكي تكون لموته أصداءٌ تعود للدين بالفائدة ، كما كانت
حياته كذلك.
فقتلهم يوقظ الغافلين غير المُلتزمين
بالدين ، ويجعلهم يُفكّرون ويتساءلون عن سبب قتله رغم كونه
إنساناً طيباً ،
ويبحثون عن هويّة القاتل ، وهدفه من قتل هذا الرجل!
فتكون هذا الأصداء سبباً لعودة الكثيرين
إلى الإلتزام الشديد بالدين ومبادئه.
أليس كذلك؟!
ولعلّ أولئك الأولياء هم الذين أرادوا
أن يكون ختام حياتهم بالشهادة ، وسألوا من الله ( عزّ وجل ) ذلك ، فاستجاب الله ـ
سبحانه ـ لهم دعاءهم ، وقدّر لهم الشهادة في سبيل الله تعالى ، ولعلّ هذا هو معنى
كلام السيدة زينب 3
: « بِبلوغ الإرادة ».
«
نقلهم إلى الرحمة والرأفة ، والرضوان والمغفرة »
المعنى : نَقَلهم إلى عالم يُرَفرف على
رؤوسهم رحمة الله الواسعة المخصّصة للشهداء في سبيل الله تعالى ، والرأفة : أي :
العاطفة المزيجة باللطف والحنان ، التي لا تَشمَل غير الشهداء الذين باعوا أعزّ
شيء لديهم ـ وهي حياتهم ـ للدين ، وفي سبيل المحافظة على روح الدين الذي كان
يتجسّد في الإمام الحسين 7
، وعدم الرُضوخ لبيعة « يزيد » الكافر.
«
والرضوان والمغفرة » إنّ القرآن
الكريم يُصرّح بأن أعلى
وأغلى وألذّ نعمة
يتنعّم بها بعض أهل الجنّة ـ وفي طليعتهم شهداء فاجعة كربلاء ـ هو شعورهم وإحساسهم
بأنّ الله تعالى راض عنهم ، قال تعالى : « وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من
تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيّبة في جنّات عدن ، ورضوان من الله أكبر ، ذلك
هو الفوز العظيم ».
هذا سوى ما يُعيّن لهم من أنواع النِعَم
والكرامة والإحترام اللائق .. الذي لا مَثيل له في عالم الدنيا!
يُضاف إلى ذلك : أنّ الرجل الذي يُقتَل
في سبيل الله بنيّة خالصة سوف يمرّ نسيم العفو والمغفرة على ما صدر منه من مخالفات
، فيصير ملفّه أبيض لا سواد فيه.
إنّنا نقرأ في دعاء صلاة يوم عيد الفطر
والأضحى : « ... اللهم وأهل العفو والرحمة وأهل التقوى والمغفرة » ، وهذا لجميع
المؤمنين التائبين ، ولكنّ الشهيد يمتاز بمزايا وتسهيلات خاصّة قرّرها الله تعالى
للشهداء فقط.
هذا إذا كان الشهيد إنساناً عادياً غير
معصوم من الذنوب ، أمّا إذا كان معصوماً فلا توجد في صحيفة أعماله
ذنوب أو معاصي ،
فيكون معنى « المغفرة » بالنسبة إليه علوّ درجته في الجنّة ، واختصاصه بمنح فريدة
كالشفاعة للآخرين ، وغير ذلك من المميّزات.
وأمّا سيد الشهداء الإمام الحسين 7 فقد خاطبه الله تعالى ـ بقوله ـ : « يا أيتها النفس
المطمئنّة : إرجعي إلى ربّك راضيةً مرضيّة ، فادخلي في عبادي وادخُلي جنّتي »
، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق 7
أنّ المقصود والمُخاطب بهذه الآية : هي نفس الإمام الحسين 7.
وكم تتضمّن هذه الآيات من كلمات وضمائر
عاطفيّة!!
«
ولم يَشقَ بهم غيرك »
المعنى : إنّ الذي صار شقيّاً وتعيساً
ومطروداً من رحمة الله .. هو أنت يا « يزيد » ، .. بسبب قتلك إيّاهم وقضائك على
حياتهم ، وطعنِك في قلب الإسلام النابض وهو الإمام الحسين 7.
«
ولا ابتُليَ بهم سواك »
إنّ الذي امتُحنَ بالقدرة والسلطة
ومشاهدة كرسيّ الملك الذي مهّده له معاوية ، فاراد القضاء على كلّ من لا يركع له ،
وبذلك سقط في الإمتحان سقوطاً ذريعاً هو أنت أيّها الخامل الحاقد!
أمّا الذين قُتِلوا مع الإمام الحسين 7 ونالوا شرف الشهادة معه .. فهم قد
نجحوا في الإمتحان نجاحاً باهراً وفوزاً متوالياً متواصلاً ، أي : كما كانوا مِن
قَبل الشهادة ـ أيضاً ـ في مرحلة عالية من سلامة الفكر والعقيدة والسلوك ، والطاعة
التامّة لإمام زمانهم الحسين 7.
فهم ـ الآن ـ في أعلى درجات الجنان
والتي يُعبّر عنها بـ « الفردوس الأعلى ».
أما أنت ـ يا يزيد ـ فسوف يكون مصيرك في
أسفل دَرَك من الجحيم ، وفي ذلك التابوت الذي يُمَوّن جميع طبقات جهنّم بالحرارة
العالية التي لا يُمكن للبشر ـ في هذه الدنيا ـ أن يتصوّر درجة حرارتها وشدّة
اشتعالها.
قال تعالى ـ بالنسبة لأهل النار ـ : « ويأتيه الموتُ مِن
كلّ مكان وما هو بميّت »
وقال ( جلّ ثناؤه ) : «
وقالوا :
يا
مالِك! لِيَقضِ علينا ربّك؟ قال : إنّكم ماكثون ».
«
ونَسأله أن يُكمِل لهم الأجر ، ويُجزل لهم الثواب والذخر »
أكمَلَ الشيء : أتمّه ، وفي القرآن
الكريم : « اليوم
أكملتُ لكم دينكم »
ويقال ـ أيضاً ـ : الكَمَلُ : الكامل ، يُقال : أعطاه حقّه كملاً : وافياً.
يُجزِل : الجَزلُ : العطاء الكثير ،
ويُقال : أجزَل العطاء.
والجَزلُ : الكثير من كلّ شيء.
الثواب : الجزاء والعطاء
، وقيل : هو الجزاء الذي يُعطى مع الإحترام والإجلال والتقدير .. وليس مجرّد
إعطاء الجزاء .
الذُخر : يُقال : ذَخَر لنفسه حديثاً
حسناً.
المعنى : ونسأل الله تعالى أن يُكمِلَ
لهم الجزاء المخصّص للشهداء ، جزاءً تامّاً يَليقُ بتقدير الله سبحانه للشهداء
المخلصين ، الذين تركوا زوجاتهم أرامل ، وأطفالهم أيتام ، وأمّهاتهم ثُكالى .. كل
ذلك .. في سبيل الله!
فيُعطيهم العطاء الكثير الوافر ، مع
الإحترام والتقدير ، إذ قد يَدفع الإنسان الأجرة إلى العامل .. مِن دون أن تكون
كيفيّة الإعطاء مقرونة بالإحترام ، أمّا الثواب : فهو إعطاء الأجر .. مع الإستقبال
الحارّ ، والإحترام والإبتسامة واللُطف.
ويَكتُب لهم الثناء الجميل والذكر الحسن
، على ألسنة الناس وفي صفحات التاريخ.
وقد استجاب الله تعالى دُعاء السيدة
زينب العظيمة 3
، فقد رُوي عن الإمام جعفر الصادق 7
أنّه قال : « ما مِن عبدٍ شرِب الماء فذكر الحسين 7
ولعن قاتله إلا كتب
الله له مائة ألف حسنة ، وحطّ عنه مائة ألف سيّئة ، ورفع له مائة ألف درجة ،
وكأنّما أعتق مائة ألف نَسَمة ، وحشره الله تعالى يوم القيامة ثَلجَ الفؤاد ».
وروي عن الإمامين الباقر والصادق 8 أنّهما قالا : « إنّ الله تعالى عوّض
الحسين 7 عن قتله أن
: جعل الإمامة في ذريّته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تُعدّ
أيام زائريه .. ـ جائياً وراجعاً ـ مِن عمره ».
وقد روي ـ أيضاً ـ عن الإمام جعفر
الصادق 7 أنّه أمَر
رجلاً كان يريد الذهاب إلى زيارة قبر الإمام الحسين 7
أن يزور قبور الشهداء ـ بعد الفراغ من زياة الإمام الحسين 7 ـ ويُخاطبهم بهذه الكلمات :
« ... بأبي أنتم وأمّي طبتم وطابت الأرض
التي فيها دفنتم ، وفزتم فوزاً عظيماً ... ».
«
ونسأله حسنَ الخلافة ، وجميل الإنابة ، إنّه رحيم ودود »
الخلافة : يُقال خَلَف فلان فلاناً ..
خلفاً وخِلافةً : جاء بعده فصار مكانه .
وفي الدعاء : أخلَفَ الله لك وعليك خيرا ».
وفي الدعاء أيضاً : « واخلُف على
عَقِبِه في الغابرين ».
الإنابة : الرجوع الى الله ، قال سبحانه
: « إرجعي إلى
ربّك ».
المعنى : ونسأل الله تعالى أن يُخلّف
لناعمّن فقدناه أفراداً صالحين ، يسدّون بعض الفراغ الذي تركه مقتل أولئك الصفوة
الطيّبة من رجال آل رسول الله 6
بأن يجعل في البقيّة الباقية منهم خيراً.
أو : أن يجعل مستقبلنا مستقبلاً حسناً
مريحاً ، بعد ما شاهدناه وعانيناه من المصائب الفجيعة التي لن تُنسى!!
إنتهت السيدة زينب البطلة الشجاعة ، مِن
إلقاء خطبتها الخالدة.
والآن .. توجّهت أنظار الحاضرين إلى
يزيد الحاقد
لِيَروا منه ردود
الفعل.
فما كان منه سوى أنّه عَلّق على هذه
الخطبة المفصّلة بقوله :
يا صحيةً تُحمدُ من صوائح
|
|
ما أهونَ الموت على النوائح
|
فهل إنعقد لسانه عن إجابة كلّ بند من
بنود تلك الخطبة؟!
أم أنّ أعصابه أُصيبت بالإنهيار
والإهتزاز ، فلم يستطع التركيز والرد؟!
أم رأى أنّ الإجابة والتعليق يُسبّب له
مزيداً من الفضيحة أمام تلك الجماهير الغفيرة الحاشدة في المجلس ، فرأى السكوت
خيراً له من خَلق أجواء الحوار مع إبنة الإمام أمير المؤمنين 7 التي ظَهَرت جدارتها الفائقة على
مقارعة أكبر طاغوت ، بكلام كلّه صدقٌ ، واستدلال منطقي وعَقلي مُقنع. وخاصة أنّ
الجملات الأخيرة ـ
التي كانت تَحمل في طيّاتها التهديد المُرعب ـ جعلت يزيد ينهار رغم ما كان يشعر به
مِن تجبّر وكبرياء.
نصّ خطبة السيدة زينب
على رواية أخرى
لقد ذكرنا أنّ السيد إبن طاووس قد روى
خطبة السيدة زينب الكبرى 3
بكيفيّة تختلف عمّا ذكرناه ، وتمتاز ببعض الإضافات والفُروق ، ولا تَخلو من فوائد
، وإليك نصّها :
قال الراوي : فقامت زينب بنتُ علي بن
أبي طالب 7 فقالت:
« الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله
على محمد رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه ، كذلك
يقول : « ثمّ كان
عاقبة
الذين
أساؤا السوئى أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون »
.
أظننت ـ يا يزيد! ـ حيثُ أخذت علينا
أقطار الأرض وآفاق السماء ـ فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى
ـ أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة؟ وأنّ ذلك لَعَظم خطرك عنده؟
فَشَمَخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، جذلان
مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة ،
والأمور متّسقة ، وحين صفى لك مُلكنا وسلطاننا!
فمهلاً مهلاً! أنسيت قول الله ـ عزّ وجل
ـ : « ولا
يحسبنّ الذين كفروا أنّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم ، إنّما نُملي لهم ليزدادوا
إثماً ولهم عذاب مهين » .
أمِن العدل يابن الطُلقاء؟! تخديرك
إماءك وحرائرك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟
قد هتكتَ ستورهنّ ، وأبديتَ وجوههنّ ،
تحدوا بهنّ الاعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المنازل والمناهل
، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والدنيّ والشريف ، ليس معهنّ من رجالهنّ وليّ
، ولا مِن حماتهنّ حميّ.
وكيف تُرتجى مراقبة ابن من لفظ فوه
أكباد الأزكياء؟ ونبت لحمه بدماء الشهداء؟
وكيف يستبطأ في بُغضنا أهل البيت من نظر
إلينا بالشَنَف والشَنآن ، والإحَن والأضغان.
ثمّ تقول ـ غير مُتأثّم ولا مستعظِم ـ :
« لأهَلّـوا واستهلّوا فرحـاً
|
|
ثم قالوا : يا يزيد لا تُشَل »
|
مُنحنياً على ثنايا أبي عبد الله ، سيد
شباب أهل الجنة ، تنكُتُها بمخصَرتِك.
وكيف لا تقول ذلك؟ وقد نكأتَ القرحة ،
واستأصلتَ الشأفة ، بإراقتك دماء ذريّة محمد 6
ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب.
وتَهتف بأشياخك ، زعمت أنّك تناديهم ،
فلتردَنّ ـ وشيكاً ـ موردهم ، ولتودّنّ أنّك شُلِلتَ وبَكِمتَ
، ولم تكن قلتَ ما قلتَ ، وفعلتَ ما فعلت.
اللهم خذ بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ،
واحلل غضبك بمن سفك دماءنا ، وقتل حُماتنا.
فوالله ما فَرَيتَ إلا جلدك ، ولا حززت
إلا لحمك ، ولتردنّ على رسول الله 6 بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته ،
وانتهكتَ من حرمته في عترته ولُحمته ، وحيث يجمع الله شملهم ، ويلمّ شعثهم ، ويأخذ
بحقّهم.
« ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً
بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون »
وحسبُك بالله حاكماً ، وبمحمد خصيماً ،
وبجبرئيل ظهيراً.
وسيعلم مَن سوّل لك
ومكّنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً
، وأضعف جنداً.
ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، فإنّي
لأستصغرُ قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور
حرّى.
ألا : فالعجب كل العجب! لقتل حزب الله
النجباء ، بحزب الشيطان الطلقاء
، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر
الزواكي تتناهبها العواسل ، وتعفوها أمّهات الفراعل.
ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنّا ـ وشيكاً
ـ مَغرماً ، حين لا تجدُ إلا ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلام للعبيد.
فإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل.
فكِد كيدك ، واسْعَ سعيك ، وناصِب جُهدك
، فوالله لا تَمحُونّ ذكرنا ، ولا تُميت وحينا ، ولا تُدرك أمدنا ، ولا تَرحضُ عنك
عارها.
وهل رأيك إلا فَنَد ، وأيامك إلا عَدَد
، وجمعك إلا بَدَد؟ يوم ينادي المنادي : ألا : لعنة الله على الظالمين.
فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة
والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يُكمِلَ لهم الثواب ، ويوجب
لهم المزيد ، ويُحسن علينا الخلافة ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ».
فقال يزيد :
« يـا صيحة تُحمدُ من صوائح
|
|
ما أهون الموت على النوائح »
|
الفصل السابع
عشر
آل
رسول الله في خَرِبَة الشام
حوارٌ
بين مِنهال
والإمام
زين العابدين 7
مجيء
زوجة يزيد إلى خربة الشام
آل
رسول الله يُقيمون المآتم
على
الإمام الحسين 7 في الشام
بين
الإمام زين العابدين 7
ويزيد
بن معاوية
تَرحيل
عائلة آل الرسول م
مِن
دمشق إلى المدينة المنوّرة
آل رسول الله في خَرِبة الشام
ماذا حَدَثَ بعد مجلس الطاغية يزيد؟
لقد جاء في التاريخ : أنّ يزيد أمر بهم
إلى منزلٍ لا يُكنّهم من حرٍ ولا برد ، فأقاموا فيه حتّى تقشّرت وجوههم من حرارة
الشمس وأشعّتها المباشرة ، وكانوا مدّة إقامتهم في ذلك المكان ينوحون على الإمام
الحسين 7.
حوارٌ بين منهال
والإمام زين العابدين 7
وفي كتاب ( الأنوار النعمانيّة )
للجزائري : عن منهال بن عمرو الدمشقي قال :
كنتُ أتمشّى في أسواق دمشق ، وإذا أنا
بعليّ بن الحسين يمشي ويتوكّأ على عصا في يده ، ورِجلاه كأنّهما قصبتان! والدم
يجري من ساقَيه! والصُفرة قد غَلَبت عليه!
قال منهال : فخَنقَتني العبرة ،
فاعترضتُه وقلت له : كيف أصبحت يابن رسول الله؟!
قال : يا منهال! وكيف يُصبِح من كان
أسيراً ليزيد بن معاوية؟!
يا منهال! والله ، منذ قُتِلَ أبي ،
نساؤنا ما شبعن بطونهن!
ولا كَسَونَ رؤوسهن!
صائمات النهار ، ونائحات الليل.
يا منهال! أصبحنا مثل بني إسرائيل في آل
فرعون! يُذبّحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، فالحاكم بيننا وبينهم الله ، يوم فصل
القضاء.
أصبَحَت العرب تَفتخر على العجم بأنّ
محمداً منهم ، وتفتخر قريش على العرب بأنّ محمداً منها ، وإنّا ـ عترة محمد ـ
أصبحنا مقتولين مذبوحين ، مأسورين ، مشرّدين ، شاسعين عن الأمصار ، كأنّنا أولاد
تُركٍ أو كابل ، هذا صباحنا أهل البيت.
ثمّ قال : يا منهال! الحبس الذي نحن فيه
ليس له سقف ، والشمس تصهَرنا ، فأفرّ منه سُوَيعةً لضعف بدني ، وأرجع إلى عمّاتي
وأخواتي ، خشيةً على النساء.
قال منهال : فبينما أنا أُخاطبه وهو
يخاطبني وإذا أنا بإمرأةٍ قد خرجت من الحبس وهي تُناديه ، فتركني ورجع إليها ،
فسألتُ عنها وإذا هي عمّته زينب بنت علي تدعوه : إلى أينَ تمضي يا قرّة عيني؟
فرجع معها ، وتركني ، ولم أزل أذكره
وابكي.
مجيء زوجة يزيد
إلى خَرِبة الشام
لقد جاء في التاريخ أنّ إمرأةً كانت
تُسمّى « هند بنت عبد الله بن عامر » لمّا قُتل أبوها جاءت إلى دار الإمام أمير
المؤمنين علي 7
وبَقيَت هناك مدّة من الزمن تَخدم في دار الإمام ، وكانت على قدر من الجمال ،
ولمّا قتل الإمام أمير المؤمنين إنتقلت إلى دار الإمام الحسن المجتبى 7 وكانت تخدم هناك في دار الإمام أيضاً ،
فسمع عنها معاوية فطلبها وزوّجها لإبنه يزيد ، فبَقيت في دار يزيد ، وهي تَستَخبِر
ـ دائماً عن الإمام الحسن والإمام الحسين 8
وتُحاول أن تَسمَع أخبارهم من القادمين من المدينة المنوّرة.
ولمّا قتل الإمام الحسين 7 لم تَعلَم هند
بالخبر!!
ولمّا جاؤوا بعائلة الإمام الحسين إلى
الشام ، دخلت امرأة على هند وقالت لها : لقد أقبَلوا بسبايا ولا أعلَم من أين هم؟
فلعلّك تمضين إليهنّ وتتفرّجين عليهن؟!
فقامت هند ولَبِست أفخر ثيابها وتخمّرت
بخِمارها ، ولبِست إزارها ـ أي : عباءتها ـ ، وأمرت خادمةً لها أن تُرافقها وتحمل
معها الكرسي حتى لا تجلس على التراب.
ويقول البعض : أنّ يزيد صادفها قبل
الخروج من القصر فاستأذنت منه ، فأذِن لها لكنّه تغيّر لونه وبَقي مذهولاً حيث
إنّه خشي من مضاعفات ورود فِعل هذه الزيارة ، فهو يعلم أنّ زوجته الحظيّة عنده ..
كانت ـ مدّة سنين ـ خادمة في دار أهل البيت ، وهي تحبّهم حبّاً كثيراً ، لأنّها
قضت سنوات من حياتها خادمة لهم ، ولم ترَ منهم إلا العطف والإحترام ، والإنسانية
والأخلاق العالية ، فماذا يصنع يزيد؟
هل يُوافق على الزيارة أم يَرفُض ذلك؟
ولكن يبدو أنّ شخصية هند كانت قويّة ،
فقد فَرضَت نفسها على يزيد ، فأذن لها إلا أنّه طلب منها أن تكون الزيارة بعد
المغرب ، حينما يُخيّم الظلام على الأرض ،
فوافقت على ذلك.
وعند المساء أقبلت هند ومعها الخدم
يحملون معهم القناديل لإضاءة الطريق. فلمّا رأتها السيدة زينب 3 مُقبلة هَمَسَت في أذن أختها أم كلثوم
وقالت : « أُخيّه أتعرفين هذه الجارية؟
فقالت : لا والله.
فقالت زينب : هذه خادمتنا هند بنت عبد
الله!!
فسكتت أمّ كلثوم ونكّست رأسها!
وكذلك السيدة زينب نكّست رأسها.
فأقبلت هند وجلست على الكرسي قريباً من
السيدة زينب ـ باعتبارها زعيمة القافلة ـ ، وقالت : أخيّة أراكِ طأطأتِ رأسكِ؟
فسكتت زينب ولم تردّ جواباً!
ثم قالت هند : أخيّه من أي البلاد أنتم!
فقالت السيدة زينب : من بلاد المدينة!
فلمّا سمعت هند بذكر المدينة نزلت عن
الكرسي وقالت : على ساكنها أفضل السلام.
ثم التفتت إليها السيدة زينب وقالت :
أراكِ نزلتِ عن الكرسي؟
قالت هند : إجلالاً لمن سكن في أرض
المدينة!
ثم قالت هند : أخيّه أريد أن أسألكِ عن
بيت في المدينة؟
فقالت السيدة زينب : إسألي عمّا بدا
لكِ.
قالت : أسألكِ عن دار علي بن أبي طالب؟
قالت لها السيدة زينب : ومِن أينَ لكِ
المعرفة بدار علي؟
فبَكت هند وقالت : إنّي كنت خادمة
عندهم.
قالت لها السيدة زينب : وعن أيّما تسألين؟
قالت : أسألك عن الحسين واخوته وأولاده
، وعن بقيّة أولاد علي ، وأسألك عن سيدتي زينب! وعن أختها أم كلثوم وعن بقيّة
مخدّرات فاطمة الزهراء؟
فبَكت ـ عند ذلك ـ زينب بكاءً شديداً ،
وقالت لها يا هند : أمّا إن سألتِ عن دار علي فقد خَلّفناها تنعى أهلها!
وأما إن سألت عن الحسين فهذا رأسه بين
يدي يزيد!!
وأمّا إن سألت عن العباس وعن بقية أولاد
علي 7 فقد
خلّفناهم على الأرض .. مجزّرين كالأضاحي بلا رؤوس!
وإن سالت عن زين العابدين فها هو عليل
نحيل .. لا يطيق النهوض من كثرة المرض والأسقام ، وإن سألتِ عن زينب فأنا زينب بنت
علي!! وهذه أمّ كلثوم ، وهؤلاء بقية مخدّرات فاطمة الزهراء!!!
فلمّا سمعت هند كلام السيدة زينب رقّت
وبكت ونادت : واإماماه! واسيداه! واحسيناه! ليتني كنتُ قبل هذا اليوم عمياء ولا
أنظر بنات فاطمة الزهراء على هذه الحالة ، ثم تناولت حجراً وضرب به رأسها!! فسال
الدم على وجهها ومقنعتها ، وغشي عليها.
فلمّا أفاقت من غشيتها أتت إليها السيدة
زينب وقالت لها : يا هند قومي واذهبي إلى دارك ، لأنّي أخشى عليك من بعلكِ يزيد.
فقالت هند : والله لا أذهب حتى أنوح على
سيّدي ومولاي أبي عبد الله ، وحتى أُدخِلكِ وسائر النساء الهاشميّات .. معي إلى
داري!!
فقامت هند وحَسَرت رأسها وخرجت حافية
إلى يزيد وهو في مجلس عام ، وقالت : يا يزيد! أنت أمرتَ رأس الحسين يُشال على
الرمح عند باب الدار؟
أرأسُ ابن فاطمة بنت رسول الله مصلوب
على فناء داري؟!
وكان يزيد في ذلك الوقت جالساً وعلى
رأسه تاج مكلّل بالدر والياقوت والجواهر النفيسة!
فلمّا رأى زوجته على تلك الحالة وَثَب
إليها وغطّاها وقال : نعم فاعوِلي يا هند وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش
، فقد عجّل عليه ابن زياد ( لعنه الله ) فقتله .. قتله الله!!!
فلمّا رأت هند أنّ يزيد غطّاها قالت له
: ويلك يا يزيد! أخَذَتك الحميّة عليّ ، فلِم لا أخذتك الحميّة على بنات فاطمة
الزهراء؟! هتكتَ ستورهنّ وأبديتَ وجوههنّ وأنزلتهنّ في دارٍ خرِبة!! والله لا أدخل
حرَمَك حتى أُدخلهنّ معي.
فأمر يزيد بهنّ إلى منزله وأنزلهم في
داره الخاصّة ، فلمّا دخلت نساء أهل البيت :
في دار يزيد ، إستقبلتهنّ نساء آل أبي سفيان ، وتهافتنَ يُقبّلن أيدي بنات رسول
الله وأرجلهن ، ونُحنَ وبكين على الحسين ، ونزعن ما عليهنّ من الحُلي والزينة ،
وأقمن المأتم والعزاء ثلاثة أيام ...
آل رسول الله يقيمون المآتم
على الإمام الحسين عليه السلام في الشام
لقد جاء في كتب التاريخ : أنّ جمعاً
كثيراً من أهل الشام تغيّرت نظرتهم الإيجابيّة إلى حكومة بني أميّة بشكل عام ،
وإلى الطاغية يزيد بشكل خاص ، إلى نظرة سلبيّة.
وصار هذا الجمع الكثير يُشكّلون الرأي
العام الناقم على السلطة ، ممّا جعل يزيد يضطرّ إلى أن يتظاهر بتغيير موقفه تجاه
أهل البيت : فنقلهم إلى
بيته الخاص حتى يُخفّف التوتّر السائد على عائلته وحريمه ، بل وعلى كافّة نساء آل
أبي سفيان.
وجاء في التاريخ ـ أيضاً ـ : أنّ يزيد
إستدعى بِحُرَم
رسول الله 6 قال لهن : « أيّهما أحبّ إليكن : المُقام
عندي ، أو الرجوع إلى المدينة؟
فقلنَ : نُحبّ أوّلاً أن ننوح على
الحسين.
فقال : إفعلوا ما بدا لكم.
ثمّ أُخليَت الحجرات والبيوت في دمشق ،
ولم تبق هاشميّة ولا قُرشيّة إلا ولَبِسَت السواد على الحسين ، وندبوه سبعة أيام ،
فلمّا كان اليوم الثامن أرادوا الرجوع إلى المدينة ، فأمر يزيد أن يُحضروا لهنّ
المحامل ، وأعطاهنّ أموالاً كثيرة وقال : هذا المال عِوَض ما أصابكم!
فقالت أمّ كلثوم : « يا يزيد! ما أقلّ
حياؤك وأصلبَ وجهك؟! تقتل أخي وأهل بيتي وتُعطينا عِوَضهم؟!
فردّوا جميع الأموال ، ولم يأخذوا منها
شيئاً.
وجاء في بعض كتب التاريخ : أنّ السيدة
زينب 3 أرسلت إلى
يزيد تسأله الإذن أن يُقِمن المآتم على الإمام الحسين ، فأجاز ذلك ، وأنزلهنّ في
دار الحجارة ، فأقمنَ المآتم هناك سبعة أيام ، وكانت تجتمع عندهنّ ـ في كل يوم ـ
جماعة كثيرة لا تُحصى من النساء ».
فقصد الناس أن يَهجموا على يزيد في داره
ويقتلوه ،
فاطّلع على ذلك
مروان ، وقال ليزيد :
« لا يصلح لك توقّف أهل البيت في الشام
فأعدّ لهم الجهاز ، وابعث بهم إلى الحجاز ».
فهيّأ لهم المسير ، وبعث بهم إلى
المدينة.
بين الإمام زين العابدين عليه السلام
ويزيد بن معاوية
وقد جاء في التاريخ أنّ يزيد قال للإمام
زين العابدين 7
: « أُذكر حاجاتك الثلاث التي وعدتك بقضائهن »؟
فقال الإمام : « الأولى : أن تُريَني
وجه سيدي ومولاي الحسين ، فأتزوّد منه وأنظر إليه وأُودّعه؟
والثانية : أن تَرُد علينا ما أُخذَ
منّا؟
والثالثة : إن كنتَ عَزَمتَ على قتلي ان
تُوجّه مع هؤلاء النسوة من يَردّهن إلى حرم جدّهن 6
»؟
فقال يزيد : « أمّا وجه أبيك ، فلَن
تراه أبداً!!
وأمّا قتلك ، فقد عفوت عنك ، وأما
النساء فلا يرُدّهن إلى المدينة غيرك.
وأمّا ما أُخِذ منكم ، فإنّي أُعوّضكم
عنه أضعاف قيمته ».
فقال الإمام : « أمّا مالُك فلا نريده ،
وهو موفّر عليك ، وإنّما طلِبتُ ما أُخِذَ منّا .. لأنّ فيه مِغزل فاطمة بنت محمد
، ومقنعتها وقِلادتها وقَميصها ».
__________________
ترحيل عائلة آل الرسول
من دمشق إلى المدينة المنوّرة
المُستفاد من مجموع القضايا التاريخية
أنّ خطبة السيدة زينب الكبرى في مجلس يزيد ، والوقائع التي حدثت في ذلك المجلس ،
ثمّ خطبة الإمام زين العابدين 7
في الجامع الاموي في دمشق ، أوجَدَت في الناس وعياً وهياجاً ، واستياءً عاماً ضدّ
الحكم الأموي في الشام.
وخاصّة : أنّ بلاط يزيد لم يَسلَم من
التوتّر والإضطراب.
والعجيب : أنّ يزيد ـ الذي كان يحكم على
بلاد الشام وغيرها ـ شَعر بأنّ كرسيّه قد تضعضع ، بل وأنّ حياته صارت مهدّدة ، حتى
زوجته إنقلب حبّها إلى عداء ، كلّ ذلك من نتائج خطبة امرأة أسيرة ، وشابٍ
أسير عليل!!
فاستشار يزيد جلساءه حول إتّخاذ
التدابير اللازمة لدفع الخطر المُتوقّع ، فأشار عليه أصحابه بترحيل العائلة من
دمشق ، وإرجاعهم إلى المدينة المنوّرة.
وتبدّل منطق يزيد ، فبَعد أن كان يقول :
« لعِبت هاشم بالمُلك » صار يلعن عبيد الله بن زياد الذي قام بهذه الجناية من
تلقاء نفسه ، فكأنّ يزيد يُبرّأ نفسه ممّا جرى ، ويُلقي المسؤولية على عبيد الله
بن زياد.
وتبدّلت تلك الخشونة والقساوة ،
والشماتة والإهانة ، إلى الرفق واللين والإحترام المزيّف ، فالظروف تصنع كلّ شيء ،
والسياسة التابعة للظروف والخاضعة للمصالح ذو قابليّة للتلوّن بكلّ لون.
فأمر يزيد نعمان بن البشير أن يُهيّئ
وسائل السفر لترحيل أهل البيت من الشام ، مع رعاية الإحترام اللائق بهم.
وجاء في كتاب ( الفصول المهمّة ) لابن
الصبّاغ المالكي : ثم إنّ يزيد ـ بعد ذلك ـ أمر النعمان بن بشير أن يجهّزهم ـ بما
يصلح لهم ـ إلى المدينة الشريفة ، وسَيّر معهم رجلا أميناً من أهل الشام ، في خيل
سيّرها في
صحبتهم ، ... وكان
يُسايرهم هو وخيله التي معه ، فيكون الحريم قُدّامه ، بحيث أنّهم لا يفوتونه.
وإذا نزلن تنحّى عنهم ناحيةً .. هو
وأصحابه الذين كانوا حولهم كهيئة الحرس ، وكان يسألهم عن حالهم ، ويتلطّف بهم في
جميع أمورهم ، ولا يشقّ عليهم في مسيرهم ... إلى آخره.
الفصل الثامن
عشر
يوم
الأربعين
الرجوع
إلى مدينة الرسول
يوم الأربعين
يوم الأربعين : هو اليوم العشرون من شهر
صفر ، وفيه وصلت عائلة الإمام الحسين 7
إلى كربلاء ، قادمين من الشام ، وهم في طريقهم إلى المدينة المنورة.
وسُمّيَ بـ « يوم الأربعين » لأنّه
يصادف إنقضاء أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين 7.
ويُعتبر تحديد ـ أو تعيين ـ السنة التي
وصلت فيها قافلة آل الرسول إلى أرض كربلاء بعد رجوعهم من الشام .. من غوامض
المسائل التاريخية.
فهل كان الوصول في نفس السنة التي حدثت
فيها فاجعة كربلاء الدامية ، أي سنة ٦١ للهجرة ، أم كان ذلك في السنة التي بعدها؟
فهنا تساؤل يقول : كيف يُمكن ذهاب
العائلة من كربلاء إلى
الكوفة ، ثم إلى
دمشق ، ثم الرجوع والوصول إلى كربلاء ، كل ذلك في أربعين يوماً ، مع الانتباه الى
نوعية الوسائل النقليّة المتوفّرة يومذاك؟!
وهذه معركة علميّة تاريخية لا تزال
قائمة على قدم وساق بين حملة الأقلام من المحدّثين والمؤرخين.
ونحن إذا أردنا دراسة هذا الموضوع فإنّ
البحث يحتاج إلى شرح واف ، وكلام مفصّل مطوّل ، ونرجوا الله تعالى أن يوفّقنا
للبحث والتحقيق عن هذا الموضوع في مؤلّفاتنا القادمة ، إن شاء الله تعالى.
ولعلّ رجوعهم كان من طريق الأردن إلى
المدينة المنورة ، فحينما وصلوا إلى مفترق الطرق طلبوا من الحَرَس ـ الذين رافقوهم
من دمشق ـ أن يجعلوا طريقهم نحو العراق وليس إلى المدينة. ولم يستطع الحرس إلا
الخضوع لهذا الطلب والتوجه نحو كربلاء.
وحينما وصلوا أرض كربلاء صادف وصولهم
يوم العشرين من شهر صفر.
وكان الصحابي الجليل جابر بن عبد الله
الأنصاري قد جاء إلى كربلاء يرافقه عطاء ـ أو عطيّة ـ العوفي
.. وجماعة مِن
بني هاشم ، جاؤوا
جميعاً لزيارة قبر الإمام الحسين 7.
واجتمع جماعة من أهل السواد
وهم أهل القرى والأرياف التي كانت في ضواحي كربلاء يومذاك ، فصار هناك اجتماع كبير
ـ نِسبيّاً ـ من شتّى الطبقات ، فالجميع حضروا عند قبر ريحانة رسول الله وسيد شباب
أهل الجنة ، يزورون قبره ويسلّمون عليه ، والكآبة تخيّم على وجوههم ، والأسى
والأحزان تَعصِر قلوبهم.
كانت القلوب تشتعل حزناً ، والدموع
مستعدّة لتجري على الخدود ، ولكنّهم ينتظرون شرارة واحدة ، حتى تضطرم النفوس
بالبكاء ، وترتفع أصوات النحيب والعويل.
في تلك اللحظات وصلت قافلة العائلة
المكرمة إلى كربلاء ، فكان وصولها في تلك الساعات هي الشرارة المترقّبة المتوقّعة
، « فتلاقَوا ـ في وقت واحد ـ بالبكاء والعويل ».
كانت السيدة زينب 3 ـ في هذا المقطع من الزمان ، وفي هذه
المنطقة بالذات ، وهي أرض كربلاء ، ـ لها الموقف العظيم ، وكانت هي القلب النابض
للنشاطات والأحاسيس المبذولة عند قبور آل رسول الله :
في كربلاء.
نشاطات مشفوعة بكلّ حزن وندبة ، مِن
قلوب ملتهبة بالأسى!
وما تظنّ بسيدة فارقت هذه الأرض قبل
أربعين يوماً ، وتركت جُثَث ذويها معفّرة على التراب بلا دفن ، واليوم رجعت إلى
محلّ الفاجعة .. فما تراها تصنع وماذا تراها تقول؟؟!
أقبلت نحو قبر أخيها الحسين 7 فلمّا قربت من القبر صرخت ونادت أكثر
من مرّة ومرتين :
وا أخاه!! وا أخاه!! وا أخاه!!
كانت هذه الكلمات البسيطة ، المنبعثة من
ذلك القلب الملتهب ، سبباً لتهييج الأحزان وإسالة الدموع ، وارتفاع اصوات البكاء
والنحيب!
والله العالم كم كانت كلمات الشكوى تمرّ
بخاطر السيدة زينب الكبرى 3
حين كانت تبثّ آلامها وأحزانها عند قبر أخيها الإمام الحسين؟ ممّا جرى عليها وعلى
العائلة طيلة تلك الرحلة المُزعجة.
وما يُدرينا ..؟ ولعلّها كانت سعيدة
ومُرتاحة الضمير بما قامت به طيلة تلك الرحلة!
فقد ايقظت عشرات الآلاف من الضمائر
الغافلة ، وأحيَت آلاف القلوب الميّتة ، وجعلت أفكار المنحرفين تتغيّر وتتبدّل
مائة وثمانين درجة على خلاف ما كانت عليه قبل ذلك!
كلّ ذلك بسبب إلقاء تلك الخطَب المفصّلة
، والمحاورات الموجزة التي دارت بينها وبين الجانب المُناوئ ، أو الافراد
المحايدين الذين كانوا يجهلون الحقائق ولا يعرفون شيئاً عن أهل البيت النبوي
الطاهر.
وتُعتبر هذه المساعي من أهمّ إنجازات
السيدة زينب الكبرى ، فقد أخذوها أسيرة إلى عاصمة الأمويّين ، وإلى البلاط الأموي
الذي أُسّس على عداء أهل البيت النبوي من أول يوم ، والذي كانت موادّه الإنشائية ـ
يوم بناء صرحه ـ من النُصب والعداء لآل رسول الله ، ومكافحة الدين الإسلامي الذي
لا ينسجم مع أعمال الأمويين وهواياتهم.
أخذوها إلى مقرّ ومسكن طاغوت الأمويّين
، وبمحضر منه ومشهد ، ومسمع منه ومن أسرته. خطبت السيدة زينب تلك الخطبة الجريئة ،
وصبّت جام غضبها على يزيد ، ووَصَمته بكلّ عارٍ وخِزي ، وجعلت عليه سبّة الدهر ،
ولعنة التاريخ!!
نعم ، قد يتجرّأ الإنسان أن يقوم
بمغامرات ، إعتماداً على القدرة التي يَملكها ، أو على السلطة التي تُسانده ،
وأمثال ذلك.
ولكن ـ بالله عليك ـ على مَن كانت تعتمد
السيدة زينب الكبرى في مواجهاتها مع أولئك الطواغيت وأبناء الفراعنة ، وفاقدي
الضمائر والوجدان ، والسُكارى الذين أسكرتهم خمرة الحكم والإنتصار ، مع الخمرة
التي كانوا يشربونها ليلاً ونهاراً ، وسرّاً وجهاراً؟؟!
هل كانت تعتمد على أحد غير الله تعالى؟!
ويُمكن أن نقول : إنّها قالت ما قالت ،
وصنعت ما صنعت ـ في إصطدامها مع الظالمين ، أداءً للواجب ، وهي غير مُبالية
بالعواقب الوخيمة المحتملة ، والأضرار المتوقّعة ، والأخطار المتّجهة إلى حياتها
.. فليكن كلّ هذا. فإنّ الجهاد في سبيل الله محفوف بالمخاطر ، والمجاهد يتوقّع كل
مكروه يُحيط به وبحياته.
ونقرأ في بعض كتب التاريخ : أنّ قافلة
آل الرسول مكثت في كربلاء مدّة ثلاثة أيام ، مشغولة بالعزاء والنياحة ، ثم غادرت
كربلاء نحو المدينة المنوّرة.
الرجوع إلى مدينة الرسول
وصلت السيدة زينب الكبرى إلى وطنها
الحبيب ، ومسقط رأسها ، ومهاجَر جدّها الرسول الأعظم 6.
وكانت قد خرجت من المدينة قبل شهور ،
وهي في غاية العز والإحترام بصُحبة إخوتها ورجالات أسرتها ، واليوم قد رجعت إلى
المدينة وليس معها من أولئك السادة الأشاوس سوى ابن أخيها الإمام علي بن الحسين
زين العابدين 7
فرأت الديار خالية مِن آل الرسول الطاهرة.
وترى ديارَ أميّةٍ معمورةً
|
|
وديار أهل البيت منهم خالية
|
وجاء في التاريخ : أنّ السيدة زينب 3 لمّا وصلت إلى المدينة توجّهت نحو مسجد
جدّها رسول الله 6
ومعها جماعة من نساء
بني هاشم ، وأخذت
بعُضادَتي باب المسجد ونادت : «
يا جدّاه! إنّي ناعية إليك أخي الحسين »!! ، وهي مع ذلك لا تجفّ لها عبرة ، ولا
تفتُـرُ عن البكـاء والنحيـب.
إنّ الأعداء كانوا قد منعوا العائلة عن
البكاء طيلة مسيرتهنّ من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام ، وهنّ في قيد الأسر
والسَبي ، حتى قال الإمام زين العابدين 7
« إن دمعت من أحدنا عينٌ قُرع رأسه بالرمح » .
والآن .. قد وصلت السيدة إلى بيتها ،
وقد ارتفعت الموانع عن البكاء ، فلا مانع أن تُطلق السيدة سراح آلامها لتنفجر
بالبكاء والعويل ، على أشرف قتيل وأعزّ فقيد ، وأكرم أسرة فقدتهم السيدة زينب في
معركة كربلاء.
وخاصةً إذا اجتمعت عندها نساء بني هاشم
ليُساعدنها على البكاء والنياحة على قتلاها ، وحضرت عندها نساء أهل المدينة
ليُشاركنها في ذرف الدموع ، ورفع الأصوات بالصراخ والعويل.
والبلاغة والحكمة تتطلّب من السيدة زينب
أن تتحدّث
عمّا جرى عليها وعلى
أسرتها طيلة هذه الرحلة ، من ظلم يزيد وآل أبي سفيان وعملائهم الأرجاس الأنذال.
وتتناوب عنها السيدات الهاشميات اللاتي
حضرن في كربلاء ونظرن إلى تلك المآسي والفجائع ، وشاهدن المجازر التي قام بها
أتباع الشياطين من بني أميّة.
كانت النسوة يخرُجن من مجلس العزاء وقد
احمرّت عيونهنّ من كثرة البكاء ، وكلّ امرأة مرتبطة برجل أو أكثر ، من زوج أو أبٍ
أو أخ أو إبن ، وتقصّ عليهم ما سمعته من السيدة زينب 3
من الفجائع التي وقعت في كربلاء وفي الكوفة ، وفي طريق الشام ، وفي مجلس يزيد ،
وفي مدينة دمشق بصورة خاصّة.
كان التحدّث عن أيّ مشهد من تلك المشاهد
المؤلمة يكفي لأن تمتلئ القلوب حقداً وغيظاً على يزيد وعلى من يدور في فَلكه ،
وحتى الذين كانوا يحملون الحبّ والوداد لبني أميّة ، إنقلبت المحبّة عندهم إلى
الكراهية والبغض ، كما وأنّ الذين كانوا يُكنّون الطاعة والإنقياد للسلطة الحاكمـة
صـاروا على أعتاب التمـرّد والثورة ضـدّ السلطة.
ومن الطبيعي أنّ الأخبار كانت تصل إلى
حاكم المدينة ، وهو من نفس الشجرة التي أثمرت يزيد وأباه وجدّه ، فكان يرفع التقارير
إلى يزيد ويُخبره عن نشاطات السيدة زينب ، ويُنذره بالإنفجار ، وانفلات الأمر من
يده ، قائلاً : « إن كان لك في المدينة حاجة فأخرج منها زينب ».
جُبَناء ، يحكمون على نصف الكرة الأرضية
ويخافون من بكاء امرأة لا تملك شيئاً من الإمكانات والإمكانيّات.
إنهم يعرفون أنفسهم ، ويعرفون غيرهم ،
يعرفون أنفسهم أنهم يحكمون على رقاب الناس ، ويعرفون أنّ غيرهم يملكون قلوب الناس.
من المؤسف المؤلم أن يُحسَب هؤلاء
الظلمة مِن المسلمين ، وأن تُحسَب جناياتهم على الدين الإسلامي.
وأيّ إسلام يرضى بهذه الجناية التي
تقشعرّ منها السماوات والأرض؟!
هل هو إسلام النبي محمد 6؟!
أم إسلام بني أميّة؟!
إسلام معاوية ، ويزيد بن معاوية ، وعمر
بن سعد ، والدعيّ بن الدعيّ عبيد الله بن زياد؟!!
ولا مانع لدى يزيد أن يأمر حاكم المدينة
بإبعاد السيدة زينب مِن مدينة جدها الرسول.
ولكن السيدة إمتنعت عن الخروج من
المدينة ، وكأنّها لا تَهاب الموت ، ولا تخاف مِن أيّ رجس من أولئك الأرجاس.
وهل يستطيع الأعداء أن يَحكُموا عليها
بشيء أمرّ من الإعدام؟
فلا مانع ، فلقد صارت الحياة مبغوضة
عندها ، والموت خير لها من الحياة تحت سلطة الظالمين.
إنّها تلميذة مدرسة كان أساتذتها يقولون
: « إنّي لا أرى
الموت إلا سعادة ،
والحياة مع الظالمين إلا بَرَماً ».
وتحدّث السلطة ، وأعلنت إمتناعها عن
الخروج من المدينة. ولكنّ عدداً من السيدات الهاشميات إجتمعن عندها وذكّرنها بيزيد
وطغيانه ، وأنّه لا يخاف من الله تعالى ، ومن الممكن أن تتكرّر فاجعة كربلاء ، بأن
يأمر الوالي بإخراج السيدة من المدينة قَسراً وجَبراً ، فيقوم بعض من تبقّى من بني
هاشم لأجل الدفاع ، وتقع الحرب بين الفريقين ، وتُقام المجزرة الرهيبة.
فقرّرت السيدة زينب 3 السفر إلى بلاد مصر.
ولماذا اختارات مصر؟
إنّ أحسن بلاد الله تعالى عند السيدة
زينب ـ بعد المدينة المنوّرة ـ هو مصر ، لأنّه كان لآل رسول الله في بلاد مصر
رصيدٌ عظيم .. من ذلك الزمان إلى هذا اليوم. والسبب في ذلك أنّ أفراداً من الخط
المُوالي للإمام أمير المؤمنين 7
كانوا قد حكموا مصر في تلك السنوات ، أمثال : قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ،
ومحمد بن أبي بكر ، وأخيراً مالك الأشتر النخعي.
الفصل التاسع
عشر
بعض
ما رُويَ عن السيدة زينب
١
ـ خُطبة السيدة فاطمة الزهراء
٢
ـ حديث أمّ أيمن
٣
ـ متفرّقات
بعضُ ما رُويَ عن السيدة زينب
من القطع واليقين أنّ السيدة زينب
الكبرى 3 كانت قد
سمعت ما لا يُحصى من الأحاديث من جدّها رسول الله 6
وأبيها أمير المؤمنين 7
وأخويها : الإمام الحسن والإمام الحسين 8
ورَوت عنهم الشيء الكثير الكثير.
وكيف لا؟ وقد فَتحت عينَيها في مَهبط
الوحي والتنزيل ، وترعرعت ونَمَت في أحضان مصادر التشريع الإسلامي ، وتراجمة الوحي
الإلهي ، ومنابع المعارف والأحكام السماويّة.
ولكن .. هل ساعدتها الظروف أن تتحدّث
عمّا سمعت وشاهدت في حياتها المُباركة من أسلافها الطاهرين؟
وما يُدرينا ، فلعلّها حدّثت شيئاً ممّا
رأت ورَوَت ، ولكنّ الدهر الخَؤون لم يحتفظ بمَرويّاتها ، فضاعت وتلفت تلك الكنوز
،
وأبادت الحوادث تلك
الثروات الفكريّة والعلميّة ، وقد بقي
منها الشيء اليسير اليسير ، فمنها :
١ ـ خطبة السيدة فاطمة الزهراء
لقد ذكرنا في كتاب ( فاطمة الزهراء من
المهد إلى اللحد ) أنّ خطبة السيدة فاطمة الزهراء 3
تُعتبر معجزة من معاجز السيدة فاطمة ، لأنّها في قمّة الفصاحة وذروة البلاغة ،
وذكرنا ـ هناك ـ بعض مزايا الخطبة.
والعجب كل العجب أنّ السيدة زينب رافقت
السيدة فاطمة الزهراء ـ يومذاك ـ إلى المسجد ، وسجّلت الخطبة كلّها في قلبها
وذكراتها ، لتكون راويةً لخطبة أمّها ، ولتكون همزة وصل في إيصال صوت أمّها إلى
مسامع الأمم والمِلَل ، وجهازاً إعلاميّاً في بثّ هذه الخطبة إلى العالم ، وعلى
مرّ الأجيال والقرون.
ويجب أن لا ننسى أن عُمرها كان ـ يومذاك
ـ حوالي خمسة أعوام فقط ، فانظر إلى الذكاء المدهش والإستعداد الكامل والمؤهّلات
الفريدة من نوعها.
لقد ذكر الشيخ الصدوق في كتاب ( علل
الشرائع ) شيئاً من خطبة
السيدة فاطمة
الزهراء 3 بسنده عن
أحمد بن محمد بن جابر ، عن زينب بنت علي 7.
وروى أيضاً بسنده عن عبد الله بن محمد
العَلَوي ، عن رجال من أهل بيته ، عن زينب بنت علي ، عن فاطمة 3.
وروى أيضاً بسنده عن حفص الأحمر ، عن
زيد بن علي ، عن عمّته زينب بنت علي ، عن فاطمة 3
مِثله.
وإليك نصّ الرواية :
روى عبد الله بن الحسن باسناده عن آبائه
، أنّه لمّا أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك ، وبلغها ذلك ، لاثَت خمارَها على
رأسها
واشتَملت بجلبابها ، وأقبلت في لُمةٍ من حفدتها ونساء قومها
، ما تَخرُم مشيتها مشية رسول الله
6
حتى دخلت على أبي بكر ، وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم .
فنيطت دونها مُلاءة .
فجلست ثم أنّت أنّةً أجهش القوم بالبكاء
فارتجّ المجلس ، ثمّ أمهلت هُنيئة
حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم
، إفتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه ، والصلاة على رسوله ، فعاد القوم في
بكائهم ، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها. فقالت 3
:
الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على
ما ألهم ، والثناء بما
قَدّم ، من عُموم
نِعَمٍ ابتداها ، وسُبوغ آلاءٍ أسداها
، وتمام مِنَنٍ والاها ، جمّ عن الإحصاء عددها
، ونأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن
الإدراك أبَدُها.
ونَدَبَهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها
واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ، وثنى بالنَدب إلى أمثالها .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمّن القلوب موصولها
، وأنارَ في التفكير معقولَها.
المُمتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن
صِفَته ، ومِن الأوهام كيفيّته. إبتدع الأشياء لا من شيء كان قَبلها
، وأنشأها بلا احتذاء أمثلةٍ امتثَلها
، كوّنها بقُدرته ، وذَرأها بمشيئته
، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ، إلا تثبيتاً لحِكمته ،
وتنبيهاً على طاعته ، وإظهاراً لقدرته ، وتعبّداً لبَريّته ، وإعزازاً لدعوته.
ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب
على معصيته ، ذيادة لعباده مِن نقمته
، وحياشةً لهم إلى جنّته .
وأشهد أنّ أبي ( محمّداً ) عبده ورسوله
، إختاره وانتجبه قبلَ أن أرسَلَه ، وسمّاه قبل أن اجتَبَله .
واصطفاه قبل أن ابتَعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ،
وبنهاية
العدم مقرونة ،
عِلماً من الله تعالى بمئائل الأمور
، وإحاطةً بحوادث الدهور ، ومعرفةً بمواقع المقدور.
ابتعثه الله إتماماً لأمره ، وعزيمةً
على إمضاء حُكمه ، وإنفاذاً لمقادير حتمه. فرأى الأُمَم فِرَقاً في أديانها ،
عُكّفاً على نيرانها ، وعابدةً لأوثانها ، مُنكرةً لله مع عِرفانها ، فأنار الله
بمحمد 6 ظُلَمَها
، وكشف عن القلوب بُهَمَها ، وجلى عن
الأبصار غُمَمَها ، وقام في
الناس بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين
القويم ، ودعاهم إلى الصراط المستقيم.
ثمّ قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ،
ورغبةٍ وإيثار ، فمحمد 6
مِن تَعَب هذه الدار في راحة ، قد حُفّ بالملائكة الأبرار ، ورضوان الرب الغفّار ،
ومُجاورة الملك الجبّار ، صلى الله على أبي ، نبيّه
وأمينه على الوحي
وصفيّه ، وخِيَرته من الخلق ورضيّه ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
ثمّ التفتت إلى أهل المجلس وقالت : أنتم
ـ عباد الله ـ نصب أمره ونَهيه
، وحَمَلة دينه ووَحيه ، وأُمَناء الله على أنفسكم
، وبُلَغاؤه إلى الأمم ، زعيم حقّ
له فيكم ، وعهد قَدّمه إليكم ، وبقيّة استخلفها عليكم ، كتاب الله الناطق ،
والقرآن الصادق ، والنور الساطع
، والضياء اللامع ، بيّنة بصائره
، مُنكشفة سرائره ، مُتجلّية
ظواهره ،
مُغتبط به أشياعه
، قائد إلى الرضوان ، مودٍّ إلى النجاة استماعه ، به تُنال حُجَج الله المنوّرة ،
وعزائمه المفسَّرة ، ومحارمه
المُحذّرة ، وبيّناته الجالية
، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة
، ورُخَصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة .
فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك
، والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق ، والصيام
تثبيتاً للإخلاص ، والحجّ تشييداً للدين ، والعَدل تنسيقاً للقلوب
، وإطاعتنا نظاماً للملّة ، وإمامَتنا أماناً من الفُرقة ، والجهاد عزّاً للإسلام
، والصبر معونةً على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف مصلحةً للعامّة ، وبرّ
الوالدين وِقايةً من
السخط ، وصِلَة الأرحام منماةً للعدد
، والقِصاص حِقناً للدماء ،
والوَفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة ،
وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبَخس
، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس ، واجتناب القَذف حِجاباً عن اللعنة ،
وترك السرقة إيجاباً للعفّة.
وحرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة ،
فَـ « اتّقوا الله حقّ تُقاته ، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون » ، وأطيعوا الله
فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنّه « إنّما يخشى الله من عباده العلماء ».
ثمّ قالت : أيها الناس! إعلَموا أنّي
فاطمة! وابي محمد. أقولُ عَوداً وبِدءاً
، ولا أقولُ ما أقول غَلَطاً ، ولا أفعل ما أفعل
شططاً .
« لقد جاءكم
رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتّم حريصٌ بالمؤمنين رؤوف رحيم »
.
فإن تُعزوه وتَعرفوه تَجدوه أبي دون
نسائكم ، وأخا ابن عمّي دون رجالكم ، ولَنِعم
المعزيّ إليه 6.
فبَلّغ الرسالة ، صادعاً بالنذارة
، مائلاً عن مدرجة المشركين ، ضارباً
ثَبَجَهم ، آخذاً باكظامهم
، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يكسرُ الأصنام ، وينكت الهام
، حتى انهزم الجمع وولّوا الدُبُر ، وحتى تفرّى
الليل عن صُبحه
، وأسفَر الحقّ عن محضه ، ونَطق
زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين
، وطاح وشيظ النفاق ، وانحلّت
عُقَد الكفر والشِقاق وفُهتُم
بكلمة الإخلاص ، في نَفَر
من البيض الخِماص ، وكنتـم
على شفـا حفـرةٍ من النـار ، مُذقة
الشارب ، ونُهزة الطامع
، وقَبسة العجلان ، وموطئ
الأقدام ، تشربون
الطَرق
، وتَقتاتون القِدّ والوَرق ، أذلّةً
خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تعالى بمحمد 6 بعد اللّتيّا والتي ، وبعد أن مُنِيَ
بِبُهم الرجال ، وذُؤبان
العَرَب ، ومَرَدَة أهل الكتاب
، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، أو نَجَم
قرنٌ للشيطان ، أو فَغَرت فاغرةٌ من
المشركين ، قَذَفّ أخاه في لَهَواتها
، فلا
يَنكفئ حتى يطأ
صِماخها بأخمصه ، ويُخمِدَ
لَهَبَها بسيفه ، مكدوداً
في ذات الله ، مُجتهداً
في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيداً في أولياء الله ، مُشمّراً ناصحاً ،
مُجدّاً كادحاً ، وأنتم في
رَفاهية من العيش ، وادِعون
فاكهون آمنون ، تتربّصون
بنا الدوائر ، وتتوكّفون
الأخبار ، وتنكصون عند النزال
، وتفرّون من القتال.
فلمّا اختار الله لنبيّه 6 دارَ
أنبيائه ، ومأوى
أصفيائه ، ظَهَر فيكم حسكة النفاق
، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم
الغاوين ، ونَبَغَ خامل الأقلّين
، وهَدَر فنيق المبطلين ، فخطر في
عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مِغرَزه
هاتفاً بكم ، فألفاكم لِدَعوته مستجيبين ، وللغِرّة فيه ملاحظين.
ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم
فألفاكم غِضابا ، فـوسَمتـم
غيـرَ إبلكـم ، وأوردتم
غير
شِربكم
، هذا والعهد قريب ، والكلم رَحيب
، والجُرحُ لمّا يَندَمل ، والرسول
لمّا يُقبَر ، إبتداراً
زعمتم خوف الفتنة ، « ألا :
في الفتنة سَقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين ».
فهيهات منكم! وكيف بكم؟ « وأنّى تؤفكون
»
، وكتابُ الله بين أظهركم ، أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ،
وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلّفتموه وراء ظهوركم.
أرَغبةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ «
بئس للظالمين بدلاً » ، « ومَن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبَل منه وهو في
الآخرة من الخاسرين ».
ثمّ لم تَلبثوا إلا رَيث أن تسكن
نفرتُها ، ويَسلَس قيادها
، ثمّ أخذتم تورون وَقدَتها ، وتُهيّجون جمرتها
، وتَستجيبون لِهتاف الشيطان الغويّ ، وإطفاء أنوار الدين الجليّ ، وإخماد سنن
النبي الصفيّ ، تسرّون حسواً في ارتغاء ، وتمشون لاهله ووُلده في الخَمَر والضراء
، ونَصبر منكم على مثل حزّ المدى
، ووَخز السنان في الحشى ، وأنتم ـ
الآن ـ تزعمون أن لا إرثَ لنا ، « أفحكم الجاهلية يبغون »؟ ، « ومَن أحسن من الله
حُكماً لقومٍ يوقنون »؟ أفلا تعلمون؟ بلى تجلّى لكم ـ كالشمس الضاحية ـ أنّي
ابنته.
أيها المسلمون! ءأُغلَبُ على إرثيَه.
ياابنَ أبي قُحافة!
أفي كتاب الله أن تَرثَ أباك ولا أرِث
أبي؟؟
لقد جئت شيئاً فريّاً!! .
أفعلى عَمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه
وراء ظهوركم؟ إذ يقول : «
ووَرثَ سليمان داود » .
وقال ـ فيما اقتصّ مِن خبر زكريّا ـ إذ قال : « فهَب لي من لدنك وليّاً يَرثني ويرث من آل
يعقوب » .
وقال : « وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله »
.
وقال : « يوصيكم
الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأُنثَيَين »
.
وقال : « إن تَركَ خيراً الوصيّة للوالدَين والأقربين
بالمعروف حقّاً على المتّقين »
.
وزعمتم أن لا حَظوة لي؟
ولا أرث مِن أبي!
أفخصّكم الله بآية أخرَجَ أبي منها؟
أم تقولون : إنّ أهلَ مِلّتين لا
يتوارثان؟
أوَلستُ أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟
أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من
أبي وابن عمّي؟
فدونَكها مخطومة مرحولة
، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحَكَم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، وعند
الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ، ولكلّ نبأ مستقرّ ، فسوف تعلمون من
يأتيه عذاب يخزيه ، ويحلّ عليه عذاب مقيم.
ثمّ رمت بطَرفها نحو الأنصار فقالت : يا
معشر النَقيبة ، وأعضاد المِلّة ، وحَضَنَة الإسلام
، ما هذه الغميزة في حقّي؟ ، والسِنَة
عن ظلامتي؟! ، أما كان رسول الله 6
أبي يقول : « المَرءُ يُحفَظ في وُلده »؟
سَرعان ما أحدثتم ، وعَجلان ذا إهالة ،
ولكم طاقة
بما أُحاول ، وقوّة
على ما أطلب وأُزاول .
أتقولون : ماتَ محمد 6 ، فخطَبٌ جليل ، استَوسع وَهنه
، واستنهر فتقه ، وانفَتَق رَتقه ، وأظلمت الأرض لِغَيبَته ، وكُسفَت النجوم
لمصيبته ، واكدت الآمال ، وخشعت
الجبال ، وأُضيع الحَريم وأُزيلَت
الحُرمة عند مماته ، فتلك ـ والله ـ النازلة الكبرى
، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة
أعلنَ بها كتاب الله ـ جلّ ثناؤه ـ في أفنيَتِكم
، في مَمساكم ومَصبَحِكم ، هتافاً وصُراخاً ، وتلاوةً وألحاناً ، ولَقَبلَه ما حلّ
بأنبيائه ورسله ، حكمٌ فَصل ، وقضاءٌ حتم ، « وما محمد إلا رسول قد خَلَت مِن
قبله
الرسل ، أفإن مات أو قُتلَ انقلبتم على أعقابكم ومَن يَنقلِب على عقبيه فلن يضرّ
الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين »
.
ثمّ رَمَت بطرفِها نحو الأنصار وقالت :
إيهاً بَني قيلة! .
أَأُهضَم تُراثَ ابي؟ ، وأنتم بمرأىً
منّي ومَسمَع ، ومنتدى ومَجمَع
تلبسُكم الدعوة ، وتَشملكم الخبرة
، وأنتم ذَوو العَدَد والعُدّة ، والأداة والقوّة ، وعندكم السلاح والجُنّة ،
تُوافيكم الدعوة فلا تُجيبون؟ ، وتأتيكم الصَرخة فلا تُعينون؟ ، وأنتم مَوصوفون
بالكفاح ، مَعروفون بالخير والصلاح ، والنُخبة التي انتُخبِت ، والخيرة التي
اختيرت .
قاتَلتُم العَرَب ، وتحمّلتم الكدّ
والتَعَب ، وناطحتم
الأُمم ، وكافحتم
البُهَم ، لا نَبرح أو تَبرحون ، نَأمُركم
فتَأتَمرون ، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرَ حلبُ الأيام ، وخَضَعَت ثَغرة الشِرك
، وسَكنَت فَورة الإفك ، وخَمُدت نيران الكفر ، وهَدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام
الدين ، فأنّى حِرتُم بعد البيان؟ ، وأسررتم بعد الإعلان؟ ، ونكصتم بعد الإقدام ،
وأشركتم بعد الإيمان؟ ، «
ألا تُقاتِلون قوماً نَكثوا أَيمانهم وهَمّوا بإخراج الرسول ، وهم بَدؤكم أوّل
مرّة ، أتخشَونَهم فالله أحقّ أن تَخشَوه إن كنتم مؤمنين »
.
ألا : قد أرى أن قد أخلَدتم إلى الخفض
وأبعدتم مَن هو أحقّ بالبَسط والقَبض ، وخلَوتم إلى الدعة
، ونَجَوتم مِن الضيق بالسعة ، فمَجَجتم ما وَعَيتم
، ودسعتُم الذي تسوّغتم ، « فإن تكفروا أنتم ومن
في الأرض جميعاً فإنّ الله
لغنيّ
حميد » ، ألا : قد قلتُ ما قلتُ على معرفة
منّي بالخذلة التي خامَرتكم والغَدرة
التي استَشعرَتها قلوبكم .
ولكنّها فيضَة النفس
، ونَفثة الغيظ ، وخَوَر
القنا
، وبثّة الصدر ، وتَقدِمة الحُجّة ، فدونكموها ، فاحتَقِبوها دَبِرَة الظَهر
، نقبةَ الخُف ، باقية
العار ، مَوسومةً بغضب الله ، وشَنار الأبد
، مَوصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة ، فبِعَين الله ما تفعلون ، « وسيعلم الذين ظلموا
أيّ منقَلَب ينقلبون » ، وأنا ابنةُ نذير
لكم بين يَدَي عذاب شديد ، فاعملوا إنّا عاملون ، وانتظروا إنّا منتظرون.
فأجابها أبو بكر ( عبد الله بن عثمان )
وقال :
يابنَة رسول الله! لقد كانَ أبوكِ
بالمؤمنين عطوفاً كريماً ، رؤفاً رحيماً ، وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً
عظيماً ، إن عَزَوناه وجَدناه أباكِ دونَ النساء
، وأخا إلفِكِ دون الأخِلاّء ، آثره على
كلّ حميم ، وساعده في كل أمر جسيم ، لا يُحبّكم
إلا كل سعيد ، ولا يُبغضكم إلا كل شقيّ.
فأنتم عترة رسول الله الطيّبون ،
والخيرة المنتجبون ، على الخَير أدِلّتُنا ، وإلى الجنّة مسالكنا ، وأنتِ يا خيرة
النساء ، وابنة خير الأنبياء ، صادقةٌ في قولك ، سابقة في وُفور عقلك ، غير مردودة
عن حقّك ، ولا مصدودة عن صدقك
، والله ما عَدَوتُ رأيَ رسول الله!!!
ولا عَمِلتُ إلا بإذنه ، وإنّ الرائد لا يكذِبُ أهلَه
، وإنّي أُشهد الله وكفى به شهيداً ، أنّي
سمعتُ رسول الله
يقول : « نحنُ معاشر الانبياء لا نورّث ذهباً ولا فضّةً ولا عقاراً ، وإنّما نورثّ
الكتاب والحِكمة ، والعلم والنبوة ، وما كان لنا من طعمة فلوالي الأمر بَعدنا ، أن
يَحكُم فيه بحُكمه ».
وقد جعلنا ما حاولتِهِ في الكُراع
والسلاح ، يُقاتلُ بها المسلمون ، ويُجاهدون
الكفّار ، ويُجالدون المَردة الفُجّار .
وذلك بإجماع من المسلمين!! لم أنفَرِد به وَحدي ، ولم أستَبِدّ بما كان الرأي فيه
عندي
، وهذه حالي ومالي ، هي لكِ ، وبَينَ يديكِ ، لا تُزوى عنكِ
، ولا تُدّخر دونكِ ، وأنتِ سيدة أمّة أبيكِ ، والشجرة الطيبة لِبنيك ، لا يُدفَع
مالَك من فضلكِ ، ولا يوضع في فَرعك وأصلكِ ، حُكمك نافذ فيما مَلَكت يَداي ، فهل
تَرينّ أن أُخالف في ذلك أباك؟
فقالت 3
:
سبحان الله! ما كان رسول الله 6 عن
كتاب الله صادفاً
، ولا لأحكامه مُخالفاً ، بل كان يتّبع أثَره ، ويَقفو سُوَره
، أفتُجمِعون إلى الغَدر إعتلالاً عليه بالزور ، وهذه بعد وفاته شبيهٌ بما بُغيَ
له من الغَوائل في حياته .
هذا كتاب الله حَكَماً عدلاً ، وناطقاً
فَصلاً ، يقول : « يَرثُني
ويَرثُ مِن آل يَعقوب » ، « ووَرث سليمانُ داودَ »
، فبيّن ( عزّ وجل ) فيما وزّع عليه من الأقساط ، وشَرع مِن الفرائض والميراث ، واباحَ
مِن حظّ الذُكران والإناث ، ما أزاحَ علّة المُبطلين ، وأزالَ التظنّي والشُبُهات
في الغابرين ، كلا ، « بل سَوّلت لكم
أنفسُكم أمراً فصبرٌ جميل ، والله المُستعان على ما تَصِفون ».
فقال أبو بكر :
صَدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته ،
أنتِ معدن الحِكمة ، ومَوطن الهدى والرحمة ، ورُكن الدين ، وعَين الحُجّة ، لا
أُبعدُ صوابكِ ، ولا أُنكر خِطابكِ ، هؤلاء المسلمون
بَيني وبينَكِ ،
قَلّدوني ما تَقَلّدتُ ، وباتّفاق منهم أخذتُ ما أخذت ، غير مُكابرٍ ولا مُستبدّ
ولا مُستأثر ، وهم بذلك شهود.
فالتفتت فاطمة 3 إلى الناس وقالت :
مَعاشر الناس! المُسرعة إلى قيل الباطل
، المُغضية على الفِعل القبيح الخاسر
، أفلا تتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟
كلا ، بل ران على قلوبكم ما أسأتم مِن
أعمالكم. فأُخذ بسمعكم وأبصاركم ، ولَبئسَ ما تأوّلتم ، وساء ما به أشَرتُم ، وشرّ
ما منه اعتضَتّم ، لَتجدنّ ـ
والله ـ محمله ثقيلا ، وغِبّه وبيلاً
، إذا كُشِف لكم الغطاء وبانَ ماوراءه الضرّاء ، وبَدا لكم من ربّكم مالَم تكونوا
تحتسبون ، وخَسِر هنالك المبطلون.
ثمّ عطفت على قبر أبيها رسول الله 6 وقالت :
قـد كان بَعدك أنبـاءٌ و هَنبَثـة
|
|
لـو كنتَ شاهدَها لم تَكثُر الخُطبُ
|
إنّـا فَقَدنـاك فَقدَ الأرض وابِلَها
|
|
واختلّ قومُك فاشهَدهم وقد نَكبوا
|
وكلّ أهـلٍ لـه قُربى ومنـزلةٌ
|
|
عنـد الإله على الأدنين مُقتَـربُ
|
أبدَت رجالٌ لنا نجوى صدورهم
|
|
لمّا مَضَيتَ و حالَت دونَك التُرُب
|
تَجَهّمَتنا رجـالٌ واستخفّ بِنـا
|
|
لَمّا فُقِدتَ ، وكلّ الإرث مُغتَصَبُ
|
وكنتَ بَدراً ونـوراً يُستَضاءُ به
|
|
عليك تَنزلُ مِن ذي العِزّة الكُتُب
|
وكان جبريل بالآيـات يؤنسنـا
|
|
فقد فُقِدتَ ، فكلّ الخير مُحتَجَبُ
|
فليتَ قَبلَك كـان الموتُ صادفنا
|
|
لمّا مَضَيتَ وحالت دونك الكُثُبُ
|
إنا رُزينا بمـا لَم يُرزَ ذو شَجَنٍ
|
|
مِن البريّة لا عَجمٌ و لا عَـرَبُ
|
ثمّ انكفأت 3
، وأمير المؤمنين 7
يتوقّـع رجوعهـا إليه ، ويتطلّع
طلوعها عليه ، فلمّا استقرت بها الدار قالت لأمير المؤمنين 7 :
يابن أبي طالب ، إشتملت شَملَة الجنين
، وقَعَدتَ حُجرة الظنين ، نَقَضتَ
قادمة الأجدَل ، فخانَك
ريشُ الأعزَل ، هذا ابنُ
أبي قحافة يَبتزّني نِحلة أبي
وبُلغةَ إبنيّ .
لقد أجهَرَ في خصامي
، والفَتية الألدّ في
كلامي
، حتى حَبَستني قيلة نصرها ، والمهاجرة
وَصلَها ، وغضّت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع
ولا مانع ، خَرجتُ كاظمة ، وعُدتُ راغمة
، أضرَعتَ خَدّك يوم أضعتَ حَدّك
، إفتَرست الذئاب وافتَرَشتَ التُراب ، ما كفَفتَ قائلاً ولا أغنيتَ باطلا
، ولا خيارَ لي ، لَيتني
مِتُ قبل هِينَتي ، ودون
ذِلّتي ، عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً.
وَيلاي في كلّ شارق ، مات العَمَد
ووَهَنَ العَضُد ، شكواي إلى أبي ، وعَدواي إلى رَبّي ، اللهم أنت أشدُّ قوّةً
وحَولا ، وأحدُّ بأساً وتَنكيلا.
فقال أمير المؤمنين 7 :
لا وَيلَ عليكِ ، بل الويلُ لِشانئكِ ،
نَهنِهي عن وَجدِكِ يابنةَ الصفوة
، وبقيّة النبوّة ، فما وَنيتُ عن ديني
، ولا أخطأتُ مقدوري ، فإن كنتِ تريدين البُلغة فرزقُكِ مَضمون
، وكفيلُك مأمون ، وما أُعدّ لكِ خيرٌ مما قُطعَ عنك ، فاحتَسبي الله.
فقالت : حسبي الله. وأمسكت.
٢ ـ حديث أمّ أيمَن
كانت السيدة زينب 3 قد بَلغَت مَبلغاً من الوعي والنضج
الفكري والإستعداد العقلي بحيث استطاعت أن تَسمع مِن أمّ أيمن حديثاً يتعلّق
بمستقبلها ومُستَقبَل أُسرتها.
حديثاً يَقشَعرّ منه الجلود ، وتتوتّر
منه الأعصاب ، لأنّه إخبار عن مُستقبل محاط بشتّى أنواع الفجائع والكوارث ،
والمآسي
والإضطهاد والأهوال
، وهو مقتل أخيها الإمام الحسين 7
وأُسرته وأهل بيته.
إذن ، لم تكن فاجعة كربلاء للسيدة زينب
مفاجأة ، بل كانت على عِلم بهذه المقدّرات التي كتبتها المشيئة الإلهية.
ولا نعلم ـ بالضبط ـ التاريخ الذي سمعت
فيه السيدة زينب هذا الحديث من أمّ أيمن ، حتى نستطيع معرفة مقدار عمر السيدة زينب
يوم سماع هذا الحديث ، لكن ذكر المؤرّخون تاريخ وفاة أمّ أيمن سنة ٣٦ من الهجرة ،
وبناءً على هذا .. فقد كان عمر السيدة زينب 3
يوم وفاة أم أيمن ثلاثين سنة. ولعلّها كانت قد حدّثت السيدة زينب قبل وفاتها
بسنوات.
وعلى كل تقدير ، فإنّ السيدة زينب كانت
تعلم بقضايا كربلاء قبل وقوعها بأربع وعشرين سنة .. على أقلّ التقادير ، إستناداً
إلى
حديث أم أيمن ، سوى
ما سمعته من جدّها رسول الله وأبيها أمير المؤمنين من الإخبار بمقتل الإمام الحسين
في أرض كربلاء ، وقد إتّضح شيء من هذا الموضوع في الفصول الماضية من هذا الكتاب.
وأمّا حديث أمّ أيمن فإليك نصّه :
ذُكرَ في ملحقات كتاب ( كامل الزيارات )
لابن قولويه ، بسنده عن
نوح بن درّاج ، قال : حدّثني قدامة بن زائدة ، عن أبيه قال :
قال علي بن الحسين ـ 7 ـ : « بَلَغني ـ يا زائدة ـ أنّك تزور
قبر أبي عبد الله الحسين 7
أحياناً؟ ».
فقلت : إنّ ذلك لَكَما بَلَغَك.
فقال لي : « فلماذا تفعل ذلك ، ولك مكان
عند سلطانك الذي لا يحتملُ أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا ، والواجب على
هذه الأمّة من حقّنا »؟
فقلت : والله ما أريد بذلك إلا الله
ورسوله ، ولا أحفل بسخط من سخط
ولا يكبُرُ في صدري مكروه ينالُني بسببه!
فقال : « والله إنّ ذلك لكذلك ».
فقلت : والله إنّ ذلك لكذلك. يقولها
ثلاثاً ، وأقولها ثلاثاً.
فقال : « أبشِر ثمّ أبشِر ثمّ أبشِر
فلأُخبِرنّك بخبرٍ كان عندي فـي النَخب المخـزون
فإنّه لمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا
وقُتل أبي 7 وقُتل من
كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله ، وحُملَت حُرَمُه ونساؤه على الأقتاب يُراد
بنا
الكوفة .
فجعلتُ أنظرُ إليهم صرعى ولم يُواروا ،
فعَظُم ذلك في صدري ، واشتدّ ـ لما أرى منهم ـ قَلَقي ، فكادت نفسي تخرج ،
وتبيّنَت ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت علي 7
فقالت : ما لي أراكَ تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟؟!
فقلت : وكيفَ لا أجزع وأهلَع؟ وقد أرى
سيّدي وإخوتي وعمومَتي ووُلدَ عمّي ، وأهلي مُصرّعين بدمائهم
مُرَمّلين بالعراء ، مسَلّبين ، لا يُكفّنون ولا يوارون ، ولا يُعرّج عليهم أحد ،
ولا يقربُهم بشر ، كأنّهم أهل بيتٍ من الدَيلم والخَزر؟؟
فقالت : لا يُجزعنّك ما ترى ، فوالله
إنّ ذلك لعهد من رسول الله 6
إلى جدّك [ أمير المؤمنين ] وأبيك وعمّك [ الإمام الحسن ].
ولقد أخذ الله الميثاق ، أُناسٌ من هذه
الأمّة ـ لا تعرفهم فراعنة هذه الأمّة
، وهم معروفون في أهل السماوات ـ أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة وهذه الجسوم
المضرّجة فيوارونها.
وينصبون لهذا الطفّ عَلَماً لقبر أبيك
سيد الشهداء ، لا يُدرَس أثره
ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام.
ولَيَجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة
في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً ، وأمره إلا علوّاً.
فقلتُ : وما هذا العهد وما هذا الخبر؟؟
فقالت : نعم ، حدّثتني أمّ أيمن أن رسول
الله ( صلى الله
عليه وآله وسلم )
زارَ منزل فاطمة 3
في يوم من الأيام ، فعَمِلَت له حريرة
، وأتاهُ علي 7
بطبقٍ فيه تمر.
ثمّ قالت أمّ أيمن : فأتيتهم بعُسٍ فيه
لبن وزبد فأكلَ رسول الله وعلي وفاطمة والحسن
والحسين من تلك الحريرة ، وشَربَ رسول الله وشربوا من ذلك اللبن ، ثم أكل وأكلوا
من ذلك التمر والزُبد. ثم غسل رسول الله يده ، وعليٌ يَصُبّ عليه الماء.
فلمّا فرغ من غسل يده مسح وجهه ، ثم نظر
إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السررو في وجهه ، ثم رمقَ بطرفه نحو
السماء مليّاً ثم إنّه
وجّه وجهه نحو القبلة ، وبسط يديه ودعا ، ثمّ خرّ ساجداً وهو ينشج
فأطالَ النشيج ، وعلا نحيبه وجََرَت دموعه.
ثمّ رفع رأسه ، وأطرَقَ إلى الأرض
ودموعه تقطر كأنّها
صوب المطر
، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين :
وحزنت معهم ، لما رأينا من رسول الله 6
وهِبناه أن نسأله .
حتّى إذا طال ذلك ، قال له علي وقالت له
فاطمة : ما يُبكيك يا رسول الله؟ لا أبكى الله عينيك! فقد أقرح قلوبنا ما نرى مِن
حالك.
فقال : يا أخي سُررتُ بكم
وإني لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته عليّ فيكم ، إذ هبطَ عليّ جبرئيل فقال :
يا محمد! إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ
إطّلع على ما في نفسك ، وعرفَ سرورَك بأخيك وابنتك وسبطيك ، فأكمل لك النعمة
وهنّأكَ العطيّة : بأن جعَلَهم وذُريّاتهم ومُحبّيهم وشيعتهم معك في الجنة ، لا
يُفرّق بينك وبينهم ، يُحبَونَ كما تُحبى
، ويُعطَونَ كما تُعطى ، حتى ترضى وفوق الرضا.
على بَلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ،
ومكاره تُصيبهم بأيدي أُناسٍ ينتحلون مِلّتك ، ويزعمون أنّهم من أمّتك ، بُراء من
الله ومنك ، خبطاً خبطاً وقتلاً
قتلاً ، شتّى مصارعهم نائية
قبورهم ، خيرةٌ من الله لهم ولك فيهم ، فاحمَد الله ـ عز وجل ـ على خيرته ، و إرضَ
بقضائه.
فحَمِدتُ الله ، ورَضيتُ بقضائه بما
اختاره لكم.
ثم قال لي جبرئيل : يا محمد! إنّ أخاك
مُضطهدٌ بعدك ، مَغلوب على أمّتك ، متعوبٌ من أعدائك ، ثمّ مقتول بعدك ، يقتله
أشرّ الخلق والخليقة ، وأشقى البريّة ، يكون نظير عاقر الناقة
ببلد تكون إليه هجرته ، وهو مغرَسُ شيعته وشيعة ولده ، وفيه ـ على كلّ حال ـ يكثُر
بَلواهم ، ويعظم مصابهم.
وإنّ سبطك هذا ـ وأومأ بيده إلى الحسين
ـ مقتول في عصابة من ذريّتك وأهل بيتك ، وأخيارٍ من أمّتك ، بضِفّة الفرات
بأرضٍ يقال لها : كربلاء. من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريّتك
في اليوم الذي لا يَنقضي كَربُه ، ولا تُفنى حَسرتُه.
وهي أطيبُ بقاعِ الأرض وأعظمها حُرمةً ،
يُقتلُ فيها سبطك وأهله ، وإنّها من بطحاء الجنّة.
فإذا كان ذلك اليوم الذي يُقتَلُ فيه
سبطُك وأهله ، وأحاطَت به كتائب أهل الكفر واللعنة ، تزعزعت الأرض من أقطارها ،
ومادَت الجبال وكثُر إضطرابُها ، واصطفقت البحار بأمواجها ، وماجت السماوات بأهلها
، غَضَباً لك ـ يا محمد ـ ولذريّتك ، واستعظاماً لِما يُنتهكُ من حُرمتك ، ولشَرّ
ما تُكافأ به في ذريّتك وعترتك.
ولا يَبقى شيء من ذلك إلا استأذن الله ـ
عز وجل ـ في نُصرة أهلك المستضعفين المظلومين الذين هم حجّة الله على خلقه بعدك.
فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال
والبحار ومَن
فيهنّ :
« إنّي أنا الله المَلِك القادر ، الذي
لا يفوته هارب ، ولا يعجزه ممتنع ، وأنا أقدر على الإنتصار والإنتقام.
وعزّتي وجلالي!! لأُعذّبَن مَن وَتَرَ
رسولي وصَفيّي ، وانتهك حرمته ، وقَتَل عترته ، ونبذ عهده ، وظلم أهل بيته عذاباً
لا أُعذّبه أحداً من العالمين ».
فعند ذلك يضجّ كلّ شيء في السماوات
والأرضين ، بِلَعنِ من ظلم
عترتك ، واستحلّ حُرمَتك.
فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها
تولّى الله ـ عزّ وجل ـ قَبضَ أرواحها بيده ، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء
السابعة ، معهم آنية من الياقوت والزمرّد ، مملوءة من ماء الحياة ، وحُلَل من
حُلَل الجنّة ، وطيب من طيب الجنّة ، فغسّلوا جُثَثَهم بذلك الماء ، وألبَسوها
الحُلَل ، وحنّطوها بذلك الطيب ، وصلّت الملائكة ـ صفّاً صفّاً ـ عليهم.
ثمّ يبعث الله قوماً من أمّتك لا يعرفهم
الكفّار ، لم يشركوا في تلك الدماء بقولٍ ولا فعلٍ ولا نيّة
، فيُوارون أجسامهم ،
ويقيمون رَسماً لقبر
سيد الشهداء بتلك البطحاء ، يكون عَلَماً لأهل الحق ، وسبباً للمؤمنين إلى الفوز ،
وتَحفّه ملائكة من كلّ سماء : مائة ألف مَلَك في كلّ يوم وليلة ويُصلّون عليه ،
ويطوفون عليه ، ويسبّحون الله عنده ، ويستغفرون الله لمن زاره ، ويكتبون أسماء من
يأتيه زائراً من أمّتك ، متقرّباً إلى الله ـ تعالى ـ وإليك بذلك ، وأسماء آبائهم
وعشائرهم وبلدانهم ويوسمون في وجوههم بمِيسَمِ
نور عرش الله : « هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء ».
فإذا كان يوم القيامة سَطَعَ في وجوههم
ـ من أثر ذلك الميسم ـ نور تغشى منه الأبصار ، يُدلّ عليهم ويُعرَفون به.
وكأنّي بك ـ يا محمد ـ بيني وبين
ميكائيل ، وعليٌ أمامَنا ، ومَعَنا من ملائكة الله ما لا يُحصى عددهم ، ونحن نلتقط
ـ مَن ذلك الميسم في وجهه ـ من بين الخلائق ، حتى يُنجيهم الله مِن هَول ذلك اليوم
وشدائده.
وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك ـ يا
محمد ـ أو قبر أخيك أو قبر سبطيك ، لا يُريد به غير الله عز وجل.
وسيَجتهد أُناسٌ ـ مِمّن حَقّت عليهم
اللعنة من الله والسخط ـ أن يُعفوا رَسمَ ذلك القبر ، ويُمحوا أثره ، فلا يجعل
الله ـ تبارك وتعالى ـ لهم إلى ذلك سبيلاً.
ثم قال رسول الله 6 فهذا أبكاني وأحزَنَني.
قالت زينب : فلمّا ضرب ابن ملجم ( لعنه
الله ) أبي 7 ورأيتُ عليه
أثر الموت منه ، قلتُ له : يا أبَه حَدّثتَني أمّ أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببتُ أن
أسمعه منك.
فقال : يا بُنيّه الحديث كما حدّثَتكِ
أمّ أيمن ، وكأنّي بكِ وبنساء أهلكِ سبايا بهذا البلد ، أذلاء خاشعين ، تخافون أن
يتخطّفكم الناس.
فصبراً صبراً ، فوالذي فَلَقَ الحبّة
وبرأ النسمة ، ما لله على ظهر الأرض ـ يومئذ ـ وليٌّ غيركم وغير مُحبّيكم وشيعتكم.
ولقد قال لنا رسول الله ـ حين أخبرنا
بهذا الخبر ـ : « إنّ إبليس ( لعنه الله ) في ذلك اليوم يطير فرَحاً
فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته فيقول : يا معاشر الشياطين : قد أدركنا مِن
ذريّة آدم الطلبة ، وبَلغنا في هلاكهم الغاية ، وأورَثناهم النار إلا من اعتصم
بهذه العصابة ، فاجعلوا شُغلكم بِتَشكيك الناس
فيهم وحَملِهم على
عَداوتِهم ، وإغرائهم بهم وأوليائهم ، حتى تستَحكموا ضلالة الخَلق وكُفرهم ، ولا
يَنجو منهم ناج.
ولقد صَدَقَ عليهم إبليس ـ وهو كذوب ـ
أنه لا يَنفعُ مَعَ عداوتكم عمل صالح ، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنب غير
الكبائر.
قال زائدة : ثم قال علي بن الحسين 7 بعد أن حدّثني بهذا الحديث : خُذه إليك
، ما لو ضَربتَ في طلبة آباط الإبل حَولاً
لكان قليلاً .
٣ ـ متفرّقات
١ ـ روى الشيخ الطوسي باسناده عن السيدة
زينب بنت علي ـ 8
ـ قالت :
صلّى أبي مع رسول الله 6 صلاة الفجر ، ثم أقبل على علي 7 فقال : هل عندكم طعام؟
فقال : لم آكل منذ ثلاثة أيام طعاماً.
فقال رسول الله : إمض بنا إلى إبنتي
فاطمة.
فدخلا عليها وهي تَتَلوّى من الجوع!
وإبناها معها. فقال رسول الله : يا فاطمة! فِداك أبوكِ ، هل عندك شيء من الطعام.
فاستَحيَت فاطمة أن تقول لا. وقامت واستقبلت
القِبلة لِتُصلّي ركعتين. فأحسّت بحَسيس ، فالتفَتَت
وإذا بصفحة ملأى
ثَريداً ولحماً ، فأتت بها ووضعتها بين يدي أبيها ، فدعى رسول الله بعليّ والحسن
والحسين.
ونظر عليّ إلى فاطمة متعجّباً وقال : يا
بنت رسول الله! أنّى لكِ هذا؟
فقالت : هو من عند الله ، إنّ الله
يرزقُ من يشاء بغير حساب.
فضحك النبي وقال : الحمد لله الذي جعل
في أهلي نظير زكريّا ومريم ، إذ قال لها : أنّى لكِ هذا؟ قالت : هو من عند الله ،
إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب ...
٢ ـ وجاء في التاريخ : أنّ السيدة زينب 3 كانت جالسة ذات يوم ، وعندها أخواها
الإمامان الحسن والحسين 8
وهما يتحدّثان في بعض أحاديث رسول الله 6.
فقالت السيدة زينب سمعتُكُما تقولان : إنّ رسول الله قال : « الحلال بَيّن ،
والحرامُ بيّن ، وشُبُهاتٌ لا يعلمها كثير من الناس ».
ثمّ استمرّت السيدة زينب تُكمل الحديث
وتقول : « مَن تَركها ( أي : تَرَك الشبهات ) صَلُحَ له أمر دينه وصَلُحت له
مُروءَته وعِرضه ، ومن تلبّس بها ووقع فيها واتّبعها ..
كان كمن رعى غنمه
قرب الحِمى ومن رعى ماشيته قرب الحمى نازعته نفسه
أن يرعاها في الحمى ، ألا : وإنّ لكلّ مَلِكٍ حِمى ، وإنّ حمى الله محارمه ».
٣ ـ ثمّ رَوَت السيدة زينب 3 حديثاً آخر عن رسول الله 6 فقالت : « ألا : وإنّ في الجسد مُضغة
إذا صَلُحت صَلُح الجسد كلّه ، وإذا فَسَدت فسد الجسد كلّه ، ألا : وهي القَلب ».
ثمّ قالت السيدة : أما سمعتما رسول الله
( صلى الله عليه
وآله وسلم ) الذي
تأدّب بأدب الله ( عز وجل ) ـ ويقول : « أدَّبَني رَبّي فأحسن تأديبي » ـ يقول : «
الحلالُ : ما أحلّه الله ( عز وجل ) في القرآن الكريم وبيّنه رسول الله 6 مثل : البيع والشراء ، وإقام الصلاة في
أوقاتها ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحجّ البيت لمن استطاع سبيلا ، والأمر
بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وترك الكذب والنفاق والخيانة.
والحرام : ما حرّمه الله ( عز وجل )
وذكره في القرآن الكريم وبيّنه رسول الله 6
والحرام نقيضُ الحلال.
وأمّا الشبهات : فهي أمور لا يُعلَمُ
حلالها وحرامها ، والمؤمن إذا لم يَعلم الشيء أنّه حلال أو حرام ، وكان يرجو سعادة
الدنيا والآخرة ، فعليه أن لا يَتبَع الشُبُهات فالشبهات تَجُرّه إلى المُحرّمات
».
فقال لها الإمام الحسن 7 : « زادَكِ الله كمالاً ، نعم .. إنّه
كما تقولين ، إنّكِ حَقّاً من شجرة النبوة ومِن معدن الرسالة ».
٤ ـ وروى أحمد بن جعفر بن سليمان
الهاشمي ، قال : كانت زينب بنت علي 8
تقول : « مَن أراد أن لا يكون الخَلقُ شُفعاءه إلى الله فليحمده ، ألم تسمع إلى
قولهم :
« سمع الله لِمَن
حمده » فَخِف الله .. لقُدرته عليك ، واستحِ منه لقُربه منك ».
٥ ـ ورُويَ عن السيدة زينب 3 أنّها قالت : « إنّ جدّي المصطفى 6 شَرَّع لنا حُقوقاً لأزواجنا كما شَرّع
على الرجال حقوقاً مفروضة ».
٦ ـ ورُوي عنها 3 ـ أيضاً ـ : يقول جدّي الرسول الكريم :
« إذا صلّت المرأةُ خَمسَها ، وصامَت شَهرها ، وحَفَظت فرجَها ، وأطاعت زوجها ،
قيل لها : أُدخُلي الجنّة من أيّ أبواب الجنّة شئتِ ».
٧ ـ روَت السيدة فاطمة بنت الإمام
الحسين 8 عن عمّتها
زينب الكبرى 3 أنّها قالت
: رأيتُ أمّي فاطمة 3
قامَت في محرابها ليلة جُمُعَتِها ، فلم تزل راكعة ساجدة ، حتى اتّضح عمود الصبح ،
وسَمِعتُها تدعو للمؤمنين والمؤمنات ،
وتُسمّيهم وتُكثر
الدعاء لهم ، ولا تدعو لنفسها شيء.
فقال لها أخي الحسين ـ ذات يوم ـ يا
أُمّاه! لِمَ لا تَدعين لنفسكِ كما تَدعين لغيركِ؟!
قالت : بُنَي! الجارُ ثمّ الدار.
٨ ـ ورُويَ عن السيدة زينب 3 ـ أيضاً ـ أنّها قالت : كان آخرُ عهد
أبي إلى أخَوَي 8
أنّه قال لهما : يا بنيّ إذا أنا متّ فغسّلاني ثمّ نشّفاني بالبُردة التي نُشِّف
بها رسول الله 6
وفاطمة ، وحَنّطاني وسَجّياني على سريري ، ثم انظرا حتى إذا ارتفعَ لكما مقدّم السرير
، فاحمِلا مُؤخّره.
قالت : فخَرجتُ أُشيّع جنازة أبي ، حتّى
إذا كُنّا بظَهر الكوفة وقَدِمنا بظهر الغَري رُكزَ المُقدّم ، فوضعنا المُؤخّر ،
ثمّ برزَ الحسن مرتدياً بالبُردة التي نُشِّفَ بها رسول الله 6 وفاطمة وأمير المؤمنين : ثمّ أخذ المِعوَل فَضَرَب ضربَةً
فانشقّ القبر عن ضريح ، فإذا هو
بساجَةٍ مكتـوب عليهـا سطـران
بالسريانية : بسم الله
الرحمن الرحيم ، هذا قبرٌ حَفَره نوح النبي لعلي وصيّ محمد قبلَ الطوفان
بِسَبعمائة عام.
٩ ـ ورَوَت السيدة زينب 3 ـ أيضاً ـ عن أُمّها السيدة فاطمة بنت
رسول الله 6 أنّها قالت
: قال رسول الله ـ لعليّ 7
ـ « أما إنّك يا علي وشيعَتُك في الجنّة ».
١٠ ـ ورَوى الإمام زين العابدين عن
عمّته زينب 8 عن السيدة
فاطمة الزهراء 3
أنّها قالت : « دَخَلَ عليَّ رسول الله 6
عند ولادة إبني الحسين ، فناولتُه إيّاه ، ... ثم قال : خُذيه يا فاطمة! فإنّه
إمـام إبنُ إمـام .. أبو الأئمّة التِسعـة ، مـِن صُلبه أئمّة أبرار ، والتاسع
قائمهم ».
١١ ـ وقد نُسِبَ إلى السيدة زينب الكبرى
3 هذه الأبيات
الشعرية :
تَمَسَّـك بالكتـابِ و مَـن تلاهُ
|
|
فأهل البيتِ هـم أهل الكتـاب
|
بهـم نَزَلَ الكتـابُ وهـم تَلَوهُ
|
|
وهم أهـل الهداية للصـوابِ
|
إمامي وَحّـدَ الرحمـن طفـلاً
|
|
وآمنَ قبـلَ تشديـد الخطـاب
|
عليٌ كـان صِدّيـق البـرايـا
|
|
علـيٌّ كـان فاروق العـذاب
|
شَفيعي فـي القيامة عند ربّـي
|
|
نَبيّـي و الوَصيّ أبـو تـرابِ
|
وفـاطمةُ البَتـول وسيّـدا مَن
|
|
يُخلَّدُ فـي الجنـان من الشباب
|
علـى الطـف السلام وساكنيه
|
|
ورَوح الله فـي تلـك القُبـاب
|
نُفوس قُدّسَت في الأرض قِدماً
|
|
وقد خَلُصت من النطف العذاب
|
__________________
مَضاجـع فِتيـةٍ عبدوا فناموا
|
|
هجوداً في الفَدافِد والشِعـاب
|
عَلَتهُـم في مضاجعهم كعابٌ
|
|
بـأوراقٍ مُنَعّمـة رِضـاب
|
وصُيّرتِ القبور لهم قُصوراً
|
|
مَنـاخـاً ذات أفنيةٍ رِحـاب
|
لَئـن وارتهُم أطبـاق أرضٍ
|
|
كمـا أغمَدتَ سيفاً في قِراب
|
كأنمـارٍ إذا جاسـوا رَواضٍ
|
|
وآسـادٍ إذا ركبوا عصـاب
|
لقـد كـانوا البحار لِمَن أتاهم
|
|
مـن العافين والهَلكى العطاب
|
فقد نُقلـوا إلى جَنّات عـدنٍ
|
|
وقد عيضوا النَعيم من العقاب
|
بَناتُ محمـدٍ أضحَت سبـايا
|
|
يُسَقنَ مع الأُسـارى و النهاب
|
مُغبّـرة الذُيـول مُكشّفـاتٍ
|
|
كسَبـي الروم دامية الكِعاب
|
لَئن أُبرزن كُرها مِن حجاب
|
|
فَهُنّ مِن التعَفّف في حجاب
|
أيُبخَـلُ بالفُرات على حسينٍ
|
|
وقد أضحى مُباحـاً للكلابِ
|
فَلي قلبٌ عليـه ذو التِهـابٍ
|
|
ولي جَفنٌ عليه ذو انسكاب
|
١٢ ـ ونَختِمُ هذا الفَصل بهذه المقطوعة
التاريخيّة المُهمّة : لقد رُويَ عن السيدة حكيمة بنت الإمام محد الجواد 8 أنّها قالت : إنّ الحسين بن علي 7 أوصى إلى أخته زينب بنت علي 8 في الظاهر ، وكانَ ما يَخرجُ من علي بن
الحسين من عِلمٍ يُنسَبُ إلى زينب سِتراً على علي بن الحسين 8.
الفصل العشرون
تاريخ
وفاة السيدة زينب 3
السيدة
زينب الكبرى 3
تاريخ وفاة السيدة زينب عليها السلام
إنّ المشهور أنّ وفاة السيدة زينب
الكبرى 3 كان في يوم
الأحد مساء الخامس عشر من شهر رجب
، مِن سنة ٦٢ للهجرة.
وهناك أقوال أخرى ـ غير مشهورة ـ في
تحديد يوم وسنة وفاتها.
ولقد أهمل التاريخ ذكر سبب وفاتها!
أم أنّها قُتِلَت بسبب السُمّ الذي قد
يكون دُسّ
إليها من قِبَل
الطاغية يزيد ، حيث لا يَبعُد أن يكون قد تمّ ذلك ، بسرّيةٍ تامّة ، خَفيَت عن
الناس وعن التاريخ.
وعلى كل حال ، فقد لَحِقَت هذه السيدة
العظيمة بالرفيق الأعلى ، وارتاحت من توالي مصائب ونوائب الدهر الخؤون.
لقد فارقت هذه الحياة بعد أن سجّلت
إسمها ـ بأحرف من نور ـ في سجل سيدات النساء الخالدات ، فصارت ثانية أعظم سيدة من
سيدات البشر ، حيث إنّ أمّها السيدة فاطمة الزهراء 3
هي : أولى أعظم سيّدة من النساء ، كما صرّح بذلك أبوها رسول الله 6 حيث قال : « وأمّا ابنتي فاطمة .. فهي
سيدة نساء العالمين ، من الأوّلين والآخرين ».
ويُقيم المسلمون الشيعة وغيرهم مجالس
العزاء والمآتم ، في كلّ سنة ، حينما تمرّ عليهم هذه الذكرى الأليمة ، ويتحدّث
الخطباء والشعراء في تلك المجالس والمآتم على الجوانب المختلفة لحياة هذه السيدة
العظيمة ، وعن فصول حياتها المزدحمة بالفضائل والمكرُمات ، والمقرونة بالمصائب
والنوائب.
وقد جاء في التاريخ : أنّه بعد مرور عام
على وفاتها ، وفي نفس اليوم الذي تُوفّيت فيه السيدة زينب 3 إجتمع أهل مصر .. جميعاً ، وفيهم
الفقهاء وقرّاء القرآن وغيرهم ، وأقاموا لها مجلساً تأبينيّاً عظيماً بإسم ذكرى
وفاتها ، على ما جرت به العادة ـ مِن إقامَةِ مَجلِس العَزاء والتَأبين بَعْدَ
مُرور عام على وفاةِ الميّت ـ ومن ذلك الحين لم ينقطع إحياء هذه الذكرى إلى عصرنا
هذا ، وإلى ما شاء الله ، ويُعبّر عن موسم إحياء هذه الذكرى ـ في مصر ـ بـ «
المولد الزينبي » وهو يبتدأ من أول شهر رجب .. من كلّ سنة ، وينتهي ليلة النصف منه
، وتُحيى هذه الليالي بتلاوة آيات القرآن الحكيم ، وقراءة مدائح أهل البيت النبوي
، والتي يُعبّرون عنها بـ « التواشيح ».
ويكون المجلس عظيماً جداً حيث يشترك فيه
أهل مدينة القاهرة ، والمُدن المصريّة الأخرى .. حتى البعيدة منها ، ثم يدخلون إلى
مرقدها الشريف ، للسلام عليها ، وقراءة سورة الفاتحة على روحها الزكية الطاهرة.
مرقد السيدة زينب الكبرى
إختلفت الأقوال في مدفن السيدة زينب
الكبرى 3 ومحلّ قبرها
، إختلافاً عجيباً. ونحن نستعرض تلك الأقوال ، ثم نقوم بتسليط الأضواء عليها ،
كمحاولة لمعرفة القول الصحيح :
القول الأول : أنّها توفّيت في المدينة
المنوّرة ، ودُفنت هناك.
القول الثاني : أنّها دُفنت في ضواحي
مدينة دمشق في الشام.
القول الثالث : أنّها هاجرت إلى بلاد
مصر ، وعاشت هناك حوالي سنة واحدة ، ثم توفّيت ودُفنت في مدينة القاهرة.
وقبل أن نَضَع هذه الأقوال الثلاثة على
طاولة التشريح والمُناقشة نقول :
أليس من أعجب الأعاجيب أن يختلف
المؤرّخون في تاريخ وفاة السيدة زينب الكبرى ومكان دفنها ، مع الإنتباه إلى أنّها
ثانية سيدة في أهل البيت النبوي المكرّم؟!
ففي ضاحية دمشق .. يوجد مشهد مُشيّد ،
يقصده الناس من شتّى البلاد ، ويُنسب إلى السيدة زينب 3.
وفي القاهرة ـ أيضاً ـ مشهد عظيم يرتاده
المِصريّون وغيرهم ، وهو يُنسَب إلى السيدة الزينب.
أجل ..
ولكن .. قد يزول هذا التعجّب ، بعد ما
علمنا بالظلم الشامل والمستمرّ الذي ظلمه التاريخ لآل رسول الله الطاهرين ..
رجالاً ونساءً! حيث إنّ أكثر الكُتُب التاريخيّة ـ الموجودة حالياً ـ مكتوبة
بأقلام معادية لآل رسول الله 6.
ويزول التعجّب ـ أيضاً ـ عندما نعلم
بمحاربة أكثر الحكومات للكُتُب والمؤلّفات التي كانت تتحدّث عن أهل البيت :.
محاربتها للكتب عن طريق الإحراق
والإتلاف والإبادة ، ثم محاربتها عن طريق عدم السماح بطبعها أو نشرها أو دخولها في
البلاد الإسلاميّة!!
دراسة القول الأول
لقد كان القول الأوّل : أنّها توفّيت في
المدينة المنوّرة فدُفنت هناك.
ودليل هذا القول : هو أنّه ثَبَتَ ـ
تارخيّاً ـ أن السيدة زينب وصلت إلى المدينة ودخلت إليها ، ولم يثبت خورجها من
المدينة.
ونحن ـ في مجال توضيح هذا القول الأول ـ
نذكُرُ كلام المرحوم السيد محسن الأمين ثم نعلّق عليه بعد ذلك.
كلام
السيد الأمين
قال السيد محسن الأمين العاملي ما يَلي
:
يَجبُ أن يكون قبرها في المدينة
المنوّرة ، فإنّه لم يثبت أنها ـ بعد رجوعها للمدينة ـ خَرجت منها ، وإن كان
تاريخ وفاتها ومحل قبرها بالبقيع ( مجهولاً ) ، وكم من أهل البيت أمثالها من
جُهِلَ محلّ قبره وتاريخ وفاته ، خصوصاً النساء.
تعليق
على كلام السيد الأمين
رغم أنّنا نُقدّر للسيد الأمين مكانته
العلميّة ومؤلّفاته القيّمة ، ولكنّنا نقول :
إنّ التحقيق في القضايا التاريخيّة عام
للجميع ، وليس وقفاً على إنسان معيّن ، فإذا كان السيد الأمين يقول بحُجّيّة الظن
حتى في المسائل التاريخية ، فليست هذه المزية خاصّة به ، بل يجوز لغيره ـ أيضاً ـ
أن يُبدي رأيه ، وخاصّة بعد الإنتباه إلى « حريّة الرأي » المسموح بها في هذه
الأمور والمواضيع!
وعلى هذا الأساس .. فنحن نُناقشه في
رأيه ونظريّته ، ونقول :
أولاً :
إنّه لا يوجد في المدينة المنوّرة ـ وفي
مقبرة البقيع بصورة خاصّة ـ قبرٌ للسيدة زينب 3.
فكيف يُمكن أن يكون قبرها هناك ، ولم
يعلم بذلك أحد؟!
مع الإنتباه إلى الشخصية المرموقة التي
كانت للسيدة زينب في أسرتها ، وعند الناس جميعاً؟!
فهل ماتت في المدينة ولم يحضر تشييع
جنازتها أحد؟!
ولم يشهد دفنها أحد؟!
ولم يعلم بموضع قبرها أحد؟
ولم يتحدّث أحد من أئمة أهل البيت : عن هذا الموضوع المهم؟! وخاصّة الإمام
السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق :.
ثمّ .. كيف ولماذا لم يُشاهد أحد من
الأئمّة الطاهرين أو من شخصيّات بني هاشم .. عند قبرها؟!
وكيف لم يتحدّث واحد منهم عن زيارة
قبرها ، أو عن تعيين موضع قبرها في المدينة؟! مع ما ورد عن رسول الله 6 حول الثواب العظيم لزيارة قبرها.
وما هي الدواعي لهذا الغموض والتعتيم عن
سبب وتاريخ وفاتها ومكان دفنها .. حتى من رجالات أهل البيت؟!
فهل كانت هناك أسباب وحِكَم تَفرض إخفاء
قبرها ، كما كانت ذلك بالنسبة إلى قبر والدتها السيدة فاطمة الزهراء 3؟
أم أنّ هناك حقائق وأخباراً خَفيَت عنّا؟!
هذه أسئلة حائرة .. تجعلنا لا نوافق على
القول الأوّل!
ثانياً :
هناك أقوال تقول : إنّها خرجت من
المدينة .. إلى الشام أو إلى مصر ، وهي تمنع من موافقتنا على القول الأوّل ، لأنّه
معارض بقولين آخَرين .. لكلّ واحد منهما وثائقهما وأدلّتهما.
ثالثاً :
لَيتَ شعري هل يأذن لي السيد الأمين ; أن أسأله :
إن كانت السيدة زينب دُفنت في المدينة
المنوّرة ، وكان المرقد الموجود في قرية الراوية في ضاحية دمشق قبر امرأة مجهولة
النسب ، كما ادّعى ذلك السيد الأمين ، فلماذا دُفنَ السيد بعد وفاته عند مدخل مقام
السيدة زينب بضاحية دمشق؟!
فهل كان ذلك بوصيّةٍ منه؟!
أم أنّ أولاده إختاروا لقبره ذلك المكان
.. وهم يعلمون نظريّة والدهم حول ذلك المقام؟!
دراسة القول الثاني :
خلاصة القول الثاني هي : أنّ السيدة
زينب الكبرى 3 سافرت مع
زوجها إلى الشام بسبب المجاعة التي وقعت في المدينة المنوّرة ، وقد كانت لعبد الله
بن جعفر في ضواحي دمشق ضَيعَة ( بستان أو مزرعة ) فسافرت السيدة زينب 3 إلى هناك ، وبعد وصولها ـ بمدّة ـ
مَرِضَت وماتت ودُفِنت هناك.
جاء في كتاب كامل البهائي : « رُوي أنّ
أمّ كلثوم أُختَ الحسين 7
توفّيت بدمشق ( سلام الله عليها ).
وقال ابن بطوطة ـ في رحلته المعروفة ـ :
« وبقرية قِبَلي البَلَد ـ أي : بلدة
دمشق ـ على فرسخ منها : مشهد أمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب 7 مِن فاطمة 3.
ويُقال :
إنّ اسمها : زينب ، وكَنّها النبي « أمّ
كلثوم » لِشَبَهِها بخالتها أمّ كلثوم بنت رسول الله 6
وعليه مسجد كبير ، وحوله مسكن وله أوقاف ، ويُسمّيه
أهل دمشق : قبر
السِت أمّ كلثوم.
وهنا أكثر من سؤال يتبادر إلى الذهن حول
هذا القول :
السؤال الأول : إنّ التاريخ لم يَذكر
مجاعةً وقعت في المدينة المنوّرة!! ففي أيّ سنة كانت تلك المجاعة؟
وكم دامت حتى اضطرّ آل رسول الله 6 إلى الهجرة إلى الشام؟
السؤال الثاني : إذا كانت وفاة السيدة
زينب 3 في السنة
الثانية والستّين ـ كما ذكره بعض المؤرّخين ـ فلماذا لم تكن في المدينة المنوّرة
حينما حدثت مجزرة « واقعة الحَرّة »؟
إذ لا يوجد لها ـ ولا لزوجها عبد الله
بن جعفر ـ أيّ إسم أو أثَر ، فهل وقعت المجاعة قبل واقعة الحَرّة أم بعدها؟!
هذه أسئلة وتساؤلات متعدّدة لا جواب لها
سوى الإحتمالات ، والظنّ الذي لا يُغني عن الحقّ شيئاً.
هذا .. وقد حاول بعض المعاصرين في كتاب
سمّاه « مرقد العقيلة » أن يُثبت مدفنها في دمشق .. لا القاهرة ، واستدلّ بأدلّة
وتَشَبّث ببعض الأقوال ، ولكنّها لا تَفي بالغَرض ، لأنّ الأدلّة غير قاطعة ،
والأقوال غير كافية للإحتجاج والإستدلال ، وكما يُقال : « غير جامعة وغير مانعة ».
وممّا يُضعّف القول الثاني : أنّه حينما
أرادوا تجديد بناء حرم السيدة زينب 3
الموجود في ناحية
دمشق ـ قبل حوالي
أربعين سنة ـ وحَفَروا الأرض لبناء الأُسُس والأعمدة ووصلوا إلى القبر الشريف ،
ووجدوا عليه صخرة رُخام .. هذه صورتها :
فإنّ صحّت هذه الكتابة فالقبر الموجود
في ناحية دمشق قبرٌ لسيدة من بنات الإمام علي بن أبي طالب 7 واسمها : زينب الصغرى ، وهذا يدلّ على
مدى إهتمام الإمام 7
بهذا الإسم حيث اختاره لأكثر من بنت واحدة من بناته.
يُضاف إلى ذلك .. أنّنا نجد في بطون كتب
التاريخ وصف السيدة زينب بـ « الكبرى » للفرق بينها وبين أختها.
وفي مجال دراسة القول الثاني .. هناك
كلام طويل للسيد محسن الأمين في مناقشته لهذا القول ، ونحن نذكره ـ هنا ـ تتميماً
للدراسة الموضوعيّة.
وليس معنى نقلنا لكلامه هو تأييدنا له
في قوله ، بل .. إنّ هذا يعني أنّنا نضع المعلومات أمام الباحث ، ليكون على بصيرة
أكثر من النقاط التي يُمكن أن تنفعه في إستكشافه لمحور البحث ، مع التنبيه
المُسبَق ـ مِنّا ـ على إستغرابنا من كلامه! ومن لهجته في التعبير عند الكتابة حول
هذا الموضوع!!
وإليك نصّ كلامه :
« ... وفيما أُلحِقَ برسالة ( نُزهة أهل
الحَرَمين في عمارة المشهدين ) في النجف وكربلاء ، المطبوعة بالهند ، نقلاً عن
رسالة
( تحيّة أهل القبور
بالمأثور ) عند ذكر قبور أولاد الأئمة :
ما لفظه :
ومنهم : زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين 7 وكُنيَتها أم كلثوم ، قبرها في قرب
زوجها عبد الله بن جعفر الطيار خارج دمشق الشام معروف ، جاءت مع زوجها عبد الله بن
جعفر أيام عبد الملك بن مروان إلى الشام سنة المَجاعة ، ليقوم عبد الله بن جعفر في
ما كان له من القرى والمزارع خارج الشام ، حتى تنقضي المجاعة ، فماتت زينب هناك
ودُفنت في بعض تلك القُرى ، هذا هو التحقيق في وجه دفنها هناك ، وغيره غلط لا أصل
له ، فاغتنم .. فقد وَهَمَ في ذلك جماعة فخبطوا العشواء ».
وفي هذا الكلام من خبط العشواء مواضع :
أولاً
: إنّ زينب الكبرى لم يقل أحد من
المؤرّخين أنها تُكنّى بأمّ كلثوم ، فقد ذكرها المسعودي والمفيد وابن طلحة وغيرهم
ولم يقل أحد منهـم أنّهـا تكنّـى أم كلثـوم
، بل كلّهم سمّوها : زينب الكبرى وجعلوها مقابل أمّ كلثوم الكبرى ، وما استظهرناه
من أنّها تُكنّى أمّ كلثوم ظهر لنا ـ أخيراً ـ فساده.
ثانياً
: قوله : « قبرها في قرب زوجها عبد الله
بن جعفر » ليس بصواب ولم يقله أحد ، فقبر عبد الله بن جعفر بالحجاز ، ففي « عمدة
الطالب » و « الإستيعاب » و « أُسد الغابة » و « الإصابة » وغيرها : أنّه مات
بالمدينة ودُفن بالبقيع. وزاد في « عُمدة الطالب » القول بأنّه مات بالأبواء ودُفن
بالأبواء ، ولا يوجد قرب القبر المنسوب إليها بالرواية قبر يُنسب لعبد الله بن
جعفر.
ثالثاً
: مجيؤها مع زوجها عبد الله بن جعفر إلى
الشام سنة المجاعة .. لم نرَهُ في كلام أحد من المؤرّخين ، مع مزيد التفتيش
والتنقيب. وإن كان ذُكرَ في كلام أحد من أهل الأعصار الأخيرة فهو حدس واستنباط
كالحَدس ، والإستنباط من صاحب ( التحيّة ). فإنّ هؤلاء لَمّا توهّموا أنّ القبر
الموجود في قرية راوية خارج دمشق منسوب إلى زينب الكبرى ، وأنّ ذلك أمرٌ مفروغ منه
ـ مع عدم ذكر أحد من المؤرّخين لذلك ـ استنبطوا لتصحيحه وجوهاً بالحدس والتخمين ..
لا تَستند إلى مستند ، فبعض قال : « إنّ يزيد ( عليه اللعنة ) طلبها من المدينة
فعظم ذلك عليها ، فقال لها ابن أخيها زين العابدين 7
: « إنّك لا تَصلين دمشق » فماتَت قبل دخولها. وكأنّه هو الذي عَدّه صاحب (
التحيّة ) غلطاً لا أصل له ووقع في مثله ، وعَدّه غنيمةً وهو ليس بها ، وعَدّ غيره
خبط العشواء وهو منه. فاغتَنِم .. فقد وَهَمَ كلّ من زَعَم أنّ القبر الذي في قرية
راوية منسوب إلى زينب الكبرى ، وسبب هذا التوهّم : أنّ مَن سمع أنّ
في راوية قبراً
يُنسَب إلى السيدة زينب سَبَقَ إلى ذهنه زينب الكبرى ، لتبادر الذهن إلى الفرد
الأكمل ، فلمّا لم يجد أثراً يدلّ على ذلك لجأ إلى استنباط العِلَل العليلة. ونظير
هذا أنّ في مصر قبراً ومشهداً يُقال له : « مشهد السيدة زينب » ، وهي زينب بنت
يحيى ، وتأتي ترجمتها ، والناس يتوهّمون أنّه قبر السيدة زينب الكبرى بنت أمير
المؤمنين 7 ولا سَبَبَ
له إلا تبادر الذهن إلى الفرد الأكمل.
وإذا كان بعض الناس إختلقَ سبباً لمجيء
زينب الكبرى إلى الشام ووفاتها فيها ، فماذا يختلِقون لمجيئها إلى مصر؟! وما الذي
أتى بها إليها؟
لكن بعض المؤلفين من غيرنا رأيتُ له
كتاباً مطبوعاً بمصر ـ غاب عنّي الآن إسمه ـ ذكر لذلك توجيهاً « بأنّه يجوز أن
تكون نُقلت إلى مصر بوجهٍ خفي على الناس ». مع أنّ زينب التي هي بمصر هي زينب بنت
يحيى حَسَنيّة أو حُسَينيّة كما يأتي ، وحال زينب التي برواية حالُها.
رابعاً
: لم يَذكر مؤرّخ أنّ عبد الله بن جعفر
كان له قُرى ومزارع خارج الشام حتى يأتي إليها ويقوم بأمرها ، وإنّما كان يَفِدُ
على معاوية فيُجيزُه ، فلا يَطول أمر تلك الجوائز في يده حتّى يُنفِقَها بما عُرِف
عنه من الجود المُفرط. فمِن أينَ جاءته هذه القُرى والمزارع؟ وفي أيّ كتابٍ ذُكرت
مِن كُتُب
التواريخ؟!
خامساً
: إن كان عبد الله بن جعفر له قرى ومزارع
خارج الشام ـ كما صَوّرته المُخيّلة ـ فما الذي يَدعوه للإتيان بزوجته زينب معه؟!
وهي التي أُتيَ بها إلى الشام أسيرةً بزيّ السبايا وبصورة فظيعة ، وأُدخلت على
يزيد مع ابن أخيها زين العابدين وباقي أهل بيتها بهيأةٍ مُشجية؟!
فهل من المتصوّر أن تَرغَب في دخول
الشام ورؤيتها مرّةً ثانية وقد جرى عليها بالشام ما جرى؟!
وإن كان الداعي للإتيان بها معه هو
المجاعة بالحجاز .. فكان يُمكنه أن يَحمل غلات مزارعه ـ الموهومة ـ إلى الحجاز أو
يبيعها بالشام ويأتي بثمنها إلى الحجاز ما يُقوّتها به ، فجاء بها إلى الشام
لإحراز قوتها ، فهو ممّا لا يقبله عاقل ، فابن جعفر لم يكن مُعدَماً إلى هذا الحدّ
، مع أنّه يتكلّف من نفقة إحضارها وإحضار أهله أكثر من نفقة قوتها ، فما كان
ليُحضرها وحدها إلى الشام ويترك باقي عياله بالحجاز جياعاً!!
سادساً
: لم يُتَحقّق أنّ صاحبة القبر الذي في
راوية تُسمّى زينب لو لم يُتحقّق عدمه ، فضلاً عن أن تكون زينب الكبرى ، وإنّما هي
مشهورة بأمّ كلثوم ». إنتهى
كلامه.
دراسة القول الثالث :
نُذكّر أنّه كان القول الثالث : هو أنّ
مرقد السيدة زينب الكبرى 3
في مصر.
وقد كان هذا القول ـ ولا يزال ـ إحدى
الإحتمالات لِمَكان المرقد الشريف ، وله أدلّته والأفراد القائلون به.
لكنّ بعد إكتشاف وانتشار كتاب « أخبار
الزينبات » ـ للعُبيدلي ـ صار هذا القول أقوى الإحتمالات الثلاثة لمكان قبر السيدة
زينب الكبرى ، لقوّة الأُسُس المَبنيّة عليها هذا القول ، وإليك بعض التوضيح لهذا
الكلام :
لقد ذكر العُبيدلي أخباراً وتصريحات
كثيرة ومهمّة حول رحلة السيدة زينب 3
إلى مصر ، وذلك في كتابه « أخبار الزينبات ».
لكن بقيَ هذا الكتاب ـ طيلة هذه القرون
ـ في زوايا الخمول والنسيان ، وفي أروقة المكتبات في رفوف الكتُب المخطوطة التي
يظلِّلُ عليها غبار الجهل والإهمال.
وقد أمر بطبعه بصورة مستقلّة ـ ولاول
مرّة ـ المرحوم آية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي ; في مدينة قم عام ١٤٠١ هـ ، مع تعليقات
مفيدة جداً. فقال ـ في مقدّمته على هذا الكتاب ـ ما خلاصته :
من هو العُبيدلي؟
وما هو كتاب « أخبار الزينبات »؟
الجواب : هو العلامة الجليل ، الشريف
الطاهر ، المُحَدّث المُفَسّر ، النَسّابة ، الثِقَة الأمين ، أبو الحسين : يحيى
العُبيدلي المَدَني ، العقيقي الأعرجي ، بن الحسن بن جعفر الحُجّة بن عبيد الله
الأعرج ، ابن الحسين الأصغر ، ابن الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين 7.
وُلدَ العُبيدلي سنة ٢١٤ هـ في المدينة
المنوّرة ، وتوفّي سنة ٢٧٧ في مكّة المكرّمة. وهو يُعتَبَر من علمائنا بالمدينة
المنوّرة ، وساداتها الشرفاء الكُرماء في القرن الثالث الهجري.
وقد روى عنه النجاشي المتوفّى سنة ٤٥٠
هـ ، والحافظ أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة الهمداني ، المتوفّى عام ٣٣٣ ، والشيخ
المفيد ، والشيخ الصدوق في كتابه : « مَن لا يحضره الفقيه » ، والشيخ الطوسي ،
وابن شهر آشوب ، والعلامة الحلّي في « تذكرة الفقهاء » وغيرهم من علماء الرجال.
كتاب
أخبار الزينبات
يُعتبرُ كتاب « أخبار الزينبات » مِن
أهمّ كتب التراجم والرجال ، ومِن الوثائق القويّة ، وأقدم المصادر في هذا
الشأن ، وقد اشتملَ
على فوائد لم توجَد في غيره.
وإليك بعض المعلومات حول النسخة
المخطوطة لهذا الكتاب :
وُجدَ هذا الكتاب في مدينة حَلَب ، قد
كُتبَ بتاريخ سنة ٦٧٦ هـ بخط الحاج محمد بلتاجي الطائفي ، المجاور للحرم النبوي
الشريف ، والكتاب منقول عن أصلٍ مؤرّخ بتاريخ سنة ٤٨٣ هـ ، وبخط السيد محمد
الحسيني الواسطي الأصل.
مقتطفات
من ( أخبار الزينبات )
ونحن نذكر بعض المقتطفات من هذا الكتاب
الثمين ، وهي تُشَكّل الأدلّة على قوّة القول الثالث :
« زينب الكبرى بنت علي بن أبي طالب ،
أمّها : فاطمة الزهراء بنت رسول الله 6
وُلدت في حياة جدّها ، وخرجت إلى عبد الله بن جعفر ، فولدت له أولاداً ، ذكرناهم
في كتاب النَسَب ».
« حدّثنا زهران بن مالك ، قال سمعتُ عبد
الله بن عبد الرحمن العتبي يقول : حدّثني موسى بن سلمة ، عن الفضل بن سهل ، عن علي
بن موسى ، قال :
أخبرني قاسم بن عبد الرزاق ، وعلي بن
أحمد الباهلي ، قالا : أخبرنا مُصعَب بن عبد الله قال :
كانت زينب بنت علي ـ وهي بالمدينة ـ
تُؤلّبُ الناس على القيام بأخذ ثار الحسين.
فلمّا قام عبد الله بن الزبير بمكّة ،
وحَمَل الناس على الأخذ بثار الحسين ، وخلع يزيد ، بَلَغ ذلك أهل المدينة ، فخطبت
فيهم زينب ، وصارت تؤلّبهم على القيام للأخذ بالثار ، فبَلَغَ ذلك عمرو بن سعيد ،
فكتب إلى يزيد يُعلِمُه بالخبر.
فكتب [ يزيد ] إليه : « أن فَرّق بينها
وبينهم » فأمر أن يُنادى عليها بالخروج من المدينة والإقامة حيث تشاء.
فقالت : « قد علم الله ما صار إلينا ،
قُتِل خَيرُنا ، وانسَقنا كما تُساق الأنعام ، وحُمِلنا على الأقتاب ، فوالله لا
خرجنا وإن أُهريقَت دماؤنا ».
فقالت لها زينب بنت عقيل : « يا ابنة
عمّاه! قد صدقنا الله وعده وأورثنا الأرض نتبوّأُ منها حيث نشاء.
فطيبي نفساً وقَرّي عيناً ، وسيجزي الله
الظالمين.
أتُريدين بعد هذا هوانا؟!
إرحَلي إلى بلد آمِن »
__________________
ثمّ اجتمع عليها نساء بني هاشم ،
وتَلَطّفنَ معها في الكلام ، وواسَينَها.
وبالإسناد المذكور ، مرفوعاً إلى عبيد
الله بن أبي رافع ، قال :
سمعتُ محمّداً أبا القاسم بن علي يقول :
« لمّا قَدِمَت زينب بنت علي من الشام
إلى المدينة مع النساء والصبيان ، ثارت فتنةٌ بينها وبين عمرو بن سعيد الأشدَق (
والي المدينة مِن قِبَل يزيد ).
فكتب إلى يزيد يُشير عليه بنقلها من
المدينة ، فكتَبَ له بذلك ، فجهّزها : هيَ ومَن أراد السفر معها من نساء بني هاشم
إلى مصر ، فقَدِمتها لأيّام بَقيت من رجب ».
حَدّثني أبي ، عن أبيه ، عن جَدّي ، عن
محمد بن عبد الله ، عن جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه ، عن الحسن بن الحسن ، قال :
« لمّا خرجت عمّتي زينب من المدينة خرج معها مِن نساء بني هاشم : فاطمة إبنة عمّي
الحسين ، وأُختها
سكينة ».
ورُويَ بالسند المرفوع إلى رقيّة بنت
عقبة بن نافع الفهري ، قالت :
« كنتُ فيمَن استَقبَل زينب بنت علي
لَمّا قَدِمَت مصر .. بعد المصيبة ، فتقدّم إليها مُسلمة بن مُخلّد ، وعبد الله بن
حارث ، وأبو عميرة المزني ، فعَزّاها مسلمة وبكى ، فبَكت وبكى الحاضرون وقالت : «
هذا ما وَعَد الرحمن وصدق المرسلون ».
ثمّ احتملها إلى داره بالحمراء ، فأقامت
به أحد عَشَرَ شهراً ، وخمسة عشر يوماً ، وتُوفّيَت ، وشَهِدَت جنازتها ، وصلّى
عليها مسلمة بن مُخلّد في جمع [ من الناس ] بـ [ المسجد ] الجامع ، ورجعوا بها
فدفنوها بالحمراء ، بمخدعها من الدار بوصيّتها ».
حدّثني إسماعيل بن محمد البصري ـ عابد
مصر ونزيلها ـ قال : حدّثني حمزة المكفوف قال : أخبرني الشريف أبو عبد الله
القرشي قال : سمعتُ
هند بنت أبي رافع بن عبيد الله بن رقيّة بنت عقبة بن نافع الفهري تقول :
« تُوفّيت زينب بنت علي عشيّة يوم الأحد
، لخمسة عشر يوماً مضت من رجب ، سنة ٦٢ من الهجرة ، وشَهِدتُ جنازتها ، ودُفنت
بمخدعها بدار مسلمة المستجدّة بالحمراء القصوى
، حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري.
أقول : لقد قرأتَ أنّ العُبيدلي ذكر
هجرتها إلى مصر ، وأنّ مسلمة بن مُخلّد استقبَلَها ... إلى آخر كلامه.
وتَرى بعض المؤلّفين يُضعّف سفرها إلى
مصر ، ويستدلّ لكلامه « أنّ مسلمة بن مُخلّد كان من أصحاب معاوية ، ومن المنحرفين
عن الإمام علي أمير المؤمنين 7
فكيف يستقبل السيدة زينب ويُنزلها في داره »؟
ونحن نقول : إنّ هذا الكلام لا يُضعّف
القول الثالث ، لأنّ مجرّد إستقبال الوالي ـ وهو مُسلمة بن مُخلّد ـ لشخصيّة في
مستوى السيدة زينب الكبرى .. ليس بأمرٍ عجيب!
مع الإنتباه إلى أنّه : أولاً :
إنّ مسلمة كان والياً من قِبَل بني
أميّة ، وكان اللازم عليه أن يستقبل السيدة زينب 3
تنفيذاً منه للمخطّط الأموي الذي أمَرَ بإبعاد السيدة زينب من المدينة المنوّرة.
ولعلّ يزيد هو الذي أمر مسلمة باستقبال
السيدة زينب ، وإسكانها في قصره ، لكي تكون تحرّكاتها تحت مراقبته وإشرافه
المباشر.
يُضاف على هذا ، أنّنا نقول :
أما كان النعمان بن بشير والياً على
الكوفة من قِبَل معاوية ثمّ مِن قِبَل يزيد بن معاوية ، ومع كلّ ذلك فإنّنا نقرأ ـ
في التاريخ ـ أنّه لمّا أراد يزيد إرجاع عائلة الإمام الحسين 7 إلى المدينة أمَرَ النعمان بن بشير أن
يُهيّئ لهنّ وسائل السفر؟
وأن يُرافقهنّ من الشام إلى المدينة ،
مُراعياً الإحترام والتأدّب؟
فهل مِن المعقول أنّ النعمان بن بشير ـ
مع سوابقه ـ يُرافق
عائلة الإمام الحسين
من الشام إلى كربلاء ، ثمّ إلى المدينة المنوّرة مع مراعاة التأدّب والإحترام
اللائق بهن؟!
فإذا كان ذلك ممكناً ، فلا مانع من أن
يستقبل مسلمة بن مخلّد السيدة زينب 3
ويُنزلها في داره.
ثانياً : إنّ مسلمة كان يعلم تعاطف أهل
مصر مع أهل البيت النبوي ، وكان يسمع بإستعداد الناس رجالاً ونساءاً لاستقبال
السيدة زينب 3 ، فهو لا
يَتَمَكّن مِن أن لا يخرج لإستقبال هذه السيدة العظيمة ، التي يعلم مدى محبّة
وتعاطف المصريّين لوالدها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7.
وخاصّة وأنّه يسمع بخروج الجموع الغفيرة
من مختلف طبقات الشعب لإستقبالها .. إستقبالاً مقروناً بالبكاء والدموع وهياج
مشاعر الحزن لما جرى على آل الرسول الطاهرين في فاجعة كربلاء الدامية.
الفصل الواحد
والعشرون
بعض
ما قيل فيها من الشِعر
بعض ما قيل فيها من الشعر
هناك أسباب وعوامل متعدّدة كان لها
الدور الكبير في إثارة مشاعر وعواطف الشعراء ، وتَفَتُّح قرائحهم ، لكي ينظموا
القصائد الرائعة في مدح ورثاء السيدة زينب 3.
فمِن جملة تلك الأسباب :
١ ـ الشعور بالمسؤولية تجاه نصرة آل
الرسول الكريم.
٢ ـ إزدحام الفضائل ، وتجمّع موجبات
العظمة والجلالة في شخصيّة السيدة زينب الكبرى 3.
٣ ـ الشعور الإنساني بالإندفاع لنصرة
المظلوم.
إنّ هذه الأسباب ـ وغيرها ـ جعلت
الشعراء يحومون حول هذه الشخصية العظيمة ، لكي تجول أفكارهم على مسرح الخيال
والتصوّر ، تمهيداً للوصف ولصياغة المعاني في
قوالب الكلمات ،
وصَبغها بطابع الشعر والأدب.
إنّ العواصف والأعاصر العاتية التي عصفت
بحياة السيدة زينب 3
حفّزت في الشعراء شعور القيام بنصرة المظلوم ، ليقوموا بواجبهم الإنساني والإسلامي
تجاه ثاني أعظم سيدة من سيدات نساء التاريخ ، وليُلَبّوا نداء ضمائرهم في نصرة أخيها
سيد المظلومين الإمام الحسين 7.
إنّ هؤلاء الشعراء الشرفاء سجّلوا
أسماءهم في قائمة الذين نصروا أهل البيت النبوي ، ونالوا شرف خدمة آل الرسول
الطاهرين ، فمدحوا مَن مدحهم الله تعالى في قرآنه المجيد ، ورَثَوا مَن بكت عليه
الأرض والسماء ، والملائكة والأنبياء ، وحيتان البحار وطيور الفضاء!
وإليك بعض ما قيل من الشعر في السيدة
زينب الكبرى 3 :
قصيدة في ذكرى ميلاد السيدة زينب الكبرى
( سلام الله عليها ) للشاعر الأديب السيد محمد رضا القزويني
:
وُلدتِ كما يُشرقُ الكوكب
|
|
فأُمٌّ تُبـاهـي ويَزهـو أبُ
|
علـيٌ وفاطمـةٌ انجَبـاكِ
|
|
عَيناً من الخيـر لا يَنضبُ
|
وجاءا بكِ جَدّكِ المصطفى
|
|
ليختـار لاسمكِ ما يُعجِبُ
|
__________________
فقال : ولَستُ ـ كما تَعلَمـا
|
|
نِ ـ أسبـقُ ربّي بما يَنسِبُ
|
وهـذا أخي جبرئيـل أتـى
|
|
بـأمـرٍ مـن الله يُستَعـذبُ
|
يقـول إلهك ربّ الجـلال :
|
|
تـقبّلتهـا و اسمهـا زينـب
|
وكفّـلتهـا بأخيها الحسيـن
|
|
ويـومٍ يَعُـزّ بـه المَشـرَبُ
|
لِتَحمـلَ أعبـاءَه كالليـوث
|
|
فيَسـري بأطفاله المَـركَـبُ ءَ
|
أُسارى إلى الشام من كربلا
|
|
وسوطٌ على ظهرهم يلهَبُ
|
* * * *
أقائـدةَ الركـب يـا زينب
|
|
تَغَنّى بكِ الشـرق والمغربُ
|
خَطبـتِ فدوّى بسمع الزما
|
|
ن صوتٌ إلى الآن يُسترهَبُ
|
أخاف الطغاة على عرشهم
|
|
فظنّوا عليّـاً بـدا يخطـبُ
|
وأسقطتِ قبل فناه يزيد
|
|
وضـاق على رأيه المَذهبُ
|
ووَلّـت أميّـة مدحـورة
|
|
ومـا ظل ذكـر لهم طيّبُ
|
وأنـتِ التي كُنتِ مأسورةً
|
|
وما لكِ في الشام مَن يُنسَبُ
|
لكِ اليوم هذا الندى والجلا
|
|
ل مثالاً لأهل النُهى يُضرَبُ
|
وقبـرٌ يطـوف به اللائذو
|
|
نَ رَمـزاً و ما عنده يُطلَبُ
|
منـاراً يَشِـعُّ بأفق السماء
|
|
فيُعـلِنُهـا : هـذه زينـب
|
__________________
وللسيد محمد رضا القزويني قصيدة أخرى
يقول فيها :
تتـراءى لـه الأُسـارى فتَبـدو
|
|
زينـب أمسَكـت بطفـلٍ يتيـم
|
وهي تَرعى الرؤوس فوق رماحٍ
|
|
طابَ منها النجوى لأختٍ رَؤومِ
|
حَمَلَتهـا مـن كربلاء و قالت :
|
|
يـا سماء اهتدي بهذي النجـومِ
|
إنّـهـا مـن محمـدِ وعـلـيّ
|
|
قَدّمتهـا البتـول فـي تكـريـمِ
|
وسياطُ الأعداء لم تَمنَـعِ الأختَ
|
|
وداع الـحسيـن بيـنَ الجسـومِ
|
هُرعَـت و الخيـام مُشتعـلاتٌ
|
|
تتحَـرّى الأطفـال بين الرميـم
|
رَفَعـت رأسهـا إلـى الله تشكو
|
|
فأتـاها الجـواب عبـر النسيـم
|
جـدّكـم أسَّسَ القواعـد للبيـتِ
|
|
وإسمـاعيـل ذبـحُ الحُـلـومِ
|
__________________
وانتَهـت فيكم النبـوّة والبيتُ
|
|
ومـا في السِتـار والمعلومِ
|
ورأى الله في الحسينِ عظيماً
|
|
فـافتدى دينَه بذبـحٍ عظيمِ
|
وللشاعر الحسيني اللامع ، المرحوم الحاج
محمد علي آل كمّونة ( رضوان الله عليه )
قصيدة نَقتَطفُ منها الأبيات التالية :
لـم أنسَ زينبَ بعد الخِدر حاسرةً
|
|
تُبـدي النيـاحة ألحاناً فألحانـا
|
مَسجـورة القلـب إلا أنّ أعينَهـا
|
|
كالمُعصرات تصُبّ الدمع عقيانا
|
__________________
تـدعـو أبـاها أميـر المؤمنين ألا
|
|
يـا والدي حَكمَـت فينـا رَعايانا
|
وغـابَ عنّـا المُحامي والكفيلُ فمَن
|
|
يَحمي حِمانـا و مَن يُؤوي يَتامانا
|
إن عَسعَسَ الليل وارى بَـذلَ أوجُهنا
|
|
وإن تَنفّـس وجه الصبـح أبدانا
|
نـدعـوا فلا أحدٌ يَصبوا لِدَعوتِنا
|
|
وإن شكَونـا فلا يُصغى لِشَكوانا
|
قُـم يا عليّ فما هـذا القعود ومـا
|
|
عهدي تَغُضّ علـى الأقذاء أجفانا
|
عَجّـل لعلّك مِـن أسـرٍ أضَرّ بنـا
|
|
تَفُكّنـا أو تَوَلّـى دفـن قتـلانـا
|
وتَنثَني تـارةً تـدعـو عشيرتهـا
|
|
مِن شيبة الحمـد أشيـاخـاً وشُبّانا
|
__________________
قوموا غِضاباً مِن الأجداث وانتَدبوا
|
|
واستَنقِـذوا مِن يَد البَلوى
بٌقايانا
|
وله قصيدة أخرى يقول فيها :
ولَئن نسيتُ فلَسـتُ أنسى زينبـاً
|
|
ودوام مِحنتهـا وطـول عنـائهـا
|
حَمَلت مِن الأرزاء ما أ عيا الورى
|
|
حَمـلَ اليسير النَزر مِـن أعبائهـا
|
عن كَربها و بَلائها سَـل كربـلا
|
|
سَـل كربلا عـن كربها و بلائهـا
|
طَـوراً على القتلى تنوح وتـارةً
|
|
تحنـو محافظـة علـى أبـنائهـا
|
وتطوف حـول حمىً أباد حُماته
|
|
صَرفُ الرَدى وأبـاحَ هَتكَ نسائها
|
مَـن مُبلغٌ عنّـي سرايـا هاشـم
|
|
خَبَـراً يَـدُكّ الشمّ مـن بَطحائهـا
|
سُبيَت ، و أعظم ما شَجاني غَيرةً
|
|
ـ يا غيرة الإسلام ـ سَلبُ رِدائها
|
و وقوفهـا فـي مجلـسٍ جُلاسُه
|
|
أهوى بهـا الشيطـان في أهوائها
|
وله ( رضوان الله عليه ) شعرٌ آخَر
يُخاطب فيه الإمام الحسين 7
بقوله :
وأمسَيـتَ رَهنَ الحادثات و أصبَحت
|
|
نساؤك بعد الصَون بينَ الأجـانب
|
حَيـارى يُـردِّدنَ النُـواح
سَواغبـاً
|
|
عُطاشى فلهفي للعُطاشى النـوادب
|
ومِن بينها مأوى البَليّات رَبّة
الرزيّـ
|
|
ـات حَلفُ الحُـزن أمّ المصـائب
|
فَـريسـة أفـواه الحـوادث زينـبٌ
|
|
ومَنهـبُ أنيـاب الرَدى والمَخالبِ
|
تُنـادي وقـد حَـفّ العـدوّ برحلها
|
|
وتَهتـِف لكن لم تَجد مِن مُجاوبِ
|
فمَن مُبلغٌ عنّي الرسـول و حيـدراً
|
|
وفاطمة الزهراء بنـت الأطـائبِ
|
بأنـّا سُبينـا ، والحسيـنُ عمـادُنا
|
|
غدا موطئـاً للعـاديات الشَوازِب
|
__________________
ويُسرى بنـا نحو الشام فـلا سَقَت
|
|
معـاهد أرض الشام جونُ السحائب
|
ونُهدى إلى الطاغي يزيد نتيجة الـ
|
|
ـدَعـيّ ابـن سفيان لَئيم المَناسِب
|
ويَنكُتُ ظلماً بالقضيـب مَراشفـاً
|
|
تَرشّفهـا المختار بيـن المُصاحبٍ
|
وله قصيدة أخرى يَصفُ ـ فيها ـ مصيبة
الهجوم على مُخيّمات الامام الحسين 7
ومنها قوله :
حُمـاةٌ حَمَـوا خـِدراً أبى الله
هَتكهُ
|
|
فعَـظّمـه شـأنـاً وشَـرّفه قَـدرا
|
فأصبـح نَهبـاً للمغـاويـر بعدهم
|
|
ومنه بنات المصطفى أُبرزت حَسرى
|
يُقنّعها بالسوط « شمرٌ » فـإن شكَت
|
|
يؤنّبهـا « زَجـرٌ » ويوسِعُهـا زَجرا
|
نـوائـح إلا أنّـهـنّ ثـواكــلٌ
|
|
عـواطـش إلا أنّ أعينهـا عَبـرى
|
____________
يَصـون بيُمنـاها الحَيا ماء وَجهها
|
|
ويَستُرهـا إن أعوزَ السِتـر باليُسرى
|
وقُل لسـرايـا شيبة الحمد ما لكم
|
|
قعدتم وقـد سـاروا بِنسـوتكم أسرى
|
وأعظمُ ما يُشجـي الغَيور دخولها
|
|
إلـى مجلس مـا بارح اللهو والخَمرا
|
يُقـارعهـا فيـه يـزيـد مَسَبّـةً
|
|
ويَصـرفُ عنها وجهه مُعرِضاً كِبرا
|
ويَقـرَعُ ثَغـرَ السبـط شُلّت يمينه
|
|
فأعظـم به قَرعـاً وأعظِـم به ثَغراً
|
أينكُـتُ ثَغراً طَيّـبَ الدهـر
ذِكرَه
|
|
وما بـارَح التسبيـح والحمد والشُكرا
|
__________________
وللعالم الجليل الشيخ جعفر النقدي
قصيدة نختار منها هذه الأبيات
يا دهرُ كُفّ سِهام خطبك عن حشىً
|
|
لـم يَبـقَ فيهـا موضعٌ للأسهم
|
في كـلّ يـوم للنوائـب صـارمٌ
|
|
يَسطو على قلبي ويَقطر مِن دمي
|
وأبيتُ والأرزاء تَنهـشُ مُهجَتـي
|
|
نَهشاً يهونُ لديـه نَهـشٌ الأرقم
|
__________________
أوَ كـان ذَنبـي أنّنـي مُتمسـّكٌ
|
|
بالعـروة الوثقـى التي لم تُفصَمِ
|
آل النبي المصطفـى مَـن مَدحُهُم
|
|
وردي وفيهـم لا يـزالُ تـَرنّمي
|
وإلى العقيلة زينب الكبرى ابنة الـ
|
|
ـكرّار حيـدر بالـولايـة أنتَمي
|
هي رَبّة القَدر الرفيـع رَبيبـة الـ
|
|
ـخِدر المنيع وعِصمةُ المستَعصِم
|
مَن فـي أبيهـا الله شَـرّفَ بيتـَه
|
|
وبجَدّها شَرَفُ الحطـيمِ وزَمـزَمِ
|
مَن بيتُ نشأتها بـه نـشأ الهـدى
|
|
وبـه الهـدايـة للصـراط الأقوم
|
ضُربَت مَضاربُ عِزّها فوق السُها
|
|
وسَمَت فضائلهـا سُمـوّ المـرزمِ
|
فَضلٌ كشمس الأفق ضاء فلو يشأ
|
|
أعـداؤها كتمـانَـه لـم يُكـتَـمِ
|
كانت مَهابتُـها مَهـابة جـدّهـا
|
|
خيرِ البـريّة والرسـول الأعـظم
|
__________________
كانـت بلاغتُها بلاغة حيدر الـ
|
|
ـكـرّار إن تَخطب وإن تتكلّمِ
|
قد شابَهَت خيـر النسـاء بهَديها
|
|
ووقارها وتُقىً وحُسـنِ تـكرّمِ
|
ومُقيمةَ الأسحار فـي مِحـرابها
|
|
تَدعو وفي الليل البَهيم المُظلـم
|
شَهِدِت لها سُوَر الكتـاب بأنّهـا
|
|
مِن خير أنصار الكتاب المُحكمِ
|
زَهِدَت بدُنياها وطيـب نَعيمهـا
|
|
طلَباً لمرضات الكريـم المُنعـم
|
وتَجرّعت رَنقَ الحيـاة وكابَدَت
|
|
مِن دَهرها عيشاً مريـرَ المطعمِ
|
فأثابهـا ربّ السمـاء كـرامةً
|
|
فيها سوى أمثالهـا لـم يُـكرمِ
|
فلَها ـ كما للشافعين ـ شفاعة
|
|
يوم الجزاء بها نجـاة المجـرم
|
بَلغت من المجد الموثّل موضعاً
|
|
ما كـان حتى للبتـولة مريـم
|
__________________
كـلا ولا لِلطُـهـر حـَوّا أو لآ
|
|
سيـةٍ وليس لأختِ موسى كلثَمِ
|
هذي النساء الفُضلَيات وفي العُلا
|
|
كـلٌ أقامـت فـي مقامٍ قَيّـمِ
|
فاقَـت بـه كـلّ النسـاء ، ورَبّها
|
|
في الخُلد أكرَمَهـا عظيم المَغنَمِ
|
لكنّ زينـب في عُـلاها قد سَمَت
|
|
شَـرَفاً تأخّـر عنـه كلّ مقدّمِ
|
في عِلمِهـا وجمـالهـا وكمـالها
|
|
والفضل والنَسَبِ الرفيع الأفخمِ
|
مَن أرضَعَتهـا فاطـمٌ دَرّ العـُلى
|
|
مِن ثديها فَعَنِ العلـى لم تُفطِمِ
|
عن أمّها أخـذت علوم المصطفى
|
|
وعلوم والدهـا الوصيّ الأكرم
|
حتى بهـا بلغـت مقامـاً فيه لَم
|
|
تَحتَـج لِتَعـليـمٍ ولا لمعـلّـمِ
|
شَهِـد الإمـام لها بـذاك وأنّهـا
|
|
بعد الإمام لهـا مقـام الأعلـم
|
ولهـا بيوم الغاضـريّـة موقفٌ
|
|
أنسى الزمان ثَبات كلّ غَشَمشَمِ
|
حَمَلَـت خطـوباً لو تَحَمّل بعضَها
|
|
لانهـارَ كـاهـل يذبلٍ ويَلَملَـمِ
|
ورأت مُصابـاً لـو يُلاقي شَجوَها
|
|
العَذبُ الفرات كسـاه طعم العَلقمِ
|
في الرُزء شاركـت الحسين وبعده
|
|
بَقِيـت تـُكافـح كلّ خطبٍ مؤلم
|
كانـت لنسوتـه الثـواكل سلـوةً
|
|
عُظمـى وللأيتـام أرفـَقَ قـَيّمِ
|
ومُصابها فـي الأسـر جَدّد كلّما
|
|
كانت تُقاسيـه بعـشـر محـرّمِ
|
ودخـول كـوفـانٍ أبـاد فؤادها
|
|
لكن دخول الشـام جـاء بأشـأمِ
|
لم أنسَ خُطبتهـا التـي قَلَمُ القَضا
|
|
في اللوح مثل بيانهـا لم يُـرقـمِ
|
نَزلت بها كالنار شـبّ ضـرامها
|
|
في السامعين ، من الفؤاد المُضرَمِ
|
جاءت بهـا عَلَويّـةً وقعـت على
|
|
قلب ابن ميسـونٍ كوقـعِ المِخذَم
|
أوداجه انتَفَخت بها فكأنّما
|
|
فيها السيوف أصبنّه في الغلصمِ
|
* * * *
أشقيقـة السبطيـن دونـك مدحةً
|
|
قِسّ الفَصاحة مِثلَهـا لم يَنـظمِ
|
تمتـاز بالحـق الصـريح لو أنّها
|
|
قيسَت بشعر البُحتـري ومسلـمِ
|
يَسلو المحبّ بها وتطعـن في حَشا
|
|
أعداء أهل البيـت طعـن اللهذم
|
بيَميـن إخلاصـي إليك رَفعتُهـا
|
|
أرجو خلاصي من عذاب جهنّمِ
|
وعليكِ صلـى الله ما رُفعـَت له
|
|
أيدي مُحِـلٍّ بالدعـاء ومحـرِمِ
|
__________________
رغم كثرة ما قيل من الشعر في مدح ورثاء
آل رسول الله الطاهرين .. فإنّ قصائد السيد حيدر الحلّي لا زالت متألّقة ومتفوّقة
في سماء الشعر والأدب ، فقوّة التعبير ، وجمال الوَصف ومميّزات أخرى تجعل الإنسان
حائراً أمام هذا المستوى الرفيع من الشعر ، والبيان الساحر ، والصياغة الرائعة
الفريدة!
ولا عَجَبَ من ذلك ، فقد كتبوا عن هذا
الشاعر العظيم أنّه ـ رغم مواهبه وثقته بنفسه وشعره ـ كان يُجري على بعض قصائده
لَمَسات فاحِصة ، يقوم خلالها بالتغيير والتعديل والتجميل ، ويَستمرّ على هذا
المنوال مدة سنة كاملة ، ولذلك جاء التعبير عن بعض قصائده بـ « الحَوليّات »!!
أمّا شعره عن السيدة زينب الكبرى :
فالجدير بالذكر أني قرأت ( ديوان السيد
حيدر الحلي ) ولم أجِد فيه التصريح باسم السيدة زينب 3
رغم أنّه يتحدّث عنها وعن مصائبها الأليمة في كثير من قصائده الحسينيّة الرائعة!
فكأنّ التَهيّب والحياء ورعاية الأدب في
السيد ، وجلالة
وعظمة مقام السيدة
زينب ، وَضَعت أمامه حدوداً آلى على نفسه أن لا يتخطّاها ، ومنها التصريح باسم
السيدة زينب عند ذكر مصائبها ، إذ من الصعب عليه ـ وهو الإبن البارّ لأهل البيت
الطاهرين الغيور عليهم ـ أن يُصرّح بتفاصيل المأساة ، فشخصيّة السيدة زينب عظيمة
فوق كلّ ما يتصوّر ، والمصائب التي انصَبّت عليها هي في شدّة الفظاعة ، فهو لا
يذكر اسمها بل يُشير ويُلمّح ، ويرى أنّ التلميح خيرٌ من التصريح ، « والكناية
أبلَغ مِن التصريح » ، ولعلّ الرعشة كانت تستولي على فكره وقريحته وقلمه ، فتمنعه
من التصريح ، وانهمار الدموع لم يكن يسمح له أن يُبصِر ما يكتُب! فاكتفى أن يحومَ
حول الحِمى والحدود فقط.
ففي إحدى قصائده الخالدة يقول :
خُذي يا قلـوب الطالبيّين قُرحَةً
|
|
تزول الليالي وهي دامية القِرفِ
|
فإنّ التي لم تبرح الخِدر أُبرزَت
|
|
عَشِيّةَ لا كهفٌ فتأوي إلى كَهفِ
|
__________________
لقد رَفعَـت عنهـا يد القوم سَجفها
|
|
وكان صفيـح الهنـد حاشيـ السَجف
|
وقد كان من فـرط الخفارة صوتها
|
|
يُغَضُّ فغُضّ اليوم مِـن شـدّة
الضَعفِ
|
وهاتفةٍ نـاحت علـى فقـد إلفِهـا
|
|
كمـا هتفـت بالـدَوح فاقـِدةُ الإلـف
|
لقد فَزِعت من هجمـة القوم وُلَّهـاً
|
|
إلى ابن أبيها وهو فوق الثـرى مُغفـي
|
فنـادت عليه حيـن ألفَتـه عـارياً على
|
|
جسمه تسفي صبـا الريح ما تَسفي
|
حَملتُ الرزايا ـ قبل يومك ـ كلّها
|
|
فما أنقَضَت ظهـري ولا أوهَنـَت كَتفي
|
__________________
ويقول ( رحمة الله تعالى عليه ) ـ في
قصيدة أخرى ، يَصِفُ فيها ساعة الهجوم على مُخيّمات الامام الحسين 7 بَعدَ مقتل الإمام ـ :
وحائرات أطـارَ القـوم أعينَهـا
|
|
رُعباً غداة عليهـا خِدرَها هجموا
|
كانت بحيثُ عليهـا قومُها ضربت
|
|
سُرادقاً أرضـه مِن عِزّهم
|
يكاد من هيبـةٍ أن لا يطـوف به
|
|
حَرَمُ حتـى الملائك لـولا أنّهم
|
فغودِرَت بين أيـدي القوم حاسرةً
|
|
خَدَمُ تُسبى وليس ترى مَن فيه
تَعتَصِمُ
|
نَعـم لَـوَت جيـدها بالعَتبِ هاتفةً
|
|
بقومهـا وحشاهـا مِلـؤُهُ ضَرَمُ
|
عَجّت بهم مُذ على أبرادِها اختَلَفت
|
|
أيدي العَـدوّ ، ولكن مَن لها بِهِمُ
|
__________________
وله قصيدة أخرى يقوله فيها :
وأمضُّ ما جرعت من الغصص التي
|
|
قدحت بجانحة الهدى ايراءها
|
هتك الطغاة على بنات محمدٍ
|
|
حُجب النبوة خِدرها وخباءها
|
فتنازعت احشاءها حرق الجوى
|
|
وتجاذبت أيدي العدوِّ رِداءَها
|
عجباً لحلم الله ، وهي بعينه
|
|
برزت تطيل عويلها وبكاءها
|
إنّ الإنسان المُنصِف إذا وقف موقف
الحياد ، ونظر نظرة فاحصة إلى ملف رجالات الشيعة ، وتتبع أحوالهم في أي مجالٍ من
مجالات العلوم والفنون ، يجد أمامه الكفاءات العظيمة ، والقابليات الفريدة الّتي
تناطح السحاب علواً وسمواً ، في كلّ مجالٍ من المجالات ، وفي مختلف العلوم
والفنون.
أجل ..
إنّ الكفاءات عند المسلمين الشيعة كثيرة
جداً وجداً وجداً ، ولكن ينقصها شيئان:
١ ـ التشجيع الكافي من القيادات الشيعية
العُليا!!
٢ ـ الحريّات الكافية والمناخ المناسب ،
الذي يُساعد على نموّ الطاقات ، وبروز المواهب ، وظهور القابليات ، وتبلور
العبقريات.
بعد هذا التمهيد .. أقول :
لا نجدُ في تاريخ العرب والإسلام شاعراً
نظم ملحمة شعرية والتزم فيها بقافية واحدة ، وكان طويل النفس إلى أقصى حد .. سوى
العلامة الأديب الشيخ عبد المنعم الفرطوسي ( رحمة الله تعالى عليه ) فإنّ ملحمته
الشعرية ـ رغم بساطتها وسلاسة التعبير فيها ـ فريدة .. ولا مثيل لها في التأريخ ،
حيث إنّ أبياتها تُناهزُ الخمسين
ألف بيتاً !!
وقد اخترنا من ملحمته الفريدة بعض
الأبيات حول سيدتنا زينب الكبرى ( سلام الله عليها ) :
هي أزكى صديقةٍ قد تربّت
|
|
بين حجر الصديقة الزهراء
|
وتغذت من فيض علم علي
|
|
وعلوم النبيّ خير غذاء
|
وارتوت بالمعين نهلاً وعلاً
|
|
من علوم السبطين خير ارتواء
|
وتبنت نهج البلاغة نهجاً
|
|
وهو فيض من سيد البلغاء
|
وهي كانت تُفضي بعهد عليّ
|
|
بعلوم الأحكام بين النساء
|
ورآها الوصي تروي ظماءً
|
|
من علوم القرآن خير رواء
|
قال : هذي الحروف رمز خفيّ
|
|
لمصاب الحسين في كربلاء
|
وبعهد السجاد للناس تفتي
|
|
بدلاً عنه وهو رهن البلاء
|
وعليّ السجاد أثنى عليها
|
|
وعليّ من أفضل الأمناء
|
كان يروي ( الثبت ابن عباس ) عنها
|
|
وهو حَبرٌ من أفضل العلماء
|
حيث كانت في الفقه مرجع صدقٍ
|
|
لرواة الحديث والفقهاء
|
* * * *
هي قُدسٌ به العفاف تزكّى
|
|
وهي أزكى قدساً من العذراء
|
هي قلبُ الحسين صبراً وبأساً
|
|
عند دَفع الخطوب والأرزاء
|
وهي أختُ الحسين عيناً وقلباً
|
|
ويداً في تحمل الأعباء
|
شاركته بنهضة الحقّ بِدءاً
|
|
وختاماً وفي عظيم البلاء
|
وجهاد الحسين اصبح حيّاً
|
|
بجهاد الحوراء للأعداء
|
وعظيم الإيمان منها تجلّى
|
|
حين قالت والسبطُ رَهنَ العراء :
|
ربّ هذا قرباننا لك يهدى
|
|
فتقبل منا عظيم الفداء
|
وعباداتُها وناهيك فيها
|
|
وهي أسمى عبادة ودعاء
|
حين تأتي بوردها من جلوسٍ
|
|
وهي نضوٌ من شدة الإعياء
|
__________________
وللشاعر البارع العلامة الجليل السيّد
رضا الموسوي الهِندي هذه القصيدة
الشَهيرة :
إنْ كانَ عندكَ عبرة تجريها
|
|
فانزل بأرض الطفّ كي نسقيها
|
فعسى نبُلّ بها مضاجع صفوةٍ
|
|
ما بلّت الأكباد من جاريها
|
ولقد مررت على منازل عصمةٍ
|
|
ثِقلُ النوة كان ألقي فيها
|
فبكيت حتى خِلتُها سستجيبُني
|
|
ببُكائها حزناً على أهليها
|
وذكرتُ إذ وقفت عقيلة حيدرٍ
|
|
مذهولة تصغي لصوت أخيها
|
بأبي التي وَرِثَتْ مصائب أمّها
|
|
فغدت تقابلها بصبر أبيها
|
لم تله عن جمع العيال وحفظهم
|
|
بفراق إخوتها وفقد بنيها
|
_________________
لم أنسَ إذ هتكوا حِماها فانثَنَتْ
|
|
تَشكو لَواعجها إلى حاميها
|
تدعو فتحترق القلوب كأنَّها
|
|
يرمي حشاها جمره من فيها
|
هذي نساؤك مَن يكونُ إذا سَرَتْ
|
|
في الأسر سائقها ومن حاديها
|
أيسوقها « زجر » بضرب متونها
|
|
و« الشمر » يحدوها بسبّ أبيها
|
عجباً لها بالأمس أنتَ تصونُها
|
|
واليومَ آلُ أميةٍ تُبديها
|
وسَروا برأسِِك في القَنا وقلوبها
|
|
تسمو إليه ، ووجدها يضنيها
|
إن أخّروه شجاه رويةُ حالها
|
|
أو قدموه فحاله يشجيها
|
__________________
وللسيّد رضا الموسوي الهندي قصيدة رائعة
أخرى ، في رثاء الإمام الحسين 7
، وفيها يصف حال السيدة زينب حينما حضرت عند جسد أخيها العزيز ، وإليك هذه الأبيات
المختارة :
حرّ قلبي لزينب إذ رأته
|
|
ترب الجسم مثخناً بالجراح
|
أخرس الخطب نطقها فدعته
|
|
بدموع بما تُجن فصاح
|
يا منار الضلال والليل داجٍ
|
|
وظلال الرميض واليوم ضاحي
|
كنتَ لي ـ يومَ كُنت ـ كهفاً منيعاً
|
|
سجسج الظل خافق الأرواحِ
|
__________________
أترى القوم إذ عليك مررنا
|
|
منعونا من البكا والنياح
|
إن يكن هيناً عليك هواني
|
|
واعترابي مع العدى وانتزاحي
|
ومسيري أسيرة للأعادي
|
|
وركوبي على النياق الطلاح
|
فبرغمي أنّي أراك مقيماً
|
|
بين سُمر القنا وبيض الصفاح
|
لكَ جسم على الرمال ، ورأسٌ
|
|
رفعوه على رؤوس الرماح
|
__________________
وله قصيدة أخرى يقول فيها :
هذا ابن هندٍ ـ وهو شرّ أمية ـ
|
|
من آل أحمد يستذل رقابا
|
ويصون نسوته ويبدي زينباً
|
|
من خدرها وسكينة وربابا
|
لهفي عليها حين تاسرها العدى
|
|
ذُلّاً وتركبها النياق صعابا
|
وتبيح نهب رحالها وتنيبها
|
|
عنها رحال النيب والأقتابا
|
سلبت مقانعها وما أبقت لها
|
|
حاشا المهابة والجلال حجابا
|
وهناك قصيدة أخرى منسوبة إلى السيّد رضا
الموسوي ، قد عُثر على خمسة أبيات منها ، فأعجب بها الخطيب الجليل الشيخ محمد سعيد
المنصوري ، فانشَدَ أبياتاً شعرية على نفس الوزن والقافية وأضافها إليها ، وإليك
الأبيات الخمسة ثم الأبيات المضافة إليها :
« سلامٌ على الحوراء ما بقي الدهر
|
|
وما سطعت شمسٌ وما أشرق البدر
|
سلام على القلب الكبير وصبره
|
|
بيومٍ جرت حزناً له الأدمعُ الحُمرُ
|
__________________
جحافل جاءت كربلاء بأثرها
|
|
جحافل لا يقوى على عدها حصر
|
جرى ما جرى في كربلاء وعينها
|
|
ترى ما جرى ممّا يذوب له الصخر
|
لقد أبصرت جسم الحسين مبضّعاً
|
|
فجاءت بصبرٍ دون مفهومه الصبر »
|
رأته ونادت يابن أمي ووالدي
|
|
لك القتل مكتوبٌ ولي كتب الأسرُ
|
أخي إنّ في قلبي أسىً لا أطيقُه
|
|
وقد ضاق ذرعاً عن تحمله الصدر
|
أيدري حسامٌ حزّ نحرك حده
|
|
به حزّ من خير الورى المصطفى نحر
|
عليّ عزيزٌ أن أسير مع العدى
|
|
وتبقى بوادي الطفّ يصهرك الحرُّ
|
أخي إن سرى جسمي فقلبي بكربلا
|
|
مقيمٌ إلى أن ينتهي منّي العُمرُ
|
أخي كلُّ رُزءٍ غير رزئك هيّنٌ
|
|
وما بسواه اشتدّ واعصوصب الأمرُ
|
أ اُنعم في جسمٍ سليمٍ من الأذى
|
|
وجسمك منه تنهلُ البيض والسُمرُ
|
أخي بعدك الأيّامُ عادت ليالياً
|
|
عليّ فلا صبح هناك ولا عصر
|
لقد حاربت عيني الرقاد فلم تنم
|
|
ولي يا أخي إن لم تنم عيني العذر
|
أخي أنت تدري ما لأختك راحةٌ
|
|
وذلك من يومٍ به راعها الشمر
|
فلا سلوةٌ تُرجى لها بعد ما جرى
|
|
وحتّى الزلال العذب في فمها مُرُّ
|
ايمنعك القوم الفرات وورده
|
|
وذاك إلى الزهراء من ربّها مَهْرُ
|
أخي أنت عن جدّي وأمّي وعن أبي
|
|
وعن حسنٍ لي سلوةٌ وبك اليسر
|
متى شاهدت عيناي وجهك شاهدت
|
|
وجوههم الغراء وانكشف الضر
|
ومذ غبت عنّي غاب عني جميعهم
|
|
ففقدك كسر ليس يرجى له جبر
|
__________________
وللشاعر الأديب ، الموالي المخلص الحاج
هاشم الكعبي قصيدة غراء
تعتبر من أقوى وأشهر ما قيل من الشعر في رثاء سيّد شباب أهل الجنة الإمام الحسين 7 وهي تتجاوز ١٣٦ بيتاً ، وفيها يصف حال
حفيدات الرسالة وبنات الإمامة بعد مقتل سيّد الشهداء ، وخاصّة سيّدتنا الحوراء
العقيلة زينب الكبري 3
فيقول :
وثواكلٌ في النوح تسعد مثلها
|
|
أرأيتَ ذا ثكلٍ يكونُ سعيدا
|
حنت فلم تر مثلهن نوائحاً
|
|
إذ ليس مثلُ فقيدهن فقيدا
|
عبراتها تحيي الثرى لو لَم تكن
|
|
زفراتها تدع الرياض همودا
|
_________________
وغدت اسيرة خدرها أبنة فاطمٍ
|
|
لم تلق غير أسيرها المصفودا
|
تدعو بلهفة ثاكلٍ لعب الأسى
|
|
بفؤاده حتّى انطوى مفؤدا
|
تخفي الشجا جلداً فإن غلب الأسى
|
|
ضعفت فأبدت شجوها المكمودا
|
نادت فقطّعت القلوب بصوتها
|
|
لكنّما انتظم البيان فريدا
|
إنسان عيني يا حسين أخي يا
|
|
أملي وعقد جماني المنضودا
|
ما لي دعوت فلا تجيب ولم تكن
|
|
عودتني من قبل ذاك صدودا
|
ألمحنةٍ شغلتك عنّي أم قلىً
|
|
حاشاك إنّك ما برحت ودودا
|
__________________
وللعالم الجليل الأديب النبيل الشيخ علي
بن الحسين الحلّي الشفهيني قصيدة رائعة
نختار منها هذه الأبيات :
وعليك خزيٌ يا أميةُ دائماً
|
|
يبقى ، كما في النار دامَ بقاكِ
|
هلا صفحتِ عن الحسين ورهطه
|
|
صفح الوصيّ أبيه عن آباك
|
وعففت يوم الطفّ عفة جدّه الـ
|
|
ـمبعوث يوم الفتح عن طلقاكِ
|
أفهل يدٌ سَلَبت إماءك مثلما
|
|
سَلَبَتْ كريماتِ الحسين يداكِ
|
أم هل برزن بفتح مكة حُسّراً
|
|
ـ كنسائه يوم الطفوف ـ نساك
|
__________________
بئسَ الجزاء لأحمدٍ في آله
|
|
وبنيه يوم الطفّ كان جزاكِ
|
لهفي لآلك يا رسول الله في
|
|
أيدي الطغاة نوائحاً وبواكي
|
ما بين نادبةٍ وبين مروعةٍ
|
|
في أسرِ كلِّ معاندٍ أفّاكِ
|
تالله لا أنساكِ زينب ، والعدى
|
|
قسراً تجاذب عنك فضل رداكِ
|
لم أنس ـ لا والله ـ وجهك إذ هوت
|
|
بالردن ساترةً له يمناك
|
حتّى إذا همُّوا بسلبك صحت باسـ
|
|
ـم أبيك ، واستصرخت ثم أخاكِ
|
تستصرخيه أسىً وعزّ عليه أن
|
|
تستصرخيه ولا يجيب نداك
|
__________________
وللسيّد محمّد بن السيّد مال الله
القَطيفي قصيدة غرّاء ، جاءَ فيها :
قتل الحسين فيما سما ابكي دماً
|
|
حزناً عليه ويا جبالُ تصدعي
|
منعوه شرب الماء ، لا شربوا غداً
|
|
من كفّ والده البطين الأنزع
|
ولزينب ندب لفقد شقيقها
|
|
تدعوه يابن الزاكيات الرُكّعِ
|
اليوم أصبغُ في عزاك ملابسي
|
|
سوداً وأسكُبُ هاطلات الأدمع
|
اليوم شبُّوا نارهم في منزلي
|
|
وتناهبوا ما فيه حتّى برقعي
|
اليوم ساقوني بظلم يا أخي
|
|
والضرب ألَّمَني وأطفالي معي
|
__________________
لا راحِمٌ أشكو إليه مصيبتي
|
|
لم ألف إلا ظالماً لم يخشع
|
حال الردى بيني وبينك يا أخي
|
|
لو كنت في الأحياء هالَك موضعي
|
أنعم جواباً يا حسين أما ترى
|
|
شِمرَ الخنا بالسوط ألَّمَ أضلعي
|
فأجابها من فوق شاهقة القنا
|
|
قضي القضاء بما جرى فاسترجعي
|
وتكفلي حال اليتامى وانظري
|
|
ما كنتُ أصنعُ في حماهم فاصنعي
|
__________________
وللشاعر الأديب الشيخ عبد الحسين بن
أحمد شكر ( رحمة الله عليه ) قصيدة يستنهض فيها
الإمام المهدي المنتظر ( عجّل الله تعالى فرجه الشريف ) ويطلب منه أن يعجّل
بالظهور ، لكي يطلب بثار جدّه الشهيد الإمام الحسين 7
، يقول فيها :
أتنسى ـ وهل يُنسى ـ وقوف نسائكم
|
|
لدى ابن زيادٍ إذ أماطَ حجابها
|
وعمتك الحوراء أنّى توجهت
|
|
رأتْ نائبات الدهر تقرع بابها
|
فما زينبٌ ذات الحجال ومجلساً
|
|
به أسمَعَ الطاغي عداها خطابها
|
لها الله من مسلوبةٍ ثوب عزّها
|
|
كستها سياط المارقين ثيابها
|
____________
تعاتب آساداً فنوا دون خدرها
|
|
تخوض المنايا لو يعون خطابها
|
بني هاشمٍ هتكن منكم حرائرٌ
|
|
حميتُم ، ببيض المرهفات قبابها
|
وله قصيدة اخرى يقول فيها :
وترى مخدرة البتولة زينباً
|
|
والخطبُ يصفق بالأكفّ جبينها
|
من حولها أيتام آل محمّدٍ
|
|
يتفيؤون شمالها ويمينها
|
لا تبزغي يا شمس من أفُقٍ حياً
|
|
من زينبٍ فلقد أطلت أنينها
|
ذوبي فانّك قد أذبت فؤاد من
|
|
كانت تظللها الأسود عرينها
|
وتقشعي يا سحب من خجلٍ ولا
|
|
تسقي الظماة مدى الزمان معينها
|
فبنات أحمدَ في الهجير صوادياً
|
|
أودى بها ظمأ يشيب جنينها
|
حرمٌ لهاشم ما هَتَفْنَ بهاشمٍ
|
|
إلا وسودت السياط متونها
|
__________________
وله قصيدة أخرى يقول فيها :
أيها الراكب المجد إذا ما
|
|
نفحتْ فيك للسُرى مرقال
|
عج على طيبةٍ ففيها قبورٌ
|
|
من شذاها طابت صبا وشمال
|
إنّ في طيّها أسوداً إليها
|
|
تنتمي البيضُ القنا والنبالُ
|
فإذا أستقبلتك تسأل عنّا
|
|
من لؤيٍ نساؤها والرجال
|
فاشرح الحال بالمقال وما ظنّـ
|
|
ـي يخفى على نزار الحال
|
نادِ ما بينهم بني الموت هبّوا
|
|
قد تناهبنكم حدادٌ صقالُ
|
تلك أشياخكم على الأرض صرعى
|
|
لم يبلّ الشفاه منها الزلالُ
|
__________________
غسلتها دماءها ، قلبتها
|
|
أرجُلُ الخيل كفنتها الرمال
|
ونساء عودتموها المقاصيـ
|
|
ـر ركبن النياق وهي هزالٌ
|
هذه زينبٌ ومن قبل كانت
|
|
بفنا دارها تحطُّ الرحال
|
والّتي لم تزل على بابها الشا
|
|
هق تلقي عصيها السؤال
|
أمْسَت اليوم واليتامى عليها
|
|
يا لقومي تصدق الأنذال
|
ولخطيب المنبر الحسيني العلامة المجاهد
المرحوم الشيخ هادي الخفاجي الكربلائي
قصيدة في رثاء الإمام الحسين 7
ومنها هذه الأبيات :
خرّ قطب الوغى على الترب ظامٍ
|
|
جسمه بالضبا جريحاً كليما
|
فبكته السما هناك نجيعاً
|
|
وبها مأتمُ العزاء أُقيما
|
__________________
وبنات الهدى برزن حيارى
|
|
تندب الندب والهمام الكريما
|
وأمام النساء حلف الرزايا
|
|
زينب من غدت تقاسي العظيما
|
تندب السبط والدموع هوامىٍ
|
|
ولظى الوجد في الفؤاد أقيما
|
حر قلبي لقلبها مذرأتها
|
|
وبنو الشرك منه حزوا الكريما
|
يا أخي من ترى يذود الأعادي
|
|
بعدكم من ترى يحامي اليتيما
|
وللشيخ هادي الخفاجي الكربلائي قصيدة أخرى
، نقتطف منها هذه الأبيات :
لو كان يبقى للمحب حبيبه
|
|
ما عاد حيراناً سليل محمّد
|
فقد الأحبة والحماة بكربلا
|
|
وبقي فريداً لا يرى من منجد
|
لم أنسه لمّا رأى أهل الوفا
|
|
صرعى على حر الثرى المتوقّد
|
قطع الرجا منهم وعاد مودّعاً
|
|
حرم المهيمن من عقائل أحمد
|
فبرزن من حرم الإله بندبها
|
|
ولهى بنعي موجعٍ وتوجّد
|
وعليه درن صوارخاً ونوادبا
|
|
ولنعيها قد ذاب صم الجلمد
|
واشدها حرقاً عقيلة أحمدٍ
|
|
تدعو أخاها السبط في قلبٍ صدي
|
من بعد فقدك يا حمانا ملجأ
|
|
للحائرات ولليتامى الفقد
|
من ذا ترى يحمي حماها إن غَدَت
|
|
من ضرب أعدها تدافع باليد
|
من بعدكم قد عيل صبري وانفنى
|
|
عمري لرزئكم وبان تجلّدي
|
أم كيف سلواني وخيل بني الشقا
|
|
تعلو صدوركم تروح وتغتدي
|
__________________
ولسماحة الخطيب البارع العلامة الشيخ
حسين الطرفي هذه القصيدة
المميزة بروح الولاء ونكهة الإخلاص وسلامة العقيدة :
بضعة البضعة البتولة فاطم
|
|
وكفى تلك نسبةً للمكارم
|
بك يعتز هاشم حين تعزين
|
|
إليه إن قيل يا بنة هاشم
|
يابنة المصطفى الذي اختاره الله
|
|
رسولاً وللنبيّين خاتم
|
وابنة المرتضى عليّ وأسمى
|
|
والدٍ لابنةٍ نمتها الأعاظم
|
ثمّ يا صنوة الإمامين طوبى
|
|
لك أُخت العبّاس بدر الهواشم
|
إئذني يا عقيلة الطالبيّين
|
|
لمستأذنٍ على الباب جاثم
|
يبتغي الإذن في اقتحام رحابٍ
|
|
من مزاياك واضحات المعالم
|
حرمٌ لا يحوم فيه سوى المأذون
|
|
منكم بأن يرى في المحارم
|
آيةُ الإذن عنده أن سيهدى
|
|
لصواب المقال فيك الناظم
|
ليقول الّذي له أنت ِأهلٌ
|
|
أسعفيه يسعد بك المتشائم
|
شفعي فيه حبه وولاه
|
|
ورجاه في أن يكون الخادم
|
* * * *
خصك الله باصطفائك ردءاً
|
|
لإمامٍ على الشريعة قائم
|
قد أقام السبط القوائم للدين
|
|
ليعلو وكنت إحدى القوائم
|
رامك السبط للبناء وللهدم
|
|
لك الله من مشيدٍ وهادم
|
شدت ما أسّس الحسين ، وهدت
|
|
بك مما شاد الطغاة دعائم
|
يا لذاك اللسان يفرغ عمّا
|
|
بين لحيي أبيك سيفاً صارم
|
مقولٌ طاح بالعتاة فأودى
|
|
بابن مرجانة الكفور الظالم
|
واغتدى في الشآم معول هدمٍ
|
|
فل فيه عرش البغيض الحاكم
|
وأحلت الغرور فيه انهزاماً
|
|
حين في داره أقمت المآتم
|
* * * *
لك قلبٌ ما ضاق وسعاً برزءٍ
|
|
لم تطق حمله قلوب العوالم
|
فبكاه من في السماء ومن في الـ
|
|
أرض حتّى لقد بكته البهائم
|
ولكم كنت إذ تعانين ضعفاً
|
|
من لغوبٍ تبدين أقوى العزائم
|
جدت بالجهد كلّما تستطيعيـ
|
|
ـن وبذل القوى لحفظ الفواطم
|
لك عينٌ ترعى اليتامى وتبكي
|
|
للأيامى وما اغتدت عين نائم
|
بين حرصٍ على العيال وجودٍ
|
|
بدموعٍ سخينةٍ وسواجم
|
ولقد أذهل العقول وقوفٌ
|
|
لك عند الحسين والفكر هائم
|
معك الحائرات قد حمن من حو
|
|
لك ذعراً كما تحوم الحمائم
|
ففزعتن للصريع على الرمضاء
|
|
يشكو الظما عن الماء صائم
|
وشهدت الذي جرى من عظيم الـ
|
|
ـخطب لم يجر مثله في العظائم
|
وتحملت ترك شلو حسينٍ
|
|
عارياً والمسير فوق السوائم
|
وتهيأت للتحمل فيما
|
|
سوف يأتي من البلاء القادم
|
ما نسيت الحسين للموت حتّى
|
|
متِّ والقلب فيه ما الله عالم
|
__________________
وللشاعر الأديب ، الخطيب البارع ،
المرحوم الشيخ محسن أبو الحَب
قصيدةٌ في رثاء سيّد الشهداء الإمام الحسين 7
نقتطف منها هذه الأبيات :
وأذكر ولست أراك تنسى زينباً
|
|
وعساك تذكر قلبها الحرّانا
|
أحسين! سلواني عليّ محرمٌ
|
|
أم بعد فقدك أعرف السلوانا
|
أخشى البعاد وأنت أقرب من أرى
|
|
حولي وأشكو الصدّ والهجرانا
|
هذا عليلك لا يطيق تحركاً
|
|
ممّا دهاه من الضنا ودهانا
|
وتهون رحلتنا عليك ورأسك الـ
|
|
سامي نراه على القنا ويرانا؟!
|
__________________
لي أخوة كانوا وكنت بقربهم
|
|
أحمي النزيل وأمنع الجيرانا
|
واليوم أسأل عنهم البيض التي
|
|
صارت نحورهم لها أجفانا
|
واليوم أسأل عنهم السمر الّتي
|
|
صارت رؤوسهم لها تيجانا
|
واليوم أسأل عنهم الخيل الّتي
|
|
صارت صدورهم لها ميدانا
|
ذهبوا كأن لم يخلقوا وكأنني
|
|
ما كنت آمنةٍ بهم أوطانا
|
أنا بنت من أنا أخت من أنا من أنا
|
|
لو أنصف الدهر الّذي عادانا
|
ولسماحة الخطيب الأديب الشيخ محمّد باقر
الإيرواني القصيدة التالية :
يا زائراً قبر القيلة فق وقل :
|
|
منّي السلام على عقيلةِ هاشمِ
|
هذا ضريحك في دمشق الشام قد
|
|
عَكَفَت عليه قلوبُ أهلِ العالم
|
هذا هو الحق الذي يعلو ، ولا
|
|
يُعلى عليه ، برغم كلّ مخاصم
|
سَل عن « يزيدَ » وأين أصبح قبره
|
|
وعليه هل من نائحٍ أو لاطم؟؟
|
أخزاهُ سلطانُ الهوى وأذلَّه
|
|
ومشى عليه الدهر مشية راغم
|
أين الطغاة الظالمون وحكمهم؟
|
|
لم يذكروا إلا بلعنٍ دائم
|
أين الجناة الحاقدون ليعلموا
|
|
هُدمت معالمهم بمعول هادم
|
__________________
ومصيرهم أمسى مصيراً أسوداً
|
|
بئس المصير إلى العقاب الصارم
|
يا ويحهم خانوا النبيّ وآله
|
|
كم من جناياتٍ لهم وجرائمِ
|
عمدو لهدم الدين بغضاً منهم
|
|
للمصطفى ولحيدر ولفاطم
|
كم من دمٍ سفكوا وكم من حرمةٍ
|
|
هتكوا كذي حنقً ونقمة ناقم
|
وبناتُ وحي الله تسبى بينهم
|
|
من ظالمٍ تهدى لألعن ظالم
|
والهفتاه لزينبٍ مسبيةً
|
|
بين العدى تبكي بدمعٍ ساجم
|
وترى اليتامى والمتون تسودت
|
|
بسياطهم ألماً ولا من راحم
|
فإذا بكت ضربت ، وتُشتَمُ إن شكت
|
|
من ضاربٍ تشكو الهوان وشاتم
|
وللخطيب الجليل الشاعر النبيل الشيخ محمّد سعيد المنصوري هذه
الأبيات الشعريّة ، وقد نظمها بمناسبة وفاة السيّدة زينب الكبرى 3 :
اليوم يومٌ حزنه لا يذهب
|
|
ماتت به أمُّ المصائب « زينبُ »
|
ماتت ونار الوجد بين ضلوعها
|
|
ممّا جرى في الغاضريّة تلهب
|
قد واصلت أيّامها بأنينها
|
|
وحنينها ، ودموعها لا تنصب
|
ما انفكّ رزءُ الطفّ يأكل قلبها
|
|
ذاك الصبور لدى الخطوب ، الطيّب
|
__________________
قلب تحمل من صروف زمانه
|
|
ما منه يذبل خيفةً يتهيب
|
محناً ثقالاً قد تحمّل قلبها
|
|
من حادثاتٍ أمرها مستصعب
|
رأت الأحبة والحسين بجنبهم
|
|
ثاوٍ وكلٌّ بالدماء مخضب
|
فوق الصعيد جسومهم وعلى القنا
|
|
رأت الرؤوس ، وخصمها يتقلّب
|
فرحاً بقتل ابن النبي وذلكم
|
|
من كل ما لاقته « زينبُ » أصعب
|
ومشت وسائق ظعنها شمر الخنا
|
|
فإذا بكت وجداً تسب وتضرب
|
فقضت زمان الأسر من بلدٍ إلى
|
|
أخرى تؤنّب في الخصوم وتخطب
|
قد أوضحت بخطابها عمّا خفى
|
|
للناس من فضلٍ لها فتعجبوا
|
لِم لا تكون أميرةً بخطابها
|
|
وأمير كلّ المؤمنين لها أب
|
بقيت ببحر الحزن تسبح والأسى
|
|
بعد الحسين وللمنيّة تطلب
|
حتّى انتهت منها الحياة وقلبها
|
|
سفرٌ كبيرٌ بالشجون ومكتب
|
ماتت وما ماتت عقيلة هاشمٍ
|
|
فلها الوجود من المهيمن موهب
|
فهي الّتي إن غُيّبت في لحدِها
|
|
فلها مواقف شمسها لا تغرب
|
دَعها تُنعَّم في الجنان
|
|
يرتاح منها اليوم قلبٌ متعب
|
__________________
وللشاعر الأديب الحاج عبد المجيد
العسكري الكربلائي هذه الأبيات
الّتي تنبُع عن قلبه المُفعم بولاء أهل البيت :
:
لزينبٍ مرقدٌ يزهو لشيعتها
|
|
ونوره صاعدٌ للوح والقلم
|
يزورها من له علمٌ بشوكتها
|
|
إني لها ومواليها من الخدم
|
هي ابنةُ المرتضى والطهر فاطمةٍ
|
|
حقيدةٌ لنبيّ سيّد الأمم
|
في الشام بنت رسول الله حاويةٌ
|
|
أسمى سموًُ وعزّاً غير منعدم
|
__________________
إنّا نضحّي نفوساً والنفيس لها
|
|
وليس يدركنا شيءٌ من السام
|
هذي الولاية خص الله شيعتها
|
|
بها ، وليس لهم في الحبّ من ندم
|
إنّا نعادي معادي زينبٍ أبداً
|
|
وإنّه يستحقّ الدوس بالقدم
|
__________________
مِن مصادر هذا
الكتاب
١ ـ الإحتجاج ، للشيخ الطبرسي ، طبع
بيروت ـ لبنان ، عام ١٤٠٣ هـ ، منشورات مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات.
٢ ـ أخبار الزينبات ، للسيّد يحيى بن
الحسين العبيدلي ، طبع قم ـ إيران ، عام ١٤٠١ هـ ، منشورات مكتبة السيّد النجفي
المرعشي.
٣ ـ أدب الطف ، للسيّد جواد شبّر ، طبع
بيروت ـ لبنان ، عام ١٤٠٩ هـ ، منشورات دار المرتضى.
٤ ـ الإرشاد ، للشيخ محمّد بن النعمان
المفيد ، طبع إيران ـ قم ، منشورات مكتبة بصيرتي.
٥ ـ أسرار الشهادات ، للفاضل الدربندي ،
طبع البحرين ، سنة ١٤١٥ هـ ، منشورات شركة المصطفى للخدمات الثقافيّة.
٦ ـ الإيقاد ، للسيّد محمّد علي الشاه
عبد العظيمي ، طبع قم ـ إيران ، عام ١٤١١ هـ ، منشورات مكتبة الفيروزآبادي.
٧ ـ بحار الأنوار ، للشيخ المجلسي ، طبع
بيروت ـ لبنان ، عام ١٤٠٣ ، منشورات مؤسّسة الوفاء.
٨ ـ تذكرة الخواص ، لسبط ابن الجوزي ،
طبع طهران ـ إيران ، منشورات مكتبة نينوى الحديثة.
٩ ـ تظلم الزهراء ، للسيد رضي بن نبي
القزويني ، طبع بيروت ـ لبنان ، عام ١٤٢٠ هـ.
١٠ ـ الخصائص الزينبية ، للسيّد نور
الدين الجزائري ، طبع قم ـ إيران ، سنة ١٤١٨ هـ ، منشورات مكتبة الشريف الرضي.
١١ ـ الدرّ النظيم ، للشيخ جمال الدين
يوسف بن حاتم الشامي ، طبع قم ـ إيران ، عام ١٤٢٠ هـ ، منشورات مؤسّسة النشر
الإسلامي.
١٢ ـ ديوان إبن كمّونة ، الحاج محمّد
علي آل كمّونة الأسدي الحائري ، طبع قم ـ إيران ، عام ١٤١١ هـ ، منشورات مكتبة
الشريف الرضي.
١٣ ـ رياحين الشريعة ، للشيخ ذبيح الله
المحلاتي ، طبع طهران ـ إيران ، عام ١٣٧٠ هـ ، منشورات دار الكُتُب الإسلاميّة.
١٤ ـ زينب الكبرى ، للشيخ جعفر النقدي ،
طبع قم ـ ايران ، عام ١٤٢٠ هـ ، منشورات المكتبة الحيدريّة.
١٥ ـ الطرائف ، للسيّد ابن طاووس ، طبع
قم ـ ايران ، عام ١٤٠٠ هـ ، منشورات مطبعة الخيّام.
١٦ ـ عبرات المصطفين ، للشيخ محمّد باقر
المحمودي ، طبع قم ـ ايران ، عام ١٤١٧ هـ ، منشورات مجمع إحياء الثقافة
الإسلاميّة.
١٧ ـ عِلَل الشرائع ، للشيخ الصدوق ،
طبع بيروت ـ لبنان ، عام ١٤٠٨ هـ ، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
١٨ ـ الغيبة ، للشيخ الطوسي ، طبع قم ـ
ايران ، عام ١٤٠٨ هـ ، منشورات مكتبة بصيرتي.
١٩ ـ كامل الزيارات ، لجعفر بن محمّد بن
قولويه ، طبع النجف الأشرف ، عام ١٣٥٦ هـ ، منشورات المكتبة المرتضوية.
٢٠ ـ الملهوف على قتلى الطفوف ، للسيد
ابن طاووس ، طبع قم ـ ايران ، ١٤١٤ هـ ، منشورات دار الأُسوة للطباعة والنشر.
٢١ ـ مناقب آل أبي طالب ، لإبن شهر آشوب
، طبع قم ـ إيران ، عام ١٣٧٩ هـ ، منشورات مكتبة العلامة.
٢٢ ـ المنتخب للطريحي ، للشيخ فخر الدين
الطُريحي النجفي ، طبع قم ـ إيران ، عام ١٤١٣ هـ ، منشورات مكتبة الشريف الرضي.
٢٣ ـ معالي السبطين ،للشيخ محمد مهدي
المازندراني الحائري ، طبع قم ـ ايران ، عام ١٤١٩ هـ ، منشورات مكتبة الشريف
الرضي.
٢٤ ـ نفس المهموم ، للشيخ عباس القمي ،
طبع قم ـ ايران ، عام ١٤٠٥ هـ ، منشورات مكتبة بصيرتي.
٢٥ ـ وقائع الأيّام ، للشيخ المُلا علي
الخياباني ، طبع قم ـ إيرن ، عام ١٣٦٢ هـ ، منشورات مكتبة المصطفوي.
الفهرس
تقديم :حول الكتاب والمؤلف................................................... ٣
مؤلف
الكتاب................................................................ ١٢
الإهداء...................................................................... ٢١
المقدمة....................................................................... ٢٣
الفصل
الأول................................................................. ٢٩
تاريخ ميلاد السيدة
زينب.................................................... ٣١
ولادة السيدة زينب.......................................................... ٣٥
إسمها وكنيتها............................................................... ٣٧
الفصل
الثاني.................................................................. ٤١
السيدة زينب في عهد
جدّها الرسول........................................... ٤٣
السيدة زينب في عهد
أمها البتول.............................................. ٥١
السيدة زينب في عهد
والدها أمير المؤمنين...................................... ٥٣
السيدة زينب مع أخيها
الإمام الحسن المجتبى..................................... ٦٧
العلاقات الودّية بين
السيدة زينب وأخيها الإمام الحسين......................... ٦٩
الفصل
الثالث................................................................ ٧٣
زواج السيدة زينب 3.................................................... ٧٥
عبد الله بن جعفر............................................................ ٨٥
لماذا لم يخرج عبد
الله مع الإمام الحسين 7................................... ٩٥
الفصل
الرابع................................................................. ٩٩
أولاد السيدة زينب 3................................................... ١٠١
مروان يَخطب بنت
السيدة زينب 3 ليزيد بن معاوية....................... ١٠٣
الفصل
الخامس.............................................................. ١٢٥
إستعراض موجَز لحياة
السيدة زينب الكبرى.................................. ١٢٥
الفصل
السادس............................................................. ١٣١
السيدة زينب وفاجعة
كربلاء............................................... ١٣٣
مجيء ابن زياد الى
الكوفة................................................... ١٣٧
يوم التروية................................................................ ١٣٩
الإمام الحسين يَصطحب
العائلة.............................................. ١٥١
الإمام الحسين في طريق
الكوفة.............................................. ١٥٧
الفصل
السابع.............................................................. ١٥٩
وصول الإمام الحسين
إلى أرض كربلاء....................................... ١٦١
زحف الجيش الأموي نحو
خيام آل محمد :................................ ١٦٩
الفصل
الثامن............................................................... ١٧٣
ليلة عاشوراء.............................................................. ١٧٥
أزمة الماء.................................................................. ١٨٩
الفصل
التاسع............................................................... ١٩٣
يوم عاشوراء.............................................................. ١٩٥
مقتل سيدنا علي الأكبر.................................................... ١٩٧
مقتل أولاد السيدة
زينب................................................... ١٩٩
مقتل سيدنا أبي الفضل
العباس............................................... ٢٠٣
مقتل الطفل الرضيع........................................................ ٢٠٧
الفصل
العاشر............................................................... ٢١١
الإمام الحسين 7 يودع ولده المريض....................................... ٢١٣
الإمام الحسين يودّع
السيدة زينب........................................... ٢١٩
الإمام الحسين يخرج
إلى ساحة الجهاد........................................ ٢٢٣
عودة فرس الإمام
الحسين إلى المخيم.......................................... ٢٣١
ذهاب السيدة زينب إلى
المعركة............................................. ٢٣٣
الفصل
الحادي عشر......................................................... ٢٣٩
الهجوم على المخيمات
لسلب النساء......................................... ٢٤١
إحراق خيام الإمام
الحسين 7............................................. ٢٤٧
السيدة زينب تجمع
العيال والأطفال.......................................... ٢٥١
ليلة الوحشة............................................................... ٢٥٣
ترحيل العائلة من
كربلاء................................................... ٢٥٧
نياحة السيدة زينب على
سيد الشهداء....................................... ٢٦١
الفصل
الثاني عشر........................................................... ٢٦٧
مدينة الكوفة.............................................................. ٢٦٩
قافلة آل الرسول تصل
الكوفة............................................... ٢٧٣
الفصل
الثالث عشر......................................................... ٢٧٧
خطبة السيدة زينب في
الكوفة............................................... ٢٧٩
نص خطبة السيدة زينب
في الكوفة.......................................... ٢٨٣
شرح خطبة السيدة زينب في
الكوفة......................................... ٢٨٧
كيف ولماذا قطعوا على
السيدة زينب خطابها؟................................. ٣٣٥
نص خطبة السيدة زينب برواية
أخرى....................................... ٣٣٩
الفصل
الرابع عشر.......................................................... ٣٤٣
دار الإمارة................................................................ ٣٤٥
السيدة زينب في مجلس
ابن زياد............................................. ٣٤٧
ماذا جرى بعد ذلك؟...................................................... ٣٥٣
الفصل
الخامس عشر........................................................ ٣٥٩
ترحيل آل رسول الله
إلى الشام.............................................. ٣٦١
السيدة زينب الكبرى في
طريق الشام........................................ ٣٦٣
السيدة زينب الكبرى في
الشام.............................................. ٣٧١
الدخول في مجلس
الطاغية يزيد.............................................. ٣٧٩
ماذا حدث في مجلس يزيد؟.................................................. ٣٨١
رأس الإمام الحسين 7................................................... ٣٨٥
في مجلس الطاغية يزيد...................................................... ٣٨٥
الفصل
السادس عشر........................................................ ٣٨٩
لماذا خطبت السيدة
زينب في مجلس يزيد؟.................................... ٣٩١
خطبة السيدة زينب 3 في مجلس الطاغية يزيد.............................. ٣٩٥
شرح خطبة السيدة زينب في
مجلس يزيد..................................... ٤٠٧
نصّ خطبة السيدة زينب على
رواية أخرى................................... ٤٨٥
الفصل
السابع عشر......................................................... ٤٩١
آل رسول الله في
خَرِبة الشام................................................ ٤٩٣
حوارٌ بين منهال والإمام
زين العابدين 7................................... ٤٩٥
مجيء زوجة يزيد إلى
خَرِبة الشام............................................ ٤٩٧
آل رسول الله يقيمون
المآتم على الإمام الحسين 7 في الشام................... ٥٠٣
بين الإمام زين
العابدين 7 ويزيد بن معاوية................................ ٥٠٧
ترحيل عائلة آل الرسول
من دمشق إلى المدينة المنوّرة........................... ٥٠٩
الفصل
الثامن عشر.......................................................... ٥١٣
يوم الأربعين.............................................................. ٥١٥
الرجوع إلى مدينة
الرسول.................................................. ٥٢١
الفصل
التاسع عشر......................................................... ٥٢٧
بعضُ ما رُويَ عن
السيدة زينب............................................. ٥٢٩
١ ـ خطبة السيدة فاطمة
الزهراء........................................... ٥٣١
٢ ـ حديث أمّ أيمَن....................................................... ٥٦٣
٣ ـ متفرّقات............................................................ ٥٧٧
الفصل
العشرون............................................................ ٥٨٩
تاريخ وفاة السيدة
زينب 3.............................................. ٥٩١
مرقد السيدة زينب
الكبرى................................................. ٥٩٥
دراسة القول الأول........................................................ ٥٩٧
دراسة القول الثاني......................................................... ٦٠١
دراسة القول الثالث........................................................ ٦١٠
الفصل
الواحد والعشرون................................................... ٦١٩
بعض ما قيل فيها من الشعر.............................................. ٦٢١
مِن
مصادر الكتاب.......................................................... ٦٨٣
الفهرس.................................................................... ٦٨٧
|