بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله
على محمّد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين.
وبعد
:
فربما كان الخلاف العقائدي في فهم
الارتباط العضوي بين استمرار الحكم الالهي في الارض ـ بين الفرق الاسلامية
المختلفة ـ وعلله فيها ، هو المحور الاَساس الذي ابتنت عليه الاطروحات المختلفة في
كتابة وتدوين التأريخ الاسلامي ، ووضع لبناته الاُولى ، وبالتالي ما ترتّب عليها
من نتائج وحلقات تعرّضت جملة منها ـ إن لم يكن أكثرها ـ الى النقد والتجريح والرد ،
وبشكل حاد وقاطع.
فالاعتقاد المغلوط الذي وضع وأقام أول
أركانه أتباع السقيفة والبيت الاموي من خلال مصادرتهم للحكم الالهي ودفعه قسراً عن
أصحابه الشرعيين ، وبالتالي محاولتهم ـ وبترويج من بطانتهم والمقتاتين من فتات
موائدهم ـ تركيز مفهومهم المنحرف باقامة بنيان فاسد قبالة البنيان المقدَّس الذي
أقامه
رسول الله 9 بأمر من الله تعالى ، كلّ ذلك كان هو
المدخل الكبير الذي قامت عليه الاطروحة الهادفة إلى تجريد أهل البيت : من درهم الكبير ، وقطبيتهم المركوزة
بأمر السماء ، والذاهبة ـ أي تلك الاطروحة ـ ابتداءً الى القول بان استمرار هذا
الحكم الالهي في الاَرض مرتبط بوجود واستمرار الاُمّة فحسب ، متجاهلة عمداً
الدلائل المقطوع بها ، والقائلة بأنحياة الأُمة وديمومتها ، وبالتي استقامة
مناهجها وصواب مسيرتها ، مرتبط بشكل عضوي ومحسوم بالوجود المقدّس لاهل بيت النبوة : وقائم بقيامهم .
ومن ثم دأبَ أصحاب تلك النظرية وسعوا
سعيهم لتضييق هذا المفهوم وحصره في اُضيق حدوده المنظورة ليدور في فلك الحكّام
والملوك ، وبالتالي كلّ ما يرتبط بهم ، ويتصل بسياساتهم ، وكأنهم قد أمسوا المراكز
الاساسية التي تنطلق من خلالها حقائق الوجود ، ومناهجه الكبرى ، فأغرق كاتبو ذلك
التأريخ ما سطّروه من صفحات كتبهم التأريخية بتفاصيل ودقائق واسفافات سقيمة لحياة
هؤلاء الحكّام والسلاطين ، متجاوزين أوسع وأعظم الحلقات الكبرى التي تشكّل قطب
وجود الاُمم ، ومركز ديموتها ، بالدليلين العقلي والنقلي.
__________________
نعم ، فاذا أعتبرنا بان كتابه التأريخ
واحدة من أجلّ العلوم والمعارف الانسانية التي تعمل على مد الجسور والصلات الحياتية
ـ بمفرداتها المختلفة ـ والفكرية ، وربطها بالحاضر المعاش ، وحيث ينبغي ان تكون
صورة منعكسة صادقة عن واقع الاحداث الدائرة حول مراكزها الحقيقية ، وأقطابها
الحقيقية.
فان الدور الذي لعبته دوائر القرار
السياسي الحاكمة إبان ابتناء اللبنات الاولى لقيام هذا البنيان الكبير كان له
الاثر الكبير في ترسيخ جملة من المفاهيم والقواعد المغلوطة التي أمست ـ بترويج
وتكركيس واقرار تلك المراكز لها ، والفراغ الذي أوجدته سياسة اولئك الحكام
وأتباعهم ـ العيون الكبرى ، والنوافذ الواسعة المشرعة على الدهور السالفة ، والقرون
الماضية ، والتي لا يسع الباحث إلاّ الاغتراف من بحرها ، والمخر في عبابها ، واقتحام
لججها.
ولا غرو في ذلك ، فان من يستقرىء
السنوات التي عاصرتها بدايات قيام المناهج التقليدية لكتابة التأريخ ـ بشقيها
المتعلّقين بما يسمى بكتب المغازي من جانب ، والتاريخ العام من جانب آخر ـ يجدها قد ولدت بين احضان واحتواءات
السياسة الاموية أو العبّاسية ، وبالتالي اتسامها بالمحاذرة اليقظة المتوجّسة من
تجاوز الخطوط الحمراء التي كرّستها سياسة تلك الحكومتين ، وما يترتب على ذلك من
تأثر ـ موافقاً كان أو مغلوباً على
__________________
أمره ـ لا مناص من
الجزم به ، وقع به رواة وقنوات النقل بين حلقات الزمن الغابر من جهة ، وبين
الصفحات التي تسطّرها أيدي اولئك الكتّاب الخاضعين للموثّرين السابقين من جهة اخرى
، فكان ما نراه من مؤلّفات وأسفار عجزت من أن تكون صادقة النقل ، وأمينة السرد ، ودقيقة
الاستشراف.
نعم ، فان من يتأمّل في حقيقة مناهج
الرواد الاوائل ، والحقبة الزمنية التي عاصروها والمتمخّضة عن المتبنيات الفكرية
التي نادت بها السلطة الحاكمة ، والتي وافقت أو أقسرت اولئك الرواد على تتبع
خطواتها ، وتجنب حدودها ، كل ذلك يظهر بجلاء صواب وحقيقة ما ذهبنا اليه من تركيز
المنهج الخاطىء في صياغة الحلقات الاساسية التي ارتكز عليها البناء المعروف
للتأريخ الاسلامي بروافده المتكاثرة المتفرعة عنه.
فاذا عرفنا بان المدينة المنورة كانت هي
الموطن الاساس الذي اختص بالتأليف في المغازي قبل القرن الثاني للهجرة ، فان جيلاً
من المؤلّفين والمصنّفين المشخّصين قد تصدوا لوضع الحجر الاساس في كتابة التأريخ
الاسلامي بالكيفية التي أشرنا اليها ، منهم : عروة بن الزبير المتوفّى عام ٩٣ هـ .
__________________
وابان بن عثمان بن عفان المتوفى عام ١٠٥
هـ .
ومحمّد بن مسلم ، المعروف بابن شهاب
الزهري المتوفى عام ١٢٤ هـ
، والذي عُرف عنه اسلوب المقارنة بين الاحاديث المختلفة لغرض
__________________
ادماجها في حديث
واحد ، حيث فتح الباب على مصراعيه لتسرّب الاَخبار التي يدسّها غير الموثوق بهم من
المحدِّثين.
ومحمّد بن اسحقاق بن يسار المتوفى عام
١٥١ هـ
وغيرهم .
نعم ، ان هذه البدايات المبكرة في تركيز
مبدأ الاعراض عن الحقائق الثابتة والكبرى التي أوصى بها المشرّع المقدّس ، والتعامل
معه تعاملاً يتراوح بين الاِعراض تارة ، والتعامل المشوب بالحذر والتتوجّس من
الموقف السلطوي والعام المتأثر به تارة اُخرى
كوّنت بالتالي
__________________
مدخلاً كبيراً
للايذان بفتح الاَبواب مشرعة أمام قيام المدارس التي تنتهج المبدأ السائد والمعروف
في كتابة التأريخ بالشكل الذي جعله معرضاً للاَخذ والرد والنقاش ، ولم يوفّق
بالتالي في اداء المهمة المقدّسة المتعلّقة به ، والمناطة بكتّابه.
ولا مناص من القول بان هذا المنهج ـ
القائل بأنّ استمرار الحكم
__________________
الالهي في الاَرض
مرتبط بوجود الاُمة واستمرارها ـ قد تضيّق بشكل واضح ، وبدت ملامح ذلك التضييق
تظهر بشكل جلي بعد انقضاء الحقبة الاُولى التي أشرنا اليها ـ والتي جهدت في تجاوز
الكثير من الحقائق والاشارات المتعرّضة لايضاح مركزية وقطبية أهل البيت : في الوجود الفكري والعقائدي الانساني ـ
وحيث يرى الباحث والمستقرىء مناهجاً ، وان تفاوتت في بعض مفرداتها ، إلاّ انها
تتوافق اجمالاً على تجسيد هذا المنهج غير السليم في كتابة التأريخ ، ودراسة أبعاده
المختلفة.
ولا غرابة في ذلك ، إذ ان المؤرّخين
الذين مثّلوا الحقبة التالية أو اللاحقة في كتابة التأريخ قد اعتمدوا كثيراً في
نصوصهم المروية على ما وصلهم من كتب السير والمغازي التي أشرنا اليها آنفاً ، وأضافوا
اليها ما يتوافق والمنهج العام الذي أمسى راسخاً ومتحكّماً في البنيان التأريخي
الاسلامي ، لا سيما وان تلاحق الحكومات المعارضة لمنهج أهل البيت : هو الحاكم في غالب العصور التي شهدت
ظهور تلك الكتابات ونشأتها ، وذلك مما كرّس بشكل أكبر تواصل انحدار عجلات التأريخ
كثيراً نحو مواطن الخطأ ، ومناهله المضطربة ، فكان ما نراه من تهافت سقيم يدور في
حلقات هامشية تطنب في سرد حياة الملوك والسلاطين ، وليالي مجونهم وصخبهم ، وباعتماد
الخطوط العامّة التي سلف أن أقامت مرتكزاتها الاَساسية سياسة الامويين السيئة
الذكر ، والتي تحدّثنا عن بعض مفرداتها لاحقاً.
فاذا كان محمّد بن جرير الطبري المتوفى
عام ٣١٠ هـ هو صاحب الكتاب التأريخي الذي أمسى المرجع الشهير الذي استقت منه كتب
التأريخ اللاحقة موادها وتراجمها المتعددة المختلفة ، فانّا نراه كثيراً ما يعتمد
على
المصادر السالفة في
كتابته لتأريخه ، مع اعتماده على جملة مما نقله عن شيوخه ورواة أخباره ، ودون فحص
أو تمحيص في صحة الروايات وأسانيدها ، مع وقوعه الواضح تحت تأثير المنهج السالف
الذي أشرنا اليه ، حيث يبدو ذلك جليّاً وواضحاً من خلال استقراء بعض المواضيع الحسّاسة
والهامة في التأريخ الاسلامي ، والتي يمثّل بعضها الحجر الاَساس في الخلاف الواقع
بين أهل البيت :
من جانب ، ومخالفيهم ـ وعلى رأسهم الامويون ـ من جانب آخر ، كما في أحداث السقيفة ،
وما ترتّب عليها من أحداث ونتائج ، حيث نراه قد أعرض عن تقصّي جوانب الاَحداث ، مكتفياً
برواية سيف بن عميرة الذي اتفق أصحاب التراجم والسير على كذبه وتدليسه وفساده مع تجاوزه عن ذكر الكثير من مفاسد
الامويين ، وأفعالهم النكراء.
ولمّا تكاملت الصورة باعتبار ان هذا
التأريخ يمثل أوسع وأشمل التواريخ لما ذكر من انه قد استطاع ان يجمع بين دفتيه ما
وصل اليه من الاَخبار المتفرّقة المودعة في الكتب المختلفة ، حديثية كانت أم
تفسيرية ،
__________________
بالاضافة الى كتب
اللغة والاَدب والسير وغيرها ، ونسّق فيما بينها تنسيقاً لطيفاً ، وعرضها عرضاً
جميلاً ، وباسلوب المحدّثين كما هو مشهور عنه .
فانه أمسى المرجع الذي اعتمدت على
نقولاته وتراجمه معظم المراجع والكتب التي تلته ، كما فعل ابن الاثير ، وابن خلدون
، وابن مسكويه ، والمسعودي ، وغيرهم.
وهكذا نرى بوضوح جلي الامتداد المتصاعد
في تركيز القاعدة المفتعلة في بناء هيكلية كتابة التأريخ الاسلامي ، وضمن الاطر
التي أقامتها السياسات السالفة نئياً به عن موطنه الحقيقية ، ومصادره السليمة ، فبدا
ـ رغم سعته ـ قاصراً عن ترجمة الدور المناط به ، والمتوقع منه باعتماد
__________________
الوصايا المتكررة
للشارع المقدَّس ، وتأكيداته المتكررة ، والمُقرَّة عقلاً ومنطقاً.
ومن هنا فقد كان لابد من أن تُترجم هذه
الوصايا والتأكيدات بنتاجات تأريخية تقف ـ رغم شدة التيار المعاكس لها ـ كشواخص
حية وصادقة في رسم الصورة الحقيقية التي ينبغي ان يعتمدها المؤرخون في كتابتهم
لصفحات التأريخ ، وترجمتهم لوقائعه المختلفة.
ولعل من يستقرئ ـ اجمالاً ـ الاَزمنة
التي يفترض لهذه الكتابات أن تعاصرها فانه يجدها في موقف حساس وخطير لا تحسد عليه ،
طالما أن الخط العام الحاكم ـ سياسياً كان أم تقليداً فرضه حكم تقادم الاَيام
والسنين ـ كان يقف الى حد ما بشكل مغاير لتوجهات ومتبنيات هذا المنهج السليم والصادق
في كيفية دراسة التأريخ ، وطبيعة مرتكزاته الاَساسية ، وهذه كانت هي محنة مؤلّفات
الشيعة الامامية التأريخية ، ومعوقها الكبير ، وهو ما جعلها تبدو للناظر أول وهلة
محدودة النتاجات ، بسيطة الاستشراف والاحاطة بحلقات التأريخ المختلفة.
بيد ان اخضاع هذا التصور المتعجّل
للواقع المذكور من جانب ، ومن جانبٍ دراسة مجمل ما كتبه الشيعة الامامية في هذا
الميدان المقدّس والكبير ، وكيفية تعامل مؤلّفوها مع وقائع الاَحداث ، وترابطها
الموضوعي مع الشريعة الاسلامية المباركة ، كلّ ذلك يدفع الباحث قسراً للاقرار
بخلاف ما ذهب اليه ، والى اكبار واجلال تلك الجهود التي ترجمت ـ في رفد حركة
البناء التأريخي ـ نواياها الصادقة من خلال جملة من المؤلّفات التأريخية المختلفة ،
والتي يُعد الكتاب الماثل بين يدي القارىء الكريم نموذجاً واحداً منها ، وأثراً
مباركاً من آثارها وثمارها الطيّبة ، حيث أبدع يراع مؤلّفة أمين الاسلام أبي علي
الفضل بن الحسن الطبرسي ;
في
كتابته وجمعه
وتأليفه ، وستنعرض لايضاح ذلك لاحقاً في مطاوي الصفحات اللاحقة باذن الله تعالى.
مؤلّف الكتاب
أمين الاسلام أبو علي الفضل بن الحسن بن
الفضل الطبرسي .
يُعد بلا شك من أجلّة علماء الشيعة
ومؤلّفيهم ، وممّن لم يختلف مترجموه في الاقرار بفضله وجلالته ، وتبحّره في شتى
العلوم ، ووثاقته.
من أعلام القرن السادس الهجري ، ومن
كبار مؤلّيفه الذين طبق صيتهم الآفاق ، وخلّفوا الكثير من الآثار المباركة في شتى
المعارف والعلوم ، والتي أمست زاداً تقتات من عطائها الاَجيال المتلاحقة بثقة
واطمئنان ، بل ومراجعاً كبرى لا غنى للباحثين والدارسين عن ارتيادها والتزوّد من
معارفها.
قال عنه الشيخ منتجب الدين الرازي : ثقة
فاضل ، ديّن عين .
وقال عنه الشيخ عبّاس القمي في سفينة
البحار : العالم الجليل ،
__________________
والكامل النبيل ، فخر
العلماء الاَعلام ، أمين الملّة والاسلام .
وفي نقد الرجال قال عنه السيّد التفريشي
: فاضل ديّن عين ، من أجلاّء هذه الطائفة ، له تصانيف حسنة .
وأمّا الخونساري فقد ترجم له في روضاته
: الشيخ الشهيد السعيد ، الحبر الفقيه الفريد ، الفاضل العالم المفسّر ، المحدّث
الجليل ، الثقة الكامل ، النبيل الفاضل ، العالم المفسّر ، المحدّث الجليل ، الثقة
الكامل .
وفي المقابس قال عنه الشيخ أسد الله
الكاظمي : الشيخ الاَجل الاَوحد ، والاَكمل الاَسعد ، قدوة المفسّرين وعمدة
الفضلاء المتبحّرين ، أمين الدين ابي علي .
وترجم له الحر العاملي في أمل الآمل : الشيخ
الامام ، أمين الاسلام ، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، ثقة فاضل ، ديّن عين ، له
تصانيف. وذكر جملة من تصانيفه .
وقال عند السيّد الاَمين في أعيانه : وبالجملة
ففضل الرجل وجلالته وتبحّره في العلوم ووثاقته أمر غني عن البيان .
وأما الزركلي فقد ترجم له في أعلامه
بأنه : مفسّر محقّق لغوي ، من اجلاّء الامامية .
__________________
ووصفه كحالة في معجمه بأنه : مفسّر ، مشارك
في بعض العلوم. وذكر جمله من آثاره .
مشايخه
أخذ الشيخ الطبرسي ; وروى عن جملة من العلماء والفضلاء في
عصره ، حيث تجد أسماءهم متناثرة في بطون كتبه ومؤلفاته المختلفة ، ولقد تصدى
السيّد الامين ;
لاستقصاء جملة منهم ، وأورد ذلك في كتابه القيّم أعيان الشيعة ، حيث ذكر :
١ ـ الشيخ أبو علي ابن شيخ الطائفة
الطوسي.
٢ ـ الشيخ أبو الوفاء عبد الجبار بن علي
المقرىء الرازي عن الشيخ الطوسي.
٣ ـ الشيخ الاجل الحسن بن الحسين بن
الحسن بن بابويه القمّي الرازي ، جدّ منتجب الدين صاحب الفهرست.
٤ ـ الشيخ الامام موفق الدين ابن الفتح
الواعظ البكرآبادي عن أبي علي الطوسي.
٥ ـ السيّد ابو طالب محمّد بن الحسين
الحسيني القصبي الجرجاني.
٦ ـ الشيخ الامام السعيد الزاهد أبو
الفتح عبدالله بن عبد الكريم بن هوازن القشيري.
٧ ـ الشيخ أبو الحسن عبيدالله محمّد بن
الحسين البيهقي.
٨ ـ الشيخ جعفر الدوريستي.
__________________
تلامذته
والراوون عنه
روى عن الشيخ الطبرسي ; جملة من العلماء الاعلام ، والذين
يمكننا حصر بعضهم بما يلي :
١ ـ ولده الحسن صاحب كتاب المكارم.
٢ ـ الشيخ منتجب الدين.
٣ ـ الشيخ أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر
آشوب.
٤ ـ القطب الراوندي.
٥ ـ الشيخ عبدالله بن جعفر الدوريستي.
٦ ـ الشيخ شاذان بن جبرئيل القمي.
٧ ـ السيّد مهدي بن نزار القائيني.
وغيرهم ممن صرّحوا بكونهم من تلامذته أو
ممّن عدّوه من شيوخهم.
مصنّفاته
لقد خلّف الطبرسي ; الكثير من المصنّفات والمؤلّفات
القيّمة التي أشاد بقيمتها العلمية العلماء والمفكّرون ، وعدّوها من الآثار التي
ازدانت بها المكتبة الاسلامية الكبرى ، ومن الذخائر المهمة التي أمست ـ بجدارة ـ
مراجعاً هامة ينهل من عذب مائها الباحثون والدارسون ، ومن تلك الآثار :
١ ـ مجمع البيان في تفسير القرآن.
٢ ـ الوسيط في التفسير.
٣ ـ الآداب الدينية.
٤ ـ تاج المواليد.
٥ ـ الوافي في تفسير القرآن.
٦ ـ غنية العابد.
٧ ـ إعلام الورى بأعلام الهدى ، وهو
الكتاب الماثل بين يدي القارىء الكريم.
٨ ـ النور المبين.
٩ ـ العمدة فى اُصول الدين والفرائض
النوافل.
١٠ ـ شواهد التنزيل لقواعد التفضيل.
وغير ذلك من المصادر والمؤلّفات
المختلفة التي نسبه البعض اليه ، ككتاب عدة السفر وعمدة الحضر ، وكتاب كنوز النجاح
وغيرهما.
وفاته
ذهبت معظم المصادر الى ان وفاته ; كانت في مدينة سبزوار عام ٥٤٨ هـ ، وفي ليلة النحر من هذه السنة ، ثم نقل نعشه الى مدينة مشهد حيث دفن
في الموضع الذي يعرف بـ( قتلگاه)
، وقبره معروف يُزار بالقرب من المشهد المقدّس للامام علي بن موسى الرضا 7 في مدخل شارع يُعرف باسمه.
__________________
كتاب
إعلام الورى بأعلام الهدى
من الاسفار القيمة ، والكتب التأريخية
المهمة ، عرض فيه مؤلفه ـ بأبوابه وفصوله المتعددة ـ فضائل وحياة أهل بيت العصمة
والطهارة : وبشكل مرتّب
ومنسق تنسيقاً دقيقاً.
رتّب المؤلّف كتابه على أربعة أركان ، تتفرّع
عنها أبواب وفصول متعددة ، تناول فيها بالتفصيل من خلال استعراض حياة المعصوم 7 مجمل ما يختص بالتأريخ المتصل به ، والمعاصر
له.
خصص الركن الاول من كتابه لسيرة رسول
الله 9 والاحداث
الكبرى التي زاملت عصر الرسالة الاولى ، وبترتيب وتنسيق دقيقين ، تتبع منخلال ذلك
معظم الجوانب المتصلة بحياة الرسول الاكرم 9
والقضايا التي تربط ارتباطاً عضوياً بالعقيدة الاسلامية المباركة ، ومنها تأكيدات
رسول الله 9 وتوجيهاته
للاُمّة بوجوب التمسك بأهل بيته المعصومين :
باعتبارهم قرناء القرآن ، والامناء على الرسالة من بعده.
وأما الركن الثاني من الكتاب فقد خصصه
لوصي رسول الله 9
وخليفته من بعده الامام علي بن ابي طالب 7
مستعرضاً فيه مجمل جوانب حياته المباركة ، ودوره المتميز في حياة رسول الله 9 وبعده ، والمحن والفتن التي لازمته حتى
استشهاده.
وخصص المؤلف ; الركن الثالث من الكتاب لباقي الائمة
المعصومين : حتى الامام
الحسن العسكري 7
من خلال أبواب وفصول متعددة.
وكان نصيب الامام المهدي 7 الركن الرابع والاخير من الكتاب ،
حيث تناول معظم
الاخبار والروايات المتصلة به ، مستعرضاً من خلال ذلك الظروف والاحداث التي عاصرها
ابان حضوره الظاهري ، منتقلاً منها الى ما رافق غيبتيه الصغرى والكبرى ، وما يتصل
بهما ، والاحداث والوقائع التي ستصاحب ظهوره المنتظر باذن الله تعالى.
وقد حاول المؤلف في كتابه هذا عرض
الاخبار والاحداث بشكل مرتب ومنظم ، وبالصورة التي تساعد على رسم صورة واقعية
للزمن الذي عاصرته هذه الاحداث ، ووفق المقاييس المرتكزة على جوهر العقيدة
الاسلامية ، ومبانيها الواضحة والصحيحة ، وباعتماد جملة من المراجع والمصادر
المهمة والمعتبرة ، والتي يشكّل كتاب الارشاد للشيخ المفيد ; واحداً منها.
وعموماً فان هذا الكتاب يمثل خطوة رائدة
في عملية كتابة التأريخ بالشكل الذي يرتكز ارتكازاً واضحاً وبيناً على المنهج
المتفرع عن التوصيات المتكررة للمشرّع المقدس ، واعتماداً على خطوطه العامة التي تقدمت
منّا الاشارة اليها آنفاً.
بين
إعلام الورى وربيع الشيعة
من يتأمل في متني كتابنا هذا ـ إعلام
الورى ـ وربيع الشيعة المنسوب للسيد ابن طاووس ;
يجد توافقاً غريباً ، وتطابقاً عجيباً بين الاثنين ، سواء في ترتيب الاَركان
والاَبواب والفصول ، أو في المواضيع التي تناولتها هذه التقسيمات ، باستثناء بعض
الاختصارات المحدودة ، والاختلاف في خطبة الكتاب ، وهذا ممّا أثار استغراب قرّاء
الكتابين وتعجبهم ، ودفعهم للتفحُّص بدقة وعناية في علّة هذا التوافق ومصدره ، وهل
ان هذين الاسمين لكتابين
مختلفين ومؤلّفين
اثنين؟ أم هناك التباس دفع لهذه الشبهة وان العنوانين هما لكتاب واحد ، ولمؤلّف
واحد؟ أو لعل احدى هاتين التسميتين مضافة قهراً أو سهواً على هذا الكتاب ، وبالشكل
الذي قد يدفع البعض للاعتقاد باثنينيتهما؟
نعم ، ان هذا الامر وان شكّل في أول
وهلة حيرة عند الفضلاء والعلماء ، إلاّ أنّ البعض منهم لم يلبث أن قطع بعد الفحص
والتأمُّل بان هذين الاَصلين يعودان ـ بلا أدنى شك ـ لكتاب واحد ، لاتحادهما
الشامل ، وتوافقهما الكبير كما ذكرنا آنفاً.
ولمّا كانت نسبة كتاب إعلام الورى للشيخ
الطبرسي ; مقطوعاً بها
، وثابتة بشكل لا يرقى اليه الشك ، فان هذا الشك كان منصباً ومتوجهاً نحو الكتاب
الآخرـ إن تنازلنا وقلنا بعدم وحدتهما ـ وصحة نسبته للسيّد ابن طاووس ; وهو الاَمر الذي لا يعسر على باحث
ومتمرّس في عمله القطع بعدم صواب هذه النسبة وابطال شبهتها.
ولا غرو في ذلك ، فان التحقٍّق في مدى
نسبة كتاب ربيع الشيعة للسيّد ابن طاووس ;
تظهر بجلاء وهن وضعف هذه النسبة التي لم يُثار إلاّ من خلال ما وجد على بعض نسخه
التي تشير إلى انه من تصانيف السيّدعلي بن طاووس فحسب ، وهذا الاَمر عند اخضاعه
للبحث والتمحيص نجده لا يقف قطعاً أمام القرائن والدلائل المتعددة النافية لهذه
النسبة ، وهذه التسمية.
ولعلّ من تلك القرائن ـ كما ذكر ذلك
الشيخ آقا بزرك الطهراني ;
ـ ان الممارس لبيانات السيد ابن طاووس لا يرتاب في أن ربيع الشيعة ليس
له ، والمراجع له لا
يشك في اتحاده مع إعلام الورى.
نعم فان للسيد ابن طاووس اسلوباً
معلوماً ومنهجاً واضحاً في كتبه ومؤلفاته تجعل من نسبة هذا الكتاب اليه غريبة
وشاذة ، بل وغير معهودة لما عرف عنه ، وتعاهد عليه الجميع.
ثم ان من تعرّض لجرد مؤلّفاته وكتبه ; لم يذهب الى نسبة هذا الكتاب اليه ، وكذا
معظم من ترجم له ، إلاّ في حالات متشككّة ومتردّدة ، وفي هذا الاَمر ما يضعف أيضاً
نسبة الكتاب اليه.
بل ولعل ممّا يقطع بانتفاء هذه النسبة
من جانب ، وكون النسختين لكتابين مستقلين من جانب آخر ، مسألة التطابق بين
النسختين بالشكل الذي يدفع القارىء للقول بان ما يقرأه كتاب واحد فحسب ، حيث لا
يمكن بأي حال من الاحوال أن يتفق مؤلّفان في كتابين مستقلّين على جميع مواد
كتابيهما ، وتفاصيل بحوثهما وأخبارهما ألاّ اذا عمد اللاحق الى استنساخ ما كتبه
السابق ثم قيامه بنسبة ما استنسخه اليه ، وهذا الفعل السيء لا يمكن بأي حال من
الاحوال نسبته للسيّد ابن طاووس ;
لانه محض وهم وافتراء لا يليق توجيهه لعلم من أعلام الطائفة الكبار له الكثير من
المؤلفات القيمة التي كانت وما زالت تزدان بها المكتبة الاسلامية العامرة ، فهذا
الاَمر مستحيل الوقوع ، ومردود الافتراض.
ومن هنا فقد كان لهذا التطابق الغريب
بين هاتين النسختين الاثر
__________________
الكبير في كيفية
التعامل معهما ، فاُخذ من الاول ـ أي الاعلام ـ واعتمد عليه دون الثاني ، للقطع
الحاصل بصحة انتساب الاول الى مؤلفه خلاف ما هو الثاني.
وهذا الاَمر هو الذي دفع العلاّمة
المجلسي ; الى
التوقُّف عن نقل أي مورد عن ما يُعرف بكتاب ربيع الشيعة ، قال : وتركنا منهاـ أي
من كتب ابن طاووس ـ كتاب ربيع الشيعة لموافقته لكتاب إعلام الورى في جميع الاَبواب
والترتيب ، وهذا ممّا يقضي منه العجب.
ثم ان عين الحيرة هي التي أصابت الشيخ
الكاظمي في تكملته ، حيث قال : وقد وقفت على إعلام الورى للطبرسي ، وربيع الشيعة
لابن طاووس ، وتتبعتهما من أولهما الى آخرهما ، فوجدتهما واحداً من غير زيادة
ونقصان ، ولا تقديم ولا تأخير أبداً ، إلاّ الخطبة .
اذن ما الذي أوقع هذا الالتباس والحيرة
في نسبة هذا الكتاب الى علمين كبيرين من أعلام الطائفة لكلِّ واحد منهما مؤلَّفاته
وكتبه العديدة التي طبق صيتها الآفاق ، وتناقلتها الاَيدي من مكان الى مكان ، وكثر
النقل عنها والرجوع من قبل الكتّاب والباحثين والمؤلِّفين؟
والمستقرىء في مجمل هذه الشواهد
والقرائن يقطع ـ بعد تسليمه بان نسبة هذا الكتاب الى السيد ابن طاووس وبهذه
التسمية باطلة وساقطة ـ بان
__________________
للنسّاخ الدور
الاكبر في حصول هذا الامر ووقوعه ، والى هذا الامر ذهب الشيخ الطهراني في ذريعته ،
حيث قال بعد نفيه نسبة الكتاب الى السيد ابن طاووس : وقد احتمل بعض المشايخ كون
منشأ هذه الشبهة ان السيد ابن طاووس حين شرع في أن يقرأ على السامعين كتاب إعلام
الورى هذا حمد الله تعالى وأثنى عليه ، وصلّى على النبي وآله صلوات الله عليهم على
ما هو ديدنه ، ثم مدح الكتاب وأثنى عليه بقوله : ان هذا الكتاب ربيع الشيعة ، والسامع
كتب على ما هو ديدنه هكذا : يقول الامام ـ وذكر ألقابه واسمه الى قوله ـ ان هذا
الكتاب ربيع الشيعة. ثم كتب كل ما سمعه من الكتاب الى آخره ، فظن من رأى النسخة
بعد ذلك أن ربيع الشيعة اسمه ، وأن مؤلّفه هو السيد ابن طاووس.
أو غير ذلك من الوجوه المحتملة في وقوع
هذا الالتباس دون علم السيد ابن طاووس به كما هو مقطوع به.
والخلاصة : ان ما يذكر من وجود كتاب
للسيد علي بن طاووس يعرف بربيع الشيعة محض وهم واشتباه لا يؤبه به ، وان الاصل في
ذلك هو كتاب إعلام الورى للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي فحسب ، وعلى ذلك
توافق الدارسون والباحثون.
منهجية
التحقيق
لمّا كان كتاب اعلام الورى من مصادر
بحار الانوار التي أخذ عنها
__________________
المجلسي ; في كتابه المذكور ، فقد كان من الطبيعي
ان تنيط ادراة المؤسسة ـ بعد ان وقع اختيارها المبتني على دارسه دقيقة وشاملة
لمصادر هذه الموسوعة ـ مسؤولية تحقيق هذا السفر الجليل بلجنة مصادر البحار في
المؤسسة ، والتي بادرت ـ ووفقاً لمنهجية عمل المؤسسة الجماعي ـ الى تشكيل جملة من
اللجان المتخصصة التي أناطت بكل واحدة منها جانباً من هذا العمل التحقيقي.
وقد كانت الخطوة الاولى هي الحصول على
نسخ مخطوطة نفيسة لهذا الكتاب ، وحيث وقع اختيارها ـ بعد الفحص والتقصي الدقيقين ـ
على النسختين المخطوتين التاليتين :
١ ـ نسخة ثمينة مصوّرة محفوظة في مكتبة
العلاّمة المحقِّق السيّد عبدالعزيز الطباطبائي ;
يعود تأريخ نسخها الى القرن السابع الهجري ، وكان سماحته قد زوَّدنا بها أيام
حياته مع توجيهات كريمة منه لعموم ما يتصل بهذا العمل وتحقيقه ، كعادته ; في عموم أعمال المؤسسة التحقيقية
المتواصلة ـ وقد رمزنا لها بالحرف (ط) ـ جزاه الله تعالى عنّا وعن أهل بيت العصمة : أفضل وأحسن الجزاء.
٢ ـ النسخة المحفوظة في مكتبة ملك|
طهران ، برقم ١٩٠٢ ويعود تأريخها الى عام ٩٦٧ هـ ، والموسومة بربيع الشيعة ، ورمزها
(ق).
٣ ـ ولما كان الكتاب مصدراً لبحار
الاَنوار فقد اعتمدناه نسخة ثالثة ، اضف ان نسخة العلاّمة المجلسي 1 هي بخط المصنف 1.
٤ ـ النسخة المطبوعة في بيروت عام ١٩٨٥
م حيث كانت مصب العمل ورمزها (م).
هذا ، وقسمت الاَعمال على اللجان
التالية.
١ ـ المقابلة ، وعملها مقابلة النسخ ، وثبت
الاختلافات ، وتولى مسؤولية
هذه اللجنة كل من
الاخوين الفاضلين : الحاج عزالدين عبدالملك ، والسيد مظفر الرضوي.
٢ ـ لجنة التخريج ، وتتولى هذه اللجنة
مسؤولية تخريج الاحاديث والروايات والاخبار وغير ذلك من مواد الكتاب ، وقد اُنيطت
بالاخوة الاَماجد : عباس الشهرستاني ، وحسين آل جعفر ، واحسان الجواهري ، وسعد
فوزي جودة ، كما ان مسؤولية تدقيق ومراجعة أعمال هذه اللجنة قد اُنيطت بالاخ
الفاضل هيثم شاهمراد السّماك.
٣ ـ وأمّا مسؤولية تقويم الكتاب ، وضبط
نصه ، والاشراف على تحقيقه ، فقد اُنيطت بالاخ المحقِّق الفاضل علاء آل جعفر ، مسؤول
لجنة مصادر البحار في المؤسسة.
٤ ـ وتولى مسؤولية مراجعة الكتاب
وقراءته القراءة النهائية سماحة حجَّة الاسلام والمسلمين السيّد علي الخراساني.
وفَّق الله تعالى العاملين على نشر علوم
تراث العترة الطاهرة ، وتقبَّل منهم صالح أعمالهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ،
وصلّى الله على محمّد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين.
مؤسسة آل البيت :
لاِحياء التراث

بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد
لله الواحد الاَحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد
ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، تعالى عن الصاحبة والولد ، واستغنى عن العُدد
والعَدد ، وتقدّست عن شبه الخلائق صفته ، وارتفعت عن مذاهب العقول عظمته ، وأعجزت
غوامض الفكر جلالته ، ووضحت بالشواهد الساطعة حجّته ، وظهرت في كلّ شيء حكمته ، أحقَّ
الحقَّ بما نصب من أعلامه ودلالاته ، وأوضح من حججه وبيّناته ، وأبطل الباطل بما
أدحض من شبهاته ، وأبان عن مشبهاته.
وصلّى الله على عبده المجتبى ، ونبيّه
المصطفى ، خير الاَنبياء والمرسلين ، وأفضل الاَوّلين والآخرين ، البشير النذير ، الداعي
بإذنه والسراج المنير ، سيّد سادات العرب والعجم ، محمّد بن عبدالله بن عبد
المطلب.
وعلى أوصيائه وأصفيائه الاَئمة
المهديّين المرضيّين المنتجبين من اُرومته
، الحافظين لشريعته ، المعصومين من كلّ دنس ورجس ، المفضَّلين على كافّة الجنّ
والاِنس ، الذين ينتجز الموعود يوم المآب
__________________
بإنجازهم ، ولا
يُجاز الصراط إلاّ بجوازهم ، فهم النمرقة
الوسطى ، من تقدّمهم مرق ، ومن تأخّر عنهم زهق ، ومن لزمهم لحق ، وهم كباب حطّة ، ومثل
سفينة نوح من ركبها نجى ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى. وهم خاصّة الرسول 6 ، وصفوة عترته الذين قرن الله معرفتهم
بمعرفته ، وجعل محبّتهم في الوجوب كمحبّته. وهم دعائم الاِسلام ، وأئمّة الاَنام ،
وحجج المهيمن السلام ، سرج في كلّ ظلام ، ودرج إلى كلّ مرام. عليهم أفضل الصلاة
والسلام مالاح برق واسستهلّ غمام ، وتوسّمت الرياض بفرادى نباتها والتوأم.
وبعد
:
فإنّ أشرف الكلام عند الخاصّ والعامّ ما
وجّه إلى أشرف من حاز الله له رواء الملك إلى بهاء العلم ، وسناء الحلم ، وإمضاء
الحكم ، لا زال مبرّاً على ملوك الاَرض وولاة النهي والاَمر بما آتاه من علوّ
الشأن وجلالة القدر ، وميّزه بجلائل من المجد (ودقائق من الشرف المعد ، وخواص من
العدل ، وعوام من الفواضل والفضل)
، لا يندرج أدناها تحت القدرة والاِمكان ، ولا ينال أقصاها بالعبارة والبيان ، وهذه
صفة الاصفهبذ
الاَجلّ (الاَعظم ، الملك المؤيد العادل)
شرف الدينا والدين ، ظهير الاِسلام والمسلمين ، (تاج الملوك والسلاطين ، عضد
الجيوش في العالمين ، قاهر الكفرة والمشركين ، قامع العتاة والمتمردين ، علاء
الدولة ، وبهاء الملة ، مجد
__________________
الاَُمة ، صفوة
الخلافة ، قطب المعالي)
ملك مازندران ، خُسرو
ايران ، اصفهبذ ، اصفهبذان ، شاه فرشواذكر
أبي الحسن عليّ بن شهريار بن قارن نصرة أمير المؤمنين ، أعلى الله شأنه ، ونصر
سلطانه ، وحرس حوباه ، وطرّز بالنجح لواه ، إذ هو باتّفاق الأوياء والاَعداء ، واصفاق
القرباء والبعداء ، واحد الدهر ، وثمال
أهل العصر ، وغرّة الاَفلاك الدائرة ، وعمدة العترة الطاهرة.
لا جرم قد ملّكه الله زمام الدهر ، وأنفذ
حكمه في البرّ والبحر ، وشدّ به أزر الاِسلام ، ومهّد له أسباب المعدلة في الاَنام
، وجعل أيّامه للزمان أعياداً ومواسم ، وللاِِقبال مباهج ومباسم ، متّعه الله
تعالى بجمال هذه الحال ، وأدام له في العباد والبلاد كرائم الاِِفضال ، ومواد
النوال ، بلطفه وطوله وسعة جوده وفضله.
ثم إنّ خادم الدعاء المخلص بالولاء وإن
سبق في ميدان الفضل فهو عكاشة غايته ، وبرز على فرسان العلم فهو عرابة رايته وإن
كان قد قصر وهمه وهمّه ، وجمع وكده
وكدّه ـ منذ خطّ الشباب بالمسك عذاره ، إلى أن وخط المشيب بالكافور أطراره ـ على اقنتاء العلوم وجمع أفانينها وضبط قوانينها حتى اصبح مقتطفاً من
ثمار النحو والاَدب زواهرها وغررها ، مغترفاً
__________________
من بحار اصول الدين
وفروعه جواهرها ودررها ، فإنّ كلّ فاضل وإن بعد في الفضل مداه ، وبلغ من كلّ علم
أقصاه ، إذا لم يتشرّف بتقبيل تراب الحضرة العالية الاِِصفهبذية العلائية ، أدام
الله لها العلو والعلا والسمو والسنا والقدرة والبهاء ولم ينسب إلى جملة خدمها ، ولم
يحسب في زمرة حشمها ، فهو ناقص عن حيّز الكمال ، عادل عن الحقيقة إلى المحال.
لاَنــها الـغايةُ القُصوى التي عجزتْ
|
|
عنْ أنْ تـــؤمٍّل ادراكاً لهم
الـهممُ
|
ما يـستـحقُّ ملوكُ الـدهـر مـرتبةً
|
|
إلا لصـاحـبهـا مِـنْ فـوقـِها قدَمُ
|
فـرأيهُ إنْ دَجـا لـيلُ الشكوكِ هُدى
|
|
وظلُّه إنْ خـطــا صرفُ الردى حَرمُ
|
فــلـو عداالـكرمُ الموصوفُ راحتهُ
|
|
عن انْ يُجاورهـا لم يـكرمِ الـكـرمُ
|
جلالة الملك أدنى درجاته ، وحماية الدين
أقلّ أدواته ، وإكرام ذوي الفضل من الاَنام واصطناع الكرام والاِِنعام على الخاصّ
والعامّ أشهر صفاته ، فالآمال منوطة به ، والهمم مصروفة إليه ، والثناء والحمد
والشكر بأجمعها موقوفة عليه ، واستقلّ بما عجزت الملوك عن حمل أعبائه ، وقام بما
قعد الدّهر عن معاناة عنائه ، (بهمةّ عليّة)
، وعزيمة
علانية ،
وعقيدة علويّة ، فردّ سمل الدين جديداً ، وأعاد ذميم الاَيام حميداً ، بحق أوضحه ،
وباطل فضحه ، وهدى أعاده ، وضلالٍ أباده :
فلا انـتـزعَ الله العدي حـدَ بأسهِ
|
|
ولا انتزعَ الله الهدي عـزِّ نـصرِهِ
|
واحـسـنَ عنْ حـبِ الـنبي وآلهِ
|
|
ورعى سوام الدينِ تــوفيرُ شكرهِ
|
فـمـا يـدركُ المداحُ ادنى حقوقِهِ
|
|
باغراقِ مـنظـومِ الكلامِ ونـثـرهِ
|
__________________
لاَن ادنى نِعَمِه يستغرق جميع الشكر ، وايسر
مننه يفوز مدى الوصف والذكر :
فكلّ أروعَ مِن آلِ ( الرسول عدا )
|
|
جَـلانَ يرفلُ مِنْ نـعـماهُ في حـُلل
|
فَـلو أجابَ كـتابَ اللهِ سائـلــهُ
|
|
مـنْ خـير هذاُ الورى لم يسمِ غيرَ
علي
|
ولمّا عاق هذا الدّاعي المخلص عن (ورود
الحضرة)
العالية ، والوصول منها إلى رواق العز والجلال ، والاكتحال بتلك النهجة والجمال
عوائق الزحال وعوادي الاُصول
أراد أن يخدمها بخدمة تبقى عوائدها على تعاقب الاَيام وتناوب الشهور والاَعوام ، فيؤلّف
كتاباً يتضمّن أسامي الاَئمة الهداة والسادة الولاء واُولي الاَمر وأهل الذكر وأهل
بيت الوحي ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، ويشتمل على تواريخ
مواليدهم وأعمارهم ، وطرف من أخبارهم ومحاسن آثارهم ، والنصوص الدالّة على صحّة
إمامتهم ، والآيات الظاهرة من الله عليهم الشاهدة لتمييزهم عمّن سواهم وإبانتهم
عمّن عداهم. ثمّ فكّر في ذلك وقدّر وتأمّل وتدبّر وقال : إذا كان رسول الله 6 هو الشجرة وهم أغصانها ، والدوحة وهم
أفنانها ، ومنبع العلم وهم عيبته ، ومعدن الحكم وهم خزانته ، وشارع الدين وهم
حفظته ، وصاحب الكتاب وهم حملته ، فهو أولى بان يقدّم في الذكر وتبيّن آياته
الناطقة برسالاته وأعلامه الدالّة على نبوّته ومعجزاته القاهرة ودلالاته الباهرة.
فاستخار الله سبحانه في الابتداء به ، واستعان
به في إتمام ما قصده ،
__________________
وسمّاه كتاب إعلام
الورى بأعلام الهدى وجعله أربعة أركان :
الركن الاَول : في ذكر رسول الله 6.
والركن
الثاني : في ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب 7.
والركن
الثالث : في ذكر الاَئمة من أبنائه من الحسن
بن علي الرضيّ إلى الحسن بن علي الزكي :.
والركن
الرابع : في إمامة الاَئمة الاثني عشر
والاِِمام الثاني عشر :.
وكلّ ركن منها يتضمّن أبواباً وفصولاً
تزهر بما فيها من مكنون العلم ومخزون الحكم ، مفصولاً وموصولاً ، وإنّ من أولى
الاُمور وأصوبها عند الجمهور أن تحلّى مسائل العقائد على أجلّ معتقديها ، وتعرّض
فرائد الجواهر على أكمل منتقديها ، والمأمول المسؤول من الرّأي العالي أعلاه الله
أن يغدق على هذه الكريمة الجسيمة ويسبل على هذه الرّسلة العقلية النيلة جناح
القبول ، لينال الدّاعي المخلص بذلك غاية المرام ونهاية المأمول فاستخرجت درّة
فإنها خير باكورة جلبت إلى قلوب المؤمنين وأكرم بشارة صبّت على أذان الغارمين
والله تعالى الموفّق للسداد ، الهادي إلى الرشاد ، وعليه توكّلت وإليه اُنيب.
* * *
(الركن الاَول من الكتاب)
في
ذكر النبي المصطفى محمّد 6 ، ونسبه ، ومولده ، ومبعثه ، ومدّة
حياته ، ووقت وفاته ، وبيان أسمائه وصفاته ، ودلائل نبوّته ومعجزاته ، وذكر أولاده
وأزواجه وأعمامه وأخواله ، ومعرفة بعض غزواته وأحواله.
ويشتمل على ستّة أبواب :
(الباب الاَول)
في ذكر نسبه ومولده
وذكر أسمائه ومدة حياته ووقت
وفاته
يشتمل
على ثلاثة فصول :
(الفصل الاَول)
في ذكر مولده ونسبه إلى آدم عليه السلام ووقت
وفاته
ولد 6
يوم الجمعة عند طلوع الشمس السابع عشر من شهر ربيع الاَول من عام الفيل.
(وفي رواية العامّة : ولد 6 يوم الاثنين ، ثمّ اختلفوا فمن قائل
يقول لليلتين من شهر ربيع الاَوّل
، ومن قائل يقول : لعشر ليال خلون منه
، وذلك لاَربع وثلاثين سنة وثمانية أشهر مضت من ملك كسرى) أنوشيروان بن قباد وهو قاتل مزدك
والزنادقة ومبيرهموهو
الذي عنى رسول الله 6
على ما يزعمون : ولدت في زمان الملك العادل الصالح. ولثمان سنين وثمانية
__________________
أشهر من ملك عمرو بن
هند ملك العرب.
وكنيته
: أبو القاسم.
وروى أنس بن مالك قال : لمّا ولد
إبراهيم ابن النبيّ من مارية أتاه جبرئيل 7
فقال : «السلام عليك أبا إبراهيم» ، أو : «يا أبا إبراهيم»
ونسبه
: محمّد بن عبدالله بن عبد المطلب ـ
واسمه شيبة الحمد ـ بن هاشم ـ واسمه عمرو ـ بن عبد مناف ـ واسمه المغيرة ـ بن قصي
ـ واسمه زيد ـ ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر وهو
قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وروي عنه 7
أنّه قال : «إذا بلغ نسبي عدنان فأمسكوا».
وروي عن اُمّ سلمة زوج النبيّ 7 قالت : سمعت رسول الله 6 يقول : «معد بن عدنان بن اُدد بن زيد
بن ثرا بن أعراق الثرى ، قالت اُمّ سلمة : زيد هميسع وثرانبت وأعراق الثرى إسماعيل
بن إبراهيم 7؛ قالت : ثمّ
قرأ رسول الله وصلّى الله عليه
__________________
وآله وسلّم : (وَعاداً
وثَمَودَ وأصْحابَ الرَّسِّ وَقُروناً بَينَ ذلِك كَثيراً ) لا
يعلمهم إلاّ الله» .
وذكر الشيخ أبو جعفر بن بابويه رضوان
الله عليه : عدنان بن أدّ بن اُدد بن يامين بن يشجب بن منحر بن صابوغ بن الهميسع .
وفي رواية اُخرى : عدنان بن اُدد بن زيد
بن يقدد بن يقدم الهميسع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم 7 .
وقيل : الاَصحّ الذي اعتمد عليه أكثر
النسّاب وأصحاب التواريخ : أنّ عدنان هو اُدّ بن اُدد بن اليسع بن الهميسع بن
سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم 8 ابن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن ارغوا
بن فالغ بن عابر
وهو هود 7 ابن شالخ بن
أرفخشذ بن سام بن نوح 7
بن لمك بن متّوشلخ بن أخنوخ
وهو إدريس 7 (ابن يارد) بن (مهلائيل) يارد بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم
__________________
7
أبي البشر.
واُمّه : آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن
زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب.
وأرضعته حتّى شبّ حليمة بنت عبدالله بن
الحارث بن شجنة السعديّة من بني سعد بن بكر بن هوازن ، وكانت ثويبة مولاة أبي لهب
بن عبد المطّلب أرضعته أيضاً بلبن ابنها مسروح وذلك قبل أن تقدم حليمة ، وتوفيّت
ثويبةمسلمة سنة سبع من الهجرة ، ومات ابنها قبلها ، وكانت قد أرضعت ثويبة قبله
حمزة بن عبد المطلب عمّه ، فلذلك قال رسول الله 7
لابنة حمزة : «إنّها ابنة أخي من الرضاعة» وكان حمزة أسنّ من رسول الله 6 بأربع سنين.
وأمّا جدّته اُمّ أبيه عبدالله : فهي
فاطمة بنت عمر [و] بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
واُمّ عبدالمطلب : سلمى بنت عمرو من بني
النجّار.
واُمّ هاشم : عاتكة بنت مرّة بن هلال من
بني سليم.
واُمّ قصي وزهرة : فاطمة بنت سعد من أزد
السراة .
__________________
وصدع 6
بالرسالة يوم السابع والعشرين من رجب وله يومئذ أربعون سنة.
وقبض صلوات الله عليه وآله يوم الاثنين
لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشر من الهجرة ، وهو ابن ثلاث وستّين سنة.
__________________
(الفصل الثاني)
في ذكر أسمائه صلوات الله عليه وشرف أصله ونسبه
وأمّا أسماؤه وصفاته صلوات الله عليه
وآله :
فمنها
: ما جاء به التنزيل وهو :
الرسول ، النبيّ ، الاُمي : في قوله : (الّذين
يتّبعون الرّسول النبيّ الامي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التَّوراة والاِِنجيل).
والمزّمل والمدّثّر : في قوله تعالى : (يا أيّها
المُزّمّل)(يا أيّها المدّثّرُ).
والنذير المبين : في قوله تعالى : (قُل اِنّي
اَنا النَّذيرُ المُبينُ)
وأحمد : في قوله تعالى : (وَمُبَشّراً
بِرَسُولٍ يأتي مِنْ بَعدي اسمُه أحمد).
ومحمّد : في قوله تعالى : (محمّد
رَسولُ اللهِ).
والمصطفى : في قوله تعالى : (اللهُ
يَصطفي مِنَ الملائكةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاس).
__________________
والكريم : في قوله تعالى : (إنّهُ
لقَولُ رسولٍ كَريمٍ).
وسمّاه سبحانه نوراً : في قوله : (قَد
جاءَكُم مِنَ اللهِ نورٌ وكِتابٌ مُبينٌ).
ونعمة : في قوله تعالى : (يَعرِفُونَ
نِعمَةَ اللهِ ثُمّ ينكرُونَها).
ورحمة : في قوله تعالى : (وَما
اَرسلنَكَ إلاّ رَحمةً لِلعالَمينَ).
وعبداً : في قوله تعالى : (نَزَّل
الفُرقان على عَبِدِه).
ورؤوفاً رحيماً : في قوله : (بالمُؤمنينَ
رَؤفٌ رَحيمٌ).
وشاهداً ، ومبشراً ، ونذيراً ، وداعياً
: في قوله تعالى : (اِنّا اَرسلناكَ
شَاهداً ومَبُشَراً ونَذيراً * وَداعياً اِلى الله
باذِنِه وَسِراجاً مُنيراً).
وسمّاه منذراً : في قوله تعالى : (انما أنت
منذر).
وسماه عبدالله : في قوله تعالى : ( وَانّه
لمّا قام عَبدُ الله يَدعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيهِ لِبَدا ).
وسمّاه مذكرّاً : في قوله تعالى : (اِنّما
اَنتَ مُذكِّر).
وسمّاه طه ، ويس.
__________________
ومنها : ما جاءت به الاَخبار : ذكر محمّد
بن إسماعيل البخاري في الصحيح عن جبير عن مطعم قال : سمعت رسول الله 6 يقول : «إنّ لي أسماء : أنا محمّد ، وأنا
أحمد ، وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي ، وأنا
العاقب الذي ليس بعده أحد».
وقيل : أن الماحي الذي يمحى به سيّئات
من اتّبعه.
وفي خبر آخر : المقفّي ، ونبيّ التوبة ،
ونبيّ الملحمة ، والخاتم ، والغيث ، والمتوكّل.
وأسماؤه في كتب الله السالفة كثيرة منها
: مؤذ مؤذ بالعبرانيّة في التوراة ، وفارق في الزّبور.
وروى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في
كتاب دلائل النبوّة : بإسناده عن الاَعمش ، عن عباية بن ربعي ، عن ابن عبّاس قال :
قال رسول الله 6
: «إنّ الله عزّ وجل قسّم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً ، وذلك قوله في : (وَاَصحابُ
اليمين) (وَاَصحابُ
الشّمالِ) فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب
اليمين. ثمّ جعل
__________________
القسمين أثلاثاً ، فجعلني
في خيرها ثلثاً فذلك قوله : (فَاَصحابُ الميمنة)
(وَاَصحابُ المَشئمَة)(السّابقونَ
السّابِقُون )
فأنا من
السابقين وأنا خير السابقين ، ثمّ جعل الاَثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة وذلك
قوله : (وَجَعلناكُم شُعُوباً وَقَبائِلَ)
الآية ، فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر ، ثمّ جعل القبائل بيوتاً
فجعلني في خيرها بيتاً وذلك قوله عزّ وجل : (اِنّما يُريدُ الله
ليُذهبَ عَنكُم الرّجس اَهلَ البَيتِ وَيُطّرِكُم تَطهِيراً)
فأنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب».
وروى الشيخ أبو عبدالله الحافظ بإسناده ،
عن سفيان بن عيينة أنه قال : أحسن بيت قالته العرب قول أبي طالب للنبّي 6 :
وشقّ له من اسمه كي يُجلّهُ
|
|
فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمد
|
وقال غيره : إنّ هذا البيت لحسّان بن
ثابت في قطعة له أوّلها :
ألم تر أنّ الله أرسل عبده
|
|
ببرهانه والله أعلى وأمجد
|
ومن صفاته التي جاءت في الحديث : راكب
الجمل ، وآكل الذراع ، ومحرّم الميتة ، وقابل الهديّة ، وخاتم النبوّة ، وحامل
الهراوة ، ورسول
__________________
الرحمة.
ويقال : إنّ كنيته في التوراة أبو
الاَرامل ، واسمه صاحب الملحمة.
وروي أنّه قال 6 : «أنا الاَول والآخر ، أوّل في
النبوّة وآخر في البعثة».
__________________
(الفصل الثالث)
في ذكر مدة حياته صلى الله عليه وآله
وسلّم
عاش 6
ثلاثاً وستين سنة ، منها مع أبيه سنتين وأربعة أشهر ، ومع جدّه عبدالمطلب ثمان
سنين ، ثمّ كفّله عمّه أبو طالب بعد وفاة جدّه عبدالمطّلب فكان يكرمه ويحميه
وينصره أيّام حياته.
وذكر محمّد بن إسحقاق بن يسار : أنّ
أباه عبدالله مات واُمّه حبلى ، وقيل أيضاً : إنّه مات والنبي 6 ابن سبعة أشهر
وذكر ابن إسحقاق قال : قدمت آمنة بنت
وهب اُمّ رسول الله 6
به على أخواله من بني عديّ بن النجّار بالمدينة ثمّ رجعت به حتّى إذا كانت
بالاَبواء هلكت بها ورسول الله 6
ابن ستّ سنين.
وروي عن بريدة قال : انتهى النبيّ 6 إلى رسم قبر فجلس وجلس الناس حوله فجعل
يحرّك رأسه كالمخاطب ثمّ بكى ، فقيل : ما يبكيك يا رسول الله؟ قال : «هذا قبر آمنة
بنت وهب استأذنت ربّي في أن أزور قبرها فأذن لي فأدركتني رقّتها فبكيت» فما رأيته
ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة .
__________________
وفي خبر آخر : «استأذنت ربي في زيارة
قبر اُمّي فأذن لي ، فزوروا القبور تذكّركم الموت» رواه مسلم في الصحيح.
وتزوّج بخديجة بنت خوليد وهو ابن خمس
وعشرين سنة. وتوفّي عمّه أبو طالب وله ستّ وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة وعشرون
يوماً. وتوفّيت خديجة بعده بثلاثة أيّام ، وسمّى رسول الله 6 ذلك العام عام الحزن.
وروى هشام بن عروة ، عن أبيه قال : قال
رسول الله 6 : «ما زالت
قريش كاعّةعنّي
حتّى مات أبو طالب».
وأقام 6
بمكّة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة ، ثمّ هاجر منها إلى المدينة بعد أن استتر في
الغار ثلاثة أيّام وقيل : ستّة أيّام ، ودخل المدينة يوم الاثنين الحادي عشر من
شهر ربيع الاَول وبقي بها عشر سنين.
ثمّ قبض 6
يوم الاَثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة.
__________________
واختلف أهل بيته وأصحابه في موضع دفنه
فقال أمير المؤمنين 7
: «إنّ الله تعالى لم يقبض روح نبيّه إلاّ في أطهر البقاع فينبغي أن يدفن هناك».
فأخذوا بقوله ودفنوه في حجرته التي قبض فيها 6.
__________________
(الباب الثاني)
في ذكر آياته الباهرات
ومعجزاته الخارقة للعادات
وهذه الآيات : قسمان أحدهما : ما ظهر
قبل مبعثه. والآخر : ما ظهر بعد ذلك.
فأمّا ما ظهر قبل الدعوة والمبعث : فمن
ذلك ما استفاض في الحديث : أنّ اُمّ رسول الله 6
لما وضعته رأت نواراً أضاءت له قصور الشام.
وحدّثت هي : أنّها اُتيت حين حملت برسول
الله 6 فقيل لها : إنّك
حملت بسيد هذه الاُمة فإذا وقع على الاَرض فقولي :
اُعيذه بالواحد
|
|
شرّ كلّ حاسد
|
فإنّ آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور
بُصرى من أرض الشام ، فإذا وقع فسمّيه محمّداً ، فإنّ اسمه في التوراة أحمد ، يحمده
أهل السماء والاَرض ، واسمه في الاِنجيل أحمد ، يحمده أهل السماء والاَرض ، واسمه
في الفرقان محمّد. قالت : فسمّيته بذلك.
____________
وروى أبو اُمامة قال : قيل : يا رسول
الله ما كان بدء أمرك؟ قال : «دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت اُمّي أنّه
خرج منها نور أضاءت له قصور الشام».
ومن ذلك : ما رواه الاُستاذ أبو سعد
الواعظ الزاهد الخركوشيبإسناده
عن مخزوم بن أبي المخزومي ، عن أبيه وقد أتت عليه مائة وخمسون سنة قال : لمّا كانت
الليلة التي ولد فيها رسول الله 6
ارتجس أيوان كسرى
فسقطت منه أربع عشرة
شرفة ، وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، وغاضت بحيرة ساوة ، ورأى
المؤبذان أنّ
إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة فانتشرت في بلادها.
__________________
فلمّا أصبح كسرى راعه ذلك وأفزعه وتصبّر
عليه تشجّعاً ، ثمّ رأى أن لا يدّخر ذلك عن وزرائه ومرازبته ، فجمعهم وأخبرهم بما هاله ، فبينا هم
كذلك إذ أتاه كتاب بخمود نار فارس ، فقال المؤبذان : وأنا رأيت رؤيا ، وقصّ عليه
رؤياه في الاِبل ، فقال : أيّ شيء يكون هذا يا مؤبذان ، قال : حدث يكون من ناحية
العرب.
فكتب كسرى عند ذلك إلى ملك العرب
النعمان بن المنذر :
أمّا بعد : فوجّه إليّ برجل عالم بما
اُريد أن أسأله عنه.
فوجّه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن
بقيلة الغسّاني ، فلمّا قدم عليه أخبره بما رأى ، فقال : علم ذلك عند خال يسكن
مشارق الشام ، يقال له : سطيح ، قال : فاذهب إليه فسله وائتني بتأويل ما عنده.
فنهض عبد المسيح حتّى قدم على سطيح وقد
أشفى على الموت ، فسلّم فلم يحر جواباً ، فأنشأ عبد المسيح أبياتاً فيها ما أراده
منه ، ففتح سطيح عينيه ثمّ قال : عبد المسيح على جمل مسيح إلى سطيح وقد أوفى على
الضريح ، بعثك ملك بني ساسان : لارتجاس الاَيوان ، وخمود النيران ، ورؤيا المؤبذان
، رأى إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة ، وظهر
صاحب الهراوة ، وفاض وادي السماوة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وخمدت نار فارس ، فليس
الشام لسطيح شاماً ، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات ، وكلّ ما هو آت آت ، ثمّ
قضى سطيح مكانه.
__________________
فنهض عبد المسيح وقدم على كسرى وأخبره
بما قال سطيح ، فقال : إلى أن يملك منّا أربعة عشر ملكاً كانت اُمور ، فملك منهم
عشرة في أربع سنين والباقون إلى أمارة عثمان .
ومن ذلك : ما رواه عليّ بن إبراهيم بن
هاشم ، عن أبيه ، عن رجاله قال : كان بمكّة يهوديّ يقال له يوسف ، فلمّا رأى
النجوم تقذف وتتحرّك ليلة ولد النبيّ 6
قال : هذا نبيّ قد ولد في هذه الليلة ، لاَنّا نجد في كتبنا أنه إذا ولد آخر
الاَنبياء رجمت الشاطين وحجبوا عن السماء.
فلمّا أصبح جاء إلى نادي قريش فقال : هل
ولد فيكم الليلة مولود؟
قالوا : قد ولد لعبدالله بن عبد المطّلب
ابنٌ في هذه الليلة.
قال : فاعرضوه عليّ.
فمشوا إلى باب آمنة ، فقالوا لها : اخرجي
ابنك ، فأخرجته في قماطه ، فنظر في عينه ، وكشف عن كتفيه فرأى شامة سوداء وعليها
شعيرات ، فلمّا نظر إليه اليهوديّ وقع إلى الاَرض مغشيّاً عليه ، فتعجّبت منه قريش
وضحكوا منه ، فقال : أتضحكون يا معشر قريش هذا نبيّ السيف ليبيرنّكم ، وذهب النبوة
عن بني إسرائيل إلى آخر الاَبد ، وتفرّق الناس يتحدّثون بخبر اليهودي .
ومن
ذلك : بشارة موسى بن عمران 7 به في التوراة ، فلقد حدّثني من أثق به
قال : مكتوب في خروج النبي من ولد إسماعيل ، وصفته
__________________
هذه الاَلفاظ : لاشموعيل
شمعشخوا هني بيراخت اُوثو هربيث ، اُتو هربتي واُتو بمادماد شينم آسور نسيئم وأنا
تيتو الكوى كادل.
وتفسيره : إسماعيل قبلت صلاته ، وباركت
فيه ، وأنميته ، وكثّرت عدده بولد له اسمه محمّد ، يكون اثنين وتسعين في الحساب ، ساُخرج
اثنا عشر إماماً ملكاً من نسله ، واُعطيه قوماً كثير العدد.
ومن ذلك : ما أخبر به الثقة أنه قرأ في
الاِنجيل ـ ذكره الشيخ أبو جعفر ابن بابويه ;
في كتاب كمال الدين وتمام النعمة ـ : «إنّي أنا الله الدائم الذي لا أزول ، صدّقوا
النبيّ الاُميّ صاحب الجمل والمدرعة والتاج ـ وهي العمامة ـ والنعلين والهراوة ـ
وهي القضيب ـ الاَكحل العينين ، الصلت
الجبين ، الواضح الخدّين ، الاَقنى
الاَنف ، المفلّج
الثنايا ، كأنّ عنقه إبريق فضّة ، كأنّ الذهب يجري في تراقيه ، له شعرات من صدره
إلى سرّته ، ليس على بطنه وصدره شعر ، أسمر اللون ، دقيق المسربة ، شثن الكفّ والقدم ، إذا التفت التفت
جميعاً ، وإذا مشى كأنّما ينقلع من صخر وينحدر من صبب ، وإذا جاء مع القوم بذّهم ،
عرقه في وجهه كاللؤلؤ ، وريح المسك تنفح منه ، لم ير قبله مثله ولا بعده ، طيّب
الريح ، نكّاح للنساء ، ذو النسل القليل ، إنّما نسله من مباركة لها بيت في الجنّة
، لا صخب فيه ولا نصب ، يكفّلها في آخر الزمان كما كفّل زكريّا اُمّك ، له فرخان
مستشهدان ، كلامه القرآن ، ودينه الاِسلام وأنا السلام ، طوبى لمن أدرك زمانه ، وشهد
أيّامه
__________________
وسمع كلامه».
فقال عيسى 7
: «يا ربّ وما طوبى؟».
قال : «شجرة في الجنّة إنّما غرستها
بيدي ، تظّل الجنان ، أصلها من رضوان ، ماؤها من تسنيم ، برده برد الكافور ، وطعمه
طعم الزّنجبيل ، من يشرب من تلك العين شربة لم يظمأ بعدها أبداً».
فقال عيسى 7
: «اللّهم اسقني منها».
قال : «حرام يا عيسى على النبيّين أن
يشربوا منها حتّى يشرب ذلك النّبي ، وحرامٌ على الاُمم أن يشربوا منها حتّى تشرب
اُمّة ذلك النبيّ ، أرفعك إليّ ثم اُهبطك في آخر الزمان لترى من اُمّة ذلك النبيّ
العجائب ، ولتعينهم على اللعين الدجّال ، اُهبطك في وقت الصلاة لتصلّي معهم إنّهم
اُمّة مرحومة» .
ومن ذلك : حديث سلمان الفارسي وأنّه لم
يزل ينتقل من عالم إلى عالم ومن فقيه إلى فقيه ، ويبحث عن الاَسرار ، ويستدلّ
بالاَخبار ، وينتظر قيام سيّد الاَولين والآخرين محمّد 6 أربعمائة سنة حتّى بُشّر بولادته ، فلمّا
أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي. والخبر في ذلك طويل مذكور في كتاب كمال الدين .
ومن ذلك : حديث تّبع الملك وقوله : سيخرج
من هذه ـ يعني مكة ـ نبي يكون مهاجره يثرب ، وأخذ قوماً من اليمن فأنزلهم مع
اليهود بيثرب لينصروه إذا خرج ، فهم الاَوس والخزرج.
وفي ذلك يقول تبع :
__________________
شـهـدت عـلــى أحـمـد أنه
|
|
رسول مـن الله بارىء الـنـسم
|
فـــلو مـدّ عـمري إلــى عمره
|
|
لكنت وزيـراً له وابــن عــمّ
|
وكـنت عذابــــاً على المشركين
|
|
وأسقيــهم كأس خوف وغـمّ
|
ومن
ذلك : ما رواه أيضاً بإسناده عن عكرمة ، عن
ابن عبّاس قال : كان يوضع لعبد المطّلب فراش في ظّل الكعبة لا يجلس عليه أحد
إجلالاً له ، وكان بنوه يجلسون حوله حتّى يخرج عبد المطلب ، فكان رسول الله 6 يخرج وهو غلام فيمشي حتّى يجلس على
الفراش ، فيعظم ذلك على أعمامه ويأخذونه ليؤخّروه ، فيقول لهم عبد المطلب إذا رأى
ذلك منهم : دعوا ابني فوالله إنّ له لشأناً عظيماً ، إنّي أرى أنّه سيأتي عليكم
يوم وهو سيّدكم ، إنّي أرى غرّته غرّة تسود النّاس ، ثمّ يحمله فيجلسه معه ويمسح
ظهره ويقبّله ، ويقول : ما رأيت قُبلة أطيب منه ولا أطهر قطّ ، ثمّ يلتفت إلى أبي
طالب ـ وذلك أنّ أبا طالب وعبدالله لاَُم ـ فيقول : يا أباطالب ، إنّ لهذا الغلام
لشأناً عظيماً فاحفظه واستمسك به فإنّه فردٌ وحيدٌ ، وكن له كالاُم لا يوصل إليه
بشيء يكرهه. ثمّ يحمله على عنقه فيطوف به اُسبوعاً ، وكان عبد المطلب قد علم أنّه
يكره اللات والعزّى فلا يدخله عليهما.
فلمّا تمّت له ستّ سنين ماتت اُمّه آمنة
بالاَبواء بين مكّة والمدينة ، وكانت قدمت به أخواله من بني عدي ، فبقي رسول الله 6 يتيماً لا أب له ولا اُمّ ، فازداد عبد
المطلب له رقّة وحفظاً.
وكانت هذه حاله حتّى أدرك عبد المطّلب
الوفاة ، فبعث إلى أبي طالب فجاءه ومحمّد 6
على صدره وهو في غمرات الموت فصار يبكي ويلتفت إلى أبي طالب ويقول : يا أبا طالب
أنظر أن تكون حافظاً
__________________
لذلك الوحيد الّذي
لم يشمّ رائحة أبيه ولا ذاق شفقة اُمّه.
أنظر يا أبا طالب أن يكون من جسدك
بمنزلة كبدك ، فإنّي قد تركت بنيّ كلّهم ووصيتك به لاَنّك من اُمّ أبيه.
يا أبا طالب إن أدركت أيّامه فاعلم أنّي
كنت من أبصر النّاس ومن أعلم الناس به ، وإن استطعت أن تتبعه فافعل ، وانصره
بلسناك ويدك ومالك ، فإنّه والله سيسود ويملك ما لم يملك أحدٌ من بني آبائي.
يا أبا طالب ما أعلم أحداً من آبائك مات
عنه أبوه على حال أبيه ولا اُمّه على حال اُمّه ، فاحفظه لوحدته ، هل قبلت وصيّتي؟
قال : نعم قد قبلت والله على ذلك شاهد.
قال عبد المطّلب : فمدّ يدك إليّ.
فمدّ يده إليه فضرب يده على يده ، ثمّ
قال عبد المطلّب : الآن خفّف عليّ الموت ، ثمّ ضمّه إلى صدره ولم يزل يقبّله ويقول
: أشهد أنّي لم اُقبّل أحداً من ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحسن وجهاً منك. ويتمنّى
أن يكون قد بقي حتّى يدرك زمانه. فمات عبد المطلّب وهو ابن ثمان سنين ، فضمّه أبو
طالب إلى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار ، وكان ينام معه حتّى بلغ ، لا
يأتمن عليه أحداً .
ومن
ذلك : حديث سيف بن ذي يزن ، والرواية بذلك
مشهورة ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس قال : لمّا ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة ـ وذلك
بعد مولود النبيّ 6
بسنتين ـ وفد العرب وأشرافها إليه وفيهم : عبد المطلب بن هاشم واُميّة بن عبد شمس
، وعبدالله بن جذعان ، وأسد بن خويلد ، ووهب بن عبد مناف ، وغيرهم من وجوه قريش ، فقدموا
__________________
عليه صنعاء
فاستأذنوا وهو في قصر ، يُقال له غمدان ، وهو الذي يقول فيه اُميّة بن أبي الصلت :
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً
|
|
في رأس غمدان دار منك محلالا
|
ثمّ ساق الحديث إلى أن قال : فأرسل إلى
عبد المطّلب فادنى مجلسه ثمّ قال : يا عبد المطّلب إنّي مفض إليك من سرّ علمي
أمراً لو كان غيرك لم أبح به إليه ولكنّي رأيتك معدنه فأطلعتك عليه ، فليكن عندك
مطويّاً حتّى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره ، إنّي أجد في الكتاب المكنون
والعلم المخزون الذي اخترناه لاَنفسنا واُخبرناه دون غيرنا خبراً عظيماً وخطراً
جسيماً ، فيه شرف الحياة ، وفضيلة الوفاة ، للناس عامّة ولرهطك كافّة ، ولك خاصّة.
فقال عبدالمطلب : مثلك أيّها الملك قد
سرّ وبرّ فما هو؟ فداك أهلالوبر زمراً بعد زمر.
فقال : إذ ولد بتهامة غلام بين كتفيه
شامّة كانت له الاِمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة.
فقال عبد المطّلب : أبيت اللعن ، لقذ
إبْتُ بخير ما آب بمثله وافد ، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من أسراره
ما أزداد به سروراً.
فقال ابن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد
فيه ، أو قد ولد فيه ، اسمه محمد ، يموت أبوه واُمّه ويكفله جدّه وعمّه ، وقد ولد
سراراً ، والله باعثه جهاراً ، وجاعل له منّا أنصاراً ، يعزّ بهم أولياءه ويذلّ
بهم أعداءه ، يضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم الاَرض ، يكسّر الاَوثان
، ويخمد النيران ، ويعبد الرحمن ، ويدحر الشيطان ، قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر
بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال عبد المطّلب : أيّها الملك عزّ
جدّك ، وعلا كعبك ، ودام ملكك ، وطال عمرك ، فهل الملك سارّي بإفصاح فقد أوضح لي
بعض الاِيضاح؟
فقال ابن ذي يزن : والبيت ذي الحجب ، والعلامات
على النصب ، إنّك يا عبد المطّلب لجدّه غير كذب.
قال : فخرّ عبد المطلب ساجداً ، فقال له
: إرفع رأسك ثلج صدرك ، وعلا أمرك ، فهل أحسست شيئاً ممّا ذكرته؟
فقال : كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه
رفيقاً ، فزوّجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب ، فجاءت بغلام فسمّيته محمّداً
، مات أبوه وامّه وكفّلته عمّه.
قال ابن ذي يزن : إنّ الذي قلت لك كما
قلت لك ، فاحتفظ بابنك ، واحذر عليه اليهود فإنّهم له أعداد ولن يجعل الله لهم
عليه سبيلاً ، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرّهط الذي معك فإنّي لست آمن أن تدخلهم
النّفاسة من أن تكون له الرّئاسة ، فيطلون له الغوائل وينصبون له الحبائل ، وإنهم
فاعلون ذلك أو أبناؤهم غير شكّ ، ولولا أنّي أعلم أنّ الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت
بخيلي ورجلي حتّى أصير بيثرب دار ملكه ، فإنّي أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق
أنّ يثرب دار ملكه ، فيها استحكام أمره ، وأهل نصرته ، وموضع قبره ، ولولا أنّي
أخاف فيه الآفات ، وأحذر عليه العاهات ، لاَعلنت على حداثة سنّه أمره في هذا الوقت
، ولأوطأت أسنان العرب عقبه ، ولكنّي سأصرف ذلك إليك عن غير تقصير منّي بمن معك.
قال : ثمّ أمر لكلّ رجل من القوم بعشرة
أعبد وعشر إماء وحلّتين من البرود ومائة من الاِبل وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال
فضّة وكرش مملوءة عنبراً.
قال : وأمر لعبد المطّلب بعشرة أضعاف
ذلك ، وقال : إذا حال الحول فائتني. فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول.
قال : فكان عبد المطّلب كثيراً ما يقول
: يا معشر قريش لا يغبطني رجل
منكم بجزيل عطاء
الملك وإن كثر فإنّه إلى نفاد ، ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي ذكره
وفخره وشرفه ، فإذا قيل : وما هو؟ قال : ستعلمنّ نبأ ما أقول ولو بعد حين.
وقد روى هذا الحديث الشّيخ أبو بكر أحمد
بن الحسين البيهقي في كتاب دلائل النبوّة من طريقين .
ومن ذلك : حديث بحيراء الراهب ، فقد
أورد محمّد بن إسحاق بن يسار قال : إنّ أباطالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً ، فلمّا
تهيّأللرحيل وأجمع السير انتصب له رسول الله 6
فأخذ بزمام ناقته وقال : «يا عمّ إلى من تكلني لا أب لي ولا اُمّ لي؟».
فرقّ له أبو طالب فقال : والله لاَخرجنّ
به معي ولا يفارقني ولا اُفارقه أبداً. فخرج وهو معه.
فلمّا نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها
راهب يقال له بحيراء في صومعة له ، وكان أعلم أهل النصرانية ، وكان كثيراً ما
يمرّون به قبل ذلك لا يكلّمهم ولا يعرض لهم ، فلمّا نزلوا ذلك العام قريباً من
صومعته صنع لهم طعاماً ، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب حين
أقبلوا وغمامة بيضاء تظلّه من بين القوم ، ثمّ أقبلوا حتّى نزلوا بظلّ شجرة قريباً
منه ، فنظر إلى الغمامة حتّى أظلّت الشجرة ، وتهصّرت أغصان الشجرة على رسول الله 6 حتّى استظلّ تحتها ، فلمّا رأى ذلك
بحيراء نزل من صومعته ـ وقد أمر بذلك الطعام فصنع ـ ثمّ أرسل إليهم فقال :
__________________
إنّي صنعت لكم
طعاماً يا معشر قريش وإنّي اُحبّ أن تحضروا كلّكم صغيركم وكبيركم ، وحرّكم وعبدكم.
فقال له رجل منهم : يا بحيراء إنّ لك
اليوم لشأناً ، ما كنت تصنع لنا هذا الطعام وقد كنّا نمرّ بك كثيراً ، فما شأنك
اليوم؟
فقال له بحيراء : صدقت قد كان ما تقول ،
ولكنّكم ضيفٌ ، وقد أحببت أن اُكرمكم وأصنع لكم طعاماً تأكلون منه كلّكم.
فاجتمعوا إليه وتخلّف رسول الله صلّى
عليه وآله وسلّم من بين القوم لحداثة سنّه في رحال القوم تحت الشجرة ، فلمّا رأى
بحيراء القوم لم يجد الصفة التي يعرف فقال : يا معشر قريش لا يتخلّف أحد منكم عن
طعامي هذا.
قالوا له : ما تخلّف عنّا أحد ينبغي له
أن يأتيك إلاّ غلامٌ هو أحدث القوم سنّاً تخلّف في رحالهم.
قال : فلا تفعلوا ، اُدعوه حتّى يحضر
هذا الطعام معكم.
فقال رجل من قريش مع القوم : واللات
والعزّى إنّ هذا اللوم بنا أن يتخلّف ابن عبد المطّلب عن الطعام من بيننا.
قال : ثمّ قام إليه فاحتضنه ثمّ أقبل به
حتّى أجلسه مع القوم ، فلمّا رآه بحيراء جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء
من جسده قد يجدها عنده في صفته ، حتّى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرّقوا قام
بحيراء فقال له : يا غلام أسألك باللات والعزّى إلاّ أخبرتني عمّا أسألك عنه ، وإنّما
قال ذلك بحيراء لاَنّه سمع قومه يحلفون بهما.
فقال رسول الله 6 : لا تسألني باللات والعزّى ، فوالله
ما أبغضت كبغضهما شيئاً قطّ.
فقال بحيراء : فوالله إلاّ أخبرتني عمّا
أسألك.
فقال : سلني عمّا بدا لك.
فجعل يسأله عن أشياء من حاله مننومه وهيئته واُموره ، فجعل رسول الله
صلّى عليه وآله وسلّم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيراء من صفته ، ثمّ نظر إلى ظهره
فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.
قال : لمّا فرغ منه أقبل على عمّه أبي
طالب فقال : ما هذا الغلام منك؟
قال : ابني.
قال بحيراء : وما هو بابنك وما ينبغي
لهذا الغلام أن يكون أبوه حيّاً.
قال : فإنّه ابن أخي.
قال : فما فعل أبوه؟
قال : مات واُمّه حبلى به.
قال : صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده
واحذر عليه اليهود ، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت منه ليبغيّنة شرّاً ، فإنّه
كائن لابن أخيك هذا شأن فاسرع به إلى بلده.
فخرج به عمّه أبو طالب سريعاً حتّى
أقدمه مكّة حين فرغ من تجارته بالشام.
فزعموا أنّ نفراً من أهل الكتاب قد
كانوا رأوا من رسول الله 6
في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمّه أبي طالب أشياء فأرادوه فردّهم عنه بحيراء
وذكّرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنّهم إن أجمعوا بما أرادوه لم يخلصوا
إليه ، ولم يزل بهم حتّى عرفوا ما قال لهم وصدّقوه بما قال وتركوه وانصرفوا .
__________________
وفي ذلك يقول أبو طالب في قصيدته
الدالية ـ أوردها محمّد بن إسحاق بن يسار ـ :
إنّ ابن آمنـــة (الـنـبي) محمّداً
|
|
عندي بـمـــثــل منازل الاَولادِ
|
لمـّا تعـلـّق بالزّمامِ رحـمـتــهُ
|
|
والعيشُ قــد (قــلصن) بالاَزوادِ
|
(فــارفضِّ) من عـينيّ دمعٌ ذارفٌ
|
|
مثل الجـمانِ مـفرّد الاَفـــــرادِ
|
راعـــيتُ فـــيه قرابة موصولة
|
|
وحفظتُ فـيه وصيـّة الاَجـــدادِ
|
وأمـرتـه بـالـسيـرِ بـين عمومةٍ
|
|
بـيضُ الوجــــوِه مصالت أنجـادِ
|
ســاروا لاَبـعـد طيــّة معلذومةٍ
|
|
ولـقـد تــبـاعد طـيــّة المرتادِ
|
حـتى إذا مــا الـقوم بُصرى عاينوا
|
|
لا قـوا على شرفٍ من الـمـرصـادِ
|
حـبـراً فـأخـبرهم حديـثاً صادقاً
|
|
عنه وردّ مـعـاشـــر الحـسـّادِ
|
قــوماً يهـوداً قـد رأوا ما قد رأى
|
|
ظــلّ (الغمـام وغـرّ ذا الاكبادِ)
|
_________________
( ساروا ) لقتل محمّدٍ فنهاهم
|
|
عنه وأجهد أحسن الاجتهاد
|
وأمثال ماذكرناه كثيرة ، لو قصدنا إيراد
جميعها لخرجنا من الفرض المقصود بهذا الكتاب.
__________________
(فصل)
وأمّا ما ظهر منه صلوات الله عليه وآله عقيب البعث
وإظهار النبوّة من الآيات والمعجزات فضربان :
أحدهما
: هذا القرآن الذي أنزله الله سبحانه عليه
وأيّده به.
والآخر : غيره من المعجزات.
فوجه الاستدلال من القرآن : أنّ كلّ
عاقل سمع الاَخبار وخالط أهلها قد علم ظهور نبيّنا عليه وآله السلام وادّعاءه
الرسالة من الله إلينا ، وأنّه تحدّى العرب بهذا القرآن الذي ظهر على يده وادعى
انه اختصه الله به ، وان العرب مع تطاول الاَزمان لم يعارضوه ، إذا ثبت ما ذكرناه
، وعلمنا أنهم إنما لم يعارضوه لتعذّر المعارضة عليهم فهذا التعذّر معجز خارق
للعادة.
فأمّا الذي يدلّ على أنّه 7 تحدّى بالقرآن فهو أنّ المراد بالتحدّي
أنّه كان يدّعي أنّ جبرئيل يهبط عليه بذلك ، وأنّ الله سبحانه قد أبانه به ، وهذا
معلوم ضرورة وهو غاية التحدّي في المعنى.
وأيضاً : فأنّ آيات القرآن صريحة في
التحدّي وهي قوله تعالى : (فأتوا بِعَشرِ سُورٍ
مِثِلِه) وفي موضع آخر : (فأتوا
بِسورَةٍ مِن مِثِله)
وأمّا الذي يدلّ على انتفاء المعارضة
منهم فهو أنّه لو وقعت المعارضة لوجب ظهورها ونقلها ، فإذا لم تنقل وجب القطع على
انتفائها ، وإنّما قلنا ذلك لاَنّ جميع ما يقتضي نقل القرآن من قوّة الدواعي وشدّة
الحاجة وقرب العهد ثابتٌ في المعارضة ، بل المعارضة تزيد عليه ، لاَنّها كانت تكون
__________________
الحجّة والقرآن شبهة
، ونقل الحجّة أولى من نقل الشبهة ، وكيف لا تنقل المعارضة لو كانت وقد نقلوا كلام
مسيلمة مع ركاكته وبعده عن الشبهة.
فإنّ ادّعي ان المانع من النقل هو الخوف
من أهل الاِسلام وقد بلغوا من الكثرة إلى حدّ يخاف من مثلهم.
فجوابه : أنّ الخوف لا يقتضي انقطاع
النقل على كلّ وجه ، وإنّما يمنع من التظاهر به.
ألا ترى أنّ فضائل أمير المؤمنين 7 قد نقلت ولم ينقطع النقل بها مع الخوف
الشديد من بني اُميّة والرهبة من التظاهر بها ، وكان يجب أن ينقل ذلك
أعدادالاِسلام أو يكون نقلاً مكتوماً فيما بينهم.
وأيضاً فإنّ الكثرة في الاِسلام كانت
بعد الهجرة ، فكان يجب نقل المعارضة قبل ذلك في مدّة مقامه بمكّة ، وإذا نقلت
وانتشرت لم تكن قوّة الاِسلام موجبة بعد ذلك لخفائها إلاّ أن يدعى أنّ المعارضة لم
تقع في تلك المدّة وإنّما وقعت بعد الهجرة ، وفي ذلك كفاية في إعجاز القرآن وثبوت
خرق العادة به.
على أنّ الاِسلام وإن قوي حينئذٍ
بالمدينة ، فقد كانت لاَهل الكفر ممالك كثيرة وبلاد واسعة ، ومملكة الفرس كانت
ثابتة لم يزل ، وممالك الروم وغيرها من البلاد إلى هذه الغاية عريضة ، فكان يجب
ظهور المعارضة في هذه البلاد.
وأمّا الذي يدّل على أنّ انتفاء
المعارضة كان للتعذّر إنّا قد علمنا أنّ كلّ فعل يرتفع من فاعله مع توفّر دواعيه
إليه وقوّة بواعثه عليه فإنّه يدلّ على تعذّره ، فإذا ثبت ذلك وعلمنا أنّ العرب
تُحدّوا بالقرآن ولم يعارضوه مع شدّة حاجتهم إلى المعارضة وقوّة دواعيهم ، علمنا
أنّها متعذّرة عليهم ، فإذا انضاف إلى ذلك أنّهم قد تكلّفوا الاُمور الشاقّة من
الحرب وغيره ممّا لو بلغوا غاية
مرادهم فيه لم يكن
لهم بذلك حجّة ، اتّضح الاَمر في أنّهم قد تعذّرت المعارضة عليهم ، هذا وقد دعاهم
النبي 6 إلى
المعارضة وهم ذوو الأنفة والحميّة ، وطالبهم بالرجوع عن دياناتهم ، والنزول عن
رئاستهم ، والبراءة من آبائهم وأسلافهم وأبنائهم ، ومجاهدة من خالف دينه وإن كان
من أنسابهم وأقربائهم ، وعلموا أنّ بالمعارضة يزول ذلك كلّه ويبطل ، فأيّ داع أقوى
من هذا؟ وكيف لا يكونون مدعوّين إليها وقد تحمّلوا ضروباً من الكلف والمشاقّ
كالمحاربة وبذل الاَموال ونظم الهجاء ، مع أنّ كلّ ذلك لا يغني ، فلو تيسّرت لهم
المعارضة لبادروا إليها ، إذ كانت أسهل ممّا تكلّفوه وتحمّلوه وأحسم للمادّة من
كلّ ما فعلوه.
وأمّا الذي يدلّ على أنّ تعذّر المعارضة
كان على وجه الاِعجاز هو أنّ ما يمكن أن يدّعى في ذلك أن يقال أنّه 7 كان أفصحهم فتأتّى له ما لم يتأت لهم ،
أو يقال : إنّه تعمّل زماناً لم يكن طويلاً فلم يتمكّنوا مع قصر الزمان من معارضته
، فإذا بطل هذان الوجهان لم يبق إلا أنّ هذا التعذّر غير معهود ، فهو خارق للعادة.
والذي يدلّ على فساد الوجه الاَول : أنّ
المطلوب في المعارضة ما يقارب الفصاحة ، والاَفصح يقاربه في كلامه وفصاحته من هو
دون طبقته ، فإذا لم يماثلوه ولم يقاربوه فقد انتقضت العادة ، وأيضاً فإنّ الاَفصح
إنّما تمتنع مساواته ومجاراته في جميع كلامه أو أكثره وليس تمتنع مجاراته ومساواته
في البعض منه على من هو دون طبقته ، بهذا جرت العادة ، ولهذا فقد ساوت الطبقة
المتأخّرة من الشعراء الطبقة المتقدمة منهم في البيت والاَبيات ، وربما زادوا
عليهم في القليل ، وإذاكان التحدّي وقع بصورة قصيرة من عرض القرآن فكونه أفصح لا
يمنع من مساواته في هذا القدر اليسير ، وأيضاً فليس يظهر من كلامه 7 فصارحة تزيد على فصاحة غيره من القوم ،
ولو
كان أفصحهم وكان
القرآن من كلامه لظهرت المزيّة في كلامه على كلّ كلام في الفصاحة كما ظهرت مزيّة
القرآن.
وأمّا الذي يدلّ على فساد الوجه الثاني
ـ وهو إنّه تعمّل زماناً طويلاً ـ : فهو أنّه كان ينبغي أن يتعمّلوا مثله فيعارضوه
به مع امتداد الزّمان ، فإذا ثبت أنّ التعذّر خارق للعادة فلابدّ من أحد أمرين : إمّا
أن يكون القرآن نفسه خرف العادة بفصاحته فلذلك لم يعارضوه ، وإمّا أن يكون الله
تعالى صرفهمعن معارضته ولولا الصرف لعارضوه ، وأيّ الاَمرين كان ثبتت معه صحّة
النبوّة ، لاَنّ الله تعالى لا يصدق كاذباً ، ولا يخرق العادة لمبطل ، ولو ذهبنا
نَصِفُ ما سطَّره المتكلّمون في هذا الباب من الكلام وما فيه من السؤال والجواب
لطال به الكتاب ، وفيما ذكرنا ههنا مقنع وكفاية لذوي الاَلباب.
***
(فصل)
في ذكر بيان بعض
معجزات النبي 6
وأما المعجزات الباهرة الدلاه على نبوته
ـ التي هي سوى القرآن ـ فكثيرة أثبتنا متونها وحذفنا أسانيدها لاشتهارها بين الخاص
والعام وتلقي الاَمّة إياها بالقبول التام :
فمنها
: مجيء الشجرة إليه ، ذكرها أمير المؤمنين
7 في خطبته
القاصعة قال : «لقد كنت معه 6
لمّا أتاه الملأ من قريش فقالوا له : يا محمّد إنّك قد ادّعيت عظيماً لم يدّعه
آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنّك
نبيّ ورسولُ ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحرٌ كذّاب.
فقال لهم : وما تسألون؟
قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتّى تنقلع
بعروقها وتقف بين يديك.
فقال 6
: إنّ الله على كلّ شيء قدير ، فإن فعل ذلك بكم أتؤمنون وتشهدون بالحقّ؟
قالوا : نعم.
قال : فإنّي ساُريكم ما تطلبون وإنّي
لاَعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير ، وإنّ فيكم من يطرح في القليب ومن يحزّاب الأحزاب
، ثمّ قال : أيّتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أنّي رسول
الله فانقعلي بعروقك حتّى تقفي بين يدّي بإذن الله.
فالذي بعثه بالحقّ ، لانقلعت بعروقها
وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتّى وقفت بين يدي رسول الله 6 مرفوفة ، وألقت بغصنها الاَعلى على رأس
رسول الله وببعض أغصانها على منكبي ، وكنت عن يمينه 6.
فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّاً
واستكباراً : فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها
كأعجب إقبال وأشدّه دويّاً فكادت تلتف برسول الله.
فقالوا كفراً وعتوّاً : فمر هذا النصف
فليرجع إلى نصفه ، فأمره 6
فرجع.
فقلت أنا : لا إله إلا الله ، إنّي أوّل
مؤمن بك يا رسول الله ، وأوّل من آمن بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تصديقاً
لنبوّتك وإجلالاً لكلمتك.
فقال القوم : بل ساحرٌ كذّاب ، عجيب
السحر ، خفيف فيه ، وهل يصدّقك في أمرك غير هذا؟! يعنونني» .
ومنها : خروج الماء من بين أصابعه ، وذلك
أنّهم كانوا معه في سفر فشكوا أن لا ماء معهم وأنّهم بعرض التلف وسبيل العطب فقال
: «كلاّ إنّ معي ربّي عليه توكّلت» ثمّ دعا بركوة فصبّ فيها ماء ما كان ليروي
رجلاً ضعيفاً ، وجعل يده فيها فنبغ الماء من بين أصابعه ، وصيح في الناس فشربوا
وسقوا حتّى نهلوا وعلّوا وهم اُلوف وهو يقول : «أشهد أنّي رسول الله حقّاً»
__________________
ومنها
: حنين الجذع الذي كان يخطب عنده صلوات الله عليه ، وذلك أنّه كان في مسجده
بالمدينة يستند إلى جذع فيخطب الناس ، فلمّا كثر الناس اتّخذوا له منبراً ، فلمّا
صعده حنّ الجذع حنين الناقة فقدت ولدها ، فنزل رسول الله 6 فضمّه إليه ، فكان يئنّ أنين الصبيّ
الذي يُسكت .
ومنها
: حديث شاة اُمّ معبد ، وذلك أنّ النبي 6
لمّا هاجر من مكّة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهم عبدالله بن ارُيقط اللّيثي
، فمرّوا على اُمّ معبد الخزاعيّة ، وكانت امرأة برزة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة ، فسألوا
تمراً ولحماً ليشتروه ، فلم يصيبوا عنده شيئاً من ذلك ، وإذا القوم مرمّلون ، فقالت
: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى ، فنظر رسول الله 6 في كسر خيمتها فقال : «ما هذه الشاة يا
اُمّ معبد»؟
قالت : شاة خلّفها الجهد عن الغنم.
فقال : «هل بها من لبن»؟
قالت : هي أجهد من ذلك.
قال : «أتأذنين في أن أحلبها»؟
قالت : نعم بأبي أنت واُمّي إن رأيت بها
حلباً فاحلبها.
فدعا رسول الله 6 بالشّاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال
: «اللّه بارك في شاتها» فتفاجت
ودرّت ، فدعا رسول الله
__________________
6
بإناء لها يريض الرهط فحلب
فيه ثجّاً
حتّى علته الثمال
، فسقاها فشربت حتّى رويت ، ثم سقى أصحابه فشربوا حتّى رووا ، فشرب 7 آخرهم وقال : «ساقي القوم آخرهم شرباً»
فشربوا جميعاً عللاً بعد نهل حتّى أراضوا ، ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء ، فغادوا
عندها ثمّ ارتحلوا عنها.
فقلّما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق
عنزاً عجافاً هزلى مخهنّ قليل ، فلمّا رأى اللبن قال : من أين لكم هذا والشاة عازب
ولا حلوبة في البيت؟
قالت : لا والله ، إلاّ أنّه مرّ بنا
رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت. الخبر بطوله .
ومنها : خبر سراقة بن جعشم الذي اشتهر
في العرب ، يتقاولون فيه الاَشعار ، ويتفاوضونه في الديار ، أنّه تبعه وهو متوجّه
إلى المدينة طالباً لغرتّه ليحظى بذلك عند قريش ، حتّى إذا أمكنته الفرصة في نفسه
، وأيقن ان قد ظفر ببغيته ، ساخت قوائم فرسه ، حتّى تغّيبت بأجمعها في الاَرض ، وهو
__________________
بموضع جدب وقاع صفصف ، فعلم أنّ الذي أصابه أمر سماوي ، فنادى
: يا محمّد ادع ربك يطلق لي فرسي وذمّة الله عليّ أن لا أدلّ عليك أحداً.
فدعا له فوثب جواده كأنّه أفلت من
انشوطة ، وكان رجلاً داهية وعلم بما رأى أنّه سيكون له نبأ ، فقال : اكتب لي
أماناً ، فكتب له فانصرف .
قال محمّد بن إسحاق : إنّ أبا جهل قال
في أمر سراقة أبياتاً فأجابه سراقة :
أبا حكم واللات لو كنت شاهـداً
|
|
لاَمر جوادي إذ تسـيـخ قوائـمه
|
عجبت ولم تشكك بأنّ مـحـمداً
|
|
نـبـيّ وبرهـان فـمن ذا يكاتمه
|
عليك بكفّ الناس عنه فإنّنــي
|
|
أرى أمره يوماً ستبدو مـعالمه
|
وروي : أنّ النبي 6 كان يقول لاَبي بكر : «أله الناس عنّي
فإنّه لا ينبغي لنبيّ أن يكذب» فكان أبو بكر إذا سئل : ما أنت؟ قال : باغ. فإذا
قيل من الذي معك؟ قال : هاد يهديني.
ومنها
: حديث الغار ، وأنّه عليه وآله السلام
لمّا أوى إلى غار بقرب مكّة يعتوره النزّال
ويأوي إليه الرعاء متوجهه إلى الهجرة ، فخرج القوم في طلبه ، فعمى الله أثره وهو
نصب أعينهم ، وصدّهم عنه وأخذ بأبصارهم دونه وهم
__________________
دهاة العرب ، وبعث
سبحانه العنكبوت فنسجت في وجه النبي 6
فسترته ، وآيسهم ذلك من الطلب فيه.
وفي ذلك يقول السيّد الحميري في قصيدته
المعروفة بالمذهّبة :
حتّى إذا قــصـدوا لباب مغاره
|
|
ألفوا عليه نسيج غـزل الـعـنـكب
|
صـنع الاِله له فقال فـريـقـهم
|
|
ما في المغار لـطالب مـن مطلـب
|
مـيـلوا وصدّهم المليك ومن يرد
|
|
عنه الدفاع مـلـيـكـه لا يـعطب
|
وبعث الله حمامتين وحشيّتين فوقعتا بفم
الغار ، فأقبل فتيان قريش من كلّ بطن رجل بعصيّهم وهراواهم وسيوفهم ، حتّى إذا
كانوا من النبي 6
بقدر أربعين ذراعاً تعجّل رجل منهم لينظر من في الغار ، فرجع إلى أصحابه فقالوا له
: ما لك لا تنظر في الغار؟ فقال : رأيت حمامتين بفم الغار فعلمت أن ليس فيه أحد ، وسمع
النبي 6 ما قال ، فدعا
لهنّ النبي 6 وفرض
جزاءهنّ فانحدرن في الحرم .
ومنها
: كلام الذئب ، وذلك أنّ رجلاً كان في غنمه يرعاها ، فأغفلها سويعة من نهاره ، فعرض
ذئب فأخذ منها شاة ، فأقبل يعدو خلفه فطرح الذئب الشاة ثم كلّمه بكلام فصيح فقال :
تمنعني رزقاً ساقه الله إليّ ، فقال الرجل : يا عجباً الذئب يتكلم! فقال : أنتم
أعجب وفي شأنكم للمعتبرين عبرة ، هذا محمّد يدعو إلى الحقّ ببطن مكّة وأنتم عنه
لاهون ، فأبصر الرجل رشده وأقبل حتّى أسلم وأبقى لعقبه شرفاً لا تخلقه الاَيّام
يفخرون به على العرب والعجم
__________________
يقولون : إنّا بنو
مكلّم الذئب .
ومنها
: كلام الذراع ، وهو أنّه اُوتي بشاة مسمومة أهدتها له امرأة من اليهود بخيبر ، وكانت
سألت أيّ شيء أحبّ إلى رسول الله 6
من الشاة؟ فقيل لها : الذراع ، فسمّت الذّراع ، فدعا 6
أصحابه إليه فوضع يده ، ثمّ قال : «ارفعوا فإنّها تخبرني أنّها مسمومة».
ولو كان ذلك لعلّة الارتياب باليهوديّة
لما قبلها بدءاً ولا جمع عليها أصحابه ، وقد كان 6
تناول منها أقلّ شيء قبل أن تكلِّمه فكان يعاوده كلّ سنة حتّى جعل الله ذلك سبب
الشهادة ، وكان ذلك باباً من التمحيص ليُعلم أنّه مخلوق وعبد .
ومنها
: أن أصحابه صلوات الله عليه وآله أرملوا وضاقت بهم الحال وصاروا بمعرض الهلاك
لفناء الاَزواد يوم الاَحزاب ، فدعاه رجل من أصحابه إلى طعامه فاحتفل القوم معه ، فدخل
وليس عند القوم إلاّ قوت رجل واحد أو رجلين ، فقال رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم
: «غطّوا إناءكم» ثمّ دعا وبرّك عليه وقدّمه والقوم اُلوف فأكلوا وصدروا كأن لم
يسغبوا قطّ شباعاً رواءً ، والطعام بحاله لم يفقدوا منه شيئاً.
__________________
ومنها
: أنّه اجتمع إليه فقراء قومه وأصحابه في غزوة تبوك وشكوا الجوع ، فدعا بفضلة زاد
لهم ، فلم يوجد لهم إلاّ بضع عشرة تمرة فطرحت بين يديه ، فانحفل القوم فوضع يده
عليها وقال : «كلوا بسم الله» فأكل القوم حتّى شبعوا وهي بحالها يرونها عياناً .
ومنها
: أنّه 6 ورد في هذه
الغزاة على ماء لا يبل حلق واحد والقوم عطاش ، فشكوا ذلك إليه فأخذ سهماً من كنانة
فدفعه إلى رجل من أصحابه ثمّ قال له : «أنزل فاغرزه في الركي فنزل فغرزه فيه ففار الماء وطما إلى
أعلى الركي ، فارتوى القوم للمقام والظعن وهم ثلاثون ألفاً ، ورجال من المنافقين
حضور الاَبدان غائبو العقول.
ومنها : ان ظبية كلّمته حين وقعت في
شبكة فقالت : يا رسول الله إنّ لي طفلاً يحتاج إلى لبن وإنّي قد وقعت في هذه
الشبكة فخلّني حتّى اُرضعه ، فقال 6
: «كيف اُخلّيك وصاحب الشبكة غائب»؟ قالت : إنّي أرجع ، فخلاّها وجلس حتّى رجعت
الظبية وجاء صاحبها فشفّع رسول الله 6
حتّى خلّى سبيلها ، فاتّخذ القوم من ذلك الموضع مسجداً .
ومنها : أنّ قوماً شكوا إليه ملوحة
مائهم وأنّهم في جهد من الظمأ وبعد
__________________
المناهل ، وأن لا
قوّه لهم على شربه ، فجاء معهم في جماعة أصحابه حتّى أشرف على بئرهم فتفل فيها ثمّ
انصرف ، وكانت مع ملوحتها غائرة ، فانفجرت بالماء العذب الفرات ، فها هي يتوارثها
أهلها ويعدّونها أسنى مفاخرهم وأجلّ مكارمهم ، وإنّهم لصادقون.
وكان ممّا أكّد الله به صدقه ، أنّ قوم
مسيلمة سألوه مثلها لمّا بلغهم ذلك ، فأتى بئراً فتفل فيها فعادت ماؤها ملحاً
اُجاجاً كبول الحمار ، وهي إلى اليوم بحالها معروفة المكان .
ومنها : أنّ امرأة أتته بصبيّ لها ترجو
البركة بأن يمسّه ويدعو له ، وكانت به عاهة ، فرحمهاـ والرحمة صفته 6 ـ فمسح يده على رأس الصبيّ فاستوى شعره
وبرىء داؤه ، وبلغ ذلك أهل اليمامة فأتت مسيلمة امرأة بصبيّ لها فمسح رأسه فصلع
وبقي نسله إلى يومنا هذا صلعاً.
ومنها : أنّ قوماً من عبد القيس أتوه
بغنم لهم فسألوه أن يجعل لها علامة تذكر بها ، فغمز إصبعه في اُصول آذانها فابيضّت
، فهي إلى اليوم معروفة النسل ظاهرة الأمر .
ومنها : حديث الاستسقاء ، وأنّ أهل
المدينة مطروا حتّى أشفقوا من خراب دورها وانهدام بنيانها ، فقال 6 : «اللّهم حوالينا
__________________
ولا علينا» فانجاب
السحاب عن المدينة وأطاف حولها مستديراً كالاِكليل والشمس طالعة في المدينة والمطر
يهطل على ما حولها ، يرى ذلك ظاهراً مؤمنهم وكافرهم ، فضحك رسول الله 6 حتّى بدت نواجذه وقال : «لله درّ أبي
طالب لو كان حياً قرّت عيناه ، من ينشدنا قوله؟».
فقام أمير المؤمنين 7 فقال : « يا رسول الله كأنّك أردت قوله
:
وأبيض يستسقى الغمام آل بوجهه
|
|
ثمال اليتامى عصمة
للأرامل
|
يطوف به الهلاّك من آل هاشم
|
|
فهم عنده في نعمة وفواضل »
|
ومنها
: أنّه 6 أخذ يوم بدر
ملء كفّه من الحصباء فرمى بها وجوه المشركين وقال : «شاهت الوجوه» فجعل الله
سبحانه لتلك الحصباء شأناً عظمياً ، لم تترك من المشركين رجلاً إلاّ ملأت عينيه ، وجعل
المسلمون والملائكة يقتلونهم ويأسرونهم ويجدون كلّ رجل منهم منكباً على وجهه لا
يدري أين يتوجّه يعالج التراب ينزعه من عينيه .
ومنها : أمر ناقته حين افتقدت فأرجف
المنافقون وقالوا : ينبئنا بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فلمّا خاف صلوات
الله عليه وآله على المؤمنين وساوس الشيطان دلّهم عليها ووصف لهم حالها والشجرة
التي هي
__________________
متعلّقة بها ، فأتوها
فوجدوها كما وصف .
ومنها : أنّ القمر انشقّ له نصفين بمكّة
في أوّل مبعثه ، وقد نطق به القرآن ، وقد صحّ عن عبدالله بن مسعود أنّه قال : انشق
القمر حتّى صار فرقتين فقال كفّار أهل مكّة : هذا سحر سَحَرَكم به ابن أبي كبشة ، انظروا السفّار فإن كانوا رأوا ما
رأيتم فقد صدق ، وإن كانوا لم يروا ما رأيتم فهو سحر سحركم به ، قال : فسئل
السفّار وقد قدموا من كلّ وجه فقالوا : رأيناه.
استشهد البخاريّ في الصحيح بهذا الخبر
في أنّ ذلك كان بمكّة.
ومنها : أنّ رجلاً من أصحابه اُصيب
بإحدى عينيه في بعض مغازيه فسالت حتّى وقعت على خدّه ، فأتاه مستغيثاً به ، فأخذها
بيده فردّها مكانها ، فكانت أحسن عينيه وأصحّهما وأحدّهما نظراً .
ومنها : أن أبا براء ملاعب الاَسنّة كان
به استسقاء فبعث إليه لبيد بن ربيعة وأهدى له فرسين ونجائب ، فقال 7 : «لا أقبل هديّة مشرك».
قال لبيد : ما كنت أرى أنّ رجلاً من مضر
يرد هديّة أبي براء.
__________________
فقال 6
: «لو كنت قابلاً هديّة من مشرك لقبلتها».
قال : فإنّه يستشفيك من علّة أصابته في
بطنه.
فأخذ بيده حثوة من الاَرض فتفل عليها
ثمّ أعطاه وقال : دفها بماء ثمّ اسقه إياّه فأخذها متعجّباً يرى أنّه قد استهزأ به
، فأتاه فشربه ، وأطلق من مرضه كأنّما اُنشط من عقال.
ومنها : شكوى البعير إليه عند رجوعه إلى
المدينة من غزوة بني ثعلبة ، فقال : «أتدرون ما يقول هذا البعير»؟
قال جابر : قلنا : الله ورسوله أعلم.
قال : «فإنّه يخبرني أنّ صاحبه عليه
حتّى إذا أكبره وأدبرهوأهزله
أراد نحره وبيعه لحماً ، يا جابر إذهب معه إلى صاحبه فأتني به».
قال : قلت : والله ما أعرف صاحبه.
قال : «هو يدلّك».
قال : فخرجت معه حتى انتهيت إلى بني
حنظلة أو بني واقف ، قلت : أيّكم صاحب هذا البعير؟ قال بعضهم : أنا ، قلت : أجب
رسول الله 6.
فجئت أنا وهو والبعير إلى رسول الله 6 فقال : بعيرك هذا يخبرني بكذا وكذا».
قال : قد كان ذلك يا رسول الله.
قال : «فبعنيه».
__________________
قال : هو لك.
قال : «بل بعنيه» فاشتراه منه رسول الله
6 ثمّ ضرب على
صفحته فتركه يرعى في ضواحي المدينة ، فكان الرجل منّا إذا أراد الروحة والغدوة
منحه رسول الله 6.
قال جابر : فرأيته وقد ذهبت دبرته ورجعت
إليه نفسه.
ومنها : أنّ أبا جهل عاهد الله أن يفضخ
رأسه 6 بحجر إذا
سجد في صلاته ، فلمّا قام رسول الله 6
يصلّي وسجد ـ وكان إذا صلّى صلّى بين الركنين : الاَسود واليماني وجعل الكعبة بينه
وبين الشام ـ احتمل أبو جهل الحجر ، ثمّ أقبل نحوه حتّى إذا دنا منه رجع منتقعاً لونه مرعوباً ، قد يبست يداه على حجرة
حتّى قدف الحجر من يده وقام إليه رجال من قريش فقالوا : ما لك يا أبا الحكم؟ قال :
عرض لي دونه فحل من الاِبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قطّ فهمّ
أن يأكلني.
ومنها : أنّ أبا جهل اشترى من رجل طارىء
بمكّة إبلاً فبخسه أثمانها ولواه بحقّه ، فأتى الرجل نادي قريش مستجيراً بهم
وذكّرهم حرمة البيت فأحالوه على النبي 6
استهزاءً به ، فأتاه مستجيراً به ،
__________________
فمضى معه ودقّ الباب
على أبي جهل فعرفه فخرج منخوبالعقل
فقال : أهلاً بأبي القاسم.
فقال له : «اعط هذا حقّه».
قال : نعم ، وأعطاه من فوره.
فقيل له في ذلك ، فقال : إنّي رأيت ما
لم تروا ، رأيت والله على رأسه تنّيناً فاتحاً فاه ، والله لو أبيت لا لتقمني.
ومنها : ما روته أسماء بنت أبي بكر قالت
: لمّا نزلت (تَبّت يَدا أبي لَهَبٍ) أقبلت العوراء اُمّ جميل بنت حرب ولها
ولولة وهي تقول : مذمّماً أبينا ، ودينه قلينا ، وأمره عصينا. والنبي 6 جالس في المسجد ومعه أبو بكر ، فلمّا
رآها أبو بكر قال : يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك.
فقال رسول الله : «انها لا تراني» وقرأ
قرآناً فاعتصم به كما قال ، وقرأ (وإذا قَرأتَ القُرآنَ
جَعَلنا بَينكَ وَبَين الذينَ لا يُؤمنونَ بالآخِرَةِ حِجاباً مَستوراً)
فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله 6
، فقالت : يا أبا بكر اُخبرت أنّ صاحبك هجاني ، فقال : لا وربّ البيت ما هجاك ، فولّت
وهي تقول : قريش تعلم أنّي بنت سيّدها .
ومنها : ما رواه الكلبيّ ، عن أبي صالح
، عن ابن عبّاس : أنّ ناساً من
__________________
بني مخزوم تواصوا
بالنبيّ 6 ليقتلوه
منهم أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، ونفر من بني مخزوم ، فبينا النبي 6 قائم يصلّي إذ أرسلوا إليه الوليد
ليقتله ، فانطلق حتّى انتهى إلى المكان الذي كان يصلّي فيه ، فجعل يسمع قراءته ولا
يراه ، فانصرف إليهم فأعلمهم ذلك فأتاه من بعده أبو جهل والوليد ونفر منهم ، فلمّا
انتهوا إلى المكان الذي يصلّي فيه سمعوا قراءته وذهبوا إلى الصوت ، فإذا الصوت من
خلفهم ، فيذهبون إليه فيسمعونه أيضاً من خلفهم ، فانصرفوا ولم يجدوا إليه سبيلاً ،
فذلك قوله سبحانه : (وَجَعلنا مِن بَينِ
أيديهِم سَدّاً وَمِن خَلفِهم سَدّاً فَأغشَيناهُم فَهُم لا يُبصِرونَ).
ومنها : أنّه كان 6 في غزاة الطائف في مسيره ليلاً على
راحلته بواد بقرب الطائف يقال له : نجب ، ذو شجر كثير من سدر وطلح ، فغشي وهو في
وسن النوم سدرة في سواد الليل فانفرجت السدرة له بنصفين ، فمرّ بين نصفيها وبقيت
السدرة منفرجة على ساقين إلى زماننا هذا ، وهي معروفة مشهور أمرها هناك وتسمى سدرة
النبيّ 6.
أورده الشيخ أبو سعيد الواعظ في كتاب
شرف النبيّ 6.
ولو عدّدنا جميع معجزاته وأعلامه صلوات
الله عليه وآله التي دوِّنها
__________________
المحدّثون في كتبهم
لطال الكتاب ، فإن نبيّنا 6
أكثر الأنبياء أعلاماً ، وقد ذكر بعض المصنّفين : أنّ أعلامه تبلغ ألفاً ، فالأولى
الاقتصار على الاختصار ، وسنذكر بعض آياته وأعلامه ومعجزاته 6 فيما يأتي من أخبار مبعثه إلى هجرته
وغزواته وقدوم الوفود عليه إلى وقت وفاته على سبيل الاِيجاز إن شاء الله تعالى.
وأما آياته صلوات الله عليه وآله في
إخباره بالغائبات والكوائن بعده فأكثر من أن تحصى وتعدّ :
فمن ذلك : ما روي عنه في معنى قوله
تعالى : (لِيُظهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَو كَرِهَ
المُشرِكُونَ) وهو ما رواه اُبيّ بن كعب : أنّ رسول
الله 6 قال : «بشّر
هذه الاُمّة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكين في الاَرض ، فمن عمل منهم عمل
الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب» .
وروى بريدة الاَسلمي : أنّه 6 قال : «ستبعث بعوث ، فكن في بعث يأتي
خراسان ، ثمّ اسكن مدينة مرو فإنّه بناها ذو القرنين ودعا لها بالبركة وقال : لا
يصيب أهلها سوء» .
وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله 6 : «لا تقوم الساعة حتّى تقاتلوا خوزاً
وكرمان قوماً من الاَعاجم ، حمر الوجوه ، فطس
الاُنوف ، صغار الأعين ، كأنّ وجوههم المجان
المطرقة» .
__________________
وروى أنس بن مالك قال : قال رسول الله 6 : «رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم
كأنّا في دار عقبة بن رافع فاُتينا برطب من رطب ابن طاب ، فأوّلت الرفعة لنا في
الدنيا والعافية في الآخرة وأنّ ديننا قد طاب» .
ومن
ذلك : إخباره بما تحدث اُمّته بعده نحو قوله 6 : «لا ترجعوا بعدي كفّاراً ، يضرب
بعضكم رقاب بعض».
رواه البخاريّ في الصحيح مرفوعاً إلى
ابن عمر .
وقوله رواه أبو حازم عن سهل بن حنيف عن
النبيّ 6 : «انا
فرطكم على الحوض ، من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً ، وليّردنّ عليّ أقوام أعرفهم
ويعرفوني ثمّ يحال بيني وبينهم».
قال أبو حازم : سمع النعمان بن أبي
عيّاش وأنا اُحدث الناس بهذاالحديث فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول؟ قلت : نعم.
قال : فأنها أشهد على أبي سعيد الخدريّ
يزيد فيه : «فأقول : إنّهم اُمّتي ، فيقال : إنّك لا تدري ما عملوا بعدك ، فأقول :
سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي».
ذكره البخاري في الصحيح
__________________
قوله 6
فيما رواه شعبة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم : أنّ عائشة لما
أتت على الحوأب
سمعت نباح الكلاب فقالت : ما أظنّني إلاّ راجعة ، سمعت النبي 6 قال لنا : «أيّتكنّ تنبح عليها كلاب
الحوأب»؟ فقال الزبير : لعلّ الله أن يصلح بك بين النّاس .
وقوله 6
للزبير لمّا لقيه وعلياً 7
في سقيفة بني ساعدة فقال : «أتحبّه يا زبير»؟ قال : وما يمنعني؟ قال : «فكيف بك
إذا قاتلته وأنت ظالم له» .
وعن أبي جرورة المازني قال : سمعت علياً
7 يقول للزبير
: «نشدتك الله أما سمعت رسول الله 6
يقول : إنّك تقاتلني وأنت ظالم»؟ قال : بلى ولكنّي نسيت .
وقوله صلّى اك عليه وآله وسلّم لعمّار
بن ياسر : «تقتلك الفئة الباغية».
أخرجه مسلم في الصحيح .
وعن أبي البختري : أنّ عماراً اُتي
بشربة من لبن فضحك فقيل له : ما يضحك؟ قال : إنّ رسول الله 6 أخبرني وقال هو
__________________
آخر شراب أشربه حين
أموت .
وقوله 6
في الخوارج : «ستكون في اُمّتي فرقة يحسنون القول ويسيئون الفعل ، يدعون إلى كتاب
الله وليسوا منه في شيء ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما
يمرق السهم من الرمية ، لا يرجون إليه حتى يرتدّ على فوقه ، هم شرّ الخلق والخليقة
، طوبى لمن قلتلوه ، طوبى لمن قتلهم ، ومن قتلهم كان أولى بالله منهم».
قالوا : يا رسول الله فما سيماهم؟
قال : «التحليق».
رواه أنس بن مالك عنه 6.
وقوله 6
لأمير المؤمنين عليّ 7
: «الاُمّة ستغدر بك بعدي» .
وقوله 6
: «تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين» .
ومن ذلك : إخباره بقتل معاوية حِجراً
وأصحابه فيما رواه ابن وهب عن
__________________
أبي لهيعة عن أبي
الأسود قال : دخل معاوية على عائشة فقالت : ما حملك على قتل أهل عذراء ، حجراً وأصحابة؟ فقال : يا اُمّ
المؤمنين إنّي رأيت قتلهم صلاحاً للاُمّة وبقاءهم فساداً للاُمّة.
فقالت : سمعت رسول الله 6 قال : «سيُقتل بعذراء ناس يغضب الله
لهم وأهل السماء» .
وروى ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن
عبدالله بن زرير الغافقي قال : سمعت عليّاً 7
يقول : «يا أهل العراق سيقتل سبعة نفر بعذراء مثلهم كمثل أصحاب الاُخدود» فقتل حجر
بن عدي وأصحابه .
ومن ذلك : إخباره بقتل الحسين بن علي 8 ، روى أبو عبدالله الحافظ بإسناده عن
اُمّ سلمة : أنّ رسول الله اضطجع ذات يوم للنوم فاستيقظ وهو خاثر » ، ثمّ اضطجع فرقد ، ثمّ استيقظ وهو
خاثر دون ما رأيت منه في المرّة الاُولى ، ثمّ اضطجع واستيقظ وفي يده تربة حمراء
يقلّبها فقلت : ما هذه التربة يا رسول الله؟
قال : «أخبرني جبرئيل فقال : انّ هذا
يقتل بأرض العراق ـ للحسين 7
ـ فقلت : يا جبرئيل أرني تربة الاَرض التي يقتل بها ، فهذه
__________________
تربتها » .
وعن أنس بن مالك قال : استأذن ملك المطر
أن يأتي رسول الله فاذن له ، فقال لاُمّ سلمة : «احفظي علينا الباب لا يدخل أحدٌ»
فجاء الحسين بن علي 8
فوثب حتى دخل فجعل يقع على منكب النبيّ 6
فقال الملك : «أتحبّه»؟
فقال النبيّ 6 : «نعم».
قال : «اُمّتك ستقتله ، وإن شئت أريتك
المكان الذي يقتل فيه».
قال : فضرب يده فأراه تراباً احمراً ، فأخذته
اُمّ سلمة فصرّته في طرف ثوبها ، فكنّا نسمع أن يقتل بكربلاء .
ومن
ذلك : إخباره بمصارع أهل بيته :؛ روى الحاكم أبو عبدألله الحافظ
بإسناده ، عن سيّد العابدين علي بن الحسين 8
، عن أبيه ، عن جدّه قال : «زارنا رسول الله 6
فعملنا له حريرة ، وأهدت إليه اُمّ أيمن قعباً من زبد وصحفة من تمر ، فأكل رسول
الله 6 وأكلنا معه ،
ثم توضأ رسول الله 6
فمسح رأسه ووجهه بيده واستقبل القبلة فدعا الله ما شاء ثمّ أكبّ إلى الاَرض بدموع
غزيرة مثل المطر ، فهبنا رسول الله 6
أن نسأله ، فوثب الحسين فأكبّ على رسول الله 6
فقال : يا أبه ، رأيتك تصنع ما لم تصنع مثله قطّ؟
__________________
قال : يا بنيّ سررت بكم اليوم سروراً لم
أسرّ بكم مثله ، وإنّ حبيبي جبرئيل أتاني فاخبرني أنّكم قتلى وأن مصارعكم شتّى ، فأحزنني
ذلك ، فدعوت الله لكم بالخيرة.
فقال الحسين 7 : فمن يزورنا على تشتتنا وتبعّد
قبورنا؟
فقال رسول الله 6 طائفة من اُمّتي يريدون به برّي وصلتي
، إذا كان يوم القيامة زرتها بالموقف وأخذت بأعضادها فأنجيتها من أهواله وشدائده».
ومن ذلك : إخباره بقتلى أهل الحرّة ، فكان كما أخبر ، روي عن أيوب ابن
بشير ، قال : خرج رسول الله 6
في سفرمن أسفاره فلمّا مرّ بحرّة زهرة وقف فاسترجع ، فساء ذلك من معه وظنّوا أنّ
ذلك من أمر سفرهم ، فقال عمر بن الخطّاب : يا رسول الله ما الذي رأيت؟
فقال رسول الله 6 : «أما إنّ ذلك ليس من سفركم».
قالوا : فما هو يا رسول الله؟ قال : «يقتل
بهذه الحرّة خيار اُمتي
__________________
بعد أصحابي».
قال أنس بن مالك : قتل يوم الحرّة
سبعمائة رجل من حملة القرآن فيهم ثلاثة من أصحاب النبيّ 6.
وكان الحسن يقول : لمّا كان يوم الحرّة
قُتل أهل المدينة حتّى كاد لا ينفلت أحدٌ ، وكان فيمن قتل ابنا زينب ربيبة رسول
الله 6 وهما ابنان
من زمعة بن عبد الاَسود ، وكان وقعة الحرّة يوم الاَربعاء لثلاث بقين من ذي الحجّة
سنة ثلاث وستّين .
ومن ذلك : قوله 6 في ابن عباس : «لن يموت حتّى يذهب بصره
ويؤتى علماً»
فكان كما قال.
__________________
وقوله 6
في زيد بن أرقم وقد عاده من مرض كان به : «ليس عليك من مرضك بأس ، ولكن كيف بك إذا
عمّرت بعدي فعميت»؟
قال : إذاً أحتسب وأصبر.
قال : «إذاً تدخل الجنّة بغير حساب» .
ومن
ذلك : قوله 6
في الوليد بن يزيد ، رواه الاَوزاعي ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيّب قال : ولد
لاَخي أمّ سلمة من اُمّها غلام فسمّوه الوليد فقال النبيّ 6 : «تسمّون بأسماء فراعنتكم ، غيّروا
اسمه ، فسمّوه عبدالله ، فإنّه سيكون في هذه الاُمّة رجل يقال له : الوليد هو شرّ
لاُمّتي من فرعون لقومه».
قال : فكان الناس يرون أنّه الوليد بن
عبد الملك ثمّ رأينا أنّه الوليد بن يزيد .
ومن ذلك : قوله 6 في بني أبي العاص وبني اُمّية ، روى
أبو سعيد الخدريّ عنه أنّه قال 6
: «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا دين الله دغلاً ، وعباد الله خولاً
، ومال الله دولاً».
وفي رواية أبي هريرة : «أربعين رجلاً» .
ابن موهب قال : كنت عند معاوية بن أبي
سفيان فدخل عليه مروان
__________________
يكلّمه في حاجته
فقال : اقض حاجتي فوالله إنّ مؤونتي لعظيمة وإنّي أبو عشرة وعمّ عشرة وأخو عشرة.
فلمّا أدبر مروان وابن عباس جالس معه على السرير فقال معاوية : اشهد بالله يا ابن
عباس أما تعلم أنّ رسول الله قال : «إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال
الله بينهم دولاً ، وعباد الله خولاً ، ودين الله دغلاً ، فإذا بلغوا تسعة وتسعين
وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة»؟
فقال ابن عباس : اللّهم نعم.
وترك مروان حاجة له ، فرد عبد الملك إلى
معاوية فكلّمه ، فلمّا أدبر عبد الملك قال : أنشدك الله يا ابن عباس أما تعلم أنّ
رسول الله 6 ذكر هذا
فقال : «أبو الجبابرة الاَربعة»؟
قال ابن عبّاس : اللّهم نعم .
يوسف بن مازن الراسبي قال : قام رجل إلى
الحسن بن عليّ 8
فقال : يا مسوّد وجه المؤمنين.
فقال الحسن : «لا تؤنّبني رحمك الله ، فإنّ
رسول الله 6 رأى بني
اُميّة يخطبون على منبره رجلاً فرجلاً فساءه ذلك ، فنزلت(اِنّا
اَعطَيناك الكَوثَر)
الكوثر نهر في الجنّة ، ونزلت (اِنّا اَنزَلناهُ في
لَيلَة القَدرِ * وَما اَدراك ما
لَيلَةُ القَدرِ * لَيلَةُ القَدرِ
خَيرٌ مِن اَلفِ شَهرٍ)
يعني ألف شهر تملكه بنو اُميّة».
فحسبنا ذلك فإذا هو لا يزيد ولا ينقص
__________________
والروايات في هذا الفنّ من الآيات كثيرة
لا يتّسع لذكر جميعها هذا الكتاب ، وفي ما أوردناه كفاية لذوي الاَلباب.
* * *
(الباب الثالث)
في ذكر مختصر من أحوال
رسول الله 6
من لدن مبعثه إلى وقت هجرته
إلى المدينة ،
ثم إلى أن اُمر 6
بالقتال ،
وبعض ماظهر من الآيات
والمعجزات
في أثناء هذه الأحوال
وفيه
ثمانية فصول :
(الفصل الأول)
في ذكر مبدأ المبعث
ذكر عليّ بن إبراهيم بن هاشم ـ وهو من
أجلّ رواة أصحابنا ـ في كتابة : أنّ النبيّ 6
لمّا أتى له سبع وثلاثون سنة كان يرى في نومه كأنّ آتياً أتاه فيقول : يا رسول
الله ، فينكر ذلك ، فلمّا طال عليه الأمر وكان بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالب
فنظر إلى شخص يقول له : «يا رسول الله».
فقال له : «من أنت»؟
قال : «جبرئيل ، أرسلني الله ليتّخذك
رسولاً».
فأخبر رسول الله 6 خديجة بذلك ، وكانت خديجة قد انتهى
إليها خبر اليهودي وخبر بحيراء وما حدّثت به آمنة اُمّه ، فقالت : يا محمّد إنّي
لأرجوا أن تكون كذلك.
وكان رسول الله 6 يكتم ذلك فنزل عليه جبرئيل 7 وأنزل عليه ماءً من السماء فقال : «يا
محمّد قم توضّأ للصلاة» فعلّمه جبرئيل الوضوء على الوجه واليدين من المرفق ومسح
الرأس والرجلين إلى الكعبين وعلّمه السجود والركوع.
فلمّا تمّ له صلّى الله عليه وسلّم
أربعون سنة أمره بالصلاة وعلّمه حدودها ، ولم ينزل عليه أوقاتها ، فكان رسول الله
صلّى عليه وآله وسلّم يصلّي ركعتين ركعتين في كلّ وقت.
وكان عليّ بن أبي طالب 7 يألفه ويكون معه في مجيئه وذهابه لا
يفارقه ، فدخل على رسول الله 6
وهو يصلّي ،
فلمّا نظر إليه
يصلّي قال : «يا أبا القاسم ما هذا»؟
قال : «هذه الصلاة التي أمرني الله
بها».
فدعاه إلى الاسلام ، فأسلم وصلّى معه ، وأسلمت
خديجة ، فكان لا يصلّي إلاّ رسول الله ، وعليّ وخديجة : خلفه.
فلمّا أتى لذلك أيّام دخل أبو طالب إلى
منزل رسول الله 6
ومعه جعفر ، فنظر إلى رسول الله وعليّ 8
بجنبه يصلّيان ، فقال لجعفر : ياجعفر صل جناح ابن عمّك ، فوقف جعفر بن أبي طالب 7 من جانب الآخر ، فلمّا وقف جعفر على
يساره بدر رسول الله 6
من بينهما وتقدّم ، وأنشأ أبو طالب في ذلك يقول :
إنّ عليّاً وَجعفـّـراً ثـقـتــي
|
|
عندَ ملمِّ الـزمـان والكربِ
|
والله لا أخـذلُ الـنـبــيّ ولا
|
|
يَخذِلهُ مِن بنيّ ذو حـسـبِ
|
لا تـخـذلا وانصرا ابن عمّكما
|
|
أخـي لاُمّـي مِن بينهم وأبي
|
قال : وكان رسول الله 6 يتّجر لخديجة قبل أن يزوّج بها وكان
أجيراً لها ، فبعثته في عير لقريش إلى الشام مع غلام لها يقال له : ميسرة ، فنزلوا
تحت صومعة راهب من الرهبان ، فنزل الراهب من الصومعة ونظر إلى رسول الله 6 فقال : من هذا؟
قالوا : هذا ابن عبد المطّلب.
قال : لا ينبغي أن يكون أبوه حيّاً ، ونظر
إلى عينيه وبين كتفيه فقال : هذا نبيّ الاُمّة ، هذا نبيّ السيف.
فرجع ميسرة إلى خديجة فأخبرها بذلك ، وكان
هذا هو الذي أرغب خديجة في تزويجها نفسها منه ، وربحت في تلك السفرة ألف دينار.
ثمّ خرج رسول الله 6 إلى بعض أسواق العرب فرأى زيداً ووجده
غلاماً كيّساً فاشتراه لخديجة ، فلمّا تزوّجها رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم
وهبته منه ، فلمّا نبىء رسول الله 6
وأسلم علي أسلم زيد بعده ، فكان يصلّي خلف رسول الله 6
علي وجعفر وزيد وخديجة.
وذكر الشّيخ أبو بكر أحمد بن الحسين
البيهقي في كتاب دلائل النبوّة : أخبرنا أبو عبدالله الحافظ قال : حدّثنا أبو
محمّد بن أحمد بن عبدالله المزني ، قال : حدّثنا يوسف بن موسى المرورذي ، قال : حدّثنا
عباد بن يعقوب ، قال : حدّثنا يوسف بن أبي ثور ، عن السدّي عن عباد بن عبدالله ، عن
عليّ 7 قال : «كنّا
مع رسول الله 6
بمكّة فخرج في بعض نواحيها ، فما استقبله شجر ولا جبل إلاّ قال له : السلام عليك
يا رسول الله».
وأخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا
محمّد بن جعفر بن محمّد بن نصير ، حدّثنا محمّد بن عبدالله بن سليمان ، حدّثنا
محمّد بن العلاء ، حدّثنا يونس بن عنبسة ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن ، عن السدي ، عن
عباد قال : سمعت عليّاً 7
يقول : «لقد رأيتني أدخل معه ـ يعني النبي 6
ـ الوادي فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلاّ قال : السلام عليك يا رسول الله ، وأنا
أسمعه».
__________________
وأخبرنا الحافظ قال : حدّثنا أبو العباس
محمّد بن يعقوب ، حدّثنا أحمد بن عبد الجبّار ، حدّثنا يونس بن بكير ، عن أبي
إسحاق ، حدّثنا يحيى بن أبي الاَشعث الكندي ، حدّثني إسماعيل بن أياس بن عفيف ، عن
ابيه ، عن جدّه عفيف أنه قال : كنت امرءاً تاجراً ، فقدمت منى أيّام الحج ، وكانالعباس
بن عبدالمطلب امراءاً تاجراً ، فأتيته أبتاع منه وأبيعه ، قال : فبينا نحن إذ خرج
رجلٌ من خباء يصلّي فقام تجاه الكعبة ، ثمّ خرجت امرأة فقامت تصلّي ، وخرج غلام
يصلّي معه ، فقلت : يا عبّاس ما هذا الدين؟ إنّ هذا الدين ما ندري ما هو؟
فقال : هذا محمّد بن عبدالله يزعم أنّ
الله أرسله ، وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه ، وهذه أمرأته خديجة بنت خويلد آمنت
به ، وهذا الغلام ابن عمّه عليّ بن أبي طالب آمن به.
قال عفيف : فليتني كنت آمنت به يومئذ
فكنت أكون ثانياً.
تابعه إبراهيم بن سعد ، عن محمّد بن
إسحاق ، وقال في الحديث : إذ خرج من خباء قريب فنظر إلى السماء فلمّا رآها قد مالت
قام يصلّي. ثمّ ذكر قيام خديجة خلفه .
وأخبرنا أبو الحسين الفضل بإسناد ذكره ،
عن مجاهد بن جبر قال : كان ممّا أنعم الله على عليّ بن أبي طالب 7 وأراد به من الخير أنّ قريشاً أصابتهم
أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير ، فقال رسول الله
__________________
للعبّاس عمّه ـ وكان
من أيسر بني هاشم ـ : «يا عبّاس إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما
ترى من هذه الأزمة ، فانطلق حتّى نخفّف عنه من عياله».
فأخذ رسول الله 6 عليّاً فضمّه إليه ، فلم يزل عليّ مع
رسول الله 6 حتّى بعثه
الله نبيّاً فاتّبعه عليّ وآمن به وصدّقه .
قال عليّ بن إبراهيم : فلمّا أتى لرسول
الله 6 بعد ذلك
ثلاث سنين أنزل الله عليه (فَاصدَع بِما تُؤمَرُ
وَاَعرِض عَنِ المُشركين) فخرج رسول الله 6 وقام على الحجر فقال : «يا معشر قريش
ويا معشر العرب ، أدعوكم إلى عبادة الله تعالى وخلع الأنداد الأصنام ، وأدعوكم إلى
شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله ، فأجيبوني تملكوا بها العرب وتدين لكم
العجم ، وتكونون ملوكاً في الجنّة».
فاستهزؤوا منه وضحكوا وقالوا : جنّ
محمّد بن عبدالله ، وآذوه بألسنتهم ، فقال له أبو طالب : يابن أخي ما هذا؟
قال : «يا عمّ هذا دين الله الذي ارتضاه
لملائكته وأنبيائه ودين إبراهيم والأنبياء من بعده ، بعثني الله رسولاً إلى
الناس».
فقال : ياابن أخي إنّ قومك لا يقبلون
هذا منك ، فاكفف عنهم؟
فقال : «لا أفعل ، فإنّ الله قد أمرني
بالدعاء». فكفّ عنه أبو طالب.
وأقبل رسول الله 6 في الدعاء في كلّ وقت
__________________
يدعوهم ويحذّرهم ، فكان
من سمع من خبره ما سمع من أهل الكتب يُسلمون ، فلمّا رأت قريش من يدخل في الاِسلام
جزعوا من ذلك ومشوا إلى أبي طالب وقالوا : اكفف عنّا ابن أخيك فإنّه قد سفّه
أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرّق جماعتنا.
فدعاه أبو طالب فقال : يا ابن أخي إنّ
القوم قد أتوني يسألونك أن تكفّ عن آلهتهم.
قال : «يا عمّ لا أستطيع ذلك ، ولا
أستطيع أن أخالف أمر ربيّ».
فكان يدعوهم ويحذّرهم العذاب ، فاجتمعت
قريش إليه فقالوا : إلى ما تدعو يا محمّد؟
قال : «إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله
وخلع الاَنداد كلّها».
قالوا : ندع ثلاثمائة وستّين إلهاً
ونعبد إلهاً واحداً؟! فحكى الله سبحانه قولهم ( وَعَجِبُوا اَن
جَاءهُم مُنذِرٌ مِنهُم وَقالَ الكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّاب * اَجَعَلَ الآلِهَةَ
اِلهاً واحِداً اِنّ هذا لَشَيءٌ عُجابٌ )
ـ إلى قوله : ـ ( بَل لَمّا يَذُوقُواعَذابِ ) .
ثمّ اجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا : يا
أبا طالب إن كان ابن أخيك يحمله على هذا الفعل العدم جمعنا له مالاً فيكون أكثر
قريش مالاً.
فدعاه أبو طالب وعرض ذلك عليه ، فقال له
رسول الله 6 : «يا عمّ
مالي حاجة في المال ، فأجيبوني تكونوا ملوكاً في الدينا وملوكاً في الآخرة وتدين
لكم العرب والعجم».
فتفرّقوا ، ثمّ جاءوا إلى أبي طالب
فقالوا : يا أبا طالب أنت سيّد من سادتنا وابن أَيك قد سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا
وفرّق جماعتنا ، فهلمّ ندفع
__________________
إليك أبهى فتى في
قريش وأجملهم وأحسنهم وجهاً وأشبّهم شباباً وأشرفهم شرفاً عمارة بن الوليد ، يكون
لك ابناً وتدفع إلينا محمّداً لنقتله.
فقال : ما أنصفتموني ، تسألوني أن أدفع
إليكم ابني لتقتلوه وتدفعون إليّ ابنكم لاُربّيه! فلمّا آيسوا منه كفّوا .
وفي كتاب دلائل النبوّة : حدّثنا الحافظ
بإسناد ذكره ، عن إبراهيم بن محمّد بن طلحة قال : قال طلحة بن عبيدالله : حضرت سوق
بُصرى فإذا راهب في صومعته يقول : سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحدٌ من أهل الحرم.
قال طلحة : قلت : نعم أنا.
فقال : هل ظهر أحمد بعد؟
قال : قلت : ومن أحمد؟
قال : ابن عبدالله بن عبد المطّلب ، هذا
شهره الذي يخرج فيه ، وهو آخر الأنبياء ، مخرجه من الحرم ، ومهاجره إلى نخل وحرّة
وسباخ ، فإيّاك أن تسبق إليه.
قال طلحة : فوقع في قلبي ما قال ، فخرجت
سريعاً حتّى قدمت مكّة فقلت : هل كان من حدث؟
قالوا : نعم محمّد بن عبدالله الاَمين
تنبّأ وقد تبعه ابن أبي قحافة.
قال : فخرجت حتّى دخلت على أبي بكر فقلت
: اتّبعت هذا الرجل؟
قال : نعم ، فانطلق إليه فادخل عليه
فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق.
فأخبره طلحة بما قال الراهب ، فخرج أبو
بكر بطلحة فدخل به على رسول الله 6
فأسلم طلحة وأخبر رسول الله صلّى الله
__________________
عليه وآله وسلّم بما
قال الراهب فسرّ رسول الله 6
بذلك ، فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدويّة فشدّهما في حبل
واحد ولم يمنعهما بنو تيم ، وكان نوفل بن خويلد يدعى أسد قريش .
* * *
__________________
(الفصل الثاني)
في ذكر اعتراف مشركي قريش
بما في القرآن من الإعجاز
وأنّه لا يشبه شيئاً من
لغاتهم
مع كونهم من أرباب اللغة
والبيان
وكان رسول الله 6 لا يكفّ عن عيب آلهة المشركين ويقرأ
عليهم القرآن فيقولون : هذا شعر محمّد ، ويقول بعضهم : بل هو كهانة ، ويقول بعضهم
: بل هو خطب.
وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً ، وكان
من حكام العرب يتحاكمون إليه في الأمور وينشدونه الأشعار ، فما اختاره من الشعر
كان مختاراً ، وكان له بنون لا يبرحون مكّة ، وكان له عبيد عشرة عند كلّ عبد ألف
دينار يتّجر بها ، وملك القنطار في ذلك الزمان ، والقنطار جلد ثور مملوءٌ ذهباً ، وكان
من المستهزئين برسول الله 6
وكان عمّ أبي جهل بن هشام ، فقالوا له : يا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمّد أسحر
أم كهانة أم خطب؟
فقال : دعوني أسمع كلامه.
فدنا من رسول الله وهو جالسٌ في الحجر
فقال : يا محمّد أنشدني من شعرك.
فقال : «ما هو شعر ولكنّه كلام الله
الذي بعث أنبياءه ورسله».
فقال : اُتل عليّ منه.
فقرأ عليه رسول الله 6 «بسم الله الرحمن الرحيم» فلمّا سمع
الرحمن استهزأ فقال : تدعو إلى رجل باليمامة يسمى
الرحمن؟
قال : «لا ولكنّي أدعو إلى الله وهو
الرحمن الرحيم».
ثمّ افتتح (حم السجدة) فلما بلغ إلى
قوله : (فَاِن اَعرَضُوا فَقُل اَنذَرتُكُم صاعِقَةً
مِثلَ عادٍ وَثَمُودَ)وسمعه اقشعرّ جلده وقامت كلّ شعرة في
رأسه ولحيته ، ثمّ قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش ، فقالت قريش : يا ابا
الحكم صبا ابو عبد شمس إلى دين محمّد ، أما تراه لم يرجع إلينا وقد قبل قوله ومضى
إلى منزله ، فاغتمّت قريش من ذلك غمّاً شديداً وغدا عليه أبو جهل فقال : يا عمّ
نكست برؤوسنا وفضحتنا.
قال : وما ذلك يابن أخي؟
قال : صبوت إلى دين محمّد.
قال : ماصبوت وإنّي على دين قومي وآبائي
ولكنّي سمعت كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود.
قال أبو جهل : أشعر هو؟
قال : ما هو بشعر.
قال : فخطب هي؟
قال : لا إنّ الخطب كلام متّصل وهذا
كلام منثور ، لا يشبه بعضه بعضاً ، له طلاوة.
قال : فكهانة هو؟! فكأنّه هي.
قال : لا.
قال : فما هو؟
قال : دعني اُفكّر فيه.
__________________
فلما كان من الغد ، قالوا : يا عبد شمس
ما تقول؟
قال : قولوا : هو سحرٌ فإنه أخذ بقلوب
الناس ، فأنزل الله تعالى فيه : ( ذَرنِي وَمَن خَلَقتُ
وَحِيداً * وَجَعَلتُ لَهُ مالاً مَمدُوداً
* وَبَنينَ
شُهُوداً )
إلى قوله (عَلَيها تِسعَةَ عَشَرَ) .
وفي حديث حمّاد بن زيد ، عن أيّوب ، عن
عكرمة قال : جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله 6
فقال له : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه ( إنَّ الله يأمُرُ
بِالعَدلِ والاِحسَانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ
وَالبِغيِ لعلّكُم تَذَكَّرُون ).
فقال : أعد ، فأعاد.
فقال : والله إنّ له لحلاة ، وإنّ عليه
لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وما يقول هذا بشرٌ.
__________________
(الفصل الثالث)
في ذكر كفاية الله المستهزئين
وما ظهر فيها من الآيات
قال : وكان المستهزئون برسول الله خمسة
نفر : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل السهميّ ، والأسود بن المطّلب وهو أبو
زمعة؛ والأسود بن عبد يغوث من بني زهرة؛ والحارث بن الطلاطلة الخزاعيّ ، قال : فمرّ
الوليد بن المغيرة برسول الله صلى عليه وآله وسلّم ومعه جبرئيل 7 فقال : «يا محمّد هذا الوليد بن
المغيرة وهو من المستهزئين». فقال : «نعم».
وكان مرّ برجل من خزاعة على باب المسجد
وهو يريش فلما نبالاً له فوطأ على بعضها فأصاب أسفل عقبه قطعة من ذلك فدميت ، فلما
مرّ جبرئيل أشار جبرئيل إلى ذلك الموضع ، فرجع إلى منزله ونام على سريره ، وكانت
ابنته نائمة أسفل منه فانفجر ذلك الموضع الذي أشار إليه جبرئيل أسفل عقبه ، فسال
الدم حتّى صار على فراش ابنته فصاحت ابنته وقالت : يا جارية انحلّ وكاء القربة.
فقال لها الوليد : يا بنيّة ما هذا ماء
القربة ولكنّه دم أبيك ، فاجمعي لي ولدي وولد أخي فإنّي ميّت ، فلمّا حضروا أوصاهم
بوصيّته وفاظت نفسه.
ومرّ الأسود بن المطّلب برسول الله 6 ، فأشار جبرئيل 7 إلى بصره فعمي ، ثمّ مات بعد ذلك.
ومرّ به الأسود بن عبد يغوث ، فأشار
جبرئيل إلى جبرئيل إلى بطنه فاستسقى فانتفخ حتّى انشقّ بطنه.
ومرّ به العاص بن الوائل ، فأشار جبرئيل
إلى رجله فدخلت جذلةفي
أخمص قدميه وخرجت من ظاهر قدمه ، فورمت رجله فمات.
ومرّ به [ابن] الطلاطلة ، فتفل جبرئيل
في وجهه فخرج إلى جبال تهامة فأصابه السمائم فاحترق واسودّ ، فرجع إلى منزله فلم
يدعوه أن يدخل وقالوا : لست بصاحبنا ، فخرج من منزله فأصابه العطش فما زال يستسقي
حتّى انشقّ بطنه وهو قول الله تعالى : (اِنّا كَفَيناكَ
المُستَهزئينَ)
__________________
(الفصل الرابع)
في ذكر الهجرة إلى الحبشة
وتصديق النجاشي له ومن تبعه عليه
السلام
لمّا اشتدّت قريش في أذى رسول الله 6 وأصحابه أمرهم رسول الله 6 أن يخرجوا إلى الحبشة ، وأمر جعفر أن
يخرج بهم ، فخرج جعفر وخرج معه سبعون رجلاً حتّى ركبوا البحر ، فلمّا بلغ قريشاً
خروجهم بعثوا عمرو بن العاص السهميّ وعمارة بن الوليد إلى النجاشي أن يردهم إليهم
، وأن يعلماه أنّهم مخالفون لهم ، فخرج عمارة وكان شابّاً حسن الوجه مترفاً ، وأخرج
عمرو بن العاص أهله ، فلمّا ركبوا السفينة شربوا الخمر فقال عمارة لعمرو بن العاص
: قل لاَهلك تقبّلني.
فقال : سبحان الله أيجوز هذا؟! فتركه
حتّى انتشى ، وكان على صدر السفينة فدفعه عمارة وألقاه في البحر ، فتشبّث عمرو
بصدر السفينة وأدركوه فأخرجوه ، فلمّا أن رأى عمرو ما فعل به عمارة قال لاَهله : قبّليه!!
فوردوا على النجاشي فدخلوا عليه ـ وقد
كانوا حملوا إليه هدايا ـ فقال عمرو : أيّها الملك إنّ قوماً منّا خالفونا في
ديننا وصاروا إليك فردّهم إلينا.
فبعث النجاشي إلى جعفر فأحضره فقال : يا
جعفر إنّ هؤلاء يسألونني أن أردّكم إليهم.
فقال : أيّها الملك سلهم أنحن عبيد لهم؟
قال عمرو : لا ، بل أحرارٌ كرامٌ.
قال : فسلهم ألهم علينا ديونٌ يطالبوننا
بها؟
قال : لا ، ما لنا عليهم ديونٌ.
قال : فلهم في أعناقنا دماء يطالبوننا
بذحولها.
قال عمرو بن العاص : لا ، ما لنا في
أعناقهم دماء ولا نطالبهم بذحول.
قال : فما تريدون منّا؟
قال عمرو : خالفونا في ديننا ودين
آبائنا ، وسبّوا آلهتنا ، وأفسدوا شبّاننا ، وفرّقوا جماعتنا ، فردّهم إلينا
ليجتمع أمرنا.
فقال جعفر : أيّها الملك خالفناهم لنبيّ
بعثه الله فينا ، أمرنا بخلع الأنداد ، وترك الاستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة
والزكاة ، وحرّم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حلّها ، والزنا والربا والميتة
والدم ، وأمر بالعدل والاِحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر
والبغي.
فقال النجاشي : بهذا بعث الله عيسى بن
مريم ، ثمّ قال النجّاشي : يا جعفر أتحفظ ممّا أنزل الله على نبيّك شيئاً.
قال : نعم.
قال : اقرأ.
فقرأ عليه سورة مريم 3 فلمّا بلغ إلى قوله : (وَهُزّي
اِليكَ بِجِذعِ النّخلَةَ تُساقِط عَلَيك رُطَباً جَنِيّاً
* فَكُلِي
وَاشرَبِي وَقَرّي عَيناً) بكى النجاشي وقال : إنّ هذا هو الحقّ.
فقال عمرو : أيّها الملك إنّ هذا ترك
ديننا فردّه علينا حتّى نردّه إلى بلادنا ، فرفع النجاشي يده فضرب بها وجهه ، ثمّ
قال : لئن ذكرته بسوء
__________________
لاَقتلنّك.
فقال عمرو ـ والدماء تسيل على ثيابه ـ :
أيّها الملك إن كان هذا كما تقول فإنّا لا نعرض له ، فخرج من عنده.
وكانت على رأس النجاشي وصيفة له تذبّ
عنه فنظرت إلى عمارة بن الوليد وكان فتى جميّلاً ، فلمّا رجع عمرو بن العاص إلى
منزله قال لعمارة : لو راسلت جارية الملك ، فراسلها عمارة فأجابته فقال لعمرو بن
العاص : قد أجابتني.
قال : قل لها : تحمل إليك من طيب الملك
شيئاً ، فقال لها ، فحملته إليه فأخذه عمرو بن العاص وكان الذي فعل به عمارة ـ حيث
ألقاه في البحر ـ في قلبه ، فأدخل الطيب على النجاشي فقال : أيها الملك إنّ من
حرمة الملك وحقّه علينا وإكرامه إيّاناإذا دخلنا بلاده ونأمن فيه أن لا نغشّه ، وإنّ
صاحبي هذا الذي معي قد راسل حرمتك وخدعها وبعثت إليه من طيبك ، فعرض عليه طيبه ، فغضب
النجاشي لذلك غضباً شديداً ، وهمّ أن يقتل عمارة ثمّ قال : لا يجوز قتله لاَنّهم
دخلوا بلادي بأمان ، فدعا السحرة وقال : اعملوا به شيئاً يكون عليه أشدّ من القتل.
فأخذوه ونفخوا في إحليله شيئاً من
الزئبق فصار مع الوحش ، فكان يغدو معهم ولا يأنس بالناس ، فبعثت قريش بعد ذلك في
طلبه ، فكمنوا له فى موضع فورد الماء مع الوحش فقبضوا عليه ، فما زال يضطرب في
أيديهم ويصيح حتّى مات ، فرجع عمرو إلى قريش فأخبرهم خبره وأنّه بقي جعفر بأرض
الحبشة في أكرم كرامة ، فما زال بها حتّى بلغه أنّ رسول الله 6 قد هادن قريشاً وقد وقع بينهم صلح ، فقدم
بجمع من معه ووافى رسول الله 6
وقد فتح خيبر.
وولد لجعفر من أسماء بنت عميس بالحبشة
عبدالله بن جعفر ، وولد
للنجاشي ابن فسمّاه
محمداً وسقته أسماء من لبنها.
وقال أبو طالب ـ يحضّ النجاشي على نصرة
النبيّ 6 واتّباعه ـ
:
تعلم مليك الحبش أنّ محمـداً
|
|
نبيّ كموسى والمسيـح ابن مريم
|
أتى بالهدى مثل الذي أتيا به
|
|
وكلّ بأمر الله يـهدي ويـعـصـم
|
وإنّـكم تـتـلـونـه في كتابـكـم
|
|
بصدق حديث لا حديث التـرجّم
|
فلا تجعلوا لله ندّا وأسلـمـوا
|
|
فإنّ طريق الحقّ ليس بمظلم
|
وفيما رواه أبو عبدالله الحافظ بإسناده
، عن محمّد بن إسحاق قال : بعث رسول الله 6
عمرو بن اُميّة الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه وكتب معه
كتاباً
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمّد رسول الله إلى النجاشي الأصحم
ملك الحبشة.
سلامٌ عليك ، فإنّي أحمد إليك الله
الملك القدّوس المؤمن المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى
مريم البتول الطيّبة الحصينة ، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده
ونفخه ، وإنّي أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني
وتؤمن بي وبالذي جاءني ، فإنّي رسول الله ، وقد بعثت إليكم ابن عمّي جعفرا ومعه
نفر من المسلمين ، فإذا جاءوك فأقرهم ودع التجبّر ، فإنّي أدعوك وجنودك إلى الله ،
وقد بلّغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي ، والسلام على من
__________________
اتبع الهدى».
فكتب النجاشي إلى رسول الله 6 :
بسم الله الرحمن الرحيم
الى محمّد رسول الله من النجاشي الأصحم
بن أبحر.
سلام عليك يا نبيّ الله من الله ورحمة
الله وبركاته ، لا إله إلاّ هو الذي هداني إلى الاِسلام ، وقد بلغني كتابك ، يا
رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى ، فوربّ السماء الأرض إنّ عيسى ما يزيد على ما
ذكرت ، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ، وقد قربنا ابن عمّك وأصحابه ، فأشهد أنّك
رسول الله صادقاً مصدّقاً ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمّك وأسلمت على يديه لله ربّ
العالمين ، وقد بعثت إليك يا نبي الله اريحا بن الأصحم بن أبحر ، فإنّي لا أملك
إلاّ نفسي ، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله ، فإنّي أشهد أن ما تقول حقّا.
ثمّ بعث إلى رسول الله 6 بهدايا ، وبعث إليه بمارية القبطيّة ، اُمّ
إبراهيم ، وبعث إليه بثياب وطيب كثير وفرس ، وبعث إليه ثلاثين رجلاً من القسّيسين
لينظروا إلى كلامه ومقعده ومشربه ، فوافوا المدينة ودعاهم رسول الله 6 إلى الاِسلام فأمنوا ورجعوا إلى
النجاشي.
وفي حديث جابر بن عبدالله : أنّ رسول
الله 6 صلّى على
أصحمة النجاشي
__________________
(الفصل الخامس)
في ذكر ما لقي رسول الله صلى الله عليه وآله
من أذى المشركين ، وإسلام حمزة بن عبد المطّلب
قال : وجدّت قريش في أذى رسول الله 6 ، وكان أشدّ الناس عليه عمّه أبو لهب ،
وكان رسول الله 6
ذات يوم جالساً في الحجر فبعثوا إلى سلىالشاة
فألقوه على رسول الله 6
فاغتمّ رسول الله من ذلك فجاء إلى أبي طالب ، فقال : يا عمّ كيف حسبي فيكم؟
قال : وما ذاك يا ابن أخ؟
قال : إن قريشاً ألقوا عليّ سلى.
فقال لحمزة : خذ السيف ، وكانت قريش
جالسة في المسجد ، فجاء أبو طالب 7
ومعه السيف وحمزة ومعه السيف ، فقال : أمّر السلى على سبالهم فمن أبى فاضرب عنقه ،
فما تحرّك أحدٌ حتّى أمرّ السلى على سبالهم ، ثمّ التفت إلى رسول الله 6 فقال : يابن أخ هذا حسبك فينا
وفي
كتاب دلائل النبوّة : عن ابي داود ، عن
شعبة ، عن أبي إسحاق : سمعت عمرو بن ميمون يحدّث عن عبدالله قال : بينما رسول الله
صلّى الله
عليه وآله وسلّم
ساجدٌ وحوله ناس من قريش ، وثمّ سلى بعير فقالوا : من يأخذ سلى هذا الجزور أو
البعير فيقذفه على ظهره؟ فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهر النبيّ 6 ، وجاءت فاطمة 3 فأخذته من ظهره!؟ ودعت على من صنع ذلك.
قال عبدالله : فما رأيت رسول الله دعا
عليهم إلاّ يومئذ فقال : «اللهم عليك الملأ من قريش ، اللّهم عليك أبا جهل بن هشام
، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، واُميّة بن خلف ـ أو
اُبيّ بن خلف ـ» شك شعبة.
قال : عبدالله ولقد رأيتهم قتلوا يوم
بدر واُلقوا في القليب ـ أو قال : في بئر ـ غير أنّ اُميّة بن خلف ـ أو اُبي بن
خلف ـ كان رجلاً بادنّا فتقطّع قبل أن يبلغ به البئر.
أخرجه البخاري في الصحيح.
قال : وأخبرنا الحافظ : أخبرنا أبوبكر
الفقيه ، أخبرنا بشر بن موسى ، حدّثنا الحميدي ، حدّثنا سفيان ، حدّثنا بيان بن
بشر ، وإسماعيل بن أبي خالد قالا : سمعنا قيساً يقول : سمعنا خبّاباً يقول : أتيت
رسول الله 6 وهو متوسّد
برده فى ظلّ الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدّة شديدة فقلت : يا رسول الله ألا
تدعو الله لنا؟
فقعد وهو محمرٌ وجهه ، فقال : «إن كان
مَن كان قبلكم ليمشَّط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه
ذلك عن دينه ،
__________________
ويوضع المنشار على
مفرق رأسه فيشقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتّمن الله هذا الاَمر حتّى يسير
الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله عزّ وجلّ والذئب على غنمه».
رواه البخاري في الصحيح عن الحميدي .
وأخرجناه من وجه آخر عن إسماعيل .
قال : وحدّثنا الحافظ بإسناده ، عن هشام
، عن أبي الزّبير ، عن جابر : أنّ رسول الله مرّ بعمّار وأهله وهم يعذّبون في الله
فقال : «أبشروا آل عمّار فإنّ موعدكم الجنّة» .
وأخبرنا ابن بشران العدل بإسناده ، عن
مجاهد قال : أوّل شهيد كان استشهد في الاِسلام اُمّ عمّارسميّة ، طعنها أبو جهل
بطعنة في قلبها.
وروى عليّ بن إبراهيم بن هاشم بإسناده
قال : كان أبو جهل تعرّض لرسول الله 6
وآذاه بالكلام ، واجتمعت بنو هاشم فأقبل حمزة وكان في الصيد فنظر إلى اجتماع الناس
فقال : ما هذا؟
فقالت له امرأة من بعض السطوح : يا
أبايعلى إنّ عمرو بن هشام تعرّض لمحمّد وآذاه.
فغضب حمزة ومرّ نحو أبي جهل وأخذ قوسه
فضرب بها رأسه ، ثمّ
__________________
احتمله فجلد به
الأرض ، واجتمع الناس وكاد يقع فيهم شرّ ، فقالوا له : يا أبا يعلى صبوت إلى دين
ابن أخيك؟
قال : نعم ، أشهد أن لا إله إلاّ الله
وأنّ محمّداً رسول الله ، على جهة الغضب والحميّة. فلمّا رجع إلى منزله ندم فغدا
على رسول الله 6
فقال : يا ابن أخ أحقاً ما تقول؟
فقرأ عليه رسول الله صلّى عليه وآله
وسلّم سورة من القرآن ، فاستبصر حمزة ، وثبت على دين الاِسلام ، وفرح رسول الله 6 وسرّ باسلامه أبو طالب ، فقال في ذلك :
صـبـراً أبـا يـعـلى على دين أحمد
|
|
وكن مـظهراً للـدين وفّقت صـابرا
|
وحط من أتى بالدين من عـنـد ربـّه
|
|
بصدق وحقّ لا تكن حـمزة كافـرا
|
فقد سـرّني إذ قلتَ أنـّك مـؤمـن
|
|
فكن لـرسول الله فـي الله ناصـرا
|
وناد قـريشـاً بـالذي قـد أتيتـه
|
|
جهاراً وقل ما كان أحمد ساحرا
|
_________________
(الفصل السادس)
في ذكر إسرائه 6
إلى بيت المقدس
ودخوله بعد ذلك في شعب أبي طالب رحمة الله عليه
ثمّ اُسري برسول الله 6 إلى بيت المقدس ، حمله جبرئيل على
البراق فأتى به بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلّى بهم وردّه ، فمرّ رسول
الله 6 في رجوعه
بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية فشرب منه واكفأ ما بقي ، وقد كانوا أضلّوا بعيراً
لهموكانوا يطلبونه ، فلمّا أصبح قال لقريش : «إنّ الله قد أسرى بي إلى بيت المقدس
فأراني آيات الأنبياء ومنازلهم وإنّي مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد اضلّوا
بعيراً لهم فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك».
فقال أبو جهل : قد امكنتكم الفرصة منه ،
فسألوه كم فيها من الأساطين والقناديل؟
فقالوا : يا محمّد ، إنّ ههنا من قد دخل
بيت المقدس ، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه.
فجاء جبرئيل 7 فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه ، فجعل
يخبرهم بما سألوه عنه ، فلمّا أخبرهم قالوا : حتّى يجيء العير نسألهم عمّا قلت.
فقال لهم رسول الله 6 : «تصديق ذلك أنّ العير يطلع عليكم عند
طلوع الشمس يقدمها جملٌ أحمر عليه عزارتان».
فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى
العقبة ويقولون : هذه الشمس تطلع الساعة ، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم العير حين
طلوع القرص يقدمها جمل أحمر ، فسألوهم عمّا قال رسول الله 6 ،
قالوا : لقد كان هذا
، ضلّ جمل لنا ، في موضع كذا وكذا ، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد اُريق الماء. فلم
يزدهم ذلك إلاّ عتوّاً.
فاجتمعوا في دار الندوة وكتبوا بينهم
صحيفة أن لا يواكلوا بني هاشم ولا يكلّموهم ولا يبايعوهم ولا يزوّجوهم ولا
يتزوّجوا إليهم ولا يحضروا معهم حتّى يدفعوا محمّداً إليهم فيقتلونه ، وأنّهم يد
واحدة على محمّد 6
ليقتلوه غيلة أو صراحاً.
فلمّا بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم
ودخل الشعب ، وكانوا أربعين رجلاً ، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم والركن
والمقام لئن شاكت محمّداً شوكة لآتيّن عليكم يا بني هاشم.
وحصّن الشعب ، وكان يحرسه بالليل
والنهار ، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول الله مضطجع ثمّ يقيمه ويضجعه في
موضع آخر ، فلا يزال الليل كلّه هكذا ، ويوكل ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار ،
وأصابهم الجهد ، وكان من دخل من العرب مكّة لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ومن
باع منهم شيئاً انتهبوا ماله.
وكان أبو جهل ، والعاص بن وائل السهميّ
، والنضر بن الحارث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات التي تدخل
مكّة ، فمن رأوه معه ميرة
نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذّروه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله.
وكانت خديجة لها مالٌ كثيرٌ فأنفقته على
رسول الله 6 في الشعب.
ولم يدخل في حلف الصحيفة مطعم بن عديّ
بن نوفل بن
__________________
عبد المطّلب بن عبد
مناف ، وقال : هذا ظلمٌ.
وختموا الصحيفة بأربعين خاتماً ختمه كلّ
رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلّقوها في الكعبة ، وتابعهم أبو لهب على ذلك.
وكان رسول الله 6 يخرج في كلّ موسم فيدور على قبائل العرب
فيقول لهم : «تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربّي وثوابكم على الله الجنّة»
وأبو لهب في أثره فيقول : لا تقبلوا منه فإنّه ابن أخي وهو كذاب ساحر. فلم تزل هذه
حاله فبقوا في الشعب أربع سنين لا يأمنون إلاّ من موسم إلى موسم ، ولا يشترون ولا
يبايعون إلاّ في الموسم ، وكان يقوم بمكّة موسمان في كلّ سنة : موسم للعمرة في رجب
، وموسم للحجّ في ذي الحجّة ، وكان إذا اجتمعت المواسم تخرج بنو هاشم من الشعب
فيشترون ويبيعون ثمّ لا يجسر أحدٌ منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني ، فأصابهم الجهد
وجاعوا ، وبعثت قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمّداً حتى نقتله ونملّكك علينا ،
فقال : أبو طالب قصيدته الطولية اللامية التي يقول فيها :
فـلـمـّا رأيـت القوم لا ودّ فيهم
|
|
وقد قطـعـوا كلّ الـعرى والوسائل
|
ألـم تـعلـموا أنّ ابـنـنا لا مكذّب
|
|
لديـنـا ولا يعنى بقول الأباطل
|
وأبـيض يـُـسـتسقى الغمام بوجهه
|
|
فهم عـنـده في نعمة وفواضل
|
يـطـوف بـه الـهلاّك من آل هاشم
|
|
حواست جمع كن
|
كَذبتُم ـ وبيت الله ـ يُبزى محمّداً
|
|
ولـمـّـا نـُطاعن دونــهُ ونُقاتِل
|
__________________
ويقول فيها :
ونـُسـلمـهُ حتـّى نُـصـرَّعَ دونه
|
|
ونذهلَ عن أبـنـائـِـنـا والحلائلِ
|
لـعمري لـقد كلـّفت وجداً بأحمدٍ
|
|
وأحببته حبّ الحبيب المواصلِ
|
وَجــدتُ بـنـفسي دونـهُ وحميَتُهُ
|
|
ودارأتُ عنه بالذرى والكـلاكِلِ
|
فلا زال فـي الدنـيا جمالاً لاَهلها
|
|
وشيناً لمن عادى وزينُ المحافلِ
|
حَليماً رشيداً حازماً غير طائـشٍ
|
|
ـوالـي إلـه الـحـقِّ لـيس بماحلِ
|
فـأيـــّده ربّ الـعـبادِ بـنصره
|
|
وأظـهر دينـاً حـقّـه غـيـر باطلِ
|
فلمّا سمعوا هذه القصيدة آيسوا منه ، وكان
أبو العاص بن الربيع ـ وهو ختن
رسول الله 6 ـ يجيء
بالعير بالليل عليها البرّ والتمر إلى باب الشعب ، ثمّ يصيح بها فتدخل الشعب
فيأكله بنو هاشم ، وقال رسول الله 6
: «لقد صاهرنا أبو العاص فأحمدنا صهره ، لقد كان يعمد إلى العير ونحن في الحصار
فيرسلها في الشعب ليلاً».
فلمّا أتى لرسول الله 6 في الشعب أربع سنين بعث الله على
صحيفتهم القاطعة دابّة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم
الله ، ونزل جبرئيل 7
على رسول الله 6
فأخبره بذلك ، فأخبر رسول الله 6
أبا طالب.
فقام أبو طالب ولبس ثيابه ثمّ مشى حتّى
دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلمّا بصروا به قالوا : قد ضجر أبو طالب
وجاء الآن
__________________
ليسلم ابن أخيه.
فدنا منهم وسلّم عليهم فقاموا إليه
وعظّموه وقالوا : يا أبا طالب قد علمنا أنّك أردت مواصلتنا والرجوع إلى جماعتنا
وأن تسلم ابن أخيك إلينا.
قال : والله ما جئت لهذا ، ولكن ابن أخي
أخبرني ـ ولم يكذبني ـ أنّ الله أخبره أنّه بعث على صحيفتكم القاطعة دابّة الأرض
فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم الله ، فابعثوا إلى صحيفتكم
فإن كان حقّاً فاتّقوا الله وارجعوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور وقطعية الرحم
، وإن كان باطلاً دفعته إليكم فإن شئتم قتلتموه وإن شئتم استحييتموه.
فبعثوا إلى الصحيفة فأنزلوها من الكعبة
ـ وعليها أربعون خاتماً ـ فلمّا أتوا بها نظر كلّ رجل منهم إلى خاتمه ثمّ فكّوها
فإذا ليس فيها حرفٌ واحد إلاّ : باسمك اللّهم.
فقال لهم أبو طالب : ياقوم اتّقوا الله
وكفّوا عمّا أنتم عليه. فتفرّق القوم ولم يتكلّم أحدٌ.
ورجع أبو طالب إلى الشعب وقال في ذلك
قصيدته البائيّة التي أوّلها :
ألا مـن لـهم آخـر اللـيل منصب
|
|
وشـعب الـعصـا من قومك المتشعّب
|
وفيها :
وقد كان في أمر الصحيفة عـبرة
|
|
متى ما يخبّر غـائب القوم يعجب
|
مـحـا الله مـنـها كفرهم وعقوقهم
|
|
وما نقموا من ناطق الحقّ معرب
|
وأصبح ما قالوا من الامر باطلاً
|
|
ومن يختلق ما ليـس بالحقّ يكذب
|
وأمسـى ابـن عـبدالله فينا مصدّقاً
|
|
على سخط من قومنا غير معتـب
|
فـلا تحـسـبونـا مسلـمـين محمّداً
|
|
لذي عـزّة مـنـّـا ولا مـتعـزّب
|
سـتـمـنـعــه منّا يد هـاشميـّة
|
|
مُـركـّبهـا في النـاس خير مركّب
|
وقال عند ذلك نفرٌ من بني عبد مناف ، وبني
قصي ، ورجال من
قريش ، ولدتهم نساء
بني هاشم منهم : مطعم بن عدي بن عامر بن لؤي ـ وكان شيخاً كبيراً كثير المال له
أولاد ـ وأبو البختري ابن هاشم ، وزهير بن اُميّة المخزومي في رجال من أشرافهم : نحن
براء ممّا في هذه الصحيفة ، وقال أبو جهل : هذا أمرٌ قضي بليل .
وخرج النبيّ من الشعب ورهطه وخالطوا
الناس ، ومات أبو طالب بعد ذلك بشهرين وماتت خديجة بعد ذلك.
وورد على رسول الله 6 أمران عظيمان وجزع جزعاً شديداً. ودخل
عليه وآله السلام على أبي طالب وهو يجود بنفسه ، فقال : «يا عمّ ربيّت صغيراً ، ونصرت
كبيراً ، وكفّلت يتيماً ، فجزاك الله عنّي خيراً ، أعطني كلمة اُشفع بها لك عند
ربّي».
فقال : يابن أخ لولا أنّي أكره أن يعيروا
بعدي لأقررت عينك. ثمّ مات .
__________________
...................................................................
__________________
وقد روي : أنّه لم يخرج من الدنيا حتّى
أعطى رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم الرّضا .
وفي
كتاب دلائل النبوّة : عن ابن عباس قال : فلمّا
ثقل أبو طالب رُئِي يحرّك شفتيه فأضغى إليه العبّاس يستمع قوله فرفع العباس عنه ، وقال
: يا رسول الله قد والله قال الكلمة التي سألته إيّاها .
وفيه : مرفوعاً عن ابن عبّاس : أنّ
النبيّ 6 عارض جنازة
أبي طالب وقال : «وَصَلَتْكَ رحم وجزيت خيراً يا عمّ» .
وذكر محمّد بن إسحاق بن يسار : أنّ
خديجة بنت خويلد وأبا طالب ماتا في عام واحد فتتابعت على رسول الله المصائب بهلاك
خديجة وأبي طالب ، وكانت خديجة له وزيرة صدق على الاِسلام وكان يسكن إليها .
__________________
وذكر أبو عبدالله بن مندة في كتاب
المعرفة : أنّ وفاة خديجة كانت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام.
وزعم الواقديّ أنّهم خرجوا من الشعب قبل
الهجرة بثلاث سنين ، وفي هذه السنة توفّيت خديجة وأبو طالب وبينهما خمس وثلاثون
ليلة .
__________________
(الفصل السابع)
في ذكر عرض رسول الله 6
نفسه على قبائل العرب ، وما جاء من بيعة
الأنصار إيّاه
على الاِسلام ، وحديث العقبة
في كتاب دلائل النبوّة : عن الزهريّ ، قال
: كان رسول الله 6
يعرض نفسه على قبائل العرب في كلّ موسم ، ويكلّم كلّ شريف قوم ، لا يسألهم مع ذلك
إلاّ أن يؤووه ويمنعوه ويقول : «لا اُكره أحداً منكم على شيء ، من رضي منكم بالذي
أدعوه إليه ، فذاك ، ومن كره لم اُكرهه ، إنّما اُريد أن تحرزوني ممّا يراد بي من
القتل حتّى اُبلّغ رسالات ربّي ، وحتّى يقضي الله عزّ وجلّ لي ولمن صحبني ما شاء
الله» فلم يقبله أحد منهم ولم يأت أحداً من تلك القبائل إلاّ قال : قوم الرجل أعلم
به ، أترون أنّ رجلاً يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه؟!
فالمّا توفّي أبو طالب اشتدّ البلاء على
رسول الله 6 أشدّ ما كان
، فعمد لثقيف بالطائف رجاء أن يؤووه ، فوجد ثلاثة نفر منهم هم سادة ثقيف يومئذ ، وهم
إخوة : عبد ياليل بن عمرو ، وحبيب بن عمرو ، ومسعود بن عمرو ، فعرض عليهم نفسه
وشكا إليهم البلاء وما انتهك منه قومه ، فقال أحدهم : أسرق أستار الكعبة إن كان
الله بعثك بشيء قطّ.
وقال الآخر : أعجزٌ على الله أن يرسل
غيرك؟
وقال الآخر : والله لا اُكلّمك بعد
مجلسك هذا أبداً ، والله لئن كنت رسول الله لأنت أعظم شرفاً وحقاً من أن اُكلّمك ،
ولئن كنت تكذب على الله لأنت شرّ من أن اُكلّمك.
وتهزّؤوا به ، وأفشوا في قومهم الذي
راجعوه به ، فقعدوا له صفّين على طريقه ، فلمّا مرّ رسول الله 6 بين صفّيهم كان لا يرفع رجليه ولا
يضعهما إلاّ رضخوهما بالحجارة ـ وقد كانوا اعدوها ـ حتّى أدْموا رجليه ، فخلص منهم
ورجلاه تسيلان الدماء ، فعمد إلى حائط من حوائطهم واستظلّ في ظلّ حَبَلة منه وهو مكروبٌ موجع ، فإذا في الحائط
عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، فلمّا رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله
ورسوله ، فلمّا رأياه أرسلا إليه غلاماً لهما يدعى عدّاس وهو نصراني من أهل نينوى
معه عنب ، فلمّا جاءه عدّاس قال له رسول الله 6
: «من أيّ أرض أنت»؟
قال : أنا من أهل نينوى.
فقال له 6
: «من مدينة الرجل الصالح يونس بن متّى»؟
فقال له عدّاس : وما يدريك من يونس بن
متّى؟
فقال له رسول الله 6 ـ وكان لا يحقّر أحداً أن يبلّغه رسالة
ربّه ـ : «أنا رسول الله والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متّى».
فلمّا أخبره بما أوحى الله إليه من شأن
يونس بن متّى خرّ عدّاس ساجداً لله ، وجعل يقبّل قدميه وهما تسيلان دماً.
فلمّا بصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما
سكتا ، فلمّا أتاهما قالا له : ما شأنك سجدت لمحمّد وقبّلت قدميه ولم نرك فعلته
بأحد منّا؟
قال : هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته
من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متّى.
__________________
فضحكا وقالا : لا يفتننّك عن نصرانيّتك
، فإنّه رجلٌ خدّاع. فرجع رسول الله إلى مكّة .
قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم : ولمّا
رجع رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم من الطائف وأشرف على مكّة وهو معتمر كره أن
يدخل مكّة وليس له فيها مجيرٌ ، فنظر إلى رجل من قريش قد كان أسلم سرّا ، فقال له
: «ائت الأخنس بن شريق فقل له : إنّ محمداً يسألك أن تجيره حتّى يطوف ويسعى فإنّه
معتمر».
فأتاه وأدّى إليه ما قال رسول الله 6 ، فقال الأخنس : إنّي لست من قريش ، وإنّما
أنا حليف فيهم ، والحليف لا يجير على الصّميم ، وأخاف أن يخفروا جواري ، فيكون ذلك
مسبّة.
فرجع إلى رسول الله 6 فأخبره ، وكان رسول الله 6 في شعب حرّاء مختفياً مع زيد فقال له :
«ائت سهيل بن عمرو فاسأله أن يجيرني حتّى أطوف بالبيت وأسعى».
فأتاه وأدّى إليه قوله ، فقال له : لا
أفعل.
فقال له رسول الله 6 : «إذهب إلى مطعم بن عديّ فسله أن
يجيرني حتّى أطوف وأسعى».
فجاء إليه وأخبره فقال : أين محمّد؟
فكره أن يخبره بموضعه ، فقال : هو قريب ، فقال : ائته فقل له : إنّي قد أجرتك
فتعال وطف واسع ماشئت.
فأقبل رسول الله 6 ، وقال مطعم لولده ،
__________________
واختانه ، وأخيه طعيمة بن عديّ : خذوا سلاحكم
فإنّي قد أجرت محمّداً وكونوا حول الكعبة حتّى يطوف ويسعى ، وكانوا عشرة فأخذوا
السلاح.
وأقبل رسول الله 6 حتّى دخل المسجد ، ورآه أبو جهل فقال :
يا معشر قريش هذا محمّد وحده وقد مات ناصره فشأنكم به.
فقال له طعيمة بن عديّ : يا عمّ لا
تتكلمّ ، فإنّ أبا وهب قد أجار محمّداً. فوقف أبو جهل على مطعم ابن عدّي فقال : أبا
وهب أمجيرٌ أم صابىء؟
قال : بل مجيرٌ.
قال : إذاً لا يخفر جوارك.
فلمّا فرغ رسول الله 6 من طوافه وسعيه جاء إلى مطعم ، فقال : «أبا
وهب قد أجرت وأحسنت ، فردّ عليّ جواري».
قال : وما عليك أن تقيم في جواري؟
قال : «أكره أن اُقيم في جوار مشرك أكثر
من يوم».
قال مطعم : يا معشر قريش ، إنّ محمداً
قد خرج من جواري.
قال علي بن إبراهيم : قدم أسعد بن زرارة
، وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب ، وهما من الخزرج ، وكان بين الأوس
والخزرج حربٌ قد بغوا فيها دهراً طويلاً ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا
بالنهار ، وكان
__________________
اخر حرب بينهم يوم
بعاث ، وكانت
للأوس على الخزرج ، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف
على الأوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه فقال له : إنّه
كان بيننا وبين قومنا حربٌ وقد جئناك نطلب الحلف عليهم.
فقال له عتبة : بعدت دارنا من داركم
ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء.
قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟
قال له عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنّه
رسول الله ، سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرّق جماعتنا.
فقال له أسعد : من هو منكم؟
قال : ابن عبدالله بن عبد المطّلب ، من
أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً.
وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج
يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم ـ النضير وقريظة وقينقاع ـ : أنّ هذا أوان
نبيّ يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة ، لنقتلنّكم به يا معشر العرب. فلمّا سمع ذلك
أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود ، قال : فأين هو؟
قال : جالسٌ في الحجر ، وإنّهم لا
يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلّمه فإنّه ساحرٌ يسحرك
بكلامه. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشّعب.
فقال له أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر ، لابدّ
لي أن أطوف بالبيت؟
قال : ضع في اُذنيك القطن.
فدخل أسعد المسجد وقد حشا اُذنيه بالقطن
، فطاف بالبيت ورسول الله
__________________
6
جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فنظر إليه نظرة فجازه ، فلمّا كان في الشوط
الثاني في نفسه : ما أجد أجهل منّي ، أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا اتعرفه حتّى
أرجع إلى قومي فاُخبرهم؟ ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به وقال لرسول الله صلّى
عليه وآله وسلّم : أنعم صباحاً.
فرفع رسول الله 6 رأسه إليه وقال : «قد أبدلنا الله به
ما هو أحسن من هذا ، تحيّة أهل الجنّة السلام عليكم».
فقال له أسعد : إنّ عهدك بهذا لقريب ، إلى
ما تدعو يا محمّد؟
قال : «إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله
وأنّي رسول الله ، وأدعوكم إلى أن لا تشركوا به شيئاً ، وبالوالدين إحساناً ، ولا
تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإيّاها ، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما
بطن ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ذلك وصاكم به لعلّكم تعقلون ، ولا
تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن حتّى يبلغ أشدّه ، وأوفوا الكيل والميزان
بالقسط ، لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى
وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلّكم تذكّرون».
فلمّا سمع أسعد هذا له : أشهد أن لا إله
إلاّ الله ، وأنّك رسول الله ، يا رسول الله بأبي أنت واُمّي ، أنا من أهل يثرب من
الخزرج ، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبالٌ مقطوعة ، فإن وصلها الله بك فلا أجد
أعزّ منك ، ومعي رجلٌ من قومي ، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمّم الله لنا
أمرنا فيك ، والله يا رسول الله لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك ، ويبشّروننا بمخرجك
، بصفتك ، وأرجوا أن تكون لله دارنا هجرتك ، وعندنا مقامك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك
، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلاّ لنطلب الحلف على قومنا ، وقد
آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له.
ثمّ أقبل ذكوان فقال له أسعد : هذا رسول
الله الذي كانت اليهود تبشّرنا به وتخبرنا بصفته ، فهلّم فاسلم ، فأسلم ذكوان ثمّ
قالا : يا رسول الله ابعث معنا رجلاً يعلّمنا القرآن ويدعو النّاس إلى أمرك.
فقال رسول الله 6 لمصعب بن عمير ، وكان فتى حدثاً مترفاً
بين أبويه يكرمانه ويفضّلانه على أولادهما ولم يخرج من مكّة ، فلمّا أسلم جفاه
أبواه ، وكان مع رسول الله 6
في الشعب حتّى تغّير وأصابه الجهد ، فأمره رسول الله 6
بالخروج مع أسعد ، وقد كان تعلّم من القرآن كثيراً ، فخرجا إلى المدينة ومعهما
مصعب بن عمير فقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول الله وخبره ، فأجاب من كلّ بطن
الرجل والرجلان ، وكان مصعب نازلاً على أسعد بن زرارة ، وكان يخرج في كلّ يوم
فيطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الاِسلام فيجيبه الأحداث ، وكان عبدالله بن
اُبيّ شريفاً في الخزرج ، وقد كان الأوس والخزرج اجتمعوا على أن يملّكوه عليهم
لشرفه وسخائه ، وقد كانوا اتّخذوا له اكليلاً احتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا
يطلبونها ، وذلك أنّه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بعاث ولم يعن على الأوس ، وقال
: هذا ظلم منكم للأوس ولا اُعين على الظلم ، فرضيت به الأوس والخزرج ، فلمّا قدم
أسعد كره عبدالله ما جاء به أسعد وذكوان وفتر أمره. فقال أسعد لمصعب : إنّ خالي
سعد بن معاذ من رؤساء الأوس ، وهو رجلٌ عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف ، فإن
دخل فى هذا الأمر تمّ لنا أمرنا ، فهلمّ نأتي محلّتهم.
فجاء مصعب مع أسعد إلى محلّة سعد بن
معاذ فقعد على بئر من آبارهم واجتمع إليه قوم من أحداثهم وهو يقرأ عليهم القرآن ، فبلغ
ذلك سعد بن معاذ فقال لاُسيد بن حضير وكان من أشرافهم : بلغني أنّ أبا أمامة أسعد
ابن زرارة قد جاء
إلى محلّتنا مع هذا القرشي يفسد شبّاننا ، فأته وانهه عن ذلك.
فجاء اُسيد بن حضير ، فنظر إليه أسعد
فقال لمصعب إنّ هدا رجلٌ شريفٌ ، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمّ أمرنا فأصدق
الله فيه.
فلمّا قرب اُسيد منهم قال : يا أبا
أمامة يقول لك خالك : لا تأتنا في نادينا ، ولا تفسد شبّاننا ، وأحذر الأوس على
نفسك.
فقال مصعب : أو تجلس فنعرض عليك أمراً ،
فإن أحببته دخلت فيه ، وإن كرهته نحّينا عنك ما تكرهه.
فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن ، فقال :
كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟
قال : نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد
الشهادتين ونصلّي ركعتين.
فرمى بنفسه ممع ثيابه في البئر ، ثمّ
خرج وعصر ثوبه ، ثمّ قال : أعرض عليّ.
فعرض عليه شهادة أن لا إله إلاّ الله
وأنّ محمّداً رسول الله ، فقالها ، ثمّ صلّى ركعتين ، ثمّ قال لأسعد : يا أبا
أمامة ، أنا أبعث إليك الآن خالك وأحتال عليه في أن يجيئك.
فرجع اُسيد إلى سعد بن معاذ ، فلمّا نظر
إليه سعد قال : اُقسم أنّ اُسيد قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا ، وأتاهم
سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب(حمَ تنزيلٌ منَ
الرّحمن الرّحيم)
فلمّا سمعها ، قال مصعب : والله لقد رأينا الاِسلام في وجهه قبل أن يتكلّم ، فبعث
إلى منزله وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلّى ركعتين ثمّ قام وأخذ
بيد مصعب وحوّله إليه وقال : أظهر أمرك ولا تهابّن أحداً.
ثمّ جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح :
يا بني عمرو بن عوف لا
يبقيّن رجلٌ ولا
امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبيّ إلاّ خرج ، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب.
فلمّا اجتمعوا قال : كيف حالي عندكم.
قالوا : أنت سيّدنا والمطاع فينا ولا
نردّ لك أمراً فمرنا بما شئت.
فقال : كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم
عليّ حرام حتّى تشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله ، فالحمد لله
الذي أكرمنا بذلك وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به.
فما بقي دارٌ من دور بني عمرو بن عوف في
ذلك اليوم إلاّ وفيها مسلمٌ أو مسلمة ، وحوّل مصعب بن عمير إليه وقال له : أظهر
أمرك وادع الناس علانية.
وشاع الاِسلام بالمدينة وكثر ، ودخل فيه
من البطنين جميعاً أشرافهم ، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود.
وبلغ رسول الله 6 أنّ الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام
، وكتب إليه مصعب بذلك ، وكان كلّ من دخل في الاِسلام من قريش ضربة قومه وعذّبوه ،
فكان رسول الله 6
يأمرهم أن يخرجوا إلى المدينة ، فكانوا يتسلّلون رجلاً فرجلاً فيصيرون إلى المدينة
فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم.
قال : فلمّا قدمت الأوس والخزرج مكّة
جاءهم رسول الله 6
فقال لهم : «تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربكم وثوابكم على الله الجنّة»؟
قالوا : نعم يا رسول الله ، فخذ لنفسك
وربّك ما شئت.
فقال : «موعدكم العقبة في الليلة الوسطى
من ليالي التشريق».
فلمّا حجوا رجعوا إلى منى ، وكان فيه
ممّن قد أسلم بشرٌ كثير ، وكان
أكثرهم مشركين على
دينهم وعبدالله بن اُبّي فيهم ، فقال لهم رسول الله صلّى الله وآله وسلّم في اليوم
الثاني من أيّام التشريق : «فاحضروا دار عبد المطّلب على العقبة ولا تنبّهوا
نائماً ، وليتسلّل واحد فواحد».
وكان رسول الله نازلاً في دار عبد
المطّلب ، وحمزة وعليّ والعبّاس معه ، فجاءه سبعون رجلاً من الأوس والخزرج ، فدخلوا
الدار ، فلمّا اجتمعوا قال لهم رسول الله 6
: «تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على الله الجنّة»؟
فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور
وعبدالله بن حرام : نعم يارسول الله ، فاشترط لنفسك ولربّك.
فقال رسول الله 6 : «تمنعوني ممّا تمنعون أنفسكم ، وتمنعون
أهلي ممّا تمنعون أهليكم وأولادكم».
قالوا : فما لنا على ذلك؟
قال : «الجنّة ، تملكون بها العرب في
الدنيا ، وتدين لكم العجم وتكونون ملوكاً».
فقالوا : قد رضينا.
فقام العباس بن نضلة وكان من الأوس فقال
: يا معشر الأوس والخزرج تعلمون على ما تقدمون عليه؟ إنّما تقدمون على حرب الأبيض
والأحمر ، وعلى حرب ملوك الدنيا ، فإن علمتم أنّه إذا اصابتكم المصيبة في أنفسكم
خذلتموه وتركتموه فلا تغرّوه ، فإنّ رسول الله وإن كان قومه خالفوه فهو في عزّ
ومنعة.
فقال له عبدالله بن حرام وأسعد بن زرارة
وأبو الهيثم بن التيّهان : مالك وللكلام يا رسول الله؟ بل دمنا بدمك ، وأنفسنا
بنفسك ، فاشترط لربّك ولنفسك ما شئت.
فقال رسول الله 6 : «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً
يكفلون عليكم بذلك كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً».
فقالوا : اختر من شئت. فأشار جبرئيل 7 إليهم.
فقال : «هذا نقيبٌ ، وهذا نقيبٌ» حتّى
اختار تسعة من الخزرج ، وهم : أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ، وعبدالله بن
حرام أبو جابر بن عبدالله ، ورافع بن مالك ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعبدالله
بن رواحة ، وسعد بن الربيع ، وعبادة بن الصامت. وثلاثة من الأوس ، وهم : أبو
الهيثم بن التيّهان ـ وكان رجلاً من اليمن حليفاً في بني عمرو بن عوف ـ ، واُسيد
بن حضير ، وسعد بن خيثمة.
فلمّا اجتمعوا وبايعوا رسول الله 6 صاح بهم إبليس : يا معشر قريش والعرب ،
هذا محمّد والصباة من الأوس والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم. فأسمع
أهل منى ، فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح ، وسمع رسول الله 6 النداء فقال للأنصار : «تفرّقوا».
فقالوا : يا رسول الله إن أمرتنا أن
نميل عليهم بأسيافنا فعلنا.
فقال رسول الله صلّى الله وآله وسلّم : «لم
اُومر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم».
فقالوا : يا رسول الله فتخرج معنا.
قال : «أنتظر أمر الله».
فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا
السلاح ، وخرج حمزة ومعه السيف فوقف على العقبة هو وعليّ بن أبي طالب 7 ، فلمّا نظروا إلى حمزة قالوا : ما هذا
الذي اجتمعتم عليه؟
قال : ما اجتمعنا ، وما هاهنا أحد ، والله
لا يجوز أحد هذه العقبة إلاّ ضربته بسيفي.
فرجوا وغدوا إلى عبدالله بن اُبي وقالوا
له : قد بلغنا أنّ قومك بايعوا محمّداً على حربنا. فحلف لهم عبدالله أنّهم لم
يفعلوا ولا علم له بذلك ، وأنّهم لم يطلعوه على أمرهم ، فصدّقوه. وتفرّقت الأنصار
ورجع رسول الله 6
إلى مكّة.
__________________
(الفصل الثامن)
في ذكر مكر المشركين برسول الله صلى الله عليه وآله
وسلّم
واجتماعهم في دار الندوة لذلك ، وذكر هجرته
صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة وما كان
من استقبال
الانصار إيّاه ، ونزوله ما
ظهر من آثار النبوّة وآثارهم ،
ومختصر من أخباره إلى أن امر
بالقتال
ثمّ اجتمعت قريش في دار الندوة وكانوا
أربعين رجلاْ من أشرافهم ، وكان لا يدخلها إلاّ من أتى له أربعون سنة سوى عتبة بن
ربيعة فقد كان سنّهدون الأربعين ، فجاء الملعون أبليس في صورة شيخ فقال له البوّاب
: من أنت؟
قال : أنا شيخ من نجد.
فاستأذن فاذنوا له ، وقال : بلغني
اجتماعكم في أمر هذا الرجل ، فجئتكم لاشير عليكم ، فلا يعدمكم منّي رأي صائب.
فلمّا أخذوا مجلسهم قال أبو جهل : يا
معشر قريش ، إنّه لم يكن أحدُ من العرب أعزّ منّا ونحن في حرم الله وأمنه تفد
إلينا العرب في السنة مرّتين ولا يطمع فينا طامع ، حتّى نشأ فينا محمّد ، فكنّا
نسمّيه الأمين لصلاحه وأمانته ، فزعم أنّه رسول الله ، وسبّ آلهتنا ، وسفّه
أحلامنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرّق جماعتنا ، وقد رأيت فيه رأياً ، وهو أن ندسّ إليه
رجلاً يقتله ، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات.
فقال إبليس : هذا رأي خبيث ، فإنّ بني
هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على الأرض أبداً ، وتقع بينكم الحروب في حرمكم.
فقال آخر : الرأي أن نأخذه فنحبسه في
بيت ونثبته فيه ونلقي إليه قوته
حتّى يموت كما مات
زهير والنابغة.
فقال إبليس : إنّ بني هاشم لا ترضى بذلك
، فإذا جاء موسم العرب اجتمعوا عليكم وأخرجوه فيخدعهم بسحره.
وقال آخر : الرأي أن نخرجه من بلادنا
ونطرده فنفرغ نحن لآلهتنا.
فقال إبليس : هذا أخبث من الرأيين
المتقدّمين ، لأنّكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً ، وافصح الناس لساناً ، وأسحرهم
، فتخرجوه إلى بوادي العرب فيخدعهم بسحره ولسانه ، فلا يفجأكم إلاّ وقد ملأها
عليكم خيلاً ورجلاً.
فبقوا حيارى. ثم قالوا للملعون إبليس : فما
الرأي عندك فيه؟
قال : ما فيه إلاّ رأي واحد ، أن يجتمع
من كلّ بطن من بطون قريش رجلٌ شريفُ ، ويكون معكم من بني هاشم واحد ، فيأخذون
حديدة أو سيفاً ويدخلون عليه فيضربوه كلّهم ضربة واحدة ، فيتفرقّ دمه في قريش
كلّها ، فلايستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه ، فما بقي لهم إلاّ أن
تعطوهم الدية ، فأعطوهم ثلاث ديات.
قالوا : نعم وعشر ديات.
وقالوا بأجمعهم : الرأي رأي الشيخ
النجدي.
فاختاروا خمسة عشر رجلاً فيهم أبو لهب
على أن يدخلوا على رسول الله فيقتلونه ، فأنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله : ( واذ يمكُرُ بك الّذين كفرُوا ليُثبتُوك أو
يقتلوك او يُخرجُوك)الآية
.
ثمّ تفرّقوا على هذا وأجمعوا أن يدخلوا
عليه ليلاً وكتموا أمرهم ، فقال أبو لهب : بل نحرسه فإذا أصبحنا دخلنا عليه.
فباتوا حول حجرة رسول الله 6 وأمر رسول الله
__________________
6
أن يفرش له ، وقال لعليّ بن أبي طالب 7
: «يا عليّ افدني بنفسك».
قال : «نعم يا رسول الله».
قال : «نم على فراشي والتحف ببردي».
فنام 7
على فراش رسول الله والتحف ببردته ، وجاء جبرئيل 7
إلى رسول الله 6
فقال له : «اُخرج» والقوم يشرفون على الحجرة فيرون فراشه وعليّ 7 نائمٌ عليه ، فيتوهّمون أنّه رسول الله
6.
فخرج رسول الله 6 عليهم وهو يقرأ «يس» إلى قوله : (فاغشيناهُم
فهُم لا يُبصرون)
وأخذ تراباً
بكفّه ونثره عليهم وهم نيام ومضى.
فقال له جبرئيل 7 : «يا محمّد ، خذ ناحية ثور» وهو جبل
على طريق منى له سنام كسنام الثور ، فمرّ رسول الله وتلقّاه أبو بكر في الطريق ، فأخذ
بيده ومرّ به ، فلمّا انتهى إلى ثور دخل الغار.
فلمّا أصبحت قريش واضاء الصبح وثبوا في
الحجرة وقصدوا الفراش ، فوثب عليّ 7
إليهم وقام في وجوههم فقال لهم : «ما لكم؟».
قالوا : أين ابن عمّك محمّد؟
قال عليّ 7
: «جعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم له : اُخرج عنّا ، فقد خرج عنكم ، فما
تريدون؟».
فأقبلوا عليه يضربونه ، فمنعهم أبو لهب
، وقالوا : أنت كنت تخدعنا منذ الليلة.
__________________
فلمّا أصبحوا تفرّقوا في الجبال ، وكان
فيهم رجلٌ من خزاعة يقال له : أبو كرز يقفو الآثار ، فقالوا له : يا أبا كرز اليوم
اليوم. فما زال يقفو أثر رسول الله 6
حتّى وقف بهم على باب الحجرة ، فقال : هذه قدم محمد ، هي والله اُخت القدم التي في
المقام ، وهذه قدم أبي قحافة أو ابنه ، وقال : ههنا عبر ابن أبي قحافة.
فلم يزل بهم حتّى وقفهم إلى باب الغار
وقال لهم : ما جازوا هذا المكان ، إما أن يكونوا صعدوا السماء أو دخلوا الأرض.
وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار
ـ وقد ذكرناه فيما قبل
ـ قال : وجاء فارسٌ من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار وهو يقول لهم : «اطلبوه
في هذه الشعاب ، فليس ههنا». فأقبلوا يدورون في الشعاب.
وبقي رسول الله 6 في الغار ثلاثة أيام ، ثمّ أذن الله له
في الهجرة وقال : «اُخرج عن مكّة يا محمد فليس لك بها ناصرٌ بعد أبي طالب» فخرج
رسول الله 6 من الغار ، وأقبل
راع لبعض قريش يقال له : ابن اُريقط فدعاه رسول الله 6
وقال له : «يا ابن اُريقط أءتمنك على دمي؟».
قال : إذاً والله أحرسك وأحفظك ولا أدلّ
عليك ، فأين تريد يا محمد؟
قال : «يثرب».
قال : والله لأسكلنّ بك مسلكاً لا يهتدي
فيه أحدٌ.
قال له رسول الله 6 : «ائت عليّاً وبشّره بأنّ الله قد أذن
لي في الهجرة فيهيّئ لي زاداً وراحلة».
__________________
وقال
أبو بكر : ائت أسماء ابنتي وقل لها : أن
تهيئ لي زاداً وراحلتين ، وأعلم عامر بن فهيرة أمرنا ـ وكان من موالي أبي بكر وقد
كان أسلم ـ وقل له : ائتنا بالزاد والراحلتين.
فجاء ابن اُريقط إلى علي 7 فأخبره بذلك ، فبعث عليّ بن أبي طالب
إلى رسول الله 6
بزاد وراحلة ، وبعث ابن فُهيرة بزاد وراحلتين.
وخرج رسول الله 6 من الغار ، وأخذ به ابن اُريقط علي
طريق نخلة بين الجبال ، فلم يرجعوا إلى الطريق إلاّ بقُديد فنزلوا على اُمّ معبد هناك ، وقد ذكرنا
حديث شاة أمّ معبد والمعجزة التي ظهرت فيها فيما قبل ، وحديث سراقة بن مالك بن جعشم
المدلجيّ ورسوخ قوائم فرسه في الأرض
، فلا وجه لإعادته.
فرجع عنه سراقة ، فلمّا كان من الغد
وافته قريش ، فقالوا : يا سراقة ، هل لك علم بمحمّد؟
فقال : قد بلغني أنّه خرج عنكم ، وقد
نفضت هذه الناحية لكم ولم أر أحداً ولا أثراً ، فارجعوا فقد كفيتكم ما ههنا.
وقد كانت الأنصار بلغهم خروج رسول الله 6 إليهم ، فكانوا يتوقّعون قدومه ، وكان
يخرج الرجال والنساء والصبيان إذا
__________________
أصبحوا إلى طريقه ، فإذا
اشتدّ الحرّ رجعوا .
وروي عن ابن شهاب الزهري قال : كان بين
ليلة العقبة وبين مهاجرة رسول الله 6
ثلاثة أشهر وكانت بيعة الأنصار لرسول الله 6
ليلة العقبة في ذي الحجة ، وقدوم رسول الله 6
المدينة في شهر ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه في يوم الاثنين.
وكانت الأنصار خرجوا يتوكّفون أخباره ، فلمّا آيسوا رجعوا إلى
منازلهم ، فلمّا رجعوا أقبل رسول الله 6
، فلمّا وافى ذا الحُليفة
سأل عن طريق بني عمرو بن عوف ، فدلّوه فرفعه الآل ، فنظر رجل من اليهود وهو على اُطم له إلى ركبان ثلاثة يمرّون على طريق بن
يعمرو بن عوف ، فصاح : يا معشر المسلمة هذا صاحبكم قد وافى. فوقعت الصيحة بالمدينة
فخرج الرجال والنساء والصبيان مستبشرين لقدومه يتعاودون ، فوافى رسول الله 6 وقصد مسجد قبا ونزل واجتمع إليه بنو
عمرو بن عوف ، وسرّوا به واستبشروا واجتمعوا حوله ، ونزل على كلثوم بن الهدم ، شيخ
من بني عمرو ، صالح مكفوف البصر.
واجتمعت إليه بطون الأوس ، وكان بين
الأوس والخزرج عداوة ، فلميجسروا أن يأتوا رسول الله 6
لما كان بينهم من الحروب ، فأقبل رسول الله 6
يتصفّح الوجوه فلا يرى أحداً من الخزرج ، وقد كان قدم على بني عمرو بن عوف قبل
قدوم رسول الله 6
ناسٌ من المهاجرين ، ونزلوا فيهم.
وروي : أنّ النبيّ 6 لمّا قدم المدينة جاء النساء والصبيان
يقلن :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
|
|
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
|
وكان سلمان الفرسيّ عبداً لبعض اليهود ،
وقد كان خرج من بلاده من فارس يطلب الدين الحنيف الذي كان أهل الكتاب يخبرونه به ،
فوقع إلى راهب من رهبان النصارى بالشام فسأله عن ذلك وصحبه فقال : اُطلبه بمكّة
فثم مخرجه ، واطلبه بيثرب فثمّ مهاجره.
فقصد يثرب فأخذه بعض الأعراب فسبوه
واشتراه رجلٌ من اليهود ، فكان يعمل في نخله ، وكان في ذلك اليوم على النخلة
يصرمها
، فدخل على صاحبه رجلٌ من اليهود ، فقال : يا ابا فلان أشعرت أنّ هؤلاء المسلمة قد
قدم عليهم نبيّهم؟
فقال سلمان : جعلت فداك ، ما الذي تقول؟
فقال له صاحبه : مالك وللسؤال عن هذا ، أقبل
على عملك.
قال : فنزل وأخذ طبقاً وصيّر عليه من
ذلك الرطب فحمله إلى رسول الله 6
، فقال له رسول الله 6
:
«ما هذا».
قال : صدقة تمورنا ، بلغنا أنّكم قومٌ
غرباء قدمتم هذه البلاد ، فأحببت أن تأكلوا من صدقاتنا.
فقال رسول الله 6 : «سمّوا وكلوا».
فقال سلمان في نفسه وعقد بإصبعه : هذه
واحدة ــ يقولها بالفارسية ــ ثمّ أتاه بطبق آخر ، فقال له رسول الله 6 : «ما هذا؟».
فقال له سلمان : رأيتك لا تأكل الصدقة ،
وهذه هديّة أهديتها أليك.
فقال عليه وآله السلام : «سمّوا وكلوا»
وأكل عليه وآله السلام. فعقد سلمان بيده اثنين ، وقال له : هذه اثنتان ــ يقولها
بالفارسية ــ.
ثمّ دار خلفه فألقى رسول الله 6 عن كتفه الإزار فنظر سلمان إلى خاتم
النبوّة والشامة فأقبل يقبّلها ، فقال له رسول الله 6
: «من أنت؟».
قال : أنا رجلٌ من أهل فارس ، قد خرجت
من بلادي منذ كذا وكذا.وحدّثه بحديثه وله حديث فيه طول. فأسلم ، وبشّره رسول الله 6 فقال له : « أبشر واصبر ، فإنّ الله
سيجعل لك فرجاً من هذا اليهوديّ».
فلمّا أمسى رسول الله 6 فارقه أبو بكر ودخل المدينة ونزل على
بعض الأنصار ، وبقي رسول الله 6
بقبا نازلاً على كلثوم بن الهدم ، فلمّا صلّى رسول الله 6 المغرب والعشاء الآخرة جاءه أسعد بن
زرارة مقنّعاً فسلّم على رسول الله 6
وفرح بقدومه ، ثمّ قال : يا رسول الله ما ظننتأن أسمع بك في مكان فأقعد عنك ، إلاّ
أنّ بيننا وبين إخواننا من الأوس ما تعلم ، فكرهت أن آتيهم ، فلمّا أن كان هذا
الوقت لم أحتمل أن أقعد عنك.
فقال رسول الله 6 للأوس : «من يجيره منكم؟».
فقالوا : يا رسول الله ، جوارنا في
جوارك فأجره.
قال : «لا ، بل يجيره بعضكم».
فقال عويم بن ساعدة وسعد بن خيثمة : نحن
نجيره يا رسول الله.
فأجاروه ، وكان يختلف إلى رسول الله 6 فيتحدّث عنده ويصلّي خلفه ، فبقي رسول
الله خمسة عشر يوماً ، فجاءه أبو بكر فقال : يا رسول الله تدخل المدينة؟ فإنّ
القوم متشوّقون إلى نزولك عليهم ، فقال 6
: «لا اريم من هذا المكان حتّى يوافي أخي عليّ».
وكان رسول الله 6 قد بعث إليه : أن أحمل العيال وأقدم ، فقال
أبو بكر : ما أحسب عليّاً يوافي ، قال : «بلى ما أسرعه إنشاء الله».
فبقي خمسة عشر يوماً ، فوافى عليّ 7 بعياله ، فلمّا وافى كان سعد بن الربيع
وعبدالله بن رواحة يكسران أصنام الخزرج ، وكان كلّ رجل شريف في بيته صنم يمسحه
ويطيّبه ، ولكلّ بطن من الأوس والخزرج صنم في بيت لجماعة يكرمونه ويجعلون عليه
منديلاً ويذبحون له ، فلمّا قدم الاثنا عشر من الأنصار أخرجوها من بيوتهم وبيوت من
أطاعهم ، فلمّا قدم السبعون كثر الإسلام وفشا ، وجعلوا يكسرون الأصنام.
قال : وبقي رسول الله 6 بعد قدوم عليّ يوماً أو يومين ثمّ ركب
راحلته ، فاجتمعت إليه بنو عمرو بن عوف ، فقالوا : يا رسول الله أقم عندنا فإنّا
أهل الجدّ والجلد والحلفة والمنعة.
فقال عليه وآله السلام : «خلوا عنها فإنّها
مأمورة».
وبلغ الأوس والخزرج خروج رسول الله 6 ، فلبسوا السّلاح وأقبلوا يعدون حول
ناقته ، لا يمرّ بحيّ من أحياء للأنصار إلاّ وثبوا في وجهه وأخذوا بزمام ناقته
وتطلّبوا إليه أن ينزل عليهم ، ورسول الله 9
يقول : «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة» حتّى مرّ ببني سالم.
وكان خروج رسول الله 6 من قبا يوم الجمعة ، فوافى بني سالم
عند زوال الشمس فتعرضت له بنو سالم فقالوا : يا رسول الله هلم إلى الجدّ والجلد
والحلفة والمنعة.
فبركت ناقته عند مسجدهم ، وقد كانوا
بنوا مسجداً قبل قدوم رسول الله 6
، فنزل عليه وآله السلام في مسجدهم وصلّى بهم الظهر وخطبهم ، وكان أوّل مسجد صلّى
فيه الجمعة ، وصلّى إلى بيت المقدس ، وكان الذين صلّوا معه في ذلك الوقت مائة رجل.
ثمّ ركب رسول الله 6 ناقته وأرخى زمامها ، فانتهى إلى
عبدالله بن اُبيّ ، فوقف عليه وهو يقدّر أنّه يعرض عليه النزول عنده ، فقال له
عبدالله بن اُبيّ ــ بعد أن ثارت الغبرة وأخذ كمّه ووضعه على أنفه ــ : يا هذا
اذهب إلى الذين غرّوك وخدعوك وأتوا بك فانزل عليهم ولا تغشنا في ديارنا. فسلّط
الله على دور بني الحبلى الذرّ
فخرق دورهم فصاروا نزالاً على غيرهم ، وكان جدّ عبدالله بن اُبّي يقال له : ابن
الحبلى.
فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله
لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء ، فإنّا كنّا اجتمعنا على أن نملّكه علينا وهو يرى
الآن أنّك قد سلبته أمراً قد كان أشرف عليه ، فانزل عليّ يا رسول الله ، فإنّه ليس
في الخزرج ولافي الأوس أكثر فم بئر منّي ، ونحن أهل الجلد والعزّ ، فلا تجزنا يا
رسول الله.
فأرخى زمام ناقته ، ومرّت تخبّ به حتّى انتهت إلى باب المسجد الذي هو
اليوم ، ولم يكن مسجداً إنّما كان مربداً
ليتيمين من الخزرج يقال لهما : سهل وسهيل ، وكانا في حجر أسعد بن زرارة ، فبركت
الناقة على باب أبي أيّوب خالد بن زيد ، فنزل عنها رسول الله 6 ، فلمّا نزل اجتمع عليه النّاس وسألوه
أن ينزل عليهم ، فوثبت اُمّ أبي أيّوب إلى الرحل فحلّته وأدخلته منزلها ، فلمّا
أكثروا عليه قال رسول الله 6
: «أين الرّحل؟».
فقالوا : اُمّ أبي أيّوب قد أدخلته
بيتها.
فقال 6
: «المرء مع رحله».
وأخذ أسعد بن زرارة بزمام الناقة
فحوّلها إلى منزله ، وكان أبو أيّوب لهم نزل أسفل وفوق المنزل غرفة ، فكره أن يعلو
رسول الله 6 فقال : يا
رسول الله بأبي أنت واُمّي العلوّ أحبّ إليك أم السفل؟ فإنّي أكره أن أعلو فوقك.
فقال 6
: « السفل أرفق بنا لمن يأتينا».
قال أبو أيّوب : فكنّا في العلوّ أنا
واُميّ ، فكنت إذا استقيت الدلو أخاف أن تقع منه قطرة على رسول الله ، وكنت أصعد
واُمّي إلى العلوّ خفيّاً من حيثلا يعلم ولا يحسّ بنا ، ولا نتكلّم إلاّ خفيّاً ، وكان
إذا نام 6 لا نتحرّك ،
وربّما طبخنا في غرفتنا فنجيّف الباب على غرفتنا مخافة أن يصيب رسول الله 6 دخان ، ولقد سقط جرّة لنا
واُهريق الماء فقامت
اُمّ أبي أيّوب إلى قطيفة ــ لم يكن لها والله غيرها ــ فألقتها على ذلك الماء
تستنشف به مخافة أن يسيل على رسول الله 6
من ذلك شيء ، وكان يحضر رسول الله 6
المسلمون من الأوس والخزرج والمهاجرين.
وكان أبو أمامة أسعد
بن زرارة يبعث إليه في كلّ يوم غداء وعشاء فيقصعة ثريد عليها عراق ، وكان يأكل معه من حوله حتّى يشبعون ،
ثمّ تردّ القصعة كما هي ، وكان سعد بن عبادة يبعث إليه في كل يوم عشاء ويتعشّى معه
من حضره وتردّ القصعة كما هي ، فكانوا يتناوبون في بعثة الغداء والعشاء إليه : أسعد
بن زرارة ، وسعد بن خيثمة ، والمنذر بن عمرو ، وسعد بن الرّبيع ، واُسيد بن حضير.
قال : فطبخ له اُسيد يوماً قدراً ، فلم
يجد من يحملها فحملها بنفسه ، وكان رجلاً شريفاً من النقباء ، فوافاه رسول الله 6 وقد رجع من الصلاة ، فقال : «حملتها
بنفسك؟».
قال : نعم يا رسول الله ، لم أجد أحداً
يحملها.
فقال : «بارك الله عليكم من أهل بيت» .
وفي
كتاب دلائل النبوة : عن أنس بن مالك قال
: قدم رسول الله 6
المدينة ، فلمّا دخلها جاءت الأنصار برجالها ونسائها فقالوا : إلينا يا رسول الله.
__________________
فقال : «دعوا الناقة فإنّها مأمورة».
فبركت على باب أبي أيّوب ، فخرجت جوار
من بني النجّار يضربن بالدفوف ويقلن :
نجن جوار من بني النجّار
|
|
يا حبّذا محمّد من جار
|
فخرج إليهم رسول الله 6 فقال : «أتحبّوني؟».
فقالوا : إي والله يا رسول الله.
قال : «أنا والله اُحبّكم» ثلاث مرّات .
قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم : وجاءته
اليهود ــ قريظة والنضير والقينقاع ــ فقالوا : يا محمد إلى ما تدعو؟.
قال : «إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله ،
واني رسول الله ، واني الذي تجدوني مكتوباً في التوراة ، والذي أخبركم به علماؤكم
أن مخرجي بمكّة ومهاجري في هذه الحرّة ، وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام ، فقال
: تركت الخمر والخمير ، وجئت إلى البؤس والتمور ، لنبيّ يبعث في هذه الحرّة مخرجه
بمكّة ومهاجره ههنا ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، يركب الحمار ، ويلبس الشملة ، ويجتزئ
بالكسرة ، في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوّة ، ويضع سيفه على عاتقه ، لا
يبالي من لا قى ، وهو لضحوك القتّال ، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر».
فقالوا له : قد سمعنا ما تقول ، وقد
جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك ولا نعين عليك أحداً ، ولا
نتعرض لأحد من أصحابك ولا تتعرّض لنا ولا لأحد من أصحابنا حتى ننظر إلى ما يصير
أمرك وأمر قومك.
__________________
فأجابهم رسول الله 6 إلى ذلك ، وكتب بينهم كتاباً : أن لا
يعينوا على رسول الله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع في
السرّ والعلانية لا بليل ولا بنهار والله بذلك عليهم شهيد ، فأن فعلوا فرسول الله 6 في حلّ من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم
ونسائهم ، وأخذ أموالهم ، وكتب لكلّ قبيلة منهم كتاباً على حدة.
وكان الذي تولىّ امر بني النّضير حييّ
بن أخطب ، فلمّا رجع إلى منزله قال له اخويه جديّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب : ما
عندك؟
قال : هو الذي نجده في التوراة ، والذي
بشّرنا به علماؤنا ، ولا ازال له عدوّاً ، لأنّ النبوّة خرجت من ولد إسحاق وصارت
في ولد إسماعيل ، ولانكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً.
وكان الذي ولي أمر قريظة كعب بن أسد ، والذي
تولّى أمر بني قينقاع مخيريق ، وكان أكثرهم مالاً وحدائق ، فقال لقومه : تعلمون
أنّه النبيّ المبعوث ، فهلم نؤمن به ونكون قد أدركنا الكتابين. فلم تجبه قينقاع
إلى ذلك .
قال : وكان رسول الله 6 يصلّي في المربد بأصحابه ، فقال لأسعد
بن زرارة : «اشتر هذا المربد من أصحابنا».
فساوم اليتيمين عليه فقالا : هو لرسول
الله 6.
فقال رسول الله : «لا ، إلاّ بثمن».
__________________
فاشتراه بعشرة دنانير ، وكان فيه ماء
مستنقع ، فأمر به رسول الله فسيل ، وأمر باللبن فضرب ، فبناه رسول الله 6 ، وحفره في الأرض ، ثمّ أمر بالحجارة
فنقلت من الحرّة ، وكان المسلمون ينقلونها ، فأقبل رسول الله 6 يحمل حجراً على بطنه ، فاستقبله اُسيد
ابن حضير فقال : يا رسول الله أعطني أحمله عنك.
قال : «لا ، اذهب فاحمل غيره».
فنقلوا الحجارة ورفعوها من الحفرة حتّى
بلغ وجه الأرض ، ثم بناه أوّلاً بالسعيدة لبنةً لبنةً ، ثمّ بناه بالسميط ، وهو لبنة ونصف ، ثمّ بناه بالاُنثى
والذكر لبنتين مخالفتين ، ورفع حائطه قامة ، وكان مؤخّره [ذراع] في مائة ، ثمّ
اشتدّ عليهم الحرّ فقالوا : يا رسول الله لو أظللت عليه ظلاً ، فرفع 6 أساطينه في مقدم المسجد إلى ما يلي
الصحن بالخشب ، ثمّ ظلّله وألقى عليه سعف النخل ، فعاشوا فيه ، فقالوا : يا رسول
الله لو سقفت سقفاً.
قال : «لا ، عريش كعريش موسى ، الأمر
أعجل من ذلك».
وابتنى رسول الله 6 منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وخطّ
لأصحابه خططاً ، فبنوا فيها منازلهم ، وكلّ شرع منه باباً إلى المسجد ، وخطّ لحمزة
وشرع بابه إلى المسجد ، وخطّ لعليّ بن أبي طالب 7
مثل ما خطّ لهم ، وكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد ، فنزل عليه جبرئيل 7 فقال : «يا محمد إنّ الله يأمرك أن
تأمر كلّ من كان له باب إلى المسجد يسدّه ، ولا يكون لأحد باب إلىالمسجد إلاّ لك
ولعليّ ، ويحلّ لعليّ فيه ما يحلّ لك».
فغضب أصحابه وغضب حمزة وقال : أنا عمّه
يأمر بسدّ بابي ويترك باب ابن أخي وهو أصغر منّي ، فجاءه فقال 6 : «ياعمّ لا تغضبنّ من سدّ بابك وترك
باب عليّ ، فوالله ما أنا أمرت بذلك ولكنّ الله أمر بسدّ أبوابكم وترك باب عليّ».
فقال : يا رسول الله رضيت وسلّمت لله
ولرسوله .
قال : وكان رسول الله 6 حيث بنى منازله كانت فاطمة 3 عنده ، فخطبها أبو بكر ، فقال رسول
الله 6 : «أنتظر
أمر الله عزّوجل» ثمّ خطبها عمر ، فقال : مثل ذلك.
فقيل لعليّ 7 : لم لا تخطب فاطمة؟
فقال : «والله ما عندي شيء».
فقيل له : إن رسول الله 6 لا يسألك شيئاً.
فجاء إلى رسول الله 6 فاستحيى أن يسأله فرجع ، ثمّ جاءه في
اليوم الثاني فاستحيى فرجع ، ثمّ جاء في اليوم الثالث فقال له رسول الله 6 : «يا عليّ ألك حاجة؟».
قال : «بلى يا رسول الله».
فقال : «لعلّك جئت (خاطباً)؟ ».
قال : «نعم يا رسول الله».
قال له رسول الله 6 : «هل عندك شيء يا عليّ؟».
قال : «ما عندي يا رسول الله شيء إلاّ
درعي».
فزوّجه رسول الله 6 على اثنتي عشرة أوقيّة ونشّ ودفع إليه درعه ، فقال له رسول الله : «هيّىء
منزلاً حتّى تحوّل فاطمة إليه».
فقال 7
: «يا رسول الله ما ههنا منزل إلاّ منزل حارثة بن النعمان».
وكان لفاطمة يوم بنى بها أمير المؤمنين 7 تسع سنين.
فقال رسول الله 6 : «والله لقد استحيينا من حارثة ، قد
أخذنا عامّة منازله».
فبلغ ذلك حارثة فجاء إلى رسول الله 6 فقال : يا رسول الله أنا ومالي لله
ولرسوله ، والله ما شيء أحبّ إليّ ممّا تأخذه ، والذي تأخذه أحبّ إليّ ممّا تترك.
فجزاه رسول الله 6
خيراً.
فحوّلت فاطمة 3 إلى عليّ 7
في منزل حارثة ، وكان فراشهما إهاب كبش جعلا صوفه تحت جنوبهما .
قال : وكان رسول الله 6 يصلّي إلى بيت المقدس مدّة مقامه بمكّة
وفي هجرته حتّى أتى له سبعة أشهر
، فلمّا أتى له سبعة أشهر عيّرته اليهود وقالوا له : أنت تابع لنا تصلّي إلى
قبلتنا ونحن أقدم منك في الصلاة. فاغتمّ رسول الله 6
من ذلك وأحبّ
أن يحوّل قبلته إلى
الكعبة ، فخرج في جوف الليل ونظر إلى آفاق السماء ينتظر أمر الله ، وخرج في ذلك
اليوم إلى مسجد بني سالم الذي جمّع فيه أوّل جمعة كانت بالمدينة ، وصلّى بهم الظهر
هناك بركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ، ونزل عليه : (قد نرى
تقلُّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلةً ترضاها) الآيات .
ثمّ نزلت على رسول الله 6 آية القتال واُذن له في محاربة قريش ، وهي
قوله : (اُذن للّذين يُقاتلُون بأنّهُم ظُلموا وإنّ
الله على نصرهم لقديرٌ * الّذين اُخرجُوا من
ديارهم بغير حقّ إلاّ أن يقُولُوا ربُّنا الله) الآية .
__________________
(الباب الرابع)
في ذكر مغازي رسول الله 6
بنفسه وسراياه ونبذ من أخباره إلى أن فارق
دنياه
على سبيل الاِجمال والاختصار
قال أهل السير والمفسّرون : إن جميع ما
غزا رسول الله 6
بنفسه ستّ وعشرون غزوة ، وإن جميع سراياه التي بعثها ولم يخرج معها ستّ وثلاثون
سريّة. وقاتل 7
من غزراته في تسع غزوات ، وهي : بدر ، واُحد ، والخندق ، وبني قريظة ، والمصطلق ، وخيبر
، والفتح ، وحنين ، والطائف
فأوّل سريّة بعثها أنّه بعث حمزة بن
عبدالمطّلب في ثلاثين راكباً ، فساروا حتّى بلغوا سيف البحر من أرض جهينة ، فلقوا
أبا جهل بن هشام في ثلاثين ومائة راكب من المشركين ، فحجز بينهم مجديّ بن عمرو
الجهني ،
فرجع الفريقان ولم
يكن بينهما قتال .
ثمّ غزا رسول الله 6 أوّل غزوة غزاها في صفر على رأس اثني
عشر شهراً من مقدمه المدينة حتّى بلغ الأبواء ، يريد قريشاً وبني ضمرة ، ثمّ رجع
ولم يلق كيداً ، فأقام بالمدينة بقيّة صفر وصدراً من شهر ربيع الأول .
وبعث في مقامه ذلك عبيدة بن الحارث في
ستّين راكباً من المهاجرين ليس فيهم أحدٌ من الأنصار ، وكان أوّل لواء عقده رسول
الله 6 ، فالتقى هو
والمشركون على ماء يقال له : أحياء
، وكانت بينهم الرماية ، وعلى المشركين أبو سفيان بن حرب .
ثمّ غزا رسول الله 6 في شهر ربيع الآخر يريد قريشاً حتّى
بلغ بُواط
، ولم يلق كيداً .
ثمّ غزا 6
غزوة العُشَيرة يريد قريشاً حتّى نزل العشيرة من بطن ينبع ، فأقام بها بقيّة جمادى
الاُولى وليالي من
__________________
جمادى الآخرة ، ووادع
فيها بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة .
فروي عن عمّار بن ياسر قال : كنت أنا
وعليّ بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة ، فقال لي عليّ 7 : «هل لك يا أبا اليقظان في هذه الساعة
بهذا النفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون».
فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثمّ غشينا
النوم ، فعمدنا إلى صَورٍ
من النخل في دقعاء
من الأرض فنمنا فيه ، فوالله ما أهبّنا إلاّ رسول الله 6 بقدمه ، فجلسنا وقد تترّبنا من تلك
الدقعاء فيومئذ قال رسول الله لعليّ : «يا أبا تراب» لما عليه من التراب.
فقال : «ألا اُخبركم بأشقى الناس؟».
قلنا : بلى يا رسول الله.
قال : «اُحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي
يضربك يا عليّ على هذا» ووضع رسول الله 6
يده على رأسه «حتّى يبلّ منها هذه» ووضع يده على لحيته.
ثمّ رجع رسول الله 6 من العُشَيرة إلى المدينة ، فلم يقم
بها عشر ليال حتّى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة ، فخرج رسول الله 6 في طلبه حتّى بلغ وادياً يقال له : سفوان
، من ناحية بدر ، وهي غزوة بدر الاُولى ، وحامل لوائه عليّ بن أبي
__________________
طالب ، واستخلف على
المدينة زيد بن حارثة ، وفاته كرز فلم يدركه.
فرجع رسول الله 6 وأقام جمادى الآخرة ورجب وشعبان ، وكان
بعث بين ذلك سعد بن أبي وقّاص في ثمانية رهط ، فرجع ولم يلق كيداً.
ثمّ بعث رسول الله 6 عبدالله بن جحش إلى نخلة ، وقال : «كن بها حتّى تأتينا بخبرمن
أخبار قريش» ولم يأمره بقتال وذلك في الشهر الحرام ، وكتب له كتاباً وقال : «اُخرج
أنت وأصحابك حتّى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر ما فيه وامض لما أمرتك».
فلمّا سار يومين وفتح الكتاب فإذا فيه :
«أن امض حتّى ننزل نخلة ، فائتنا من أخبار قريش بما يصل إليك منهم» فقال لاَصحابه
حين قرأ الكتاب : سمعاً وطاعة ، من كان له رغبة في الشهادة فلينطلق معي.
فمضى معه القوم حتّى إذا نزلوا النخلة
مرّ بهم عمرو بن الحضرميّ والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة ابنا عبدالله ، معهم
تجارة قدموا بها من الطائف ، اُدم وزبيب ، فلمّا رآهم القوم أشرف لهم واقد بن
عبدالله وكان قد حلق رأسه ، فقالوا : عمّار ليس عليكم منهم بأس ، وائتمر أصحاب
رسول الله ، وهي آخر يوم من رجب ، فقالوا : لئن قتلتموهم إنّكم لتقتلونهم في الشهر
الحرام ، ولئن تركتموهم ليدخلنّ هذه الليلة مكّة فليمتنعنّ منكم.
فأجمع القوم على قتلهم ، فرمى واقد بن
عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبدالله والحكم بن
كيسان ،
وهرب المغيرة بن
عبدالله فأعجزهم.
واستاقوا العير ، فقدموا بها على رسول
الله 6 فقال لهم : «والله
ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام» وأوقف الأسيرين والعير ولم يأخذ منها شيئاً ، واُسقط
في أيدي القوم وظنّوا أنّهم قد هلكوا ، وقالت قريش : استحلّ محمّد الشهر الحرام.
فأنزل الله سبحانه : (يَسئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهرِ الحَرامِ قِتالٌ فِيه)
الآية
فلمّا نزل ذلك أخذ رسول الله 6
العير وفداء الأسيرين ، وقال المسلمون : أتطمع لنا أن نكون غزاة؟ فأنزل الله فيهم(إِنَّ الذِين
آمنوُا وَالّذين هاجَروا ـ إلى قوله : أُولئِكَ يَرجُونَ رَحمةَ الله).الآية وكانت هذه قبل بدر بشهرين
__________________
(غزوة بدرالكبرى )
ثمّ كانت غزوة بدر الكبرى ، وذلك أنّ
رسول الله 6 سمع بأبي
سفيان بن حرب في أربعين راكباً من قريش تجّاراً قافلين من الشام ، فخرج رسول الله 6 في ثلاثمائة راكب ونيّف ، وأكثر أصحابه
مشاة ، معهم ثمانون بعيراً وفرس يقال إنّه للمقداد ، يعتقب النفر على البعير
الواحد ، وكان بين رسول الله وبين مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعير ، وذلك في شهر
رمضان.
فلمّا خرج من المدينة وبلغ أبا سفيان
الخبر أخذ بالعير على الساحل ، وارسل إلى أهل مكّة يستصرخ بهم ، فخرج منهم نحو من
ألف رجل من سائر بطون قريش ومعهم مائتا فرس يقودونها ، وخرجوا معهم بالقيان يضربن
بالدفوف ويتغنّين بهجاء المسلمين ، ورجع الأخنس بن شريق الثقفي ببني زهرة من
الطريق وكان حليفاً لهم ، فبقي منهم نحو من تسعمائة وسبعين رجلاً ، وفيهم العبّاس
وعقيل ونوفل بن الحارث بن عبدالمطّلب خرجوا مكرهين ، وكانت أشرافهم المطعمون فيهم
: العبّاس بن عبد المطّلب وعتبة بن ربيعة وطعيمة بن عديّوأبو البختري بن هشام
واُميّة بن خلف وحكيم بن حزام والنضر بنالحارث بن كلدة وأبو جهل بن هشام وسهيل بن
عمرو.
فلما بلغ النبيّ 6 إلى بدر ، وهي بئر منسوبة إلى رجل من
غفار يقال له : بدر ، وقد علم رسول الله بفوات العير ومجيء قريش شاور أصحابه في
لقائهم أو الرجوع ، فقالوا : الأمر إليك وآلق بنا القوم. فلقيهم على بدر لسبع عشرة
من شهر رمضان ، وكان لواء رسول الله يؤمئذ أبيض مع مصعب بن عمير ورايته مع عليّ 7 ، وأيّدهم الله سبحانه
بخمسة آلاف من
الملائكة ، فكثّر الله المسلمين في أعين الكفّار وقلّل المشركين في أعين المؤمنين
كيلا يفشلوا ، وأخذ رسول الله كفّاً من تراب فرماه إليهم وقال : «شاهت الوجوه» فلم
يبق منهم أحدٌ إلاّ اشتغل بفرك عينيه.
وقتل الله من المشركين نحو سبعين رجلاً
، واُسر نحو سبعين رجلاً
منهم : العبّاس بن عبدالمطّلب ، وعقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحارث ، فأسلموا ، وعقبة
بن أبي معيط والنضر بن الحارث قتلهما رسول الله بالصفراء ، وقال 6 للعبّاس : «افد نفسك وابني أخويك
عقيلاً ونوفلاً ، وحليفك عتبة بن عمرو وأخي بني الحارث بن فهر فإنّك ذو مال».
فقال : إنّي كنت مسلماً وإنّ القوم
استكرهوني.
فقال 7
: «الله أعلم بإسلامك ، إن يكن حقّاً فإنّ الله يجزيك به ، فأمّا ظاهر أمرك فقد
كان علينا».
قال : فليس لي مالٌ.
قال : «فأين المال الذي وضعته عند اُمّ
الفضل بمكّة وليس معكما أحدٌ فقلت لها : إن اُصبت في سفري هذا فهذا المال لبنيّ : الفضل
وعبدالله وقثُم؟».
فقال : والله يارسول الله إنّي لأعلم
أنّك رسول الله ، إنّ هذا لشيء ما علمه أحدٌ غيري وغير اُمّ الفضل ، فأحسب لي يا
رسول الله ما أصبتم منّي من مال كان معي عشرون أوقيّة.
فقال رسول الله 6 : «لا ، ذاك شيء أعطانا الله
__________________
منك».
ففدى نفسه بمائة أوقيّة ، وفدى كلّ واحد
بأربعين أوقيّة .
وقتل عليّ 7
ببدر من المشركين : الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان شجاعاً فاتكاً ، والعاص بن سعيد
بن العاص بن اُمّية والد سعيد بن العاص ، وطعيمة بن عديّ بن نوفل شجره بالرمح وقال
: «والله لا تخاصمنا في الله بعد اليوم أبداً» ونوفل بن خويلد ، وهو الذي قرن أبا
بكر وطلحة قبل الهجرة بحبل وعذّبهما يوماً إلى الليل ، وهو عمّ الزبير بن العوّام
، ولمّا أجلت الوقعة قال النبيّ 6
«من له علم بنوفل»؟ فقال 7
: «أنا قتلته» فكبّر النبي 7
ثمّ قال : «الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه» .
وروى جابر ، عن الباقر ، عن أمير
المؤمنين 8 فقال : «لقد
تعجّبت يوم بدر من جرأة القوم وقد قتلت الوليد بن عتبة ، إذ أقبل إليّ حنظلة ابن
أبي سفيان فلمّا دنا منّي ضربته بالسيف فسالت عيناه ولزم الأرض قتيلاً» .
وقتل زمعة بن الأسود ، والحارث بن زمعة
، وعمير بن عثمان بن كعب ابن تيم عمّ طلحة بن عبيدالله ، وعثمان ومالكاً أخوي طلحة
في جماعة ، وهم في ستّة وثلاثين رجلاً.
وقتل حمزة بن عبدالمطّلب شيبة بن ربيعة
بن عبد شمس ، والأسود بن
__________________
عبد الأسود المخزومي
.
وقتل عمرو بن الجموح أبا جهل بن هشام ، ضربه
بالسيف على رجله فقطعها ودفّف
عليه عبدلله بن مسعود فذبحه بسيفه من قفاه ، وحمل رأسه إلى رسول الله 6.
قال عبدالله : وجدته بآخر رمق فعرفته
فوضعت رجلي على مذمّره ـ أي عنقه ـ وقلت : هل أخزاك الله ياعدو الله؟ قال : رويعي
الغنم! لقد ارتقيت مرتقاً صعباً. قال : ثمّ اجتززت رأسه فجئت به رسول الله 6 فقلت : هذا رأس عدوّ الله أبي جهل ، فحمد
الله تعالى .
وقتل عمّار بن ياسر اُمّية بن خلف .
وأمر رسول الله 6 أن تلقى القتلى في قليب بدر ، ثمّ وقف
عليهم وناداهم بأسمائهم وأسماء آبائهم واحداً واحداً ، ثمّ قال : «قد وجدنا ما
وعدنا ربّنا حقّاً ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّاً» ثمّ قال : «إنّهم ليسمعون كما
تسمعون ولكن منعوا عن الجواب» .
واستشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر
رجلاً ، منهم : عبيدة بن
__________________
الحارث بن
عبدالمطّلب ، وذو الشمالين عمرو بن نضلة حليف بني زهرة ، ومهجع مولى عمر ، وعمير
بن أبي وقّاص ، وصفوان بن أبي البيضاء
وهؤلاء من المهاجرين ، والباقون من الأنصار.
ولمّا رجع رسول الله 6 إلى المدينة من بدر لم يقم بالمدينة
إلاّ سبع ليال حتّى غزا بنفسه يريد بني سليم ، حتّى بلغ ماء من مياههم يقال له : الكدر
، فأقام عليه ثلاث ليال ، ثمّ رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً ، فأقام بها بقيّة
شوّال وذا القعدة ، وفادى في إقامته جلّ اُسارى بدر من قريش .
ثمّ كانت غزوة السويق ، وذلك أنّ أبا سفيان نذر أن لا يمسّ
رأسه من جنابة حتّى يغزو محمّداً ، فخرج في مائة راكب من قريش ليبرّ يمينه ، حتّى
إذا كان على بريد من المدينة أتى بني النضير ليلاً ، فضرب على حييّ بن أخطب بابه ،
فأبى أن يفتح له ، فانصرف عنه إلى سلاّم بن مشكم ـ وكان سيّد بني النضير ـ فاستأذن
عليه فأذن له وسارّه ، ثمّ خرج في عقب ليلته حتّى أتى أصحابه ، وبعث رجلاً من قريش
إلى المدينة ، فأتوا ناحية يقال لها : العريض ، فوجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً
له فقتلوهما ، ثمّ انصرفوا ونذر
__________________
بهم الناس.
فخرج رسول الله في طلبهم حتّى بلغ قرقرة
الكدر فرجع وقد
فاته أبو سفيان ، ورأوا زاداً من أزواد القوم قد طرحوها يتخفّفون منها للنجاء ، فقال
المسلمون حين رجع رسول الله 6
بهم : يارسول الله ، أنطمع أن تكون لنا غزوة؟ فقال 7
: «نعم» .
ثمّ كانت غزوة ذي أمّر ، بعد مقامه
بالمدينة بقيّة ذي الحجّة والمحرّم ، مرجعه من غزوة السويق ، وذلك لمّا بلغه أنّ
جمعاً من غطفان قد تجمّعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة عليهم رجل يقال له :
دعثور بن الحارث ابن محارب ، فخرج في اربعمائة وخمسين رجلاً ومعهم أفراس ، وهرب
منه الأعراب فوق ذُرى الجبال ، ونزل 6
ذا أمّر وعسكر به ، وأصابهم مطر كثير. فذهب رسول الله 6 لحاجته فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه ، وقد
جعل رسول الله 6
وادي أمرّ بينه وبين أصحابه ، ثمّ نزع ثيابه فنشرها لتجفّ وألقاها على شجرة ثمّ
اضطجع تحتها ، والأعراب ينظرون إلى كلّ ما يفعل رسول الله ، فقالت الأعراب لدعثور
ـ وكان سيّدهم وأشجعهم ـ قد أمكنك محمّد وقد انفرد من بين أصحابه حيث إن غوّث
بأصحابه لم يغث حتّى تقتله.
فاختار سيفاً من سيوفهم صارماً ، ثمّ
أقبل مشتملاً على السيف حتّى قام على رأس رسول الله بالسيف مشهوراً فقال : يا
محمّد من يمنعك منّي
__________________
اليوم؟
قال : «الله».
ودفع جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده
، فأخذه رسول الله وقام على رأسه وقال : «من يمنعك منّي»؟.
قال : لا أحد ، وأنا أشهد أن لا إله
إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، والله لا اُكثر عليك جمعاً أبداً. فأعطاه
رسول الله سيفه ثمّ أدبر ، ثمّ أقبل بوجهه ثمّ قال : والله لاَنت خير مني.
قال رسول الله : «أنا أحقّ بذلك منك».
فأتى قومه فقيل له : أين ما كنت تقول
وقد أمكنك والسيف في يدك؟
قال : قد كان والله ذلك ، ولكنّي نظرت
إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري ، فعرفت أنّه ملك ، وشهدت أنّ محمداً
رسول الله ، والله لا اُكثر عليه. وجعل يدعو قومه إلى الاِسلام ونزلت هذه الآية : (يا اَيُّها
الذِين آمَنُوا اذكُرُوا نِعمَةَ الله عَليكُم اِذ هَمَ قَومٌ اَن يَبسُطُوا
اِلَيكُم اَيدِيَهُم فَكَفَّ اَيدِيهم عَنكُم) الآية .
ثمّ كانت غزوة القردة ، ماء من
مياه نجد ، بعث رسول الله 6
زيد بن حارثة بعد رجوعه من بدر إلى المدينة بستّة أشهر ، فأصابوا عيراً لقريش على
القردة فيها أبو سفيان ومعه فضّة كثيرة ، وذلك لاَنّ قريشاً قد خافت طريقها التي
كانت تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر ، فسلكوا طريق العراق واستأجروا رجلاً من
بكر بن وائل يقال له : فرات بن حيّان ، يدّلهم على الطريق ، فأصاب زيد بن حارثة
تلك العير ، وأعجزته
__________________
الرجال هرباً.
وفي رواية الواقدي : أنّ ذلك العير مع
صفوان بن اُميّة ، وأنّهم قدموا بالعير إلى رسول الله 6 وأسروا رجلاً أو رجلين ، وكان فرات بن
حيّان أسيراً فأسلم فترك من القتل.
ثمّ كانت غزوة بني قينقاع يوم السبت
للنصف من شوّال على رأس عشرين شهراً من الهجرة ، وذلك أنّ رسول الله جمعهم وإياه
سوق بني قينقاع ، فقال لليهود : «احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من قوارع الله ،
فأسلموا فإنّكم قد عرفتهم نعتي وصفتي في كتابكم».
فقالوا : يا محمّد ، لا يغرّنّك أنّك
لقيت قومك فأصبت فيهم ، فإنّا والله لو حاربناك لعلمت أنّا خلافهم.
فكادت تقع بينهم المناجزة ، ونزلت فيهم
: (قَد كانَ لَكُم آيَةٌ في فِئَتَينِ آلتَقَتا ـ
الى قوله : ـ اُولي الأبصار).
وروي : أنّ رسول الله 6 حاصرهم ستّة أيّام حتّى نزلوا على
حُكمِه ، فقام عبدالله بن اُبّي فقال : يا رسول الله مواليّ وحلفائي وقد منعوني من
الأسود والأحمر ثلاثمائة دارع وأربعمائة حاسر تحصدهم في غداة واحدة ، إنّي والله
لا آمن وأخشى الدوائر. وكانوا حلفاء الخزرج دون الأوس ، فلم يزل يطلب فيهم حتّى
وهبهم له ، فلمّا رأوا ما نزل بهم من الذل خرجوا من المدينة ونزلوا اذرعات ونزلت في عبدالله بن اُبيّ
__________________
وناس من الخزرج(يا اَيُّها
الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصارى اَولِياءَ ـ إلى قوله : ـ
في اَنفُسِهِم نادِمِينَ).
ثمّ كانت غزوة اُحد على
رأس سنة من بدر ، ورئيس المشركين يومئذ أبو سفيان بن حرب ، وكان أصحاب رسول الله
يومئذ سبعمائة والمشركين ألفين ، وخرج رسول الله 6
بعد أن استشار أصحابه ، وكان رأيه 7
أن يقاتل الرجال على أفواه السكك ويرمي الضعفاء من فوق البيوت ، فأبوا إلاّ الخروج
إليهم.
فلمّا صار على الطريق قالوا : نرجع ، فقال
: «ما كان لنبيّ إذا قصد قوماً أن يرجع عنهم».
وكانوا ألف رجل ، فلمّا كانوا في بعض
الطريق انخذل عنهم عبدالله ابن اُبيّ بثلث الناس وقال : والله ما ندري على ما نقتل
أنفسنا والقوم قومه ، وهمّت بنو حارثة وبنو سلمة بالرجوع ، ثمّ عصمهم الله جلّ
وعزّ ، وهو قوله : (اِذهَمَّت طَّائِفتانِ
مِنكُم اَن تَفشَلا)
الآية.
وأصبح رسول الله 6 متهيّئاً للقتال ، وجعل على راية
المهاجرين عليّاً 7
، وعلى راية الأنصار سعد بن عبادة ، وقعد رسول الله 6
في راية الأنصار ، ثمّ مرّ 6
على الرماة ـ وكانوا خمسين رجلاً وعليهم عبدالله بن جبير ـ فوعظهم وذكّرهم وقال : «اتّقوا
الله واصبروا ، وإن رأيتمونا يخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم حتّى اُرسل إليكم».
__________________
وأقامهم عند رأس الشعب ، وكانت الهزيمة
على المشركين ، وحسّهم المسلمون بالسيوف حسّاً.
فقال أصحاب عبدالله بن جبير : الغنيمة ،
ظهر أصحابكم فماتنتظرون؟ فقال عبدالله : أنسيتم قول رسول الله 6 ، أمّا أنا فلا أبرح موقفي الذي عهد
إليّ فيه رسول الله ما عهد.
فتركوه أمره وعصوه بعد ما رأوا ما
يحبّون ، وأقبلوا على الغنائم ، فخرج كمين المشركين وعليهم خالد بن الوليد ، فانتهى
إلى عبدالله بن جبير فقتله ، ثمّ أتى الناس من أدبارهم ووضُع في المسلمين السلاح ،
فانهزموا ، وصاح إبليس ـ لعنه الله ـ : قُتل محمّد ، ورسول الله 6 يدعوهم في اُخراهم : «أيها الناس اني
رسول الله وإنّ الله قد وعدني النصر فإلى أين الفرار؟» فيسمعون الصوت ولا يلوون
على شيء.
وذهبت صيحة إبليس حتّى دخلت بيوت
المدينة ، فصاحت فاطمة 3
، ولم تبق هاشميّة ولا قرشيّة إلاّ وضعت يدها على رأسها ، وخرجت فاطمة 3 تصرخ .
قال الصادق 7 : «انهزم الناس عن رسول الله فغضب
غضباً شديداً ، وكان إذا غضب انحدر من وجهه وجبتهه مثل اللؤلؤ من العرق ، فنظر
فإذا عليّ 7 إلى جنبه ، فقال
: مالك لم تلحق ببني أبيك؟ فقال عليّ : يا رسول الله أكفر بعد ايمان! إنّ لي بك
اُسوة ، فقال : أمّا لا فاكفني هؤلاء.
فحمل عليّ 7
فضرب أوّل من لقي منهم ، فقال : جبرئيل :
__________________
إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد. قال : إنّه
منّي وأنا منه. قال : جبرئيل وأنا منكما».
وثاب إلى رسول الله 6 جماعة من أصحابه ، واُصيب من المسلمين
سبعون رجلاً ، منهم أربعة من المهاجرين : حمزة بن عبد المطّلب ، وعبدالله بن جحش ،
ومصعب بن عمير ، وشماس بن عثمان بن الرشيد ، والباقون من الأنصار.
قال : وأقبل يومئذ اُبيّ بن خلف وهو على
فرس له وهو يقول : هذا ابن أبي كبشة؟ بوء بذنبك ، لا نجوتُ إن نجوتَ. ورسول الله 6 بين الحارث بن الصمّة وسهل بن حنيف يعتمد
عليهما ، فحمل عليه فوقاه مصعب بن عمير بنفسه ، فطعن مصعباً فقتله ، فأخذ رسول
الله 9 عنزة كانت
في يد سهل بن حنيف ثمّ طعن اُبيّاً في جربان الدرع ، فاعتنق فرسه فانتهى إلى عسكره
وهو يخور خوار الثور ، فقال أبو سفيان : ويلكما أجزعك ، إنّما هو خدش ليس بشيء. فقال
: ويلك يا ابن حرب ، أتدري من طعنني ، إنّما طعنني محمّد ، وهو قال لي بمكّة : إنّي
سأقتلك ، فعلمت أنّه قاتلي ، والله لو أنّ ما بي كان بجميع أهل الحجاز لقضت عليهم.
فلم يزل يخور الملعون حتّى صار إلى النار .
__________________
وفي
كتاب أبان بن عثمان : أنّه لمّا انتهت
فاطمة وصفيّة إلى رسول الله 9
ونظرتا إليه قال 6
لعليّ : «أمّا عمتّي فاحبسها عنّي ، وأمّا فاطمة فدعها».
فلمّا دنت فاطمة 3 من رسول الله 6 ورأته قد شجّ في وجهه واُدمي فوه
إدماءً صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : «اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه رسول الله»
وكان يتناول رسول الله 6
ما يسيل من الدم ويرميه في الهواء فلا يتراجع منه شيء.
قال الصادق 7 : «والله لوسقط منه شيء على الأرض لنزل
العذاب».
قال أبان بن عثمان : حدّثني بذلك عنه
الصباح بن سيابة قال : قلت : كسرت رباعيّته كما يقوله هؤلاء؟
قال : «لا والله ، ما قبضه الله إلاّ
سليماً ، ولكنّه شجّ في وجهه».
قلت : فالغار في اُحد الذي يزعمون أنّ
رسول الله صار إليه؟
قال : «والله ما برح مكانه ، وقيل له : ألا
تدعو عليهم؟ قال : اللّهم اهد قومي».
ورمى رسول الله 6 ابن قُميئة بقذّافة فأصاب كفّه حتّى
ندرالسيف من يده
وقال : خذها منّي وأنا ابن قميئة.
__________________
فقال رسول الله 6 : «أذلّك الله وأقمأك ».
وضربه عتبة بن أبي وقّاص بالسيف حتّى
أدمى فاه ، ورماه عبدالله بن شهاب بقلاعة فأصاب مرفقه.
وليس أحد من هؤلاء مات ميتة سويّة ، فأمّا
ابن قميئة فأتاه تيس وهو نائم بنجد فوضع قرنه في مراقّه ثم دعسه فجعل ينادي : وا
ذلاّه ، حتّى أخرج قرينه من ترقوته.
وكان وحشيّ يقول : قال لي جبير بن مطعم
ـ وكنت عبداً له ـ : إنّ علياً قتل عمّي يوم بدر ـ يعني طعيمة ـ فإن قتلت محمّداً
فأنت حرّ ، وإن قتلت عمّ محمّد فأنت حرّ ، وإن قتلت ابن عمّ محمّد فأنت حرّ. فخرجت
بحربة لي مع قريش إلى اُحد اُريد العتق لا اُريد غيره ولا أطمع في محمّد ، وقلت : لعلّي
اُصيب من علي أو حمزة غرّة فأزرقه ، وكنت لا أخطىء في رمي الحراب ، تعلّمته من
الحبشة في أرضها ، وكان حمزة يحمل حملاته ثمّ يرجع إلى موقفه.
قال أبو عبدالله 7 : «وزرقه وحشيّ ، فوق الثدي ، فسقط
وشدّوا عليه فقتلوه ، فأخذ وحشيّ الكبد فشدّ بها إلى هند بنت عتبة ، فأخذتها فطرحتها
في فيها فصارت مثل الداغِصة
، فلفظتها.
__________________
قال وكان الحليس بن علقمة نظر إلى أبي
سفيان وهو على فرس وبيده رمح يجأ به في شدق حمزة فقال : يا معشر بني كنانة انظروا
إلى من يزعم أنّه سيّد قريش ما يصنع بابن عمّه الذي قد صار لحماً ـ وأبو سفيان
يقول : ذقُ عقق ـ فقال أبو سفيان : صدقت إنّما كانت منّي زلّة اكتمها عليّ.
قال : وقام أبو سفيان فنادىَّ بعض
المسلمين : أحيّ ابن أبي كبشة؟ فأمّا ابن أبي طالب فقد رأيناه مكانه. فقال عليّ 7 : «إي والذي بعثه بالحقّ إنّه ليسمع
كلامك».
قال : إنّه قد كانت في قتلاكم مثلة ، والله
ما أمرت ولا نهيت ، إنّ ميعاد ما بيننا وبينكم موسم بدر في قابل هذا الشهر.
فقال رسول الله 6 : «قل : نعم».
فقال : «نعم».
فقال أبو سفيان لعليّ 7 : إنّ ابن قميئة أخبرني أنّه قتل
محمّداً وأنت أصدق عندي وأبّر. ثمّ ولّى إلى أصحابه وقال : اتخذوا الليل جملاً
وانصرفوا.
ثمّ دعا رسول الله 6 عليّاً 7
فقال : «اتُبعهم فانظر أين يريدون ، فإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنّهم
يريدونالمدينة ، وإن كانوا ركبوا الإبل وساقوا الخيل فهم متوجّهون إلى مكّة»
وقيل : إنّه بعث لذلك سعد بن أبي وقّاص
فرجع وقال : فرأيت خيلهم تضرب بأذنابها مجنوبة مدبرة ، ورأيت القوم قد تجمّلوا
سائرين. فطابت أنفس المسلمين بذهاب العدوّ ، فانتشروا يتتبّعون قتلاهم ، فلم يجدوا
قتيلاً
__________________
إلاّ وقد مثّلوا به
، إلاّ حنظلة بن أبي عامر ، كان أبوه مع المشركين فتُرك له.
ووجدوا حمزة قد شُقَّتْ بطنه ، وجُدع
أنفه ، وقُطعت اُذناه ، واُخذ كبده ، فلمّا انتهى إليه رسول الله 6 خنقه العبرة وقال : «لاُمثّلنّ بسبعين
من قريش» فأنزل الله سبحانه (وَان عاقَبتُم
فَعاقِبُوا بِمِثلِ ما عُوقِبتُم بِهِ) الآية ، فقال 6 : «بل أصبر».
وقال 6
: «من ذلك الرجل الذي تغسّله الملائكة في سفح الجبل؟».
فسألوا امرأته فقالت : انّه خرج وهو
جنب. وهو حنظلة بن أبي عامر الغسيل .
قال أبان : وحدّثني أبو بصير ، عن أبي
جعفر 7 قال : «ذكر
لرسول الله رجلٌ من أصحابه يقال له : قزمان بحسن معونته لاِِخوانه ، وزكّوه فقال 6 : إنّه من أهل النار. فاُتي رسول الله 6 وقيل : إنّ قزمان استشهد ، فقال : يفعل
الله ما يشاء. ثمّ اُتي فقيل : إنّه قتل نفسه ، فقال : أشهد أنّي رسول الله.
قال : وكان قزمان قاتل قتالاً شديداً ، وقتل
من المشركين ستّة أو سبعة ، فأثبتته الجراح فاحتمل إلى دور بني ظفر ، فقال له
المسلمون : أبشر يا قزمان فقد أبليت اليوم ، فقال : بم تبشّروني! فوالله ما قاتلت
إلاّ عن أحساب قومي ، ولولا ذلك ما قاتلت. فلمّا اشتدّت عليه الجراحة جاء إلى
كنانته فأخذ منها
__________________
مشقصاً فقتل به نفسه» .
قال : وكانت امرأة من بني النجّار قتل
أبوها وزوجها وأخوها مع رسول الله 6
، فدنت من رسول الله والمسلمون قيام على رأسه فقالت لرجل : أحي رسول الله 6؟ قال : نعم ، قالت : أستطيع أن أنظر إليه؟
قال : نعم ، فأوسعوا لها فدنت منه وقالت : كلّ مصيبة جلل بعدك ، ثمّ انصرفت.
قال : وانصرف رسول الله 6 إلى المدينة حين دفن القتلى ، فمرّ
بدور بني لأشهل وبني ظفر ، فسمع بكاء النوائح على قتلاهنّ ، فترقرقت عينا رسول
الله 6 وبكى ثمّ
قال : « لكنّ حمزة لا بواكي له اليوم». فلمّا سمعها سعد بن معاذ واُسيد بن حضير
قالوا : لا تبكينّ امرأة حميمها حتّى تأتي فاطمة فتسعدها.
فلمّا سمع رسول الله 6 الواعية على حمزة وهو عند فاطمة على
باب المسجد قال : « ارجعن رحمكّن الله فقد آسيتنّ بأنفسكنّ» .
ثمّ كانت غزوة حمراء الأسد قال أبان بن عثمان : لمّا كان من الغد
من يوم اُحد نادى رسول الله 6
في المسلمين فأجوبوه ، فخرجوا على علّتهم وعلى ما أصابهم من القرح ، وقدم عليّاً
بين يديه براية
__________________
المهاجرين حتّى
انتهى إلى حمراء الأسد ثمّ رجع إلى المدينة ، فهم الذين استجابوا لله والرسول من
بعد ما أصابهم القرح.
وخرج أبو سفيان حتّى انتهى إلى الروحاء
، فأقام بها وهو يهم بالرجعة على رسول الله 6
ويقول : قد قتلنا صناديد القوم فلو رجعنا استأصلناهم. فلقي معبد الخزاعيّ فقال : ما
وراءك يا معبد؟
قال : قد والله تركت محمّداً وأصحابه
وهم يحرقون عليكم ، وهذا عليّ بن أبي طالب قد أقبل على مقدّمته في الناس ، وقد
اجتمع معه من كان تخلّف عنه ، وقد دعاني ذلك إلى أن قلت شعراً.
قال أبو سفيان : وماذا قلت؟
قال : قلت :
كادت تهدّ منَ الأصواتِ راحلتي
|
|
إذ سالتِ الأرضُ بالجردِ الأبابيلِ
|
تردي باُسدٍ كرامٍ لا تنابلةً
|
|
عندَ اللقاءِ ولا خرقٍ معازيلِ
|
ـ الأبيات ـ
فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ، ثمّ مرّ
به ركب من عبد القيس يريدون الميرة من المدينة ، فقال لهم : أبلغوا محمّداً أنّي
قد أردت الرجعة إلى أصحابه لأستأصلهم وأوقر لكم ركابكم زبيباً إذا وافيتم عكاظ.
فأبلغوا ذلك إليه وهو بحمراء الأسد ، فقال
7 والمسلمون
معه : «حسبنا الله ونعم الوكيل» .
ورجع رسول الله 6 من حمراء الأسد إلى المدينة يوم الجمعة
، قال : ولمّا غزا رسول الله 6
__________________
حمراء الأسد وثبت
فاسقة من بني خطمة يقال لها : العصماء اُمّ المنذر بن المنذر تمشي في المجالس
الأوس والخزرج وتقول شعراً تحرّض على النبي 6
وليس في بني خطمة يومئذ مسلم إلاّ واحدٌ يقال له : عمير بن عدّي ، فلمّا رجع رسول
الله 6 غدا
عليهاعمير فقتلها ، ثمّ أتى رسول الله 6
فقال : إنّي قتلت اُمّ المنذر لما قالته من هجر. فضرب رسول الله 6 على كتفيه وقال : «هذا رجل نصر الله
ورسوله بالغيب ، أما إنّه لا ينتطح فيهاعنزان».
قال عمير بن عدّي : فأصبحت فممررت
(ببنيها)
وهم يدفنونها فلم يعرض لي أحد منهم ولم يكلّمني.
ثمّ كانت غزوة الرجيع ، بعث رسول
الله مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة ، وخالد بن البكير ، وعاصم بن ثابت بن
الأفلج ، وخبيب بن عدي ، وزيد بن دثنة ، وعبدالله بن طارق ، وأمير القوم مرثد لمّا
قدم عليه رهطٌ من عضل والديش وقالوا : ابعث معنا نفراً من قومك يعلّموننا القرآن
ويفقّهوننا في الدين ، فخرجوا مع القوم إلى بطن الرجيع ـ وهو ماء لهذيل. فقتلهم حي
من هذيل يقال لهم : بنو لحيان ، واُصيبوا جميعاً.
وذكر ابن اسحاق : أنّ هذيلاً حين قتلت
عاصم بن ثابت أرادوا رأسه
__________________
ليبيعوه من سلافة
بنت سعد ، وقد كانت نذرت حين اُصيب ابناها باُحد لئن قدرت على رأسه لتشربنّ في
قحفه الخمر فمنعتهم الدَبر
، فلمّا حالت بينهم وبينه قالوا : دعوه حتّى نمسي فتذهب عنه. فبعث الله الودي
فاحتمل عاصماً فذهب به ، وقد كان عاصم أعطى الله عهداً أن لا يمسّ مشركاً ولا
يمسّه مشرك أبداً في حياته ، فمنعه الله بعد وفاته ممّا امتنع منه في حياته.
ثمّ كانت غزوة بئر معونة على رأس
أربعة أشهر من اُحد ، وذلك أنّ أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنّة قدم
على رسول الله بالمدينة فعرض عليه الاِسلام فلم يسلم ، وقال : يا محمّد إن بعثت رجالاً
إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.
فقال : «أخشى عليهم أهل نجد».
فقال أبو براء : أنا لهم جار.
فبعث رسول الله المنذر بن عمرو في بضعة
وعشرين رجلاً ، وقيل : في أربعين رجلاً ، وقيل : في سبعين رجلاً من خيار المسلمين
، منهم : الحارث بن الصمّة ، وحرام بن ملحان ، وعامر بن فهيرة. فساروا حتّى نزلوا
بئر معونة ـ وهي بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم ـ فلمّا نزلوها بعثوا حرام بن
ملحان بكتاب رسول الله 6
إلى عامر بن الطفيل ، فلمّا أتاه لم ينظر [عامر[ في كتابه حتّى عدا على الرجل
فقتله ، فقال : الله أكبر فزت
__________________
وربّ الكعبة.
ثمّ دعا بني عامر إلى قتالهم فأبوا أن
يجيبوه وقالوا : لانخفرأبا
براء ، فاستصرخ قبائل من بني سليم : عصيّة ورعلاً وذكوان ، وهم الذين قنت عليهم
النبي 6 ولعنهم ، فأجابوه
وأحاطوا بالقوم في رحالهم ، فلمّا رأوهم أخذوا أسيافهم وقاتلوا القوم حتّى قتلوا
عن آخرهم.
وكان في سرح القوم عمرو بن اُميّة الضمري ورجل من الأنصار
، فلم يكن ينبئهما بمصاب القوم إلاّ الطير تحوم على العسكر ، فقالا : والله إنّ
لهذا الطير لشأناً ، فاقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم ، فقال الأنصاري لعمرو : ما
ترى؟ قال : أرى أن نلحق برسول الله 6
فنخبره الخبر ، فقال الأنصاري : لكنّي لم أكن لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر
بن عمرو ، فقاتل القوم حتّى قُتل ، ورجع عمرو إلى المدينة فأخبر رسول الله 6 فقال : «هذا عمل أبي براء ، قد كنت
لهذا كارهاً».
فبلغ ذلك أبا براء ، فشقّ عليه إخفار
عامر إيّاه وما أصاب من أصحاب رسول الله 6
، ونزل به الموت. فحمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل وطعنه وهو في نادي
قومه فأخطأ مقاتله وأصاب فخذه ، فقال عامر : هذا عمل عمّي أبي براء ، إن متّ فدمي
لعمّي لا تطلبونه به ، وإن اعشُ فسأرى فيه رأيي .
__________________
ثمّ كانت غزوة بني النضير ، وذلك أنّ
رسول الله 6 مشى إلى كعب
بن الأشرف يستقرضه فقال : مرحباً بك يا أبا القاسم وأهلاً. فجلس رسول الله 6 وأصحابه وقام كأنّه يصنع لهم طعاماً ، وحدّث
نفسه أن يقتل رسول الله 6
، فنزل جبرئيل 7
وأخبره بما همّ به القوم من الغدر ، فقام 6
كأنّه يقضي حاجة ، وعرف أنّهم لا يقتلون أصحابه وهو حيّ ، فأخذ 7 الطريق نحو المدينة ، فاستقبله بعض
أصحاب كعب الذين كان أرسل إليهم يستعين بهم على رسول الله ، فأخبر كعباً بذلك ، فسار
المسلمون راجعين.
فقال عبدالله بن صورياـ وكان أعلم
اليهود ـ : والله إنّ ربّه اطلعه على ما أردتموه من الغدر ، ولا يأتيكم والله أوّل
ما يأتيكم إلاّ رسول محمّد يأمركم عنه بالجلاء ، فأطيعوني في خلصلتين لا خير في
الثالثة : أن تسلموا فتأمنوا على دياركم وأموالكم ، وإلاّ فإنّه يأتيكم من يقول
لكم : اخرجوا من دياركم.
فقالوا : هذه أحبّ إلينا.
قال : أمّا إنّ الاُولى خيرٌ لكم منها ،
ولولا أنّي أفضحكم لأسلمت.
ثمّ بعث 6
محمّد بن مسلمة إليهم يأمرهم بالرحيل والجلاء عن ديارهم وأموالهم ، وأمره أن
يؤجّلهم في الجلاء ثلاث ليال
ثمّ كانت غزوة بني لحيان ، وهي
الغزوة التي صلّى فيها صلاة الخوف بعسفان حين أتاه الخبر من السماء بما همّ به
المشركون. وقيل : إنّ هذه
الغزوة كانت بعد
غزوة بني قريظة .
ثمّ كانت غزوة ذات الرقاع بعد غزوة
بني النضير بشهرين. قال البخاري : إنّها كانت بعد خيبر ، لقي بها جمعاً من غطفان ،
ولم يكن بينهما حرب ، وقد خاف الناس بعضهم بعضاً حتّى صلّى رسول الله صلاة الخوف
ثمّ انصرف بالناس .
وقيل : إنمّا سمّيت ذات الرقاع لاَنّه
جبل فيه بقع حُمرةٍ وسوادٍ وبياضٍ فسمّي ذات الرقاع .
وقيل : إنّما سمّيت بذلك لاَنّ أقدامهم
نقبت فيها ، فكانوا يلفون على أرجلهم الخرق .
وكان 6
على شفير واد نزل أصحابه على الغدوة الاُخرى من الوادي ، فهم كذلك إذ أقبل سيل ، فحال
بينه وبين أصحابه ، فرآه رجل من المشركين يقال له : غورث ، فقال لقومه : أنا أقتل
لكم محمّداً. فأخذ سيفه ونحا نحوه وقال : من ينجيك منّي يا محمّد؟
قال : «ويلك ، ينجيني ربّي».
فسقط على ظهره ، فأخذ رسول الله 6 سيفه وجلس على صدره ثمّ قال : «من
ينجيك منّي يا غورث؟».
قال : جودك وكرمك يا محمّد. فتركه ، فقام
وهو يقول : والله لأنت أكرم
__________________
منّي وخير.
ثمّ كانتغزوة بدر الأخيرة في شعبان.
خرج رسول الله 6
إلى بدر لميعاد أبي سفيان ، فأقام عليها ثمان ليال ، وخرج أبو سفيان في أهل تهامة
، فلمّا نزل الظهران بدا له في الرجوع ، ووافق رسول الله 6 وأصحابه السوق فاشتروا وباعوا وأصابوا
بها ربحاً حسناً.
ثمّ كانت غزوة الخندق ـ وهي
الأحزاب ـ في شوّال من سنة أربع من الهجرة. أقبل حييٌ بن أخطب وكنانة بن الربيع
وسلاّم بن ابي الحقيق وجماعة من اليهود بقريش وكنانة وغطفان ، وذلك أنّهم قدموا
مكّة فصاروا إلى أبي سفيان وغيره من قريش ، فدعوهم إلى حرب رسول الله 6 ، وقالوا لهم : أيدينا مع أيديكم ، ونحن
معكم حتّى نستأصله ، ثم خرجوا إلى غطفان ودعوهم إلى حرب رسول الله 6 ، وأخبروهم باتّباع قريش إياهم ، فاجتمعوا
معهم.
وخرجت قريش وقائدها أبو سفيان ، وخرجت
غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة ، والحارث بن عوف في بني مرّة ، ومسعود
بن رخيلة
__________________
بن نويرة بن طريف في
قومه من أشجع ، وهم الأحزاب ، وسمع بهم رسول الله 6
فخرج إليهم ، وذلك بعد أن أشار سلمان الفارسيّ أن يصنع خندقاً. وظهر في ذلك من آية النبوّة أشياء :
منها : ما رواه جابر بن عبدالله ، قال :
اشتدّ عليهم في حفر الخندق كدية
فشكوا ذلك إلى رسول الله 6
، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ، ثمّ دعا بما شاء الله أن يدعو ، ثمّ نضح الماء على
تلك الكدية فقال من حضرها : فوالذي بعثه بالحقّ لانثالت حتّى عادت كالكندر ما تردّ فأساً ولا مسحاة .
ومنها
: ما رواه جابر من إطعام الخلق الكثير من الطعام القليل. وقد ذكرناه فيما قبل .
ومنها
: ما رواه سلمان الفارسي رضي الله عنه ، قال : ضربت في ناحية من الخندق ، فعطف
عليّ رسول الله 6
وهو قريب منّي ، فلما رآني أضرب ورأى شدّة المكان عليّ نزل فأخذ المعول من يدي
فضرب به ضربة فلمعت تحت المعول برقة ، ثمّ ضرب ضربة اُخرى فلمعت تحته برقة اُخرى ،
ثمّ ضرب به الثالثة فلمعت برقة اُخرى. فقلت : يا رسول الله بأبي أنت واُمّي ما هذا
الذي رأيت؟
__________________
فقال : «أمّا الأولى فإنّ الله تعالى
فتح عليَّ بها اليمن ، وأمّا الثانية فإنّ الله تعالى فتح عليَّ بها الشام والمغرب
، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح عليّ بها المشرق»
وأقبلت الأحزاب إلى النبيّ 6 ، فهال المسلمين أمرهم ، فنزلوا ناحية
من الخندق ، وأقاموا بمكانهم بضعاً وعشرين ليلة ، لم يكن بينهم حرب إلاّ الرمي
بالنبل والحصى.
ثمّ انتدب فوارس قريش للبراز ، منهم
عمرو بن عبد ودّ ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، وضرار بن الخطّاب ، تهيؤوا
للقتال ، وأقبلوا على خيولهم حتّى وقفوا على الخندق ، فلمّا تأمّلوه قالوا : والله
إنّ هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها ، ثمّ تيمّموا مكاناً من الخندق فيه ضيق
فضربوا خيولهم فاقتحمته ، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسَلع وخرج عليّ بن أبي طالب 7 في نفر معه حتّى أخذوا عليهم الثغرة
التي اقتحموها ، فتقدّم عمرو بن عبد ودّ وطلب البراز ، فبرز إليه عليّ 7 فقتله ـ وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء
الله ـ فلمّا رأى عكرمة وهبيرة عمراً صريعاً ولّوا منهزمين ، وفي ذلك يقول أمير
المؤمنين 7 في أبيات
شعر :
«نصر الحجارةَ من سفاهةِ رأيه
|
|
ونصرتُ ربَّ محمّدٍ بصوابي
|
فـــضربـتُهُ وتركتُهُ متجدّلاً
|
|
كالجـذعِ بين دكادكٍ وروابي
|
وعــففتُ عن أثوابهِ ولو أنّني
|
|
كنتُ المقطّر بزّني أثوابــي
|
_________________
لا تحسبنّ الله خاذلَ دينه
|
|
ونبيهِ يا معشرَ الأحزابِ»
|
ورمى ابن العرقة بسهم فأصاب أكحل سعد بن
معاذ وقال : خذها مني وأنا ابن العرقة ، قال : عرّق الله وجهك في النار ، وقال : اللهمّ
إن كنت أبقيت من حرب في قريش شيئاً فأبقني لحربهم ، فإنّه لا قوم أحبّ إليّ قتالاً
من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه من حرمك ، اللهمّ وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم
فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة. فأباته رسول الله 6 على فراشه وبات على الأرض.
قال أبان بن عثمان : حدّثني من سمع أبا
عبدالله 7 يقول : قام
رسول الله 6 على التلّ
الذي عليه مسجد الفتح في ليلة ظلماء قرّة ، قال : من يذهب فيأتينا بخبرهم وله
الجنّة؟ فلم يقم أحد ثمّ عاد ثانية وثالثة فلم يقم أحد ، فقام حذيفة فقال 6 : انطلق حتّى تسمع كلامهم وتأتيني
بخبرهم.
فذهب فقال : اللّهم احفظه من بين يديه
ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، حتّى تردّه إليّ ، وقال : لا تحدث شيئاً حتّى
تأتيني.
ولمّا توجّه حذيفة قام رسول الله 6 يصلّي ثمّ نادى بأشجى صوت : يا صريخ
المكروبين ، يا مجيب دعوة المضطّرين ، اكشف همّي وكربي ، فقد ترى حالي وحال من
معي.
فنزل جبرئيل فقال : يا رسول الله إنّ
الله عزّ وجلّ سمع مقالتك
__________________
واستجاب دعوتك وكفاك
هول من تحزّب عليك وناواك ، فجثا رسول الله 6
على ركبتيه وبسط يديه وأرسل بالدمع عينيه ، ثمّ نادى : شكراً شكراً كما آويتني
وآويت من معي.
ثمّ قال جبرئيل 7 : يا رسول الله ، ان الله قد نصرك وبعث
عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها الحصى ، وريحاً من السماء الرابعة فيها
الجنادل.
قال حذيفة : فخرجت فإذا أنا بنيران
القوم قد طفئت وخمدت ، وأقبل جند الله الأوّل ريح شديدة فيها الحصى ، فما ترك لهم
ناراً إلاّ أخمدها ، ولا خباء إلاّ طرحها ، ولا رمحاً إلاّ ألقاها ، حتّى جعلوا
يتترسون من الحصى ، وكنت أسمع وقع الحصى في الترسة ، وأقبل جند الله الأعظم ، فقام
أبو سفيان إلى راحلته ثمّ صاح في قريش : النجاء النجاء ، ثمّ فعل عيينة بن حصن
مثلها ، وفعل الحارث بن عوف مثلها ، وذهب الأحزاب.
ورجع حذيفة إلى رسول الله 6 فأخبره الخبر ، وأنزل الله على رسوله (اذكرُوا
نعمة الله عَلَيكُم إذْ جاءَتْكُم جنودٌ فأرسَلْنا عَلَيهم رِيحاً وجُنوداً لَم
تَروها)إلى
ما شاء الله تعالى من السورة.
وأصبح رسول الله بالمسلمين حتّى دخل
المدينة ، فضربت ابنته فاطمة غسولاً حتى تغسل رأسه ، إذ أتاه جبرئيل على بغلة
معتجراً بعمامة
بيضاء ، عليه قطيفة من استبرق معلّق عليها الدرّ والياقوت ، عليه الغبار ، فقام
رسول
__________________
الله 6 فمسح الغبار عن وجهه ، فقال له جبرئيل
: «رحمك ربّك ، وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء ، ما زلت أتبعهم حتّى بلغت
الروحاء»
، ثمّ قال جبرئيل : «انهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب ، فوالله لاَدقنّهم دقّ
البيضة على الصخرة».
فدعا رسول الله 6 عليّاً 7
فقال : «قدّم راية المهاجرين إلى بني قريضة ، وقال : «عزمت عليكم أن لا تصلّوا
العصر إلاّ في بني قريظة».
فأقبل عليّ 7 ومعه المهاجرون وبنو عبد الأشهل وبنو
النجّار كلّها ، لم يتخلّف عنه منهم أحد ، وجعل النبيّ 6 يسرّب إليه الرجال ، فما صلّى بعضهم
العصر إلاّ بعد العشاء.
فأشرفوا عليه وسبّوه ، وقالوا : فعل
الله بك وبابن عمّك ، وهو واقف لا يجيبهم ، فلمّا أقبل رسول الله عليه وآله وسلّم
والمسلمون حوله تلقّاه أمير المؤمنين 7
وقال : «لا تأتهم يا رسول الله جعلني الله فداك ، فإنّ الله سيجزيهم». فعرف رسول
الله أنّهم قد شتموه ، فقال : «أما إنّهم لو رأوني ما قالوا شيئاً ممّا سمعت».
وأقبل ثمّ قال : «يا إخوة القردة ، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ،
يا عباد الطاغوت اخسؤوا أخساكم الله». فصاحوا يميناً وشمالاً : يا أبا القاسم ما
كنت فحّاشاً فما بدا لك.
قال الصادق 7 : فسقطت العنزة من يده ، وسقط رداءه من
__________________
خلفه ، ورجع يمشي
إلى ورائه حياء ممّا قال لهم 6.
فحاصرهم رسول الله 6 خمساً وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم
سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء وقسمة الأموال ، وأن
يجعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار.
فقال له النبيّ 6 : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة
أرقعة.
فلمّا جيء بالاُسارى حبسوا في دار ، وأمر
بعشرة فاُخرجوا فضرب أمير المؤمنين أعناقهم ، ثم أمر بعشرة فاُخرجوا فضرب الزبير
أعناقهم ، وقلَّ رجل من أصحاب رسول الله 6
إلاّ قتل الرجل والرجلين.
قال : ثمّ انفجرت رمية سعد والدم ينفح
حتّى قضى ، ونزع رسول الله 6
رداءه فمشى في جنازته بغير رداء. ثمّ بعث رسول الله 6
عبدالله بن رواحة إلى خيبر ، فقتل سيربن دارم اليهودي ، وبعث عبدالله بن عتيك إلى
خيبر فقتل أبا رافع بن أبي الحقيق».
ثمّ كانت غزوة بني المصطلق من خزاعة ، ورأسهم
الحارث بن أبي الضرار ، وقد تهيؤوا للمسير إلى رسول الله 6 ، وهي غزوة المُرَيسيع ، وهو ماء ، وقعت في شعبان سنة خمس ، وقيل
: في شعبان سنة ست ، والله أعلم.
قالت جويرية بنت الحارث ـ زوجة رسول
الله 6 ـ : أتانا
رسول الله 6 ونحن على
المُرَيسيع ،
__________________
فأسمع أبي وهو يقول
: أتانا ما لا قبل لنا به ، قالت : وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من
الكثرة ، فلمّا أن أسلمت وتزوّجني رسول الله 6
ورجعنا جعلت أظهر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى ، فعرفت أنّه رعب من الله عزّ
وجلّ يلقيه في قلوب المشركين.
قالت : ورأيت قبل قدوم النبيّ 6 بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب
حتّى وقع في حجري ، فكرهت أن أخبر بها أحداً من الناس ، فلمّا سبينا رجوت الرؤيا ،
فأعتقني رسول الله 6
وتزوّجني.
وأمر رسول الله 6 أصحابه أن يحملوا عليهم حملة رجل واحد ،
فما أفلت منهم إنسان ، وقتل عشرة منهم واُسر سائرهم ، وكان شعار المسلمين يومئذ
«يا منصور أمت».
وسبى رسول الله 6 الرجال والنساء والذراري والنعم
والشياه ، فلمّا بلغ الناس أنّ رسول الله تزوّج جويرية بنت الحارث قالوا : أصهار
رسول الله. فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق ، فما عُلم امرأة أعظم بركة
على قومها منها.
وفي هذه الغزوة قال عبدالله بن اُبي (لَئن
رجَعنا إلى المَدِينَةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزّ مِنها الأذَلّ)
، واُنزلت الآيات.
وفيها كانت قصة إفك عائشة
__________________
.......................................
__________________
.......................................
__________________
وبعث رسول الله 6 في سنة ستّ في شهر ربيع الأول عكاشة بن محصن في
أربعين رجلاً إلى الغمرة
، وبكّر القوم فهربوا ، وأصاب مائتي بعير لهم ، فساقها إلى المدينة .
وفيها
: بعث أبا عبيدة
بن الجرّاح إلى القصّة
في أربعين رجلاً ،
__________________
فأغار عليهم وأعجزهم
هرباً في الجبال وأصابوا رجلاً واحداً فأسلم .
وفيها
: بعث محمّد بن مسلمة إلى قوم من هوازن
فكمن القوم لهم وافلت محمّد وقتل أصحابه .
وفيها
: كانت سريّة زيد بن حارثة إلى الجموم من أرض بني
سُليم ، فأصابوا نعماً وشاء وأسرى .
وفيها
: كانت سريّة زيد بن حارثة إلى العيص .
وفيها
: سريّة بن حارثة إلى الطرف إلى بني ثعلبة في
خمسة عشر رجلاً ، فهربوا وأصاب منهم عشرين بعيراً .
__________________
وفيها
: كانت غزوة عليّ بن أبي طالب 7 إلى بني عبدالله
بن سعد من أهل فدك ، وذلك أنه بلغ رسول الله 6
أنّ لهم جمعاً يريدون أن يمدّوا يهود خيبر .
وفيها
: سريّة عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل
في شعبان ، وقال له رسول الله 6
: «إن أطاعوا فتزوّج ابنة ملكهم» فأسلم القوم وتزوّج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ
، وكان أبوها رأسهم وملكهم
وفيها
: بعث رسول الله 6
ـ في قول الواقدي ـ إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله 6 واستاقوا الاِبل عشرين فارساً ، فاتي
بهم ، فاُمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ، وتركوا بالحرّة حتّى ماتوا
__________________
وروي عن جابر بن عبدالله : أنّ رسول
الله 6 دعا عليهم
فقال : «اللهمّ عمّ عليهم الطريق» قال : فعمي عليهم الطريق
وفيها
: اُخذت أموال أبي العاص بن الربيع وقد خرج تاجراً إلى الشام ومعه بضائع لقريش ، فلقيته
سريّة لرسول الله 6
واستاقوا عيره وأفلت ، وقدموا بذلك على رسول الله 6
فقسّمه بينهم ، وأتى أبو العاص فاستجار بزينب بنت رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم
وسألها أن تطلب من رسول الله 6
ردّ ماله عليه وما كان معه من أموال الناس ، فدعا رسول الله 6 السريّة وقال : «إنّ هذا الرجل منّا
بحيث قد علمتم ، فإن رأيتم أن تردّوا عليه فافعلوا».
فردّوا عليه ما أصابوا ، ثمّ خرج وقدم
مكّة ورد على الناس بضائعهم ، ثمّ قال : أما والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم
عليكم إلاّ توقّياً أن تظنّوا أنّي أسلمت لأذهب بأموالكم ، وإنّي أشهد أن لا إله
إلاّ الله وأن محمّداً عبده ورسوله.
وفيها : كانت غزوة الحديبية في ذي
القعدة ، خرج 6
في ناس كثير من أصحابه يريد العمرة وساق معه سبعين بدنة ، وبلغ ذلك المشركين من
قريش ، فبعثوا خيلا ليصدّوه عن المسجد الحرم ، وكان 6
يرى أنّهم لا يقاتلونه لاَنّه خرج في الشهر الحرام ،
__________________
وكان من أمر سهيل بن
عمرو وأبي جندل ابنه وما فعله رسول الله 6
ما شكّ به من زعم أنّه ما شكّ إلاّ يومئذ في الدين.
وأتى بدليل بن ورقاء إلى قريش فقال لهم
: يا معشر قريش خفّضوا عليكم ، فإنّه لم يأت يريد قتالكم وإنّما يريد زيارة هذا
البيت.
فقالوا : والله ما نسمع منك ولا تحدّث
العرب أنّه دخلها عنوة ، ولا نقبل منه إلاّ أن يرجع عنّا ، ثمّ بعثوا إليه بكر بن
حفص وخالد بن الوليد وصدّوا الهدي.
وبعث رسول الله 6 عثمان بن عفّان إلى أهل مكّة يستأذنهم
في أن يدخل مكّة معتمراً ، فأبوا أن يتركوه ، واُحتبس عثمان ، فظنّ رسول الله 6 أنّهم قتلوه فقال لاَصحابه : «أتبايعونني
على الموت؟» فبايعوه تحت الشجرة على أن لا يفرّوا عنه أبداً.
ثمّ إنّهم بعثوا سهيل بن عمرو فقال : يا
أبا القاسم ، إنّ مكّة حرمنا وعزّنا ، وقد تسامعت العرب بك أنّك قد غزوتنا ، ومتى
ما تدخل علينا مكّة عنوة يطمع فينا فنتخطّف ، وإنّا نذكرك الرحم ، فإنّ مكّة بيضتك
التي تفلّقت عن رأسك.
قال : «فما تريد؟».
قال : اُريد أن أكتب بيني وبينك هدنة
على أن اُخلّيها لك في قابل فتدخلها ولا تدخلها بخوف ولا فزع ولا سلاح إلاّ سلاح
الراكب ، السيف في القراب والقوس.
فدعا رسول الله 6 عليّ بن أبي طالب 7 فأخذ أديماً احمراً فوضعه على فخذه ثمّ
كتب : «بسم الله الرحمن الرحيم.» ـ وسنذكر تمام ذلك في مناقب أمير المؤمنين ـ :
هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبدالله بن
عبد المطلب ومن معه من
المسلمين سهيل بن
عمرو ومن معه من أهل مكّة : على أنّ الحرب مكفوفة فلا إغلال ولا إسلال ولا قتال ، وعلى
أن لا يستكره أحد على دينه ، وعلى أن يعبد الله بمكة علانية ، وعلى أنّ محمداً
ينحر الهدي مكانه ، وعلى أن يخلّيها له في قابل ثلاثة أيّام فيدخلها بسلاح الراكب
وتخرج قريش كلّها من مكّة إلاّ رجل واحد من قريش يخلفونه مع محمّد وأصحابه ، ومن
لحق محمّداً وأصحابه من قريش فإن محمداً يرده إليهم ، ومن رجع من أصحاب محمّد إلى
قريش بمكّة فإنّ قريشاً لا تردّه إلى محمّد ـ وقال رسول الله 6 : «إذا سمع كلامي ثمّ جاءكم فلا حاجة
لي فيه» ـ وأن قريشاً لا تعين على محمّد وأصحابه احداً بنفس ولا سلاح...إلى آخره.
فجاء أبو جندل إلى النبيّ 6 حتّى جلس إلى جنبه ، فقال أبوه سهيل : ردّه
عليّ ، فقال المسلمون : لا نردّه.
فقام 6
وأخذ بيده وقال : «اللّهم إن كنت تعلم أنّ أبا جندل لصادقٌ فاجعل له فرجاً
ومخرجاً» ثمّ أقبل على الناس وقال : «إنّه ليس عليه بأس ، إنّما يرجع إلى أبيه
واُمه ، وإنّي أريد أن اتمّ لقريش شرطها».
ورجع رسول الله 6 إلى المدينة وأنزل الله في الطريق سورة
الفتح (اِنّا فَتَحنا لَكَ فَتحاً مُبيناً).
قال الصادق 7 : «فما انقضت تلك المدّة حتّى كاد
الاسلام يستولي على أهل مكّة».
__________________
ولمّا رجع رسول الله 6 إلى المدينة انفلت أبو بصير بن اُسيد
بن جارية
الثقفي من المشركين ، وبعث الأخنس بن شريق في أثره رجلين فقتل أحدهما وأتى رسول
الله 6 مسلماً
مهاجراً فقال [له 6]
: «مسعّر حرب لو كان معه احد» ثمّ قال : «شأنك بسلب صاحبك ، واذهب حيث شئت».
فخرج أبو بصير ومعه خمسة نفر كانوا
قدموا معه مسلمين ، حتّى كانوا بين العيص وذي المروة من أرض جهينة على طريق عيرات
قريش مما يلي سيف البحر ، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو في سبعين رجلاً راكباً
اسلموا فلحق بأبي بصير ، واجتمع إليهم ناس من غفار وأسلم وجهينة حتّى بلغوا
ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون ، لا تمرّ بهم عير لقريش إلاّ أخذوها وقتلوا أصحابها ، فأرسلت
قريش أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله يسألونه ويتضرّعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير
وأبي جندل ومن معهم فيقدموا عليه ، وقالوا : من خرج منّا إليك فأمسكه غير حرج أنت
فيه. فعلم الذين كانوا أشاروا على رسول الله أن يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضية أنّ طاعة رسول الله خير لهم فيما
أحبّوا وفيما كرهوا.
وكان أبو بصير وأبو جندل وأصحابهما هم
الذين مرّ بهم أبو العاص بن الربيع من الشام في نفر من قريش فأسروهم وأخذوا ما
معهم ولم يقتلوا منهم أحداً لصهر أبي العاص رسول الله 6 ، وخلّوا سبيل أبي العاص فقدم المدينة
على امرأته وكان أذن لها حين خرج إلى الشام أن تقدم المدينة فتكون مع رسول الله 6 ، وأبو العاص هو
__________________
ابن اُخت خديجة بنت
خويلد.
ثمّ كانت غزوة خيبر في ذي
الحجّة من سنة ستّ ـ وذكر الواقديّ : أنّها كانت أوّل سنة سبع من الهجرة ـ وحاصرهم رسول الله 6 بضعاً وعشرين ليلة ، وبخيبر أربعة عشر
ألف يهوديّ في حصونهم ، فجعل رسول الله 6
يفتتحها حصناً حصناً ، وكان من أشدّ حصونهم وأكثرها رجالاً القموص ، فأخذ أبو بكر راية
المهاجرين فقاتل بها ثمّ رجع منهزماً ، ثمّ أخذها عمر بن الخطّاب من الغد فرجع
منهزماً يجبّن الناس ويجبّنونه حتّى ساء رسول الله 6
ذلك فقال : «لاعطيّن الراية غداً رجلاً كرّاراً غير فرّار ، يحبّ الله ورسوله
ويحبّه الله ورسوله ، ولا يرجع حتّى يفتح الله على يده».
فغدت قريش يقول بعضهم لبعض : أمّا عليّ
فقد كفيتموه فإنّه أرمد لا يبصر موضع قدمه. وقال عليّ 7 لمّا سمع مقالة رسول الله 6 : «اللّهم لا معطي لما منعت ، ولا مانع
لما أعطيت».
فأصبح رسول الله 6 واجتمع إليه الناس. قال سعد : جلست نصب
عينيه ثمّ جثوت على ركبتي ثمّ قمت على رجلي قائماً رجاء أن يدعوني ، فقال : «ادعو
لي عليّاً» فصاح الناس من كلّ جانب : إنّه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه فقال : «أرسلوا
إليه وادعوه».
فاُتي به يقاد ، فوضع رأسه على فخذه ثمّ
تفل في عينيه ، فقام وكأنَّ عينيه جزعتان
، ثمّ أعطاه الراية ودعا له فخرج يهرول هرولة ، فوالله ما بلغت
__________________
اُخراهم حتّى دخل
الحصن.
قال جابر : فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا ، وصاح
سعد : يا أبا الحسن أربع يلحق بك الناس ، فأقبل حتّى ركزها قريباً من الحصن فخرج
إليه مرحب في عادية اليهود
فبارزه فضرب رجله فقطعها وسقط ، وحمل علي والمسلمون عليهم فانهزموا .
قال أبان : حدّثنى زرارة قال : قال
الباقر 7 : «انتهى
إلى باب الحصن وقد اُغلق في وجهه فاجتذبه اجتذاباً وتترّس به ، ثمّ حمله على ظهره
واقتحم الحصن اقتحاماً ، واقتحم المسلمون والباب على ظهره. قال : فوالله ما لقي
عليّ 7 من الناس
تحت الباب أشدّ ممّا لقي من الباب ، ثمّ رمى بالباب رمياً.
وخرج البشير إلى رسول الله 6 : أنّ عليّاً دخل الحصن ، فأقبل رسول
الله 6 ، فخرج عليّ
يتلقّاه ، فقال 6
: قد بلغني نبأك المشكور وصنيعك المذكور ، قد رضي الله عنك ورضيت أنا عنك. فبكى
عليّ 7 ، فقال له :
ما يبكيك يا علي؟ فقال : فرحاً بأنّ الله ورسوله عنّي راضيان.
قال : وأخذ عليّ فيمن أخذ صفيّة بنت
حييّ ، فدعا بلالاً فدفعها إليه
__________________
وقال له : لا تضعها
إلاّ في يدي رسول الله حتّى يرى فيها رأيه ، فأخرجها بلال ومرّ بها إلى رسول الله
على القتلى ، وقد كادت تذهب روحها فقال 6
لبلال : أنزعت منك الرحمة يا بلال؟! ثمّ اصطفاها 6
لنفسه ، ثمّ اعتقها وتزوّجها».
قال : فلمّا فرغ رسول الله 6 من خيبر عقد لواء ثمّ قال : «من يقوم
إليه فيأخذه بحقّه؟» وهو يريد أن يبعث به إلى حوائط فدك ، فقام الزبير إليه فقال :
أنا ، فقال له : «امط عنه» ثمّ قام إليه سعد ، فقال : «امط عنه» ، ثمّ قال : «يا
عليّ قم إليه فخذه» فأخذه فبعث به إلى فدك فصالحهم على أن يحقن دماءهم ، فكانت
حوائط فدك لرسول الله 6
خاصّاً خالصاً. فنزل جبرئيل 7
فقال : «إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك تؤتي ذا القربى حقّه».
فقال : «يا جبرئيل ومن قرباي وما
حقّها؟».
قال : «فاطمة فأعطها حوائط فدك ، وما
لله ولرسوله فيها».
فدعا رسول الله 6 فاطمة 3
وكتب لها كتاباً جاءت به بعد موت أبيها إلى أبي بكر وقالت : «هذا كتاب رسول الله 6 لي ولا بني».
قال ولمّا افتتح رسول الله 6 خيبر أتاه البشير بقدوم جعفر بن أبي
طالب وأصحابه من الحبشة إلى المدينة ، فقال : «ما
__________________
أدري بأيّهما أنا
أسرّ ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر» .
وعن سفيان الثوريّ ، عن أبي الزّبير ، عن
جابر قال : لمّا قدم جعفر بن أبي طالب 7
من أرض الحبشة تلقّاه رسول الله 6
، فلمّا نظر جعفر إلى رسول الله حجل ـ يعني مشى على رجل واحدة ـ إعظاماً لرسول
الله ، فقبّل رسول الله 6
ما بين عينيه .
وروى زرارة عن أبي جعفر 7 : أنّ رسول الله 6 لمّا استقبل جعفراً التزمه ثمّ قبّل
بين عينيه ، قال : «وكان رسول الله 6
بعث قبل أن يسير إلى خيبر عمرو بن اُميّة الضمري إلى النجاشي عظيم الحبشة ، ودعاه
إلى الإسلام فأسلم ، وكان أمر عمراً أن يتقدم بجعفر وأصحابه ، فجهّز النجاشي
جعفراً وأصحابه بجهاز حسن ، وأمر لهم بكسوة ، وحملهم في سفينتين».
ثمّ بعث رسول الله 6 ـ فيما رواه الزهري ـ عبدالله بن رواحة
في ثلاثين راكباً فيهم عبدالله بن أنيس إلى اليسير بن رزام اليهودي ، لمّا بلغه
أنّه يجمع غطفان ليغزو بهم. فأتوه فقالوا : أرسلنا إليك رسول الله 6 ليستعملك على خيبر ، فلم يزالوا به
حتّى تبعهم في ثلاثين رجلاً مع كلّ رجل منهم رديف من المسلمين.
فلمّا ساروا ستّة أميال ندم اليسير
فأهوى بيده إلى سيف عبدالله بن
__________________
أنيس ، ففطن له
عبدالله فزجر بعيره ثمّ اقتحم يسوق بالقوم حتّى إذا استمكن من اليسير ضرب رجله
فقطعها ، فاقتحم اليسير وفي يده مخرش
من شوحط
فضرب به وجه عبدالله فشجّه مأمومة
، وانفكأ كلّ المسلمين على رديفه فقتله ، غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شدّا ، ولم
يصب من المسلمين أحد ، وقدموا على رسول الله 6
فبصق في شجّة عبدالله بن أنيس فلم تؤذه حتّى مات .
وبعث غالب بن عبدالله الكلبي إلى أرض
بني مرّة فقتل وأسر .
وبعث عيينة بن حصن البدري إلى أرض بني
العنبر فقتل وأسر .
ثمّ كانت عمرة القضاء سنة سبع اعتمر
رسول الله 6 والذين
شهدوا معه الحديبية ، ولمّا بلغ قريشاً ذلك خرجوا متبدّدين ، فدخل مكّة وطاف
بالبيت على بعيره بيده محجن
يستلم به الحجر ، وعبدالله بن رواحة أخذ بخطامه وهو يقول :
خلّوا بني الكفّار عن سبيلهِ
|
|
خلّوا فكلّ الخيرِ في رسولهِ
|
__________________
قد أنزل الرحمنُ في تنزيله
|
|
نضربكم ضرباً على تأويلهِ
|
كـما ضربناكم على تنزيلهِ
|
|
ضربناً يزيلُ الهامَ عن مقيله
|
يا رب إني مؤمن بقيله
وأقام بمكّة ثلاثة أيّام ، وتزوّج بها
ميمونة بنت الحارث الهلاليّة ، ثمّ خرج فابتنى بها بسرف ، ورجع إلى المدينة فأقام
بها حتّى دخلت سنة ثمان.
وكانت غزوة مؤتةفي
جمادى من سنة ثمان ، بعث جيشاً عظمياً وأمّر 7
على الجيش زيد بن حارثة ثمّ قال : «فإن اُصيب زيد فجعفر ، فإن اُصيب جعفر فعبدالله
بن رواحة ، فإن اُصيب فليرتض المسلمون رجلاً فليجعلوه عليهم».
وفي رواية أبان بن عثمان عن الصادق 7 : أنّه استعمل عليهم جعفراً ، فإن قتل
فزيد ، فإن قتل فابن رواحة.
ثمّ خرجوا حتّى نزلوا معان ، فبلغهم أنّ هرقل قد نزل بمأرب في
مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة
__________________
وفي كتاب أبان بن عثمان : بلغهم كثرة
عدد الكفّار من العرب والعجم من لخم وجذام وبلّي وقضاعة ، وانحاز المشركون إلى أرض
يقال لها : المشارف ، وإنّما سمّيت السيوف المشرفيّة لاَنّها طبعت لسليمان بن داود
بها ، فأقوا بمعان يومين فقالوا : نبعث إلى رسول الله فنخبره بكثرة عدوّنا حتّى
يرى في ذلك رأيه.
فقال عبدالله بن رواحة : يا هؤلاء إنّا
والله ما نقاتل الناس بكثرة وإنّما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فقالوا
: صدقت.
فتهيّؤوا ـ وهم ثلاثة آلاف ـ حتّى لقوا
جموع الروم بقرية من قرى البلقاء يقال لها : شرف ، ثمّ انحاز المسلمون إلى مؤتة ، قرية
فوق الأحساء.
وعن أنس بن مالك قال : نعى النبيّ 6 جعفراً وزيد بن حارثة وابن رواحة ، نعاهم
قبل أن يجيء خبرهم وعيناه تذرفان. رواه البخاري في الصحيح.
قال أبان : وحدّثني الفضيل بن يسار ، عن
أبي جعفر 7 قال : «اُصيب
يومئذ جعفر وبه خمسون جراحة ، خمس وعشرون منها في وجهه».
قال عبدالله بن جعفر : أنا احفظ حين دخل
رسول الله 6 على اُمّي
فنعى لها أبي ، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهرقان الدموع حتّى
تقطر على لحيته ، ثمّ قال : «اللهم إنّ جعفراً
__________________
قد قدم إليك إلى
أحسن الثواب ، فاخلفه في ذرّيّته بأحسن ما خلّفت أحداً من عبادك في ذرّيّة».
ثمّ قال : «يا أسماء ألا اُبشّرك؟».
قالت : بلى بأبي أنت واُمّي يا رسول
الله.
قال : «إنّ الله جعل لجعفر جناحين يطير
بهما في الجنّة».
قالت : فاعلم الناس ذلك.
فقام رسول الله 6 وأخذ بيدي يمسح بيده رأسي حتّى رقى
المنبر وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى والحزن يعرف عليه ، فقال : «إن المرء كثير
بأخيه وابن عمّه ، ألا إنّ جعفراً قد استشهد وجُعل له جناحان يطير بهما في
الجنّة».
ثمّ نزل 7
ودخل بيته وأدخلني معه ، وأمر بطعام يصنع لأجلي ، وأرسل إلى أخي فتغذينا عنده غذاء
طيّباً مباركاً ، وأقمنا ثلاثة أيّام في بيته ندور معه كلّما صار في بيت إحدى
نسائه ، ثمّ رجعنا إلى بيتنا ، فأتانا رسول الله 6
وأنا اُساوم شاة أخ لي فقال : «اللّهم بارك له في صفقته» قال عبدالله : فما بعت
شيئاً ولا اشتريت شيئاً إلاّ بورك لي فيه.
قال
الصادق 7 : «قال
رسول الله 6 لفاطمة 3 : إذهبي فابكي على ابن عمّك ، ولا تدعي بثكل فما قلت فقد صدقت».
__________________
وذكر محمّد بن إسحاق عن عروة قال : لمّا
أقبل أصحاب مؤتة تلقّاهم رسول الله 6
والمسلمون معه ، فجعلوا يحثون عليهم التراب ويقولون : يا فرّار ، فررتم في سبيل
الله ، فقال رسول الله 6
: «ليسوا بفرّار ولكنّهم الكرّار إن شاء الله».
ثمّ كانت غزوة الفتح في شهر
رمضان من سنة ثمان ، وذلك أنّ رسول الله لمّا صالح قريشاً عام الحديبية دخلت خزاعة
في حلف النبي 6
وعهده ، ودخلت كنانة في حلف قريش ، فلمّا مضت سنتان من القضيّة قعد رجل من كنانة
يروي ههجاء رسول الله 6
، فقال له رجل من خزاعة : لا تذكر هذا ، قال : وما أنت وذاك؟ فقال : لئن أعدت
لأكسرنّ فاك.
فأعادها ، فرفع الخزاعي يده فضرب بها
فاه ، فاستنصر الكناني قومه ، والخزاعي قومه ، وكانت كنانة أكثر فضربوهم حتّى
أدخلوهم الحرم ، وقتلوا منهم ، وأعانتهم قريش بالكراع والسلاح ، فركب عمرو بن سالم
إلى رسول الله 6
فخبّره الخبر وقال أبيات شعر ، منها :
لا هـــمّ أنّي ناشدٌ محمّداً
|
|
حلف أبينا وأبيه الأتـلدا
|
أنّ قـريشاً أخلفوك الموعدا
|
|
ونقضوا ميثاقك المؤكّدا
|
وقتلونا ركعاً وسجداً
فقال رسول الله 6 : «حسبك يا عمرو» ثمّ قام فدخل دار
ميمونة وقال : «اسكبوا لي ماء» فجعل يغتسل ويقول : «لا نصرت إن لم أنصر بني كعب».
__________________
ثمّ اجمع رسول الله 6 على المسير إلى مكّة ، وقال : «اللّهمّ
خذ العيون عن قريش حتّى نأتيها في بلادها».
فكتب حاطب بن أبي بلتعة مع سارة مولاة
أبي لهب إلى قريش : أنّ رسول الله خارج إليكم يوم كذا وكذا. فخرجت وتركت الطريق
ثمّ أخذت ذات اليسار في الحرّة ، فنزل جبرئيل فأخبره ، فدعا عليّاً 7 والزبير فقال لهما : «أدركاها وخذا
منها الكتاب».
فخرج عليّ 7
والزبير لا يلقيان أحداً حتّى وردا ذا الحليفة ، وكان النبي 7 وضع حرساً على المدينة ، وكان على
الحرس حارثة بن النعمان ، فأتيا الحرس فسألاهم فقالوا : ما مرّ بنا أحدٌ ، ثمّ
استقبلا حاطباً فسألاه ، فقال : رأيت امرأة سوداء انحدرت من الحرّة. فأدركاها فأخذ
عليّ 7 منها الكتاب
وردّها إلى رسول الله 6.
قال : فدعا 6 حاطباً فقال له : «انظر ما صنعت».
قال : أما والله إنّي لمؤمن بالله
ورسوله ما شككت ، ولكنّي رجلٌ ليس لي بمكّة عشيرة ، ولي بها أهل فأردت أن أتّخذ
عندهم يداً ليحفظوني فيهم.
فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله
أضرب عنقه ، فوالله لقد نافق.
فقال 7
: «إنّه من أهل بدر ، ولعل الله اطّلع عليهم فغفر لهم ، أخرجوه من المسجد».
فجعل الناس يدفعون في ظهره وهو يلتفت
إلى رسول الله 6
ليرق عليه ، فأمر بردّه وقال 7
: «قد عفوت عن جرمك فاستغفر ربّك ولا تعد لمثل هذه ما حييت» فأنزل الله سبحانه (يا أيُّها
الَّذَينَ
آمَنُوا
لا تَتَّخِذوا عَدوي وعَدوكُم أولياءَ)ـ إلى صدر السورة ـ.
فصل :
قال أبان : وحدثني عيسى بن عبدالله
القمي ، عن أبي عبدالله 7
قال : لما انتهى الخبر إلى أبي سفيان ـ وهو بالشام ـ بما صنعت قريش بخزاعة أقبل
حتى دخل على رسول الله 6
فقال : يا محمد احقن دم قومك وأجر بين قريش وزدنا في المدة.
قال : «أغدرتم يا أبا سفيان؟».
قال : لا.
قال : «فنحن على ما كنا عليه».
فخرج فلقي أبا بكر فقال : يا أبا بكر
أجر بين قريش ، قال : ويحك وأحد يجير على رسول الله 6؟!
ثم لقي عمر فقال له مثل ذلك.
ثم خرج فدخل على اُم حبيبة ، فذهب ليجلس
على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته فقال : يا بنيّة أرغبةً بهذا الفراش عني؟
قالت : نعم ، هذا فراش رسول الله 6 ، ما كنت لتجلس عليه وأنت رجس مشرك.
ثم خرد فدخل على فاطمة فقال : يا بنت
سيد العرب تجيرين بين قريش وتزيدين في المدة فتكونين أكرم سيدة في الناس؟
__________________
قالت : «جواري في جوار رسول الله 6».
قال : فتأمرين ابنيك أن يجيرا بين
الناس؟
قالت : «والله ما يدري ابناي ما يجيران
من قريش».
فخرج فلقي عليّاً 7 فقال : أنت أمسّ القوم بي رحماً ، وقد
اعتسرت عليّ الاُمور ، فاجعل لي منها وجهاً.
قال : «أنت شيخ قريش تقوم على باب
المسجد فتجير بين قريش ثمّ تقعد على راحلتك وتلحق بقومك».
قال : وهل ترى ذلك نافعي؟
قال : «لا أدري».
فقال : يا أيّها الناس إنّي قد أجرت بين
قريش ، ثمّ ركب بعيره وانطلق فقدم على قريش ، فقالوا : ما وراءك؟ قال : جئت
محمّداً فكلّمته فوالله ما ردّ عليّ شيئاً ، ثمّ جئت ابن أبي قحافة فلم أجد عنده
خيراً ، ثمّ جئت إلى ابن الخطّاب فكان كذلك ، ثمّ دخلت على فاطمة فلم تجيبني ، ثمّ
لقيت عليّاً فأمرني أن أجير بين الناس ففعلت.
قالوا : هل أجاز ذلك محمد؟
قال : لا أدري.
قالوا : ويحك ، لعب بك الرجل ، أوَأنت
تجير بين قريش؟!
فصل
قال : وخرج رسول الله يوم الجمعة حين
صلّى العصر لليلتين مضتا من شهر رمضان ، فاستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد
المنذر ، ودعا
رئيس كلّ قوم فأمره
أن يأتي قومه فيستنفرهم.
قال الباقر 7 : «خرج رسول الله في غزوة الفتح فصام
وصام الناس حتّى نزل كراع الغميم فأمر بالاِفطار فأفطر الناس ، وصام قوم فسُمّوا
العصاة لاَنّهم صاموا. ثمّ سار 7
حتّى نزل مرّ الظهران ومعه نحو من عشرة آلاف رجل ونحو من أربعمائة فارس وقد عميت
الأخبار من قريش ، فخرج في تلك الليله أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء هل
يسمعون خبراً ، وقد كان العبّاس بن عبد المطّلب خرج يتلقّى رسول الله ومعه أبو
سفيان بن الحارث وعبدالله بن أبي اُميّة وقد تلقّاه بنيق العقاب ورسول الله 6 في قبّته ـ وعلى حرسه يومئذ زياد بن
اُسيد ـ فاستقبلهم زياد فقال : أمّا أنت يا أباالفضل فامض إلى القبّة ، وأمّا
أنتما فارجعا.
فمضى العبّاس حتّى دخل على رسول الله 6 فسلّم عليه وقال : بأبي أنت واُمّي هذا
ابن عمّك قد جاء تائباً وابن عمّتك.
قال : «لا حاجة لي فيهما ، إنّ ابن عمّي
انتهك عرضي ، وأمّا ابن عمّتي فهو الذي يقول بمكّة : لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من
الأرض ينبوعاً».
فلمّا خرج العبّاس كلّمته اُمّ سلمة
وقالت : بأبي أنت واُمّي ابن عمّك قد جاء تائباً ، لا يكون أشقى الناس بك ، وأخي
ابن عمّتك وصهرك فلا يكونّن شقيّاً بك.
ونادى أبو سفيان بن الحارث النبيّ 6 : كن لنا كما قال العبد الصالح : لا
تثريب عليكم ، فدعاه وقبل منه ، ودعا عبدالله بن أبي اُميّة فقبل منه.
وقال العبّاس : هو والله هلاك قريش إلى
آخر الدهر إن دخلها رسول الله 6
عنوة ، قال : فركبت بغلة رسول الله صلّى الله
عليه وآله وسلّم
البيضاء وخرجت أطلب الحطّابة أو صاحب لبن لعلّي آمره أن يأتي قريشاً فيركبون إلى
رسول الله 6 يستأمنون
إليه ، إذ لقيت أبا سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام ، وأبو سفيان يقول لبديل :
ما هذه النيران؟ قال : هذه خزاعة.
قال : خزاعة أقلّ وأقلّ من أن تكون هذه
نيرانهم ، ولكن لعلّ هذه تميم أو ربيعة.
قال العبّاس : فعرفت صوت أبي سفيان ، فقلت
: أبا حنظلة ، قال : لبّيك فمن أنت؟ قلت : أنا العبّاس ، قال : فما هذه النيران
فداك أبي واُمّي؟ قلت : هذا رسول الله 6
في عشرة آلاف من المسلمين ، قال : فما الحيلة؟ قال : تركب في عجز هذه البغلة
فأستأمن لك رسول الله 6.
قال : فأردفته خلفي ثمّ جئت به ، فكلّما
انتهيت إلى نار قاموا إليّ فإذا رأوني قالوا : هذا عمّ رسول الله خلّوا سبيله ، حتّى
انتهيت إلى باب عمر فعرف أبا سفيان فقال : عدوّ الله الحمد لله الذي أمكن منك ، فركَّضت
البغلة حتّى اجتمعنا على باب القبّة ، ودخل عمر على رسول الله 6 فقال : هذا أبو سفيان قد أمكنك الله
منه بغير عهد ولا عقد فدعني أضرب عنقه.
قال : العبّاس : فجلست عند رأس رسول
الله 6 فقلت : بأبي
أنت واُمّي أبو سفيان وقد أجرته ، قال : «أدخله».
فدخل فقام بين يديه فقال : «ويحك يا أبا
سفيان أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله؟».
قال : بأبي أنت واُمّي ما أكرمك وأوصلك
وأحملك ، أمّا الله لو كان معه إله لاَغنى يوم بدر ويوم أحد ، وأمّا أنّك رسول
الله فوالله إنّ في نفسي منها لشيئاً.
قال العبّاس : يضرب والله عنقك الساعة
أو تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّه رسول الله 6.
قال : فإنّي أشهد أن لا إلاّ الله وأنّك
رسول الله ـ تلجلج بها فوه ـ.
فقال أبو سفيان للعبّاس : فما نصنع
باللات والعزّى؟ فقال له عمر : اسلح
عليهما.
فقال أبو سفيان : اُفّ لك ما أفحشك ، ما
يدخلك يا عمر في كلامي وكلام ابن عمّي؟
فقال له رسول الله 6 : «عند من تكون الليلة»؟
قال : عند أبي الفضل.
قال : «فاذهب به يا أبا الفضل فأبته
عندك الليلة واغد به عليّ».
فلمّا أصبح سمع بلالاً يؤذّن ، قال : ما
هذا المنادي يا أبا الفضل؟ قال : هذا مؤذّن رسول الله 6 قم فتوضّأ وصلّ ، قال : كيف أتوضّأ؟
فعلّمه.
قال : ونظر أبو سفيان إلى النبيّ 6 وهو يتوضّأ وأيدي المسلمين تحت شعره ، فليس
قطرة تصيب رجلاً منهم إلاّ مسح بها وجهه ، فقال : بالله إن رأيت كاليوم قطّ كسرى
ولا قيصر.
فلمّا صلّى غدا به إلى رسول الله 6 فقال : يا رسول الله إنّي اُحبّ أن
تأذن لي [بالذهاب] إلى قومك فاُنذرهم وأدعوهم إلى الله ورسوله ، فأذن له ، فقال
العبّاس : كيف أقول لهم؟ بيّن لي من ذلك أمراً يطمئنّون إليه.
فقال 6
: «تقول لهم : من قال : لا إله إلاّ الله
__________________
وحده لا شريك له ، وأنّ
محمّداً رسول الله ، وكفّ يده فهو آمن ، ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن.
فقال العباس : يا رسول الله ، إن أبا
سفيان رجل يحب الفخر ، فلوخصّصه بمعروف.
فقال 7
: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن».
قال أبو سفيان : داري؟! قال : «دارك» ، ثمّ
قال : «من أغلق بابه فهو آمن».
ولمّا مضى أبو سفيان قال العبّاس : يارسول
الله إنّ أبا سفيان رجلٌ من شأنه الغدر ، وقد رأى من المسلمين تفرّقاً.
قال : «فأدركه واحبسه في مضايق الوادي
حتّى يمرّ به جنود الله».
قال : فلحقه العبّاس فقال : أبا حنظلة!
قال : أغدراً يا بني هاشم؟
قال : ستعلم أنّ الغدر ليس من شأننا ، ولكن
أصبر حتّى تنظر إلى جنود الله.
قال العبّاس : فمرّ خالد بن الوليد فقال
أبو سفيان : هذا رسول الله؟ قال : لا ولكن هذا خالد بن الوليد في المقدّمة ، ثمّ
مرّ الزبير في جهينة وأشجع فقال أبو سفيان : يا عبّاس هذا محمّد؟ قال : لا ، هذا
الزبير ، فجعلت الجنود تمرّ به حتّى مرّ رسول الله 6
في الأنصار ثمّ انتهى إليه سعد بن عبادة ، بيده راية رسول الله 6 فقال : يا أبا حنظلة.
اليوم يوم الملحمه
|
|
اليوم تستحلّ الحرمه
|
يا معشر الأوس والخزرج ثاركم يوم الجبل.
__________________
فلمّا سمعها من سعد خلّى العباس وسعى
إلى رسول الله وزاحم حتّى مرّ تحت الرماح فأخذ غرزهفقبّلها ، ثمّ قال : بأبي أنت واُمّي
أما تسمع ما يقول سعد؟ وذكر ذلك القول ، فقال 6
: «ليس ممّا قال سعد شيء» ثمّ قال لعليّ 7
: «أدرك سعداً فخذ الراية منه وأدخلها إدخالاً رفيقاً» ، فأخذها علي وأدخلها كما
أمر.
قال : وأسلم يومئذ حكيم بن حزام ، وبديل
بن ورقاء ، وجبير بن مطعم.
وأقبل أبو سفيان حتّى دخل مكّة وقد سطع
الغبار من فوق الجبال وقريش لا تعلم ، وأقبل أبو سفيان من أسفل الوادي يركض فاستقبلته
قريش وقالوا : ما وراءك وما هذا الغبار؟ قال : محمّد في خلق ، ثمّ صاح : ياآل غالب
البيوت البيوت ، من دخّل داري فهو آمن ، فعرفت هند فأخذت تطردهم ، ثمّ قالت : اقتلوا
الشيخ الخبيث ، لعنه الله من وافد قوم وطليعة قوم.
قال : ويلك إنّي رأيت ذات القرون ، ورأيت
فارس أبناء الكرام ، ورأيت ملوك كندة وفتيان حمير يسلمن آخر النهار ، ويلك اسكتي
فقد والله جاء الحقّ ودنت البليّة»
فصل :
وكان قد عهد رسول الله 6 إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكّة إلاّ
من قاتلهم ، سوى نفر كانوا يؤذون النبي صلوات الله عليه وآله ، منهم : مقيس بن
صبابة ، وعبدالله بن سعد بن أبي
__________________
سرح ، وعبدالله بن
خطل ، وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله 6
، وقال : «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة».
فاُدرك ابن خطل وهو متعلّق بأستار
الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمّار بن ياسر فسبق سعيد عمّاراً فقتله ، وقتل
مقيس بن صبابة في السوق ، وقتل علي 7
إحدى القينتين وأفلتت الاُخرى ، وقتل 7
أيضاً الحويرث بن نقيذ بن كعب.
وبلغه أنّ اُمّ هانىء بنت أبي طالب قد
آوت ناساً من بني مخزوم منهم الحارث بن هشام وقيس بن السائب ، فقصد نحو دارها
مقنّعاً بالحديد ، فنادى : «أخرجوا من آويتم» فجعلوا يذرقون كما يذرق الحبارى
خوفاً منه.
فخرجت إليه اُمّ هانىء ـ وهي لا تعرفه ـ
فقالت : يا عبدالله ، أنا اُمّم هانىء بنت عمّ رسول الله 6 واُخت عليّ بن أبي طالب ، انصرف عن
داري.
فقال علي 7
: «أخرجوهم».
فقالت : والله لاَشكونّك إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم.
فنزع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتدّ
حتّى التزمته ، فقالت : فديتك حلفت لاَشكونّك إلى رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم؟
فقال لها : «فاذهبي فبرّي قسمك ، فإنّه
بأعلى الوادي».
قالت اُمّ هانئ : فجئت إلى النبي 6 وهو في قبّة يغتسل ، وفاطمة 3 تستره ، فلمّا سمع رسول الله 6 كلامي قال : «مرحباً بك يا اُمّ
هانىء».
قلت : بأبي واُمّي ما لقيت من عليّ
اليوم!
فقال 7
: «قد أجرت من أجرت».
فقالت فاطمة 3 : «إنّما جئت يا اُمّ هانىء تشكين
عليّاً في أنّه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله؟!».
فقلت : احتمليني فديتك.
فقال رسول الله 6 : «قد شكر الله لعليّ سعيه ، وأجرت من
أجارت اُمّ هانىء لمكانها من عليّ بن أبي طالب».
قال أبان : وحدثني بشير النبّال ، عن
أبي عبدالله 7 قال : «لمّا
كان فتح مكّة قال رسول الله 6
: عند من المفتاح؟
قالوا : عند اُمّ شيبة.
فدعا شيبة فقال : إذهب إلى اُمّك فقل
لها ترسل بالمفتاح.
فقالت : قل له : قتلت مقاتلينا وتريد أن
تأخذ منّا مكرمتنا.
فقال : لترسلنّ به أو لاَقتلنّك. فوضعته
في يد الغلام فأخذه ودعا عمر فقال له : هذا تأويل رؤياي من قبل.
ثمّ قام 6
ففتحه وستره ، فمن يومئذ يستر ، ثمّ دعا الغلام فبسط رداءه فجعل فيه المفتاح وقال
: ردّه إلى اُمّك.
قال : ودخل صناديد قريش الكعبة وهم
يظنّون أنّ السيف لا يرفع عنهم ، فأتى رسول الله 6
البيت وأخذ بعضادتي الباب ثمّ قال : لا إله إلاّ الله أنجز وعده ، ونصر عبده ، وغلب
الأحزاب وحده. ثمّ قال : ما تظنّون وما أنتم قائلون؟
فقال سهيل بن عمرو : نقول خيراً ، ونظنّ
خيراً ، أخ كريم وابن عمّ.
قال : فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف
: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، ألا إنّ كلّ دم ومال
ومأثرة كان في
__________________
الجاهليّة فإنّه
موضوع تحت قدمي ، إلاّ سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنّهما مردوتان إلى أهليهما ، ألا
إنّ مكّة محرّمة بتحريم الله ، لم تحلّ لاَحد كان قبلي ولم تحلّ لي إلاّ ساعة من
نهار ، فهي محرّمة إلى أن تقوم الساعة ، لا يختلي خلاها ، ولا يقطع شجرها ، ولا
ينفر صيدها ، ولا تحلّ لقطتها إلاّ لمنشد.
ثمّ قال : ألا لبئس جيران النبيّ كنتم ،
لقد كذبتم وطردتم ، وأخرجتم وفللتم ، ثمّ ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي
تقاتلونني ، فاذهبوا فأنتم الطلقاء.
فخرج القوم كأنّما انشروا من القبور ، ودخلوا
في الاِسلام.
قال : ودخل رسول الله صلّى عليه وآله
وسلّم مكّة بغير إحرام وعليهم السلاح ، ودخل البيت لم يدخله في حجّ ولا عمرة.
ودخل وقت الظهر فأمر بلال فصعد على
الكعبة وأذّن ، فقال عكرمة : والله إن كنت لاَكره أن أسمع صوت ابن رباح ينهق على
الكعبة ، وقال خالد بن أسيد : الحمد لله الذي أكرم أبا عتّاب من هذا اليوم من أن
يرى ابن رباح قائماً على الكعبة ، قال سهيل : هي كعبة الله وهو يرى ولو شاء لغيّر
ـ قال : وكان أقصدهم ـ وقال أبو سفيان : أمّا أنا فلا أقول شيئاً ، والله لو نطقت
لظننت أنّ هذه الجدر تخبر به محمّداً.
وبعث صلوات الله عليه وآله إليهم
فأخبرهم بما قالوا ، فقال عتّاب : قد والله قلنا يا رسول الله ذلك فنستغفر الله
ونتوب إليه ، فأسلم وحسن إسلامه وولاّه رسول الله مكّة.
قال : وكان فتح مكّة لثلاث عشرة خلت من
شهر رمضان ، واستشهد
من المسلمين ثلاثة
نفر دخلوا من أسفل مكة وأخطأوا الطريق فقتلوا»
فصل :
وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السرايا فيما حول
مكّة يدعون إلى الله عز وجلّ ، ولم يأمرهم بقتال ، فبعث غالب بن عبدالله إلى بني مدلج فقالوا : لسنا
عليك ولسنا معك ، فقال الناس : اُغزهم يا رسول الله ، فقال : «إنّ لهم سيّداً
أديباً أريباً ، وربّ غاز من بني مدلج شهيد في سبيل الله» .
وبعث عمرو بن اُمّية الضمري إلى بني الدليل
فدعاهم إلى الله ورسوله فأبوا أشدّ الإباء ، فقال الناس : اُغزهم يا رسول الله ، فقال
: «أتاكم الآن سيّدهم قد أسلم فيقول لهم : أسلموا ، فيقولون : نعم» .
وبعث عبدالله بن سهيل بن عمرو إلى بني محارب بن فهر
فأسلموا وجاء معه نفر منهم إلى رسول الله 6
وبعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر ، وقد
كانوا أصابوا في الجاهليّة من بني المغيرة نسوة وقتلوا عمّ خالد ، فاستقبلوه
وعليهم السلاح وقالوا : يا خالد إنّا لم نأخذ السلاح على الله وعلى رسوله ونحن
مسلمون ، فانظر فإن كان بعثك رسول الله ساعياً فهذه إبلنا وغنمنا فاغد عليها ، فقال
: ضعوا السلاح ، قالوا : إنّا نخاف منك أن تأخذنا بإحنة الجاهليّة وقد أماتها الله
ورسوله.
__________________
فانصرف عنهم بمن معه ، فنزلوا قريباً
ثمّ شنّ عليهم الخيل ، فقتل وأسر منهم رجالاً ، ثمّ قال : ليقتل كلّ رجل منكم
أسيره ، فقتلوا الأسرى ، وجاء رسولهم إلى رسول الله فأخبره بما فعل خالدٌ بهم ، فرفع
7 يده إلى
السماء وقال : «اللهم إنّي أبرأ إليك ممّا فعل خالد» وبكى ثمّ دعا عليّاً 7 فقال : «اُخرج إليهم وانظر في أمرهم»
وأعطاه سفطاً من ذهب ، ففعل ما أمره وأرضاهم
ثمّ كانت غزوة حنين ، وذلك أنّ
هوازن جمعت له جمعاً كثيراً ، فذكر رسول الله 6
أنّ صفوان بن اُميّة عنده مائة درع فسأله ذلك ، فقال : أغصباً يا محمّد؟ قال : «لا
، ولكن عارية مضمونة» قال : لا بأس بهذا. فأعطاه.
فخرج رسول الله 6 في ألفين ـ من مكّة ـ وعشرة آلاف كانوا
معه ، فقال أحد أصحابه : لن نُغلب اليوم من قلّة. فشقّ ذلك على رسول الله فأنزل
الله سبحانه (وَيَومَ حُنَينٍ إذ اَعجَبَتكُم) الآية .
وأقبل مالك بن عوف النصريّ فيمن معه من
قبائل قيس وثقيف ، فبعث رسول الله 6
عبدالله بن أبي حدرد عيناً فسمع ابن عوف يقول : يا معشر هوازن إنّكم أحدٌ العرب
وأعدّها ، وإنّ هذا الرجل لم يلق قوماً يصدوقونه القتال ، فإذا لقيتموه فاكسروا
جفون سيوفكم واحملوا عليه حملة رجل واحد. فأتى ابن أبي حدرد رسول الله 6 فأخبره فقال عمر : ألا تسمع يا رسول
الله ما يقول ابن أبي حدرد؟ فقال : «قد
__________________
كنت ضالاً فهداك
الله يا عمر وابن أبي حدرد صادق» .
قال الصادق 7 : «وكان مع هوازن دريد بن الصمّة ، خرجوا
به شيخاً كبيراً يتيمّنون برأيه ، فلمّا نزلوا بأوطاسقال : نعم مجال الخيل لا حزنّ ضرس
ولا سهل دهس
، ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبكاء الصغير؟ قالوا : ساق مالك بن عوف
مع الناس أموالهم ونساءهم وذراريهم قال : فأين مالك؟ فدعي مالك له ، فأتاه فقال : يا
مالك ، أصبحت رئيس قومك ، وإنّ هذا اليوم كائن له ما بعده من الأيّام ، ما لي أسمع
رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبكاء الصغير ، وثغاء الشاة؟.
قال : أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله
وماله ليقاتل عنهم.
قال : ويحك لم تصنع شيئاً ، قدّمت بيضة هوازن في نحور الخيل ، وهل يرد وجه
المنهزم شيء؟! إنّها إن كانت لك لم ينفعك إلاّ رجلٌ بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك
فضحت في أهلك ومالك.
قال : إنّك قد كبرت وكبر عقلك.
فقال دريد : إن كنت قد كبرت فتورث غداً
قومك ذلاًّ بتقصير رأيك
__________________
وعقلك ، هذا يوم لم
أشهده ولم أغب عنه ، ثمّ قال : حرب عوان.
يا ليتني فيها جذع
|
|
أخبّ فيها وأضع »
|
قال جابر : فسرنا حتّى إذا استقبلنا
وادي حنين ، كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضائقه ، فما راعنا إلاّ كتائب
الرجال بأيديها السيوف والعمد والقني ، فشدّوا علينا شدّة رجل واحد ، فانهزم الناس
راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وأخذ رسول الله 6
ذات اليمين ، وأحدق ببغلته تسعة من بني عبدالمطّلب.
وأقبل مالك بن عوف يقول : أروني محمّداً
، فأروه فحمل على رسول الله 6
ـ وكان رجلاً أهوجـ
فلقيه رجل من المسلمين فالتقيا ، فقتله مالك ـ وقيل : إنه أيمن بن اُم أيمن ـ ثمّ أقدم فرسه فأبى أن يقدم نحو رسول
الله 6 ، وصاح كلدة
بن الحنبل ـ وهو أخو صفوان بن اُميّة لاُمّه وصفوان يومئذ مشرك ـ : ألا بطل السحر
اليوم ، فقال صفوان : اسكت فضّ الله فاك ، فوالله لاَن يُربني رجل من قريش أحبّ
إليّ من أن يربني رجل من هوازن
__________________
قال محمّد بن إسحاق : وقال شيبة بن
عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبدالدار : اليوم أدرك ثاري ـ وكان أبوه قتل يوم اُحد ـ
اليوم أقتل محمّداً ، قال : فأدرت برسول الله 6
لاَقتله فأقبل شيء حتّى تغشّى فؤادي ، فلم أطلق ذلك ، فعرفت أنّه ممنوع.
وروى عكرمة عن شيبة قال : لمّا رأيت
رسول الله يوم حنين قد عري ذكرت أبي وعمّي وقتل عليّ وحمزة اياهما ، فقلت : أدرك
ثاري اليوم من محمّد ، فذهبت لأجيئه عن يمينه ، فإذا أنا بالعبّاس بن عبد المطّلب
قائماً عليه درع بيضاء كأنّها فضّة يكشف عنها العجاج ، فقلت : عمّه ولن يخذله ، ثمّ
جئته عن يساره ، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب ، فقلت : ابن عمه
ولن يخذله ، ثمّ جئته من خلفه ، فلم يبق إلاّ أنّ أسوره سورة بالسيف إذ رفع لي
شواظ من نار بيني
وبينه كأنّه برق ، فخفت أن يمحشني
فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى ، والتفت رسول الله وقال : «يا شيب اُدن منّي ، اللهمّ
اذهب عنه الشيطان» قال : فرفعت إليه بصري ولهو أحبّ إليّ من سمعي وبصري ، وقال : «يا
شيب قاتل الكفّار».
وعن موسى بن عقبة قال : قام رسول الله 6 في
__________________
الركابين وهو على
البغلة فرفع يديه إلى الله يدعوا ويقول : «اللهم إنّي أنشدك ما وعدتني ، اللهم لا
ينبغي لهم أن يظهروا علينا» ونادى أصحابه وذمرهم : «يا أصحاب البيعة يوم الحديبية الله
الله الكرّة على نبيكّم».
وقيل : إنّه قال : «يا أنصار الله
وأنصار رسوله ، يابني الخزرج» وأمر العبّاس ابن عبد المطّلب فنادى في القوم بذلك ،
فأقبل إليه أصحابه سراعاً يبتدون.
وروي : أنّه 6 قال : «الآن حمِيَ الوطيس.
أنا النبيّ لا كذب
|
|
أنا ابن عبد المطّلب»
|
قال سلمة بن الأكوع : ونزل رسول الله 6 عن البغلة ثمّ قبض قبضة من تراب ، ثمّ
استقبل به وجوهم وقال : «شاهت الوجوه» فما خلي الله منهم إنساناً إلاّ ملأ عينيه
تراباً بتلك القبضة فولّوا مدبرين ، واتبعهم المسلمون فقتلوهم ، وغنّمهم الله
نساءهم وذراريهم وشاءهم وأموالهم.
وفرّ مالك بن عوف حتّى دخل حصن الطائف
في ناس من أشراف قومهم ، وأسلم عند ذلك كثير من أهل مكّة حين رأوا نصرالله وإعزاز
دينه.
قال أبان : وحدّثني محمّد بن الحسن بن زياد ، عن أبي عبدالله عليه
__________________
السلام قال : «سبى
رسول الله 6 يوم حنين
أربعة آلاف رأس واثني عشر ألف ناقة ، سوى ما لا يُعلم من الغنائم وحلف رسول الله 6 الأنفال والأموال والسبايا بالجعرانة وافترق المشركون فريقتين ، فأخذت
الأعراب ومن تبعهم أوطاس ، وأخذت ثقيف ومن تبعهم الطائف ، وبعث رسول الله أبا عامر
الأشعري إلى أوطاس فقاتل حتّى قُتل ، فأخذ الراية أبو موسى الأشعري ـ وهو ابن عمّه
ـ فقاتل بها حتّى فتح عليه»
ثمّ كانت غزوة الطائف ، سار رسول
الله 6 إلى الطائف
في شوّال سنة ثمان فحاصرهم بضع عشر يوماً ، وخرج نافع بن غيلان ابن معتّب في خيل
من ثقيف فلقيه عليّ 7
في خيله ، فالتقوا ببطن وَجّ
، فقتله عليّ وانهزم المشركون ، ونزل من حصن الطائف إلى رسول الله 6 جماعة من أرقائهم ، منهم أبو بكرة ـ
وكان عبداً للحارث بن كلدة المنبعث ، وكان اسمه المضطجع ، فسمّاه رسول الله 6 المنبعث ـ ووردان ـ وكان عبداً لعبد
الله بن ربيعة ـ
__________________
فأسلموا ، فلمّا قدم
وفد الطائف على رسول الله 6
فأسلموا قالوا : يا رسول الله ردّ علينا رقيقنا الذين أتوك ، فقال : «لا ، اُولئك
عتقاء الله» ؟.
وذكر الواقديّ ـ عن شيوخه ـ قال : شاور
رسول الله 6 أصحابه في
بعض الطائف ، فقال له سلمان الفارسي ;
قال : يا رسول الله أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، فأمر رسول الله 6 فعمل المنجنيق ، ويقال : قدّم
بالمنجنيق يزيد بن زمعة ودّبابتين ـ ويقال : خالد بن سعيد ـ فأرسلت عليهم ثقيف سكك
الحديد محماة بالنار فأحرقت الدبّابة.
فأمر رسول الله 6 بقطع أعنابهم وتحريقها ، فنادى سفيان
بن عبدالله الثقفي : لِمَ تقطع أموالنا ، إمّا أن تأخذها إن ظهرت علينا وإمّا أن
تدعها لله والرحم ، فقال رسول الله 7
: «فإنّي أدعها لله والرحم» فتركها .
وأنفذ رسول الله 6 عليّاً 7
في خيل عند محاصرته أهل الطائف وأمره أن يكسر كلّ صنم وجده ، فخرج فلقيه جمع كثيرٌ
من خثعم ، فبرز له رجلٌ من القوم وقال : هل من مبارز ، فلم يقم أحدٌ ، فقام إليه
عليّ 7 ، فوثب أبو
العاص بن الربيع زوج بنت النبيّ 6
فقال : تكفاه أيّها الأمير ، فقال : «لا ، ولكن إن قُتلت فأنت على الناس».
__________________
فبرز إليه علي 7 وهو يقول :
«إنّ على كلّ رئيس حقّا
|
|
أن يروي الصعدة أو تدقّا»
|
ثمّ ضربه فقتله ، ومضى حتّى كسر الأصنام
، وانصرف إلى رسول الله 6
وهو بعد محاصر لاَهل الطائف ينتظره ، فلمّا رآه كبّر وأخذ بيده وخلا به
فروى جابر بن عبدالله قال : لمّا خلا
رسول الله 6 بعليّ بن
أبي طالب 7 يوم الطائف
أتاه عمر بن الخطّاب فقال : أتناجيه دوننا وتخلو به دوننا؟ فقال : «يا عمر ، ما
أنا انتجيته بل الله انتجاه» قال : فأعرض وهو يقول : هذا كما قلت لنا يوم الحديبية
لتدخلّن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين ، فلم ندخله وصددنا عنه. فناداه 6 : «لم أقل لكم إنّكم تدخلونه ذلك
العام»
قال : فلمّا قدم عليّ 7 فكأنّما كان رسول الله صلّى عليه وآله
وسلّم على وجل فارتحل فنادى سعيد بن عبيدة : ألا ان الحيّ مقيم ، فقال 7 : «لا أقمت ولا ظعنت» فسقط فانكسر فخذه
وعن محمّد بن إسحاق قال : حاصر رسول
الله 6 أهل الطائف
ثلاثين ليلة أو قريباً من ذلك ، ثمّ انصرف عنهم ولم يؤذن
فيهم ، فجاءه وفده
في شهر رمضان فأسلموا .
فصل
ثمّ رجع رسول الله 6 إلى الجعرانة بمن معه من الناس ، وقسّم
بها ما أصاب من الغنائم يوم حنين في المؤلّفة قلوبهم من قريش ومن سائر العرب ، ولم
يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير.
قيل : إنّه جعل للأنصار شيئاً يسيراً ، وأعطى
الجمهور للمتألّفين .
قال محمّد بن إسحاق : فأعطى أبا سفيان
بن حرب مائة بعير ، ومعاوية ابنه مائة بعير ، وحكيم بن حزام من بني أسد بن عبد
العزّى بن قصي مائة بعير ، وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة مائة بعير ، وأعطى
العلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة مائة بعير ، وأعطى الحارث بن هشام من بني
مخزوم مائة ، وجبير بن مطعم من بني نوفل بن عبد مناف مائة ، ومالك بن عوف النصري
مائة ، فهؤلاء أصحاب المائة.
وقيل : إنّه أعطى علقمة بن علاثة مائة ،
والأقرع بن حابس مائة ، وعيينة بن حصن مائة ، وأعطى العبّاس بن مرداس أربعأً
فتسخطها وأنشأ يقول :
__________________
أتجعل نهبي ونهب العبيـ
|
|
ـد بين عيينة والأقرع
|
فما كان حصن ولا حابس
|
|
يفوقان مرداس في مجمع
|
وما كنت دون امرء منهما
|
|
ومن تضع اليوم لا يرفع
|
وقد كنتُ في الحرب ذا تدرأ
|
|
فلم أعط شيئاً ولم أمنع
|
فقال له رسول الله 6 : «أنت القائل :
أتجعل نهبي ونهب العبيـ
|
|
ـد بين الأقرع وعيينة »
|
فقال أبو بكر : بأبي أنت واُمّي لست
بشاعر ، قال 6 : «كيف
قال؟» فأنشده أبو بكر ، فقال رسول الله 6
: «يا عليّ قم فاقطع لسانه».
قال عبّاس : فوالله لهذه الكلمة كانت
أشدّ عليّ من يوم خثعم ، فأخذ عليّ 7
بيدي فانطلق بي فقلت : يا عليّ إنّك لقاطع لساني؟ قال : «إنّي ممض فيك ما اُمرت»
حتّى أدخلني الحظائر فقال : «اعقل ما بين أربعة إلى مائة».
قال : قلت : بأبي أنتم واُمي ، ما
أكرمكم وأحمكم وأجملكم وأعلمكم.
فقال لي : «إنّ رسول الله 6 أعطاك أربعاً وجعلك مع المهاجرين ، فإن
شئت فخذها ، وإن شئت فخذ المائة وكن مع أهل المائة».
قال : فقلت لعلي 7 : أشر أنت علي.
قال : «فإنّي آمرك أن تأخذ ما أعطاك
وترضى» قال : فإنّي أفعل
__________________
قال : وغضب قوم من الأنصار لذلك وظهر
منهم كلام قبيح حتّى قال قائلهم : لقي الرجل أهله وبني عمّه ونحن أصحاب كلّ كريهة
، فلمّا رأى رسول الله 6
ما دخل على الأنصار من ذلك أمرهم أن يقعدوا ولا يقعد معهم غيرهم ، ثمّ أتاهم شبه
المغضب يتبعه علي 7
، حتّى جلس وسطهم ، فقال : «ألم آتكم وأنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله
منها بي؟».
قالوا : بلى ، ولله ولرسوله المنّ والطول
والفضل علينا.
قال : «ألم آتكم وأنتم أعداء فألّف الله
بين قلوبكم بي؟».
قالوا : أجل.
ثمّ قال : «ألم آتكم وأنتم قليل فكثّركم
الله ربي» وقال ما شاء الله أن يقول ثمّ سكت ، ثمّ قال : «ألا تجيبوني؟».
قالوا : بم نجيبك يا رسول الله ، فداك
أبونا واُمّنا ، لك المنّ والفضل والطول.
قال : «بل لو شئتم قلتم : جئتنا طريداً
مكذَّبا فآويناك وصدّقناك ، وجئتنا خائفاً فآمنّاك».
فارتفعت أصواتهم ، وقام إليه شيوخهم
فقبّلوا يديه ورجليه وركبتيه ، ثم قالوا : رضينا عن الله وعن رسوله ، وهذه أموالنا
أيضاً بين يديك فأقسمها بين قومك إن شئت.
فقال : «يا معشر الأنصار ، أوجدتم في
أنفسكم إذ قسّمت مالاً أتالّف به قوماً ووكلتكم إلى إيمانكم ، أما ترضون أن يرجع
غيركم بالشاء والنعم ورجعتم أنتم ورسول الله في سهمكم؟».
ثمّ قال 6
: «الأنصار كرشي وعيبتيلو
سلك الناس وادياً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار ، اللهمّ اغفر للأنصار ، ولأبناء
الأنصار ، ولأبناء أبناء الأنصار».
فصل :
قال : وقد كان فيما سبي اُخته بنت حليمة
، فلمّا قامت على رأسه قالت : يا محمّد اُختك شيماء بنت حليمة ، قال : فنزع رسول
الله 6 برده فبسطه
لها فأجلسها عليه ، ثمّ أكبّ عليها يسائلها ، وهي التي كانت تحضنه إذ كانت اُمّها
ترضعه.
وأدرك وفد هوازن رسول الله 6 بالجعرانة وقد أسلموا ، فقالوا : يا
رسول الله لنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك ، فامنن علينا
منَّ الله عليك.
وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال : يا رسول
الله ، إنّا لو ملحنا الحارث بن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ، ثمّ ولي منّا مثل
الذي وليت لعاد علينا بفضله وعطفه وأنت خير المكفولين ، وإنّما في الحظائر خالاتك
وبنات
__________________
خالاتك وحواضنك
وبنات حواضنك اللاتي أرضعنك ، ولسنا نسألك مالاً ، إنّما نسألكهنّ.
وقد كان رسول الله 6 قسّم منهنّ ما شاء الله فلمّا كلّمته
أخته قال : «أمّا نصيبي ونصيب بني عبد المطّلب فهو لك ، وأمّا ما كان للمسلمين
فاستشفعي بي عليهم».
فلمّا صلّوا الظهر ، قامت فتكلّمت
وتكلّموا فوهب لها الناس أجمعون إلاّ الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، فإنّهما
أبيا أن يهبا وقالوا : يا رسول الله إنّ هؤلاء قوم قد أصابوا من نسائنا فنحن نصيب
من نسائهم مثل ما أصابوا.
فأقرع رسول الله 6 بينهم ثمّ قال : «اللهمّ توّه سهميهما»
فأصاب أحدهما خادماً لبني عقيل ، وأصاب الآخر خادماً لبني نمير ، فلمّا رأيا ذلك
وهبا ما منعا.
قال : ولولا أنّ نساء وقعن في القسمة
لوهبهنّ لها كما وهب ما لم يقع في القسمة ولكنهنّ وقعن في انصباء الناس فلم يأخذ
منهم إلاّ بطيبة النفس.
وروي : أن رسول الله 6 قال : «من أمسك منكم بحقّه فله بكل
إنسان ستّ فرائض من أوّل فيء نصيبه ، فردّوا إلى الناس نساءهم وأبناهم».
قال : وكلّمته اُخته في مالك بن عوف
فقال : «إن جاءني فهو آمن» فأتاه
__________________
فردّ عليه ماله
وأعطاه مائة من الإبل
فصل
روى الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد
الخدريّ قال : بينا نحن عند رسول الله 6
وهو يقسّم إذ أتاه ذو الخويصرة ـ رجلٌ من بني تميم ـ فقال : يا رسول الله أعدل.
فقال رسول الله 6 : «ويلك من يعدل إن أنا لم أعدل ، وقد
خبت وخسرت إن أنا لم أعدل».
فقال عمر بن الخطّاب : يا رسول الله
ائذن لي فيه اضرب عنقه.
فقال رسول الله 6 : «دعه فإنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم
صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من
الاِسلام كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثمّ ينظر
إلى رصافهفلا
يوجد فيه شيء ، ثمّ ينظر إلى نصله نضيّه ـ وهو قدحه ـ فلا يوجد فيه شيء ، ثمّ ينظر
في قُذَذهفلا
يوجد فيه شيء ، قد سبق الفرث والدم ، آتيهم رجلٌ أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة
أو مثل البضعة تَدَردر
، يخرجون على خير فرقة من الناس».
قال أبو سعيد : فأشهد أنّي سمعت هذا من
رسول الله 6 ، وأشهد أنّ
عليّ بن أبي طالب 7
قاتلهم وأنا معه ، وأمر
__________________
بذلك الرجل فالتمس
فوجد فاُتي به حتّى نظرت إليه على نعت رسول الله 6
الذي نعت.
رواه البخاريّ في الصحيح
فصل :
قالوا : ثمّ ركب رسول الله وأتبعه الناس
يقولون : يا رسول الله أقسم علينا فيئنا ، حتّى ألجؤوه إلى شجرة فانتزع عنه رداءه
فقال : «أيّها الناس ردّوا عليّ ردائي ، فوالذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجرتها
نعماً لقسمته عليكم ، ثمّ ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً».
ثمّ قام إلى جنب بعير وأخذ من سنامه
وبرة فجعلها بين إصبعيه فقال : «يا أيّها الناس والله مالي من فيئكم هذه الوبرة
إلاّ الخُمس والخُمس مردود عليكم ، فأدّوا الخياط والمخيط ، فإنّ الغلول عارٌ
ونارٌ وشنارٌ على أهله يوم القيامة».
فجاءه رجلٌ من الأنصار بكبّة من خيوط
شعر ، فقال : يا رسول الله أخذت هذه لأخيط بها برذعة بعير لي.
فقال رسول الله 6 : «أمّا حقّي منها فلك».
فقال الرجل : أمّا إذا بلغ الأمر هذا
فلا حاجة لي بها ، ورمى بها من يده.
ثمّ خرج رسول الله 6 من الجعرانة في ذي القعدة إلى مكّة
فقضى بها عمرته ، ثمّ صدر إلى المدينة وخليفته على أهل مكّة معاذ بن جبل .
__________________
وقال محمّد بن إسحاق : استخلف عتّاب بن
اُسيد وخلّف معه معاذاً يفقه الناس في الدين ويعلّمهم القرآن ، وحجّ بالناس في تلك
السنة وهي سنة ثمان عتّاب بن اُسيد ، وأقام 6
بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب.
ثمّ كانت غزوة تبوك : تهيّأ
رسول الله 6 في رجب لغزو
الرُوم ، وكتب إلى قبائل العرب ممّن قد دخل في الاِسلام وبعث إليهم الرسل يرغّبهم
في الجهاد والغزو ، وكتب إلى تميم وغطفان وطيّ ، وبعث إلى عتّاب بن اُسيد عامله
على مكّة يستنفرهم لغزو الروم.
فلمّا تهيّأ للخروج قام خطبياً فحمد
الله وأثنى عليه ورغّب في المواساة وتقوية الضعيف والإنفاق ، فكان أوّل من أنفق
فيها عثمان بن عفّان جاء بأواني من فضّة فصبّها في حجر رسول الله 6 ، فجهّز ناساً من أهل الضعف ، وهو الذي
يقال إنّه جهّز جيش العسرة.
وقدم العبّاس على رسول الله 6 فأنفق نفقة حسنة وجهّز ، وسارع فيها
الأنصار ، وأنفق عبد الرحمن والزبير وطلحة ، وأنفق ناس من المنافقين رياءً وسمعة ،
فنزل القرآن بذلك.
وضرب رسول الله 6 عسكره فوق ثنيّة الوداع بمن تبعه من
المهاجرين وقبائل العرب وبني كنانة وأهل تهامة ومزينة وجهينة وطيّ وتميم ، واستعمل
على المدينة عليّاً 7
وقال له : «إنّه لابدّ للمدينة منّي أو منك».
واستعمل الزبير على راية المهاجرين ، وطلحة
بن عبيدالله على
__________________
الميمنة ، وعبد
الرحمن بن عوف على الميسرة.
وسار رسول الله 6 حتّى نزل الجرف ، فرجع عبدالله بن
اُبيّ بغير إذن فقال 7
: «حسبي الله هو الذي أيدني بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم» فلمّا انتهى إلى
الجرف لحقه عليّ 7
وأخذ بغرز
رجله وقال : «يا رسول الله زعمت قريش أنّك انما خلّفتني استثقالاً لي».
فقال 6
: «طالما آذت الاُمم أنبياءها ، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟».
فقال : «قد رضيت قد رضيت». ثمّ رجع إلى
المدينة.
وقدم رسول الله 6 تبوك في شعبان يوم الثلاثاء فأقام
بقيّة شعبان وأيّاماً من شهر رمضان ، وأتاه وهو بتبوك يحنّة بن رؤبة صاحب إيلة فأعطاه الجزية وكتب رسول الله 6 له كتاباً ، والكتاب عندهم ، وكتب
أيضاً لاَهل جرباء وأذُرحكتاباً.
وبعث رسول الله 6 وهو بتبوك بأبي عبيدة بن الجرّاح إلى جمع من بني جذام مع
زنباع بن روح الجذامي فأصاب منهم طرفاً وأصاب منهم سبايا ، وبعث سعد بن عبادة إلى
ناس من بني سليم وجموع من بليّ ، فلمّا قارب القوم هربوا.
وبعث خالداً إلى الاُكيدر صاحب دومة الجندل وقال له
: «لعل الله يكفيكه بصيد البقر فتأخذه».
__________________
فبينا فخالد وأصحابه في ليلة إضحيان إذ
أقبلت البقرة تنتطح فجعلت تنطح باب حصن اُكيدر وهو مع امرأتين له يشرب الخمر ، فقام
فركب هو وحسّان أخوه وناس من أهله فطلبوها وقد كمن له خالد وأصحابه فتلقّاه اُكيدر
وهو يتصيّد البقر فأخذوه وقتلوا أخاه حسّاناً وعليه قباء مخوّص بالذهب ، وأفلت
أصحابه فدخلوا الحصن وأغلقوا الباب دونهم ، فأقبل خالد باُكيدر وسار معه أصحابه
فسألهم أن يفتحوا له فأبوا فقال : أرسلني فإنّي أفتح الباب ، فأخذ عليه موثقاً
وأرسله فدخل وفتح الباب حتّى دخل خالد وأصحابه ، وأعطاه ثمانمائة رأس وألفي بعير
وأربعمائة درع وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف ، فقبل ذلك منه وأقبل به إلى رسول الله 6 فحقن دمه وصالحه على الجزية.
وفي كتاب دلائل النبوّة للشيخ أبي أحمد البيهقي : أخبرنا
أبو عبدالله الحافظ ـ وذكر الاِسناد مرفوعاً إلى أبي الأسود ـ عن عروة قال : لمّا
رجع رسول الله 6 قافلاً من تبوك إلى المدينة حتّى إذا
كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق أرادوا
أن يسلكوها معه ، فاُخبر رسول ألله خبرهم ، فقال : «من شاء منكم أن يأخذ بطن
الوادي فإنّه أوسع لكم».
فأخذ النبيّ 6 العقبة وأخذ الناس بطن الوادي إلاّ
النفر الذين أرادا المكر به استعدّوا وتلثّموا ، وأمر رسول الله 6 حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر فمشيا
معه مشياً ، وأمر عمّاراً أن
__________________
يأخذ بزمام الناقة ،
وأمر حذيفة بسوقها ، فبينا هم يسيرون إذ سمعوا ركزة القوم من ورائهم قد غشوه ، فغضب رسول
الله 6 وأمر حذيفة
أن يردّهم فرجع ومعه محجن ، فاسقبل وجوه رواحلهم وضربها ضرباً بالمحجن ، وأبصر
القوم وهم متلثّمون ، فرعّبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر عليه
، فأسرعوا حتّى خالطوا الناس ، وأقبل حذيفة حتّى أدرك رسول الله 6 فلمّا أدركه قال : «اضرب الراحلة يا
حذيفة ، وامش أنت يا عمّار».
فأسرعوا وخرجوا من العقبة ينتظرون الناس
، فقال النبيّ : «يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط ـ أو الركب ـ أحداً؟».
فقال حذيفة : عرفت راحلة فلان وفلان
وكانت ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثّمون.
فقال 6
: «هل علمتم ما شأن الركب وما أرادو؟».
قالا : لا يارسول الله.
قال : «فإنّهم مكروا ليسيروا معي حتّى
إذا أظلمت في العقبة طرحوني منها».
قالا : أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا
جاءك الناس فتضرب أعناقهم؟».
قال : «أكره أن يتحدّث الناس ويقولون : إنّ
محمّداً قد وضع يده في أصحابه» فسمّاهم لهما وقال : «اُكتماهم» .
وفي كتاب أبان بن عثمان : قال الأعمش : وكانوا
اثني عشر ، سبعة من
__________________
قريش.
قال : وقدم رسول الله 6 المدينة وكان إذا قدم من سفر استقبل
بالحسن والحسين 8
فاخذهما إليه وحفّ المسلمون به حتّى يدخل على فاطمة 3
ويقعدون بالباب ، وإذا خرج مشوا معه ، وإذا دخل منزله تفرّقوا عنه.
وعن أبي حميد الساعدي قال : أقبلنا مع
رسول الله 6 من غزوة
تبوك حتّى إذا أشرفنا على المدينة قال : «هذه طابة ، وهذا اُحد جبل يحبّنا ونحبّه».
وعن أنس بن مالك : أنّ رسول الله 6 لمّا دنا من المدينة قال : «إنّ
بالمدينة لاَقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلاّ كانوا معكم فيه».
قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة؟
قال : «نعم ، وهم بالمدينة ، حبسهم
العذر».
وكانت تبوك آخر غزوات رسول الله 6.
ومات عبدالله بن اُبيّ بعد رجوع رسول
الله 6 من غزوة
تبوك .
__________________
فصل
ونزلت سورة (بَراءة من الله
وَرَسُولهِ )في سنة تسع ، فدفها إلى أبي بكر فسار
بها ، فنزل جبرئيل 7
فقال : «إنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو عليّ».
فبعث عليّاً 7 على ناقته العضباء فلحقه فأخذ منه
الكتاب ، فقال له أبو بكر : أنزل فيَّ شيِ؟
قال : «لا ولكن لا يؤدي عن رسول الله 6 إلاّ هو أو أنا».
فسار بها عليّ 7 حتّى أذّن بمكّة يوم النحر وأيّام
التشريق ، وكان في عهده : أن ينبذ إلى المشركين عهدهم ، وأن لا يطوف بالبيت عريان
، ولا يدخل المسجد مشرك ، ومن كان له عهد فإلى مدّته ، ومن لم يكن له عهد فله
أربعة أشهر فإن أخذناه بعد أربعة أشهر قتلناه ، وذلك قوله تعالى : (فَاذَا
انسلَخَ الأشهُرُ الحُرُمُ ـ إلى قوله : ـ كُلَّ مَرصَدٍ).
قال : ولما دخل مكّة اخترط سيفه وقال : «والله
لا يطوف بالبيت عريان إلاّ ضربته بالسيف» حتّى ألبسهم الثياب ، فطافوا وعليهم
الثياب.
__________________
فصل :
قام : ثمّ قدم على رسول الله صلّى عليه
وآله وسلّم عروة
بن مسعود الثقفي مسلماً واستأذن رسول الله 6 في الرجوع إلى قومه فقال : «إنّي أخاف
أن يقتلوك».
فقال : إن وجدوني نائماً ما أيقظوني.
فأذن له رسول الله 6
فرجع إلى الطائف ودعاهم إلى الاِسلام ونصح لهم فعصوه وأسمعوه الأذى ، حتّى إذا طلع
الفجر قام في غرفة من داره فأذّن وتشهّد ، فرماه رجلٌ بسهم فقتله ، وأقبل بعد قتله
من وفد ثقيف بضعة عشر رجلاً هم أشراف ثقيف فأسلموا فأكرمهم رسول الله 6 وحيّاهم وأمّر عليهم عثمان بن أبي
العاص بن بشر ، وقد كان تعلّم سوراً من القرآن.
وقد ورد في الخبر عنه أنّه قال : قلت : يا
رسول الله إنّ الشيطان قد حال بين صلاتي وقراءتي.
قال : «ذاك شيطان يقال له : خنزب ، فإذا
خشيت فتعوّذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً».
قال : ففعلت فأذهب الله عنّي.
رواه مسلم في الصحيح .
__________________
فصل :
فلمّا
أسلمت ثقيف ضربت إلى رسول الله 6 وفود العرب فدخلوا في دين الله أفواجاً
كما قال الله سبحانه ، فقدم عليه صلى الله وآله وسلّم عطارد بن حاجب بن زرارة في
أشراف من بني تميم منهم : الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وقيس بن عاصم ، وعيينة
بن حصن الفزاريّ ، وعمرو بن الأهتم ، وكان الأقرع وعيينة شهدا مع رسول الله 6 فتح مكّة وحنيناً
والطائف ، فلمّا قدم وفد تميم دخلا معهم فأجارهم رسول الله 6
وأحسن جوارهم .
وممّن قدم عليه صلّى وآله وسلّم وقد بني
عامر فيهم : عامر بن الطفيل ، وأربد بن قيس أخو لبيد بن ربيعة لامّه ، وكان عامر
قد قال لأربد : إنّي شاغلٌ عنك وجهه فإذا فعلته فأعله بالسيف.
فلمّا قدموا عليه ، قال عامر : يا محمد
خالني ، فقال : «لا ، حتّى تؤمن بالله وحده»ـ قالها مرّتين ـ فلمّا أبى عليه رسول
الله 6 قال : والله
لأملاَنّها عليك خيلاً حمراً ورجالاً ، فلمّا ولّى قال رسول الله 6 : «اللهمّ اكفني عامر بن الطفيل».
فلمّا خرجوا قال عامر لأربد : أين ما
كنت أمرتك به؟ قال : والله ما هممت بالذي أمرتني به إلاّ دخلت بيني وبين الرجل ، أفأضربك
بالسيف؟
وبعث الله على عامر بن الطفيل في طريقه ذلك
الطاعون في عنقه فقتله في
__________________
بيت امرأة من سلول ،
وخرج أصحابه حين واروه إلى بلادهم ، وأرسل الله تعالى على أربد وعلى جملة صاعقة
فأحرقتهما .
وفي
كتاب أبان عن عثمان : أنّهما قدما على رسول الله 6
بعد غزوة بني النضير قال : وجعل يقول عامر عند موته : أغدّة كغدّة البكر وموت في بيت سلوليّة؟
قال : وكان رسول الله 6 قال في عامر وأربد : «اللّهم أبدلني
بهما فارسي العرب» فقدم عليه زين بن مهلهل الطائي ـ وهو زيد الخيل ـ وعمرو بن معدي
كرب .
فصل :
وممّن قدم على رسول الله 6 وفد طيّ فيهم : زيدالخيل ، وعديّ بن
حاتم ، فعرض عليهم الاِسلام فأسلموا وحسن إسلامهم ، وسمّاه رسول الله 6 زيد الخير ، وقطع له فيداً وأرضين معه
وكتب له كتاباً ، فلمّا خرج زيد من عند رسول الله 6
راجعاً إلى قومه قال رسول الله 6
: «إن ينج زيد من حمّى المدينة أو من اُمّ ملدم»
__________________
فلمّا انتهى من بلد نجد إلى ماء يقال له
فردة أصابته الحمّى فمات بها ، وعمدت امرأته إلى ما كان معه من الكتب فأحرقتها .
وذكر محمّد بن إسحاق : أنّ عديّ بن حاتم
فرّ ، وأنّ خيل رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم قد أخذوا اُخته فقدموا بها على
رسول الله 6 ، وأنّه منّ
عليها وكساها وأعطاها نفقة ، فخرجت مع ركب حتّى قدمت الشام وأشارت على أخيها
بالقدوم فقدم وأسلم وأكرمه رسول الله 6
وأجلسه على وسادة رمى بها إليه بيده .
فصل :
وقدم على رسول الله 6 عمرو بن معدي كرب وأسلم ، ثمّ
نظر إلى اُبي بن عثعث الخثعمي فأخذ برقبته وأدناه إلى رسول الله 6 فقال : أعدني على هذا الفاجر الذي قتل
والدي.
فقال 6
: «أهدر الاِسلام ما كان في الجاهليّة».
فانصرف عمرو مرتدّاً وأغار على قوم من
بني الحارث بن كعب ، فأنفذ رسول الله عليّاً 7
إلى بني زبيد وأمّره على المهاجرين ، وأرسل خالد بن الوليد في طائفة من الأعراب
وأمره أن يقصد الجعفي فإذا التقيا فأمير الناس عليّ بن أبي طالب.
فسار عليّ 7
، واستعمل على مقدّمته خالد بن سعيد بن
__________________
العاص ، فلمّا رأوه
بنو زبيد قالوا لعمرو : كيف أنت يا أبا ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشيّ فأخذ منك
الأتارة ؟
فقال : سيعلم إن لقيني.
وخرج عمرو وخرج أمير المؤمنين علي 7 فصاح به صيحة فانهزم ، وقتل أخوه وابن
أخيه ، واُخذت امرأته ركانة ، وسبي منهم نسوان ، وخلّف على بني زبيد خالد بن سعيد
ليقبض زكواتهم ويؤمن من عاد إليه من هرابهم مسلماً.
فرجع عمرو واستأذن على خالد بن سعيد
فأذن له فعاد إلى الاِسلام ، وكلّمه في امرأته وولده فوهبهم له ، وكان أمير
المؤمنين علي 7
قد اصطفى من السبي جارية ، فبعث خالد بريدة الأسلمي إلى النبيّ 6 وقال له : تقدّم الجيش إليه فأعلمه ما
فعل عليّ من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه ، وقع فيه.
فسار بريدة حتّى دخل على النبيّ 6 ومعه كتاب خالد فجعل يقرأه على رسول
الله ووجهه يتغيّر فقال بريدة : إن رخّصت يا رسول الله للناس في مثل هذا ذهب
فيؤهم.
فقال رسول الله 6 : «ويحك يا بريدة أحدثت نفاقاً ، إنّ
عليّ بن أبي طالب يحلّ له من الفيء ما يحلّ لي ، إنّ عليّ بن أبي طالب خير الناس
لك ولقومك ، وخير من اُخلّف بعدي لكافّة اُمّتي ، يا بريدة أحذر أن تبغض عليّاً
فيبغضك الله».
قال بريدة : فتمنّيت أنّ الأرض انشقّت
لي فسخت فيها وقلت : أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله ، يا رسول الله استغفر
لي فلن أبغض عليّاً أبداً ولا أقول فيه إلاّ خيراً. فاستغفر له النبيّ 6.
__________________
قال بريدة : فصار عليّ أحبّ خلق الله
بعد رسوله إليّ.
فصل :
وقدم
على رسول الله صلّى الله وآله وسلّم وفد نجران
فيهم بضعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وثلاثة نفر يتولّون اُمورهم : العاقب وهو أميرهم
وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه وأمره واسمه عبد المسيح ، والسيّد وهو
ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة الاُسقف وهو حبرهم وإمامهم
وصاحب مدارسهم له فيهم شرف ومنزلة ، وكانت ملوك الروم قد بنوا له الكنائس ، وبسطوا
عليه الكرامات لما يبلغهم من علمه واجتهاده في دينهم.
فلمّا وجّهوا إلى رسول الله 6 جلس أبو حارثة على بغلة وإلى جنبه أخ
له يقال له : كرز ـ أو بشرـ بن علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة ، فقال كرز : تعس
الأبعد ـ يعني رسول الله 6
ـ.
فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست.
قال له ولم يا أخ؟
فقال : والله إنّه للنبيّ الذي كنّا
نتظر.
فقال كرز : فما يمنعك أن تتّبعه؟
فقال : ما صنع بنا هؤلاء القوم ، شرّفونا
وموّلونا وأكرمونا ، وقد أبوا إلاّ خلافه ، ولو فعلت نزعوا منّا كلّ ما ترى. فأضمر
عليها منه أخوه كرز حتّى أسلم ثمّ مرّ يضرب راحلته ويقول :
__________________
إليك تعدو قلقاً وضينها
|
|
ترضاً في بطنها جنينها
|
مخالفاً دين النصارى دينها
فلمّا قدم على النبيّ 6.
قال : فقدموا على رسول الله 6 وقت العصر وفي لباسهم الديباج وثياب
الحبرة على هيئة لم يقدم بها أحد من العرب ، فقال أبو بكر : بأبي أنت واُمّي يا
رسول الله لو لبست حلّتك التي أهداها لك قيصر فرأوك فيها.
قال : ثمّ أتوا رسول الله 6 فسلّموا عليه فلم يردّ : ولم يكلّمهم ، فانطلقوا يتتبّعون عثمان
بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف ـ وكانا معرفة لهم ـ فوجدوهما في مجلس من المهاجرين ،
فقالوا : إنّ نبيّكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه فسلّمنا عليه
فلم يردّ سلامنا ولم يكلّمنا ، فما الرأي؟
فقالا لعليّ بن أبي طالب : ما ترى يا
أبا الحسن في هؤلاء القوم؟
قال : «أرى أن يضعوا حللهم هذه
وخواتيمهم ثمّ يعودون إليه».
ففعلوا ذلك فسلّموا فردّ عليهم سلامهم ،
ثمّ قال : «والذي بعثني بالحقّ ، لقد أتوني المرّة الاُولى وأنّ إبليس لمعهم». ثمّ
سائلوه ودارسوه يومهم ، وقال الاُسقف : ما تقول في السيّد المسيح يا محمّد؟
قال : «هو عبد الله ورسوله».
قال : بل كذا وكذا ، فقال 6 : بل هو كذا وكذا ، فترادّا ، فنزل على
رسول الله 6 من صدر سورة
آل
__________________
عمران نحو من سبعين
آية تتبع بعضها بعضاً ، وفيما أنزل الله (إنّ مَثَلَ عيسى عندَ
اللهِ كَمَثَلِ آدمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ـ إلى قوله : ـ على الكاذِبينَ) .
فقالوا
للنبيّ 6 : نباهلك غداً ، وقال
أبو حارثة لأصحابه : انظروا فإن كان محمّد غدا بولده وأهل بيته فاخذروا مباهلته
، وإن غدا بأصحابه وأتباعه فباهلوه.
قال أبان : حدثني الحسن بن دينار ، عن
الحسن البصري قال : غدا رسول الله 6
آخذاً بيد الحسن والحسين ، تتبعه فاطمة :
، وبين يديه عليّ 7
، وغدا العاقب والسيّد بابنين على أحدهما درّتان كأنّهما بيضتا حمام ، فحفّوا بأبي
حارثة ، فقال أبو حارثة : من هؤلاء معه؟
قالوا : هذا ابن عمّه زوج ابنته ، وهذان
ابنا ابنته ، وهذه بنته أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه.
وتقدّم رسول الله 6 فجثا على ركبتيه ، فقال أبو حارثة : جثا
والله كما جثا الأنبياء للمباهلة. فكع ولم يقدم على المباهلة ، فقال له السيّد : ادن
يا أبا حارثة للمباهلة ، فقال : لا ، إنّي لاَرى رجلاً جريئاً على المباهلة ، وأنا
أخاف أن يكون صادقاً فلا يحول والله علينا الحول وفي الدينا نصرانيّ يطعم الماء.
قال : وكان نزل العذاب من السماء لو
باهلوه.
فقالوا : يا أبا القاسم ، إنّا لا
نباهلك ، ولكن نصالحك. فصالحهم
__________________
النبي 6 على ألفي حلّة من حلل الأواقي قيمة كلّ
حلّةأربعون درهماً جياداً ، وكتب لهم بذلك كتاباً. وقال لاَبي حارثة الاُسقف : «لكأنّني
بك قد ذهبت إلى ذهبت إلى رحلك وأنت وسنان فجعلت مقدّمه مؤخّره» فلمّا رجع قام يرحل
راحلته فجعل رحله مقلوباً فقال : أشهد أن محمّداً رسول الله .
فصل :
ثمّ بعث رسول الله 6 عليّاً إلى اليمن ليدعوهم إلى
الاِسلام ـ وقيل : ليخمّس ركازهم
ويعلّمهم الأحكام ، ويبيّن لهم الحلال والحرام ـ وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ، ويقدم
عليه بجزيتهم
وروى الحاكم أبو عبدالله الحافظ بإسناده
رفعه إلى عمرو بن شاس الأسلمي قال : كنت مع عليّ بن أبي طالب في خليه ، فجفاني
عليّ بعض الجفاء ، فوجدت عليه وفي نفسي ، فلمّا قدم المدينة اشتكيته عند من لقيته
، فأقبلت يوماً ورسول الله 6
جالس في المسجد ، فنظر إليّ حتّى جلست إليه فقال : «يا عمرو بن شاس لقد آذيتني».
فقلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أعوذ
بالله والاِسلام أن اُوذي رسول الله.
__________________
فقال : «من آذى عليّاً فقد آذاني».
وقد كان بعث قبله رسول الله عليه الصلاة
والسلام خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الاِسلام فلم يجيبوه.
قال البراء : فكنت مع عليّ 7 ، فلمّا دنونا من القوم خرجوا إلينا ، فصلى
بنا عليّ ثمّ صففنا صفّاً واحداً ثمّ تقدّم بين أيدينا فقرأ عليهم كتاب رسول الله 6 ، فأسلمت همدان كلّها ، فكتب عليّ 7 إلى رسول الله 6 ، فلمّا قرأ الكتاب خرّ ساجداً ثمّ رفع
رأسه فقال : «السلام على همدان».
أخرجه البخاري في الصحيح.
وروى الأعمش عن عمرو بن مرّة ، عن أبي
البختري ، عن عليّ 7
قال : «بعثني رسول الله 6
إلى اليمن ، قلت : يا رسول الله ، تبعثني وأنا شابٌ اقضي بينهم ولا أدري ما
القضاء؟!
قال : فضرب بيده في صدري وقال : اللّهم
اهد قلبه ، وثبّت لسانه ، فو الذي نفسي بيده ما شككت في قضاء بين اثنين».
__________________
فصل :
وخرج
رسول الله 6 من المدينة متوّجّهاً إلى الحجّ
في السنة العاشرة لخمس بقين من ذي القعدة ، وأذّن في الناس بالحجّ ، فتجهّز الناس
للخروج معه ، وحضر المدينة من ضواحيها ومن جوانبها خلق كثير ، فلمّا انتهى إلى ذي
الحليفة ولدت هناك أسماء بنت عميس محمّد بن أبي بكر ، فأقام تلك الليلة من أجلها ،
وأحرم من ذي الحليفة ، وأحرم الناس معه ، وكان قارناً للحجّ بسياق الهدي ساق معه
ستّاً وستّين بدنة.
وحجّ علي 7
من اليمن وساق معه أربعاً وثلاثين بدنة ، وخرج بمن معه من العسكر الذي صحبه إلى
اليمن ومعه الحلل التي أخذها من أهل نجران ، فلمّا قارب رسول الله 6 مكّة من طريق المدينة قاربها أمير
المؤمنين 7 من طريق
اليمن فتقدّم الجيش إلى رسول الله 6
، فسرّ رسول الله بذلك وقال له : «بم أهللت يا عليّ؟».
فقال : «يا رسول الله إنّك لم تكتب إليّ
بإهلالك ، فعقدت نيّتي بنيّتك وقلت : اللهمّ إهلالاً كإهلال نبيّك».
فقال 6
: «فأنت شريكي في حجّي ومناسكي وهديي ، فأقم على إحرامك وعد على جيشك وعجّل بهم
إليّ حتّى نجتمع
بمكّة».
وقد روي أيضاً عن الصادق 7 : أن رسول الله 6 ساق في حجّته مائة بدنة ، فنحر نيّفاً
وستّين ، ثمّ أعطى عليّاً فنحر نيّفاً وثلاثين ، فلمّا رجع علي 7 إلى جيشه وجد الناس قد لبسوا تلك الحلل
، فقال للذي استخلفه عليهم : « ويحك ما دعاك إلى ما فعلت من غير إذن رسول الله 6؟ » قال : إنّهم سألوني أن أدفعها إليهم
فيتجملوا بها ويحرموا فيها.
فقال : «بئس ما فعلوا وبئس ما فعلت».
فانتزعها 7
من القوم وشدّها في الأعدال ، فكثرت شكاية القوم عليّاً ، فنادى منادي رسول الله 6 : ارفعوا ألسنتكم عن شكاية عليّ فإنّه
أخشن في ذات الله.
ولمّا قدم النبيّ 6 ومكّة وطاف وسعى نزل عليه جبرئيل 7 ـ وهو على المروة ـ بهذه الآية ( وَاتِمّوا الحَجَّ والعُمرَةَ للهِ
)
فخطب الناس وحمد الله وأثنى عليه ، وقال : «دخلت العمرة في الحجّ هكذا إلى يوم
القيامة ـ وشبّك بين أصابعه ـ ثمّ قال 7
: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي».
ثمّ أمر مناديه فنادى : من لم يسق منكم
هدياً فليحلّ وليجعلها عمرة ، ومن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه.
__________________
وقام إليه رجلٌ من بني عديّ وقال : يا
رسول الله أتخرجنّ إلى منى ورؤسنا تقطر من الماء فقال 7
: «إنّك لن تؤمن بها حتّى تموت».
فقام إليه سراقة بن مالك بن جعشم فقال :
يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟
قال : «لا ، بل لأبد الأبد».
فأحلّ الناس أجمعون ، إلاّ من كان معه
هدي.
وخطب رسول الله 6 الناس يوم النفرمن منى فودّعهم ، ولمّا قضى رسول الله
6 نسكه وقفل إلى المدينة ، وانتهى
إلى الموضع المعروف بغدير خمّ ، وليس بموضع يصلح للنزول لعدم الماء
فيه والمرعى ، نزل عليه جبرئيل 7
، وأمره أن يقيم عليّاً وينصبه إماماً للناس ، فقال : «ربّ إنّ اُمّتي حديثو عهد
بالجاهليّة» فنزل عليه : أنّها عزيمة لا رخصة فيها ، فنزلت الآية : (يا اَيُّها
الرَّسُولُ بَلَّغ ما اُنزِلَ اِليك مِن رَبَّك وَاِن لَم تَفعل فَما بَلَّغتَ
رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعصمُك مِنَ النَّاسِ).
فنزل رسول الله بالمكان الذي ذكرناه ، ونزل
المسلمون حوله ، وكان يوماً شديد الحر ، فأمر رسول الله 6 بدوحات هناك فقمّ ما تحتها ، وأمر بجمع
الرحال في ذلك المكان ووضع بعضها على بعض ، ثمّ أمر مناديه فنادى بالناس الصلاة
جامعة ، فاجتمعوا إليه ، وإنّ أكثرهم ليلفٌ رداءه على قدميه من شدّة الرّمضاء ، فصعد
6 على تلك
الرحال حتّى صار في ذروتها ، ودعا عليّاً 7
فرقى معه حتّى قام عن
__________________
يمينه ، ثمّ خطب
الناس فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ ونعى إلى الاُمّة نفسه فقال : «إنّي دعيت ويوشك
أن اُجيب ، وقد حان منّي خفوقٌ من بين أظهركم ، وإنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به
لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه
الحوض».
ثمّ نادى بأعلى صوته : «ألست أولى منكم
بأنفسكم؟».
فقالوا : اللهمّ بلى.
فقال لهم على النسق وقد أخذ بضبعي عليّ فرفعهما حتى رُئي بياض إبطيهما
وقال : «فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر
من نصره واخذل من خذله».
ثمّ نزل 7
وكان وقت الظهيرة ، فصلى ركعتين ، ثمّ زالت الشمس فأذّ ن مؤذّنه لصلاة الظهر فصلّى
بالناس وجلس في خيمته ، وأمر عليّاً 7
أن يجلس في خيمة له بإزائه ، ثمّ أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فواجاً فوجاً
فيهنّوه بالاِمامة ، ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل الناس ذلكاليوم كلّهم ، ثمّ
أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين معه أن يدخلن معه ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين
ففعلن ذلك ، وكان ممّن أطنب في تهنئته بذلك المقام عمر بن الخطّاب وقال فيما قال :
بخّ بخّ لك يا عليّ ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
وأنشأ حسّان يقول :
يناديهم يوم الغدير نبيّهم
|
|
مّ وأسمع بالرسول مناديا
|
وقال فمن مولاكم ووليّكم
|
|
قالوا ولم يبدوا هناك التعاديا
|
إلهك مولانا وأنت وليّنا
|
|
لن تجدن منّا لك اليوم عاصيا
|
__________________
فقال له قم يا علي فإنّني
|
|
يتك من بعدي إماماً وهاديا
|
فمن كنت مولاه فهذا وليّه
|
|
كونوا له أنصار صدق مواليا
|
هناك دعا اللهمّ وال وليّه
|
|
كن للّذي عادا عليّاً معاديا
|
فقال له رسول الله 6 : «لا تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس
ما نصرتنا بلسانك ».
ولم يبرح رسول الله 6 من ذلك المكان حتّى نزل(اَليَوم
اَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَاَتَممتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضِتُ لَكُمُ الاِسلامَ
دِيناً)
فقال : «الحمد لله على كمال الدين ، وتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتي والولاية
لعليّ من بعدي».
ولمّا قدم رسول الله 6
المدينة من حجّ الوداع بعث بعده اُسامة بن زيد وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه ، وقال
له : «أوطىء الخيل أواخر الشام من أوائل الرّوم». وجعل في جيشه وتحت رايته أعيان
المهاجرين ووجوه الأنصار ، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة.
وعسكر اُسامة بالجرف ، فاشتكى رسول الله
6 شكواه التي
توفّي فيها ، وكان 7
يقول في مرضه : « نفّذوا جيش اُسامة » ويكرّر ذلك ، وإنّما فعل 7 ذلك لئلاّ يبقى في المدينة عند وفاته
من يختلف في الاِمامة ، ويطمع في الامارة ، ويستوسق الأمر لأهله.
قال : ولمّا أحسّ النبيّ 6 بالمرض الذي
__________________
اعتراه ـ وذلك يوم
السبت أو يوم الأحد ليال بقين من صفر ـ أخذ بيد عليّ 7
، وتبعه جماعة من أصحابه ، وتوجّه إلى البقيع ثمّ قال : «السلام عليكم أهل القبور
، ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع
آخرها أوّلها. ثمّ قال : إنّ جبرئيل 7
كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة ، وقد عرضه علي العام مرّتين ، ولا أراه إلاّ
لحضور أجلي».
ثمّ قال : «يا علي ، إنّي خُيِّرت بين
خزائن الدينا والخلود فيها أو الجنّة ، فاخترت لقاء ربّي والجنّة ، فإذا أنا مت
فغسّلني واستر عورتي ، فإنّه لا يراها أحد إلاّ اُكمه».
ثمّ عاد إلى منزله ، فمكث ثلاثة أيّا
موعوكاً ، ثمّ خرج إلى المسجد يوم الأربعاء معصوب الرأس متّكئاً على علي بيمنى
يديه وعلى الفضل بن عبّاس باليد الاُخرى ، فجلس على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه
، ثمّ قال : «أمّا بعد : أيّها الناس ، إنّه قد حان منّي خفوق من بين أظهركم ، فمن
كانت له عندي عدة فليأتني اُعطه ايّاها ، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به».
فقام رجلٌ فقال : يا رسول الله لي عندك
عدة ، إنّي تزوّجت فوعدتني ثلاثة أواق ، فقال 7
: «أنحلها ايّاه يا فضل».
ثمّ نزل فلبث الأربعاء والخميس ، ولمّا
كان يوم الجمعة جلس على المنبر فخطب ثمّ قال : «أيّها الناس إنّه ليس بين الله
وبين أحد شيء يعطيه به خيراً أو يصرف به عنه شرّاً إلاّ العمل الصالح ، أيّها
الناس لا يدّع مدّع ، ولا يتمنّ متمنّ ، والذي بعثني بالحقّ لا ينجي إلاّ عمل مع
رحمة الله ، ولو عصيت لهويت ، اللهمّ هل بلّغت؟ ـ ثلاثاً ـ».
ثمّ نزل فصلّى بالناس ، ثمّ دخل بيته ، وكان
إذ ذاك في بيت اُمّ سلمة ، فأقام به يوماً أو يومين ، فجاءت عائشة فسألته أن ينقل
إلى بيتها لتتولّى تعليله
فأذن لها ، فانتقل
إلى البيت الذي أسكنته عائشة فاستمر المرض به فيه أيّاماً وثقل 7 ، فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله
مغمور بالمرض فنادى الصلاة رحمكم الله ، فقال 7
: «يصلّي بالناس بعضهم» ، فقالت عائشة : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، وقالت حفصة :
مروا عمر.
فقال 6
: « اُكففن ، فإنّكن صويحبات يوسف ».
ثمّ قال وهو لا يستقلّ على الأرض من
الضعف ، وقد كان عنده أنّهما خرجا إلى اُسامة ، فأخذ بيد عليّ بن أبي طالب والفضل
بن عبّاس فاعتمدهما ورجلاه تخطان الأرض من الضعف ، فلمّا خرج إلى المسجد وجد أبا
بكر قد سبق إلى المحراب ، فأومأ إليه بيده ، فتأخّر أبو بكر ، وقام رسول الله 6 وكبّر وابتدأ بالصلاة ، فلمّا سلّم
وانصرف إلى منزله استدعى أبا بكر وعمر وجماعة من حضر المسجد ثمّ قال : «ألم آمركم
أن تنفذوا جيش اُسامة؟» فقال أبو بكر : إنّي كنت خرجت ثمّ عدت لاُحدث بك عهداً ، وقال
عمر : إنّي لم أخرج لاَني لم اُحب أن أسال عنك الركب.
فقال 7
: ( نفذوا جيش اُسامة ) ـ يكررها ثلاث مرات ـ ثمّاُغمي عليه صلوات الله عليه وآله
من التعب الذي لحقه ، فمكث هنيئة وبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وولده ومن
حضر ، فافاق 7 وقال : «ائتوني
بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً » ثمّ اُغميعليه.
فقام بعض من حضر من أصحابه يلتمس دواة
وكتفاً ، فقال له عمر : ارجع فإنّه يهجر !! فرجع.
فلمّا أفاق [ 6 ] قال بعضهم : ألاّ نأتيك يا رسول الله
بكتف؟ دواة؟ فقال : « أبعد الذي قلتم !! لا ، ولكن احفظوني في أهل
بيتي ، واستوصوا
بأهل الذمة خيراً ، وأطعموا المساكين (الصلاة)
وما ملكت أيمانكم ».
فلم يزل يردّد ذلك حتّى أعرض بوجهه عن
القوم ، فنهضوا ، وبقي عندهالعبّاس والفضل وعليّ 7
وأهل بيته خاصّة ، فقال له العبّاس : يارسول اللهّ إن يكن هذا الأمر فينا مستقرّاً
من بعدك فبشّرنا ، وإن كنت تعلم أنّا نغلب عليه فأوص بنا ، فقال : «أنتم المستضعفون
من بعدي » واصمت ، ونهض القوم وهم يبكون.فلمّا خرجوا من عنده قال : « ردّوا عليّ
أخي عليّ بن أبي طالب وعمّي » فحضرا ، فلمّا استقر بهما المجلس قال رسول اللهّ 6 : « يا عبّاس يا عمّ رسول الله ، تقبل
وصيّتي وتنجز عدتي وتقضي ديني؟ ». فقال له العبّاس : يا رسول الله ، عمّك شيخ كبير
ذو عيال كثير ، وأنت تباري الريح سخاء وكرماً ، وعليك وعدٌ لا ينهض به عمّك.فأقبل
على عليّ 7 فقال : «يا
أخي تقبل وصيّتي وتنجز عدتي وتقضي ديني؟».
فقال : «نعم يا رسول الله ».
فقال : «اُدن منّي » فدنا منه فضمّه
إليه ونزع خاتمه من يده فقال له : «خذ هذا فضعه في يدك » ودعا بسيفه ودرعه وجميع
لامته فدفع ذلك إليه ، والتمس عصابة كان يشدها على بطنه إذا لبس درعه ـ ويروى : أنّ
جبرئيل نزل بها من السماء ـ فجيء بها إليه ، فدفعها إلى امير المؤمنين 7 وقال له : «اقبض هذا في حياتي ». ودفع
إليه بغلته وسرجها وقال : «امض على اسم الله إلى منزلك ».
__________________
فلمّا كان من الغد حجب الناس عنه ، وثقل
في مرضه 6 ، وكان عليّ
لا يفارقه إلاّ لضرورة ، فقام في بعض شؤونه فأفاق إفاقة فافتقد عليّاً فقال : «ادعوا
لي أخي وصاحبي » وعاوده الضعف فاصمت ، فقالت عائشة : اُدعوا أبا بكر ، فدعي فدخل ،
فلمّا نظر إليه أعرض عنه بوجهه ، فقام أبو بكر.
فقال : «اُدعوا لي أخي وصاحبي » فقالت
حفصة : اُدعوا له عمر ، فدعي ، فلمّا حضر رآه النبيّ 7
فأعرض عنه بوجهه فانصرف.
ثمّ قال : «اُدعوا لي أخي وصاحبي »
فقالت اُمّ سلمة : ادعوا له عليّاً فإنّه لا يريد غيره ، فدعي أمير المؤمين 7 ، فلمّا دنا منه أومأ إليه فأكبّ علجه ،
فناجاه رسول الله 6
طويلاً ، ثمّ قام فجلس ناحية حتّى أغفى رسول الله 6
، فلمّا أغفى خرج فقال له الناس : يا أبا الحسن ما الذي أوعز إليك؟ فقال : «علّمني
رسول الله ألف باب من العلم فتح لي كلّ باب ألف باب ، ووصاني بما أنا قائمٌ به إن
شاء اللهّ».
ثمّ ثقل رسول الله 6 وحضره الموت ، فلمّا قرب خروج نفسه قال
له : «ضع رأسي يا عليّ في حجرك فقد جاء أمر الله عزّ وجل ، فإذا فاضت نفسي
فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثمّ وجّهني إلى القبلة ، وتولّ أمري ، وصلّ عليّ
أوّل الناس ، ولا تفارقني حتّى تواريني في رمسي ، واستعن بالله عزّ وجل ».
وأخذ عليّ رأسه فوضعه في حجره فاُغمي
عليه ، وأكبّت فاطمة 3
تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول :
« وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
|
|
ثمال اليتامى عصمة للأرامل »
|
ففتح رسول الله 6 عينيه وقال بصوت ضئيل :
«يا بنيّة هذا قول
عمّك أبي طالب لا تقوليه ، ولكن قولي : (وَما مُحَمّدٌ الاّ
رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ اَفَاِن ماتَ اَو قُتِلَ أنقَلَبتُم عَلى
أعقابكُم )» فبكت طويلاً ، فاومأ إليها بالدنوّ
منه ، فدنت إليه ، فأسر إليها شيئَاً هلل له وجهها.
ثمّ قضى [ 6
] ويد أمير المؤمنين اليمنى تحت حنكه ، ففاضت نفسه 7
فيها ، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ، ثمّوجّهه وغمّضه ومدّ عليه إزاره واشتغل
بالنظر في أمره.
فسئلت
فاطمة 3 : ما الذي أسر إليك رسول اللهّ 6
فسرى عنك؟ قالت : «أخبرني أنّي أوّل أهل بيته لحوقاً به ، وأنّه لن تطول المدّة بي
بعده حتّى أدركه ، فسرى ذلك عنّي ».
وروي عن اُمّ سلمة قالت : وضعت يدي على
صدر رسول اللهّ 6
يوم مات ، فمرّ بي جُمع آكل وأتوضّأ ما يذهب ريح المسك عن يدي .
وروى ثابت ، عن أنس قال : قالت فاطمة 3 - لمّا ثقل النبي 6 وجعل يتغشّاه الكرب - : «يا أبتاه إلى
جبرئيل ننعاه ، يا أبتاه مِن ربه ما أدناه ، يا أبتاه جنان الفردوس مأواه ، يا
أبتاه أجاب رباً دعاه » .
__________________
قال الباقر 7 : «لمّا حضر رسول الله 6 الوفاة نزل جبرئيل 7 فقال : يا رسول الله أتريد الرجوع إلى
الدنيا وقد بلغت؟ قال : لا ، ثم قال له : يا رسول الله تريد الرجوع إلى الدنيا؟ قال
: لا ، الرفيق الأعلى».
وقال الصادق 7 : «قال جبرئيل 7 : يا محمد هذا آخر نزولي إلى الدنيا ، إنّما
كنت أنت حاجتي منها. قال : وصاحت فاطمة 3
وصاح المسلمون و ( صاروا )
يضعون التراب على رؤوسهم » .
ومات صلوات الله عليه وآله لليلتين
بقيتا من صفر سنة عشر من هجرته .
وروي أيضاً لاثنتي عشرة ليلة من شهر
ربيع الأول يوم الاثنين .
ولمّا أراد عليّ 7 غسله استدعى الفضل بن عبّاس ، فأمره أن
يناوله الماء ، بعد أن عصب عينيه ، فشقّ قميصه من قبل جيبه حتّى بلغ به إلى سرّته ،
وتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه والفضل يناوله الماء ، فلمّا فرغ من غسله وتجهيزه
تقدّم فصلّى عليه .
__________________
قال أبان : وحدّثني أبو مريم ، عن أبي
جعفر 7 قال : «قال
الناس : كيف الصلاة عليه؟ فقال عليّ صلوات الله وسلامه عليه : إنّ رسول الله 6 إمامنا حيّاً وميّتاً ، فدخل عليه عشرة
عشرة فصلّوا عليه يوم الاثنين وليلة الثلاثاء ، حتّى الصباح ويوم الثلاثاء ، حتّى
صلّى عليه صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وانثاهم ، وضواحي المدينة ، بغير إمام.
وخاض المسلمون في موضع دفنه ، فقال عليّ
7 : «إنّ الله
سبحانه لم يقبض نبيّاً في مكان إلاّ وارتضاه لرمسه فيه ، وإنّي دافنه في حجرته
التي قبض فيها» فرضي المسلمون بذلك.
فلمّا صلّى المسلمون عليه أنفذ العبّاس
رجلاً إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ، وكان يحفر لأهل مكّة ويصرح ، وأنفذ إلى زيد بن
سهل أبي طلحة ، وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد ، فاستدعاهما وقال : اللهم خر لنبيّك
، فوجد أبو طلحة فقيل له : اُحفر لرسول الله 6
، فحفر له لحداً.
ودخل أمير المؤمنين علي صلوات الله
وسلامه عليه والعباس والفضل واُسامة بن زيد ليتولّوا دفن رسول الله 6 ، فنادت الأنصارمن وراء البيت : يا
عليّ إنّا نذكرك الله وحقّنا اليوم من رسول الله 6
أن يذهب ، أدخِل منّا رجلاً يكون لنا به حظّ من مواراة رسول الله 6 ، فقال : «ليدخل أوس بن خولي » رجل من
بني عوف بن الخزرج وكان بدريّاً ، فدخل البيت وقال له عليّ صلوات الله وسلامه عليه
: «انزل القبر» فنزل ، ووضع عليّ 7
رسول الله على يديه ثمّ دلاه في حفرته ثمّ قال له : « اخرج » فخرج ونزل عليّ 7 فكشف عن وجهه ووضع خدَّه على الأرض
موجّهاً إلى القبلة على يمينه ، ثمّ
وضع عليه اللبن وهال
عليه التراب .
وانتهزت الجماعة الفرصة لاشتغال بني
هاشم برسول الله 6
وجلوس عليّ صلوات الله وسلامه عليه للمصيبة فسارعوا إلى تقرير ولاية الأمر ، وتِّفق
لأبي بكر ما اتّفق لاختلاف الأنصار فيما بينهم ، وكراهة القوم تأخير الأمر إلى أن
يفرغ بنو هاشم من مصاب رسول الله 6
فيستقرّ الأمر مقرّه ، فبايعوا أبا بكر لحضوره. وليس هذا الكتاب بموضع لشرح ذلك ، وتجده
في مواضعه إن شئت.
وروي : أنّ أبا سفيان جاء إلى باب رسول
الله فقال :
بني هاشم لايطمع الناس فيكم
|
|
ولا سيّما تيم بن مرّة أو عديّ
|
فما الأمر إلاّ فيكم وإليكم
|
|
وليس لها إلاّ أبو حسن عليّ
|
أبا حسن فاشدد بها كفّ حازم
|
|
فإنّك بالأمر الذي يرتجى ملي
|
ثمّ نادى بأعلى صوته : يا بني هاشم ، يا
بني عبد مناف ، أرضيتم أنيلي عليكم أبو فصيل الرذل بن الرذل؟ أما والله لئن شئتم
لأملأنّها عليهم خيلاً ورجلاًَ ، فناداه أمير المؤمنين 7 : «ارجع يا أبا سفيان ، فوالله ما تريد
الله بما تقول ، وما زلت تكيد الإسلام وأهله ، ونحن مشاغيل برسول اللهّ 6 ، وعلى كلّ امرئ ما اكتسب وهو وليّ ما
احتقب ».
قال : وبعثوا إلى عكرمة بن أبي جهل
وعمومته الحارث بن هشام وغيرهم فأحضروهم ، وعقدوا لهم الرايات على نواحي اليمن
والشام ، ووجّهوهم من ليلهم ، وبعثوا إلى أبي سفيان فارضوه بتولية يزيد بن أبي
سفيان.
__________________
قال : ولمّا بايع الناس أبا بكر قيل له
: لو حبست جيش اُسامة واستعنت بهم على من يأتيك من العرب؟ وكان في الجيش عامّة
المهاجرين ، فقال اُسامة لأبي بكر : ما تقول في نفسك أنت؟ قال : قد ترى ما صنع
الناس ، فأنا اُحبّ أن تأذن لي ولعمر ، قال : فقَد أذنت لكما.
قال : وخرج اُسامة بذلك الجيش ، حتى إذا
انتهى إلى الشام عزله واستعمل مكانه يزيد بن أبي سفيان ، فما كان بين خروج أسامة
ورجوعه إلى المدينة إلاّ نحو من أربعين يوماً ، فلمّا قدم المدينة قام على باب
المسجد ثمّ صاح : يا معشر المسلمين ، عجباً لرجل استعملني عليه رسول الله 6 فتأمّر عليّ وعزلني !
(الباب الخامس)
في ذكر أزواح رسول الله 9
وأولاده وأعمامه وعمّاته
وقراباته ومواليه ومولياته وجواريه
وفيه
أربعة فصول :
(الفصل الأول)
في ذكر أزواجه وأولاده صلوات الله عليه وآله
أوّل امرأة تزوّجها رسول الله 6 خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى
بن قصي ، تزوّجها وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وكانت قبله عند عتيق بن عائذ المخزومي
فولدت له جارية ، ثم تزوجهاأبو هالة الأسدي فولدت له هند بن أبي هالة ، ثمّ
تزوّجها رسول الله 6
وربّى ابنها هنداً.
فلما استوى رسول الله 6 وبلغ أشدّه ـ وليس له كثير مال ـ
استأجرته خديجة إلى سوق خباشة ، فلمّا رجع تزوّج خديجة ، زوّجها إيّاه أبوها خوليد
بن أسد ، وقيل : زوّجها عمّها عمرو بن أسد.
وخطب أبو طالب 7 لنكاحها ـ ومن شاهده من قريش حضور ـ
فقال : الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرّيّة إسماعيل ، وجعل لنا بيتاً
محجوباً و
حرماً آمناً يُجبى إليه ثمرات كل شيء ، وجعلنا الحكام على الناس في بلدنا الذي نحن فيه ، ثمّ إنّ ابن
أخي محمّد بن عبدالله بن عبد المطّب لا يوزن برجل من قريش إلاّ رجّح ، ولا يقاس
بأحد منهم إلاّ عظم عنه ، وإن كان في المال قل فإنّ المال رزق حائل ، وظّل زائل ، وله
في خديجة رغبة ولها فيه رغبة ، والصداق ما سألتم عاجله وآجله من مالي.
وكان (أبو طالب) له خطر عظيم ، وشأن رفيع ، ولسان شافع
جسيم ،
__________________
فزوّجه ودخل بها من
الغد.
ولم يتزوّج عليها رسول الله 6 حتّى ماتت ، وأقامت معه أربعاً وعشرين
سنة وشهراً ، ومهرها اثنتا عشرة أوقيّة ونشّ ، وكذلك مهر سائر نسائه 7.
فأوّل ما حملت ولدت عبدالله بن محمّد ـ
وهو الطيّب الطاهر ـ وولدت له القاسم ، وقيل : إنّ القاسم أكبر وهو بكره وبه كان
يكنّى. والناس يغلطون فيقولون : ولد له منها أربع بنين : القاسم ، وعبدالله ، والطيّب
، والطاهر. وإنّما ولد له منها ابنان وأربع بنات : زينب ، ورقيّة ، واُمّ كلثوم ، وفاطمة.
فأمّا زينب بنت رسول الله 6 فتزوّجها أبو العاص ابن الربيع بن عبد
العزّى بن عبد شمس بن عبد مناف في الجاهليّة ، فولدت لاَبي العاص جارية اسمها
اُمامة تزوّجها علي بن أبي طالب 7
بعد وفاة فاطمة 3
، وقتل عليّ وعنده اُمامة ، فخلف عليها بعده المغيرة بن
__________________
نوفل ابن الحارث بن
عبد المطّلب وتوفّيت عنده. واُمّ أبي العاص هالة بنت خويلد ، فخديجة خالته. وماتت
زينب بالمدينة لسبع سنين من الهجرة.
وأمّا رقيّة بنت رسول الله 6 فتزوجها عتبة بن أبي لهب ، فطّلقها قبل
أن يدخل بها ، ولحقها منه أذى ، فقال النبي 6
: «اللهمّ سلّط على عتبة كلباً من كلابك» فتناوله الأسد من بين أصحابه. وتزوّجها
بعده بالمدينة عثمان بن عفّان ، فولدت له عبدالله ومات صغيراً ، نقره ديك على
عينيه فمرض ومات. وتوفيت بالمدينة زمن بدر ، فتخلّف عثمان على دفنها ، ومنعه ذلك
أن يشهد بدراً ، وقد كان عثمان هاجر إلى الحبشة ومعه رقيّة.
وأمّا اُم كلثوم فتزوّجها أيضاً عثمان
بعد اُختها رقيّة وتوفيّت عنده.
وأمّا فاطمة 3 فسنفرد لها باباً فيما بعد إن شاء
الله.
ولم يكن لرسول الله 6 ولد من غير خديجة إلاّ إبراهيم ابن رسول
الله 6 من مارية
القبطيّة ، ولد بالمدينة سنة ثمان من الهجرة ومات بها وله سنة وستّة أشهر وبعض
أيّام ، وقبره بالبقيع.
والثانية : سودة بنت زمعة ، وكانت قبله
عند السكران بن عمرو فمات عنها بالحبشة مسلماً.
والثالثة : عائشة بنت أبي بكر ، تزوّجها
بمكّة وهي بنت سبع ، ولم يتزوّج بكراً غيرها ، ودخل بها وهي بنت تسع ، لسبعة أشهر
من مقدمة المدينة ، وبقيت إلى خلافة معاوية.
والرابعة : اُمّ شريك التي وهبت نفسها
للنبيّ 6 ، واسمها
غزية بنت دودان بن عوف بن عامر ، وكانت قبله عند أبي العكر بن سميّ الأزدي فولدت
له شريكاً.
والخامسة : حفصة بنت عمر بن الخطّاب ، تزوجها
بعد ما مات زوجها خنيس بن عبدالله بن حذافة السهمي ، وكان رسول الله 6 قد وجّهه إلى كسرى فمات ولا عقب له ، وماتت
بالمدينة في خلافة عثمان.
والسادسة : اُمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، واسمها
رملة ، وكانت تحت عبيدالله بن جحش الأسدي فهاجر بها إلى الحبشة وتنصّر بها ومات
هناك ، فتزوّجها رسول الله 6
بعده ، وكان وكيله عمرو بن اُميّة الضمريّ.
والسابعة : اُمّ سلمة ، وهي بنت عمّته
عاتكة بنت عبد المطّلب. وقيل : هي عاتكة بنت عامر بن ربيعة من بني فراس بن غنم ، واسمها
هند بنت أبي اُميّة بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم ، وهي ابنة عمّ أبي
جهل. وروي : أنّ رسول الله 6
أرسل إلى اُمّ سلمة : أن مري ابنك أن يزوّجك ، فزوّجها ابنها سلمة بن أبي سلمة من
رسول الله 6 وهو غلام لم
يبلغ ، وأدّى عنه النجاشي صداقها أربعمائة دينار عند العقد. وكانت اُمّ سلمة من
آخر أزوارج النبي 6
وفاة بعده ، وكانت عند أبي سلمة بن عبد الأسد واُمّه برّة بنت عبدالمطّلب ، وهو
ابن عمّة رسول الله 6
، وكان لاُمّ سلمة منه زينب وعمر ، وكان عمر مع عليّ 7
يوم الجمل وولاّه البحرين وله عقب بالمدينة ، ومن مواليها شيبة بن نصاح إمام أهل المدينة
في القراءة ، وخيرة اُمّ الحسن البصري.
والثامنة : زينب بنت جحش الأسديّة ، وهي
ابنة عمّته ميمونة بنت عبد المطّلب ، وهي أوّل من مات من أزواجه بعده ، توفّيت في
خلافة عمر ، وكانت قبله عند زيد بن حارثة فطلّقها زيد ، وذكر الله تعالى شأنه وشأن
زوجته
زينب في القرآن ، وهي
أوّل امرأة جعل لها النعش ، جعلته لها أسماء بنت عميس يوم توفّيت ، وكانت بأرض
الحبشة رأتهم يصنعون ذلك.
والتاسعة : زينب بنت خزيمة الهلاليّة ، من
ولد عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة ، وكانت قبله عند عبيدة بن الحارث بن عبد
المطلب. وقيل : كانت عند أخيه الطفيل بن الحارث ، وماتت قبله 6 ، وكان يقال لها : اُمّ المساكين.
والعاشرة : ميمونة بنت الحارث ، من ولد
عبدالله بن هلال بن عامر بن صعصعة ، تزوّجها وهو بالمدينة ، وكان وكيله أبو رافع.
وبنى بها بسرف حين رجع من عمرته على عشرة أميال من مكّة ، وتوفّيت أيضاً بسرف
ودفنت هناك أيضاً. وكانت قبله عند أبي سبرة بن أبي العامريّ.
والحادية عشر : جويرية بنت الحارث ، من
بني المصطلق ، سباها فأعتقها وتزوّجها ، وتوفّيت سنة ستّ وخمسين.
والثانية عشر : صفيّة بنت حيّي بن أخطب
النضريّ ، من خيبر ، اصطفاها لنفسه من الغنيمة ثمّ أعتقها وتزوّجها وجعل عتقها
صداقها ، وتوفّيت سنة ستّ وثلاثين.
فهذه اثنتا عشرة امرأة دخل بهنّ رسول
الله ، وقد تزوّج إحدى عشرة منهنّ وواحدة وهبت نفسها له.
وقد تزوّج صلوات الله عليه وآله عالية
بنت ظبيان وطلّقها حين اُدخلت عليه.
__________________
وتزوّج قتيلة بنت قيس اُخت الأشعث بن
قيس ، فمات قبل أن يدخل بها ، فتزوّجها عكرمة بن أبي جهل بعده. وقيل : إنّه طلقها
قبل أن يدخل بها ثمّ مات صلوات الله عليه وآله.
وتزوّج فاطمة بنت الضحّاك بعد وفاة
ابنته زينب ، وخيّرها حين اُنزلت آية التخيير
فاختارت الدنيا وفارقها ، فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول : أنا الشقيّة اخترت
الدّنيا.
وتزوّج سنى بنت الصلت فماتت قبل أن تدخل
عليه.
وتزوّج أسماء بنت النعمان بن شراحيل
فلمّا اُدخلت عليه قالت : أعوذ بالله منك فقال : «قد أعذتك الحقي بأهلك». وكان بعض
أزواجه علّمتها ذلك فطلّقها ولم يدخل بها.
وتزوّج مليكة الليثيّة ، فلمّا دخل
عليها قال لها : «هبي لي نفسك» ، فقالت : وهل تهب الملكة نفسها للسوقة ، فأهوى 6 بيده يضعها عليها فقالت : أعوذ بالله
منك ، فقال : «لقد عذت بمعاذ» فسرّحها ومتّعها.
وتزوّج عمرة بنت يزيد ، فرأى بها بياضاً
فقال : «دلّستم عليّ» وردّها.
وتزوّج ليلى بنت الخطيم الأنصاريّة
فقالت أقلني ، فأقالها.
وخطب امرأة من بني مرّة فقال أبوها : إن
بها برصاً ، ولم يكن بها ، فرجعفإذا هي برصاء.
وخطب عمرة فوصفها أبوها ، ثمّ قال : وأزيدك
إنّها لم تمرض قطّ ، فقال 6
: « ما لهذه عند الله من خير ». وقيل : انّه
__________________
تزوّجها ، فلمّا قال
ذلك أبوها طلّقها.
فهذه إحدى وعشرون امرأة.
ومات رسول الله 6 عن عشر ، واحدة منهنّ لم يدخل بها.
وقيل : عن تسع : عائشة ، وحفصة ، واُمّ سلمة ، واُمّ حبيبة ، وزينب بنت جحش ، وميمونة
، وصفيّة ، وجويرية ، وسودة. وكانت سودة قد وهبت ليلتها لعائشة حين أراد طلاقها
وقالت : لا رغبة لي في الرجال وإنّما اُريد أن اُحشر في أزواجك .
__________________
(الفصل الثاني)
في ذكر أعمامه وعمّاته صلوات الله عليه وآله
كان لرسول الله 6 تسعة أعمام هم بنو عبد المطّلب : الحارث
، والزبير ، وأبو طالب ، وحمزة ، والغيداق ، وضرار ، والمقوّم ، وأبو لهب واسمه
عبدالعزّى ، والعبّاس. ولم يعقب منهم إلاّ أربعة : الحارث ، وأبو طالب ، والعبّاس
، وأبو لهب.
فأمّا الحارث فهو أكبر ولد عبد المطّلب
وبه كان يكنّى ، وشهد معه حفر زمزم
، وولده : أبو سفيان ، والمغيرة ، ونوفل ، وربيعة ، وعبد شمس.
أما أبو سفيان فأسلم عام الفتح ولم يعقب.
وأمّا نوفل فكان أسنّ من حمزة والعبّاس
، وأسلم أيّام الخندق وله عقب.
وأمّا عبد شمس فسمّاه رسول الله 6 عبدالله
__________________
وعقبه بالشام .
وأمّا أبو طالب عمّ النبيّ فكان مع أبيه
عبدالله ابني اُمّ واُمّهما فاطمة بنت عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم واسمه عبد مناف له أربعة أولادذكور : طالب ، وعقيل ، وجعفر
، وعليّ ، ومن الاناث : اُمّ هانىء واسمها فاختة ، وجمانة ، اُمّهم جميعاً فاطمة
بنت أسد.
وكان عقيل أسنّ من جعفر بعشر سنين ، وأعقبوا
إلاّ طالباً
وتوفّي قبل أن يهاجر النبيّ 6
بثلاث سنين ، ولم يزل رسول الله ممنوعاً من الأذى بمكّة موقى حتّى توفّي أبو طالب 7 ، فنبت به مكة ، ولم تستقرّ له بها
دعوة حتى جاءه
جبرئيل 7 فقال : «إنّ
الله تعالى يقرؤك السلام ويقول لك : اُخرج من مكّة فقد مات ناصرك» .
ولمّا قُبض أبو طالب أتى عليّ رسول الله
6 فأعلمه
بموته ، فقال له : «امض يا عليّ فتولّ غسله وتكفينه وتحنيطه ، فإذا رفعته على
سريره فأعلمني» ففعل ذلك ، فلمّا رفعه على السرير اعترضه النبيّ وقال : « وصلتك
رحم ، وجزيت خيراً يا عمّ ، فلقد ربيت وكفّلت صغيراً ، ووازرت ونصرت كبيراً » ثمّ
أقبل على الناس وقال : « أما والله لأشفعنّ لعمّي
__________________
شفاعة يعجب لها أهل
الثقلين» .
وأمّا العباس فكان يكنّى أبا الفضل ، وكانت
له السقاية وزمزم ، وأسلم يوم بدر ، واستقبل النبيّ 6
عام الفتح بالأبواء ، وكان معه حين فتح مكة ، وبه ختمت الهجرة. ومات بالمدينة في
أيّام عثمان وقد كفّ بصره ، وكان له من الولد تسعة ذكور وثلاث إناث : عبدالله ، وعبيدالله
، والفضل ، وقثم ، ومعبد ، وعبدالرحمن ، واُمّ حبيب ، اُمّهم لبابة بنت الفضل بن
الحارث الهلاليّة اُخت ميمونة بنت الحارث زوجة النبيّ 6 ، وتمّام ، وكثير ، والحارث ، وآمنة ، وصفيّة
، لاُمّهات أولاد شتّى .
وأمّا أبو لهب فولده : عتبة ، وعتيبة ، ومعتّب
، واُمّهم اُمّ جميل بنت حرب اُخت أبي سفيان حمّالة الحطب .
وكانت عمّاته صلوات الله عليه وآله
ستّاً من اُمّهات شتّى وهنّ : اُميمة ، واُمّ حكيمة ، وبرّة ، وعاتكة ، وصفيّة ، وأروى
.
وكانت اُميمة عند جحش بن رئاب الأسدي ، وكانت
اُمّ حكيمة ـ وهي البيضاء ـ عند كرز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس ، وكانت برّة عند
عبد الأسد بن هلال المخزومي فولدت له أبا سلمة الذي كان زوج اُمّ سلمة ،
__________________
وكانت عاتكة عند أبي
اُمّية بن المغيرة المخزوميّ ، وكانت صفيّة عند الحارث بن حرب بن اُمّية ، ثمّ خلف
عليها العوّام بن خوليد فولدت له الزبير ، وكانت أروى عند عمير بن عبد العزّى بن
قصيّ. لم يسلم منهنّ غير صفيّة .
وقيل : أسلم منهنّ ثلاث : صفيّة ، وأروى ، وعاتكة .
__________________
(الفصل الثالث)
في ذكر قراباته من جهة اُمّه
من الرضاعة صلوات الله عليه
وآله
لم يكن لرسول الله 6 قرابة من جهة اُمّه إلاّ من الرضاعة ، فإنّ
اُمّه آمنة بنت وهب لم يكن لها أخ ولا اُخت فيكون خالاً له أو خالة ، إلاّ أنّ بني
زهرة يقولون : نحن أخواله ، لأنّ آمنة منهم
، ولم يكن لأبويه عبدالله وآمنة ولد غيره فيكون له أخ أو اُخت من النسب ، وكان له خالة من الرضاعة يقال لها : سلمى
، وهي اُخت حليمة بنت أبي ذؤيب. وله أخوان من الرضاعة : عبدالله بن الحارث ، واُنيسة
بنت الحارث ، اُبوهما الحارث بن عبد العزّى بن سعد بن بكر بن هوازن ، فهما أخواه
من الرضاعة .
__________________
(الفصل الرابع)
في ذكر مواليه ومولياته وجواريه
أمّا
مواليه : فزيد بن حارثة ، وكان لخديجة اشتراه
لها حكيم بن حزام بسوق عكاظ بأربعمائة درهم فوهبته لرسول الله 6 بعد أن تزوّجها ، فأعتقه فزوّجه اُمّ
أيمن ، فولدت له اُسامة ، وتبنّاه رسول الله 6
فكان يدعى زيدا ابن رسول الله ، حتّى أنزل الله تعالى(ادعُوهُم لآبائهِم).
وأبو رافع
: واسمه أسلم ، وكان للعبّاس فوهبة له ، فلمّا أسلم العبّاس بشر أبو رافع النبي 6 بإسلامه فأعتقه ، وزوجه سلمى مولاته ، فولدت
له عبيدالله بن أبي رافع ، فلم يزل كاتباً لعليّ 7
أيام خلافته.
وسفينة
: واسمه رباح ، اشتراه رسول الله 6
فأعتقه.
وثوبان
: يكنّى أبا عبدالله من حمير ، أصابه سبي فاشتراه رسول الله 6 فأعتقه.
وبشار
: وكان عبداً نوبيّاً ، أعتقه رسول الله 6
فقتله العرنيون الذين أغاروا على لقاح رسول الله 6.
وشقران : واسمه صالح.
وأبو كبشة
: واسمه سليمان.
__________________
وأبو ضميرة : أعتقه 6 وكتب له كتاباً فهو في يد ولده.
ومدعم أصابه سهم في وادي القرى فمات.
وأبو مويهبة ، وأنيسة ، وفضالة ، وطهمان
، وأبو أيمن ، وأبو هند ، وأنجشة وهو الذي قال فيه 6
: «رويدك يا أنجشة ، رفقاً بالقوارير»
وصالح ، وأبو سلمى ، وأبو عسيب ، وعبيد ، وأفلح ، وريفع ، وأبو لقيط ، وأبو رافع
الأصغر ، ويسار الأكبر ، وكركرة أهداه هوذة بن عليّ الحنفيّ إلى النبيّ فأعتقه ، ورباح
، وأبو لبابة ، وأبو اليسر وله عقب.
وأمّا مولياته : فإنّ المقوقس ـ صاحب
الاِسكندريّة ـ أهدى إليه جاريتين : إحداهما مارية القبطيّة ، ولدت له إبراهيم
وماتت بعده بخمس سنين ، سنة ستّة عشر ، ووهب الاُخرى لحسّان بن ثابت.
واُمّ أيمن حاضنة النبيّ 6 ، وكانت سوداء ورثها
__________________
عن اُمّه ، وكان
اسمها بركة ، فأعتقها وزوّجها عبيد الخزرجيّ بمكّة فولدت له أيمن ، فمات زوجها ، فزوّجها
النبيّ 6 من زيد
فولدت له اُسامة ، أسود يشبهها ، فاُسامة وأيمن أخوان لاَمّ.
وريحانة بنت شمعون ، غنمها من بني قريظة.
وأما خدمه من الأحرار : فأنس بن مالك ، وهند
وأسماء (ابنتا خارجة الأسلميّتان)
__________________
(الباب السادس)
في ذكر السيّدة الزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم
وسلّم ، وتاريخ مولدها ، ومبلغ
عمرها ، ووقت وفاتها ، ونبذ من
مناقبها وخصالها
وهو
ثلاثة فصول :
(الفصل الأول)
في ذكر مولدها وأسمائها وألقابها عليها السلام
الأظهر في روايات أصحابنا أنّها ولدت
سنة خمس من المبعث بمكّة في العشرين من جمادى الأخرة ، وأنّ النبيّ 6 قبض ولها ثماني عشرة سنة وسبعة أشهر.
وروي عن جابر بن يزيد قال : سئل الباقر 7 : كم عاشت فاطمة 3 بعد رسول الله 6؟ قال : «أربعة أشهر ، وتوفّيت ولها
ثلاث وعشرون سنة».
وهذا قريب ممّا روته العامّة أنّها ولدت
سنة إحدى وأربعين من مولد رسول الله 6 ، فتكون بعد المبعث بسنة.
وذكر الاُستاذ أبو سعيد الواعظ في كتاب
«شرف النبيّ» : أنّ جميع أولاد رسول الله 6
ولدوا قبل الإسلام ، إلاّ فاطمة وإبراهيم فإنّهما ولدا في الإسلام.
وروي عن الصادق 7 أنّه قال : «لفاطمة 3 تسعة أسماء عند الله عزّ وجل : فاطمة ،
والصدّيقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ،
__________________
والراضية ، والمرضيّة
، والمحدّثة ، والزهراء».
وفي مسند الرضا 7 : أنّ النبيّ قال : «إنّما سمّيت ابنتي
فاطمة لأنّ الله سبحانه فطمها وفطم من أحبّها من النار».
وسمّاها النبيّ 6 ، البتول أيضاً ، وقال لعائشة : «يا حميراء ، إنّ
فاطمة ليست كنساء الآدميّين ، ولا تعتلّ كما تعتلّون»
ومعناه ما جاء في الحديث الآخر : أنّ
فاطمة 3 لم تر دماً
في حيض ولا نفاس. وقد روت العامّة أيضاً ، عن أنس بن مالك ، عن اُمّ سليم زوجة أبي
طلحة الأنصاري أنّها قالت : لم تر فاطمة 3
دماً قطّ في حيض ولا نفاس.
وكانت يصب عليها من ماء الجنة ، وذلك
أنّ رسول الله 6
لمّا اُسري به دخل الجنّة وأكل من فاكهة الجنّة وشرب من ماء الجنّة فنزل من ليلته
فوقع على خديجة فحملت بفاطمة فكان حمل فاطمة من ماء
__________________
الجنة.
ورواه أيضاً ابن
عباس عن النبيّ 6.
__________________
(الفصل الثاني)
في ذكر ما يوجب الدلالة على
عصمتها
وبعض الآيات المثبتة عن
مكانها من الله ، ومنزلتها
ونبذ من الأخبار الدالة على
فضلها وعلو رتبتها
من أوكد الدلائل على عصمتها 3 قوله سبحانه : (إنَّما
يُريدُ الله لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البَيت وَيُطَهِّرَكُم تَطهيراً)
ووجه الدلالة : أنّ الاُمة اتّفقت [ على ] أنّ المراد بأهل البيت في الآية هم أهل
بيت رسول الله 6
، ووردت الرواية من طريق الخاصّ والعامّ أنّها مختصّة بعليّ وفاطمة والحسن والحسين
: ، وأنّ
النبيّ 6 جلّلهم
بعباء خيبريّة ثمّ قال : «اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم
تطهيراً» فقالت اُمّ سلمة : يا رسول الله وأنا من أهل بيتك؟ فقال عليه وآله السلام
لها : «إنّك على خير».
ولا تخلو الاِرادة في الآية إمّا أن
تكون إرادة محضة لم يتبعها الفعل ، أو إرادة وقع الفعل عندها ، والأوّل باطلٌ ، لأنّ
ذلك لا تخصيص فيه لأهل البيت ، بل هو عام في جميع المكلّفين ، ولا مدح في الاِرادة
المجردة ،
__________________
وأجمعت الاُمّة على
أنّ الآية فيها تفضيل لأهل البيت وإبانة لهم عمّن سواهم ، فثبت الوجه الثاني ، وفي
ثبوته ما يقتضي عصمة من عني بالآية ، وأنّ شيئاً من القبائح لا يجوز أن يقع منهم ،
على أنّ غير من سمّيناه لاشكّ أنّه غير مقطوع على عصمته ، والآية موجبة للعصمة ، فثبت
أنّها فيمن ذكرناهم لبطلان تعلّقها بغيرهم.
وممّا يدلّ أيضاً على عصمتها 3 : قول النبيّ 6 فيها : «إنّها بضعة منّي يؤذيني ما
آذاها».
وقوله 6
: «من آذى فاطمة فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله عزّ وجل».
وقوله 6
: «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها».
ولو كانت ممّن يقارف الذنوب لم يكن من
يؤذيها مؤذياً له على كلّ حال ، بل يكون متى فعل المستحق من ذمّها ، أو إقامة
الحدّ ـ إن كان الفعل يقتضيه ـ سارّاً له 7.
__________________
ومّما روي من الآيات الدالّة على محلّها
من الله عزّ وجلّ ما رواه الخاصّ والعامّ عن ميمونة أنّها قالت : وجدت فاطمة 3 نائمة والرحى تدور فأخبرت رسول الله 6 بذلك فقال : «إنّ الله علم ضعف أمته
فاوحى إلى الرحى أن تدور فدارت».
ومن الأخبار المنبئة عن فضلها وتميّزها
عمّن سواها ما روته العامّة عن عائشة قالت : ما رأيت رجلاً أحبّ إلى رسول الله من
عليّ ، ولا امرأة أحبّ إلى رسول الله من امرأته.
ورووا عن أمير المؤمنين 7 أنه قال : «سألت رسول الله 6 فقلت : أنا أحب إليك أم فاطمة؟ فقال : فاطمة
أحب إليّ منك ، وأنت أعز عليّ منها».
ورووا عن أنس قال : قال رسول الله 6 : «حسبك من نساء العالمين ـ وفي رواية
اُخرى : خير نساء العالمين ـ : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت
خوليد ، وفاطمة بنت محمّد»
__________________
وعن ابن عبّاس قال : أفضل نساء أهل
الجنّة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد 6
، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم.
وروي عن عبد الرحمن بن عوف قال : سمعت
رسول الله 6 يقول : «أنا
الشجرة ، وفاطمة فرعها ، وعليّ لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها ، وشيعتنا ورقها ، الشجرة
أصلها في جنّة عدن ، والفرع والثمر والورق في الجنّة».
ورووا عن عائشة : أنّ فاطمة 3 كانت إذا دخلت على رسول الله قام لها
من مجلسه وقبّل رأسها وأجلسها مجلسه.
ورووا عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم في
تفسير القرآن ، عن الصادق جعفر بن محمد 8
أنّه قال : «بلغنا عن آبائنا أنّهم قالوا : كان رسول الله 6 يكثر تقبيل فم فاطمة سيّدة نساء
العالمين 3 إلى أن قالت
عائشة : يا رسول الله أراك كثيراً ما تقبّل فم فاطمة ، وتدخل لسانك في فيها؟! قال
: نعم يا عائشة ، أنّه لمّا اُسري بي إلى السماء أدخلني جبرئيل الجنّة فأدناني من
شجرة طوبى وناولني من ثمارها تفّاحة فأكلتها فصارت نطفة في ظهري ، فلمّا هبطت إلى
الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة ، فكلّما اشتقت إلى الجنّة قبّلتها وأدخلت لساني
في فيها
__________________
فأجد منها ريح
الجنّة ، وأجد منها رائحة شجرة طوبى ، فهي إنسيّة سماويّة» .
وما رواه أصحابنا رضي الله عنهم من
لأخبار الدالّة على خصوصيّتها من بين أولاد الرسول 6
بشرف المنزلة ، وبينبونتها عن جميع نساء العالمين بعلّو الدرجة فأكثر من أن يحصر ،
فلنقنتصر على ما ذكرناه.
وكان ممّا تممّ الله تعالى به شرف أمير
المؤمنين 7 في الدنيا
وكرامته في الآخرة أن خصّه بتزويجها إيّاه ، كريمة رسول الله 6 ، وأحبّ الخلق إليه ، وقرّة عينه ، وسيدة
نساء العالمين.
فممّا روي في ذلك ما صحّ عن أنس بن مالك
قال : بينما النبيّ 6
جالس إذ جاء عليّ 7
فقال : «يا عليّ ما جاء بك؟».
قال : «جئت اُسلّم عليك».
قال : «هذا جبرئيل يخبرني أنّ الله
تعالى زوّجك فاطمة ، وأشهد على تزويجها أربعين ألف ألف ملك ، وأوحى الله تعالى إلى
شجرة طوبى أن : اُنثري عليهم الدرّ والياقوت ، فنثرت عليهم الدر والياقوت فابتدرت
إليه الحور العين يلتقطن في أطباق الدر والياقوت ، وهنّ يتهادينه بينهنّ إلى يوم
القيامة» .
وعن ابن عبّاس قال : لمّا كانت الليلة
التي زفّت بها فاطمة إلى عليّ 8
كان رسول الله 6
أمامها ، وجبرئيل عن
__________________
يمينها ، وميكائيل
عن يسارها ، وسبعون ألف ملك من خلفها ، يسبّحون الله ويقدّسونه.
وافتخر أمير المؤمين 7 بتزويجها في مقام بعد مقام :
روى أبو إسحاق الثقفي بإسناده ، عن حكيم
بن جبير ، عن الهجريّ ، عن عمّه قال : سمعت عليّاً 7
يقول : «لأقولنّ قولاً لم يقله أحدٌ بعدي إلاّ كذّاب ، أنا عبدالله ، وأخو رسوله ،
وريث نبيّ الرحمة ، وتزوّجت سيّدة نساء الاُمّة ، وأنا خير الوصيّين»
والأخبار في هذا النحو كثيرة ، وروى
الثقفي بإسناده عن بريدة قال : لمّا كان ليلة البناء بفاطمة 3 قال لعليّ : «لا تحدث شيئاً حتّى
تلقاني» فاتى النبيّ 6
بماء ـ أوقال : دعا بماء ـ فتوضّأ ثمّ أفرغه على عليّ 7 ثمّ قال : «اللهم بارك فيهما ، وبارك
عليهما ، وبارك لهما في شبليهما».
وروى بإسناده عن شرحبيل بن أبي سعيد قال
: لمّا كان صبيحة عرس فاطمة جاء النبيّ 6
بعسّ فيه لبن فقال لفاطمة :
__________________
« اشربي فداك أبوك »
وقال لعليّ 7 : «اشرب
فداك ابن عمّك» .
__________________
الفصل الثالث
في ذكر وقت وفاتها ، وموضع
قبرها سلام الله عليها
روي : أنّها توفّيت صلوات الله عليها [
في ] الثالث من جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة من الهجرة ، وبقيت بعد النبيّ 6 خمسة وتسعين يوماً ، وروي : أربعة أشهر.
وتولّى أمير المؤمنين 7 غسلها وروي : أنّه أعانه على غسلها أسماء بنت
عميس ، وأنها قالت : أوصت فاطمة أن لا يغسّلها إذا ماتت إلاّ أنا وعليّ صلوات الله
وسلامه عليه ، فغسّلتها أنا وعليّ.
وصلّى عليها أمير المؤمنين ، والحسن
والحسين : ، وعمّار ، والمقداد
، وعقيل ، والزبير ، وأبو ذرّ ، وسلمان ، وبريدة ، ونفر من بني هاشم في جوف الليل.
ودفنها أمير المؤمنين 7 سرّاً بوصيّة منها في ذلك
__________________
وأمّا موضع قبرها فاختلف فيه ، فقال بعض
أصحابنا : إنّها دفنت في البقيع .
وقال بعضهم : إنّها دفنت في بيتها فلمّا
زادت بنو اُمّية في المسجد صارت في المسجد .
وقال بعضهم : إنّها دفنت فيما بين القبر
والمنبر
، وإلى هذا أشار النبيّ 6
بقوله : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة» .
والقول الأول بعيد ، والقولان الآخران
أشبه وأقرب إلى الصواب ، فمن استعمل الاحتياط في زيارتها زارها في المواضع
الثلاثة.
هذا آخر ما أردنا إثباته من الركن
الأوّل ، وبالله التوفيق.
__________________
(الركن
الثاني)
من الكتاب
في ذكر
الاِمام الأوّل ، والوصيّ الأفضل ، وأمير المؤمنين
عليّ بن أبي طالب عليه
السلام ، وتاريخ مولده ، ومدّة
عمره ، ودلائل إمامته ، وطرف
من مناقبه
ويشمل
على خمسة أبواب :
(الباب الأول)
في ذكر مولده عليه السلام ، وتاريخ
عمره
ونبذ من خبر ولادته ووفاته
[وفيه] ثلاثة فصول :
(الفصل الأول)
في ذكر ميلاده عليه السلام
ولد 7
بمكّة في البيت الحرام يوم الجمعة الثالث عشر من شهر الله الأصم رجب بعد عام الفيل
بثلاثين سنة ، ولم يولد قطّ في بيت الله تعالى مولود سواه لا قبله ولا بعده ، وهذه
فضيلة خصّه الله تعالى بها إجلالاً لمحلّه ومنزلته وإعلاءً لرتبته.
واُمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد
مناف ، وكانت من رسول الله 6
بمنزلة الاُمّ ، وربّي في حجرها ، وكانت من سابقات المؤمنات إلى الاِيمان ، وهاجرت
معه إلى المدينة ، وكفّنها النبيّ 6
عند موتها بقميصه ؛ ليدرأ به عنها هوامّ القبر ، وتوسّد في قبرها ؛ لتأمن بذلك من
ضغطة القبر ، ولقّنها الاِقرار بولاية ابنها كما اشتهرت به الرواية.
فكان أمير المؤمنين 7 هاشميّاً من هاشميّين ، وأوّل من ولده
هاشم مرّتين .
__________________
(الفصل الثاني)
في ذكر أسمائه وألقابه عليه السلام
وأسماؤه في كتب الله تعالى المنزّلة
كثيرة ، أوردها أصحابنا رضي الله عنهم في كتبهم ، وكنيته المشهورة أبو الحسن ، وقد
كنّي أيضاً : بأبي الحسين ، وأبي السبطين ، وأبي الريحانتين.
وكنّاه رسول الله 6 أبي تراب لمّا رآه ساجداً معفّراً وجهه
في التراب .
ولقبه أمير المؤمنين ، خصّه النبيّ 6 به لمّا قال : «سلّموا على عليّ بإمرة
المؤمنين» .
ولم يجوّز أصحابنا رضي الله عنهم أن
يطلق هذا اللفظ لغيره من الأئمة :
وقالوا : إنّه انفرد بهذا التلقيب فلا يجوز أن يشاركه في ذلك غيره.
وقد لقّبه رسول الله 6 : سيّد المسلمين ، وإمام المتّقين ، وقائد
الغرّ المحجّلين ، وسيّد الأوصياء ، وسيّد العربفي أمثال
__________________
لهذه كثيرة.
وهو أخو رسول الله 6 ، ووزيره ، ووصيّه ، وخليفته في اُمّته
، وصهره على ابنته الزهراء البتول فاطمة سيّدة نساء العالمين ، وهو المرتضى ، ويعسوب
المؤمنين.
* * *
الفصل الثالث
في ذكر وقت وفاته ، ومدة خلافته ، وتاريخ عمره عليه السلام
وقبض ليلة الجمعة لتسع بقين من شهر
رمضان سنة أربعين من الهجرة قتيلاً شهيداً ، قتله عبدالرحمن بن ملجم المرادي لعنه
الله - وقد خرج لصلاة الفجر ليلة تسعة عشر من شهر رمضان وهو ينادي «الصلاة الصلاة»
- في المسجد الأعظم بالكوفة ، فضربه بالسيف على أمّ رأسه ، وقد كان ارتصده من أول
الليل لذلك ، وكان سيفه مسموماً. فمكث 7
يوم التاسع عشر وليلة العشرين ويومها وليلة الحادي والعشرين إلى نحو الثلث من
الليل ثمّ قضى نحبه 7
، وقد كان
يعلم ذلك قبل أوانه ويخبر به الناس قبل أيّانه.
فقد اشتهر في الرواية : أنّه 7 كان لما دخل شهر رمضان يتعشّى ليلة عند
الحسن 7 ، وليلة عند
الحسين 7 ، وليلة عند
عبداللهّ بن العبّاس ، والأصحّ عبدالله بن جعفر ، وكان لا يزيد على ثلاث لقم ، فقيل
له في ذلك فقال : «يأتيني أمر ربي وأنا خميص ، إنما هي ليلة أو ليلتان » ، فأصيب 7 في آخر تلك الليلة .
__________________
وروى أصبغ بن نباتة قال : خطبنا أمير
المؤمنين 7 في الشهر
الذي قتل فيه فقال : «أتاكم شهر رمضان ، وهو سيّد الشهور وأوّل السنة ، وفيه تدور
رحى السلطان ، ألا وإنّكم حاجّوا العام صفّاً واحداً ، واية ذلك أنّي لست فيكم »
قال : فهو ينعى نفسه 7
ونحن لا ندري .
وروى عنه جماعة أنّه كان يقول على
المنبر : « ما يمنع أشقاها أني خضبها من فوقها بدم » ويضع يده على شيبته 7.
وروي : أنه كان يقول : «واللهّ ليخضبنَ
هذه من هذه » ويضع يده على رأسه ولحيته 7
.
وروي عن أبي صالح الحنفيّ قال : سمعت
عليّاً 7 يقول : «رأيت
النبي 6 في منامي
فشكوت إليه ما لقيت منأمّته من الأود واللدد وبكيت فقال : «لا تبك يا عليّ ، والتفت
فالتفتّ فإذا رجلان مصفدان ، وإذا جلاميد
، ترضخ بها روسهما».
قال أبو صالح : فغدوت إليه من الغد
فلقيت الناس يقولون : قُتل أمير المؤمنين 7
.
وروى الحسن البصري قال : سهر أمير
المؤمنين 7 في الليلة
التي قتل في صبيحتها ولم يخرج إلى المسجد لصلاة الليل على عادته ، فقالت له ابنته
أمّ كلثوم : ما هذا الذي قد أسهرك؟ فقال : «إنّي مقتول لو قد أصبحت ».
____________
وأتاه ابن النباح فآذنه بالصلاة ، فمشى
غير بعيد ثمّ رجع فقالت له أمكلثوم : مر جعدة فليصلّ بالناس ، قال : «نعم مروا
جعدة ليصلّي ، ثم قال : «لا مفرّ من الأجل » فخرج إلى المسجد ، فإذا هو بالرجل قد
سهر ليلته كلها يرصده ، فلقا برد السحر نام ، فحركه أميرالمؤمنين 7 برجله وقالله : «الصلاة» ، فقام إليه
فضربه .
وروي في حديث آخر : أنه 7 سهر في تلك الليلة ، وكان يكثر الخروج
والنظر إلى السماء وهو يقول : «والله ما كذبت ولا كذبت وإنها الليلة التي وعدت
بها» ثمّ يعاود مضجعه ، فلما طلع الفجر شد إزاره وخرج وهو يقول :
اشدد حيازيمك للموت
|
|
فإن الموت آتيك
|
ولا تجزع من الموت
|
|
إذا حل بواديك
|
فلما خرج إلى صحن الدار استقبلنه الإوزّ
فصحن في وجهه ، فجعلوا يطردونهن ، فقال : «دعوهن فانهنَ صوائح تتبعها نوائح » ثمّ
خرج فاُصيب 7 .
«وكان سنه يوم استشهد ثلاثاً وستّين سنة
، وكان مقامه مع رسول الله 6
ثلاثاً وثلاثين سنة ، عشر منها قبل البعثة ، واسلم وهو ابن عشر سنين ، فقد صحت الرواية عن حبة العرني عنه 7
قال : «بُعث النبيّ 6 يوم الاثنين فأسلمت يوم الثلاثاء» ، وبعد البعثة بمكّة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة
بعد الهجرة عشر سنين ، وعاش بعد ما قبض النبيّ 6
ثلاثين سنة إلاّخمسة أشهر وأياماً ، وتولّى غسله وتكفينه ابناه الحسن والحسين
بأمره ، وحملاه إلى الغريّين من نجف الكوفة ودفناه هناك ليلاً ، وعمّيا موضع قبره
بوصيّته اليهما في ذلك لما كان يعلم من دولة بني اُميّة من بعده وإنّهم لاينتهون
عمّا يقدرون عليه من قبيح الأفعال ولئيم الخلال ، فلم يزل قبره مخفيّاً حتّى دلّ
عليه الصادق 7 في الدّولة
العبّاسيّة وزاره عند وروده إلى أبي جعفر وهو بالحيرة .
____________
(الباب الثاني)
في ذكر النصوص الدالة على أنه عليه السلام هو
الامام بعد النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بلا
فصل
الذي يجب تقديمه في هذا الباب أنّه قد
ثبت بالدلالة القاطعة وجوب الإمامة في كلّ زمان لكونها لطفاً في فعل الواجبات
والامتناع عن المقبّحات ، فإَنّا نعلم ضرورة ان عند وجود الرئيس المهيب يكثر
الصلاح من الناس ويقلّ الفساد ، وعند عدمه يكثر الفساد ويقلّ الصلاح منهم ، بل يجب
ذلك عند ضعف أمره مع وجود هيبته.
وثبت أيضاً وجوب كونه معصوماً مقطوعاً
على عصمته ، لأنّ جهة الحاجة إلى هذا الرئيس هي إرتفاع العصمة عن الناس وجواز فعل
القبيح منهم ، فإن كان هو غير معصوم وجب أن يكون محتاجاً إلى رئيس آخر غيره ، لأنّ
علّة الحاجة إليه قائمة فيه ، والكلام في رئيسه كالكلام فيه ، فيؤدّي إلى وجوب ما
لا نهاية له من الأئمّة أو الانتهاء إلى إمام معصوم وهو المطلوب.
فإذا ثبت وجوب عصمة الإمام فالعصمة لا
يمكن معرفتها إلاّ بإعلامالله سبحانه العالم بالسرائر والضمائر ، ولا طريق إلى ذلك
سواه ، فيجب النصّ من الله تعالى عليه على لسان نبيّ مؤيّد بالمعجزات ، أو إظهار
معجز
دالّ على إمامته.
وإذا ثبتت هذه الجملة القريبة - التي لا تحتاج فيها إلى تدقيق كثير- سبرنا أحوال
الاُمّة بعد وفاة النبيّ 6
فوجدناهم اختلفوا في الإمام بعده على أقوال ثلاثة :
فقالت الشيعة : الإمام بعده 6 أميرالمؤمنين 7 ، بالنصّ على إمامته.
وقالت العبّاسيّة : الإمام بعده العبّاس
، بالنصّ أو الميراث.
وقال الباقون من الاُمّة : الإمام بعده
أبو بكر.
وكلّ من قال بإمامة أبي بكر والعبّاس
أجمعوا على أنّهما لم يكونا مقطوعاً على عصمتهما ، فخرجا بذلك من الإمامة لما
قدّمناه ، ووجب أن يكون الإمام بعده أمير المؤمنين علي 7 بالنصّ الحاصل من جهة الله تعالى عليه
والإشارة إليه ، وإلاّ كان الحقّ خارجاً عن أقوال جميع الاُمّة وذلك غير جائز
بالاتّفاق بيننا وبين مخالفينا ، فهذا هو الدليل العقلي على كونه منصوصاً عليه
صلوات الله عليه.
وأما الأدلّة السمعيّة على ذلك فقد
استوفاها أصحابنا ـ رضي الله عنهم ـ قديماً وحديثاً في كتبهم ، لا سيّما ما ذكره
سيّدنا الأجلّ المرتضى علم الهدى ذو المجدين قدّس الله روحه في كتاب الشافي في
الإمامة ، فقد استولى على الأمد ، وغار في ذلك وأنجد ، وصوّب وصعّد ، وبلغ غاية
الاستيفاء والاسقصاء ، وأجاب على شُبَه المخالفين التي عوّلوا على اعتمادها
واجتهدوا في إيرادها ، أحسن اللهّ عن الدين وكافّة المؤمنين جزاءه ، ونحن نذكر
الكلام في ذلك على سبيل الاختصار والإجمال دون البسط والإكمال.
فنقول : إنّ الذي يدل على أن النبي 6 نصّ على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
7 بالإمامة
بعده بلا فصل ،
ودل على فرض طاعته
على كلّ مكلّف قسمان : أحدهما : يرجع إلى الفعل ، وإن كان يدخل فيه أيضاً القول ، والاخر
يرجع إلى القول.
فأمّا النصّ الدال على إمامته بالفعل
والقول : فهو أفعال نبينا 6
المبينة لأمير المؤمنين 7
من جميع الاُمة ، الدالةعلى استحقاقه التعظيم والإجلال والتقديم التي لم تحصل ولا
بعضها لأحد سواه ، وذلك مثل إنكاحه ابنته الزهراء سيّدة نساء العالمين ، ومؤاخاته
إيّاه بنفسه ، وأنّه لم يندبه لأمر مهمّ ولا بعثه في جيش قطَ إلى آخرعمره إلآ كان
هو الوالي عليه ، المقذم فيه ، ولم يولّ عليه أحداً من أصحابه وأقربيه ، وأنّه لم
ينقم عليه شيئاً من أمره مع طول صحبته إيّاه ، ولا أنكر منه فعلاً ، ولا استبطأه ،
ولا استزاده في صغير من الاُمور ولا كبير ، هذا مع كثرة ما عاتب سواه من أصحابه
إمّا تصريحاً وإمّا تلويحاً.
وأمّا ما يجري مجرى هذه الأفعال من
الأقوال الصادرة عنه 6
الدالة على تميزه عمن سواه ، المنبئة عن كمال عصمته وعلوّ رتبته فكثيرة :
منها : قوله 6 يوم اُحد وقد انهزم الناس وبقي عليّ 7 يقاتل القوم حتّى فض جمعهم وانهزموا
فقال جبرئيل : «إن هذه لهي المواساة» فقال 6
لجبرئيل : «عليّ مني وأنا منه » فقال جبرئيل : «وأنا منكما» .
____________
فاجراه مجرى نفسه ، كما جعله الله
سبحانه نفس النبيّ 6
في اية المباهلة بقوله : (وأنفسنا) .
ومنها
: قوله عليه واله السلام لبريدة : «يا بريدة ، لا تبغض عليّاً ، فإنهمنّي وأنا منه
، إنّ الناس
خلقوا من أشجار شتّى وخلقت أنا وعليّ من شجرة واحدة» .
ومنها
: قوله : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور حيثما دار» .
ومنها
: ما اشتهرت به الرواية من حديث الطائر ، وقوله عليه وآله السلام : «اللهمّ ائتني
بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر» فجاء عليّ 7
.
____________
ومنها
: قوله 6 لابنته
الزهراء 3 لمّا
عيّرتها نساء قريش بفقر عليّ 7
: «أما ترضين يا فاطمة أنّي زوّجتك أقدمهم سلماً ، وأكثرهم علماً ، إنّ اللهّ عزّ
وجلّ اطّلع على أهل الأرض اطلاعة فاختار منهم أباك فجعله نبيّاً ، واطّلع عليهم
ثانية فاختار منهم بعلك فجعله وصيّاً ، وأوحى إليّ أن اُنكحه ، أما علمت يا فاطمة
أنّك بكرامة الله إيّاك زوجتك أعظمهم حلماً ، وأكثرهم علماً ، وأقدمهم سلماً».
فضحكت فاطمة 3 واستبشرت ، فقال رسول الله 6 : «يا فاطمة إنّ لعليّ ثمانية أضراس
قواطع لم تجعل لأحد من الأوّلين والآخرين ، هو أخي في الدنيا والآخرة ، ليس ذلك
لغيره من الناس ، وأنت يا فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة زوجته ، وسبطا الرحمة سبطا
يولده ، وأخوه المزيّن بالجناحين في الجنّة يطير مع الملائكة حيث يشاء ، وعنده علم
الأوّلين والآخرين ، وهو أوّل من آمن بي ، وآخر الناس عهداً بي ، وهو وصّي ووارث
الوصيّين » .
ومنها
: قوله 6 فيه : «أنت
مدينة العلم وعليّ
بابها ، فمن أراد
العلم فليأت من الباب » .
وما رواه عبدالله بن مسعود : أنّ رسول
الله 6 استدعى
عليّاً فخلا به ، فلمّا خرج إلينا سألناه : ما الذي عهد إليك؟ فقال : «علّمني ألف
باب من العلم ، فتح لي كلّ باب ألف باب » .
ومنها
: أنّه جعل محبّته علماً على الإيمان ، وبغضه علماً على النفاق بقوله فيه : «لايحبّك
إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق » .
ومنها
: أنّه عليه وآله السلام جعل ولايته عَلَماً على طيب المولد ، وعداوته عَلَماً على
خبث المولد ، بقوله «بوروا
أولادكم بحبّ عليّ بن أبي طالب ، فمن أحبّه فاعلموا أنّه لرشدة ، ومن أبغضه
فاعلموا أنّه لغيّة .
رواه جابر بن عبدالله الأنصاري عنه.
____________
وروى عنه أبو جعفر الباقر 8 قال : «سمعت رسول الله 6 يقول لعليّ 7 : ألا أسرّك ، ألا أمنحك ، ألا آبشّرك؟
فقال : بلى يا رسول الله قال : خلقت أنا وأنت من طينة واحدة ففضلت منها فضلة فخلق
الله منها شيعتنا ، فإذا كان يوم القيامة دعي الناس باسماء اُمّهاتهم ، سوى شيعتنا
فإنهم يدعون بأسماء ابائهم لطيب مولدهم » .
وروي عن جابر أنه كان يدور في سكك
الأنصار ويقول : عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر ، معاشر الأنصار بوروا أولادكم
بحب عليّ بن أبي طالب 7
، فمن أبى فانظروا في شأن اُمّه .
ومنها
: عن ابن عبَاس : أنَ النبي صلّى النبي عليه وآله وسلم قال : «إذاكان يوم القيامة
دعي الناس كلّهم بأسمائهم ما خلا شيعتنا فإنهم يدعون بأسماء ابائهم لطيب مواليدهم
» .
ومنها
: أنه جعله وشيعته الفائزون ، رواه أنس بن مالك عنه 6
: «يدخل الجنة من اُمتي سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب »ثمّ التفت إلى علي 7 فقال : «هم شيعتك وأنت إمامهم » .
ومنها
: أنه 7 سد الأبواب
في المسجد إلاّ بابه 7
،
روى أبو رافع قال : خطب
النبيّ 6 فقال : «أيّها
النّاس إنّ الله تعالى أمر موسى بن عمران أن يبني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاّ هو
وهارون وابنا هارون شبر وشبير ، وإنّ الله أمرني أن أبني مسجداً لا يسكنه إلاّ أنا
وعليّ والحسن والحسين ، سدوا هذه الأبواب الاّ باب عليّ ».
فخرج حمزة يبكي وقال : يا رسول الله
أخرجت عمّك وأسكنت ابنعمّك ! فقال : «ما أنا أخرجتك وأسكنته ، ولكنّ الله أسكنه ».
فقال بعض الصحابة ـ وقيل : هو أبو بكرـ
: دع لي كوّة أنظر فيها ، فقال : «لا ، رأس إبرة» .
وروى زيد بن أرقم عن سعد بن أبي وقّاص
قال : سدّ رسول الله 6
الأبواب إلاّ باب عليّ .
وإلى هذا أشار السيّد الحميري في قصيدته
المذهّبة بقوله؟
صهرُ النبيّ وجارهُ في مسجدٍ
|
|
طهر بطيبة للرسولِ مطيّب
|
سيّان فيه عليهِ غير مذمّمٍ
|
|
ممشاه إِن جنباً وإن لَم يجنب
|
وأمثال ما ذكرناه من الأفعال والأقوال
الظاهرة التي جاءت بها الأخَبار المتظاهرة ولا يخالف فيها ولن ولا عد ـ كثير- يطول
هذا الكتاب بذكرها ، وإنّما شهدت هذه الأفعال والأقوال باستحقاقه 7 الإمامة ، ودلّت
على أنّه 7 أحقّ بمقام الرسول عليه وآله السلام ، وأولى
بالإمامة والخلافة من جهة أنّها إذا دلّت على الفضل الأكيد ، والاختصاص الشديد ، وعلوّ
الدرجة ، وكمال المرتبة ، علم ضرورة أنّها أقوى الأسباب والوصلات إلى أشرف
الولايات. لأنّ الظاهر في العقل أن من كان أبهر فضلاً ، وأجلّشأناً ، وأعلى في الدين
مكاناً ، فهو أولى بالتقديم ، وأحقّ بالتعظيم ، والإمامة ، وخلافة الرسول 6 هي أعلا منازل الدين بعد النبوّة ، فمن
كان أجلّ قدراً في الدين ، وأفضل وأشرف على اليقين ، وأثبت قدماً ، وأوفر حظّاً
فيه ، فهو أولى بها ، ومن دلّ على ذلك من حاله دل على إمامته.
ولأنّ العادة قد جرت فيمن يرشّح لجليل
الولايات ، ويؤهّل لعظيم الدرجات ، أن يصنع به بعض ما تقدّم ذكره ، يبيّن ذلك أنّ
بعض الملوك لو تابع بين أفعال وأقوال في بعض أصحابه طول عمره وولايته يدل على فضل
شديد ، وقرب منه في المودّة والمخالصة والاتحاد ، لكان عند أرباب العادات بهذه
الأفعال مرشّحاً له لأفضل المنازل ، وأعلى المراتب بعده ، ودالاً على استحقاقه
لذلك. وقد قال قوم من أصحابنا : إن دلالة العقل ربما كانت آكد من دلالة القول ؛
لأنها أبعد من الشبهة ، وأوضح في الحجة ، من حيث إنّ مايختصَ بالفعل لا يدخله
المجاز ولا يتحمل التأويل ، وأمّا القول فيحتمل ضروباً من التأويل ويدخله المجاز
وبالله التوفيق.
فصل :
وأمّا النص المختص بالقول فينقسم قسمين
: النص الجلي ، والنصّ الخفيّ. فالنص الجليّ : هو ما علم سامعوه من الرسول 6 مراده منه ضرورة وإن كنَا نعلم الآن
ثبوته.
والمراد به إستدلالاً : وهو النصّ الذي
فيه التصريح بالإمامة والخلافة مثل ، قوله 9
« سلّموا على عليً بإمرة المؤمنين »
وقوله صلوات الله عليه وآله مشيرا إليه
وآخذا بيده : « هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوه » .
وقوله 6
لأمّ سلمة : «اسمعي واشهدي هذا علي أمير المؤمنين وسيّد المسلمين » .
وقوله عليه وآله السلام حين جمع بني
عبدالمطّلب في دار أبي طالبوهم أربعون رجلاً يومئذ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً ـ
فيما ذكره الرواة ـ وقد صنع لهم فخذ شاة مع مدّ من البرّ ، وأعدّ لهم صاعاً من
اللبن ، وقد كان الرجال منهم يأكل الجذعة في مقام واحد ويشرب الفرق من الشراب ، ثمّ
أمر بتقديمه لهم ، فأكلت الجماعة من ذلك اليسير حتّى تملّوا منه ولم يبيّن ما
أكلوه وشربوه فيه.
ثمّ قال لهم بعدأن شبعوا ورووا : يابني
عبد المطّلب ، إنّ الله قد بعثني إلى الخلق كافّة ، وبعثني إليكم خاصّة فقال : ( وَاَنذِر عَشِيرَتَكَ الأقرَبينَ )
وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ، ثقيلتين في الميزان ، تَملكون بهما
العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الأمم ، وتدخلون بهما الجنَة ، وتنجون بهما من
النار : شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمر
ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من
بعدي »؟ فلم يجب أحد
منهم.
فقام عليّ 7
فقال : « أنا يا رسول الله اُؤازرك على هذا الأمر».
فقال : « اجلس ».
ثم أعاد القول على القوم ثانية فاصمتوا
وقام علي فقال مثل مقالته الاُولى ، فقال : « اجلس ».
فاعاد القول ثالثة فلم ينطق أحد منهم
بحرف ، فقام علي فقال : «أنا اُؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر». فقال : «اجلس
فأنت أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي ».
فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب : ليهنك
اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك ، فقد جعل ابنك أميراً عليك .
وقد أورد هذا الخبر الاُستاذ أبو سعيد
الخركوشي إمام أصحابالحديث بنيشابور في تفسيره .
وهذا الضرب من النص قد تفرّد بنقله
الشيعة الإمامية خاصّة ، وإن كانبعض من لم يفطن لما عليه فيه من أصحاب الحديث قد
روى شيئاً منه.
وأمّا الدلالة على تصحيح هذا النصّ فقد
سطرها أصحابنا في كتبهم ، وذكروا من الكلام في إثباته وإبطال ما خرج المخالفون فيه
ما ربّما بلغ حجم
كتابنا هذا أو أكثر
، فمن أراد تحقيق أبوابه والتغلغل في شعابه فعليه بالكتابالشافي ، فإنّه يشرف منه
على ما لا يمكن المزيد عليه.
فصل :
وأمّا النصّ الذي يسمِّيه أصحابنا النصّ
الخفيّ فهو ما لا يقطع علىأنِّ سامعيه علموا النصّ عليه بالإمامة منه ضرورة ، وإن
كان لا يمتنع أن يكونوا يعلمونه كذلك أو علموه استدلالاً ، من حيث اعتبار دلالة
اللفظ ، وأمّا نحن فلا نعلم ثبوته ، والمراد به إلاّ استدلالاً ، وهذا الضرب سن
النصّ على ضربين : قرانيٌّ ، وأخباريٌّ.
فأمّا النصّ من القرآن : فقوله سبحانه
وتعالى : (إنّما وَلِيكم الله وَرَسوله وَالَّذِينَ
آمَنوا الَذِينَ يُقِيمُونَ الصلوةَ وَيُؤتونَ الزَّكوةَ وَهْم راكِعونَ ) .
ووجه الاستدلال من هذه الاية : أنه قد
ثبت أن المراد بلفظة ( وليكم ) المذكورة في ألآية : من كان المتحقق بتدبيركم
والقيام باُموركم وتجب طاعته عليكم ، بدلالة أنّهم يقولون في السلطان : أنَه ولي
أمر الرعية ، وفيمن ترشح للخلافة : أنه وليّ عهد المسلمين ، وفي من يملك تدبير
انكاح المرأة : أنَة وليّها ، وفي عصبة المقتول : أنّهم أولياء الدم ، من حيث كانت
إليهم المطالبة بالدم والعفو.
وقال المبرد في كتابه : الولي هو الأولى
والأحق ، ومثله المولى .
فإذا كان حقيقته في اللغة ذلك فالذي يدل
على أنّه المراد في الاية : أنَه قد ثبت أنّ المراد بـ ( الذين امنوا ) ليس هو
جميعهم بل بعضهم ، وهو منكانت له الصفة المخصوصة التي هي إيتاء الزكاة في حال
الركوع.
____________
وقد علمنا أنّ هذه الصفة لم تثبت لغير
أمير المؤمنين 7
، فإذا ثبت توجّه الآية إلى بعض المؤمنين دون جميعهم ، ونفى سبحانه ما أثبته عمّن
عدا المذكور بلفظة (إنّما) لأنها محققة لما ذكرنا فيه لما لم يذكره ـ يبينه قولهم
: إنّما الفصاحة في الشعر للجاهلية ، يريدون نفي الفصاحة عن غيرهم ، وإنّما النحاة
المدققون البصريّون يريدون نفي التدقيق عن غيرهم ، وإنّما اكلت رغيفاً يريدون نفي
أكل أكثر من رغيف - فيجب أن يكون المراد بلفظة ( وليّ ) في الآية ما يرجع إلى معنى
الإمامة والاختصاص بالتدبير ، لأنما تحمله هذه اللفظة من الموالاة في الدين
والمحبّة لا تخصص في ذلك ، والمؤمنون كلهم مشتركون في معناه ، فقد قال الله سبحانه
: (والمؤمنونَ وَالمؤمِناتُ بَعضُهم أَولِياءُ
بَعضٍ )
فإذا ثبت ذلك فالذي يدلّ على توجه لفظة ( الذين امنوا ) إلى أمير المؤمنين 7 أشياء :
منها
: قد ورد الخبر في ذلك بنقل طائفتين مختلفتين ومن طريق العامّة والخاصة نزول الأية
في أمير المؤمنين عند تصدقه بخاتمه في حال ركوعه ، والقصة في ذلك مشهورة.
ومنها
: أن الاُمة قد اجمعت على توجهها إليه 7
، لأنها بين قائلين : قائل يقول : ان المراد بها جميع المؤمنين الذين هو أحدهم ، وقائل
يقول : إنه المختص بها.
ومنها
: أن كلّ من ذهب إلى أن المراد بالأية ما ذكرناه من معنى الإمامة
يذهب إلى أنه 7 هو المراد بها والمقصود ، ويدل على أنه
7 المختصّ
بالآية هو دون غيره ، أن الإمامة إذا بطل ثبوتها لأكثر من واحد في الزمان ، واقتضت
اللفظة الإمامة ، وتوجّهت إليه 7
بما قدّمناه ثبت أنّه 7
المنفرد بها ، ولأنّ كلّ من ذهب إلى أن اللفظة مقتضية للإمامة افرده 7 بموجبها ، وما يورد في هذا الدليل من
الأسئلة والجوابات فموضعها الكتب الكبار.
فصل :
وأما النص من طريق الأخبار : فمثل قوله 6 يوم غدير خمّ : «من كنت مولاه فعلي
مولاه » .
وقوله : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى
» .
____________
فهذان الخبران ممّا
رواهما الشيعي والناصبي ، وتلقّته الاُمّة بالقبول على اختلافها في النِحَل
وتباينها في المذاهب ، وإن كانوا قد اختلفوا في تأويله واعتقاد المراد به.
فامّا وجه الاستدلال
بخبر الغدير ففيه طريقتان : أحدهما : أن نقول : إنّ النبىّ 6 قرّر اُمّته في ذلك المقام على فرض
طاعته فقال : « ألست اولى بكم من أنفسكم » فلمّا أجابوه بالاعتراف وقالوا : بلى ، رفع
بيد أمير المؤمنين عليّ 7
وقال عاطفاً على ما تقدّم : «فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه - وفي روايات اُخر : فعليّ مولاه -
اللهمّ وال من
والاه ، وعاد من
عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله »
فأتى عليه الصلاة والسلام بجملة يحتمل
لفظها معنى الجملة الأولى التي قدّمها ، وهو أنّ لفظة (مولى) تحتمل معنى أولى ، وإن
كانت تحتمل غيره ، فيحب أن يكون أراد بها المعنى المتقدّم على مقتضى استعمال أهل
اللغة ، وإذا كانت هذه اللّفظة تفيد معنى الإمامة بدلالة أنّهم يقولون : السلطان
أولى بإقامة الحدود من الرعيّة ، والمولى أولى بعبده ، وولد الميّت أولى بميراثه
منغيره ، وقوله سبحانه : ( النبي أولى
بِالمُؤمِنِينَ مِن أنفُسِهِم )
لا خلاف بين
المفسّرين أنّ المراد به أنّه أولى بتدبير المؤمنين والأمر والنهي فيهم من كل أحد
منهم. وإذا كان النبي 6
أولى بالخلق من أنفسهم من حيث كان مفترض الطاعة عليهم ، وأحق بتدبيرهم وأمرهم
ونهيهم وتصريفهم بلا خلاف ، وجب أن يكون ما أوجبه لأمير المؤمنين 7 فيكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، من
حيث أنّ طاعته مفترضة عليهم ،
وأمره ونهيه ممّا
يجب نفوذه فيهم ، وفرض الطاعة والتحقق بالتدبير من هذا الوجه لا يكون الآ لنبي أوامام
، فاذا لم يكن 7
نبياً وجب أن يكون إماماً.
وأمّا الطريقة الاُخرى في الاستدلال
بهذا الخبر فهي : أن لا نبني الكلام على المقدّمة ونستدلّ بقوله : « من كنت مولاه
فعلي مولاه » من غيراعتبار لما قبله ، فنقول : معلومِ أنّ النبي 6 أوجب لأميرالمؤمنين 7 أمراً كان واجباً له لا محالة ، فيجب
أن يعتبر ما تحتمله لفظة (مولى) من الأقسام ، وما يصحّ كون النبيّ 6 مختصاً به منها وما لا يصحّ ، وما يجوز
أن توجبه لغيره في تلك الحال وما لا يجوز ، وجميع ما تحتمله لفظه (مولى) ينقسم إلى
أقسام :
منها
: ما لم يكن ـ عليه واله السلام ـ عليه ، وهو المعتق والحليف لأنه لم يكن حاجفا
لأحد ، والحليف الذي يحالف قبيلة وينتسب إليهم ليتعزز بهم.
ومنها
: ما كان عليه ، ومعلوم لكلّ أحد أنّه لم يرده وهو المعتق والجار والصهر والحليف
الإمام إذا عد من أقسام المولى وابن العمّ.
ومنها
: ما كان عليه ، ومعلوم بالدليل أنَه لم يرده ، وهو ولاية الديات والنصرة فيه
والمحبّة أو ولاء العتق. ومما يدلّ على أنّه لم يرده ذلك أنّ كلّ عاقل يعلم من
دينه 6 وجوب موالاة
المؤمنين بعضهم بعضاً ونطق القران بذلك ، وكيف يجوز أن يجمع عليه وآله السلام ذلك
الجمع العظيم في مثل تلك الحال ويخطب على المنبر المعمول من الرحال ليعلم الناس من
دينه ما يعلمونه هم ضرورة.
وكذلك ولاء العتق ، فإنهم يعلمون أن
ولاء العتق لبني العمّ قبل الشريعة وبعدها.
ويبطل ذلك أيضاً ما جاء في الرواية من
مقال عمر بن الخطاب له عليه
السلام : بخّ بخّ يا
عليّ أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة .
ومنها
: ما كان حاصلاً له ويجب أن يريده ، وهو الأولى بتدبير الاُمّة وأمرهم ونهيهم ، لأنّا
إذا أبطلنا جميع الأقسام وعلمنا أنّه يستحيل أن يخلو كلامه من معنى وفائدة ، ولم
يبق إلاّ هذا القسم ، وجب أن يريده ، وقد بيّنا أنّ كلّمن كان بهذه الصفة فهو
الإمام المفترض الطاعة ، وأمّا استيفاء الكلام فيه ففي الكتب الكبار
____________
فصل :
وأمّا الاستدلال بالخبر الآخر وهو قوله 6 : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ
أنّه لانبي بعدي»
فإنه يدل على النصّ من وجهين : أحدهما : أنّ هذا القول يقتضي حصول جميع منازل
هارون من موسى لأمير المؤمنين من النبيّ 7
إلآ ما خصّه الاستثناء المنطوق به في الخبر من النبوة ، وما جرى مجرى الاستثناء
وهو العرف من اُخوّة النسب ، وقد علمنا أن من منازل هارون من موسى 8 هي : الشركة في النبوّة ، واُخوّة
النسب ، والتقدّم عنده في الفضل والمحبّة والاختصاص على جميع قومه ، والخلافة له
في حال غيبته على اُمّته ، وأنّه لو بقي بعده لخلفه فيهم. وإذا خرج الاستثناء
بمنزلة النبوة ، وخص العرف منزلة الاُخوّة ـ لأن كل من عرفهما علم أنهما لم يكونا
ابني أب واحد ـ وجب القطع على ثبوت ما عدا هاتين المنزلتين من المنازل الاُخر.
وإذا كان في جملة
تلك المنازل أنه لو
بقي لخلفه ودبرّ أمر اُمَته ، وقام فيهم مقامه ، وعلمنا بقاء أمير المؤمنين 7 بعد وفاة الرسول 7 وجبت له الإمامة بعده بلا شبهة ، وإنما
قلنا إنّ هارون لو بقي بعد موسى 7
لحلفه في اُمته ، لأنه قد ثبتت خلافته له في حال حياته ، وقد نطق به القران في
قوله تعالى :.(
وَقال
مُوسى لأخِيهِ هارونَ آخلُفنِي فِي قومِي ) وإذا ثبتت له الخلافة في حال الحياة
وجب حصولها له بعد الوفاة لو بقي إليها ، لأنخروجها عنه في حال من الأحوال مع
بقائه حطّ له عن مرتبة سنية كانت له ، وصرف عن ولاية فوضت إليه ، وذلك يقتضي
التنفير ، وقد يجنب الله تعالى أنبياءه من موجبات التنفير ما هو أقل ممّا ذكرناه
بلا خلاف فيه بيننا وبين المعتزلة ، وهو الدمامة المفرطة ، والخلق المشينة ، والصغائر
المستخفة ، وانلا يجبهم فيما يسألونه لاُمتهم من حيث يظهر لهم.
وأما الوجه الآخر من الاستدلال بالخبر
على النص فهو : أن تقول : قد ثبت كون هارون 7
خليفة لموسى 7 على أمَته
في حياته ومفترض الطاعة عليهم ، وإن هذه المنزلة من جملة منازله منه ، ووجدنا
النبي 6 استثنى ما
لم يرده من المنازل بعده بقوله : «إلآ أنَه لا نبيَ بعدي» فدل هذا الاستثناء على
أن ما لم يستثنه حاصل لأمير المؤمنين 7
بعده ، وإذا كان من جملة المنازل الخلافة في الحياة وثبتت بعده فقد تبين صحة النصّ
عليه بالإمامة.
وإنما قلنا : إن الاستثناء في الخبر يدل
على بقاء ما لم يستثن من المنازل بعده ؛ لأنّ الاستثناء كما أن من شأنه إذا كان
مطلقاً أن يوجب ثبوت ما لم يستثن مطلقاً ، فكذلك إذا قيد بحال أو وقت أن يوجب ثبوت
ما لم
يستثن في ذلك الوقت ،
وفي تلك الحال ألا ترى أنّ قول القائل : ضربت أصحابي إلاّ أنّ زيداً في الدار يدلّ
على أنّ ضربه أصحابه كان في الدار لتعلّق الاستثناء بذلك ، والأسئلة والجوابات في
الدليل كثيرة ، وفيما ذكرناه هنا كفاية لمن تدبره.
وأمّا ما تختصّ الشيعة بنقله من ألفاظ
النصوص الصريحة علىأمير المؤمنين 7
وعلى الأئمّة من أبنائه :
بما لم يشاركها فيه مخالفوها فممّا لا يُحصى ، أوَ يُحصى الحصى؟! ولا يمكن له
الحصر والعدّ ، أوَ يُحصر رملٌ عالج ويعد؟
ونحن نذكر جملة كافية من
الأخبار في هذا الباب شافية في معناها لأولي الألباب إذا انتهينا إلى الركن الرابع
من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
( الباب الثالث )
في ذكر طرف من آيات الله
سبحانه
الظاهرة على أمير المؤمنين عليه
السلام
والمعجزات الخارقة للعادة
المؤيّدة لإمامته
الدالة على مكانه من الله
عزّ وجلّ ومنزلته
وهذا الباب يشتمل على فنّين من الايات
الدلالات ، أحدهما ما يختصرّ بالإِخبار عن الغائبات ، والفنّ الاخر : غيرها من
المعجزات الخارقة للعادات.
فأما الفن الأول : وهو إخباره بالغائبات
والكائنات قبل كونها ، فيوافق الخبر المخبر عنه ، فإنه أحد معجزات المسيح 7 الدالة على ثبوته كما نطق به التنزيل
من قوله : ( وَاُنَبِّئُكُم بما
تأكلون وما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُم)
وكان ذلك من
آيات نبيّنا 6 أيضاً مثل ،
ما جاء في القرآن من قوله تعالى : (
لَتَدخُلنَّ
المَسجدَ الحَرامَ اِن شاءَ الله امِنِينَمُحَلّقِينَ رُؤُسكُم وَمُقَصِّرِينَ لأ
تَخافُون)
وَقوله
تعالى في يوم بدر قبل الواقعة : (
سَيُهزَمُ
الجَمعُ وَيُوَلًّونَ الدُّبُر) وقوله تعالى في غلبة فارس الروم : ( الم غلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدنَى الأرض وَهُم
مِن بَعدِ غَلَبهِم سَيَغلِبُونَ ) فيأمثال لذلك (لا نطوّل به ) .
فكان جميع ذلك على ما قال.
وما كان من هذا الفنّ منقولاً عن أمير
المؤمنين 7 فهو أكثر من
أن يحصى ولا يمكن إنكاره ، إذ ظهر للخلق اشتهاره ، فلا يخفى على العامّ والخاصّ ما
حفظ عنه 7 من الملاحم
والحوادث في خطبه وكلامه وحديثه بالكائنات قبل كونها :
فمنه
: قوله قبل قتاله الفرق الثلاثة بعد بيعته : «اُمرت بقتال الناكثين
والقاسطين
والمارقين» .
فما مضت الأيّام حتّى قاتلهم.ومنه
: قوله لطلحة والزبير لمّا استأذناه في الخروج إلى العمرة : «واللهما تريدان
العمرة وإنّما تريدان البصرة» .
فكان كما قال.
ومنه
: قوله بذي قار وهو جالس لأخذ البيعة : «يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون
رجلاً ولا ينقصون رجلاً يبايعوني على الموت ».
قال ابن عبّاس : فجعلت اُحصيهم فاستوفيت
عددهم تسعمائة رجل وتسعة وتسعين رجلاً ثمّ انقطع مجيء القوم فقلت : إنّا للّه
وإنّا إليه راجعون ماذا حمله على ما قال ! فبينا أنا متفكّر في ذلك إذ رأيت شخصاً
قد أقبل حتّى دنا ، وإذا هو رجل عليه قباء صوف ، معه سيفه وترسه وأدواته ، فقرب من
أمير المؤمنين 7
فقال : امدد يدك أبايعك ، فقال 7
: «وعلى متبايعني؟» قال : على السمع والطاعة والقتال بين يديك حتّى أموت أو يفتح
الله عليك ، فقال : «ما اسمك» قال : اُويس قال : «أنت اُويس القرني؟» قال : نعم.
قال : قال : «الله أكبر ، أخبرني حبيبي رسول الله 6
أنّي أدرك رجلاً من اُمّته يقال له : اُويس القرني يكون من حزب الله ورسوله ، يموت
على الشهادة ، يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر».
____________
قال ابن عبّاس : فسرى عنّي
ومنه
: إخباره بالمُخْدَج
وقوله : «إنّ فيهم لرجلاً موذون اليد ، له ثدي كثدي المرآة وهو شرّ الخلق والخليقة
، قاتلهم أقرب الخلق إلى الله وسيلة».
ولم يكن المخدج معروفاً في القوم ، فلمّا
قتل الخوارج جعل يطلبه في القتلى ويقول : «والله ما كذبت ولا كذبت» ويحض أصحابه
على طلبه لمّا أجلت الوقعة ، وكان يرفع رأسه إلى السماء تارة ويحطّه أخرى ، حتى
وجِدَ في القوم فشقً عن قميصه ، فكان على كتفه سلعة كثدي المرأة عليها شعرات إذا
جذبت انجذب كتفه معها وإذا تركت رجع كتفه إلى موضعها ، فلمّا وجده كبّر ثمّ قال : «إنّ
في هذه لعبرة لمن استبصر»
ومنه
: قوله في الخوارج مخاطباً لأصحابه : «والله لا يفلت منهم عشرة
ولايهلك منكم عشرة »
فكان كما قال.
ومنه
: ما رواه جندب بن عبداللهّ الأزدي قال : شهدت مع عليّ 7 الجمل وصفين لا أشكّ في قتال من قاتله ،
حتّى نزلت النهروان فدخلني شكّ فقلت : قرّاؤنا وخيارنا نقتلهم ! إنّ هذا الأمر
عظيم ، فخرجت غدوة أمشي ومعي أداوة ماء حتّى برزت من الصفوف ، فركزت رمحي ووضعت
ترسي عليه واستترت من الشمس ، فإنّي لجالس إذ ورد عليّ أميرالمؤمنين 7 فقال : «يا أخا الأزد أمعك طهور؟» قلت
: نعم.
فناولته الأداوة ، فمضى حتّى لم أره ، ثمّ
أقبل فتطهّر فجلس في ظلّ الترس ، فإذا فارس يسأل عنه ، فقلت : يا أمير المؤمنين
هذا فارس يريدك ، قال : «فأشر إليه» فأشرت إليه فجاء فقال : يا أمير المؤمنين قد
عبر القوم وقطع النهر ، فقال : « كلاّ ما عبروا » ، فقال : بلى والله لقد فعلوا ، قال
: «كلاّ ما فعلوا».
قال : فإنّه لكذلك إذ جاء رجلٌ آخر فقال
: يا أمير المؤمنين قد عبر القوم ، قال : «كلاّ ما عبر القوم» قال : والله ما جئتك
حتّى رأيت الرايات في ذلك الجانب والأثقال ، قال : « والله ما فعلوأ ، وإنّه
لمصرعهم ومهراق دمائهم ».
ثمّ نهض ونهضت معه ، فقلت في نفسي : الحمد
للهّ الذي بصّرني بهذا الرجل وعرّفني أمره ، هذا أحد رجلين : إمّا رجل كذّاب جريء ،
أوعلى بيّنة من ربه وعهد من نبيّه ، اللهمّ إنّي أعطيك عهداً تسألني عنه يوم
القيامة : إنأنا وجدت القوم قد عبروا أن أكون أوّل من يقاتله وأوّل من يطعن بالرمح
فيعينه ، وإن كانوا لم يعبروا أن أقيم على المناجزة والقتال.
____________
فدفعنا إلى الصفوف ، فوجدنا الرايات
والأثقال كما هي ، قال : فأخذ بقفاي ودفعني ثم قال : «يا أخا الأزد ، أتبيّن لك
الأمر؟» فقلت : أجليا أمير المؤمنين ، قال : « فشأنّك بعدوّك » فقتلت رجلاً ، ثمّ
قتلت آخراَ ، ثمّ اختلفت أنا ورجل آخر أضربه ويضربني فوقعنا جميعاً ، فاحتملني
أصحابي ، فأفقت حين أفقت وقد فرغ القوم
فكان كما قال 7.
وأمّا إخباره 7 بما يكون بعد وفاته من الحوادث
والملاحم والوقائع ، وما ينزل بشيعته من الفجائع ، وما يحدث من الفتن في دولة بني
اُميّة والدولة العبّاسيّة وغيرها فأكثر من أن تحصى :
فمن
ذلك : قوله 7
لأهل الكوفة : «أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجلٌ رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد
، فاقتلوه ولن تقتلوه ، ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي ، فأمّا السبّ
فسبّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة ، وأمّا البراءة فلا تتبرّؤوا منّي ، فإنّي ولدت
على الفطرة وسبقت إلى الإسلام والهجرة»
فكان كما قال 7.
ومن
ذلك : أنّه لمّا اخذ مروان بن الحكم أسيراً
يوم الجمل فتكلّم فيه الحسن والحسين 8
فخلّى سبيله فقالا له : «يبايعك يا أمير المؤمنين» فقال : «ألم يبايعني بعد قتل
عثمان ، لا حاجة لي في بيعته ،
أما إنّ له إمرة
كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة ، وستلقى الأمّة منه ومن ولده موتاً
أحمر ».
فكان كما قال 7.
ومن
ذلك : قوله 7
: «أما إنّه سيليكم من بعدي ولاة لايرضون منكم بهذا ، يعذبوكم بالسياط والحديد ، إنّه
من عذّب الناس في الدنيا عذّبه الله في الاخرة ، وآية ذلك أنّه يأتيكم صاحب اليمن
حتى يحلبين أظهركم ، فيأخذ العمّال ، وعمّال العمّال رجل يقال له : يوسف بن عمر»
فكان كما قال 7.
ومن
ذلك : قوله لجويرية بن مسهر : «ليقتلنّك
العتلّ الزنيم ، وليقطعنّ يدك ورجلك ، ثمّ ليصلبنّك تحت جذع كافر».
فلمّا ولي زياد في أيّام معاوية قطع يده
ورجله ، وصلبه على جذع ابن معكبر .
ومن
ذلك : حديث ميثم التمّار ; ، فقد روى نقلة الاثار : أنّه كان عند
امرأة من بني أسد ، فاشتراه أمير المؤمنين 7
منها ، فأعتقه وقال له : « ما اسمك؟ » فقال : سالم ، قال : « فأخبرني رسول الله
أنّ اسمك الذى سمّاك به أبوك في العجم ميثم » قال : صدق الله ورسوله وصدقت يا
أمّير المؤمنين ، قال : « فارجع إلى اسمك الذي سمّاك به رسول الله 6 ودع سالماً » فرجع إلى ميثم واكتن بأبي
سالم.
____________
فقال له أميرالمؤمنين ذات يوم : «إنّك
تؤخذ بعدي فتصلب وتطعن بحربة ، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً
فتخضّب لحيتك ، فانتظر ذلك الخضاب ، وتصلب على باب دار عمرو بن حريث ، أنت عاشر
عشرة ، أنت اقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة».
وأراه النخلة التي يصلب على جذعها ، وكان
ميثم يأتيها فيصلّي عندها ويقول : بوركت من نخلة لك خلقت ولي غذّيت ، ولم يزل
يتعاهدها حتى قطعت ، وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول له : إنّي مجاورك فأحسن جواري.
وهو لا يعلم ما يريد.
وحجّ في السنة التي قتل فيها ، فدخل على
اُمّ سلمة فقالت : من أنت؟ قال : أنا ميثم. قالت : والله لربّما سمعت رسول الله 6 يوصي بك عليّاً في جوف الليل ، فسألها
عن الحسين 7 فقالت : هو
في حائط له ، قال : فأخبريه إني قد أحببت السلام عليه ، ونحن ملتقون عند ربّ
العالمين إن شاء الله تعالى. فدعت بطيب وطيّبت لحيته وقالت له : أما إنّها تخضب
بدم.
فقدم الكوفة فاخذه عبيداللهّ بن زياد
لعنه الله وقال له : ما أخبر كصاحبك أنّي فاعل بك؟ قال : أخبرني أنّك تصلبني عاشر
عشرة أنا أقصرهم خشبة وأقربهم إلى المطهرة ، قال : لنخالفنّه ، قال : كيف تخالفه و
فوالله ما أخبرني إلاّ عن النبيّ 6
عن جبرئيل 7 عن اللهّ
عزّ تعالى ، فكيف تخالف هؤلاء؟! ولقد عرفت الموضع الذي اُصلب عليه أين هو من
الكوفة ، وأنا أوّل خلق الله ألجم في الإسلام.
فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيد ، فقال
ميثم للمختار : إنّك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين فتقتل هذا الذي يقتلنا.
فلمّا دعا عبيدالله بالمختار ليقتله طلع
بريد بكتاب يزيد يأمره بتخلية
سبيله فخلاّه ، وأمر
بميثم أن يصلب فاُخرج فقال له رجل لقيه : ما كان أغناك عن هذا يا ميثم ، فتبسّم
وقال وهو يومئ إلى النخلة : لها خلقت ولي غذَيت ، فلمّا رفع على الخشبة اجتمع
الناس حوله على باب عمرو بن حريث قال عمرو : قد كان والله يقول لي : إنّي مجاورك ،
فلمّا صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره ، فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني
هاشم فقيل لابن زياد لعنه اللهّ : قد فضحكم هذا العبد ، فقال : ألجموه.
فكان أوّل خلق الله اُلجم في الإسلام.
وكان مقتل ميثم قبل قدوم الحسين بن علي 8 على العراق بعشرة أيّام ، فلمّا كان
اليوم الثالث من صلبه طُعن ميثم بالحربة ، فكبّر ثمّان بعث في آخر النهار أنفه
وفمه دماً.
ومن
ذلك : ما رواه مجاهد ، عن الشعبي ، عن زياد
بن النضر الحارثي قال : كنت عند زياد إذ اُتي برشيد الهجري فقال له : ما قال لك
صاحبك ـ يعني عليّاً 7
ـ إنّا فاعلون بك؟ قال : تقطعون يدي ورجلي وتصلبوني ، فقال زياد : أما والله
لاُكذّبنّ حديثه ، خلّوا سبيله.
فلمّا أراد أن يخرج قال زياد : والله ما
نجد له شيئاً شرّاً ممّا قال له صاحبه ، اقطعوا يديه ورجليه واصلبوه.
فقال رشيد : هيهات ، قد بقي لكم عندي
شيء أخبرني أمير المؤمنين 7
به ، قال زياد : اقطعوا لسانه.
فقال رشيد : الآن والله جاء تصديق خبر
أمير المؤمنين 7
.
____________
ومن
ذلك : اخباره مولاه قنبر وصاحبه كميل بن
زياد بأن الحجاج بن يوسف يقتلهما .
فكان كما قال.
ومن
ذلك : ما اشتهرت به الرواية أنّه 7 خطب فقال فيخطبته : «سلوني قبل أن
تفقدوني ، فوالله ما تسألونني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها
وسائقها إلى يوم القيامة» فقام إليه رجل فقال : أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة
شعر؟
فقال 7
: «لقد حدّثني خليلي رسول اللهّ 6
بما سألت عنه ، وأنّ على كلّ طاقة شعر في رأسك ملكاً يلعنك ، وعلى كلّ طاقة شعرفي
لحيتك شيطاناً يستفزّك ، وأنّ في بيتك لسخلاً يقتل ابن بنت رسول الله 6 ، وآية ذلك مصداق ما أخبرتك به ، ولولاأنّ
الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرت به ، ولكن اية ذلك ما نبّأته عن سخلك الملعون ».
وكان ابنه في ذلك الوقت صغيراً يحبو ، فلمّا
كان من أمر الحسين 7
ما كان ، تولّى قتله ، فكان كما قال.
____________
ومن
ذلك : ما روي عن سويد بن غفلة : أنّ رجلاً جاء
إلى أمير المؤمنين 7
فأخبره أنّ خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له ، فقال : « إنّه لم يمت ولا يموت حتّى
يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب ابن جمّاز».
فقام رجل من تحت المنبر فقال : يا أمير
المؤمنين ، والله إنّي لك شيعة ، وإنّي لك محبّ ، وأنا حبيب بن جفّاز.
فقال : «إيّاك أن تحملها ، ولتحملنّها
فتدخل من هذا الباب » وأومأ بيده إلى باب الفيل.
فلمّا كان من أمر الحسين 7 ما كان بعث ابن زياد بعمر بن سعد إلى
الحسين ، وجعل خالد بن عرفطة على مقدّمته ، وحبيب بن جمّاز صاحب رايته ، فسار بها
حتّى دخل المسجد من باب الفيل
وهذا الخبر مستفيض في أهل العلم بالآثار من أهل الكوفة.
ومن
ذلك : ما رواه إسماعيل بن زياد قال : إنّ
عليّاً 7 قال للبراء
بن عازب : « يا براء ، يُقتل ابني الحسين وأنت حيّ لاتنصره ».
فلمّا قُتل الحسين 7 كان البراء يقول : صدق والله عليّ بن
أبي طالب 7 ، قُتل الحسين
بن عليّ وأنا لم أنصره. ويظهر الندم على ذلك والحسرة
____________
وهذا الذي ذكرناه ـ من جملة إخباره
بالغائبات وإعلامه بالكائنات قبلكونها ـ غيض من فيض ، ويسير من كثير ، ولو لم تكن
إلاّ خطبته القاصة ، وخطبة البصرة المستفيضة الشائعة ، وما فيها من الملاحم
والحوادث في العباد والبلاد ، وأسامي ملوك بني اُميّة وبني العباس ، وما حلّ من
عظائم بليّاتهم بالناس لكفى بهما اُعجوبة لا يعادلها سواها إلاّ ما ساواها في
معناها ، وفيما ذكرناه كفاية ومقنع لذوي الألباب.
فصل :
وأمّا الفن الآخر من المعجزات والايات
الخارقة للعادات التي هي غير الإخبار بالغائبات فمما لا يدخل تحت الضبط والانحصار
، ونحن نذكر طرفاً منها على شريطة الاختصار :
فمن
ذلك : قصة عين راحوما والراهب بأرض كربلاء
والصخرة ، والخبر بذلك مشهور بين الخاصّ والعامّ ، وحديثها :
أنّه 7
لمّا توجّه إلى صفّين لحق أصحابه عطش ، فأخذوا يميناً وشمالاً يطلبون الماء فلم
يجدوه ، فعدل بهم أمير المؤمنين عن الجادّة ، وسار قليلاً ، فلاح لهم دير فسار بهم
نحوه ، وأمر من نادى ساكنه بالإطّلاع إليهم ، فنادوه فاطّلع ، فقال له أمير
المؤمنين 7 : «هل قرب
قائمك ماء؟» فقال : هيهات ، بينكم وبين الماء فرسخان ، وما بالقرب منّي شيء من
الماء. فلوى 7 عنق بغلته
نحو القبلة وأشار بهم إلى مكان يقرب من الدير فقال : «اكشفوا الأرض في هذا المكان»
فكشفوه بالمساحي فظهرت لهم صخرة عظيمة تلمع فقالوا : يا أمير المؤمنين ، ههنا صخرة
لا تعمل فيها المساحي ، فقال 7
: ، «إنّ هذه الصخرة على الماء ، فاجتهدوا في
قلعها » فاجتمع القوم وراموا تحريكها فلم يجدوا
إلى ذلك سبيلاً واستصعبت عليهم ، فلوى 7
رجله عن سرجه حتّى صار إلى الأرض وحسر ذراعيه ووضع أصابعه تحت جانب الصخرة فحرّكها
ثمّ قلعها بيده ودحا بها أذرعاً كثيرة ، فلمّا زالت عن مكانها ظهر لهم بياض الماء
فتبادروا إليه فشربوا منه ، فكان أعذب ماءٍ وأبرده وأصفاه ، فقال لهم : «تزوّدوا
وارتووا» ففعلوا ذلك.
ثمّ جاء إلى الصخرة فتناولها بيده
ووضعها حيث كانت ، وأمر أن يعفى أثرها بالتراب ، والراهب ينظر من فوق ديره ، فلمّا
علم ما جرى نادى : يا معشر الناس أنزلوني أنزلوني ، فانزلوه فوقف بين يدي أمير
المؤمنين 7 فقال له : أنت
نبيّ مرسل؟ قال : «لا» ، قال : فملك مقرّب؟ قال : «لا» ، قال : فمن أنت؟ قال : «أنا
وصيّ رسول اللهّ محمّد بن عبدالله 6
خاتم النبيّين» قال : ابسط يدك اُسلم للّه على يدك. فبسط 7 يده وقال له : «اشهد الشهادتين» فقال :
أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشِهد أنّ محمّداً رسول الله ، وأشهد أنّك وصيّ رسول
اللهّ وأحقّ الناس بالأمر من بعده ، وقال : يا أمير المؤمنين إنّ هذا الدير بُني
على طلب قالع هذه الصخرة ومُخرج الماء من تحتها ، وقد مضى عالم كثير قبلي ولم
يدركوا ذلك ، وقد رزقنيه الله عزّ وجل ، إنّا نجد في كتاب من كتبنا مآثرعن علمائنا
إنّ في هذا الصقع عيناً عليها صخرة لا يعرف مكانها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ ، وإنّه
لا بدّ من وليّ للّه يدعو إلى الحقّ ، آيته معرفة مكان هذه الصخرة وقدرته على
قلعها ، وإنّي لمّا رأيتك قد بلغت ذلك تحقّقت ما كنّا ننتظره ، وبلغت الاُمنية منه
، فانا اليوم مسلم على يدك ومؤمن بحقّك ومولاك.
____________
فلمّا سمع بذلك أميرالمؤمنين بكى حتّى
اخضلّت لحيته من الدموع وقال : « الحمد لله الذي كنت في كتبه مذكوراً ، الحمد لله
الذي لم أك عنده منسيّاً ] ثمّ دعا الناس وقال : «اسمعوا ما يقوله أخوكم المسلم»[ فسمع الناس مقال له وشكروا الله على
ذلك ، وساروا والراهب بين يديه حتى لقي أهل الشام ، فكان الراهب في جملة من استشهد
معه ، فتولّى الصلاة عليه ودفنه وأكثر من الاستغفار له ، وكان إذا ذكره يقول : «ذاك
مولاي ».
وفي هذا الخبر ضروب من الأيات : أحدها :
علم الغيب
والآخر : القوّة الخارقة للعادة.
والثالث : ثبوت البشارة به في كتب الله
الاُولى كما جاء في التنزيل : « ذلِكَ
مَثَلُهُم فِي التّوَراة وَمَثَلُهُم فِي الإنجِيلِ
»
وفي ذلك يقول السيّد إسماعيل بن محمد
الحميري :
[١] ولَقَد سرى فِي يُسَيِّر ُلَيلة
|
|
بَعد العِشاءِ بِكَربَلا فِي مَوكِبِ
|
[٢] حَتّى أتى مُتَبَتِّلاً في قائِم
|
|
ألقى قَواعِدَهُ بقاعٍ مجدبِ
|
[٣] يأتِيهِ لَيسَ بِحَيثُ يَلفيَ عامراً
|
|
غَيرَ الوُحُوش وَغَيرَ أصلَعَ أشيَبِ
|
[٤] َفدَنا فَصاحَ بِهِ فَاشرفَ ماثلاً
|
|
كَالنَّسرِ فوقَ شظيّةٍ مِن مَرقَبِ
|
[٥]هَل قُربَ قائِمِكَ الذِي
بُوِّئتَهُ
|
|
ماء يُصابُ فَقالَ ما مِن مَشرَبِ
|
[٦] إلاّ بِغايَةِ فَرسَخَينِ وَمَن لَنا
|
|
بالماء ِبَينَ نَقاً وَقيٍّ سَبسبِ
|
[٧] فَثَنى الأعنَّةَ نَحوَ وَعثٍ فَاجتَلى
|
|
مَلساءَ تَرقُ كَاللُّجينِ المُذهبِ
|
[٨] قالَ اقلبونا إنَّكُم إن تقلِبوا
|
|
تَرووُا وَلا تَروونَ إن لَم تُقلبِ
|
[٩] فَاعصَوصَبوافِي قَلبِها فَتمنّعت
|
|
مِنهُم تَمنُّع صَعبَةٍ لَم تُركَبِ
|
[١٠] حَتّى إذا أعيَتهُمُ أهوى لَها
|
|
كَفّاً مَتى تَردِ المُغالبَ تَغلِبِ
|
[١١] فكأنّها كرَةٌ بِكَفٍّ حَزوَّر
|
|
عَبلٍ الذراعِ دَحا بها في مَلعَبِ
|
[١٢] قالَ اشربُوا مِن تَحتها مُتسَلسِلاً
|
|
عَذباَ يَزيدُ عَلَى الألذًّ الأعذبِ
|
[١٣]حَتّى إذا شَرِبُوا جَميعاً رَدَّها
|
|
وَمَضى فَخِلتَ مَكانَها لَم يُقرَب
|
[١٤] أعنيِ ابنَ فاطِمَةَ الوَصيّ وَمن يَقُل
|
|
فِي فَضلِهِ وَفَعالِهِ لا يَكذِبِ
|
__________________
ومن
ذلك : ما استفاضت به الأخبار ونظمت فيه
الأشعار من رجوع الشمس له 7
مرّتين : في حياة النبيّ 6
مرّة ، وبعد وفاته اُخرى ، فالأولى قد روتها أسماء بنت عميس ، وأمّ سلمة زوج
النبيّ6 ، وجابر بن
عبدالله ، وأبو سعيد الخدريّ في جماعةمن الصحابة : أنّ النبيّ 6 كان ذات يوم في منزله وعليٌّ 7 بين يديه إذ جاءه جبرئيل يناجيه عن
الله عزّ وجلّ ، فلمّا تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين 7 فلم يرفع رأسه عنه حتّى غابت الشمس
وصلّى 7 صلاة العصر
جالساً بالإيماء ، فلمّا أفاق النبيّ 6
قال له : «ادع الله ليردّ عليك الشمس ، فإنّ الله يجيبك لطاعتك الله ورسوله» فسأل
الله عزّ وجلّ أمير المؤمنين في ردّ الشمس ، فردّت عليه حتّى صارت في موضعها من
السماء وقت العصر ، فصلّى أمير المؤمنين الصلاة في وقتها ثمّ غربت ، وقالت أسماء
بنت عميس : أما والله لقد سمعنا لها عند غروبها صريراً كصرير المنشار في الخشب.
__________________
وأما
الثانية : أنّه لمّا أراد أن يعبر الفرات ببابل
اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابّهم ورحالهم ، وصلّى بنفسه في طائفة معه العصر ، فلم
يفرغ الناس من عبورهم حتّى غربت الشمس وفات كثيراً منهم الصلاة ، وفات جمهورهم فضل
الجماعة معه ، فتكلّموا في ذلك ، فلمّا سمع كلامهم فيه سأل الله عزّوجلّ ردّ الشمس
عليه فاجابه بردّها عليه ، فكانت في الأفق على الحالة التي تكون وقت العصر ، فلمّا
سلّم بالقوم غابت فسمع لها وجيب شديد.
وفي ذلك يقول السيد الحميري :
ردت عَلَيهِ الشَّمسُ لمّا فاتَهُ
|
|
وَقتُ الصَّلاةِ وَقَد دَنَت للمغربِ
|
حَتّى تبلَّجَ نورها في وَقتِها
|
|
لَلعَصرِ ثُمَّ هوت هَوِيَّ الكَوكَبِ
|
وَعَليهِ قَد حُبِسَت بِبابلَ مَرّةً
|
|
اُخرى وما حُبِست لِخلقٍ مُعرب
|
إلاّ لَيُوشَعَ أَو لَهُ مِن بَعدهِ
|
|
وَلِرَدِّها تَأوِيلُ أمرٍ مُعجب
|
ومن
ذلك : ما رواه نقلة الأخبار من حديث
الثعبان ، والأية فيه أنَّه كَان 7
يخطب ذات يوم على منبر الكوفة إذ ظهر ثعبان من جانب المنبر ، فجعل يرقى حتى دنا من
منبره ، فارتاع لذلك الناس وهمّوا بقصده ودفعه عنه ، فاومأ إليهم بالكفّ عنه ، فلمّا
صار إلى المرقاة التي كان أمير المؤمنين 7
قائماً عليها انحنى إلى الثعبان وتطاول الثعبان إليه حتّى التَقَمَ اُذنه ، وسكت الناس
وتحيّروا لذلك ، فنقّ نقيقاً سمعه كثيرٌ منهم ، ثمّ إنّه زال عن مكانه وأمير
المؤمنين 7 يحرّك شفتيه
والثعبان كالمصغي إليه ، ثمّ
انساب فكأنّ الأرض
ابتلعته ، وعاد أمير المؤمنين 7
إلى خطبته فتممها ، فلمّا فرغ منها ونزل اجتمع الناس إليه يسألونه عن حال الثعبان ،
فقال لهم : «إنّما هو حاكم من حكّام الجنّ التبست عليه قضيّة فصار إليّ يستفتيني
عنها ، فافهمته إيّاها ودعا إليَّ بخير وانصرف»
ومن
ذلك : حديث الحيتان وكلامهم له في فرات
الكوفة ، وذلك أنّ الماء طغى في الفرات حتّى أشفق أهل الكوفة من الغرق ، ففزعوا
إلى أمير المؤمنين 7
، فركب بغلة رسول الله 6
وخرج الناس معه حتّى أتى شاطىء الفرات فنزل 7
وأسبغ الوضوء وصلّى ، والناس يرونه ، ودعا الله عزّ وجلّ بدعوات سمعها أكثرهم ، ثمّ
تقدّم إلى الفرات متوكّئاً على قضيب بيده حتّى ضرب به صفحة الماء وقال : «انقص
بإذن الله ومشيئته» فغاض الماء حتّى بدت الحيتان من قعره ، فنطق كثير منها بالسلام
عليه بإمرة المؤمنين ولم ينطق منها اصناف من السمك وهي الجرّيّ والمارماهي ، فتعجّب
الناس لذلك ، وسألوه عن علّة نطق ما نطق وصمت ما صمت ، فقال : «أنطق الله لي ما
طهر من السمك ، وأصمت عنّي ما نجس وحرم»
وهذا الخبر مستفيض أيضاً كاستفاضة كلام
الذئب للنبيّ 6
وتسبيح الحصى في كفّه وأمثال ذلك.
ومن
ذلك : ما جاء في الآثار عن ابن عبّاس قال :
لمّا خرج النبيّ
6
إلى بني المصطلق ونزل بقرب واد وعر ، فلمّا كان آخر الليل هبط عليه جبرئيل 7 يخبره عن طائفة من كفّار الجنّ قد
استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشرّ باصحابه ، فدعا أمير المؤمنين 7 وقال : «اذهب إلى هذا الوادي فسيعرض لك
من أعداء الله الجنّ من يريدك ، فادفعه بالقوّة التي أعطاك الله عزّ وجلّ إيّاها ،
وتحصّن منه بأسماء الله التي خصّك بها وبعلمها» وأنفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس
وقال لهم : «كونوا معه وامتثلوا أمره».
فتوجّه أمير المؤمنين 7 إلى الوادي ، فلما قارب شفيره أمر
المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير ولا يحدثوا شيئاً حتّى يأذن لهم ، ثمّ
تقدّم فوقف على شفير الوادي وتعوّذ باللهّ من أعدائه ، وسمّاه باحسن أسمائه ، وأومأ
إلى القوم الذين تبعوه أن يقربوا منه ، فقربوا ، وكان بينه وبينهم فرجة مسافتها
غلوة ، ثمّ رام الهبوط إلى الوادي فاعترضت ريح عاصف كاد القوم يقعون على وجوههم
لشدّتها ، ولم تثبت أقدامهم على الأرض من هو لما لحقهم ، فصاح أمير المؤمنين 7 : «أنا عليّ بن أبي طالب بن عبدالمطّلب
وصيّ رسول الله 6
وابن عمّه ، اثبتوا إنشئتم» فظهر للقوم أشخاص مثل الزط تخيّل في أيديهم شعل النار ، قد
اطمانّوا وأطافوا بجنبات الوادي.
فتوغّل أمير المؤمنين 7 بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويومئ
بسيفه يميناً وشمالاً ، فما لبثت الأشخاص حتّى صارت كالدخان الأسود ، وكبّر أمير
المؤمنين 7 ثمّ صعد من
حيث هبط ، فقام مع القوم الذين
اتّبعوه حتّى أسفر
الموضع عمّا اعتراه ، فقال له أصحاب رسول الله 6
: ما لقيت يا أبا الحسن ، فقد كدنا نهلك خوفاً وإشفاقاً عليك؟ فقال 7 : «لمّا تراءى لي العدو جهرت فيهم
باسماء الله فتضاءلوا وعلمت ما حلّ بهم من الجزع ، فتوغّلت الوادي غير خائف منهم ،
ولو بقوا على هيئاتهم لأتيت على آخرهم ، وكفى الله كيدهم وكفى المسلمين شرّهم ، وستسبقني
بقيّتهم إلى النبيّ 6
فيؤمنوا به».
وانصرف أمير المؤمنين 7 بمن معه إلى رسول الله 6 فاخبره الخبر فسرى عنه ودعا له بخير
وقال له : «قد سبقكيا علي إليّ من أخافه الله بك فاسلم وقبلت إسلامه».
ومن
ذلك : ما أبانه الله تعالى به من القوّة
الخارقة للعادة في قلعِ باب خيبر ودحوه به ، وكان من الثقل بحيث لا يحمله أقلّ من
أربعين رجلاّ ، ثمّ حمله إيّاه على ظهره فكان جسراً للناس يعبرون عليه إلى ذلك
الجانب ، فكان ذلك علماً معجزاً.
ومن
ذلك : إنقضاض الغراب على خفه وقد نزعه
ليتوضّأ وضوء الصلاة ، فانساب فيه أسود ، فحمله الغراب حتّى صار به في الجوّ ثمّ
ألقاه فوقع منه الأسود ووقاه الله عزّ وجلّ من ذلك
وفي ذلك يقول الرضي الموسوي رضي الله
عنه :
أما في باب خيبر معجزات
|
|
تصدّق أو مناجاة الحباب
|
ــــــــــــــــــ
أرادت كيده والله يأبى
|
|
فجاء النصر من قبل الغراب
|
ومن
ذلك : ما رواه عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن
أبي جعفر الباقر 8
من قوله 7 لجويرية بن
مسهر وقد عزم علىالخروج : «أما إنّه سيعرض لك في طريقك الأسد» قال : فما الحيلة له؟
قال : «تقرظ منّي السلام وتخبره أنّي أعطيتك منه الأمان».
فخرج جويرية ، فبينا هو كذلك يسير على
دابّته إذ أقبل نحوه أسد لا يريد غيره ، فقال له جويرية : يا أبا الحارث ، إنّ
أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب 7
يقرؤك السلام ، وانّه قد آمنني منك ، قال : فولّى الليث عنه مطرقاً برأسه يهمهم
حتّى غاب في الأجمة ، فهمهم خمساً ثمّ غاب ، ومضى جويرية في حاجته.
فلمّا انصرف إلى أمير المؤمنين 7 وسلّم عليه وقال : كان من الأمر كذا
وكذا فقال : «ما قلت للّيث وما قال لك؟».
فقال جويرية : قلت له ما أمرتني به
وبذلك انصرف عنّي ، وأمّا ما قال الليث فالله ورسوله 6
ووصيّ رسوله أعلم.
قال : «إنّه ولّى عنك يهمهم ، فاحصيت له
خمس همهمات ثمّ انصرف عنك».
قال جويرية : صدقت يا أمير المؤمنين
هكذا هو.
فقال 7
: «فإنّه قال لك : فاقرأ وصيّ محمّد 6
منّي السلام» وعقد بيده خمساً.
ولو ذهبنا نجتهد في إيراد أمثال هذه من
الأيات والمعجزات لطال به
الكتاب ، وفيما
أثبتناه من ذلك غنى عمّا سواه ، وبالله نستعين ، وإيّاه نستهدي إلى الهدى والحقّ
والصواب.
***
(
الباب الرابع )
في
ذكر بعض مناقبه
وفضائله وخصائصه 7
التي أبانه الله سبحانه بها
عن غيره
سوى ما تقدّم ذكره في جملة
من النصوص على إمامته
والإرهاص لإيجاب طاعته
وذكر مختصر من أخباره وحسن اثاره
إعلم : أنّ فضائل أمير المؤمنين 7 ومناقبه وخصائصه كثيرة لايتّسع لها
كتاب ولا يحويها خطاب ، وليست الشيعة مختصّة بروايتها وإن اختصّت بكثير منها ، فقد
روت العامّة والمخالفون من ذلك ما لا يحصى عدده ، ولا ينقطع مدده ، ولقد قال
الأجلّ المرتضى علم الهدى قدّس الله روحه : سمعت شيخاً مقدّماً في الرواية من
أصحاب الحديث يقال له : أبو حفص عمر بن شاهين يقول
: إنّي جمعت من فضائل عليّ 7
خاصّة ألف جزء.
وأمّا ما رواه أصحابنا من ذلك فلا تجتمع
أطرافه ، ولا تعدّ آلافه ، وأنا اُورد من جملتها اُناسي العيون ونفوس الفصوص
ومتخيِّر المتحيّر سالكاً طريقة منصور الفقيه في قوله :
_________
قالوا : خُذِ العَنَ مِن كلّ ، فقلتُ
لهم
|
|
فِي العَينِ فَضلٌ ، وَلكِن ناظرُ
العَينِ
|
حَرفَينِ مِن ألفِ طُومارٍ مُسوّدة
|
|
وَربّما لَم تجدْ فِي الألفِ حَرفينِ
|
وأثبتها محذوفة الأسانيد تعويلاً في ذلك
على إشتهارها بين نقلة الآثار ، واعتماداً على أنّ نقلها من كتب محكومة بالصحّة
عند نقّاد الأخبار ، وجعلتها أربعة فصول :
( الفصل الأول )
في ذكر نبذ من خصائصه
التي لم يشركه فيها غيره
وهي فنون كثيرة ، وفوائدها جمّة غزيرة ،
وبينونته 7 بها عن جميع
البشر واضحة منيرة.
فمنها
: سبقه كافّة الخلق إلى الايمان.
فقد صحّ عنه 7 أنّه قال : «أنا عبدالله وأخو رسول
الله 6 ، وأنا
الصدّيق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلاّ كذّاب مفتر ، ولقد صلّيت قبل الناس سبع سنين
»
وعن أبي ذرّ : أنّه سمع النبيّ 6 يقول في عليّ : «أنت أوّل من امن بي ، وأنت
أوّل من يصافحني يوم القيامة ، وأنت الصدّيق الأكبر ، وأنت الفاروق تفرّق بين
الحقّ والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين».
_________
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله 6 : «صلّت الملائكة عليّ وعلى علي سبع
سنين ، وذلك أنّه لم يرفع إلى السماء شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول
الله إلاّ منّي ومن علي» .
وعن أبي أيّوب الأنصاري قال : قال رسول
الله 6 : «لقد صلّت
الملائكة عليّ وعلى علي سبع سنين ، وذلك أنّه لم يصلّ معي رجل غيره».
وعن أبي رافع قال : صلّى النبيّ 6 غداة الاثنين ، وصلّت خديجة يوم
الاثنين اخر النهار ، وصلى علي يوم الثلاثاء صلاة الغداة.
وقال عليّ 7
: «فكنت اُصلّي سبع سنين قبل الناس.
وفي ذلك يقول خزيمة بن ثابت ذو
الشهادتين :
إذا نحن بايعنا عليّاً فحسبنا
|
|
أبوحسن ممّا نخاف من الفتن
|
وجدناه أولى الناس بالناس أنّه
|
|
أطبّ قريش بالكتاب وبالسنن
|
ففيه الذي فيهم من الخير كلّه
|
|
وما فيه مثل الذي فيهم من حسن
|
وصيّ رسول الله من دون أهله
|
|
وفارسه قد كان في سالف الزمن
|
وأول من صلّى من الناس كلّهم
|
|
سوى خيرة النسوان والله ذو منن
|
وفيه يقول ربيعة بن الحارث بن
عبدالمطّلب :
ما كنتُ أحسبُ أن الأمر (منصرف )
|
|
من هاشم ثمّ منها عن أبي حسن
|
أليس أوّل من صلّى بقبلتهم
|
|
وأعرف الناس بالأثار والسنن
|
وآخر الناس عهداً بالنبيّ ومن
|
|
جبرئيلُ عونٌ له في الغسلِ والكَفنِ
|
ومنها
: أنّ النبيّ 6
حمله حتى طرح الأصنام من الكعبة.
فروى عبد الله بن داود ، عن نعيم بن أبي
هند ، عن أبي مريم ، عن عليّ 7
قال : «قال لي رسول الله : احملني لنطرح الأصنام من الكعبة ، فلم أطق حمله ، فحملني
، فلو شئت ان أتناول السماء فعلت» .
_________
وفي حديث آخر طويل قال عليّ : «فحملني
النبيّ 7 فعالجت ذلك
حتّى قذفت به ونزلت - أو قال : نزوت - » الشكّ من الراوي
ومنها
: حديث المؤاخاة.
فقد اشتهرفي الرواية : انه 6 آخى بين أبي بكر وعمر ، وبين طلحة
والزبير ، وبين عثمان وعبدالرحمن بن عوف ، وبين ابن مسعود وأبي ذرّ ، وبين سلمان
وحذيفة ، وبين المقداد وعمّار بن ياسر ، وبين حمزة بن عبدالمطّلب وزيد بن حارثة ، وضرب
بيده على علي فقال : «أنا أخوك وأنت أخي»
فكان عليّ إذا أعجبه الشيء قال : «أنا
عبدالله وأخو رسوله ، لا يقولها بعدي إلاّ كذّاب».
وعن أبي هريرة - في حديث طويل - : أنّ
رسول الله 6 آخى بين
أصحابه وبين الأنصار والمهاجرين ، فبدأ بعلي بن أبي طالب 7 فاخذ بيده وقال : «هذا أخي ـ وفي خبر آخر : أنت أخي ـ في الدنيا والأخرة» فكان رسول الله
وعلي أخوين.
_________
ومنها
: أنّ النبيّ 6
تفل في عينيه يوم خيبر ودعا له بأن لا يصيبه حرّ ولا قرّ ، فكان 7 بعد ذلك لا يجد حرّاً ولا قرّاً ، ولا
ترمد عينه ، ولا يصدع ، فكفى بهذه الخصلة شرفاً وفضلاً.
فروي عن عبدالرحمن بن أبي ليلى : أنّ
الناس قالوا له : قد أنكرنا من أمير المؤمنين 7
أنّه يخرج في البرد في الثوبين الخفيفين وفي الصيف في الثوب الثقيل والمحشوّ ، فهل
سمعت أباك يذكر أنّه سمع من أمير المؤمنين 7
في ذلك شيئاً؟ قال : لا ، قال : وكان أبي يسمر مع علي بالليل ، فسألته قال : فسأله
عن ذلك فقال : يا أميرالمؤمنين إنّ الناس قد أنكروا ، وأخبره بالذي قالوا.
فقال : «أوما كنت معنا بخيبر؟» قال : بلى.
قال : «فإنّ رسول الله 6 بعث أبا بكر وعقد له لواء ، فرجع وقد
انهزم هو وأصحابه. ثمّ عقد لعمر فرجع منهزماً بالناس.
فقال رسول الله 6 : والذي نفسي بيده لاُعطينّ الراية
غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، ليس بفرّار ، يفتح الله على
يده ، فارسل إليّ وأنا أرمد فتفل في عيني ، وقال : اللهمّ اكفه أذى الحرّ والبرد ،
فما وجدتُ حرّاً بعد ُولا برداً»
_________
وفي رواية اُخرى : «فنفث في عيني فما
اشتكيتها بعد ، وهزّ لي الراية فدفعها إليّ ، فانطلقت ، ففتح لي ، ودعا لي أن لا
يضرّني حرّ ولا قر»
وفي ذلك يقول حسّان بن ثابت :
وَكانَ عليّ أرمدَ العينِ يَبتغي
|
|
دواءً فَلَمّالم يحسن مُداويا
|
شفاهُ رسولُ اللهِ منهُ بتفلةٍ
|
|
فبوركَ مَرقيّاً ويُورك راقيا
|
وقال ساُعطي الراية اليومَ صارماً
|
|
كميّا مُحبّاً للرّسولِ مُواليا
|
يُحبّ إلهي والإلهُ يُحبّهُ
|
|
بهِ يفتحُ الله الحصونَ الأوابيا
|
فَاصفى بها دونَ البريّةِ كلّها
|
|
عليّاً وسمّاه الوزيرَ المؤاخيا
|
وروى حبيب بن أبي ثابت ، عن الجعد مولى
سويد بن غفلة ، عن سويد بن غفلة قال : لقينا عليّاً في ثوبين في شدّة الشتاء ، فقلنا
له : لا تغترب ارضنا هذه ، فإنّها أرض مقرّة ليست مثل أرضك.
قال : «أما إنّي قد كنت مقروراً ، فلمّا
بعثني رسول الله 6
إلى خيبر قلت له : إنّي أرمد ، فتفل في عيني ودعا لي ، فما وجدت برداً ولا حرّاً
بعد ، ولا رمدت عيناي »
ومنها
: ما قاله فيه يوم خيبر ، ممّا لم يقله في أحد غيره ، ولا يوازيه إنسان ، ولا
يقارنه فيه ، فقد ذكر أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الثقفيّ في كتاب المعرفة : حدّثني
الحسن بن الحسين العرفي -وكان صالحاً- قال : حدّثنا
كادح بن جعفر البجلي
ـ وكان من الأبدال ـ
عن ابن لهيعة ، عن عبدالرحمن بن زياد ، عن مسلم بن يسار ، عن جابر بن عبد الله
الأنصار يقال : لمّا قدم عليّ 7
على رسول الله 6
بفتح خيبر قال له رسول الله 6
: «لولا أن يقول فيك طوائف من اُمّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك
اليوم قولاً لا تمرّ بملأ إلاّ أخذوا من تراب رجليك ومن فضل طهورك فيستشفون به ، ولكن
حسبك أن تكون منّي وأنا منك ، ترثني وأرثك ، وأنك منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ
أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنّك تؤدّي ذمتي ، وتقاتل على سنّتي ، وأنّك في الآخرة غداً
أقرب الناس منّي ، وأنّك غداً على الحوض خليفتي ، وأنّك أوّل من يرد عليّ الحوض
غداً ، وأنك أول من يكسى معي ، وأنّك أوّل من يدخل الجنّة من اُمّتي ، وأنّ شيعتك
على منابر من نور ، مبيضّة وجوههم حولي ، أشفع لهم ، ويكونون في الجنّة جيراني ، وأنّ
حربك حربي ، وأنّ سلمك سلمي ، وأنّ سرّك سرّي ، وأنّ علانيتك علانيتي ، وأنّ سريرة
صدر ككسريرة صدري ، وأنّ ولدك ولدي ، وأنّك منجز عدتي ، وأنّ الحقّ معك ، وأنّ
الحقّ على لسانك وفي قلبك وبين عينيك ، وأنّ الإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط
لحمي ودمي ، وأنّه لا يرد على الحوض مبغض لك ، ولن يغيب عنه محبّ لك غداً حتّى
يردوا الحوض معك ».
فخرّ عليّ 7
لله ساجداً ، ثمّ قال : «الحمد لله الذي منّ عليّ بالإسلام ، وعلّمني القرآن ، وحبّبني
إلى خير البريّة خاتم النبيّين وسيّد المرسلين ، إحساناً منه إليّ ، وفضلاً منه
عليّ».
_________
فقال له النبيّ 6 عند ذلك : «لولا أنت يا عليّ لم يعرف
المؤمنون بعدي»
وهذا الخبر بما تضمنه من مناقب أمير
المؤمنين 7 لو قسّم على
الخلائق كلّهم من أوّل الدهر إلى آخره لاكتفوا به شرفاً ومكرمة وفخراً.
ومنها
: أن شرّفه الله تعالى بطاعة النار له 7.
روى الأعمش ، عن خيثمة ، عن عبد الله بن
عمر قال : سمعت عليّاً 7
يقول : «أنا قسيم النار ، أقول : هذا لي وهذا لك ».
قال : وحدّثني موسى بن طريف ، عن عباية
بن ربعي قال : سمعت عليّاً 7
يقول : « والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّي لقسيم النار ، أقول : هذا لي وهذا لك
».
قال : فذكرته لمحمّد بن أبي ليلى فقال :
يعني : أنّ وليّي في الجنّة
وعدوّي في النار.
قلت : سمعته؟ قال : نعم .
وروى جابر الجعفي قال : أخبرني وصيّ
الأوصياء قال : «قال رسول الله 6
لعائشة : لا تؤذيني في عليّ ، فإنه أمير المؤمنين ، وسيّد المسلمين ، يقعده الله
غداً يوم القيامة على الصراط فيدخل أولياءه الجنّة وأعداءه النار» .
ومنها
: ما رواه عباد بن يعقوب ، ويحيى بن عبدالحميد الحماني قالا : حدّثنا عليّ بن هاشم
، عن محمّد بن عبيدالله ، عن أبيه عبيداللهّ بن أبيرافع ، عن جدّه ابي رافع قال : إنّ
رسول الله 6 كان إذا جلس
ثمّ أراد أن يقوم لا يأخذ بيده غير عليّ 7
، وإنّ أصحاب
النبيّ كانوا يعرفون
ذلك له فلا يأخذ بيد رسول الله 6
أحد غيره.
وقال الحماني في حديثه : كان إذا جلس
اتّكأ على عليّ ، وإذا قام وضع يده على عليّ 7
ومنها
: أنّه صاحب حوض رسول الله 6
يوم القيامة.
روى محمّد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد
الله قال : قال رسول الله 6
: «كأنّي أنظر إلى تدافع مناكب اُمّتي على الحوض ، فيقول الوارد للصادر : هل شربت؟
فيقول : نعم واللهّ لقد شربت ، ويقول بعضهم : لا واللهّ ما شربت فيا طول عطشاه ».
وقال 6
لعلّي 7 : «والذي
نبّأ محمّداً وأكرمه ، إنّك لذائد عن حوضي ، تذود عنه رجالاً كما يذاد البعير
الصادي عن الماء ، بيدك عصا من عوسج ، كأنّي أنظر إلى مقامك من حوضي» .
وعن طارق عن عليّ 7 قال : «ربّ العباد والبلاد ، والسبع
الشداد ، لأذودنّ يوم القيامة عن الحوض بيديّ هاتين القصيرتين» قال : وبسط يديه
_________
وفي رواية اُخرى : «والذي فلق الحبّة
وبرأ النسمة ، لاقمعنّ بيديّ هاتين عن الحوض أعداءنا ، ولا وردنّ أحبّاءنا».
ومنها
: اختصاصه 7 بالمناجاة
يوم الطائف.
فروي عن جابر بن عبدالله : أن النبي
عليه وآله السلام لما خلا بعلي يوم الطائف وناجاه طويلاً قال أحد الرجلين لصاحبه :
لقد طالت مناجاته لابن عمّه ، فبلغ ذلك النبيّ فقال : «ما أنا ناجيته ، بل الله
انتجاه »
ومنها
: تفرّده 7 بآية النجوى
والعمل بها.
فروي عن مجاهد قال : قال عليّ 7 : «آية من القران لم يعمل بها أحد قبلي
ولا يعمل بها أحد بعدي ، آية النجوى ، كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكلّما
أردت أن اُناجي النبيّ 6
تصدّقت بدرهم ثمّ نسخت بقوله : (فَاِن لَم تَجدوا
فَاِنّ اللهَ غَفُور رَحيم )
_________
وفي رواية اُخرى : «بي خفّف الله عن هذه
الاُمّة ، فلم تنزل في أحد قبلي ولا تنزل في أحد بعدي»
وروى السندي ، عن ابن عبّاس قال : كان
الناس يناجون رسول الله 6
في الخلاء إذا كانت لأحدهم حاجة ، فشقّ ذلك على النبيّ 6 ففرض الله على من ناجاه سرّاً أن
يتصدّق بصدقة ، فكفّوا عنه وشقّ ذلك عليهم .
ومنها
: أنّ حبّه إيمان وبغضه نفاق ..
فقد اشتهر عنه 7 أنّه قال : «لو ضربت خيشوم المؤمن
بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ، ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق أن
يحبّني ما أحبّني ، وذلك أنّه قضي فانقض على لسان النبيّ الاُمّي 6 : أنّه لا يبغضك مؤمن ولا يحبّك منافق
»
ومنها
: ما قاله فيه يوم الحديبية لمّا كتب 7
كتاب الصلح بين رسول الله 6
وأهل مكّة فكتب : «بسم الله الرحمن الرحيم».
فقال سهيل بن عمرو : هذا كتاب بيننا
وبينك يا محمّد ، فافتتحه بما
نعرفه واكتب باسمك
اللهم.
فقال : «اُكتب باسمك اللهم وامح ما
كتبت».
فقال 7
: «لولا طاعتك يا رسول اللهّ لما محوت».
فقال النبيّ عليه واله السلام : «اكتب :
هذا ما قاضى عليه محمّد رسول اللهّ سهيل بن عمرو».
فقال سهيل : لو أجبتك في الكتاب إلى هذا
لأقررت لك بالنبوّة ، فامح هذا الاسم واكتب محمّد بن عبدالله.
فقال له عليّ 7 : «إنّه واللهّ لرسول اللهّ على رغم
أنفك».
فقال النبيّ 6 : «امحها يا عليّ».
فقال له : «يا رسول الله ، إنّ يدي لا
تنطلق تمحو اسمك من النبوّة».
قال : فضع يدي عليها. فمحاها رسول الله 6 بيده وقال لعليّ : « ستدعى إلى مثلها
فتجيب وأنت على مضض
»
ومنها
: ما رواه ربعي بن خراش عن أمير المؤمنين 7
قال :
«أقبل سهيل بن عمر ورجلان - أوثلاثة -
معه إلى رسول الله 6
في الحديبية فقالوا له : إنّه ياتيك قوم من سفلنا وعبداننا فارددهم علينا ، فغضب
حتّى احمارّ وجهه ، وكان إذا غضب 7
يحمارّ وجهه ثمّ قال : لتنتهن يا معشر قريش أو ليبعثنّ الله عليكم رجلاً امتحن
الله قلبه للايمان ، يضرب رقابكم وأنتم مجفلون عن الدين. فقال أبو بكر : أنا هو يا
رسول الله؟ قال : «لا». قال عمر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : لا ، ولكنّه ذلكم
خاصف النعل في الحجرة. وأنا أخصف نعل رسول الله 9
وسلّم في الحجرة».
ثمّ قام وقال علي 7 : "اما انه قد قال 6 : من كذّب عليّ متعمّداً فليتبوّأ
مقعده من النار»
_________
(الفصل الثاني)
في ذكر مقاماته في الجهاد مع النبي
صلى الله عليه وآله وسلّم ومواقفه ومشاهده
على سبيل الجملة والاختصار
الحكم بن عتيبة ، عن مقسم ، عن ابن
عبّاس قال : كانت راية رسول الله 6
مع عليّ 7 في المواقف
كلّها : يوم بدر ، ويوم اُحد ، ويوم حنين ، ويوم الأحزاب ، ويوم فتح مكّة وكانت
راية الأنصار مع سعد بن عبادة في المواطن كلّها ويوم فتح مكّة ، وراية المهاجرين
مع عليّ 7.
ومن
مقاماته الجليلة : مواساته رسول الله 6
ليلة الفراش وبذله مهجته دونه ، قال ابن عبّاس : لمّا انطلق النبيّ إلى الغار أنام
عليّاً 7 في مكانه
وألبسه برده ، فجاءت قريش تريد أن تقتل رسول الله 6
، فجعلوا يرمون عليّاً وهم يرون أنّه النبيّ 6
، فجعل يتضوّر
فلمّا نظروا إذا هو عليّ 7.
وروى علي بن هاشم ، عن محمّد بن عبدالله
بن أبي رافع ، عن أبيه ، عن جدّه أبي رافع قال : كان عليّ يجهّز النبيّ 6 حين كان في الغار ياتيه بالطعام
والشراب ، واستاجر له ثلاث رواحل ، للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأبي بكر
ولدليلهم ، وقيل : وخلّفه النبيّ صلّى الله عليه
وآله وسلّم يخرج
إليه أهله فاخرجهم ، وأمره أن يؤدّي عنه أمانته ووصاياه وماكان يؤتمن عليه من مال ،
فادّى عليّ 7 أماناته
كلّها.
وقال له النبيّ عليه واله السلام : «إنّ
قريشاً لن يفتقدوني ما رأوك» فاضْطَجع على فراش رسول الله 6 ، فكانت قريش ترى رجلاً على فراش
النبيّ فيقولون : هو محمّد ، فحبسهم الله عن طلبه ، وخرج عليّ إلى المدينة ماشياً
على رجليه فتورمت قدماه ، فلمّا قدم المدينة رآه النبيّ فاعتنقه وبكى رحمة له ممّا
رأى بقدميه من الورم ، وأنّهما يقطران دماً ، فدعا له بالعافية ومسح رجليه ، فلم
يشكهما بعد ذلك .
ومن
مقاماته في غزوة بدر : أنّ النبيّ 6 بعثه ليلة بدر أن يأتيه
بالماء حين قال لأصحابه : «من يلتمس لنا الماء» فسكتوا عنه فقال عليّ 7 : «أنا يا رسول الله ».
فاخذ القربة وأتى القليب فملأها ، فلما
أخرجها جاءت ريح فاهرقته ثمّ عاد إلى القليب فملأها فجاءت ريح فاهرقته ، فلمّا
كانت الرابعة ملأها فاتى بها إلى النبيّ 6
فاخبره بخبره ، فقال رسول الله 6
: «أمّا الريح الأولى فجبرئيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك ، وأمّا الريح
الثانية فميكائيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك ، وأمّا الريح الثالثة فإسرافيل
في ألف من الملائكة سلّموا عليك ».
رواه محمّد بن عبيدالله بن أبي رافع عن
أبيه عن جدّه أبي رافع .
ومنها
: أنّه 7 بارز الوليد
بن عتبة فقتله ، وبارز عتبة حمزة بن
عبدالمطّلب فقتله
حمزة ، وبارز شيبة عبيدة بن الحارث فاختلفت بينهما ضربتان قطعت إحداهما فخذ عبيدة
فاستنقذه عليّ 7
بضربة بدربها شيبة فقتله ، وشركه في ذلك حمزة ، وكان قتل هؤلاء أوّل وهن لحق
المشركين وذل دخل عليهم ، ونصرة وعزّ للمؤمنين.
وقتل أيضاً بعده العاص بن سعيد بن العاص.
وقتل حنظلة بن أبي سفيان ، وطعيمة بن
عدي ، ونوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش ، ولمّا عرف النبيّ 7 حضوره يوم بدر قال :
«اللهم اكفني نوفل بن خويلد».
ولم
يزل 7 يقتل منهم واحداً بعد واحد حتّى أتى على
شطر المقتولين منهم ، وكانوا سبعين قتيلاً ، وختم الأمر بمناولته النبي 6 كفّاً من الحصى ، فرمى بها في وجوههم وقال لهم : «شاهت
الوجوه» فولّوا على أدبارهم منهزمين وكفى الله المؤمنين شرّهم . ومن مقاماته 7 في غزوة اُحد : أنّ الفتح
كان له في هذه الغزاة كما كان بيده يوم بدر ، واختصّ بحسن البلاء فيها والصبر.
قال أبو البختري القرشيّ : كانت راية
قريش ولواؤها جميعاً بيد قصيّ ابن كلاب ، ثمّ لم تزل الراية في يد ولد عبدالمطّلب
يحملها منهم من حضر الحرب حتى بعث الله رسوله 6
فصارت راية قريش وغير ذلك إلى النبيّ 6
، فاقرّها في بني هاشم ، وأعطاها علي بن أبي طالب في غزوة ودّان ، وهي أوّل غزوة
حمل فيها راية في الإسلام مع النبيّ ، ثمّ لم تزل معه في المشاهد : ببدر وهي
البطشة الكبرى ، وفي يوم اُحد وكان اللواء يومئذ في بني عبدالدار فاعطاها رسول
الله صلّى الله عليه
وآله وسلّم مصعب بن
عمير فاستشهد ووقع اللواء من يده ، فتشوّفته القبائل ، فاخذه رسول الله 6 ودفعه إلى عليّ بن أبي طالب 7 ؛ فجمع له الراية واللواء ، فهما إلى
اليوم في بني هاشم.
وكان لواء المشركين مع طلحة بن أبي طلحة
- وكان يدعى كبش الكتيبة - فتقدّم وتقدّم عليّ 7
، وتقاربا فضربه عليّ ضربة على مقدّم رأسه فبدرت عيناه وصاح صيحة لم يسمع مثلها
وسقط اللواء من يده ، فاخذه أخ له يقال له : مصعب ، فرماه عاصم بن ثابت فقتله ، ثمّ
أخذ اللواء أخٌ له يقال له : عثمان ، فرماه عاصم أيضاً بسهم فقتله ، فاخذه عبدٌ
لهم يقال له : صواب ، وكان من أشدّ الناس فضربه عليّ 7
فقطع يمينه ، فاخذ اللواء بيده اليسرى فضرب عليّ يده فقطعها ، فأخذ اللواء على
صدره وجمع يديه المقطوعتين عليه فضربه عليّ 7
على اُمّ رأسه فسقط صريعاً وانهزم القوم.
وأكبّ المسلمون على الغنائم ، وقد كان
رسول الله 6 أقام على
الشعب خمسين رجلاً من الأنصار وأمّر عليهم رجلاً منهم ، وقال لهم : «لا تبرحوا مكانكم
وإن قتلنا عن آخرنا» فلمّا رأى أصحاب الشعب الناس يغتنمون قالوا لأميرهم : نريد أن
نغتنم كما غنم الناس ، فقال : إنّ رسول الله قد أمرني أن لا أبرح من موضعي هذا ، فقالوا
له : إنّه أمرك بهذا وهو لا يدري أنّ الأمر ، يبلغ إلى ما نرى ، ومالوا إلى
الغنائم وتركوه.
فحمل عليه خالد بن الوليد فقتله ، وجاء
من ظهر رسول الله 6
يريده ، وقُتل من ، أصحاب رسول الله 6
سبعون رجلاً وانهزموا هزيمة عظيمة ، وأقبلوا يصعدون الجبال وفي كلّ وجه ، ولم يبق
معه إلاّ أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، وأمير المؤمنين 7 ، فكلّما حملت طائفة على رسول الله 6
استقبلهم أمير
المؤمنين 7 فدفعهم عنه
حتّى انقطع سيفه ، فلمّا رأى رسول الله 6
الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال : «إليّ أنا رسول الله ، إلى أين تفرّون عن الله
وعن رسوله»؟!!
وثاب إليه من أصحابه المنهزمين أربعة
عشر رجلاً ، منهم : طلحة بن عبيدالله وعاصم بن ثابت ، وصد الباقون الجبل ، وصاح
صائح بالمدينة : قُتل رسول الله ، فانخلعت القلوب لذلك ، وتحيّر المنهزمون فاخذوا
يميناً وشمالاً.
وروى عكرمة قال : سمعت عليّاً 7 يقول : «لمّا انهزم الناس يوم أحد عن
رسول الله 6 لحقني من
الجزع عليه مالم أملك نفسي ، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه ، فرجعت أطلبه فلم
أره فقلت : ما كان رسول الله ليفرّ وما رأيته في القتلى فاظنّه رُفع من بيننا ، فكسّرت
جفن سيفي وقلت في نفسي : لاُقاتلنّ به عنه حتّى أقتل ، وحملت على القوم فأفرجوا
فإذا أنا برسول الله 6
وقد وقع على الأرض مغشيّاً عليه ، فقمت على رأسه فنظر إليّ فقال : ما صنع الناسيا
عليّ؟ فقلت : كفروا يا رسول الله وولّوا الدبر واسلموك ، فنظر إلى كتيبة قد أقبلت
فقال 6 : ردّ عني
يا عليّ هذه الكتيبة ، فحملتعليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتّى ولّوا الأدبار
فقال لي النبي 6
: أما تسمع مديحك في السماء ، أنّ ملكاً يقال له : رضوان ينادي : «لا سيف إلاّ ذو
الفقار ولا فتى إلاّ عليّ» فبكيت سروراً وحمدت الله على نعمه ».
وتراجع المنهزمون من المسلمين إلى
النبيّ 6 وانصرف
المشركون إلى مكّة ، وانصرف النبي 6
إلى المدينة فاستقبلته فاطمة 3
ومعها إِناء فيه ماء فغسلت به وجهه
ولحقه أمير المؤمنين
7 ومعه ذو
الفقار وقد خضب الدم يده إلى كتفه فقال لفاطمة 3
: «خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم ، وقال :
أفاطم هاك السيف غير ذميم
|
|
فلست برعديد ولا بمليم
|
لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد
|
|
وطاعة ربٍّ بالعباد عليم »
|
فقال رسول الله 6 : « خذيه يا فاطمة ، فقد أدّى بعلك ما
عليه ، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش».
ومن
مقاماته المشهورة في غزوة الأحزاب : قتله عمرو
بن عبد ود ، فروى ربيعة السعدي قال : أتيت حذيفة بن اليمان فقلت : يا أبا عبدالله ،
إنّا لنتحدّث عن عليّ 7
ومناقبه فيقول لنا أهل البصرة : إنّكم تفرطون في عليّ 7 ، فهل أنت محدّثي بحديث فيه؟
فقال حذيفة : يا ربيعة ، والذي نفسي
بيده ، لو وضع جميع أعمال أصحاب محمد في كفّة الميزان منذ بعث الله محمداً 6 إلى يوم الناس هذا ، ووضع عمل عليّ في
الكفّة الاُخرى لرجّح عمل عليّ 7
على جميع أعمالهم.
فقال ربيعة : هذا الذي لا يُقام له ولا
يُقعد!
فقال حذيفة : يا لكع وكيف لا يحمل ، وأين كان أبو بكر وعمر
وحذيفة وجميع أصحاب محمد 6
يوم عمرو بن عبد ود وقد دعا إلى المبارزة فاحجم الناس كلّهم ما خلا علياً فإنّه
برز إليه فقتله الله على يده ، والذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجراً
من عمل
جميع أصحاب محمد إلى
يوم القيامة .
وروى الواقدي قال : حدّثنا عبد اللهّ بن
جعفر ، عن (ابن أبي عون )
عن الزهري قال : جاء عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن
عبدالله بن المغيرة وضرار بن الخطّاب الفهري في يوم الأحزاب إلى الخندق فجعلوا
يطيفون به يطلبون مضيقاً منه ليعبروا ، فانتهوا إلى مكان أكرهوا خيولهم فيه فعبرت ،
وجعلوا يجولون بخيلهم فيما بين الخندق وسلع ، والمسلمون وقوف لا يقدم أحدٌ منهم
عليهم ، وجعل عمرو بن عبد ود يدعوإلى البراز ويقول :
ولقد بَحِحت من النداء بجمـ
|
|
ـعهم : هل مِن مبارز؟
|
ـ الأبيات ـ.
في كلّ ذلك يقوم عليّ بن أبي طالب 7 من بينهم ليبارزه فيامره رسول الله 6 بالجلوس انتظاراً منه ليتحرّك غيره ، والمسلمون
كأن على رؤوسهم الطير لمكان عمرو بن عبد ود وممّن معه ووراءه ، وكان عمرو فارس
قريش وكان يعدّ بالف فارس ، فلما طال نداء عمرو بالبراز وتتابع قيام عليّ 7 قال له رسول الله 6 : «ادن منّي» فدنا منه ، فنزع عمامته
عن رأسه وعمّمه بها وأعطاه
سيفه ذا الفقار وقال
له : «امض لشأنك» ثمّ قال : «اللهم أعنه».
فسعى نحو عمرو ومعه جابر بن عبدالله
لينظر ما يكون منه ومن عمرو ، ولمّا توجّه إليه قال النبيّ : «خرج الإيمان سائره
إلى الكفر سائره» فلمّا انتهى إليه قال : «يا عمرو ، إنّك كنت في الجاهليّة تقول :
لا يدعوني أحدٌ إلى ثلاث إلاّ قبلتها أو واحدة منها»
قال : أجل.
قال : «فإنّي أدعوك إلى شهادة أن لا إله
إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وأن تسلم لربّ العالمين ».
قال : يا ابن أخ أخّر هذه عنّي.
فقال له عليّ : «أما إنّها خيرٌ لك لو
أخذتها » ثمّ قال : « فهاهنا اُخرى».
قال : ما هي؟
قال : «ترجع من حيث جئت ».
قال : لاتُحَدّث نساء قريش بهذا أبداً.
قال : «فهاهنا اُخرى».
قال : ما هي؟
قال : «تنزل فتقاتلني ».
قال : فضحك عمرو وقال : إنّ هذه الخصلة
ما كنت أظنّ أنّ أحداً من العرب يرومني مثلها ، إنّي لأكره أن أقتل الرجل الكريم
مثلك وقد كان أبوك لي نديماً.
قال عليّ 7
: «لكنّي اُحبّ أن أقتلك ، فانزل إن شئت».
فأسف
عمرو ونزل فضرب وجه فرسه حتّى رجع.
_________
قال جابر بن عبد الله : وثارت بينهما
قترة فما رأيتهما
، وسمعت التكبير تحتها ، فعلمت أنّ عليّاً قد قتله ، وانكشف أصحابه حتّى طفرت
خيولهم الخندق.
وتبادر المسلمون حين سمعوا التكبير
ينظرون ما صنع القوم ، فوجدوا نوفل بن عبدالعزّى في جوف الخندق فجعلوا يرمونه
بالحجارة فقال لهم : قتلة أجمل من هذه ، ينزل إليّ بعضكم اُقاتله ، فنزل إليه عليّ
7 فضربه حتّى
قتله.
قال جابر : فما شبّهت قتل عليّ عمراً
إلاّ بما قصّ الله تعالى من قصّة داود وجالوت حيث قال : (فَهَرمُوهُمْ
بِاِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ )
.
وقال رسول الله 6 بعد قتله : «الان نغزوهم ولايغزوننا».
ومن مواقفه في بني قريظة : أنّه ضرب
أعناق رؤساء اليهود أعداء رسول الله 6
في الخندق ، منهم : حيي بن أخطب وكعب بن أسد بأمر رسول الله 6
ومن
مقاماته المشهورة في غزوة وادي الرمل
- ويقال : إنّها تسمّى غزوة السلسلة - : انه خرج ومعه لواء النبيّ 6 بعد أن خرج غيره إليهم ورجع عنهم
خائباً ، ثمّ خرج صاحبه وعاد بما عاد به الأول ، فمضى عليّ 7 حتّى وافى القوم بسحر ، وصلّى بأصحابه
صلاة الغداة وصفّهم صفوفاً واتّكأ على سيفه مقبلاً على العدوّ وقال : «يا هؤلاء ، أنا
رسول
رسول الله 6 أن تقولوا : لا إله إلاّ الله محمد
رسول الله وإلاّ ضربتكم بالسيف ».
فقالوا له : إرجع كما رجع صاحباك.
قال : «أنا أرجع ! لا والله حتّى تسلموا
أو لأضربنّكم بسيفي هذا ، أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب».
فاضطرب القوم وواقعهم فانهزموا وظفر
المسلمون وحازوا الغنائمِ .
فروت اُمّ سلمة قالت : كان نبيّ الله 6 قائلاً في بيتي إذ انتبه فزعاً من
منامه فقلت : الله جارك.
قال : «صدقت ، الله جاري ، ولكن هذا
جبرئيل يخبرني أنّ عليّاً قادم ».
ثمّ خرج إلى الناس فامرهم أن يستقبلوا
عليّاً ، وقام المسلمون صفّين مع رسول الله 6
، فلمّا بصر به عليّ ترجّل عن فرسه وأهوى إلى قدميه يقبّلهما.
فقال له النبيّ 6 : «اركب ، فإنّ الله ورسوله عنك
راضيان».
فبكى عليّ 7
فرحاً وانصرف إلى منزله .
وقد ذكر بعض أصحاب السير إنّ في هذه
الغزاة نزل على النبيّ(والْعادياتِ ضَبْحا)
إلى آخرها.
_________
وأما مقامه بخيبر وبلاؤه يوم الحديبية
فممّا مرّ ذكره فيما قبل .
ومن مقاماته قبل الفتح : أنّ رسول
الله 6 دبّر الأمر
في ذلك بالكتمان وسأل الله عزّوجلّ أن يطوي خبره عن أهل مكّة حتّى يفجأهم بدخولها
، فكان المؤتمن على هذا السرّ أميرالمؤمنين 7
، ثمّ أنماه إلى جماعة من بعد ، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكّة يطلعهم
فيه على سرّ رسول اللهّ في المسير إليهم ، وأعطى الكتاب امرأة سوداء وأمرها أن
تاخذ على غير الطريق.
فنزل بذلك الوحي ، فدعا النبيّ 6 أمير المؤمنين 7 وقال : «إنّ بعض أصحابي قد كتب إلى أهل
مكّة يخبرهم بخبرنا ، والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت على غير الطريق ، فخذ سيفك
والحقها وانتزع الكتاب منها» وبعث معه الزبير بن العوّام.
فمضيا على غير الطريق ، فادركا المرأة ،
فسبق إليها الزبير وسألها عن الكتاب فانكرته وحلفت أنّه لا شيء معها وبكت ، فقال
الزبير : يا أبا الحسن ما أرى معها كتاباً ، فقال أمير المؤمنين 7 : «يخبرني رسول الله 6 أنّ معها كتاباً ويأمرني بأخذه منها
وتقول أنه لا كتاب معها»!
ثمّ اخترط السيف وقال : «أما والله لئن
لم تخرجي الكتاب لأكشفنّك ثمّ لأضربن عنقك ».
فقالت له : إذا كان لا بدّ من ذلك فاعرض
يا ابن أبي طالب عنّي بوجهك.
فاعرض عنها ، فكشفت قناعها فاخرجت الكتاب
من عقيصتها ، فاخذه
أميرالمؤمنين 7 وصار به إلى رسول الله صلّى الله وآله
وسلّم .
ومن مقاماته : أنّ رسول الله 6 أعطى الراية سعد ابن عبادة يوم الفتح
وأمره أن يدخل بها مكّة ، فاخذها سعد وجعل يقول :
اليوم يوم الملحمه
|
|
اليوم تسبىالحرمه
|
فقال 6
: «أدرك يا عليّ سعداً وخذ الراية وكن أنت الذي تدخل بها».
فاستدرك
النبيّ 6 به ما كاد يفوت من صواب التدبير بإقدام
سعد على أهل مكّة
، وعلم أنّ الأنصار لا ترضى أن يأخذ أحد من الناس الراية من سيّدها سعد ويعزله عن
ذلك المقام إلاّ من كان في مثل حال النبيّ من رفعة الشأن وجلالة المكان.
ومن
مواقفه : أنّه لمّا دخل رسول الله 6 المسجد الحرام وجد فيه ثلاثمائة وستين
صنماً بعضها مشدود ببعض ، فقال لأمير المؤمنين 7
: «أعطني يا عليّ كفّاً من الحصى» فقبض له أمير المؤمنين 7 كفاً من الحص ، فرماها بها وهو يقول : (جاء الحقّ
وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقأ). فما بقي منها صنم إلاّ خرّ لوجهه ، ثمّ
أمر بها فاُخرجت من
المسجد وكُسّرت .
ومن
حسن بلائه في الإسلام فيما اتّصل بفتح مكّة
: أنّ الله خصّه بتلافي فارط من خالف نبيّه في أوامره ، وذلك أنّه أنفذ خالد بن
الوليد إلى بني جذيمة داعياً لهم إلى الإسلام ، فخالف أمره وقتل القوم وهم على
الإسلام لترة
كانت بينه وبينهم ، فأصلح النبيّ 6
ما أفسده خالد بأمير المؤمنين 7
، فأنفذه ليعطف القوم ويسل سخائمهم
، وأمره أن يَدّي القتلى ، ويُرضي بذلك الأولياء ، فبلغ أمير المؤمنين 7 في ذلك مبلغ الرضا ، وأدّى ديات القتلى
وأرضاهم عن اللهّ وعن رسوله ، فتمّ بذلك موادّ الصلاح ، وانقطعت أسباب الفساد.
ومن مقاماته في غزوة حنين : أنّ
المسلمين انهزموا بأجمعهم ، فلم يبق مع النبيّ 6
إلاّ عشرة أنفس : تسعة من بني هاشم خاصّة وعاشرهم أيمن ابن اُمّ أيمن ، فقُتل أيمن
وثبتَ التسعة الهاشميّون حتّى ثاب إلى رسول الله من كان انهزم وكانت الكرّهّ لهم
على المشركين ، وذلك قوله تعالى : (ثُمّ أَنزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ على رسوله وعلى المُؤمِنِينَ) يعني عليّاً 7 ومن ثبت معه من بني هاشم ، وهم ثمانية
: العبّاس ابن عبدالمطّلب عن يمين رسول الله ، والفضل بن العباس عن يساره ، وأبو
سفيان بن الحارث
ممسك بسرجه عند ثفر
بغلته ، وأميرالمؤمنين 7
بين يديه بالسيف ، ونوفل بن الحارث ، وربيعة بن الحارث ، وعبدالله ابن الزبير بن
عبد المطّلب ، وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب حوله.
ولما رأى رسول الله 6 هزيمة القوم عنه قال للعبّاس وكان
جهورياً صيّتاً : «ناد في القوم وذكّرهم العهد» فنادى العبّاس بأعلى صوته : يا أهل
بيعة الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة إلى أين تفرّون؟! اذكروا العهد الذي عاهدكم
عليه رسول الله 6.
فلم يسمعها أحدٌ إلاّ رمى بنفسه الأرض ،
وانحدروا حتّى لحقوا بالعدوّ ، وأقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر ، بيده راية
سوداء وهويرتجز :
أنا أبو جَرولَ لابَراح
|
|
حتّى نُبيحَ القومَ أونُباح
|
فصمد له أميرالمؤمنين فضرب عجز بعيره
فصرعه ، ثمّ ضربه فقطّره
وكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول ولمّا قتله وضع المسلمون سيوفهم فيهم وأمير
المؤمنين 7 يقدمهم حتّى
قتل أربعين رجلاً من القوم ، ثمّ كانت الهزيمة والأسر حينئذ.
ولمّا قسّم رسول الله 6 غنائم حنين أقبل رجلٌ طوال أدم ، بين
عينيه أثر السجود فسلّم ولم يخصّ النبي 6
ثمّ قال : قد رأيتك وما صنعت في هذه الغنائم.
فقال : «وكيف رأيت؟» قال : لم أرك عدلت !!
فغضب رسول اللهّ 6 وقال : «ويلك إذا لم يكن العدل عندي
فعند من يكون؟»
فقال المسلمون : ألا نقتله؟
قال : «دعوه ، فإنّه سيكون له أتباع
يمرقون من الدين كما يمرق السهممن الرمية ، يقتلهم الله على يد أحبّ الخلق إليه من
بعدي» فقتلهم أمير المؤمنين صلوات اللهّ وسلامه عليه في من قتل من الخوارج
ومن مقاماته يوم الطائف : أنّ النبي
6 أنفذه وأمره
أن يطأ ما وجد ، ويكسّر كلّ صنم وجده ، فخرج فلقيه خيلٌ من خثعم فيجمع كثير ، فبرز
له رجلٌ من القوم يقال له : شهاب في غبش الصبح فقال : هل من مبارز ، فقتله أمير
المؤمنين 7 ومضى في تلك
الخيل حتّى كسّر الأصنام وعاد إلى رسول الله 6
وهو محاصر أهل الطائف ، فلمّا رآه النبي 6
كبّر للفتح وأخذ بيده فخلابه وناجاه طويلاً.
ثمّ خرج من حصن الطائف نافع بن غيلان في
خيل من ثقيف فقتله أميرالمؤمنين 7
وانهزم المشركون ولحق القوم الرعب ، فنزل منهم جماعة إلى النبيّ 6 فاسلموا .
(الفصل الثالث )
في ذكر سبب قتل أمير المؤمنين عليه السلام
روى جماعة [من] أهل السير : أن نفراً من
الخوارج اجتمعوا بمكّة فتذاكروا الاُمراء وعابوهم وذكروا أهل النهروان فترحّموا
عليهم فقال بعضهم لبعض : لو شرينا أنفسنا لله وثأرنا لإخواننا الشهداء ، وأرحنا من
أئمّة الضلالة البلاد والعباد.
فقال عبدالرحمن بن ملجم المرادي لعنه
الله : أنا أكفيكم عليّاً.
وقال البرك بن عبدالله التميميّ : أنا
أكفيكم معاوية.
وقال عمرو بن بكر التميمي : أنا أكفيكم
عمرو بن العاص.
وتعاهدوا على ذلك وتواعدوا ليلة تسع عشر
من شهر رمضان.
فاقبل ابن ملجم ـ عدو الله ـ حتى قدم
الكوفة كاتماً أمره ، فبينا هو هناك إذ زار أحداً من أصحابه من تيم الرباب ، فصادف
عنده قطام بنت الأخضر التيميّة ـ وكان أمير المؤمنين 7
قتل أباها وأخاها بالنهروان وكانت من أجمل نساء زمانها ـ قال : فلمّا رآها ابن
ملجم شغف بها ، فخطبها فاجابته إلىذلك على أن يصدقها ثلاثة آلاف درهم ووصيفاً
وخادماً وقتل عليّ بن أبيطالب !!
فقال لها : لك جميع ما سألت ، فامّا قتل
عليّ فانّى لي ذلك؟
قالت : تلتمس غرّته ، فإن قتلته شفيت
نفسي وهنّاك العيش معي ، وإن قُتلت فما عند الله خيرٌ لك من الدنيا !!
فقال : ما أقدمني هذا المصر إلأ ما
سألتني من قتل عليّ ، فلك ماسألت.
قالت : فأنا طالبة لك من يساعدك على ذلك
، وبعثت إلى وردان بن مجالد من تيم الرباب فخبّرته الخبر وسألته معاونة ابن ملجم
فأجابها إلىذلك.
ولقي ابن ملجم رجلاً من أشجع يقال له : شبيب
بن بجرة فقال : يا شبيب هل لك في شرف الدنيا والاخرة!! قال : وما ذاك؟ قال : تساعدني
فيقتل عليّ ـ وكان يرى رأي الخوارج ـ فاجابه.
ثم اجتمعوا عند قطام ـ وهي معتكفة في
المسجد الأعظم قد ضربت عليها قبّة ـ فقالوا : قد اجتمع رأينا على قتل هذا الرجل.
ثمّ حضروا ليلة الأربعاء لتسع عشرة ليلة
خلت من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة ، وجلسوا مقابل السدّة التي كان يخرج منها
أمير المؤمنين إلى الصلاة ، وقد كانوا قبل ذلك ألقوا ما في نفوسهم إلى الأشعث
وواطأهم عليه ، وحضر هو في تلك الليلة لمعونتهم.
وكان حجر بن عديّ ; في تلك الليلة بائتاً في المسجد فسمع
الأشعث يقول لابن ملجم : النجاء النجاء لحاجتك فقد فضحك الصبح ، فاحسّ حجر بما
أراد الأشعث فقال له : قتلته يا أعور ، وخرج مبادراً ليمضي إلى أمير المؤمنين 7 ليخبره الخبر ، فدخل 7 المسجد فسبقه ابن ملجم لعنه الله فضربه
بالسيف ، وأقبل حجر والناس يقولون : قُتل أمير المؤمنين.
وقد ضربه شبيب بن بجرة فأخطاه ووقعت
ضربته في الطاق ومضى هارباً حتّى دخل منزله ودخل عليه ابن عمّ له فرآه يحلّ الحرير
من صدره ، فقال : ما هذا لعلّك قتلت أميرالمؤمنين؟ فاراد أن يقول : لا ، فقال : نعم
، فضربه ابن عمّه بالسيف وقتله.
وأمّا ابن ملجم فإن رجلاً من همدان يقال
له : أبو ذرّ لحقه وطرح عليه
قطيفة كانت في يده
ثمّ صرعه وأخذ السيف من يده وجاء به إلى أمير المؤمنين 7 ، وأفلت الثالث فانسلّ بين الناس.
فلمّا أُدخل ابن ملجم لعنه الله على
أميرالمؤمنين 7
نظر إليهثمّ قال : «النفس بالنفس ، إن أنا متّ فاقتلوه كما قتلني ، وإن سلمت
رأيتفيه رأي ».
فقال ابن ملجم : والله لقد ابتعته بالف ،
وسممته بالف ، فإن خانني فابعده الله.
فاُخرج من بين يدي أمير المؤمنين 7 والناس ينهشون لحمه باسنانهم وهم
يقولون : يا عدوّ الله ماذا فعلت ، أهلكت اُمّة محمد 6
، قتلت خير الناس ، وهو صامت لا ينطق ، فذهب به إلى الحبس.
وجاء الناس إلى أميرالمؤمنين 7 فقالوا له : مرنا بأمرك فيعدوّ الله
فقد أهلك الاُمّة وأفسد الملّة.
فقال : « إن عشت رأيت فيه رأي ، وإن
هلكت فاصنعوا به ما يصنع بقاتل النبيّ ، اقتلوه ثمّ حرّقوه بالنار».
فلمّا قضى أمير المؤمنين 7 ، وفرغ من دفنه اُتي بابن ملجم لعنه
الله فأمر به الحسن 7
فضرب عنقه ، واستوهبت اُمّ الهيثم بنت الأسود النخعيّة جيفته منه فأحرقتها بالنار.
وأمّا الرجلان اللذان كانا مع ابن ملجم
في العهد على قتل معاوية وعمرو بن العاص فإنّ أحدهما ضرب معاوية وهو راكع فوقعت
ضربته في أليته فنجا منها ، [فاُخذ] وقُتل من وقته.
وأمّا الاخر فإنّ عَمْراً وجد في تلك الليلة
علّة فاستخلف رجلاً يصلّي
بالناس يقال له : خارجة
العامريّ ، فضربه بالسيف وهو يظنّ أنّه عمرو فاُخذ واُتي به عمرو فقتله ، ومات
خارجة
( الفصل الرابع )
في موضع قبر أمير المؤمنين
عليه السلام وكيفية دفنه
جابر بن يزيد الجعفي قال : سألت أبا
جعفر الباقر 7 أين دفن
أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه؟
قال :.«دفن بناحية الغريين قبل طلوع
الفجر ، ودخل قبره الحسن والحسين 8
ومحمّد بنوه ، وعبدالله بن جعفر رضي الله عنه »
قال حبان بن عليّ العنزي قال : حدّثنا مولى
لعليّ بن أبي طالب 7
قال : لمّا حضرت أمير المؤمنين الوفاة قال للحسن والحسين8 : «إذا أنا متّ فاحملاني على سرير ثمّ
اخرجاني ، واحملا مؤخر السرير فانكما تكفيان مقدّمه ، ثمّ ائتيابي الغريّين ، فإنّكما
ستريان صخرة بيضاء تلمع نوراً فاحتفرا فيها فإنّكما ستجدان فيها ساجة ، فادفناني
فيها».
قال : فلمّا مات 7 أخرجناه وجعلنا نحمل مؤخر السرير
ونكفى مقدّمه وجعلنا
نسمع دويّاً وحفيفاً حتّى أتينا الغريّين فإذا صخرة بيضاء تلمع نوراً فاحتفرنا فإذ
ساحة مكتوب عليها : هذا ما ادخره نوح 7
لعليّ بن أبي طالب 7.
فدفناه فيها وانصرفنا ونحن مسرورون بإكرام الله لأمير المؤمنين 7.
فلحقنا قوم من الشيعة لم يشهدوا الصلاة
عليه ، فاخبرناهم بما جرى وبإكرام الله أمير المؤمنين 7 فقالوا : نحبّ أن نعاين من أمره
ماعاينتم ، فقلنا لهم : إنّ الموضع قد عُفي أثره بوصيّة منه 7 ، فمضواوعادوا إلينا فقالوا : إنّهم
احتفروا فلم يجدوا شيئاً.
(الباب الخامس)
في ذكر أولاد أمير المؤمنين
عليه السلام وعددهم وأسمائهم
وهم سبعة وعشرون ولداً ذكراً واُنثى : الحسن
، والحسين 8 ، وزينب
الكبرى ، وزينب الصغرى المكنّاة باُمّ كلثوم اُمّهم فاطمة البتول 3 سيّدة نساء العالمين بنت سيّد المرسلين
صلوات الله عليهوعليهما.
ومحمّد الأكبر المكنّى بأبي القاسم ، اُمّه
خولة بنت جعفر بن قيسالحنفيّة.
والعبّاس ، وجعفر ، وعثمان ، وعبدالله
الشهداء مع أخيهم الحسين 7
بكربلاء ـ رضي الله عنهم ـ أمّهم اُمّ البنين بنت حزام بن خالد بندارم ، وكان
العبّاس يكنّى أبا قربة لحمله الماء لأخيه الحسين 7
ويقال له : السقّاء ، وقُتل وله أربع وثلاثون سنة ، وله فضائل ، وقتل عبدالله وله
خمس وعشرون سنة ، وقتل جعفر بن عليّ وله تسع عشرة سنة.
وعمر ، ورقيّة اُمّهما اُمّ حبيب بنت
ربيعة وكانا توأمين.
ومحمّد الأصغر المكنّى بابي بكر ، وعبيدالله
الشهيدان مع أخيهما الحسين 7
بطفّ كربلاء واُمّهما ليلى بنت مسعود الدارميّة.
ويحيى ، اُمّه أسماء بنت عميس الخثعميّة
وتوفي صغيراً قبل أبيه.
واُم الحسن ورملة اُمّهما اُمّ سعيد بنت
عروة بن مسعود الثقفيّ.
ونفيسة وهي اُمّ كلثوم الصغرى ، وزينب
الصغرى ، ورقيّة الصغرى ، واُمّ هانئ ، واُمّ الكرام ، وجمانة المكنّاة باُمّ جعفر
، واُمامة ، واُمّ سلمة ، وميمونة ، وخديجة ، وفاطمة للاُمّهات أولاد شتّى.
وأعقب 7
من خمسة بنين : الحسن والحسين 8
، ومحمد والعباس وعمر رضي الله عنهم .
وفي الشيعة من يذكر أنّ فاطمة 3 أسقطت بعد النبي صلّىالله عليه وآله
وسلّم ذكراً كان سمّاه رسول الله 6
ـ وهو حمل ـ محسناً ، فعلى هذا يكون أولاده ثمانية وعشرون ولداً ، والله أعلم .
أمّا زينب الكبرى بنت فاطمة بنت رسول
الله 6فتزوجها
عبدالله بن جعفر بن أبي طالب وولد له منها : عليّ ، وجعفر ، وعون الأكبر ، واُم
كلثوم أولاد عبدالله بن جعفر ، وقد روت زينب عن اُمّها فاطمة
3
أخباراً.
وأمّا اُمّ كلثوم فهي التي تزوجها عمر
بن الخطّاب. وقال أصحابنا : إنّه 7
إنّما زوّجها منه بعد مدافعة كثيرة وامتناع شديد واعتلال عليه بشيء بعد شيء حتّى
ألجاته الضرورة إلى أن رد أمرها إلى العبّاس بن عبدالمطّلب فزوّجها إيّاه.
وأمّا رقيّة بنت عليّ 7 فكانت عند مسلم بن عقيل فولدت له
عبدالله قتل بالطف ، وعليّاً ومحمّداً ابني مسلم.
وأمّا زينب الصغرى فكانت عند محمّد بن
عقيل فولدت له عبداللهّ وفيه العقب من ولد عقيل.
وأمّا اُمّ هانئ فكانت عند عبدالله
الأكبر بن عقيل بن أبي طالب فولدت له محمّداً قتل بالطف ، وعبدالرحمن.
وأمّا ميمونة بنت عليّ 7 فكانت عند [ عبدالله ] الأكبر بن عقيل
فولدت له عقيلاً.
وأمّا نفيسة فكانت عند عبدالله الأكبر
بن عقيل فولدت له أمّ عقيل.
وأمّا زينب الصغرى فكانت عند عبدالرحمن
بن عقيل فولدت له سعداًوعقيلاً.
وأمّا فاطمة بنت عليّ 7 فكانت عند [محمّد بن] أبي سعيد؟! ابن
عقيل فولدت له حميدة.
وأمّا أمامة بنت عليّ فكانت عند الصلت
بن عبداللهّ بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطّلب فولدت له نفيسة وتوفّيت عنده
هذا آخر ما أثبتنا من أخبار أمير
المؤمنين 7.
( الركن
الثالث )
في ذكر
الأئمّة من أبناء أمير المؤمنين عليه السلام
من الحسن بن عليّ الوصيّ إلى
الحسين بن عليّ الزكيّ ،
وتاريخ مواليدهم ومواضع قبورهم
، ودلائل إمامتهم ، وأزمان خلافتهم ،
ومدد أعمارهم ، وعدد أولادهم
، وطرف من أخبارهم.
ويشتمل
على عشرة أبواب :
(الباب الأول)
في ذكر الحسن بن علي بن أبي طالب 7
الأمام
الثاني ، والسبط الأوّل ، سيّد شباب أهل الجنّة
ويتضمن
خمسة فصول :
( الفصل الأول )
في ذكر مولده ، ومبلغ عمره ،
ومدّة خلافته ، ووقت وفاته ،
وموضع قبره عليه السلام
ولد 7
بالمدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة ، وقيل سنة اثنتين من الهجرة
، وكنيته أبو محمّد.
جاءت به اُمّه فاطمة سيّدة النساء 3 إلى رسول الله 6 يوم السابع من مولده في خرقة من حرير
الجنّة نزل بها جبرئيل إلى رسول الله ، 6
فسمّاه حسناً ، وعقّ عنهكبشاً.
وقبض رسول الله 6 وله سبع سنين وأشهر ، وقيل : ثمان سنين
.
وقام بالأمر بعد أبيه 7 وله سبع وثلاثون سنة.
وأقام في خلافته ستّة أشهر وثلاثة أيّام
، ووقع الصلح بينه وبين معاوية في سنة إحدى وأربعين ، وإنّما هادنه 7
خوفاً على نفسه ؛ إذكتب إليه جماعة من رؤساء أصحابه في السرّ بالطاعة وضمنوا له
تسليمه إليه
_________
عند دنوّهم من عسكره
، ولم يكن منهم من يأمن غائلته إلاّ خاصّة من شيعته لا يقومون لأجناد الشام.
وكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح وبعث
بكتب أصحابه إليه ، فاجابه إلى ذلك بعد أن شرط عليه شروطاً كثيرة ، منها : أن يترك
سبّ أميرالمؤمنين 7
والقنوت عليه في الصلاة ، وأن يؤمن شيعته ولايتعرّض لأحد منهم بسوء ، ويوصل إلى
كلّ ذي حقّ حقّه.
فاجابه معاوية إلى ذلك كلّه ، وعاهده
على الوفاء به ، فلمّا استتمّت الهدنة قال في خطبته : إنّي منّيت الحسن وأعطيته
أشياء جعلتها تحت قدمي ، لا أفي بشيء منها له !!
وخرج الحسن 7 إلى المدينة وأقام بها عشر سنين ، ومضىإلى
رحمة الله تعالى لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة وله سبع وأربعون سنة
وأشهر مسموماً ، سمّته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس ، وكان معاوية قد دسّ إليها
من حملها على ذلك وضمن لها أن يزوّجها من يزيد إبنه وأوصل إليها مائة ألف درهم
فسقته السمّ.
وبقي 7
مريضاً أربعين يوماً ، وتولّى أخوه الحسين 7
غسله وتكفينه ودفنه عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بالبقيع .
_________
(الفصل الثاني )
في ذكر الدلالة على إمامته
وأنه المنصوص عليه بالإمامة من جهة أبيه عليه السلام
لنا في ذلك طرق
أحدها
: أن نقول : قد ثبت وجوب الإمامة في كلّ زمان من جهة العقل ، وأنّ الإمام لا بدّ
أن يكون معصوماً ، منصوصاً عليه ، وعلمنا أنّ الحقَ لايخرج عن اُمّة محمّد 6.
فإذا ثبت ذلك سبرنا أقوال الاُمّة بعد
وفاة أمير المؤمنين 7
:
فقائل يقول : لا إمام. وقوله باطل بما
ثبت من وجوب الإمامة.
وقائل يقول : بإمامة من ليس بمعصوم.
وقوله باطل بما ثبت من وجوب العصمة.
وقائل يقول : بإمامة الحسن 7 ويقول : بعصمته ، فيجب القضاء بصحّة
قوله ، وإلاّ أدّى إلى خروج الحقّ عن أقوال الأمّة.
وثانيها
: أن نستدلّ بتواتر الشيعة ونقلها خلفاً عن سلف : أنّ أمير المؤمنين عليّاً 7 نصّ على ابنه الحسن 7 بحضرة شيعته واستخلفه عليهم بصريح
القول ، ولا فرق بين من ادّعى عليهم الكذب فيما تواترت به ، وبين من ادّعى على
الاُمّة الكذب فيما تواترت به من معجزات النبيّ 6
، أو ادّعى على الشيعة الكذب فيما تواتروا به من النص على أمير المؤمنين 7.وكلّ سؤال ، يسأل على هذا فمذكور في
كتب الكلام.
وثالثها
: أنّه قد اشتهر في الناس وصية أمير المؤمنين 7
إليه
خاصّة من بين ولده
وأهل بيته ، والوصيّة من الإمام توجب الاستخلاف للموصى إليه على ما جرت به عادة
الأنبياء والأئمّة في أوصيائهم ، لا سيّما والوصيّة علم عند آل محمد صلوات الله
عليهم كافّة إذا انفرد بها واحدٌ بعينه على استخلافه ، وإشارة إلى إمامته ، وتنبيهٌ
على فرض طاعته ، وإجماعُ آل محمّد صلوات الله عليهم حجّة.
ورابعها
: أن نستدلّ بالأخبار الواردة فيما ذكرناه ، فمن ذلك :
ما رواه محمّد بن يعقوب الكلينيّ ـ وهو
من أجلّ رواة الشيعة وثقاتها ـ عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى ،
عن إبراهيم بن عمر اليماني وعمر بن اُذينة ، عن أبان ، عن سليم بن قيس الهلالي قال
: شهدت أمير المؤمنين 7
حين أوصى إلى ابنه الحسن 7
وأشهد على وصيته الحسين 7
ومحمّداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ثمّ دفع إليه الكتاب والسلاح وقال
له : «يا بنيّ ، أمرني رسول الله صلّىالله عليه وآله وسلّم أن اُوصي إليك وأدفع
إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إِليّ ودفع إليّ كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك إذا حضرك
الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين».
ثمّ أقبل على ابنه الحسين 7 فقال : «وأمرك رسول الله 6 أن تدفعها إلى إبنك هذا» ثمّ أخذ بيد
عليّ بن الحسين وقال : «وأمرك رسول الله 6
أن تدفعها إلى ابنك محمّد ابن عليّ ، واقرأه من رسول الله ومنّي السلام ».
وعنه ، عن عدّة من أصحابه ، عن أحمد بن
محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر
،
_________
عن أبي جعفر محمد بن
عليّ 8 مثل ذلك
سواء.
وعنه ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن
ابن أبي عمير ، عن عبدالصمد بن بشير ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر 7 قال : «إن أمير المؤمنين 7 لمّا حضرته الوفاة قال لابنه الحسن : اُدن
منّي حتّى أسر إليك ما أسر إليّ رسول اللهّ 6
وأئتمنك على ما ائتمنني عليه» ففعل .
وبإسناده رفعه إلى شهر بن حوشب : أنّ
عليّاً 7 لمّا سار
إلى الكوفة استودع اُمّ سلمة رضي الله عنها كتبه والوصيّة ، فلمّا رجع الحسن 7 دفعتها إليه .
وخامسها
: إنّا وجدنا الحسن بن عليّ 8
قد دعا إلى الأمر بعد أبيه وبايعه الناس على أنّه الخليفة والإمام ، فقد روى جماعة
من أهل التاريخ : أنّه 7
خطب صبيحة الليلة التي قبض فيها أميرالمؤمنين 7
فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ 6
ثمّ قال : «لقد قبض في هذه الليلة رجلٌ لم يسبقه الأوّلون ولا يدركه الاخرون ، لقد
كان يجاهد مع رسول الله 6
فيقيه بنفسه ، وكان رسول الله 6
يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن شماله ، فلا يرجع حتّى يفتح
الله تعالى على يديه ، ولقد توفّي 7
في هذه الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم ، وفيها قبض يوشع بن نون ، وما خلّف
صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت
_________
من عطائه أراد أن
يبتاع بها خادماً لأهله ».
ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه ،
ثمّ قال : «أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه ، أنا
ابن السراج المنير ، أنا ابن من أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، أنا من
أهل بيت افترض الله تعالى مودّتهم في كتابه فقال : (قُل لأ أَسئَلُكُم
عَلَيهِ أَجراً إِلاّ المَوَدّةَ فِي القُربى وَمَن يَقتَرِف حَسَنَةً نَّزِد لَهُ
فِيهَا حُسناً) فالحسنة مودّتنا أهل البيت».
ثم جلس فقام عبدالله بن العبّاس بين
يديه فقال : يا معاشر الناس ، هذا ابن نبيّكم ووصيّ إمامكم فبايعوه. فتبادر الناس
إلى البيعة له بالخلافة.
فلا بدّ أن يكون محقّاً في دعوته ، مستحقّاً
لإمامة مع شهادة النبيّ 6
له ولأخيه بالإمامة والسيادة في قوله 6
: «إبناي هذان إمامان قاما أو قعدا»
وقوله 6 : «الحسن
والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»
وشهادة القرآن
_________
بعصمتهما في قوله
تعالى : (اِنَّما يُرِيدُ اللهَ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ اَهْلَ الْبَيْتِوَ يُطَهِّركُمْ تَطْهِيراً)
على ما تقدّم القول فيه.
وسادسها
: أن نستدلّ على إمامته بما أظهر اللهّ عزّوجلّ على يديه من العلم المعجز ، ومن
جملته حديث حبابة الوالبيّة أورده الشيخ أبو جعفر بن بابويه قال : حدّثنا عليّ بن
أحمد الدقّاق قال : حدّثنا محمّد بن يعقوب ، قال : حدّثنا عليّ بن محمد ، عن أبي
عليّ محمد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر 8
، عن أحمد بن القاسم العجليّ ، عن أحمد بن يحيى المعروف ببرد ، عن محمد بن خداهي ،
عن عبدالله بن أيّوب ، عن عبدالله ابن هشام ، عن عبدالكريم بن عمرو الخثعميّ ، عن
حبابة الوالبيّة قالت : رأيت أمير المؤمنين 7
في شرطة الخميس ، ثمّ ساقت الحديث إلىأن قالت : فلم أزل أقفو اثره حتّى قعد في
رحبة المسجد فقلت له : يا أمير المؤمنين ما دلالة الإمامة رحمك الله؟
قالت : فقال : «إئتيني بتلك الحصاة»
وأشار بيده إلى حصاة ، فأتيته بها فطبع لي فيها بخاتمه ثمّ قال لي : «يا حبابة ، إذا
ادّعى مدّع الإمامة فقدر أن يطبع كما رأيت فاعلمي أنّه إمام مفترض الطاعة ، والإمام
لا يعزب عنه شيء يريده».
قالت : ثمّ انصرفت حتّى قبض أمير
المؤمنين 7 فجئت
إلىالحسن ، وهو في مجلس أمير المؤمنين والناس يسألونه فقال لي : «يا حبابة
الوالبيّة».
فقلت : نعم يا مولاي.
_________
قال : «هاتي ما معك».
قالت : فاعطيته الحصاة ، فطبع لي فيها ،
كما طبع أميرالمؤمنين 7.
قالت : ثم أتيت الحسين 7 وهو في مسجد الرسول فقرّب ورحّب ، ثمّ
قال لي : «أتريدين دلالة الإمامة؟».
فقلت : نعم ياسيّدي.
قال : «هاتي ما معك» فناولته الحصاة
فطبع لي فيها.
قالت : ثمّ أتيت عليّ بن الحسين 8 وقد بلغ بي الكبر إلى أن أعييت ، وأنا
أعدّ يومئذ مائة وثلاث عشرة سنة ، فرأيته راكعاً وساجداً مشغولاً بالعبادة ، فيئست
من الدلالة ، فأومى إليّ بالسبّابة فعاد إليّ شبابي قالت : فقلت : يا سيّدي كم مض
من الدنيا وكم بقي؟
فقال : «أمّا ما مضى فنعم ، وأمّا ما
بقي فلا».
قالت : ثمّ قال لي : «هات ما معك»
فاعطيته الحصاة فطبع فيها ، ثمّ أتيت أبا جعفر 8
فطبع لي فيها ، ثمّ أتيت أبا عبدالله 7
فطبع لي فيها ، ثمّ أتيت أبا الحسن موسى بن جعفر 7
فطبع لي فيها ، ثم أتيت الرضا 7
فطبع لي فيها. وعاشت حبابة بعد ذلك تسعة أشهر على ما ذكره عبدالله بن هشام .
قال : وحدّثنا محمد بن محمد بن عصام ، عن
محمد بن يعقوب الكليني قال : حدّثنا عليّ بن محمد قال : حدّثنا محمد بن إسماعيل بن
موسى بن جعفر 8
قال : حدّثني أبي ، عن أبيه موسى بن جعفر ،
_________
عن أبيه جعفر ، عن
أبيه محمد : قال : «إنّ
حبابة الوالبيّة دعا لها علي بن الحسين 8
فرد الله عليها شبابها ، وأشار إليها بإصبعه فحاضت لوقتها ، ولها يومئذ مائة سنة
وثلاث عشرة سنة .
_________
(الفصل الثالث)
في ذكر طرف من خصائصه ومناقبه عليه السلام
روي عن جابر بن عبدالله قال : لمّا ولدت
فاطمة الحسن 8 قالت : لعلي
«سمّه» فقال : «ما كنت لأسبق باسمه رسول الله 6»
فقال رسول الله 6
: «ما كنت لأسبق باسمه ربّي عزّوجل» فأوحى الله جلّ جلاله إلى جبرئيل 7 : «أنّه قد ولد لمحمد ابن فاهبط إليه
وهنّئه وقل له : إنّ عليّاً منك بمنزلة هارون من موسى ، فسمّه باسم ابن هارون ».
فهبط جبرئيل 7 فهنّأه من الله تعالى جلّ جلاله ، ثمّ
قال : «إنّا للهّ تعالى يأمرك أن تسمّيه باسم ابن هارون ».
قال : «وما كان اسمه؟»
قال : «شبّر».
قال : «لسِاني عربيّ ».
قال : «سمّه الحسن » فسمّاه الحسن .
أورده الاُستاذ أبو سعيد الواعظ في كتاب
«شرف النبيّ » مرفوعاً إلى جابر.
وعن جابر أيضاً قال : قال رسول الله 6 : «من سرّه أن ينظرإلى سيّد شباب
الجنّة فلينظر إلى الحسن بن عليّ ».
_________
عبداللهّ بن بريدة ، عن ابن عباس قال : انطلقت
مع رسول الله صلّىالله عليه وآله وسلّم فنادى على باب فاطمة ثلاثاً فلم يجبه أحدٌ ،
فمال إلى حائط فقعد فيه وقعدت إلى جانبه ، فبينا هو كذلك إذ خرج الحسن بن عليّ قد
غسل وجهه وعلّقت عليه سبحة ، قال : فبسط النبيّ 6
يده ومدّها ثمّ ضمّ الحسن إلى صدره وقبّله وقال : «إنّ ابن هذا سيّد ، ولعلّ الله
عزّ وجلّ يصلح به بين فئتين من المسلمين ».
وروى إبراهيم بن عليّ الرافعي عن أبيه ،
عن جدّته زينب بنت أبيرافع قالت : أتت فاطمة 3
بابنيها الحسن والحسين 8
إلى رسول الله 6
في شكواه التي توفّي فيها فقالت : «يا رسول الله ، هذان إبناك فورّثهما شيئاً».
فقال : «أمّا الحسن فإنّ له هيبتي
وسؤددي ، وأمّا الحسين فإنّ له جودي وشجاعتي ».
ويصدّق هذا الخبر ما رواه محمّد بن
إسحاق قال : ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله 6
ما بلغ الحسن بن عليّ ، كان يبسط له على باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق فما
مرّ أحدٌ من خلق الله إجلالاً له ، فإذا علم قام ودخل بيته فمرّ الناس ، ولقد
رأيته في طريق مكّة
_________
نزل عن راحلته فمشى
فما من خلق الله أحد إلاّ نزل ومشى ، حتّى رأيت سعد ابن أبي وقّاص قد نزل ومشى إلى
جنبه .
وروي عن أنس بن مالك قال : لم يكن أحد
أشبه برسول الله 6
من الحسن بن عليّ 8
.
وقال أمير المؤمنين 7 : «إنّ الحسن ابني أشبه برسول الله 6 ما بين الصدر إلى الرأس ، والحسين 7 أسفل من ذلك ».
وأشباه هذه الأخبار كثيرة ، وفيما أوردناه
كَفاية.
_________
( الفصل الرابع)
في ذكر سبب وفاته عليه السلام
وبعض ماجاء في ذلك
عبدالله بن إبراهيم ، عن زياد المحاربي
قال : لمّا حضرت الحسن 7
الوفاة استدعى الحسين 7
وقال له : «يا أخي إنّني مفارقك ولاحق بربّي ، وقد سقيت السمّ ورميت بكبدي في
الطست ، وإنّيلعارف بمن سقاني ومن أين دهيت ، وأنا اُخاصمه إلى الله عزّوجلّ ، فبحقّي
عليك إن تكلّمت في ذلك بشيء ، وانتظر ما يحدث الله تبارك وتعالى فيّ ، فإذا قضيت
فغسّلني وكفّنّي ، واحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول الله 6 لاُجدّد به عهداً ، ثمّ ردّني إلى قبر
جدّتي فاطمة فادفنّي هناك ، وستعلم يابن اُمّ إنّ القوم يظنّون أنّكم تريدون دفني
عند رسول الله 6
فيجلبون في منعكم من ذلك ، وباللهّ اُقسم عليكم أن تهريق في أمري محجمة من دم ».
ثمّ وصّى إليه بأهله وولده وتركاته وما
كان وصّى أمير المؤمنين 7
حين استخلفه.
فلمّا مضى لسبيله وغسّله الحسين 7 وكفّنه وحمله على سريره لم يشكّ مروان
وبنو اُميّة أنّهم سيدفنونه عند رسول اللهّ 6
، فتجمّعوا ولبسوا السلاح ، فلمّا توجّه به الحسين 7
إلى قبرجدّه رسول الله 6
ليجدّد به عهداً أقبلوا في جمعهم ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول : نحوا ابنكم عن
بيتي فإنّه لا يدفن فيه
ويهتك عليه حجابه .
وفي رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر
الباقر 7 فقال الحسين
لها : «قديماً أنت هتكتي حجاب رسول الله وادخلت بيته من أبغضه ، إن الله سائلك عن
ذلك ، إن أخي أمرني أن أقرّبه من رسول الله ليجدد به عهداً» إلى آخر كلامه.
قال : ثمّ تكلّم محمد بن الحنفية فقال :
يا عائشة يوماً على بغل ويوماً على جمل فما تملكين نفسك عداوة لبني هاشم !
قال : فأقبلت عليه وقالت : يا ابن
الحنفيّة ، هؤلاء بنو الفواطم يتكلّمون فما كلامك؟
فقال الحسين 7 : «وأنّى تفقدين محمّداً من الفواطم ، فوالله لقد ولدته
ثلاث فواطم : فاطمة بنت عمران بن عائذ ، وفاطمة بنت ربيعة ، وفاطمة بنت أسد».
فقالت عائشة : نحّوا ابنكم واذهبوا ، فإنّكم
قوم خَصمون.
فمضى الحسين بالحسن 8 إلى البقيع ودفنه هناك .
_________
(الفصل الخامس)
في ذكر ولد الحسن عليه السلام
وعددهم وأسمائهم
له من الأولاد ستّة عشر ولداً ذكراً واُنثى : زيد بن الحسن ، واُختاه
اُمّ الحسن ، واُمّ الحسين ، اُمّهم اُمّ بشير بنت أبي مسعود الخزرجيّة.
والحسن بن الحسن اُمّه خولة بنت منظور
الفزاريّة.
وعمر بن الحسن وأخواه : عبدالله ، والقاسم
ابنا الحسن قتلا مع الحسين 7
بكربلاء ، اُمّهم اُمّ ولد.
وعبدالرحمن بن الحسن اُمّه اُمّ ولد.
والحسين بن الحسن الملقّب بالأثرم ، وأخوه
طلحة ، وأختهما فاطمة ، اُمّهم اُمّ إسحاق بنت طلحة بن عبيداللهّ التيميّ.
وأبو بكر قتل مع الحسين 7.
واُمّ عبدالله ، وفاطمة ، واُمّ سلمة ، ورقيّة
، لاُمّهات أولاد شتّى
وكان زيد بن الحسن 7 يلي صدقات رسول الله 6 ، وكان جليل القدر كثير البرّ ، ومات
وله تسعون سنة ، وخرج من الدنيا ولم يدّع الإمامة ولا ادّعاها له مدّع من الشيعة
ولا غيرهم .
_________
وأمّا الحسن بن الحسن 8 فكان جليلاً فاضلاً ، وكان يلي صدقات
أمير المؤمنين 7
، دخل على عبدالملك بن مروان محرشاً
على الحجّاج فقال له عبدالملك بعد أن رحّب به وأحسن مسألته : لقد أسرع إليك الشيب
يا أبا محمد وكان عنده يحيى بن اُمّ الحكم وقد وعده أن ينفعه عنده.
فقال يحيى : وما يمنعه يا أمير المؤمنين؟
شيّبته أمانيّ أهل العراق ، تفد عليه الوفود يمنّونه الخلافة.
فاقبل عليه الحسن وقال : بئس ـ والله ـ
الرفد رفدت ، ليس كما قلت ، ولكنّا أهل بيت يسرع إلينا الشيب.
فأقبل عليه عبدالملك وقال : هلّم ما
قدمت له.
فقال : إنّ الحجّاج يقول : أدخل عمر بن
عليّ معك في صدقة أبيك.
فقال عبد الملك : ليس ذلك له ، اكتب
إليه كتاباً لا يجاوزه.
فكتب إليه وأحسن صلة الحسن وأكرمه ، فلمّا
خرج من عنده لقيه يحيى بن اُمّ الحكم فعاتبه الحسن على سوء محضره فقال له يحيى : أيهاً
عنك ، فوالله لا يزال يهابك ، ولولا هيبتك لم يقض لك حاجة ، وما ألوتك رفداً.
وروي : أنه خطب إلى عمّه الحسين 7 إحدى ابنتيه ، فقال له الحسين 7 : «يا بنيّ اختر أحبّهما إليك »
فاستحيى الحسن فقال له الحسين 7
: «فإنّي قد اخترت لك ابنتي فاطمة ، فهي أكثرهما
_________
شبهاً باُمّي فاطمة
بنت رسول اللهّ 6».
وقبض الحسن بن الحسن وله خمس وثلاثون
سنة ، وأوصى إلى أخيه من اُمّه إبراهيم بن محمّد بن طلحة.
وكان عبدالله بن الحسن قد زوّجه الحسين 7 ابنته سكينة فقتل قبل أن يبني بها.
_________
(الباب الثاني)
في ذكر السبط الشهيد أبي عبدالله
الحسين بن عليّ بن أبي طالب 8
سيِّد شباب أهل الجنّة
وهو
خمسة فصول :
(الفصل الأول)
في ذكر تاريخ مولده ومبلغ سنه
ولد 7
بالمدينة يوم الثلاثاء ، وقيل : يوم الخميس لثلاث خلون من شعبان ، وقيل : لخمس خلون منه سنة أربع من
الهجرة ، وقيل : ولد
اخر شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة
ولم يكن بينه وبين أخيه الحسن 8
إلاّ الحمل والحمل ستّة.
وجاءت به فاطمة الزهراء أمه إلى رسول
الله 6 فسمّاه
حسيناً وعقّ عنه كبشاً.
وعاش سبعاً وخمسين سنة وخمسة أشهر ، كان
مع رسول الله 6
سبع سنين ، ومع أمير المؤمنين سبعاً وثلاثين سنة ، ومع أخيه الحسن 7 سبعاً وأربعين سنة ، وكانت مدّة خلافته
عشر سنين وأشهراً.
وقتل صلوات اللهّ عليه يوم عاشوراء يوم
السبت ، وقيل : يوم الاثنين
، وقيل : يوم الجمعة سنة إحدى وستّين من الهجرة.
_________
(الفصل الثاني)
في ذكر الدلائل على إمامته
وأنه المنصوص عليه من جهة
أبيه وأخيه
تدلّ على إمامته 7 جميع الطرق الاعتبارية والإخباريّة
التيذكرناها في إمامة الحسن 7
بعينها ، فإن جميعها كما تدلّ على إمامته تدلّ على إمامة أبي عبدالله الحسين 7 من بعده مثلاً بمثل ، وقد صرّح النبيّ 6 على إمامته أيضاً بقوله : «إبناي هذان
إمامان قاما أو قعدا».
وأيضاً فإنّ وصيّة الحسن 7 إليه تدلّ على إمامته كما دنت وصيّة
أميرالمؤمنين 7
إلى الحسن 7 على إمامته ،
بحسب ما دلّت وصيّة رسول الله 6
إلى أمير المؤمنين 7
على إمامته من بعده.
وممّا جاء من الأخبار في وصيّة الحسن 7 إليه ما رواه محمد ابن يعقوب ، عن عليّ
بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن محمد ابن سليمان الديلميّ ، عن هارون
بن الجهم ، عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي 8 يقول : «لمّا احتضر الحسن 7 قال للحسين : يا أخي إنّي اُوصيك
بوصيّة (فاحفظها)
إذا أنا متّ فهيئني ووجّهني إلى رسول الله 6
لأحدث به
_________
عهداً ، ثمّ اصرفني
إلى اُمّي فاطمة 3
ثمّ ردّني فادفنّي بالبقيع »
إلى آخر الخبر.
وروى محمد بن يعقوب بإسناده ، عن
المفضّل بن عمر ، عن أبي عبدالله 7
قال : «لمّا حضرت الحسن الوفاة قال : يا قنبر انظر هل ترى من وراء بابك مؤمناً من
غير آل محمد؟ فقال : الله ورسوله وابن رسوله أعلم ، قال : امض فادع لي محمد بن علي
.
قال : فاتيته ، فلمّا دخلت عليه قال : هل
حدث إلاّ خير؟ قلت : أجب أبا محمد.
فعجّل على شسع نعله فلم يسوّه ، فخرج
معي يعدو ، فلمّا قام بين يديه سلّم فقال له الحسن 7
: إجلس فليس مثلك يغيب عن سماع كلام يُحيى به الأموات ويموت به الأحياء ، كونوا
أوعية العلم ومصابيح الدجى ، فإنّ ضوء النهار بعضه أضوء من بعض ، أما علمت أنّ
الله عزّ وجلّ جعل ولد إبراهيم أئمة وفضّل بعضهم على بعض وآتى داود زبوراً ، وقد
علمت بما استأثر [به] محمّداً 6.
يا محمد بن علي ، إنّي أخاف عليك الحسد
، وإنّما وصف الله تعالى به الكافرين فقال : ( كفّاراً حَسَداً مِن
عِندِ أنفُسِهِم مِن بَعدِ فاتَبيَّنَ لَهُم الحقّ ) ولم يجعل الله للشيطان عليك سلطاناً.
يا محمد بن عليّ ، ألا اُخبرك بما سمعت
من أبيك 7 فيك؟
قال : بلى.
قال : سمعت أباك يقول يوم البصرة : من
أحبّ أن يبرّني في الدنيا
_________
والآخرة فليبر
محمداً ولدي.
يا محمّد بن عليّ ، لو شئت أن اُخبرك
وأنت نطفة في ظهرأبيك لأخبرتك.
يا محمّد بن عليّ ، أما علمت أنّ الحسين
بن عليّ بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسمي إمام من بعدي ، وعند الله في الكتاب وراثة
من النبيّ أضافها الله له في وراثة أبيه واُمّه ، علم الله أنّكم خيرة خلقه فاصطفى
منكم محمّداً واختار محمّدٌ عليّاً واختارني عليّ للإمامة واخترت أنا الحسين.
فقال له محمّد بن عليّ : أنت إمامي
وسيّدي ألا وإنّ في رأسي كلاماً لا تنزفه الدلاء ، ولا تغيّره نغمة الرياح ، كالكتاب
المعجم في الرق المنمنم أهمّ بإبدائه فأجدني سبقت إليه سبق الكتاب المنزل وما جاءت
به الرسل ، وإنّه لكلام يكلّ به لسان الناطق ويد الكاتب ، حتّى لا يجد قلماً ، ويؤتوا
بالقرطاس حمماً ولا يبلغ فضلك ، وكذلك يجزي الله المحسنين ولا قوّة إلاّ بالله ، الحسين
أعلمنا علماً ، وأثقلنا حلماً ، وأقربنا من رسول الله رحماً ، كان إماماً قبل أن
يُخلق ، وقرأ الوحي قبل أن ينطق ، ولو علم الله أنّ أحداً خيراً منّا ما اصطفى
محمّداً 6 ، فلما
اختار محمداً اختار محمد عليّاً إماماً واختارك عليٌّ بعده واخترتَ الحسين 7 بعدك ، سلّمنا ورضينا بمن هو الرضى
وبمن نسلم به من المشكلات » .
وفي حديث حبابة الوالبيّة الذي رويناه
هناك ما فيه من
ظهور الآية المعجزة على يده الدالّة على إمامته فلا معنى لتكريره وإعادته.
فكانت إمامته 7 ثابتة بعد أخيه الحسن 7 وإن لم
_________
يدع إلى نفسه ؛
للهدنة الحاصلة بينه وبين معاوية بن أبي سفيان ، وجرى فيذلك مجرى أبيه في ثبوت
إمامته بعد النبي عليه وآله السلام مع الكفّ والصموت ، ومجرى أخيه 7 في زمان الهدنة والسكوت ، فلمّا انقضى
زمان الهدنة بهلاك معاوية ، واجتمع له في الظاهر الأنصار ، أظهر أمره بعض الإظهار
، وتشمّر للقتال ، وقدّم إلى العراق ابن عمّه 7
مسلماً للاستنصار.
فبايعه أهل الكوفة وضمنوا له النصرة ، ثمّ
نكثوا بيعته وخذلوه وأسلموه ، وخرجوا إليه فحصروه حيث لا يجد ناصراً ولا مهرباً ، وحالوا
بينه وبين ماء الفرات حتّى تمكّنوا منه فقتلوه شهيداً كما استشهد أبوه وأخوه :.
***
(الفصل الثالث )
في ذكر بعض خصائصه ومناقبه
وفضائله صلوات الله عليه
كان 7
يشبه النبي 6 من صدره إلى
رجليه وكان الحسن 7
يشبهه من صدره إلى رأسه كما تقدم .
وروى سعيد بن راشد ، عن يعلى بن مرّة
قال : سمعت رسول الله 6
يقول : «حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ الله من أحبّ حسيناً ، حسين سبط من الأسباط
».
وروى عبدالله بن ميمون القدّاح ، عن
جعفر بن محمّد 8
قال : «إصطرع الحسن والحسين بين يدي رسول الله 6
فقال رسول الله 6
: إيهاً
حسن خذ حسيناً ،
_________
فقالت فاطمة 3 : يا رسول الله أتستنهض الكبير على
الصغير؟ فقال رسول الله 6
: هذا جبرئيل يقول للحسين : ايهاً حسين خذ حسناً».
وروى الأوزاعي ، عن عبدالله بن شدّاد ، عن
اُمّ الفضل ، أنّها دخلت على رسول الله 6
فقالت : يا رسول الله رأيت الليلة حُلماً منكراً.
قال : «وما رأيت؟».
فقالت : إنّه شديد.
قال : «وما هو؟».
قالت : رأيت كانّ قطعة من جسدك قطعت
ووضعت في حجري.
فقال رسول الله 6 : «خيراً رأيت ، تلد فاطمة غلاماً
فيكون في حجرك ».
فولدت الحسين 7 وكان في حجري كما قال صلوات الله عليه
وآله.
قالت : فدخلت به يوماً على النبيّ 6 فوضعته في حجره ، ثمّ حانت منّي
التفاتة فإذا عينا رسول اللهّ 6
تهرقان بالدموع ، فقلت : بابي أنت واُمّي يا رسول الله مالك؟
قال : «أتاني جبرئيل فاخبرني أنّ اُمّتي
ستقتل ابني هذا ، وأتاني بتربة
_________
من تربته حمراء» .
وفي مسند الرضا 7 : عن عليّ بن الحسين 8 قال : «حدّثتني أسماء بنت عميس قالت : لمّا
كان بعد حول من مولد الحسن 7
ولد الحسين 7 فجاء النبيّ
عليه وآله السلام فقال : يا أسماء هاتي ابني ، فدفعته إليه في خرقة بيضاء فأذّن في
اُذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، ووضعه في حجره وبكى.
قالت أسماء : فداك أبي واُمّي ممّ بكاؤك؟
قال : من ابني هذا.
قلت : إنّه ولد الساعة!
قال : يا أسماء تقتله الفئة الباغية من
بعدي ، لا أنالهم الله شفاعتي ، ثمّ قال : يا أسماء ، لا تخبري فاطمة فإنّها حديث
عهد بولادته ، ثمّ قال لعليّ : أيّ شيءٍ سمّيت ابني هذا؟
قال : ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله
، وقد كنت اُحبّ أن اُسمّيه حرباً.
فقال رسول الله : ما كنت لأسبق باسمه
ربّي.
فأتاه جبرئيل فقال : الجبّار يقرئك
السلام ويقول : سمّه باسم ابن هارون.
فقال : وما اسم ابن هارون؟
قال : شبير.
_________
قال : لساني عربيّ.
قال : سمّه الحسين.
فسمّاه الحسين ، ثمّ عقّ عنه يوم سابعه
بكبشين أملحين ، وحلق رأسه وتصدّق بوزن شعره وَرِقاً ، وطلى رأسه بالخلوق وقال : الدم
فعل الجاهليّة ، وأعطى القابلة فخذ كبش ».
وروى الضحّاك ، عن ابن المخارق ، عن
اُمّ سلمة رضي الله عنها قالت : بينا رسول الله 6
ذات يوم جالس والحسين 7
في حجره إذ هملت عيناه بالدموع فقلت : يا رسول الله أراك تبكي جعلت فداك؟
قال : «جاءني جبرئيل 7 فعزّاني بابني الحسين ، وأخبرني أنّ
طائفة من اُمّتي ستقتله ، لا أنالهم الله شفاعتي ».
وروي بإسناد آخر عن اُمّ سلمة : أنّ
رسول الله 6 خرج من
عندنا ذات ليلة فغاب عنّا طويلاً ثم جاءنا وهو أشعث أغبر ويده مضمومة ، فقلت له : يا
رسول الله ، ما لي أراك شَعِثاً مغبرّاً؟
فقال : «اُسري بي في هذه الليلة إلى
موضع من العراق يقال له : كربلاء ، فاُريت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل
بيتي ، فلم أزل ألقط منه دماءهم فها هي في يدي » وبسطها فقال : «خذيه واحتفظي به ».
فأخذته فإذا هو شبه تراب أحمر ، فوضعته
في قارورة وشددت رأسها واحتفظت بها ، فلمّا خرج الحسين 7 متوجّها نحو العراق كنت اُخرج تلك
القارورة في كلّ يوم وليلة فاشمّها وأنظر إليها ثمّ أبكي لمصابه ،
_________
فلمّا كان يوم
العاشر من المحرّم ـ وهو اليوم الذي قُتل فيه ـ أخرجتها في أوّل النهار وهي بحالها
ثمّ عدت إليها آخر النهار فإذا هي دمٌ عبيط ، فصحت في بيتي وكظمت غيظي مخافة أن
يسمع أعداؤهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة ، فلم أزل حافظة للوقت واليوم حتّى جاء
الناعي ينعاه ، فحقّق مارأيت .
وعن ابن عبّاس رضي الله عنه ، عن النبيّ
6 قال : «قال
لي جبرئيل 7 : إنّ الله
جلّ جلاله قتل بدم يحيى بن زكريّا سبعين ألفاً ، وهو قاتل بدم ابنك الحسين سبعين
ألفاً وسبعين ألفاً».
وروى سفيان بن عيينة ، عن عليّ بن زيد ،
عن عليّ بن الحسين 8
قال : «خرجنا مع الحسين 7
فما نزل منزلاً ولا ارتحل عنه إلاّ ذكر يحيى بن زكريّا ، وقال يوماً : من هوان
الدنيا على الله عزّ وجلّ أنّ رأس يحيى بن زكريّا اُهدي إلى بغيّ من بغايا بني
إسرائيل ».
وروى يوسف بن عبدة قال : سمعت محمّد بن
سيرين يقول : لم تُرَ هذه الحمرة في السماء إلاّ بعد قتل الحسين 7 .
_________
وذكر الحافظ الشيخ أبو بكر البيهقي في
كتاب دلائل النبوة قال : أخبرنا القطّان : حدّثنا عبدالله بن جعفر ، حدّثنا يعقوب
بن سفيان ، حدّثنا سليمان ابن حرب ، حدّثنا حمّاد بن زيد ، عن معمر قال : أوّل ما
عُرف الزهري تكلّم في مجلس الوليد بن عبد الملك ، فقال الوليد : أيّكم يعلم ما
فعلت أحجار بيت المقدس يوم قتل الحسين بن عليّ؟
فقال الزهري : بلغني أنّه لم يُقلب حجرٌ
إلاّ وجد تحته دمٌ عبيط .
قال : وأخبرنا القطّان بإسناده ، عن
عليّ بن مسهر قال : حدّثتني جدّتي قالت : كنت أيّام الحسين 7 جارية شابّة فكانت السماء أيّاماً علقة.
قال : وأخبرنا القطّان بإسناده ، عن
جميل بن مرّة قال : أصابوا إبلاً في عسكر الحسين 7
يوم قُتل فنحروها وطبخوها ، قال : فصارت مثل العلقم فما استطاعوا أن يسيغوا منها
شيئاً.
وعن ابن عبّاس قال : رأيت النبيّ 6 فيما يرى النائم ذات يوم بنصف النهار
أشعث أغبر ، بيده قارورة فيها دم ، فقلت : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ما هذه؟
_________
قال : «هذا دم الحسين 7 وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم ».
فاُحصي بذلك الوقت فوجد [قد] قتل ذلك
اليوم .
وعن نضرة الأزديّة : لمّا قتل الحسين بن
علي 8 مطرت السماء
دماً ، فأصبحت وكلّ شيء لنا ملء دم !!
وروى محمد بن مسلم ، عن السيدين الباقر
والصادق 8 قال : سمعتهما
يقولان : «إنّ الله تعالى عوّض الحسين 7
من قتله : أن جعل الإمامة في ذرّيّته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره
، ولاتُعدّ أيّام زائره جائياً وراجعاً من عمره ».
قال محمد بن مسلم : فقلت لأبي عبدالله 7 : هذه الخلال تنال بالحسين فماله هو في
نفسه؟
قال : «إنّ الله تعالى ألحقه بالنبيّ 6 فكان معه في درجته ومنزلته » ثمّ تلا
أبو عبدالله 7 : (وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَأتبَعَتهُم ذُرِيّتهُم بإيفانٍ أَلحَقتا بِهِم ذُرِّيَّتَهُم ).
وَالأخبار في هذا المعنى أكثر من أن
تحصى.
_________
وممّا روي في السبطين 8 : ما رواه عتبة بن غزوان قال : كان النبيّ
6 يصلّي فجاء
الحسن والحسين يركبان ظهره ، فانصرف فوضعهما في حجره وجعل يقبّل هذا مرّة وهذا
مرّة ، فقالقوم : أتحبّهما يا رسول الله؟
فقال : «ما لي لا اُحبّ ريحانتيّ من
الدنيا».
وروى سلمان الفارسي قال : سمعت رسول
الله 6 وهو يقول : «الحسن
والحسين ابنيّ من أحبّهما أحبّني ، ومن أحبّني أحبّه الله ، ومن أحبّه الله أدخله
الجنّة ، ومن أبغضهما أبغضني ، ومن أبغضني أبغضه الله ، ومن أبغضه الله أدخله
النار على وجهه ».
وروى ابن لهيعة عن أبي عوانة رفعه إلى
النبيّ 6 : أنّ الحسن
والحسين شنفا
العرش ، وأنّ الجنّة قالت : يا ربّ اسكنتني الضعفاء والمساكين ، فقال لها الله
تعالى : «ألا ترضين أنّي زيّنت أركانك بالحسن والحسين ، قال : فماست كما تميس العروس فرحاً».
وروى عبدالله بن بريدة قال : سمعت أبي
يقول : كان رسول الله صلّىالله عليه وآله وسلّم يخطبنا فجاء الحسن والحسين 8 وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ،
فنزل رسول الله 6
_________
من المنبر فحملهما
ووضعهما بين يديه ، ثمّ قال : «صدق الله تعالى : (اِنّما اَموالُكُم
وَاَولأدُكُم فِتنَةٌ ) نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران
فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما»
وأما ما جاء من الرواية في ثواب زيارته ،
وفضل تربته ، وكيفيّة أخذها ، وغير ذلك ممّا يتعلّق بجلال رتبته ، وعلوّ منزلته
عند الله فكثيرة ، وما ذكرناه كاف في هذا الباب.
_________
(الفصل الرابع)
في ذكر جملة مختصرة من أخبار خروجه
ومقتله عليه السلام
ذكر الثقات من أصحاب السير : أنّه لمّا
مات الحسن بن عليّ 8
تحرّكت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين 7
في خلع معاوية ، فامتنع عليهم للعهد الحاصل بينه وبين معاوية ، فلمّا مات معاوية ـ
وذلك في النصف من رجب سنة ستّين ـ كتب يزيد بن معاوية إلى الوليد ابن عتبة بن أبي
سفيان والي المدينة أن يأخذ الحسين 7
بالبيعة له ، فأنفذ الوليد إلى الحسين 7
فاستدعاه ، فعرف الحسين ما أراد ، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح وقال :
«إجلسوا على الباب ، فإذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه مني ».
وصار 7
إلى الوليد ، فنعى الوليد إليه معاوية فاسترجع الحسين 7 ، ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد ، فقال
الحسين 7 : «إنّي لا
أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتّى اُبايعه جهراً».
فقال الوليد : أجل.
فقال الحسين 7 : «فنصبح ونرى في ذلك ».
فقال الوليد : إنصرف على اسم الله تعالى.
فقال مروان : والله لئن فارقك الحسين
الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى يكثر القتلى بينكم وبينه ، فلايخرج
من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه.
فوثب عند ذلك الحسين 7 وقال : «أنت يا ابن الزرقاء تقتلني
أو هو؟ كذبت والله
وأثمت » فخرج.
فقال مروان للوليد : عصيتني.
فقال : ويح غيرك يا مروان ، والله ما
اُحبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وأنّي قتلت حسيناً ، سبحان الله أقتل حسيناً إن
قال : لا اُبايع ، والله إنّي لأظنّ أنّ امرءاً يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند
الله تعالى يوم القيامة.
فقال مروان : إن كان هذا رأيك فقد أصبت.
وأقام الحسين تلك الليلة في منزله ، واشتغل
الوليد بمراسلة عبدالله بن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليه ، وخرج ابن
الزبير من ليلته متوجّهاً إلى مكّة ، وسرّح الوليد في إثره الرجال فطلبوه فلم
يدركوه.
فلمّا كان آخر النهار بعث إلى الحسين 7 ليبايع فقال 7 : «اصبحوا وترون ونرى» فكفّوا تلك
الليلة عنه ، فخرج 7
ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب متوجّهاً نحو مكّة ومعه بنوه وبنو أخيه الحسن
وإخوته وجلّ أهل بيته ، إلاّ محمّد بن الحنفيّة فإنّه لم يدر أين يتوجّه ، وشيّعه
وودعه.
وخرج الحسين 7 وهو يقول : (فَخَرَج
مِنْها خائِفاً يَتَرَقّبُ قال َرَبّ نَجّني مِنَ الْقَوْم الظّالِمِينَ)
فلمّا دخل مكّة دخلها لثلاث مضين من شعبان وهو يقول : (وَلَمّا
تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسف رَبّي أنْ يَهْدِيَني سَواءَ السّبِيل
).
وأقبل أهل مكّة يختلفون إليه ، ويأتيه
ابن الزبير فيمن يأتيه بين كلّ يومين مرّة ، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير وقد
عرف أنّ أهل الحجاز لا
_________
يبايعونه مادام
الحسين 7 بالبلد.
وبلغ أهل الكوفة هلاك معاوية
، وعرفوا خبر الحسين ، فاجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي وقالوا : إن
معاوية قد هلك ، وإنّ الحسين قد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم
تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدوا عدوّه فاكتبوا إليه. فكتبوا إليه كتباً كثيرة ، وأنفذوا
إليه الرسل إرسالاً ، ذكروا فيها : أن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك ، فالعجل
العجل.
فكتب إليه اُمراء القبائل : أمّا بعد : فقد
اخضر الجناب وأينعت الثمار ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجندة.
«من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين.
أمّا بعد : فإنّ (فلاناً وفلانأ) قدما عليّ بكتبكم ، وكانا اخر رسلكم ، وفهمت
مقالة جلّكم : أنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ ، وإنّي
باعثٌ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ، فإن كتب إليّ أنّه قد
اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأته في كتبكم
أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله تعالى».
ودعا بمسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن
مسهر الصيداوي ، وعمارة
_________
ابن عبدالله السلولي
، وعبدالرحمن بن عبدالله الأرحبي.
فاقبل مسلم حتّى دخل الكوفة ، فنزل دار
المختار بن أبي عبيدة ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، وبايعه الناس حتّى بايعه منهم
ثمانية عشر ألفاً ، فكتب مسلم إلى الحسين 7
يخبره بذلك ويأمره بالقدوم ، وعلى الكوفة يومئذ النعمان بن بشير من قبل يزيد.
وكتب عبدالله بن مسلم الحضرمي إلى يزيد
بن معاوية : أنّ مسلم بن عقيل قدم إلى الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن عليّ ، فإن
كان لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً ، فإنّ النعمان بن بشير رجلٌ
ضعيفٌ. وكتب إليه عمر بن سعد وغيره بمثل ذلك.
فلمّا وصلت الكتب إلى يزيد دعا بسرجون ـ
مولى معاوية ـ وشاوره في ذلك ـ وكان يزيد عاتباً على عبيدالله بن زياد ـ فقال
سرجون : أرأيت معاوية لو يشير لك ما كنت آخذاً برأيه؟ قال : نعم.
فأخرج سرجون عهد عبيدالله بن زياد على
الكوفة وقال : إنّ معاوية مات وقد أمر بهذا الكتاب ، فضمّ المصرين إلى عبيدالله ، فقال
يزيد : إبعث بعهد ابن زياد إليه ، وكتب إليه : أن سر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي
الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أوتنفيه والسلام.
فلمّا وصل العهد والكتاب إلى عبيدالله
أمر بالجهاز من وقته والمسير إلى الكوفة ، ومعه مسلم بن عمرو الباهلي ، وشريك بن
الأعور الحارثي ، وحشمه وأهل بيته ، حتّى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو متلثم ،
والناس قد
_________
بلغهم إِقبال الحسين
7 ، فهم
ينتظرون قدومه ، فظنّوا أنّه الحسين 7
، فكان لا يمرّ على ملأ من الناس إلاّ سلّموا عليه وقالوا : مرحبا يا ابن رسول
الله قدمت خير مقدم ، فرأى من تباشرهم بالحسين 7
ما ساءه ، فقال مسلم بن عمرو لمّا أكثروا : تأخّروا ، هذا الأمير عبيدالله بن زياد
، وسار حتّى وافى قصر الأمارة فأغلق النعمان بن بشير عليه حتّى علم أنّه عبيدالله
ففتح له الباب .
فلمّا أصلح نادى في الناس الصلاة جامعة
، فاجتمع الناس فخطب وقال :
أمّا بعد : فإنّ أمير المؤمنين ولاّني
مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم ، وإعطاء محرومكم ، والإحسان إلى سامعكم
ومطيعكم كالوالد البرّ ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي ، فليُبقِ امرؤٌ
على نفسه (الصدق ينبىء عنك لا الوعيد).
ثمّ نزل وأخذ الناس أخذاً شديداً.
ولمّا سمع مسلم بن عقيل بمجيء ابن زياد
إلى الكوفة ومقالته التي قالها خرج من دار المختار حتّى انتهى إلى دار هانئ بن
عروة ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه سرّاً.
ونزل شريك بن الأعور دار هانئ بن عروة
أيضاً ، ومرض فاُخبر بأن عبيدالله بن زياد يأتيه يعوده ، فقال لمسلم بن عقيل : اُدخل
هذا البيت ، فإذا دخل هذا اللعين وتمكّن جالساً فاخرج إليه واضربه ضربة بالسيف
تأتي
_________
عليه ، وقد حصل
المراد واستقام لك البلد ، ولو منّ الله عليّ بالصحّة ضمنت لك استقامة أمر البصرة.
فلمّا دخل ابن زياد وأمكنه ما وافقه
عليه بدا له في ذلك ولم يفعل ، واعتذر إلى شريك بعد فوات الأمر بأنّ ذلك كان يكون
فتكاً وقد قال النبيّ 6
: «إنّ الإيمان قيد الفتك ».
فقال : أما والله لو قد قتلته لقتلت
غادراً فاجراً كافراً. ثمّ مات شريك من تلك العلّة ;.
ودعا عبيدالله بن زياد مولى له يقال له
: معقل ، وقال : خذ ثلاثمائة درهم
ثمّ اطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه ، فإذا ظفرت منهم بواحد أو جماعة فأعطهم هذه
الدراهم وقل : استعينوا بها على حرب عدوّكم ، فإذا اطمأنّوا إليك ووثقوا بك لم
يكتموك شيئاً من أخبارهم ، ثمّ اغد عليهم ورححتّى تعرف مستقرّ مسلم بن عقيل.
ففعل ذلك ، وجاء حتّى جلس إلى مسلم بن
عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وقال : يا عبدالله إنّي امرؤٌ من أهل الشام ، أنعم
الله عليّ بحبّ أهل هذا البيت ، فقال له مسلم : أحمد الله على لقائك ، فقد سرّني
ذلك ، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي بهذا الأمر قبل أن يتمّ مخافة هذا الطاغية ، فقال
له معقل : لا يكون إلاّ خيراً ، فخذ منّي البيعة.
فأخذ بيعته ، وأخذ عليه المواثيق
المغلّظة ليناصحنّ وليكتمنّ ، ثمّ قال : اختلف إليّ ايّاماً في منزلي فأنا طالب لك
الإذن ، فأذن له ، فأخذ مسلم بيعته ، ثمّ أمر قابض الأموال فقبض المال منه ، وأقبل
ذلك اللعين يختلف إليهم ، فهو أوّل داخل وآخر خارج ، حتّى علم ما احتاج إليه ابن
زياد ، وكان
_________
يخبره به وقتاً
وقتاً.
وخاف هانئ بن عروة على نفسه من عبيدالله بن زياد
، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض ، فقال ابن زياد : مالي لا أرى هانئاً؟ فقالوا : هو
شاك ، فقال : لو علمت بمرضه لعدته ، ودعا محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة وعمرو بن
الحجاج الزبيدي فقال لهم : ما يمنع هانئاً من إتياننا؟ فقالوا : ما ندري وقد قيل :
إنّه يشتكي ، قال : قد بلغني أنّه يجلس على باب داره فالقوه ومروه ألاّ يدع ما
عليه من حقّنا.
فأتوه حتّى وقفوا عليه عشيّة ـ وهو على
باب داره جالس ـ فقالوا : مايمنعك من لقاء الأمير؟ فقال لهم : الشكوى تمنعني من
لقائه ، فقالوا له : قد بلغه أنّك تجلس على باب دارك عشيّة وقد استبطاك ، فدعا
بثيابه فلبسها ، ودعا ببغلته فركبها ، فلمّا دخل على ابن زياد قال : أتتك بحائن
رجلاه والتفت نحوه
وقال :
اُريدُ حِباءَهُ ويُريدُ قتلي
|
|
يرَكَ مِن خَليلكَ مِن مُراد
|
فقال هانئ : وما ذاك أيّها الأمير؟ قال
: ما هذه الاُمور التي تربصّ فيدورك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين ، جئت بمسلم
بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له الرجال والسلاحِ قال : ما فعلت ذلك ، قال : بلى.
ثمّ دعا ابن زياد معقلاً ـ ذلك اللعين ـ
فجاء حتّى وقف بين يديه ، فلمّا راه هانئ علم أنّه كان عيناً عليهم وأنّه قد أتاه
بأخبارهم فقال : اسمع منّي
_________
وصدّق مقالتي ، والله
ما دعوته إلى منزلي ولا علمت بشيء من أمره حتّى جاءني يسألني النزول فاستحيت من
رده ، فضيّفته واويته ، وأنا أعطيك اليوم عهداً ألاّ أبغيك سوءاً ولا غائلة ، وإن
شئت أعطيك رهينة فتكون في يدك حتّى آتيك به أو آمره حتى يخرج من داري إلى حيث شاء
من الأرض فاخرج من جواره ، فقال ابن زياد : والله لا تفارقني أبداً حتّى تأتيني به
، فقال : لا والله لا آتيك به ، وكثر الكلام بينهما حتّى قال : والله لتأتينّي به
قال : لا والله لاآتيك به ، قال : لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك ، فقال هانئ : إذاً
والله تكثر البارقة حول دارك ، فقال ابن زياد : أبالبارقة تخوّفني؟! وهو يظنّ أنّ
عشيرته سيمنعونه ، فقال : ادنوه منّي ، فلم يزل يضرب وجهه بالقضيب حتّى كسر أنفه
وسيَّل الدماء على ثيابه ، وضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطيّ وجاذبه الرجل ومنعه ،
فقال ابن زياد : قد حلّ لنا قتلك ، فجرّوه فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا
عليه بابه.
وبلغ الخبر مسلم بن عقيل فامر أن يُنادى
في الناس ، فملأ بهم الدور وقال لمناديه : ناد «يا منصور أمت » فعقد مسلم لرؤوس
الأرباع على القبائل كندة ومذحج وأسد وتميم وهمدان ، فتداعى الناس واجتمعوا فامتلأ
المسجد من الناس والسوق ، وما زالوا يزيدون حتّى المساء.
وضاق بعبيدالله أمره ، وليس معه في
القصرإلاّ ثلاثون رجلاً من الشرطة وعشرون رجلاً من أشراف الناس وأهل بيته ، وأقبل
من نأى عنه من أشراف الناس ، يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميّين ، وجعل
من في القصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم وهم يرمونه بالحجارة.
ودعا ابن زياد : بكثير بن شهاب ، ومحمد
بن الأشعث ، وشبث بن ربعي ، وجماعة من رؤساء القبائل ، وأمرهم أن يسيروا في الكوفة
ويخذّلوا الناس عن مسلم بن عقيل ، ويعلموهم بوصول الجند من الشام ، وأنّ الأمير
قد أعطى الله عهداً
لئن تمّمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم هذه أن يحرم ذرّيّتكم العطاء ، ويأخذ
البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب.
فلمّا سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرّقون
، وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وزوجها وتقول : انصرف الناس يكفونك ، ويجيء
الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول له : غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشرّ؟!
فيذهب به فينصرف ، فما زالوا يتفرّقون حتّى أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب وما معه من
أصحابه إلاّ ثلاثون نفساً.
فلمّا رأى ذلك خرج متوجّهاً نحو أبواب
كندة (فلمّا)
بلغ الباب ومعه منهم عشرة ، فخرج من الباب فإذا ليس معه إنسان ، ولا يجد أحداً
يدلّه على الطريق ، فمضى على وجهه متلدّداً
في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب ، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها : طوعة
، وهي على باب دارها تنتظر ولداً لها ، فسلّم عليها وقال : يا أمة الله اسقيني
ماءً ، فسقته وجلس.
فقالت : يا عبدالله ، قم فاذهب إلى أهلك؟
فقال : يا أمة الله ما لي في هذا المصر منزل ، فهل لك فيّ أجر ومعروف ولعلّي
أكافِئُكِ بعد اليوم؟ فقالت : وما ذاك؟ قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني هؤلاء
القوم وغرّوني وأخرجوني ، قالت : أنت مسلم؟ قال : نعم ، قالت : ادخل.
فدخل بيتاً في دارها غير الذي تكون فيه ،
وفرشت له ، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ.
فجاء ابنها ، فرآها تكثر الدخول إلى
البيت والخروج منه ، فسألها عن ذلك فقالت : يا بنيّ الْه عن هذا ، قال : والله
لتخبريني.
_________
فأخذت عليه الأيمان أن لا يخبر أحداً ، فحلف
فاخبرته ، وكانت هذه المرأة اُمّ ولد للأشعث بن قيس ، فاضطجع ابنها وسكت.
وأصبح فغدا إلى عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره
بمكان مسلم بن عقيل
عند اُمّه ، فأقبل عبدالرحمن حتّى أتى أباه وهو عند ابن زياد فسارّه ، فعرف ابن
زياد سراره ، فقال : قم فأتني به الساعة.
فقام وبعث معه عبيدالله بن العبّاس
السلمي في سبعين رجلاً من قيس ، حتّى أتوا الدار التي فيها مسلم ، فلمّا سمع وقع
الحوافر وأصوات الرجال علم أنّه قد أُتي ، فخرج إليهم بسيفه واقتحموا عليه الدار ،
فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار ، واختلف هو وبكر بن حمران الأحمري
فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع في السفلى ، وضربه مسلم على رأسه ضربة
منكرة وثنّى باُخرى على حبل العاتق ، وخرج عليهم مصلتاً بسيفه ، فقال له محمد بن
الأشعث : لك الأمان لا تقتل نفسك ، وهو يقاتلهم ويقول :
أقـسمـتُ لا أُقتلُ إلاّ حُرّا
|
|
ي رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا
|
كلّ امرئ يوماً ملاقٍ شـرّا
|
|
ـافُ أن اُكذبَ أو اُغَرّا
|
فقال له محمد بن الأشعث : إنّك لا تكذب
ولا تغرّ ، فلا تجزع ، إنّ القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك.
فقال مسلم : أمّا لو لم تؤمنوني ما وضعت
يدي في أيديكم ، فاُتي ببغلةٍ فركبها ، واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه ، فكأنّه أيسَ
هناك من نفسه ، فدمعت عيناه وقال : هذا أوّل الغدر ، وأقبل على محمد بن الأشعث
وقال : إنّي أراك والله ستعجز عن أماني فهل عندك خيرٌ؟ تستطيع أن تبعث من عندك
رجلاً على لساني أن يبلّغ حسيناً ـ فإنّي لا أراه إلاّ خرج إليكم اليوم أو هو خارج
غداً ـ ويقول : إنّ ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم لا يرى أن
يمسي حتّى يقتل ، وهو
يقول : إرجع فداك أبي وأمّي بأهل بيتك ولا يغرنّك أهل الكوفة ، فإنّهم أصحاب أبيك
الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إنّ أهل الكوفة كذبوك وليس لكذوب رأي.
فقال ابن الأشعث : والله لأفعلنّ ، ولأعلمنّ ابن زياد أنّي قد آمنتك.
وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب
القصر ، ودخل على عبيدالله فاخبره خبره وما كان من أمانه ، فقال ابن زياد : ما أنت
والأمان؟ كأنّا أرسلناك لتؤمنه وإنّما أرسلناك لتأتينا به ، فسكت ابن الأشعث.
وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخال مسلم ، فلمّا
دخل لم يسلّم عليه بالإمرة ، فقال الحرسي : ألا تسلّم على الأمير؟ قال : إن كان
يريد قتلي فما سلامي عليه ، وإن كان لا يريد قتلي ليكثرنّ سلامي عليه ، فقال ابن
زياد : لعمري لتقتلنّ قتلة لم يقتلها أحدٌ من الناس في الإسلام ، فقال له مسلم : أنت
أحقّ من أحدث في الإسلام ، وأنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ، ولؤم
الغلبة.
وأخذ إبن زياد لعنة الله عليه يشتمه
ويشتم الحسين وعليّاً وعقيلَاَ ، وأخذ مسلم لا يكلّمه.
ثمّ قال ابن زياد : إصعدوا به فوق القصر
واضربوا عنقه ثمّ أتبعوه جسده ، فقال مسلم : لو كان بيني وبينك قرابة ما قتلتني ، فقال
ابن زياد : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف ، فدعي بكر بن حمران الأحمري
فقال له : إصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه.
فصعد وجعل مسلم يكبّر الله ويستغفره ، ويصلّي
على النبيّ وآله ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا ، وضربت عنقه
واُتبع جسده رأسه ، واُمر بهانئ بن عروة فاُخرج إلى السوق وضربت عنقه وهو يقول : إلى
الله المعاد ، اللهم إلى رحمتك ورضوانك.
وفي قتلهما يقول عبدالله بن الزبير
الأسدي :
إن كنتِ لا تدرينَ ما الموتُ فانظري
|
|
ى هانئ في السوقِ وابنِ عقيل
|
إِلى بطلٍ قـد هــشّم السيفُ وجههُ
|
|
خر يهوي من طمار قــتيل
|
- في أبيات
-
وبعث ابن زياد لعنه الله برأسيهما إلى
يزيد بن معاوية لعنه الله.
وكان خروج مسلم رحمة الله عليه بالكوفة
يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية ، وقتل يوم عرفة سنة ستّين.
وكان توجّه الحسين 7 من مكّة إلى العراق في يوم خروج مسلم
بالكوفة ، وكان قد اجتمع إليه 7
مدّة مقامه بمكّة نفر من أهل الحجاز والبصرة ، ولمّا أراد الخروج إلى العراق طاف
بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرة ، لأنّه لم يتمكّن من
تمام الحجّ مخافة أن يُقبض عليه بمكّة فيُنفذ إلى يزيد بن معاوية.
فروي عن الفرزدق الشاعر أنّه قال : حججت
باُمّي سنة ستّين ، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم إذ لقيت الحسين بن عليّ 8 خارجاً من الحرم معه أسيافه وتراسه
فقلت : لمن هذا القطار؟ فقيل. للحسين بن عليّ ، فأتيته فسلّمت عليه وقلت له : أعطاك
الله سؤلك وأملك فيما تحبّ يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمّي ما أعجلك عن الحجّ؟
قال : «لو لم أعجل لأخذت » ثمّ قال لي :
«من أنت؟».
قلت : امرؤٌ من العرب ، فلا والله ما
فتّشني أكثر من ذلك ، ثمّ قال :
_________
«أخبرني عن الناس خلفك؟»
فقلت : الخبير سألت ، قلوب الناس معك
وأسيافهم عليك ، وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها ، ثمّ حرّك راحلته
وقال : «السلام عليكم » ، ثمّ افترقنا.
ولحقه عبدالله بن جعفر بكتاب عمرو بن
سعيد بن العاص والي مكة مع أخيه يحيى بن سعيد يؤمنه على نفسه ، فدفعا إليه الكتاب
وجهدابه في الرجوع فقال : «إنّي رأيت رسول الله 6
في المنام وأمرني بما أنا ماض له ».
قالا : فما تلك الرؤيا؟
فقال : «ما حدّثت بها أحداً ولا اُحدّث
أحداً حتّى ألقى ربّي عزّ وجل ».
فلمّا يئس عبدالله بن جعفر منه أمر
ابنيه عوناً ومحمداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه ، ورجع هو ويحيى بن سعيد إلى
مكّة.
وتوجّه الحسين 7 نحو العراق ، ولمّا بلغ
عبيدالله بن زياد إقبال الحسين 7
إلى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطته حتّى نزل القادسيّة ، ولمّا بلغ الحسين 7 بطن الرملة بعث عبدالله ابن يقطر ـ وهو
أخوه من الرضاعة ـ وقيل : بل بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة ، ولم يكن
علم بخبر مسلم ، وكتب معه إليهم كتاباً يخبرهم فيه بقدومه ، ويأمرهم بالانكماش في الأمر. فأخذه الحصين بن نمير وبعث
به إلى عبيدالله بن زياد ، فقال له عبيدالله بن زياد : إصعد وسبّ الكذّاب الحسين
بن عليّ.
فصعد وحمد الله وأثنى عليه وقال : أيّها
الناس ، هذا الحسين بن عليّ
_________
خير خلق الله ، ابن
فاطمة بنت رسول الله 6
، وأنا رسوله إليكم فأجيبوه ، ثمّ لعن ابن زياد ، فأمر به فرمي من فوق القصر ، فوقع
على الأرض وانكسرت عظامه ، وأتاه رجل فذبحه وقال : أردت أن اُريحه !!
فلمّا بلغ الحسين صلوات الله عليه قتل
رسوله استعبر ، ولمّا بلغ الثعلبيّة ونزل أتاه خبر قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة
فقال : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما» يردّد ذلك مراراً.
وقيل له : ننشدك الله يا ابن رسول الله
لما انصرفت من مكانك هذا ، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصرٌ ولا شيعة ، بل نتخوّف أن
يكونوا عليك ، فنظرإلى بني عقيل فقال : «ما ترون؟» فقالوا : والله لا نرجع حتّى
نصيب ثارنا أو نذوق ما ذاق. فقال الحسين 7
: «لا خير في العيش بعد هؤلاء».
ثمّ أخرج إلى الناس كتاباً فيه : «أمّا
بعد : فقد أتانا خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبدالله بن يقطر ، وقد
خذلنا شيعتنا ، فم نأحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرجِ ، فليس عليه ذمام ».
فتفرّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً
حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه ، وإنّما فعل 7 ذلك لأنّه علم أنّ الأعراب الذين
اتّبعوه يظنّون أنّه يأتي بلداً قد استقام عليه ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم
يعلمون على ما يقدمون.
ثمّ سار 7
حتّى مرّ ببطن العقبة ، فنزل فيها فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له : عمرو بن لوذان
فقال : أنشدك الله يا ابن رسول الله لمّا انصرفت ، فوالله ما تقدم إلاّ على
الأسنّة وحدّ السيوف ، وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال
ووطّؤوا لك الأسياف فقدمت عليهم كان ذلك رأياً.
فقال : «يا عبدالله ، لا يخفى عليّ
الرأي ولكنّ الله تعالى لا يغلب على
أمره » ثمّ قال 7 : «والله لا يَدَعوني حتّى يستخرجوا
هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ
فرق الاُمم ».
ثمّ سار 7
من بطن العقبة وأمر فتيانه أن يستقوا الماء ويكثروا ، ثم سار حتّى انتصف النهار ، فبينا
هو يسير إذ كبّر رجل من أصحابه فقال 7
: «الله أكبر لم كبّرت؟» قال : رأيت النخل ، فقال له جماعة من أصحابه : والله إنّ
هذا المكان ما رأينا به نخلة قطّ ، قال : «فما ترونه؟ » قالوا : نراه والله آذان
الخيل ، قال : «أنا والله أرى ذلك ».
فما كان بأسرع حتّى طلعت هوادي الخيل مع الحرّ بن يزيدالتميميّ ، فجاء
حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين 7
في حرّ الظهيرة ، وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسيّة ، يقدم الحصين بن نميرفي
ألف فارس.
فحضرت صلاة الظهر ، فصلّى الحسين 7 وصلّى الحرّ خلفه ، فلمّا سلّم أنصرف
إلى القوم وحمد الله وأثنى عليه وقال :
«أيّها الناس إنّكم إن تتّقوا الله
وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمد 6 أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء
المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلاّ الكراهة
لنا ، والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم ، وقدمت به عليّ
رسلكم انصرفت عنكم ».
فقال له الحر : أنا والله ما أدري ما
هذه الكتب التي تذكر!
فقال الحسين 7 لبعض أصحابه : «يا عقبة بن سمعان اُخرج
_________
الخرجين اللذين
فيهما كتبهم إليّ ».
فأخرج خرجين مملوءَين صحفاً فنثرت بين
يديه ، فقال له الحرّ : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد اُمرنا إذا لقيناك
أن لا نفارقك حتّى نقدم بك الكوفة على عبيدالله.
فقال له الحسين 7 : «الموت أدنى إليك من ذلك » ثمّ قال
لأصحابه : «قوموا فاركبوا» فركبوا ، فقال : «انصرفوا».
فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم
وبين الانصراف فقال الحسين 7
للحرّ : «ثكلتك اُمّك يا ابن يزيد».
قال الحرّ : أمّا لو غيرك من العرب
يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر اُمّه بالثكل ، ولكن
والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ باحسن ما نقدر عليه.
فقال الحسين 7 : «فما تريد؟»
قال : اُريد أن أنطلق بك إلى الأمير
عبيدالله.
قال : «إذاً والله لا أتّبعك ».
قال : إذاً والله لا أدعك.
وترادّا القول ، فلمّا كثر الكلام
بينهما قال الحر : إنّي لم أومر بقتالك ، إنّما اُمرت أن لا اُفارقك حتّى أقدم بك
الكوفة ، فتياسر ههنا عن طريق العذيب والقادسيّة حتّى أكتب إلى الأمير ويكتب إلى
عبيدالله لعل الله أن ياتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن اُبتلى بشيء من أمرك.
فسار الحسين 7 وسار الحرّ في أصحابه يسايره وهو يقول
له : إنّي أذكرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلن.
فقال الحسين 7 : «أفبالموت تخوّفني؟! وساقول ما قال
أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله 6
فخوّفه
ابن عمّه وقال : إنّك
مقتول فقال :
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى
|
|
ا ما نوى حقّاً وجاهدَ مسلما
|
واسى الرجالَ الصالحينَ بـــنفسهِ
|
|
ارقَ مثبوراً وودّعَ مجرما»
|
فلمّا سمع ذلك الحرّ تنحّى عنه.
قال عقبة بن سمعان : فسرنا معه ساعة
فخفق 7 هو على ظهر
فرسه خفقة ثمّ انتبه وهو يقول : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ
العالمين » ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً ، فأقبل إليه عليّ بن الحسين 8 على فرس فقال : يا أبه فيم حمدت الله
واسترجعت؟
قال : «يا بنيّ ، إنّي خفقت خفقة فعنّ
لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم ، فعلمت أنّها
أنفسنا نُعيت إلينا».
فقال له : يا أبه لا أراك الله سوءاً ، ألسنا
على الحقّ؟
قال : «بلى والذي إليه مرجع العباد».
قال : فإنّنا إذن لا نبالي أن نموت
محقّين.
فقال له الحسين 7 : «جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً
عن والده ».
فلمّا أصبح نزل فصلّى الغداة ، ثمّ عجلّ
الركوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّقهم فيأتيه الحر بن يزيد فيرّده وأصحابه ،
فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة امتنعوا عليه ، فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتّى انتهوا
إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين 7
، فإذا راكب على نجيب له ، فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ ولم يسلّم على الحسين
7 وأصحابه ، ودفع
إلى الحرّ كتاباً من عبيدالله بن زياد ، فإذا فيه : أمّا بعد : فجعجع بالحسين حين
يبلغك كتابي ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن
يلزمك ولا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام.
فأخذهم الحرّ بالنزول في ذلك المكان على
غير ماء ولا في قرية ، فقال له الحسين : «دعنا ويحك ننزل في هذه القرية أو هذه » ـ
يعني نينوى والغاضريّة ـ.
قال : لا والله لا أستطيع ذالك ، هذا
رجل قد بُعث عيناً عليّ.
فقال زهير بن القين : إنّي والله ما
أراه يكون بعد هذا الذي ترون إلاّ أشدّ ما ترون ، يا ابن رسول الله إنّ قتال هؤلاء
الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا بعدهم من لا قبل
لنا به.
فقال الحسين 7 : «ما كنت لأبدأهم بالقتال » ثمّ نزل ،
وذلك في يوم الخميس الثاني من المحرّم سنة إحدى وستين.
فلمّا كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي
وقّاص في أربعة آلاف فارس فنزل نينوى ، فبعث إلى الحسين 7 عروة بن قيس الأحمسي ، فقال له : فأته
فسله ما الذي جاء بك؟ وكان عروة ممّن كتب إلى الحسين 7
فاستحيى منه أن يأتيه ، فعرض ذلك على الرؤساء فكلّهم أبى ذلك لمكان أنّهم كاتبوه ،
فدعا عمر قرّة بن قيس الحنظليّ فبعثه ، فجاء فسلّم على الحسين 7 فبلّغه رسالة ابن سعد ، فقال الحسين 7 : «كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم ، فامّا
إذا كرهوني فأنا أنصرف عنكم ».
فلمّا سمع عمر هذه المقالة قال : أرجو
أن يعافيني الله من حربه وقتاله ، وكتب إلى عبيدالله بن زياد لعنه الله : أمّا بعد
: فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عمّا أقدمه وماذا يطلب ، فقال : كتب
إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم يسألوني القدوم فأمّا إذ كرهوني فإنّي منصرف
عنهم.
فلمّا قرأ ابن زياد الكتاب قال :
الآنَ إذْ علِقتْ مخالبنا بهِ
|
|
جو النجاةَ ولاتَ حينَ مناصِ
|
وكتب إلى عمر بن سعد : أمّا بعد : فقد
بلغني كتابك وفهمته ، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا هو
فعل ذلك رأينا رأينا والسلام.
فلما ورد الجواب قال عمر بن سعد : قد
خشيت أن لا يقبل ابن زياد العافية ، وورد كتاب ابن زياد في الأثر إليه : أن حل بين
الحسين وأصحابه وبين الماء ، فلا يذوقوا منه قطرة كما صُنع بالتقيّ الزكيّ عثمان
بن عفّان !!
فبعث ابن سعد في الوقت عمرو بن الحجّاج
في خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه أن يستقوا منه ، وذلك
قبل قتل الحسين 7
بثلاثة أيام.
ونادى عبدالله بن الحصين الأزدي لعنه
اللهّ بأعلى صوته : يا حسين ، ألا ترون إلى الماء كأنّه كبد السماء ، والله لا
تذوقون منه قطرة حتّى تموتوا عطشاً.
فقال الحسين 7 : «اللهمّ اقتله عطشاً ولا تغفر له
أبداً».
قال حميد بن مسلم : فوالله لعدته بعد
ذلك في مرضه ، فوالله الذي لاإله غيره ، لقد رأيته يشرب الماء حتّى يبغر ثمّ يقيء ويصيح : العطش العطش ، ثمّ
يعود يشرب الماء حتّى يبغر ، ثمّ يقيئه ويتلظّى عطشاً ، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ
نفسه.
ولما رأى الحسين 7 نزول العساكر مع عمر بن سعد
__________________
ومددهم لقتاله أنفذ
إلى عمر بن سعد : «أنّي اُريد لقاءك » فاجتمعا فتناجيا طويلاً.
ثمّ رجع عمر إلى مكانه وكتب إلى
عبيدالله بن زياد : أمّا بعد : فإنّ الله تعالى قد أطفأ النائرة ، وجمع الكلمة ، وأصلح
أمر الاُمّة ، هذا حسين أعطاني عهداً أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو أن يسير
إلى ثغر من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو أن ياتي
أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه ، وفي هذا لك رضا
وللاُمّة صلاح.
فلما قرأ عبيدالله الكتاب قال : هذا
كتاب ناصح مشفق على قومه.
فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال : أتقبل
هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك؟! والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك
ليكوننّ أولى بالقوّة ولتكوننّ أولى بالضعف ، فلا تعطه هذه المنزلة ، ولكن لينزل
على حكمك هو وأصحابه ، فإن عاقبت فانت أولى بالعقوبة ، وإن عفوت كان ذلك لك.
فقال ابن زياد : نعم ما رأيت ، الرأي
رأيك اُخرج بهذا الكتاب إليّ عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على
حكمي ، فإن أبوا فليقاتلهم ، فإن أبى أن يقاتلهم فانت أمير الجيش واضرب عنقه وأنفذ
إلي برأسه.
وكتب إلى عمر : إنّي لم أبعثك إلى
الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السلامة ، ولا لتعتذر له ، ولا
لتكون له عندي شافعاً ، انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم
إليّ سلماً ، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم فإنهم لذلك مستحقّون ، فإن
قتلت الحسين فاوطن الخيل صدره وظهره ، فإنّه عاق ظلوم !! ولست أرى أن هذا يضرّ بعد
الموت شيئاً ولكن على قول قد قلته : لو قد قتلته لفعلت هذا به ،
فإن أنت مضيت لأمرنا
فيه جزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أبيت فاعتزل جندنا وعملنا وخلّ بين شمر بن ذي
الجوشن وبين العسكر ، فإنّا قد أمرناه بامرنا والسلام.
فاقبل شمر بكتاب عبيدالله إلى عمر بن
سعد ، فلمّا قرأه قال له : ما لك؟ لاقرّب الله دارك ، قبّح الله ما قدمت به عليّ ،
لا يستسلم والله حسين ، إنّ نفس أبيه لبين جنبيه ، قال شمر : اخبرني ما أنت صانع ،
امض أمر أميرك وإلاّ فخلّ بيني وبين الجند ، قال : لا ، ولا كرامة لك ، ولكن أنا
أتولّى ذلك وكن أنت على الرجالة.
ونهض عمربن سعد عشيّة يوم الخميس لتسع
مضين من المحرّم ، وجاء شمر فوقف على أصحاب الحسين 7
فقال : أين بنو اُختنا؟فخرج إليه العبّاس وجعفر وعثمان بنو عليّ 7 فقالوا : ما تريد؟ قال : أنتم يا بني
اُختي آمنون ، فقالوا : لعنك الله ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له
!!
ثمّ نادى عمر بن سعد : يا خيل الله
اركبي ، فركب الناس ثم زحف نحوهم بعد العصر ، والحسين 7 جالس أمام بيته محتب بسيفه إذ خفق
برأسه على ركبتيه ، وسمعت اُخته الصيحة فدنت من أخيها فقالت : يا أخي أما تسمع
الأصوات؟ فرفع رأسه فقال : «إنّي رأيت رسول الله 6
في المنام فقال لي : إنّك تروح إلينا» فلطمت اُخته وجهها ونادت بالويل ، فقال لها
: «ليس لك الويل يا اُخيّة ، اسكتي رحمك اللهّ ».
وقال له العبّاس بن عليّ : يا أخي قد
جاءك القوم ، فنهض وقال : «يا عبّاس ، اركب ـ بنفسي أنت يا أخي ـ حتّى تلقاهم
وتقول لهم : ما لكم »؟
فاتاهم العبّاس في عشرين فارساً فيهم
زهير بن القين وحبيب بن مظاهر فقال : ما بدا لكم وما تريدون؟ قالوا : جاء أمر
الأمير أن نعرض عليكم أن
تنزلوا على حكمه أو
نناجزكم ، فانصرف العبّاس راجعاً يركض إلى الحسين 7
يخبره الخبر ، ووقف أصحابه يعظون القوم ويكفّونهم عن قتال الحسين 7 ، وجاء العبّاس وأخبره بما قال القوم ،
فقال : «ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غد وتدفعهم عنّا العشيّة فافعل ، لعلّنا
نصلّي لربنّا الليلة وندعوه ونستغفره ».
ومضى العبّاس ورجع ومعه رسول من قبل عمر
بن سعد يقول : إنّا قد أجّلناكم إلى غد وانصرف.
ــ فجمع الحسين 7 أصحابه عند قرب المساء ، قال عليّ بن
الحسين زين العابدين 8
: «فدنوت لأسمع ما يقول لهم وأنا إذ ذاك مريض فسمعت أبي 7 يقول لأصحابه :
اُثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده
على السرّاء والضرّاء ، اللهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا
القران ، وفقّهتنا في الدين .
أمّا بعد : فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى
ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي
خير الجزاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ، ليس عليكم منّي ذمام
، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً.
فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبدالله بن
جعفر : ولم نفعل ذلك ، لنبقى بعدك؟! لا أرانا اللهّ ذلك أبداً ، بدأهم بهذا القول
العبّاس بن عليّ فأتبعه الجماعة عليه وتكلّموا بمثله المحرم.
فقال الحسين 7 : يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم
فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم.
__________________
قالوا : سبحان الله فما يقول الناس؟!
يقولون : إنا تركنا شيخنا وسيّدنا وسيّد بني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم
بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب دونهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا؟! ، لا واللهّ لا
نفعل ، ولكن نفديك بانفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح
الله العيش بعدك.
وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال : أنحن
نخلّي عنك ولم نعذر إلى الله تعالى في أداء حقّك؟! لا والله حتّى أطعن في صدورهم
برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحرق
ثمّ اُحيى ، يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا
أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!
وقام زهير بن القين فقال : والله لوددت
أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ثمّ قُتلت ، وهكذا ألف مرّة ، وأنّ الله سبحانه يدفع بذلك
القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.
ثمّ تكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه
ما ذكرناه ، فجزاهم الحسين 7
خيراً وانصرف إلى مضربه ».
قال عليّ بن الحسين 8 : «إنّي لجالس في تلك العشيّة ـ وعندي
عمّتي زينب تمرّضني ـ إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جوين مولى أبي ذرّ الغفاري
وهو يعالج سيفه ـ ويصلحه ـ وأبي يقول :
يا دهرُ أفٍّ لــكَ من خليلِ
|
|
لكَ بالإشراقِ والأصيلِ
|
منْ صـاحبِ أو طالبِ قتيلِ
|
|
لدهرُ لا يقــنعُ بالبديل
|
وإنَما الأمَرُ إلى الَجــلـيلِ
|
|
لّ حيٍّ سالكٌ ســـبيلِ
|
وأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتى فهمتها
وعرفت ما أراد فخنقتني العبرة ، فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أنّ البلاء قد نزل ،
وأمّا عمّتي فإنّها سمعت
ما سمعت وهي امرأة
ومن شأن النساء الرقّة والجزع ، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّثوبها وإنّها لحاسرة
حتّى انتهت إليه فقالت : واثكلاه ، ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت اُمّي
فاطمة الزهراء وأبي عليّ وأخي الحسن ، يا خليفة الماضين وثمال الباقين ، فنظر
إليها الحسين 7
وقال : يا اُختاه لا يذهبنّ حلمك الشيطان ، وترقرقت عيناه بالدموع وقال : لو ترِك
القطا لنام ، فقالت : يا ويلتاه أتغتصب نفسك اغتصاباً ، فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على
نفسي ، ثمّ لطمت على وجهها وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشياً عليها ، فقام
إليها الحسين 7
فصبّ الماء على وجهها وقال لها : يا اُختاه اتّقي الله وتعزّي بعزاء الله ، واعلمي
أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون ، وأنّ كلّ شيء هالك إلاّ وجه اللهّ
الذي خلق الخلق بقدرته وإليه يعودون وهو فرد واحد ، وإنّ أبي خيرٌ منّي ، وأخي
خيرٌ منّي ، ولكلّ مسلم برسول اللهّ اُسوة ، فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : يا
اُختاه ، إني أقسمت عليك فأبرّي قسمي ، لاتشقّي عليّ جيباً ، ولا تخمشي عليّ وجهاً
، ولاتدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت ، ثمّ جاء بها وأجلسها عندي.
ثمّ خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرّب
بعضهم بيوتهم من بعض ، وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا بين البيوت
فيستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت
بهم إلاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم.
ورجع إلى مكانه فقام الليل كلّه يصلّي
ويستغفر ويدعو ، وقام أصحابه كذلك يدعون ويصلّون ويسغفرون ».
وأصبح 7
فعبأ أصحابه بعد صلاة الغداة ، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً ، فجعل
زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه ، وأعطى رايته
العبّاس أخاه ، وجعلوا
البيوت في ظهورهم ، وأمر
بحطب وقصب كان من وراء البيوت أن يترك في خندق كان هناك قد حفر وأن يحرق بالنار
مخافة أن ياتوهم من ورائهم.
وأصبح عمربن سعد في ذلك اليوم ، وهو يوم الجمعة ـ وقيل
: يوم
السبت ـ فعبأ أصحابه ، فجعل على ميمنته عمرو بن الحجّاج ، وعلى ميسرته شمر بن ذي
الجوشن ، وعلى الخيل عروة بن قيس ، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي. ونادى شمر ـ لعنه
الله ـ باعلى صوته : يا حسين ، تعجّلت النار قبل يوم القيامة ، فقال الحسين 7 : «يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها
صليّاً» ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين 7 من ذلك ، فقال له : دعني حتّى أرميه ، فإنّ
الفاسق من عظماء الجبّارين وقد أمكن الله منه ، فقال 7
: « أكره أن أبدأهم ».
ثمّ دعا الحسين 7 براحلته فركبها ونادى بأعلى صوته ـ
وكلّهم يسمعون ـ فقال : «أيّها الناس إسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ
عليّ لكم وحتّى أعذر إليكم فإنّ أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد وإن لم تعطوني
النصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليّ ولا
تنظرون ، إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين ».
ثمّ حمد الله وأثنى عليه وصلّى على
النبيّ عليه وآله السلام فلم يسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه ، ثمّ
قال : «أمّا بعد : فانسبوني وانظروا من أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها
فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن
عمّه وأوّل المؤمنين المصدّقين لرسول الله 6
بماجاء به من عند ربّه؟أو َليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوَ ليس جعفر الطيّار
في الجنة بجناحين عمّي؟ أو َلم يبلغكم ما قال رسول اللهّ 6 لي ولأخي :
هذان سيّدا شباب أهل
الجنّة؟ فإن صدقتموني بما أقول ـ وهو الحق ـ فوالله ما تعمّدت كذباً منذ علمت أنّ
الله تعالى يمقت عليه [أهله] ، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إذا سألتموه عن ذلك
أخبركم ، سلوا جابر بن عبدالله الأنصاريّ ، وأبا سعيد الخدريّ ، وسهل بن سعد
الساعديّ ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول
الله 6 لي ولأخي ، أما
في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟».
فقال له شمر لعنه الله : هو يعبد الله
على حرف إن كان يدري ما يقول ، فقال له حبيب بن مظاهر : واللهّ إنّي لأراك تعبد
الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على
قلبك.
ثمّ قال لهم الحسين 7 : «فإن كنتم في شكّ من هذا أفتشكّون
أنّي ابن بنت نبيّكم؟! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا
في غيركم ، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أومال لكم استهلكته ، أو بقصاص
جراحة؟! »فأخذوا لا يكلّمونه.
فنادى 7
: «يا شبث بن ربعي ، يا حجّار بن أبجر ، يا قيس ابن الأشعث ، يا يزيد بن الحارث ، ألم
تكتبوا إليّ : أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب وإنّما تقدم على جند لك مجنّد؟».
فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما
تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لم يريدوا بك إلاّ ما تحبّ.
فقال الحسين 7 : «لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء
الذليل ولا أفرّ فرار العبيد ، ثمّ نادى : يا عباد الله (إنّي عُذتُ
بِربّي وَرَبِّكم أنْ تَرجُمُونِ) أعوذ (برّبي وربكمُ مِنْ
كُلِّ مُتَكَبّرٍ لايُؤمِنُ بيَومِ الحِسإِب)
__________________
ثمّ إنّه أناخ راحلته وأمر عقبة بن
سمعان فعقلها ، وأقبلوا يزحفون نحوه.
فلمّا رأى الحرّ بن يزيد أنّ القوم قد صمّموا
على قتال الحسين 3
قال : لعمر بن سعد : اي عمر ، أتقاتل الحسين؟! قال : إي والله قتالاً أيسره أن
تسقط فيه الرؤوس وتطيح فيه الأيدي ، قال : أفما لكم فيما عرضه عليكم رضىً؟ قال : لو
كان الأمر إليّ لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى.
فاقبل الحرّ ومعه رجل من قومه يقال له :
قرّة بن قيس فقال له : يا قرّة هل سقيت فرسك اليوم؟ قال : لا. قال قرّة : فظننت
أنّه يريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال ، ولو أنّه اطلعني على الذي يريد لخرجت معه
إلى الحسين 7 ، فاخذ يدنو
من الحسين 7 قليلاً
قليلاً فقال له رجلٌ : ماهذا الذي أرى منك؟ فقال : إني والله أخيّر نفسي بين
الجنّة والنار ، فوالله ماأختارعلى الجنّة شيئاً ولو قُطعتُ وحُرّقتُ ، ثمّ ضرب
فرسه فلحق بالحسين 7
فقال له : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي جعجعت بك في هذا المكان ، وما
ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم ولا يبلغون منك هذه المنزلة ، والله لو
علمت أنّ القوم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت ، وإنّي تائب إلى الله
تعالى ممّا صنعت ، فترى لي من ذلك توبة؟
فقال الحسين 7 : «نعم يتوب الله عليك فانزل » قال : فانا
لك فارساً خيرٌ منّي راجلاً ، اُقاتلهم لك على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر
أمري ، فقال له الحسين 7
: «فاصنع ـ يرحمك الله ـ مابدا لك ».
فاستقدم أمام الحسين 7 فقال : يا أهل الكوفة لاُمّكم الهبل
والعبر ، دعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا أتاكم أسلمتموه ، وزعمتم أنّكم
قاتلوا أنفسكم دونه ،
ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه ، أخذتم بكظمه
، وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه إلى بلاد الله العريضة ، فصار كالأسير في
أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ، ولايدفع عنها ضرّاً ، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات
الجاري يشربه اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هم قد
صرعهم العطش ، بئس ما خلّفتم محمّداً في ذرّيّته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ. فحمل
عليه رجال يرمونه بالنبل ، فأقبل حتّى وقف أمام الحسين 7.
ورمى عمر بن سعد بسهم وقال : اشهدوا
أنّي أوّل من رمى ، ثمّ ارتمى الناس وتبارزوا ، فبرز يسار مولى زياد بن أبيه ، فبرز
إليه عبدالله بن عمير فضربه بسيفه فقتله ، فشدّ عليه سالم مولى عبيدالله بن زياد
فصاحوا به : قد رهقك العبد ، فلم يشعر حتّى غشيه فبدره بضربة اتّقاها ابن عمير
بيده اليسرى فأطارت أصابع كفّه ، ثمّ شدّ عليه فضربه حتّى قتله ، وأقبل وقد قتلهما
وهو يرتجز ويقول :
إنْ تَنكروني فأنا ابنُ الكلب
|
|
ّي امرؤٌ ذو مرة وَعضب
|
ولستُ بالَخوّار عندَ النكب
وحمل عمرو بن الحجّاج على ميمنة أصحَاب
الحسين 7 بمن كان معه
من أهل الكوفة ، فلمّا دنا من الحسين 7
جثوا له على الركب واشرعوا الرماح نحوهم فلم تقدم خيلهم على الرماح ، فذهبت الخيل
لترجع فرشقهم أصحاب الحسين 7
بالنبل فصرعوا منهم رجالاً وجرحوا آخرين.
__________________
وجاء رجل من بني تميم يقال له : عبدالله
بن حوزة إلى عسكر الحسين 7
فناداه القوم : إلى أين ثكلتك اُمّك؟ فقال : إنّي أقدم على ربّ كريم وشفيع مطاع ، فقال
الحسين 7 لأصحابه : «
من هذا؟ » فقيل : ابن حوزة ، فقال : «اللهم حزه إلى النار» فاضطربت به فرسه فيجدول
فوقع وتعلّقت رجله اليسرى في الركاب وارتفعت اليمنى ، وشدّ عليه مسلم بن عوسجة
فضرب رجله اليمنى فطارت ، وعدا به فرسه فضرب رأسه كلّ حجر وكلّ شجر حتى مات وعجّل
الله بروحه إلى النار.
ونشب القتال ، فقتل من الجميع جماعة ، وحمل
الحرّ بن يزيد على أصحاب عمر بن سعد وهو يتمثّل بقول عنترة :
مازلتُ أرميهم بغُرّةِ وجههِ
|
|
بانِهِ حتّى تسربلَ بالدم
|
فبرزإليه رجل من بني الحارث فقتله
الحرّ.
وبرز نافع بن هلال وهو يقول :
أنا ابنُ هلالِ البجلي
|
|
ا على دينِ علي
|
فبرز إليه مزاحم بن حريث وهو يقول : أنا
على دين عثمان ، فقال له نافع : أنت على دين الشيطان ، وحمل عليه فقتله.
فصاح عمر بن الحجّاج بالناس : يا حمقى ،
أتدرون من تبارزون ومن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر ، تقاتلون قوماً مستميتين
، لا يبرز إليهم منكم أحدٌ فإنّهم قليل وقلّما يبقون ، واللهّ لو لم ترموهم إلاّ
بالحجارة لقتلتموهم ، فقال عمر بن سعد : صدقت الرأي ما رأيت ، فأرسل في الناس
واعرض عليهم أن لا يبارز رجل منكم رجلاً منهم.
ثمّ حمل عمرو بن الحجّاج في أصحابه على
أصحاب الحسين عليه
__________________
السلام من نحو
الفرات ، واضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسديَ ; وانصرف عمرو بن الحجّاج وأصحابه ، وانقطعت
الغبرة فوجدوا مسلماً صريعاً ، فسعى إليه الحسين 7
فإذا به رمق فقال له : «رحمك الله يا مسلم مِنهُم مَن قَضى نحبَة (وَمنهُم
مَن يَنتَظِرُ وَما بَدّلوا تَبدِيلا).
وحمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة على
أهل الميسرة ، وحمل على الحسين 7
وأصحابه من كلّ جانب ، وقاتلهم أصحاب الحسين 7
قتالاً شديداً ، وأخذت خيلهم تحمل ـ وإنّما هي اثنان وثلاثون فارساً ـ فلا تحمل
على جانب من خيل الكوفة إلاّ كشفته.
فلما رأى ذلك عروة بن قيس ـ وهو على خيل
الكوفة ـ بعث إلى عمر ابن سعد : أما ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه العدّة
اليسيرة ، فابعث إليهم الرجال الرماة ، فبعث إليهم بالرماة ، فعقر بالحرّ بن يزيد
فرسه فنزل عنه وهو يقول :
إن تَعقروا بي فآنا ابنُ الحُرّ
|
|
أشجَعُ مِن ذِي لِبَدٍ هِزبَرِ
|
فجعل يضربهم بسيفه ، وتكاثروا عليه حتّى
قتلوه.
وقاتل أصحاب الحسين 7 أشدّ قتال ، حتّى أنتصف النهار فلمّا
رأى الحصين بن نمير ـ وكأن على الرماة ـ صبر أصحاب الحسين 7 تقدّم إلى أصحابه ـ وكانوا خمسمائة
نابل ـ : أن يرشقوا أصحاب الحسين 7
بالنبل فرشقوهم ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وجرحوا الرجال حتى ارجلوهم ، واشتدّ
القتال بينهم ساعة.
وجاءهم شمر بن ذي الجوشن لعنه الله في
اصحابه ، فحمل عليهم
__________________
زهير بن القين في
عشرة رجال وكشفوهم عن البيوت ، وعطف عليهم شمر فقتل من القوم وردّ الباقين إلى
مواضعهم ، وكان القتل يبين في أصحاب الحسين 7
لقلّة عددهم ولا يبين في أصحاب عمر بن سعد لكثرتهم.
واشتدّ القتال ، وكثر القتل في أصحاب
أبي عبدالله 7 إلى أن زالت
الشمس فصلّى الحسين 7
بأصحابه صلاة الخوف.
وتقدم حنظلة بن سعد الشامي بين يدي
الحسين 7 فنادى أهل
الكوفة : يا قوم إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ، يا قوم إنّي أخاف عليكم يوم
التناد ، يا قوم لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم الله بعذاب وقد خاب من افترى ، ثمّ
تقدّم فقاتل حتّى قتل ـ ;
ـ.
وتقدم بعده شوذب مولى شاكر فقال : السلام
عليك يا أبا عبدالله ورحمة الله وبركاته ، أستودعك الله ، ثمّ قاتل حتّى قتل ، ولم
يزل يتقدّم رجلٌ بعد رجل من أصحابه فيقتل حتّى لم يبق مع الحسين 7 إلاّ أهل بيته خاصّة.
فتقدم ابنه عليّ بن الحسين 8 وكان من أصبح الناس وجهاً وله يومئذ
بضع عشرة سنة ، فشدّ على الناس وهو يقول :
أنا عليّ بنُ الحسينِ بنِ عليّ
|
|
نحن وبيتِ اللهِ أولى بالنَّبيّ
|
تاللهِ لا يحكم فِينا ابنُ الدعي
ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتّقون
قتله ، فبصر به مُرّة بن منقذ العبد يلعنه الله ، فطعنه فصرعه ، واحتواه القوم
فقطّعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين 7
حتّى وقف عليه فقال : «قتل اللهّ قوماً قتلوك يا بُنيّ ، ما أجرأهم على اللهّ وعلى
انتهاك حرمة الرسول 6
» وانهملت عيناه بالدّموع ، ثم قال : «على الدنيا بعدك العفاء» ، وخرجت زينب اُخت
الحسين مسرعة تنادي
: يا اُخيّاه وابن اُخيّاه ، وجاءت حتّى أكبّت عليه ، وأخذ الحسين 7 برأسها فردها إلى الفسطاط الذي كانوا
يقاتلون أمامه.
ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يقال
له : عمرو بن صبيح عبدالله بن مسلم بن عقيل بسهم ، فوضع عبدالله يده على جبهته
يتقيه فاصاب السهم كفّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها بها فلم يستطيع تحريكاً ، ثمّ
انتحى عليه اخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله.
وحمل عبدالله بن قطبة الطائي على عون بن
عبدالله بن جعفر بن أبي طالب 7
فقتله.
وحمل عامر بن نهشل التيمي على محمّد بن
عبداللهّ بن جعفر بن أبي طالب 7
فقتله.
قال حميد بن مسلم : فأنا كذلك إذ خرج
علينا غلام كأنّ وجهه فلقة قمر ، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع
شسعع إحداهما ، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ : والله لأشدّنّ عليه ، فقلت
: سبحان الله ، وماذا تريد منه؟! دعه يكفيكه هؤلاء القوم ، فشد عليه فقتله ، ووقع
الغلام لوجهه فقال : يا عمّاه ، فجلى
الحسين 7 كما يجلي
الصقر ، ثمّ شدّ شدّة ليث أغضب ، فضرب عمر بن سعيد بالسيف فاتّقاها بالساعد
فأطنّها
من لدن المرفق ، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر ثمّ تنحّى عنه الحسين وحملت خيل أهل
الكوفة ليستنفذوه فتوطّأته بأرجلها حتّى مات لعنه الله ، وانجلت الغبرة فرأيت
الحسين 7 قائماً على
رأس الغلام وهو يفحص برجليه والحسين 7
يقول : «بعداً لقوم قتلوك
__________________
ومن خصمهم يوم
القيامة فيك جدّك» ثمّ قال : «عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك
فلا ينفعك ، صوت ـ والله ـ كثر واتره وقلّ ناصره» ثمّ حمله على صدره ، فكأنّي أنظر
إلى رجلي الغلام يخطّان الأرض ، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليّ بن الحسين
والقتلى من أهل بيته ، فسألت عنه فقيل : هو القّاسم بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب :.
ثمّ جلس الحسين 7 أمام الفسطاط ، فأُتي بابنه عبداللهّ
بن الحسين وهو طفلٌ فأجلسه في حجره ، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه ، فتلقّى
الحسين من دمه ملء كفّه وصبّه في الأرض ثمّ قال : «ربّ إن تكن حبست عنّا النصر من
السماء ، فاجعل ذلك لما هو خير ، وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين » ، ثمّ حوّله حتّى
وضعه مع قتلى أهله.
ورمى عبدالله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن
الحسن بن عليّ بن أبي طالب 8
فقتله.
فلما رأى العبّاس بن عليّ كثرة القتلى
في أهله قال لإخوته من أمّه ـ وهم عبداللهّ وجعفر وعثمان ـ : يا بني اُمّي تقدّموا
حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله ، وإنّه لا ولد لكم ، فتقدّم عبداللهّ فقاتل
قتالاًَ شديداً فاختلف هو وهانئ بن ثبيت الحضرمي ضربتين فقتله هانئ ، وتقدّم بعده
جعفر بن عليّ 7
فقتله أيضاً هانئ ، وتعمّد خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن عليّ ـ وقد قام مقام
إخوته ـ فرماه فصرعه ، وشدّ عليه رجل من بني دارم فاحتزّ رأسه.
وحملت الجماعة على الحسين 7 فغلبوه على عسكره ، واشتدّ به العطش
فركب المسنّاة يريد الفرات وبين يده أخوه العبّاس ، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم
رجلٌ من بني دارم ، فقال لهم : ويلكم حولوا بينه وبين ماءِ الفرات ولا تمكنوه من
الماء ، فقال الحسين 7
:
«اللهم اظمأه » فغضب
الدارمي فرماه بسهم فاثبته في حنكه
، فانتزع الحسين 7
السهم وبسط يده تحت حنكه
فامتلأت راحتاه بالدم فرماه ثمّ قال : «اللهم إنّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت
نبّيك 6 ».
ثمّ رجع إلى مكانه واشتدّ به العطش ، وأحاط
القوم بالعبّاس فاقتطعوه عنه ، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتل ;.
ولمّا رجع الحسين 7 من المسنّاة تقدّم إليه شمر بن ذي
الجوشن لعنه الله في جماعة من أصحابه ، وضربه رجل يقال له : مالك الكنديّ على رأسه
بالسيف ، وكان عليه قلنسوة فقطعها حتّى وصل إلى رأسة فادماه وامتلأت القلنسوة دماً
، فقال له الحسين 7
: «لا أكلت بيمينك ، ولا شربت بها ، وحشرك الله مع الظالمين » ثمّ ألقى القلنسوة
ودعا بخرقة فشدّ بها رأسه ، واستدعى قلنسوة اُخرى فلبسها واعتمَ عليها ، ورجع عنه
شمر ومن كان معه إلى مواضعهم ، مكث هنيهة ثمّ عاد وعادوا إليه وأحاطوا به ، فخرج
إليه عبدالله بن الحسن ـ وهو غلامٌ لم يراهق ـ من عند النساء يشتد حتّى وقف إلى
جنب الحسين 7 فلحقته زينب
بنت علي 7 لتحبسه فقال
لها الحسين 7 : «احبسيه
يا أختي » فابى وامتنع عليها إمتناعاً شديداً وقال : والله لا اُفارق عمّي ، فأهوى
ابجر بن كعب إلى الحسين بالسيف فقال له الغلام : ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمّي؟
فضربه ابجر بالسيف فاتّقاها الغلام بيده فاطنّها إلى الجلدة فإذا يده معلّقة ، فنادى
الغلام : يا اُمّاه ، فأخذه الحسين 7
فضمّه إلى صدره وقال
__________________
له : «يا بنيّ اصبر
على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير ، فإنَ الله يلحقك بآبائك الصالحين ».
ثم رفع الحسين 7 يده وقال : «اللهم إن متّعتهم إلى حين
ففرّقهم فرقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترض الولاة عنهم أبداً ، فإنّهم دعونا
لينصرونا ثمّ عدوا علينا فقتلونا».
وحملت الرجّالة يميناً وشمالاً على من
كان بقي معه ، فقتلوهم حتّى لم يبق معه إلاّ ثلاثة نفر أو أربعة ، فلمّا رأى
الحسين 7 ذلك دعا
بسراويل
يلمع فيها البصر ففزرها
ثمّ لبسها ، وإنّما فزرها لكي لا يسلب بعد قتله ، فلمّا قتل 7 عمد أبجر بن كعب ـ لعنه الله ـ إليه
فسلبه السراويل وتركه مجرّداً ، فكانت يدا أبجر بن كعب بعد ذلك تتيبّسان في الصيف
كأنّهما عودان ، وتترطّبان في الشتاء فتنضحان دماً وقيحاً إلى أن أهلكه الله.
ولما لم يبق معه إلاّ ثلاثة رهط من أهله
أقبل على القوم يدفعهم عن نفسه وعن الثلاثة والثلاثة يحمونه ، حتّى قتل الثلاثة
وأثخن بالجراح في رأسه وبدنه ، وجعل يضاربهم بسيفه وهم يتفرّقون عنه يميناً
وشمالاً.
قال حميد بن مسلم : فوالله ما رأيت
مكثوراً قطَ قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه ، إن
كانت الرجالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فيكشفهم عن يمينه وشماله انكشاف المعزى
إذا اشتدّ عليها الذئب.
فلمّا رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن أمر
الرماة أن يرموه ، فرشقوه
__________________
بالسهام حتّى صار
كالقنفذ ، فأحجم عنهم ، فوقفوا بإزائه ، ونادى شمر : ويحكم ما تنتظرون بالرجل
ثكلتكم اُمّهاتكم.
ـ فحُمل عليه من كلّ جانب ، فضرِبه زرعة
بن شريك على كتفه اليسرى ، وطعنه سنان بن أنس بالرّمح فصرعه ، ونزل إليه خولي بن
يزيد الأصبحي لعنه الله ليحز رأسه فاُرعد ، فقال له شمر : فتّ الله في عضدك ، ما لك ترعد؟
ونزل إليه شمر لعنه الله فذبحه ثمّ دفع
رأسه إلى خولي بن يزيد الأصبحي ، فقال له : إحمله إلى الأمير عمر بن سعد.
ثمّ أقبلوا على سلب الحسين 7
، فأخذ قميصه إسحاق بن حيوة الحضرمي ، وأخذ سراويله أبجر بن كعب ، وأخذ عمامته
أخنس بن مرثد ، وأخذ سيفه رجلٌ من بني دارم. وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا
نساءه.
قال حميد بن مسلم : فوالله لقد كنت أرى
المرأة من نسائه وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها حتّى تُغلب عليه فيذهب به
منها.
قال : ثمّ انتهينا إلى عليّ بن الحسين 7 وهو منبسط على فراشه مريض ، ومع شمر
جماعة من الرجّالة ، فقالوا : ألا نقتل هذا العليل ، فقلت : سبحان الله أتقتل
الصبيان ! إنما هذا صبيّ ، وإنّه لما به ، فلم أزل بهم حتَى دفعتهم عنه.
وجاء عمر بن سعد فصاح النساء في وجهه
وبكين فقال لأصحابه : لايدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النساء ، ولا تتعرّضوا لهذا
الغلام المريض ، فسألته النسوة أن يسترجع ما أخذ منهنّ ليستترن به ، فقال : من أخذ
من
____________
متاعهنّ شيئاً
فليردّه ، فوالله ما ردّ أحدٌ منهم شيئأ ، فوكّل بالفسطاط وبيوت النساء وعليّ بن
الحسين 8 جماعة ممّن
كانوا معه ، فقال : احفظوهم.
ثمّ عاد إلى مضربه ونادى في عسكره : من
ينتدب للحسين فيوطئه فرسه؟ فانتدب عشرة ، منهم : إسحاق بن حيوة ، وأخنس بن مرثد ، فداسوا
الحسين 7 بخيولهم
حتّى رضّوا ظهره لعنهم الله.
وسرح عمر بن سعد لعنه الله برأس الحسين 7 من يومه ـ وهو يوم عاشوراء ـ مع خولي
بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيدالله بن زياد لعنه الله ، وأمر
برؤوس الباقين فقطعت وكانت إثنين وسبعين رأساً ، فسرّح بها مع شمر بن ذي الجوشن
وقيس بن الأشعث وعمرو ابن الحجاج لعنهم الله ، فاقبلوا حتّى قدموا بها على ابن
زياد لعنه الله ، وأقامه وبقيّة يومه واليوم الثّاني إلى الزوال ، ثمّ نادى في
الناس بالرحيل ، وتوجّه نحو الكوفة ومعه بنات الحسين 7
وأخواته ومن كان معه من النساء والصبيان ، وعليّ بن الحسين 7 فيهم وهو مريض بالذّرَب وقد أشفى.
فلما رحل إبن سعد خرج قوم من بني أسد ـ
كانوا نزولاً بالغاضريّة ـ إلى الحسين 7
وأصحابه ، فصلّوا عليهم ، ودفنوا الحسين 7
حيث قبره الآن ، ودفنوا ابنه عليّ بن الحسين الأصغر عند رجليه ، وحفروا للشهداء من
أهل بيته وأصحابه الذين صُرعوا حوله حفيرة ممّا يلي رجله
__________________
وجمعوهم فدفنوهم
جميعاً معاً ودفنوا العبّاس بن عليَ في موضعه الذي قتلفيه على طريق الغاضريّة حيث
قبره الأن.
فلما وصل رأس الحسين 7 ووصل ابن سعد من غد يوم وصوله جلس ابن زياد
في قصر الإمارة وأذن للناس إذناً عاماً ، وأمر بإحضار الرأس فوضع بين يديه فجعل
ينظر إليه ويتبسّم وبيده قضيب يضرب به ثناياه ، وكان إِلى جانبه زيد بن أرقم صاحب
رسول الله 6 ـ وهو شيخ
كبيرٌ ـ فقال : إرفع قضيبك عن هاتين الشفتين ، فوالله الذي لا إله غيره لقد رأيت
شفتي رسول الله 6
ما لا اُحصيه تترشفهما. ثمّ انتحب باكياً ، فقال له ابن زياد : أبكى الله عينك ، أتبكي
لفتح الله ، والله لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. فنهض زيد بن أرقم
وصار إلى منزله.
واُدخل عيال الحسين 7 على ابن زياد ، فدخلت زينب اُخت الحسين
في جملتهم متنكّرة وعليها أرذل ثيابها ، فمضت حتى جلست ناحية من القصر وحفّ بها
إماؤها ، فقال ابن زياد : من هذه التي انحازت ومعها نساؤها؟ فلم تجبه زينب ، فأعاد
ثانية وثالثة فقال له بعض إمائها : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله 6 ، فاقبل عليها ابن زياد لعنه الله وقال
: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب اُحدوثتكم.
فقالت زينب : الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيّه
محمد 6 ، وطهّرنا
من الرجس تطهيراً ، إنّما يفتضح الفاسق ، ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا.
فقال ابن زياد : كيف رأيت فعل الله باهل
بيتك؟
قالت : كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى
مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتختصمون عنده.
فغضب ابن زياد واستشاط ، فقال عمرو بن
حريث : إنّها امرأة ، والمرأةلاتؤاخذ بشيء من منطقها.
فقال لها ابن زياد : قد شفى الله نفسي
من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك.
فرقّت زينب وبكت ، وقالت : لعمري لقد
قتلت كهلي ، وأبرت أهلي ، واجتثثت أصلي ، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت.
فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ، ولعمري
لقد كان أبوها سجّاعاً.
فقالت : ما للمرأة والسجاعة ، إنّ لي عن
السجاعة لشغلاً ، ولكن صدري نفث بما قلت.
وعرض عليه عليّ بن الحسين 8 فقال له : من أنت؟
قاك : «أنا عليّ بن الحسين ».
قال : أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟
فقال : «كان لي أخِّ يسمّى عليّاً ، فقتله
الناس ».
قال ابن زياد : بل الله قتله.
فقال عليّ بن الحسين 8 : « (اللهً يَتَوفّى
الأنفُسَ حينَ مَوِتها).
فغضب ابن زياد وقال : بك جرأة لجوابي ، وفيك
بقيّة للردّ عليّ ، إذهبوا به فاضربوا عنقه.
فتعلَقت به زينب عمّته وقالت : يا ابن
زياد ، حسبك من دمائنا ، واعتنقته وقالت : والله لا أفارقه ، فإن قتلته فاقتلني
معه.
فنظر ابن زياد إليها ساعة وقال : عجباً
للرحم ، والله اني لأظنّها ودت
__________________
أنّي قتلتها معه ، دعوه
فإنّي أراه لما به مشغول ، ثمّ قام من مجلسه.
ولما أصبح ابن زياد لعنه الله بعث برأس
الحسين 7 فدير به في
سكك الكوفة وقبائلها.
فروي عن زيد بن أرقم أنّه قال : مرّ به
عليّ وهو على رمح وأنا في غرفة لي فلمّا حاذاني سمعته يقرأ : (اَمْ
حَسِبْتَ اَنَ اَصحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقيمِ كانوا مِنْ اياتِنا عَجَباً) وقف والله شعري وناديت : رأسك والله يا
ابن رسول الله أعجب وأعجب.
ولما فرغ القوم من التطواف به ردّوه إلى باب القصر
فدفعه ابن زياد إلى
زحر بن قيس ودفع إليه رؤوس أصحابه وسرّحه إلى يزيد بن معاوية وأنفذ معه جماعة من
أهل الكوفة حتّى وردوا بها إلى يزيد بن معاويةبدمشق ، فقال يزيد : قد كنت اقنع
وأرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين أما لو أنّي صاحبه لعفوت عنه.
ثم إنّ عبيدالله بن زياد بعد إنفاذه
برأس الحسين أمر بنسائه وصبيانه فجهّزوا وأمر بعليّ بن الحسين 7 فغلّ بغلّ إلى عنقه ثمّ سرّح به فيأثر
الرأس مع مجفر بن ثعلبة العائذيّ وشمر بن ذي الجوشن لعنهما الله فانطلقا بهم حتّى
لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس ولم يكن عليّ بن الحسين 7 يكلّم أحداً من القوم في الطريق كلمة
حتّى بلغوا باب يزيد فرفع مجفر بن ثعلبة صوته فقال : هذا مجفر بن ثعلبة أتى أمير
المؤمنين باللئام الفجرة ، فأجابه عليّ بن الحسين 7
: «ما ولدت أمّ مجفر أشر وألأَم ».
ولمّا وضعت الرؤوس بين يدي يزيد وفيها
رأس الحسين 7 قال يزيد :
نفلّقُ هاماً مِن رجالٍ أعِزة
|
|
عَلينا وَهُم كانُوا أعَقّ وأظلما
|
فقال يحيى بن الحكم ـ أخو مروان بن
الحكم ـ وكان جالساً مع يزيد :
لَهامٌ بـأدنى الطَفّ أدنى قَرابة
|
|
من ابنِ زياد العبدِي ذي الحَسَب
الرَّذلِ
|
أميّةُ أمسى نسلها عددَ الحَصى
|
|
وبــنتُ رســولِ اللهِ لَيسَ لها نسلُ
|
فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم وقال : اُسكت.
ثمَ قال لعليّ بن الحسين 8 : يا ابن حسينٍ أبوك قطع رحمي ، وجهل
حقّي ، ونازعني سلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت.
فقال عليّ بن الحسين 8 : (ما أَصابَ مِن
مّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلأ فِي أَنفُسِكم إلاّ في كتاب من قبل أَن نَّبرَأَها إِنّ
ذلِكَ عَلَى الله يسير).ً
فقال يزيد لابنه خالد : اردد عليه ، فلم
يدر خالد ما يردّ عليه ، فقال له يزيد : قل : (ما أَصابَكُم مِن
مُصِيبَةٍ فَبما كَسَبَت أَيدِيكُم ويَعفو عَن كَثيرٍ ).
ثمّ دعا بالنساء والصبيان فأجلسوا بين
يديه فرأى هيئة قبيحة فقال : قبّح الله ابن مرجانة ، لوكانت بينكم وبينه قرابة
ورحم ما فعل هذا بكم ولا بعث بكم على هذا.
قالت فاطمة بنت الحسين 8 : فلمّا جلسنا بين يدي يزيد رقّ لنا ، فقام
رجل من أهل الشام أحمر فقال : يا أمير المؤمنين هب لي هذه
__________________
الجارية ـ يعنيني ـ
وكنت جارية وضيئة ، فاٌرعدت وظننت أنّ ذلك جائز لهم فاخذت بثياب عمّتي زينب وكانت
تعلم أنّ ذلك لا يكون ، فقالت عمّتي للشامي : كذبت والله ولؤمت ، ما ذلك لك ولا له.
فغضب يزيد وقال : كذبتِ ، إنّ ذلك لي
ولو شئت لفعلت.
قالت : كلاّ والله ما جعل الله ذلك لك
إلاّ أن تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها.
فاستطار يزيد غضباً وقال : إياي
تستقبلين بهذا ، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.
قالت زينب : بدين الله ودين أبي وأخي
اهتديت أنت وجدّك وأبوك إن كنت مسلماً.
قال : كذبتِ يا عدوّة الله.
قالت له : أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر
بسلطانك.
فكأنّه استحيا وسكت ، فعاد الشامي فقال
: هب لي هذه الجارية ، فقال له يزيد : اعزب ، وهب الله لك حتفاً قاضياً.
ثم امر بالنسوة أن ينزلن في دار على حدة
معهنّ عليّ بن الحسين زين العابدين 8
، فافرد لهم داراً تتّصل بدار يزيد ، فاقاموا أيّاماً ، ثمّ ندب يزيد النعمان بن
بشير وقال له : تجهّز لتخرج بهؤلاء النسوة إلى المدينة ، ولمّا أراد أن يجهّزهم
دعا عليّ بن الحسين 7
فاستخلاه؟ قال له : لعن الله ابن مرجانة ، أم والله لو أنّي صاحب أبيك ما سألني
خصلة إلاّ أعطيته ايّاها ، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ، ولكن الله قض بما
رأيت ،
__________________
كاتبني من المدينة
وأنه كلَ حاجة تكون لك. وتقدّم بكسوته وكسوة أهله ، وأنفذ معهم في جملة النعمان بن
بشير رسولاً تقدّم إليه أن يسير بهم في الليل ويكونوا أمامه حيث لا يفوتون طرفة
عين ، فإذا نزلوا تنحّى عنهم وتفرّق هو وأصحابه حولهمِ كهيئة الحرس لهم ، وينزل
منهم حيث لو أراد إنسان من جماعتهم وضوءاًَ أو قضاء حاجة لم يحتشم ، فسار معهم في
جملة النعمان ابن بشير ، فلم يزل يرفق بهم في الطريق حتى وصلوا إلى المدينة
فجميع من قتل مع الحسين 7
من أهل بيته بطفّ كربلاء ثمانية عشر نفساً ، هو صلوات الله عليه تاسع عشرهم ، منهم
: العبّاس ، وعبدالله ، وجعفر ، وعثمان بنو أمير المؤمنين 7 ، أمّهم اُمّ البنين.
وعبيدالله ، وأبو بكر ابنا أمير
المؤمنين 7 ، اُمّهما
ليلى بنت مسعود الثقفيّة.
وعليّ ، وعبدالله ابنا الحسين 7.
والقاسم ، وعبدالله ، وأبو بكر بنو
الحسن بن عليّ 8.
ومحمّد ، وعون ابنا عبدالله بن جعفر بن
أبي طالب.
وعبدالله ، وجعفر ، وعقيل ، وعبدالرحمن بنو عقيل بن أبي طالب.
__________________
ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب.
وهم كلّهم قد دفنوا ممّا يلي رجلي
الحسين 7 حفر لهم
حفيرة واُلقوا جميعاً فيها وسوّي عليهم التراب إلاّ العبّاس بن عليّ بن أبي طالب
فإنّ قبره ظاهر.
وقال الشيخ المفيد أبو عبدالله ـ قدّس
الله روحه ـ : فأمّا أصحاب الحسين 7
فإنّهم مدفونون حوله ، ولسنا نحصل لهم أجداثاً على التحقيق ، إلاّ أنّنا لا نشكّ
أنّ الحائر محيط بهم .
وذكر ـ السيد الأجلّ المرتضى ـ قدّس
الله روحه ـ في بعض مسائله : أنّ رأس الحسين بن عليّ 8
ردّ إلى بدنه بكربلاء من الشام وضمّ إليه .
والله أعلم.
__________________
(الفصل الخامس )
في ذكر عدد أولاد الحسين عليهم السلام
كان له 7
ستّة أولاد : علي بن الحسين الأكبر زين العابدين 8
، اُمّه شاه زنان بنت كسرى يزدجرد بن شهريار.
وعلي الأصغر ، قُتل مع أبيه ، اُمّه
ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفيّة ، والناس يغلطون ويقولون : إنه علي
الأكبر.
وجعفر بن الحسين ، واُمّه قضاعية ، ومات
في حياة أبيه ولا بقيَة له.
وعبدالله ، قُتل مع أبيه صغيراً وهو في
حجر أبيه ، وقد مرّ ذكره فيما تقدّم.
وسكينة بنت الحسين ، واُمّها الرباب بنت
امرئ القيس بن عديّ بن أوس ، وهي اُمّ عبدالله بن الحسين 7.
وفاطمة بنت الحسين ، واُمها اُمّ إسحاق
بنت طلحة بن عبيدالله تيميّة .
__________________
(الباب الثالث)
في ذكر الإمام الرابع سيّد العابدين
عليّ بن الحسين 7
وفيه
خمسة فصول :
(الفصل الأول)
في ذكر ألقابه وكناه ، وتاريخ مولده ، ومبلغ
عمره ،
ووقت وفاته ، وموضع قبره
كنيته ، أبو محمد ، ويكنّى بأبي الحسن
أيضاً ، وبأبي القاسم.
ولقبه : سيّد العابدين ، وزين العابدين ،
والسجّاد ، وذو الثفنات ، وإنّما لقب بذلك لأنّ مواضع السجود منه كانت كثفنة
البعير من كثرة سجوده 7.
ولد صلوات الله عليه بالمدينة يوم
الجمعة - ويقال : يوم الخميس - في النصف من جمادى الآخرة ، وقيل : لتسع خلون من شعبان سنة ثمان
وثلاثين من الهجرة
، وقيل : سنة ستّ وثلاثين
، وقيل : سنة سبع وثلاثين
واسم اُمّه شاه زنان ، وقيل : شهربانويه
، وكان أميرالمؤمنين 3
ولّى حريث بن جابر الحنفي جانباً من المشرق فبعث إليه ببنتي يزدجرد
__________________
ابن شهريار ، فنحل
ابنه الحسين 7 إحداهما
فأولدها زين العابدين 7
، ونحل الاُخرى محمد بن أبي بكر فولدت له القاسم بن محمد ابن أبي بكر ، فهما ابنا
خالة .
وتوفّي 7
يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرّم سنة خمس وتسعين من الهجرة ، ودفن
بالبقيع مع عمّه الحسن 8
.
وكانت مدّة إمامته بعد أبيه أربعاً
وثلاثين سنة ، وكان في أيّام إمامته بقيّة ملك يزيد بن معاوية ، وملك معاوية بن
يزيد ، ومروان بن الحكم ، وعبدالملك بن مروان ، وتوفّي 7 في ملك الوليد بن عبدالملك .
__________________
(الفصل الثاني)
في ذكر النصوص الدالة على إمامته عليه السلام
المعوّل في تصحيح إمامة أكثر أئمّتنا : النظر والاعتباردون تواتر الأخبار ، لأنّهم
: كانوا في
زمان الخوف وشدّة التقية والاضطرار ، ولم يتمكّن شيعتهم من ذكر فضائلهم التي تقتضي
إِمامتهم ، فضلاً عن ذكرما يوجب فرض طاعتهم ويبين عن تقدّمهم على جميع الخلائق
ورئاستهم.
فمما يدلّ على إمامته 7 من طريق النظر العقلي ما ثبت من وجوب
العصمة ، وأنّ الحقّ لا يخرج عن اُمّة محمد 6
، ولا أحدٌ يدّعي العصمة لامامه في زمان سيد العابدين 7 ، إلاّ من قال بإمامته من الامامية ، أو
من قال بإمامة محمد بن الحنفيّة وذهب إلى أنّه حيّ لم يمت وهم الكيسانيّة ، وفسد
قول الكيسانيّة لأنّهم ادّعوا حياة من علم وفاته كما علم وفاة أبيه وأخيه ، ولعجزهم
أيضاً عن إتيان النصّ على محمد بالإمامة ، وبطل قول من قال بإمامة من هو غير معصوم
فثبتت إمامته 7.
وأما ما روي من النص عليه بالإمامة
والإشارة بالإمامة إليه من أبيه وجدّه فكثير.
منها
: مارواه محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن محمد ابن الحسين ، وأحمد بن محمد ،
عن محمد بن إسماعيل ، عن منصور بن يونس ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر الباقر 8 قال : «إن الحسين 7 لمّا حضره الذي حضره دعا ابنته فاطمة
الكبرى فدفع
إليها كتاباً
ملفوفاً ووصيّة ظاهرة ، وكان عليّ بن الحسين 8
مريضاً لا يرون أنّه يبقى بعده ، فلمّا قُتل الحسين 7
ورجع أهل بيته إلى المدينة دفعت فاطمة الكتاب إلى عليّ بن الحسين 8 ، ثمّ صار ذلك الكتاب والله إلينا يا
زياد» .
وعنه ، عن عدّة من أصحابه ، عن أحمد بن
محمد ، عن عليّ بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي بكر الحضرميّ ، عن أبي
عبدالله 7 قال : «إنّ
الحسين 7 لمّا سار
إلى العراق استودع اُمّ سلمة رضي الله عنها الكتب والوصيّة ، فلمّا رجع عليّ بن
الحسين 8 دفعتها إليه
» .
وقد ذكرنا فيما تقدّم النصّ والإشارة
إليه من جدّه أمير المؤمنين 8
في وصيّته إلى الحسن 7
، فلا معنى لتكراره هنا
وأمّا الأخبار الواردة عن النبيّ 6 وعن أميرالمؤمنين صلوات الله عليه
بالنصّ على الأئمة الاثني عشر من آل محمد :
وتعيينهم ، وحديث اللوح الذي رواه جابر عن النبيّ 6
ورواه جابر
بن يزيد الجعفي ، عن الباقر ، عن أبيه ، عن جدْه عن فاطمة بنت رسول الله 6
فإنها مشهورة عند
__________________
أهلها ، مذكورة في مظانّها ، ووافقهم
أصحاب الحديث العامة على نقل كثير منها على طريق الجملة ، وسنورد أكثرها في الركن
الرابع من الكتاب إذا انتهينا إليه إن شاء الله.
***
(الفصل الثالث)
في ذكر شيء من معجزاته عليه السلام
أما ما يدل على إمامته 7 من طريق المعجز الخارق للعادة فحديث
حبابة الوالبيّة وما جاء فيه من طبعه نقش فصّه في الحجر ، وماثبت من دعائه 7 وإيمائه إليها حتّى عادت شابّة ولها
يومئذ مائة سنة وثلاث عشرة سنة.
وكذلك نطق الحجر الأسود له 7 وقد استشهد به على محمد ابن الحنفية
فشهد له بالإمامة ، وكانا يومئذ بمكّة فقال لمحمد : «ابدأ فابتهل إلى الله واسأله
أن ينطق لك » فابتهل محمد في الدعاء ثم دعا فلم يجبه فقال 7 : «أما إنّك يا عم لو كنت إماماً
لأجابك ».
فقال له محمد : فادع أنت يا ابن أخي ، فدعا
7 بما أراد
ثمقال : «أسالك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء لما أخبرتنا بلسان
عربيّ مبين من الوصيّ والامام بعد الحسين بن عليّ؟» فتحرّك الحجر حتّى كاد أن يزول
عن موضعه ثمّ انطقه الله بلسان عربيّ مبين فقال : اللهم إن الوصيّة والإمامة بعد
الحسين بن عليّ إلى عليّ بن الحسين 8.
فانصرف محمد وهو يتولى علي بن الحسين 8 .
__________________
وأورد هذا الخبر بإسناده محمد بن أحمد
بن يحيى في كتاب نوادرالحكمة.
وفي هذا المعنى يقول السيد الحميري لما رجع
عن القول بالكيسانيّة إلى القول بإمامة الصادق جعفر بن محمد 8 :
عجبتُ لكرِّ صروف الزمان
|
|
وأمر أبي خالد ذيَ البــيان
|
ومِن ردّه الأمر لا يــنثني
|
|
إلى الطيّب الطهر نور الجنان
|
عــلـيّ وماكان من عمّه
|
|
بردّ الأمانة عطـــف البيان
|
وتـحــكيمه حجراً أسوداً
|
|
وما كان سن بطقـه المستبان
|
بـــتسليم عمّ بغير امتراء
|
|
إلى ابن أخ منطقاً َباللســان
|
شـــهـدت بذلك حقّاً كما
|
|
شهدت بتصديق آي القـرآن
|
عـلــيّ أمامي ولا أمتري
|
|
وخلّيت قولي بكان وكـان
|
قال الصادق 7 : «كان أبو خالد يقول بإمامة محمد بن
الحنفية فقدم من كابل شاه إلى المدينة فسمع محمداً يخاطب عليّ بن الحسين 7 فيقول : يا سيّدي ، فقال له : أتخاطب
ابن أخيك بما لايخاطبك مثله؟! فقال : إنّه حاكمني إلى الحجر الأسود فصرت إليه
فسمعت الحجر يقول : سلم الأمر إلى ابن أخيك فإنّه أحقّ به منك ، وصار أبو خالد
الكابلي إماميّاً».
وروى عنه أنّه قال : قال لي عليّ بن
الحسين 7 : «يا كنكر»
ولا والله ما عرفني بهذا الاسم إلاّ أبي وأمّي
__________________
(الفصل الرابع )
في ذكر بعض مناقبه وفضائله عليه السلام
روى الحسين بن علوان ، عن أبي عليّ زياد
بن رستم ، عن سعيد بن كلثوم قال : كنت عند الصادق جعفر بن محمد 8 فذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7 فمدحه بما هو أهله ثمّ قال : «والله ما
أطاق عمل رسول الله 6
من هذه الأمة غيره ، وإن كان ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنّة والنار يرجوا ثواب
هذه ويخاف عقاب هذه ، ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله والنجاة من
النار ممّا كدّه بيده ورشح منه جبينه ، وما كان لباسه إلاّ الكرابيس إذا فضل شيء
عن يده من كمّه دعا بالجلم
فقصّه ، وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبهاً به في لباسه وفقهه من عليّ
بن الحسين ين العابدين :.
ولقد دخل أبو جعفر ابنه 7
عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحدٌ ، فرآه قد اصفرّ لونه سن السهر ،
ورمصت عيناه من البكاء ، ودبرت جبهته من السجود ، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في
الصلاة ، فقال أبو جعفر 7
: فلك أملك حين رأيته بتلك الحال من ان بكاء ، فبكيت رحمة له ، وإذا هو يفكّر
فالتفت إليّ بعد هنيئة من دخولي ، فقال يا بنيّ : أعطني بعض تلك الصحف التي فيها
عبادة عليّ 7 ، فأعطيته
فقرأ فيها يسيراً ثمّ تركها من يده تضجّراً وقال : من يقوى على عبادة عليّ بن أبي
__________________
طالب 7 .
وكان عليّ بن الحسين 8 إذا توضّأ اصفرّ لونه فقيل له : ما هذا
الذي يغشاك ، فقال : «أتدرون من أتأهّب للقيام بين يديه؟» .
وروي : أنّه 7 كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ،
وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة .
وعن سفيان الثوري قال : ذكر لعليّ بن
الحسين 8 فضله قال : «حسبنا
أن نكون من صالحي قومنا».
وعن الزهري قال : لم ادرك أحداً من هذا
البيت أفضل من عليّ بن الحسين 7
.
ورويَ أنّ عليّ بن الحسين 8 رأى يوماً الحسن البصري وهو يقصّ عند
الحجر الأسود فقال له 7
: «أترضى يا حسن نفسك للموت؟».
قال : لا.
قال : «فعملك للحساب؟ ».
__________________
قال : لا.
قال : «فثمّ دار للعمل غير هذه الدار؟».
قال : لا.
قال : «فللّه في أرضه معاذ غير هذا
البيت؟».
قال : لا.
قال : «فلم تشغل الناس عن الطواف؟»
وقيل له : يوماً : إنّ الحسن البصري قال
: ليس العجب ممّن هلك كيف هلك وإنّما العجب ممّن نجا كيف نجا ، فقال 7 : «أنا أقول : ليس العجب ممّن نجا كيف
نجا ، وإنّما العجب ممّن هلك كيف هلك معسعة رحمة الله تعالى»
ورويَ عن طاووس اليمانيّ قال : دخلت
الحجر في الليل فإذا عليّ ابن الحسين 8
قد دخل فقام يصلّي ، فصلى ما شاء الله ثمّ سجد فقلت : رجل صالح من أهل بيت النبوّة
لأستمعن إلى دعائه ، فسمعته يقول في سجوده : «عبيدك بفنائك ، مسكينك بفنائك ، فقيرك
بفنائك ، سائلك بفنائك ».
قال طاووس : فما دعوت بهنّ في كرب إلاّ
فرّج عنّي .
وروى أحمد بن محمد الرافعي ، عن إبراهيم
بن عليّ ، عن أبيه قال :
حججت مع عليّ بن
الحسين 8 فالتاثت الناقة عليه في مسيرها فاشار إليها
بالقضيب ، ثم قال : «آه لولا القصاص» وردّ يده عنها
وعنه قال : حجّ عليّ بن الحسين 8 ماشياً ، فسار عشرين يوماً من المدينة
إلى مكّة .
وروى أبو محمد الحسن بن محمد العلوي
بإسناده قال : وقف على عليّ بن الحسين 8
رجلٌ من أهل بيته فأسمعه وشتمه ، فلم يكلّمه ، فلمّا انصرف قال لجلسائه : «قد
سمعتم ما قال هذا الرجل ، وأنا اُحبّ أن تبلغوا معي إليه حتّى تسمعوا منّي ردّي
عليه» ، قالوا : نفعل.
فاخذ نعليه ومشى وهو يقول : (والكاظِمِينَ
الغَيْظَ ) الاية ـ فعملوا أنّه لا يقول شيئاً ، قال
: فاتى منزل الرجل وصرخ به فخرج الرجل متوثّباً للشرّ فقال عليّ بن الحسين 8 : «يا أخي ، إن كنت قد قلت ما فيّ
فاستغفر الله منه ، لان كنت قلت ما ليس فيّ فغفر الله لك ».
قال : فقبّل الرجل بين عينيه وقال : بل
قلت فيك ما ليس فيك ، وأنا أحق به.
قال الراوي للحديث : والرجل هو الحسن بن
الحسن بن عليّ بن أبي طالب :.
__________________
وروى عن عليّ بن الحسين 8 : أنّه دعا مملوكه مرّتين فلم يجبه ثمّ
أجابه في الثالثة ، فقال له : «يا بنيّ ، أما سمعت صوتي؟».
قال : بلى.
قال : «فما بالك لم تجبني؟».
قال : أمنتك.
قال : «الحمد لله الذي جعل مملوكي
يأمنني» .
وكانت جارية لعليّ بن الحسين 8 تسكب عليه الماء فسقط الإبريق من يدها
فشجّه ، فرفع رأسه إليها فقالت الجارية : إنّ الله تعالى يقول : (والكاظِمِينَ
الغَيْظَ ) .
فقال : «كظمت غيظي ».
قالت : (والعافينَ عَنِ
النّاسِ ) .
قال : «عفَوت عنك ».
قالت : (وَاللهُ يُحِبّ
المُحسِنِين ) .
قال : «إذهبي فانت حرّة لوجه الله
تعالى».
وروى عن محمد بن إسحاق بن يسار قال : كان
بالمدينة كذا وكذا أهل بيت يأتيهم رزقهم وما يحتاجون إليه ، لا يدرون من أين
يأتيهم ، فلمّا
__________________
مات عليّ بن الحسين 8 فقدوا ذلك .
والأخبار في هذا المعنى وفيما روي عنه
من أنواع العلوم أكثر من أن تحصى ، فلنقتصر على ما ذكرناه.
__________________
(الفصل الخامس )
في ذكر أولاده عليه السلام ونبذ من أخبارهم
له خمسة عشر ولداً : محمّد الباقر 7 ، اُمّه اُمّ عبدالله بنت الحسن بن
عليّ بن أبي طالب.
وأبو الحسين زيد ، وعمر ، اُمّهما أمّ
ولد.
وعبدالله ، والحسن ، والحسين ، اُمّهما
أّم ولد.
والحسين الأصغر ، وعبدالرحمن ، وسليمان ،
لاٌمّ ولد.
وعليّ ـ وكان أصغر ولده 7 ـ وخديجة ، اُمّهما اُمّ ولد.
ومحمّد الأصغر ، أمّه أمّ ولد.
وفاطمة ، وعليّة ، واُمّ كلثوم ، [اُمهم
اُم ولد] .
وكان زيد بن عليّ بن الحسين أفضل إخوته
بعد أبي جعفر الباقر 7
، وكان عابداً ورعاً شخياً شجاعاً ، وظهر بالسيف يطلب بثارات الحسين 7 ويدعو إلى الرضا من ال محمد 6 فظنّ الناس أنّه يريد بذلك نفسه ، ولم
يكن يريدها به ؛ لمعرفته بإستحقاق أخيه الباقر 7
الإمامة من قبله ، ووصيّته عند وفاته إلىأبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق 7.
وجاءت الرواية أنّ سبب خروجه ـ بعد الذي
ذكرناه ـ : أنّه دخل على هشام بن عبدالملك ، وقد جمع هشام له أهل الشام وأمر أن
يتضايقوا له في
__________________
المجلس حتّى لا
يتمكن من الوصول إلى قربه ، فقال له زيد : إنّه ليس من عباد الئه أحد فوق أن يوصى
بتقوى الله ، ولا من عباده أحد دون أن يوصي بتقوى الله وأنا اُوصيك بتقوى الله يا
أمير المؤمنين فاتّقه.
فقال له هشام : أنت المؤهل نفسك للخلافة
، وما أنت وذاك لا أمَّ لك ، وإنّما أنت ابن أمة.
فقال له زيد : إني لا أعلم أحداً أعظم
منزلة عند الله من نبيّ بعثه وهو ابن أمة ، فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية لم
يُبعث ، وهو إسماعيل بن إبراهيم 8
، فالنبوّة أعظم منزلة عند الله أم الخلافة؟ وبعد فما يقصر برجل أبوه رسول الله 6 وهو ابن عليّ بن أبي طالب 7؟
فوثب هشام عن مجلسه ودعا قهرمانه وقال :
لا يبيتنّ هذا في عسكري.
فخرج زيد وهو يقول : إنّه لم يكره قوم
قطّ حرّ السيوف إلاّ ذلّوا.
وذكر ابن قتيبة بإسناده في كتاب عيون
الأخبار : أنّ هشاماً قال لزيد بن عليّ لمّا دخل عليه : ما فعل أخوك البقرة.
فقال زيد : سمّاه رسول الله 6 باقر العلم وأنت تسمّيه بقرة لقد
اختلفتما إذاً.
قال
: فلمّا وصل الكوفة اجتمع إليه أهلها ، فلم يزالوا به حتّى بايعوه
__________________
على الحرب ، ثمّ
نقضوا بيعته وأسلموه ، فقتل وصُلب بينهم أربع سنين لاينكره أحد منهم ولم يغيّره
بيد ولا لسان ، وكان مقتله يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة عشرين ومائة ، وكان
سنّه يوم قتل إثنين وأربعين سنة ، ولمّا قتل بلغ ذلك من الصادق 7 كلّ مبلغ ، وحزن عليه حزناً عظيماً ، وفرّق
من ماله في عيال من اُصيب معه من أصحابه ألف دينار.
وكان عبدالله بن عليّ بن الحسين فقيهاً
فاضلاً ، وكان يلي صدقات رسول الله 6
وصدقات أميرالمؤمنين 7
.
وكان عمر بن عليّ بن الحسين 8 فاضلاً جليلاً ورعاً ، وكان أيضاً يلي
صدقات رسول الله 6
وصدقات أمير المؤمنين 7.
وكان الحسين بن علي بن الحسين فاضلاً
ورعاً ، وروى أخباراً كثيرةعن أبيه عليّ بن الحسين وعن أخيه أبي جعفر وعن عمته
فاطمة بنت الحسين :
.
وروي عنه أنّه قال : كان إبراهيم بن
هشام المخزوميّ والياً على المدينة ، وكان يجمعنا يوم الجمعة قريباً من المنبر ، ثمّ
يقع في عليّ ويشتمه ، قال : فحضرت يوماً وقد امتلأ ذلك المكان فلصقت بالمنبر
فأغفيت فرأيت القبر قد انفرج وخرج منه رجلٌ وعليه ثياب بياض فقال لي : يا
أباعبدالله ألا يحزنك ما يقول هذا؟ قلت : بلى والله.
قال : افتح عينك وانظر ما يصنع الله به.
__________________
فإذا هو قد ذكر علياً 7 فرمي به من فوق المنبر فمات لعنه الله .
__________________
( الباب الرابع )
في ذكر الامام الباقر والنور الباهر
أبي جعفر محمد بن علي بن
الحسين عليهم السلام
وهو خمسة فصولا :
(الفصل الأول)
في ذكر تاريخ مولده ، ومبلغ عمره ،
ومدة إمامته ، ووقت وفاته ، وموضع قبره
ولد 7
بالمدينة سنة سبع وخمسين من الهجرة يوم الجمعة غرّة رجب ، وقيل : الثالث من صفر. وقُبض 7
سنة أربع عشرة ومائة من ذي الحجّة
، وقيل : في شهر ربيع الأول
، وقد تمّ عمره سبعاً وخمسين سنة.
وأمّه أمّ عبداللهّ فاطمة بنت الحسن 7 ، فهو هاشميّ من هاشميّين وعلويّ من
علويّين.
وقبره بالبقيع من مدينة الرسول 6 إلى جانب أبيه زين العابدين 7 وعمّ أبيه الحسن بن عليّ 8 .
فعاش 7
مع جدّه الحسين 7
أربع سنين ، ومع أبيه تسعاً وثلاثين سنة ، وكانت مدّة إمامته ثماني عشرة سنة.
وكان في أيّام إمامته بقيّة ملك الوليد
بن عبدالملك ، وملك سليمان بن عبدالملك ، وعمر بن عبدالعزيز ، ويزيد بن عبدالملك ،
وهشام بن
__________________
عبدالملك ، وتوفي 7 في ملكه
__________________
(الفصل الثاني)
في ذكر دلائل إمامته عليه السلام
الدليل على إمامته 7 ما قدّمناه بعينه في إمامة أبيه 7 من اعتبار وجوب العصمة وبطلان قول كل
من ادّعى حياة الأموات ، على الترتيب الذي تقدّم في الاستدلال ، ودلائل العقول
أوكد من دلائل الأخبار لبعدها عن التأويل والاحتمال.
فأمّا النصوص الدالة على إمامته ، والأثار
الواردة في الإشارة إليه ، فمن ذلك :
ما رواه محمد بن يعقوب الكليني ، عن
أحمد بن إدريس ، عن محمد ابن عبدالجبّار ، عن أبي القاسم الكوفي ، عن محمد بن سهل ،
عن إبراهيم ابن أبي البلاد ، عن إسماعيل بن محمد بن عبدالله بن عليّ بن الحسين ، عن
أبي جعفر 7 قال : «لمّا
حضرت عليّ بن الحسين 8
الوفاة أخرج سفطاً أو صندوقاً عنده فقال : يا محمد احمل هذا الصندوق ، قال : فحمل
بين أربعة ، فلمّا توفّي جاء إخوته يدّعون في الصندوق سهماً ، قال : واللهّ مالكم
فيه شيء ، ولو كان لكم فيه شيء ما دفعه إلي ، وكان في الصندوق سلاح رسول الله 6 وكتبه ».
وعنه ، عن محمد بن يحيى ، عن عمران بن
موسى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن عبدالله بن عيسى عن أبيه عبدالله عن أبيه
عيسى ،
__________________
عن جدّه قال : نظر
عليّ بن الحسين 8
إلى ولده وهو يجود بنفسه وهم مجتمعون عنده ، ثمّ نظر إلى محمد بن عليّ فقال : «يا
محمّد ، خذ هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك ».
وقال : أما إنه لم يكن فيه دينار ولا
درهم ولكن كان مملوءاً علماً.
وعنه ، عن محمد بن الحسن ، عن سهل بن
زياد ، عن محمد بن عيسى ، عن فضالة بن أيّوب ، عن الحسين بن أبي العلاء ، عن أبي
عبدالله 7 قال : سمعته
يقول : «إنّ عمر بن عبدالعزيز كتب إلى ابن حزم أن يرسل إليه بصدقة عليّ وعمر
وعثمان ، وإنّ ابن حزم بعث إلى زيد بن الحسن وكان أكبرهم فسأله الصدقة ، فقال زيد
: إنّ الوليّ كان بعد علي الحسن ، وبعد الحسن الحسين ، وبعد الحسين عليّ بن الحسين
، وبعد عليّ بن الحسين محمد بن علي ، فابعث إليه ، فبعث ابن حزم إلى أبي فارسلني
أبي بالكتاب فدفعته إلى ابن حزم ، فقال له بعضنا : يعرف هذا ولد الحسن؟ قال : نعم
كما تعرفون أنّ هذا ليل ، ولكن يحملهم الحسد ، ولو طلبوا الحقّ بالحقّ لكان خيراً
لهم ولكنّهم يطلبون الدنيا».
وأما النصوص المرويّة عن النبيّ 6 في جملة الاثني عشر فكثيرة ، مثل خبر
اللوح الذي هبط به جبرئيل على رسول الله 6
من الجنّة فأعطاه فاطمة 3
ومثل ما روي : أنّ الله تعالى أنزل إلى
النبيّ 6
__________________
كتاباً مختوماً
باثني عشر خاتماً وأمره أن يدفعه إلى أمير المؤمنين 7
ويأمره بان يفضّ أول خاتم فيه فيعمل بما تحته ، ثم يدفعه عند وفاته إلىالحسن 7 ويأمره بفص الخاتم الثاني ويعمل بما
تحته ، ثم يدفعه عند حضور وفاته إلى الحسين 7
فيفض الخاتم الثالث ويعمل بما تحته ، ثمّ يدفعه الحسين عند وفاته إلى عليّ بن
الحسين ويأمره بمثل ذلك ، ثمّ يدفعه عند وفاته إلى ابنه محمد بن عليّ ويأمره بمثل
ذلك ، ثم يدفعه إلى ولده حتّى ينتهي إلى آخر الأئمة :
.
وسنورد أكثر ما ورد في هذا النوع فيما
بعد ان شاء الله تعالى.
__________________
(الفصل الثالث)
في ذكر بعض دلائله عليه السلام
قد روت الشيعة من دلالاته أشياء سوى ما
تقدم ذكره من خبر حبابة الوالبيّة منها :
ما رواه شعيب العقرقوفي ، عن أبي عروة
قال دخلت مع أبي بصيرإلى
منزل أبي جعفراً وأبي عبدالله 8
قال : فقال لي : أترى في البيت كوّة قريباً من السقف؟ قال : قلت : نعم ، وما علمك
بها؟ قال : أرانيها أبو جعفر 7
.
وروى أحمد بن محمد ، عن عليّ بن الحكم ،
عن مثنّى الحنّاط ، عن أبي بصير قال : دخلت على أبي جعفر 7 فقلت له : أنتم ورثة رسول الله 6؟
قال : «نعم ».
قلت : رسول الله 6 وارث الأنبياء ، علم كلَ ما علموا؟
__________________
قال لي : «نعم ».
قلت : فانتم تقدرون على أن تحيوا الموتى
وتبرؤوا الأكمه والأبرص؟
فقال : «بلى بإذن الله » ثمّ قال : «ادن
منّي يا أبا محمد» فمسح على وجهي وعلى عيني فابصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت
وكلّ شيء في الدار ، فقال : «أتحبّ أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم
القيامة ، أو تعود كما كنت ولك الجنّة خالصاً؟»
قلت : أعود كما كنت. قال : فمسح على
عيني فعدت كما كنت.
قال الراوي : فحدّثت به ابن أبي عمير
فقّال : أشهد أنّ هذا حقّ كما أنّ النهار حق .
وروى حمّاد بن عثمان ، عن عبدالله بن
أبي يعفور قال : سمعت أبا عبدالله 7
يقول : «ان أبي قال ذات يوم : إنّما بقي من أجلي خمس سنين ، فحسبت فما زاد ولا نقص
».
__________________
(الفصل الرابع )
في ذكر طرف من مناقبه وخصائصه ،
ونبذ من أخباره عليه السلام
قد اشتهر في العالم تبريزه على الخلق في
العلم والزهد والشرف ، فلم يؤثرعن أحد من أولاد رسول الله 6 قبله من علم القرآن والآثار والسنن
وأنواع العلوم والحكم والأداب ما اُثر عنه صلوات الله عليه واختلف إليه بقايا
الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين ، وعرّفه رسول الله 6 بباقر العلم على ما رواه نقلة الاثار.
عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه قال :
قال لي رسول الله 6
: «يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له : محمد يبقر علم الدين بقراً
، فإذا لقيته فاقرئه منّي السلام .
وروى أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن
سنان ، عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبدالله قال : «إن جابر بن عبدالله الأنصاري
[كان] يقعد في مسجد رسول الله 6
وهو معتجر
بعمامة سوداء ، وكان ينادي : يا باقر العلم ، وكان أهل المدينة يقولون : جابر يهجر
، فكان يقول : لا والله ما أهجر ولكنّي سمعت رسول الله 6 يقول : إنّك ستدرك رجلاً منّي اسمه
اسمي وشمائله شمائلي يبقر العلم بقراً. فذاك
__________________
الذي دعاني إلى ما
أقول .
قال : فكان جابر يأتيه طرفي النهار وكان
أهل المدينة يقولون : واعجباً لجابر ياتي هذا الغلام طرفي النهار وهو أحد من بقي
من أصحاب رسول اللهّ 6
.
وروى ميمون القدّاح ، عن جعفر بن محمد ،
عن أبيه قال : «دخلت على جابر بن عبدالله فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام وقال لي : من
أنت؟ ـ وذلك بعد ما كفّ بصره ـ فقلتَ : محمد بن علي بن الحسين : ، فقال : يا بنيّ ادن منّي ، فدنوت منه
فقبّل يدي ثمّ أهوى إلى رجلي يقبّلها فتنحّيت عنه ، ثمّ قال لي : إن رسول الله 6 يقرئك السلام ، فقلت : وعلى رسول اللهّ
السلام ورحمة اللهّ وبركاته ، وكيف ذاك يا جابر؟ فقال : كنت معه ذات يوم فقال لي :
يا جابر ، لعلّك تبقى حتى تلقى رجلاً من ولدي يقال له : محمد بن عليّ بن الحسين
يهب الله له النور والحكمة ، فأقرئه منّي السلام ».
__________________
وروي عن أبي مالك ، عن عبدالله بن عطاء
المكّي قال : ما رأيت العلماء عند أحد قطّ أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن عليّ بن
الحسين : ، ولقد رأيت
الحكم بن عتيبة - مع جلالته في القوم - بين يديه كأنّه صبيّ بين يدي معلّمه .
وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عنه
قال : حدّثني وصيّ الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمد بن عليّ بن الحسين : .
وروى محمد بن أبي عمير ، عن عبدالرحمن
بن الحجّاج ، عن أبي عبدالله 7
قال : «إنّ محمد بن المنكدر كان يقول : ما كنت أرى أنّ مثل عليّ بن الحسين 8 يدع خلفاً لفضل عليّ بن الحسين حتّى
رأيت ابنه محمداً ، فأردت أن أعظه فوعظني.
فقال له أصحابه : بأيّ شيء وعظك؟
قال : خرجت إلى بعض نواحي المدينة في
ساعة حارّة فلقيت محمد ابن عليّ 8
ـ وكان رجلاً بدينا ـ وهو متّكى على غلامين له أسودين ـ أو موليين له ـ فقلت في
نفسي : شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ! أشهد
لأعظنّه ، فدنوت منه فسلّمت عليه فسلّم عليّ ببهر وقد تصبب عرقآً ، فقلت : أصلحك اللهّ ،
شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال. في طلب الدنيا؟! لو جاء كالموت
وأنت على هذه الحال؟
قال : فخلّى عن الغلامين من يده وتساند
فقال : لوجاءني والله
__________________
الموت وأنا في هذه
الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله عزّ وجلّ أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس ، وإنّما
كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله عزّ وجلّ
فقلت : يرحمك الله أردت أن أعظك
فوعظتني» .
وكان 7
يقول : «ما ينقم الناس منّا إلاّ أنّا أهل بيت الرحمة ، وشجرة النبوّة ، ومعدن
الحكمة ، وموضع الملائكة ، ومهبط الوحي».
وكان 7
يقول : «بليّة الناس علينا عظيمة ، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم
يهتدوا بغيرنا».
وكان 7
يقول : «نحن خزنة علم الله ، ونحن ولاة أمر الله ، وبنا فتح الله الإسلام ، وبنا
يختمه ، فمنا يتعلّموا ، فوالله الذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما علم الله في أحد
إلاّ فينا ، وما يدرك ما عند الله إلاّ بنا».
وروى ابن أبي عمير ، عن عمر بن اُذينة ،
عن الفضيل ، عنه 7
قال : «لو أنّا حدّثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا ، ولكنّا حدّثنا ببيّنة
من ربّنا بيّنها لنبيّه 6
فبيّنها لنا».
وسئل 7
عن الحديث يرسله ولا يسنده فقال : «إذا حدّثت
__________________
بالحديث فلم اُسنده
فسندي فيه أبي زين العابدين ، عن أبيه الحسين الشهيد ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب
أمير المؤمنين ، عن رسول الله 6
، عن جبرئيل ، عن الله عزّ وجل ».
وروى عنه معروف بن خربوذ قال : سمعته
يقول : «إنّ حديثنا صعب مستصعب ، لا يحتمله إلاّ ملك مقرّب ، أو نبيّ مرسلٌ ، أوعبد
امتحن الله قلبه للإيمان » .
وروى سدير الصيرفي عنه 7 أنّه قال : «إنّما كلف الله سبحانه
الناس معرفة الأئمّة والتسليم لهم في ما أوردوا عليهم ، والردّ إليهم فيما اختلفوا
فيه ».
وروى سورة بن كليب الأسدي عنه 7 قال : «والله إنّا لخزّان الله في
سمائه وفي أرضه ، لا على ذهب ولا فضّة إلاّ على علمه ».
وروي عن عبيدالله بن زرارة ، عن أبيه
قال : كنّا عند أبي جعفر 7
فجاء الكميت
فاستأذن عليه فأذن له فأنشده :
من لقلب متيَّم مستهام
|
|
. . . . . . . . .
. . . . . . . . . . .
|
فلمّا فرغ منها قال له أبو جعفر 7 : «يا كميت ، لا تزال مؤيداً بروح
القدس ما نصرتنا بلسانك ، وقلت فينا».
____________
وقال الكميت في حديث آخر : فلمّا بلغت
إلى قولي :
أخلص الله لي هواي فما
|
|
اُغرق نزعاً ولا تطيش سهامي
|
قال 7
: ...
«وقد اُغرق نزعاً وما تطيش سهامي ».
فقلت : يا مولاي أنت أشعر منّي في هذا
المعنى
__________________
( الفصل الخامس )
في ذكر أولاده عليه السلام
وهم سبعة :
أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق 8 ـ وكان يكنى به ـ وعبدالله بن محمد ، واُمّهما
اُمّ فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر.
وإبراهيم وعبيدالله ، درجا ، اُمّهما اُمّ حكيم بنت اُسيد بن
المغيرة الثقفيّة.
وعليّ وزينب ، لاُمّ ولد.
واُمّ سلمة ، لاُمّ ولد.
وقيل : إنّ لأبي جعفر 7 ابنة واحدة فقط : اُمّ سلمة ، واسمها
زينب
__________________
( الباب الخامس )
في ذكر الامام الصادق والعلم الناطق
أبي عبدالله جعفر بن محمد 8
وهو
خمسة فصول :
( الفصل الأول )
في ذكر تاريخ مولده ، ومبلغ سنه ،
ومدة إمامته ، ووقت وفاته عليه السلام
ولد 7
بالمدينة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين من الهجرة .
ومضى في النصف من رجب ، ويقال : في شوّال ، سنة ثمان وأربعين ومائة ، وله خمس
وستّون سنة.
أقام فيها مع جدّه وأبيه إثنتي عشرة سنة
، ومع أبيه بعد جدّه تسع عشرة سنة ، وبعد أبيه أيّام إمامته أربعاً وثلاثين سنة ، وكان
في أيّام إمامته بقيّة ملك هشام بن عبدالملك ، وملك الوليد بن يزيد بن عبدالملك ، وملك
يزيد بن الوليد بن عبدالملك الملقّب بالناقص ، وملك إبراهيم بن الوليد ، وملك
مروان ابن محمد الحمار ، ثمّ صارت المسوّدة من أهل خراسان مع أبي مسلم سنة اثنين
وثلاثين ومائة ، فملك أبو العبّاس عبدالله بن محمد بن عليّ بن عبدالله ابن عبّاس
الملقّب بالسفّاح أربع سنين وثمانية أشهر ، ثمّ ملك أخوه أبو جعفرعبدالله الملقّب
بالمنصور إحدى وعشرين سنة وإحدى عشر شهراً.
وتوفّي الصادق 7 بعد عشر سنين من ملكه ، ودفن بالبقيع
مع
__________________
أبيه وجدّه وعمّه
الحسن :
__________________
(الفصل الثاني)
في ذكر النص على إمامته عليه السلام
أما طريقة الاعتبار فمثل ما تقدم ذكره
في إمامة آبائه :
فانّا إذا اعتبرنا إمامة من اختلف في إمامته في عصره 7
وجدنا الاُمّة بين أقوال :
قائل يقول : لا إمام في الوقت ، وقوله
يبطل بما دلّ على وجوب الإمامة في كل عصر.
وقائل يقول : بإمامة من لا يقطع على
عصمته ، وقوله يبطل بمّا دلّ على وجوب العصمة للامام.
ومن ادّعى العصمة ولم يقل بالنْص من
متأخري الزيدية فقوله يبطل بما دلّلنا عليه من أن العصمة لا يمكن أن تعلم إلآ
بالنص أو المعجز.
ومن اعتبر الحياة ـ من الكيسانية ـ
فقوله يبطل بما علمانه من موت من ادّعي حياته ، وأيضاً فإنَ هذه الفرقة قد انقرضت
وخلا الزمان من القائلين بقولها وانعقد الإجماع على خلافها.
فإذا بطلت هذه الاقوال ثبتت إمامته 7 ، وإلاّ أدّى إلى خروج الحق عن أقوال
الأمّة.
وأما طريقة التواتر فمثل ما ذكرناه فيما
تقدم فإن الشيعة قد تواتر تخلفاً عن سلف إلى أنّ اتصل نقلهم بالباقر 7 أنه نصّ على الصادق 7 ، كما تواترت على أن أمير المؤمنين 7 نصّ على الحسن ، ونصَ الحسن على الحسين
8 ، وكذلك كلّ
إمام على الإمام الذي يليه ، ثم هكذا إلى أن ينتهى إلى صاحب الزمان ، وكلّ سؤال
يٌسئل على هذا
الدليل فالجواب عنه مذكور في تصحيح التواتر لنصّ رسول الله 6 على أمير المؤمنين 7 ، ولا يحتمل ذكره هذا الموضع.
فأما مما جاء في الأخبار من النص
بالإمامة عليه والإشارة بذلك من أبيه إليه فمن ذلك :
ما رواه محمد بن يعقوب ، عن الحسين بن
محمد ، عن معلّى بن محمد ، عن الوشّاء ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي الصباح الكناني
قال : نظر أبو جعفرمحمد بن عليّ 8
إلى أبي عبدالله 7
يمشي فقال : «ترى هذا ، هذا من الذين قال الله سبحانه : (وَنُرِيدُ
اَن نَمُنّ علَى الذِينَ أستُضعوا فِي الإرضِ وَنَجعَلَهُم اَئِمّةَ وَنَجعَلَهُمُ
الوارِثينَ).
وعنه ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن
محمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله قال : «لمّا
حضرت أبي الوفاة قال : يا جعفر اُوصيك بأصحابي خيراً.
قلت : جعلت فداك ، والله لأدعنّهم
والرجل منهم يكون في المصر فلا لسال أحداً » .
وعنه ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن
محمد ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن جابر بن يزيد الجعفيّ عن أبي جعفر 7 : أنّه سئل عن القائم فضرب بيده على
أبي عبدالله 7 ثمّ قال : «هذا
__________________
والله قائم آل محمد».
قال عنبسة بن مصعب : فلمّا قبض أبو جعفر
7 دخلت على
أبي عبدالله 7 فاخبرته
بذلك ، فقال : «صدق جابر على أبي » ثمّ قال 7
: «لعلّكم ترون أن ليس كلّ إمام هو القائم بعد الإمام الذي قبله ».
وعنه ، عن عدّة من أصحابه ، عن أحمد بن
محمد ، عن عليّ بن الحكم ، عن طاهر قال : كنت قاعداً عند أبي جعفر 7 فاقبل جعفر 7 فقال أبو جعفر 7 : «هذا خير البريّة».
وعنه ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن محمد بن
عيسى ، عن يونس بن عبدالرحمن ، عن عبد الأعلى مولى آل سام ، عن أبي عبدالله 7 قال : «إنّ أبي استودعني ما هناك ، فلمّا
حضرته الوفاة قال : ادع لي شهوداً ، فدعوت أربعة من قريش فيهم نافع مولى عبدالله
بن عمر ، فقال : اُكتب اُوصيك بما أوصى به يعقوب بنيه : (يا بُنَيَّ
إِنَّ اللهَ أصطفَى لَكُمُ الدّينَ فلا تَمُوتُنَّ إلاّ وَاَنتُم مُّسلِمُونَ)
أوصى أبو جعفر محمد بن عليّ إلى جعفر بن محمد ، وأمره أن يكفّنه في بُرْدِه الذي
كان يصلّي فيه الجمعة ، وأن بعمّمه بعمامته ، وأن يربّع قبره ويرفعه أربع أصابع ، ثمّ
قال للشهود : انصرفوا رحمكم الله ، فقلت بعدما انصرفوا : ما كان لك في هذا بان
تشهد عليه؟
__________________
فقال : إنّي كرهت أن تُغلب وأن يقال : إنّه
لم يُوصِ إليه ، فاردت أن تكون لك الحجّة».
وأشباه هذه الأخبار كثيرة.
__________________
(الفصل الثالث)
في ذكر طرف مما ظهر منه من المعجزات
والأخبار بالغائبات
ما روي من آيات الله الظاهرة على يده
والمعجزات المؤيّدة له ، الدالّة على بطلان قول من ادّعى الإمامة لغيره كثيرة ، نحن
نذكر منها ما اشتهرت به الرواية فمن ذلك :
ما رواه محمد بن أحمد بن يحيى في كتاب
(نوادر الحكمة) بإسناده ، عن عائذ بن نباتة الأحمسيّ قال : دخلت على أبي عبدالله 7 وأنا اُريد أن أسأله عن صلاة الليل
ونسيت ، فقلت : السلام عليك يا ابن رسول الله.
فقال : «أجل والله أنا ولده ، وما نحن
بذي قرابة ، من أتي الله بالصلوات الخمس المفروضات لم يُسئل عمّا سوى ذلك »
فاكتفيت بذلك .
وعنه
، بإسناده ، عن إبراهيم بن أبي البلاد ، عن مهزم قال : كنّا نزولاً بالمدينة ، وكانت
جارية لصاحب المنزل تعجبني ، وإنّي أتيت الباب فاستفتحت ففتحت الجارية فغمزت ثديها
، فلمّا كان من الغد دخلت على أبي عبدالله 7
فقال لي : «يا مهزم ، أين كان أقصى أثرك اليوم؟»
__________________
فقلت له : «ما برحت المسجد».
فقال 7
: «أما تعلم أنّ أمرنا هذا لا ينال إلآ بالورع » .
وروى غيره عن أبي بصير قال : دخلت
المدينة وكانت معي جويرة لي فاصبت منها ، ثمّ خرجت إلى الحمّام فلقيت أصحابنا
الشيعة وهم متوجّهون إلى أبي عبدالله 7
، فخفت أن يسبقوني ويفوتني الدخول عليه ، فمشيت معهم حتّى دخلت الدار معهم ، فلمّا
مثلت بين يدي أبي عبدالله 7
نظر إليّ ثمّ قال لي : «يا أبا بصير ، أما علمت أنّ بيوت الأنبياء وأولاد الأنبياء
لا يدخلها الجنب؟» فاستحييت وقلت : يا ابن رسول الله إنّي لقيت أصحابنا فخفت أن
يفوتني الدخول معهم ولن أعود إلى مثلها ، وخرجت .
ومن كتاب (نوادر الحكمة) : عن محمد بن
أبي حمزة ، عن أبي بصير قال : دخل شعيب العقرقوفي على أبي عبدالله 7 ومعه صرّة فيها دنانير فوضعها بين يديه
، فقال له أبو عبدالله 7
: « أزكاة أم صلة؟ »
فسكت ثمّ قال : زكاة وصلة.
قال : «فلا حاجة لنا في الزكاة».
__________________
قال : فقبض أبو عبدالله 7 قبضة فدفعها إليه ، فلمّا خرج قال أبو
بصير : قلت له : كم كانت الزكاة من هذه؟ قال : بقدر ما أعطاني ، والله لم يزد حبّة
ولم ينقص حبّة.
وعن عثمان بن عيسى ، عن إبراهيم بن
عبدالحميد قاِل : خرجت إلى قبا
لأشتري نخلاً فلقيته وقد دخل المدينة فقال : «أين تريد؟»
فقلت : لعلّنا نشتري نخلاً.
فقال : «أوقد أمنتم الجراد؟ ».
فقلت : لا والله لا أشتري نخلة ، فوالله
ما لبثنا إلاّ خمساً حتّى جاء من الجراد ما لم يترك في النخل حملاً.
علي بن الحكم ، عن عروة بن موسى الجعفي
قال : قال لنا يوماً ونحن نتحدّث : «الساعة انفقأت عين هشام في قبره ».
قلنا : ومتى مات؟
قال : « اليوم الثالث ».
قال : فحسبنا موته وسألنا عنه فكان كذلك
.
أحمد بن محمد ، عن محمد بن فضيل ، عن
شهاب بن عبدربه قال : قال لي أبو عبدالله 7
: «كيف أنت إذا نعاني إليك محمد بن سليمان؟».
__________________
قال : فلا والله ما عرفت محمد بن سليمان
، ولا علمت من هو؟ قال : ثمّ كثر مالي وعرضت تجارتي بالكوفة والبصرة ، فإني يوماً
بالبصرة عند محمد ابن سليمان وهو والي البصرة إذ ألقى إليّ كتاباً وقال لي : يا
شهاب ، أعظم الله أجرك وأجرنا في إمامك جعفر بن محمد ، قال : فذكرت الكلام فخنقتني
العبرة ، فخرجت فاتيت منزلي وجعلت أبكي على أبي عبدالله 7 .
وروىَ عليّ بن إِسماعيل بن عمّار ، عن
إِسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي عبدالله 7
إنّ لنا أموالاً ونحن نعامل الناس ، وأخاف إن حدث حدث أن تفرّق أموالنا.
قال : فقال : «إجمع مالك في كلّ شهر
ربيع ».
قال عليّ بن إسماعيل : فمات إسحاق في
شهر ربيع .
وأحمد بن قابوس ، عن أبيه ، عن أبي
عبدالله 7 قال : دخل
عليه قوم من أهل خراسان فقال إبتداء من غير مسألة : «من جمع مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر».
فقالوا له : جعلنا الله فداك لا نفهم
هذا الكلام.
فقال 7
: «از باد آيد به دم بشود».
__________________
وروي : أنّ داود بن عليّ بن عبدالله بن
عبّاس قتل المعلّى بن خنيس ـ مولى الصادق 7
ـ وأخذ ماله ، فدخل عليه وهو يجرّ رداءه فقال له : «قتلت مولاي وأخذت ماله ، أما
علمت أنّ الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب ، أما والله لأدعونّ الله عليك
».
فقال له داود : تهددنا بدعائك.
كالمستهزئ بقوله.
فرجع أبو عبدالله 7 إلى داره ، ولم يزل ليله كلّه قائماً
وقاعداً حتّى إذا كان السحر سُمع وهو يقول في مناجاته : «يا ذا القوّة القولّة ، ويا
ذا المحال الشديد ، ويا ذا العزّة التي كلّ خلقك لها ذليل اكفني. هذا الطاغية ، وانتقم
لي منه ».
فما كان إلاّ ساعة حتّى ارتفعت الأصوات
بالصّياح وقيل : قد مات داود ابن عليّ الساعة.
واشتهر في الرواية : أن المنصور أمر
الربيع بإحضار أبي عبدالله 7
، فاحضره ، فلمّا بصر به قال : قتلني الله إن لم أقتلك ، أتلحد في سلطاني وتبغيني
الغوائل؟
فقال له أبو عبدالله 7 : «والله ما فعلت ولا أردت ، فإن كان
بلغك فمن كاذب ، ولو كنت فعلت لقد ظُلم يوسف فغفر وابتُلي أيّوب فصبر واُعطي سليمان
فشكر ، فهؤلاء أنبياء الله تعالى وإليهم يرجع نسبك ».
فقال له المنصور : أجل ارتفع هاهنا ، فارتفع
فقال له : ان فلان بن فلان
__________________
أخبرني عنك بما ذكرت.
فقال : «أحضره يا أمير المؤمنين
ليواقفني على ذلك ».
فأحضر الرجل المذكور ، فقال له المنصور
: أنت سمعت ما حكيت عن جعفر؟.
قال : نعم.
قال له أبو عبدالله 7 : «فاستحلفه على ذلك ».
فقال له المنصور : أتحلف؟
قال : نعم. فابتدأ باليمين.
فقال أبو عبدالله : «دعني يا أمير
المؤمنين اُحلِّفه أنا».
فقال له : افعل.
فقال أبو عبدالله 7 للساعي : «قل : برئت من حول اللهّ
وقوّته والتجأت إلى حولي وقوّتي لقد فعل كذا وكذا جعفر».
فامتنع منها هنيهة ثمّ حلف بها ، فما
برح حتّى اضطرب برجله ، فقال أبو جعفر : جرّوا برجله ، فاخرجوه لعنه الله .
قال الربيع : وكنت رأيت جعفر بن محمد 7 حين دخل على المنصور يحرّك شفتيه ، فكلّما
حرّكهما سكن غضب المنصور حتّى أدناه منه ورضي عنه ، فلمّا خرج أبو عبدالله 7 من عند أبي جعفر اتبعته فقلت له : إنّ
هذا الرجل كان أشدّ الناس غضباً عليك ، فلمّا دخلت عليه وحرّكت شفتيك سكن غضبه ، فبأيّ
شيء كنت تحركهما؟
قال : «بدعاء جدّي الحسين بن عليّ 8 ».
فقلت : جعلت فداك ، وما هذا الدعاء؟
__________________
قال : «يا عدّتي عند شدّتي ، ويا غوثي
عند كربتي ، احرسني بعينك التي لاتنام ، واكنفني بركنك الذي لايرام ».
قال الربيع : فحفظت هذا الدعاء ، فما
نزلت بي شدّة قطّ فدعوت بهإ لاّ فرّج الله عنّي.
قال : وقلت لجعفر بن محمد : لم منعت
الساعي أن يحلف بالله تعالى؟
قال : «كرهت أن يراه الله تعالى يوحّده
ويمجّده فيحلم عنه ويؤخّر عقوبته ، فاستحلفته بما سمعت فاخذه الله أخذة رابية » .
وأمثال ما ذكرناه من الأخبار في آياته
ودلالته وإخباره بالغيوب كثيرة يطول تعداده
فمن ذلك : ما أورده أبو الفرج عليّ بن
الحسين الاصفهاني في كتاب (مقاتل الطالبيّين ) : ورواه بالأسانيد المتّصلة عن
رجاله : أنّ جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالأبواء ، منهم : إبراهيم بن محمد بن عليّ
بن عبدالله بن عبّاس ، وأبو جعفر المنصور ، وصالح بن عليّ ، وعبدالله بن الحسن بن
الحسن وابناه محمد وإبراهيم ، فحمد الله واثنى عليه ثمّ قال : قد علمتم أنّ ابني
هذا هو المهدي ، فهلمّ نبايعه ، فقال أبو جعفر : لأي شيء تخدعون أنفسكم ، والله
لقد علمتم ما الناس إلى أحد أصوَر
أعناقاً ولا أسرع إجابة
__________________
منهم إلى هذا الفتى
ـ يريد به محمد بن عبدالله ـ. فبايعوا محمداً جميعاً ومسحوا على يده.
وأرسل إلى جعفر بن محمد بن عليّ الصادق : فجاء وأوسع له عبدالله بن الحسن إلى
جنبه ثمّ تكلّم بمثل كلامه فقال جعفر : «لاتفعلوا ، فإنّ هذا الأمر لم يأت بعد ، إن
كنت ترى ـ يعني عبدالله ـ أنّ ابنك هذا هو المهديّ فليس به ، ولا هذا أوانه ، وإن
كنت إنّما تريد أن تخرجه غضباً لله وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإنا والله لا
ندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك في هذا الأمر».
فغضب عبدالله وقال : لقد علمت خلاف ما
تقول ، ووالله ما اطلعك الله على غيبه ولكنّه يحملك على هذا الحسد لابني.
فقال : «والله ما ذاك يحملني ، ولكن هذا
وإخوته وابناؤهم دونكم » وضرب بيده على ظهر أبي العبّاس ، ثمّ ضرب بيده على كتف
عبدالله بن الحسن وقال : «إنّها والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنها لهم ، وإنّ
ابنيك لمقتولان » ثمّ نهض وتوكّأ على يد عبدالعزيز بن عمران الزهريّ فقال : «أرأيت
صاحب الرداء الأصفر؟» يعني أبا جعفر.
فقال له : نعم.
فقال : «أنّا والله نجده يقتله ».
قال له عبدالعزيز : أيقتل محمداً؟
قال : « نعم ».
قال : فقلت في نفسي : حسده وربّ الكعبة
، قال : ثم والله ما خرجت من الدنيا حتّى رأيته قتلهما.
قال : فلمّا قال جعفر ذلك نهض القوم
فافترقوا وتبعه عبدالصمد وأبو جعفر فقالا : يا ابا عبدالله أتقول هذا؟
قال : «نعم ، أقر له والله وأعلمه ».
قال أبو الفرج : وحدّثني علي بن العبّاس
قال : أخبرنا بكار بن أحمد قال : حدّثنا الحسن بن الحسين ، عن عنبسة بن بجاد
العابد قال : كان جعفر ابن محمد إذا رأى محمد بن عبدالله تغرغرت عيناه وقال : «بنفسي
هو ، إنّ الناس ليقولون فيه إنّه المهديّ وإنّه لمقتول ، ليس في كتاب عليّ من
خلفاء هذه الاُمّة» .
ومن
ذلك : ما رواه صاحب كتاب (نوادر الحكمة) : عن
أحمد بن أبي عبداللهّ ، عن أبي محمد الحميري ، عن الوليد بن العلاء بن سيابة ، عن
زكار ابن أبي زكار الواسطي قال : كنت عند أبي عبدالله 7 إذ أقبل رجل فسلّم ثمّ قبّل رأس أبي
عبدالله 7 قال : فمسّ
أبو عبدالله ثيابه وقال : «ما رأيت كاليوم ثياباً أشدّ بياضاً ولا أحسن منها».
فقال : جعلت فداك ، هذه ثياب بلادنا
وجئتك منها بخير من هذه.
قال : فقال : «يا معتّب اقبضها منه ».
ثمّ خرج الرجل فقال أبو عبدالله 7 : «صدق الوصف وقرب الوقت ، هذا صاحب
الرايات السود الذي يأتي بها من خراسان » ثمّ قال : «يا معتّب ، ألحقه فسله ما
اسمه؟» ثمّ قال لي : «إن كان عبدالرحمن فهو والله هو».
قال : فرجع معتب فقال : قال : اسمي
عبدالرحمن.
قال زكار بن أبي زكار : فمكثت زماناً ، فلمّا
ولي ولد العبّاس نظرت إليه وهو يعطي الجند فقلت لأصحابه : من هذا الرجل؟ فقالوا : هذا
__________________
عبد الرحمن ، أبو
مسلم .
ـ وذكر ابن جمهور العمّي في كتاب
(الواحدة) قال : حدّث أصحابنا : أنّ محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن قال لأبي
عبدالله : والله إنّي لأعلم منك وأسخى منك وأشجع منك.
فقال : «أمّا ما قلت : إنّك أعلم منّي ،
فقد أعتق جدّي وجدّك ألف نسمة من كدّ يده فسمّهم لي ، وإن أحببت أن اُسمّهم لك إلى
آدم فعلت.
وأما ما قلت : إنّك أسخى منّي ، فوالله
ما بتّ ليلة ولله عليّ حقّ يطالبني به.
وأما ما قلت : إنّك أشجع منّي فكأني أرى
رأسك وقد جيءَ به ووضع على حجر الزنابير يسيل منه الدم إلى موضع كذا وكذا».
قال : فصار إلى أبيه فقال : يا أبه
كلّمت جعفر بن محمد بكذا فردّ عليّ كذا فقال أبوه : يا بنيّ آجرني الله فيك ، إنّ
جعفراً أخبرني أنّك صاحب حجر الزنابير.
ومن الأخبار الصريحة الدالة على إمامته :
ما رواه محمد بن يعقوب الكليني ، عن عليّ
بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن جماعة من رجاله ، عن يونس بن يعقوب قال : كنت
عند أبي عبدالله 7
فورد عليه رجل من أهل الشام فقال : إنّي رجلٌ صاحب كلام وفقه وفرائض ، وقد جئت
لمناظرة أصحابك.
فقال له أبو عبدالله 7 : «كلامك هذا من كلام رسول الله
____________
6
أو من عندك؟»
فقال : من كلام رسول الله 6 بعضه ومن عندي بعضه.
فقال له أبو عبدالله : «فأنت شريك رسول
الله 6؟»
قال : لا.
قال : «فسمعت الوحي عن الله عز وجل
يخبرك؟»
قال : لا.
قال : «فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول
الله 6؟»
قال : لا.
فالتفت أبو عبدالله 7 إليّ فقال : «يا يونس بن يعقوب ، هذا
قد خصم نفسه قبل أن يتكلّم » ثمّ قال : «يا يونس ، لو كنت تحسن الكلام كلّمته ».
قال يونس : فيا لها من حسرة ، فقلت : جعلت
فداك ، سمعتك تنهى عن الكلام وتقول : ويل لأصحاب الكلام ، يقولون : هذا ينقاد وهذا
لا ينقاد ، وهذا ينساق وهذا لا ينساق ، وهذا نعقله وهذا لا نعقله؟
فقال أبو عبدالله 7 : «إنّما قلت : ويل لقوم تركوا قولي
وذهبوا إلى ما يريدون ».
ثمّ قال : «اُخرج إلى الباب فانظر من
ترى من المتكلّمين فادخله ».
قال : فخرجت فوجدت حمران بن أعين ـ وكان
يحسن الكلام ـ ومحمد بن النعمان الأحول ـ وكان متكلّماً ـ وهشام بن سالم وقيس
الماصرـ وكانا متكلّمين ـ فأدخلتهم عليه ، فلمّا استقرّ بنا المجلس ـ وكنّا في
خيمة
لأبي عبدالله على
طرف جبل في طرف الحرم وذلك قبل الحجّ بأيّام ـ أخرج أبو عبدالله رأسه من الخيمة
فإذا هو ببعير يخبّ
فقال : «هشام وربّ الكعبة».
قال : فظنّنا أنّ هشاماً رجلٌ من ولد
عقيل كان شديد المحبّة لأبي عبدالله 7
، فإذا هو هشام بن الحكم قد ورد ـ وهو أوّل ما اختطّت لحيته وليس فينا إلاّ من هو
أكبر سنّاً منه ـ فوسّع له أبو عبدالله 7
وقال : «هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده » ثمّ قال لحمران : «كلّم الرجل » ـ يعني
الشامي ـ فكلّمه حمران فظهر عليه.
ثمّ قال : « يا طاقي ، كلمه » فكلمه
فظهرعليه محمد بن النعمان.
ثمّ قال : «يا هشام بن سالم كلّمه »
فتعارفا.
ثمّ قال لقيس الماصر : لأكلّمه » فكلّمه.
وأقبل أبو عبدالله 7 يتبسّم من كلامهما وقد استخذل الشامي
في يده ، ثمّ قال للشامي : «كلّم هذا الغلام» يعني هشام بن الحكم.
فقال : نعم.
ثمّ قال الشامي لهشام : يا غلام ، سلني
في إمامة هذا ـ يعني أبا عبدالله 7
ـ فغضب هشام حتّى ارتعد ، ثم قال له : خبرني يا هذا أربّك أنظر لخلقه أم هم
لأنفسهم؟
قال : بل ربّي أنظر لخلقه.
قال : ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا؟
قال الشامي : كلّفهم وأقام لهم حجّة
ودليلاً على ما كلّفهم ، وأزاح في ذلك عللهم.
__________________
فقال له هشام : فما هذا الدليل الذي
نصبه لهم؟
قال الشامي : هو رسول الله 6.
فقال له هشام : فبعد رسول الله 6 من؟
قال : الكتاب والسنّة.
قال له هشام : فهل ينفعنا اليوم الكتاب
والسنّة فيما اختلفنا فيه حتّى يرفع عنّا الاختلاف ويمكّنا من الاتّفاق؟
قال الشامي : نعم.
قال له هشام : فلم اختلفنا نحن وأنت
وجئتنا من الشام تخالفنا وتزعم أنّ الرأي طريق الدين ، وأنت مقر بأنّ الرأي لا
يجمع على القول الواحد المختلفين؟
فسكت الشامي كالمفكر ، فقال له أبو
عبدالله 7 : «ما لك
لاتتكلّم؟»
قال : إن قلت : إنّا ما اختلفنا كابرت ،
وإن قلت : إن الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت لأنّهما يحتملان الوجوه ،
ولكن لي عليه مثل ذلك.
فقال له أبوعبدالله 7 : «سله تجده مليّاً».
فقال الشامي لهشام : من أنظر للخلق ، ربّهم
أم أنفسَهم؟
قال هشام : بل ربّهم أنظر لهم.
فقال الشامي : فهل أقام لهم من يجمع
كلمتهم ويرفع إختلافهم ويبيّن لهم حقّهم من باطلهم؟
قال هشام : نعم.
قال الشاميّ : من هو؟
قال هشام : أمّا في ابتداء الشريعة
فرسول الله 9
وسلّم ، وأمّا بعد
النبيّ 6 فغيره.
قال الشاميّ : ومن هو غير النبيّ القائم
مقامه في حجّته.
قال هشام : في وقتنا هذا أم قبله؟
قال الشامي : بل في وقتنا هذا.
فقال هشام : هذا الجالس ـ يعني أبا
عبدالله 7 ـ الذي تشدّ
إليه الرّحال ، ويخبرنا عن أخبار السماء وراثة عن أب عن جدّ.
قال الشامي : فكيف لي بعلم ذلك؟
قال هشام : سله عمّا بدا لك.
قال الشامي : قطعت عذري ، فعليّ السؤال..
فقال له أبو عبدالله 7 : «أنا أكفيك المسالة يا شامي ، اُخبرك
عن مسيرك وسفرك ، خرجت يوم كذا ، وكان طريقك كذا ، ومررت على كذا ، ومرّ بك كذا».
فاقبل الشامي كلّما وصف له شيئاً من
أمره يقول : صدقت والله ، ثم قال الشامي : أسلمت الساعة.
فقال له أبو عبدالله 7 : «إنّك امنت بالله الساعة ، إنّ
الإسلام قبل الإيمان ، وعليه يتوارثون ويتناكحون ، والإيمان عليه يثابون ».
قال الشامي : صدقت ، فانا الساعة أشهد
أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وأنّك وصيّ الأوصياء.
قال : فاقبل أبو عبدالله 7 على حمران فقال : « يا حمران تجري
الكلام على الأثر فتصيب ».
والتفت إلى هشام بن سالم فقال : «تريد
الأثر ولا تعرف ».
ثمّ التفت إلى الأحول فقال : «قيّاس
روّاغ تكسر باطلاً بباطل ، إلاّ أنّ باطلك أظهر».
ثمّ التفت إلى قيس الماصر فقال : تتكلّم
وأقرب ما تكون من الخبرعن الرسول 6
أبعد ما تكون منه ، تمزج الحقّ بالباطل ، وقليل الحقّ يكفي عن كثير الباطل ، أنت
والأحول قفّازان حاذقان ».
قال يونس بن يعقوب : فظننت والله أنّه
يقول لهشام قريباً مما قال لهما ، فقال : « يا هشام لا تكاد تقع ، تلوي رجليك إِذا
هممت بالأرض طرت ، مثلك فليكلّم الناس ، اتق الزلّة والشفاعة من ورائك ».
وهذا الخبر مع ما فيه من المعجز الدالّ
على إمامة أبي عبدالله 7
يتضمّن إثبات حجة النظر ودلالة الإِمامة من طريق النظر والاستدلال.
__________________
(الفصل الرابع )
في ذكر طرف من مناقبه ومختصر من
أخباره ومآثره عليه السلام
كان 7
أعلم أولاد رسول الله 6
في زمانه بالاتّفاق ، وأنبههم ذكراً ، وأعلاهم قدراً ، وأعظمهم منزلة عند العامّة
والخاصة ، ولم يُنقل عن أحد من سائر العلوم ما نقل عنه ، فإن أصحاب الحديث قد
جمعوا أسامي الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في المقالات والديانات فكانوا
أربعة آلاف رجل.
روى أبو محمد الحسن بن حمزة الحسيني في
كتاب ( التفهيم ) : بإسناده ، عن سدير الصيرفي قال : قال الصادق 7 : «نحن تراجمة وحي الله ، نحن خزّان
علم الله ، نحن قوم معصومون ، أمر الله بطاعتنا ونهىعن معصيتنا ، نحن الحجّة
البالغة على من دون السماء وفوق الأرض » .
وفيه أيضاً : بإسناده ، عن جميل قال : سمعت
أبا عبدالله 7 يقول : «الناس
ثلاثة : عالم ، ومتعلّم ، وغثاء ، فنحن العلماء ، وشيعتنا المتعلّمون ، وسائر
الناس غثاء» .
وكان يقول : 7 «علمنا غابر ومزبور ، ونكت في القلوب ،
ونقرٌ في الأسماع ، وإنّ عندنا الجفر الأحمر والجفر الأبيض ومصحف فاطمة 3 ، وإنّ عندنا الجامعة فيها جميع ما
يحتاج الناس إليه ،.
__________________
فسئل عن تفسير كلامه 7 ، فقال : «أمّا الغابر : فالعلم بما
يكون.
وأمّا المزبور : فالعلم بما كان.
وأمّا النكت في القلوب : فهو الإلهام.
وأمّا النقر في الأسماع : فحديث
الملائكة : نسمع كلامهم
ولا نرى أشخاصهم.
وأمّا الجفر الأحمر : فوعاء فيه سلاح
رسول اللهّ 6 ولن يخرج
حتّى يقوم قائمنا أهل البيت.
وأمّا الجفر الأبيض : فوعاء فيه توراة
موسى ، وإنجيل عيسى ، وزبور داود :
، وكتب الله المنزلة.
وأمّا مصحف فاطمة : 3 ففيه ما يكون من حادثٍ ، وأسماء كلّ من
يملك إلى أنّ تقوم الساعة.
وأمّا الجامعة : فهي كتاب طوله سبعون
ذراعاً ، إملاء رسول الله 6
وخطّ عليّ بن أبي طالب 7
بيده ، فيه والله جميعما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة ، وفيه أرش الخدش
والجلدة ونصف الجلدة » .
وكان 7
يقول : «حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث عليّ بن أبي طالب
أميرالمؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله 6
، وحديث رسول الله
__________________
6
حديث الله عزّ وجلّ » .
وروى عنه محمد بن شريح أنه قال : «لولا
أن الله تعالى فرض ولايتنا وأمر بمودّتنا ما وقفناكم على أبوابنا ، ولا أدخلناكم
بيوتنا ، والله ما نقول باهوائنا ، ولا نقول برأينا ، ولا نقول إلاّ ما قال ربنا ،
اُصول عندنا نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم ».
وروى عنه أبو حمزة الثمالي أنه قال : «ألواح
موسى 7 عندنا ، وعصا
موسى عندنا ونحن ورثة النبيّين » .
وروى معاوية بن وهب ، عن سعيد السمّان
قال : كنت عند أبي عبدالله 7
إذ دخل عليه رجلان من الزيديّة فقالا له : أفيكم إمام مفترض الطاعة؟
قال : فقال : «لا».
فقالا : قد أخبرنا عنك الثقات أنّك تقول
به؟ وسمّوا قوماً.
فغضب 7
وقال : «ما أمرتهم بهذا».
فلمّا رأيا الغضب في وجهه خرجا ، فقال
لي : «أتعرف هذين؟»
قلت : نعم ، هما من أهل سوقنا ، وهما من
الزيديّة ، وهما يزعمان أنّ سيف رسول الله 6
عند عبدالله بن الحسن.
فقال : «كذبا لعنهما الله ، والله ما
رآه عبدالله بن الحسن بعينيه ولابواحدة من عينيه ، ولا رآه أبوه إلاّ أن يكون رآه
عند عليّ بن الحسين ، فإن كانا
__________________
صادقين فما علامة فى
مقبضه؟ وما أثر في موضع مضربه؟ وإنّ عندي لسيف رسول الله 6 ورايته ودرعه ولامته ومغفره ، فإن كانا صادقين فما علامة في درع
رسول الله 6 وإن عندي
لراية رسول الله المغلّبة ، وإن عندي ألواح موسى وعصا موسى ، وإن عندي لخاتم
سليمان بن داود ، وإن عندي الطست التي كان موسى يقرب بها القربان ، وإن عندي الاسم
الذي كان رسول الله 6
إذا وضعه بين المسلمين والمشركين لم يصل من المشركين إلى المسلمين نشّابة ، وإن
عندي لمثل الذي جاءت به الملائكة ، ومثل السلاح فينا كمثل التابوت فيبني إسرائيل ،
كانت بنو إسرائيل في أيّ أهل بيت وجد التابوت على أبوابهم اُوتوا النبوة ، ومن صار
إليه السلاح منّا اُوتي الإمامة ، ولقد لبس أبي درع رسول الله 6 فخطّت على الأرض خطيطاً ، ولبستها أنا
فكانت وكانت ، وقائمنا من إذا لبسها ملأها إن شاء الله».
ووجدت في كتاب (كمال الدين ) للشيخ أبي
جعفر بن بابويه ـ رضي الله عنه ـ : حدّثنا عبدالواحد بن محمد العطّار قال : حدّثنا
عليّ بن محمد بن قتيبة النيسابوري قال : حدّثنا حمدان بن سليمان ، عن محمد بن
إسماعيل ابن بزيع ، عن حيّان السراج قال : سمعت السيد إسماعيل بن محمد الحميري
يقول : كنت أقول بالغلوّ وأعتقد غيبة محمد بن الحنفيّة زماناً ، فمنّ
__________________
الله عليّ بالصادق
جعفر بن محمد 8
فانقذني من النار وهداني إلى سواء الصراط ، فسألته ـ بعد ما صحّ عندي بالدلائل
التي شاهدتها منه أنّه حجّة الله على خلقه وأنّه الإمام الذي افترض الله طاعته ـ
فقلت له : يا ابن رسول الله ، قد روي لنا أخبار عن آبائك : في الغيبة وصحّة كونها ، فاخبرني بمن
تقع؟
فقال 7
: «إنّ الغيبة ستقع بالسادس من ولدي ، وهو الثاني عشر من الأئمة الهداة بعد رسول
الله 6 ، أوّلهم
أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب وآخرهم القائم بالحق بقية الله في الأرض وصاحب
الزمان ، والله لو بقي في غيبته ما بقي نوح في قومه لم يخرج من الدنيا حتى يظهر
فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً».
قال السيد : فلما سمعت ذلك من مولاي
الصادق 7 تبت إلى
الله تعالى على يديه وقلت قصيدتي التي أوّلها :
تجعفرتُ باسمِ اللهِ واللهُ أكبرُ
|
|
يقنتُ أن اللهَ يعفو ويغفرُ
|
ودنتُ بدينِ غير ما كنتُ دائناً
|
|
ونهاني سيّدُ الناس جعفرُ
|
فقلتُ هب إنّي قد تهوّدت برهة
|
|
لاّ فديني دين من يتنصّرُ
|
فإنّي إلى الرحمن من ذاكَ تائبٌ
|
|
نّي قد أسلمتُ واللهُ أكبرُ
|
فلستُ بغال ماحييتُ وراجع
|
|
لى ما عليه كنتُ اُخفي واُضمرُ
|
ولا قائلاً حيّ برضوى محمد
|
|
ن عاب جهّالٌ مقالي وأكثروا
|
ولكنّه ممّن مضى لسبيله
|
|
لى أفضل الحالاتِ يقفي ويخبرُ
|
مع الطيّبين الطاهرين الأولى لهم
|
|
ن المصطفى فرع زكيّ وعنصرُ
|
إلى آخرها ، وقلت بعد ذلك أيضاً أبيات
شعر وهي :
أيا راكباً نحوَ المدينةِ جسرةً
|
|
عُذافِرَةً يَطوي بها كلّ سَبسب
|
إذا ما هداكَ اللهُ عاينتَ جعفراً
|
|
فقل لوليّ اللهِ وابنِ المهذَّبِ
|
ألا يا أمينَ اللهِ وابنَ أمينه
|
|
أتوبُ إلى الرحمنِ ثمّ تأوّبي
|
إليكَ من الأمرِ الذي كنتُ مطنباً
|
|
اُحاربُ فيه جاهداً كلّ مُعرب
|
وماكان قولي في ابنِ خولةَ مبطناً
|
|
معاندةً منّي لنسل المطيّبِ
|
ولكن روينا عن وصي نبيّنا
|
|
وما كان فيما قاله بالمكذّبِ
|
بأنّ وليّ الأمر يفقدُ لايُرى
|
|
ستيراً كفعل الخائفِ المترقّب
|
فتقسمُ أموالُ الفقيدِ كأنّما
|
|
تغيّبهُ بين الصفيحِ المنصّبَ
|
فيمكثُ حيناً ثمّ يشرقُ شخصهُ
|
|
مضيئا ًبنور العدلِ إشراق كوكبِ
|
يسير بنصرِ اللهِ من بيت ربّه
|
|
على سؤددٍ منه وأمر مسبّب
|
يسير إلى أعدائهِ بلوائهِ
|
|
فيقتلهم قتلاً كحرّان مغضبِ
|
فلمّا رُوي أنّ ابن خولةَ غائب
|
|
صرفنا اليه قوله لم نكذّبِ
|
وقلنا هو المهديّ والقائم الذي
|
|
يعيش به من عدله كلّ مجدبِ
|
فإن قلت : لا ، فالقول قولك والذي
|
|
أمرت فحتمٌ غير ما متعصبِ
|
وأشهد ربّي أنّ قولكَ حجّة
|
|
على الناس من مطيعٍ ومذنبِ
|
بأنّ وليّ الأمر والقائم الذي
|
|
تطلّع نفسي نحوهُ بتطرّبِ
|
له غيبة لابدّ من أن يغيبها
|
|
فصلّى عليه اللهُ من متغيّبِ
|
فيمكثُ حيناً ثمّ يظهر حينهُ
|
|
فيملأ عدلاً كلّ شرقٍ ومغربِ
|
بذاكَ أدين اللهَّ سرّاً وجهرةً
|
|
ولستُ وإن عوتبتُ فيه بمعتبِ
|
__________________
قال : وكان حيّان السرّاجِ الراوي لهذا
الحديث من الكيسانيّة وكان السيد بن محمد بلا شكّ كيسانيّاَ قبل ذلك يزعم أنّ ابن
الحنفيّة هو المهديّ وأنّه مقيم في جبال رضوى وشعره مملوءٌ بذلك فمن ذلك قوله :
ألا إنّ الأئمّةَ من قريشٍ
|
|
ولاةُ الأمرِ أربعةٌ سواءُ
|
عليّ والثلاثة من بنيه
|
|
هم أسباطنا والأوصياءُ
|
فسبطٌ سبط إِيمان وبرّ
|
|
وسبط غيّبته كربلاءُ
|
وسبط لايذوق الموتَ حتّى
|
|
يقودَ الجيشَ يقدمه اللّواءُ
|
يغيبُ لايُرى عنّا زماناً
|
|
برضوى عنده عسلٌ وماءُ
|
وقوله أيضاً :
أيا شِعبَ رضوى ما لمن بك لايُرى
|
|
وَبنا إليهِ مِنَ الصبابةِ أولقُ
|
حتى متى؟ وإلى متى؟ وكم المدى؟
|
|
يا ابن الوصيّ وأنتَ حيّ ترزقُ
|
إنّي لآمِلُ أن أراكَ وأنّني
|
|
مِن أن أموتُ ولا أراكَ لأفرقُ
|
وقوله أيضاً :
ألاحيّ المقيمَ بشعب رضوى
|
|
وأهد ِلهُ بمنزلهِ السلاما
|
وقل يا ابن الوصيّ فَدتَكَ نفسي
|
|
أطلتَ بذلكَ الجبلَ المقاما
|
فَمُرَ بمعشر والوكَ منّا
|
|
وسمّوكَ الخليفةَ والإماما
|
فَما ذاقَ ابن خولةَ طَعمَ موتٍ
|
|
وَلا وارت له أرضٌ عِظاما
|
وفي شعره الذي ذكرناه دليل على رجوعه عن
ذلك المذهب وقبوله
__________________
إمامة الصادق 7.
وفيه أيضاً دليل على أنّه 7 دعاه إلى إمامته وعلى صحّة القول بغيبة
صاحب الزمان 7.
ومما نقل عنه صلوات الله عليه في الحجّة
والبيان والردّ على منكري الحقّ ومخالفي الإيمان ما رواه محمد بن يعقوب الكلينيّ ،
عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن العبّاس بن عمرو الفقيمي : أنّ ابن أبي العوجاء
، وابن طالوت ، وابن الأعمى ، وابن المقفّع في نفر من الزنادقة كانوا مجتمع ينفي
الموسم في المسجد الحرام ، وأبو عبدالله جعفر بن محمد إذ ذاك فيه يفتي الناس
ويفسّر لهم القران ويجيب عن المسائل ، فقال القوم لابن أبي العوجاء : هل لك في
تغليط هذا الجالس وسؤاله عمّا يفضحه عند هؤلاء المحيطين به ، فقد ترى فتنة الناس
به وهو علاّمة زمانه.
فقال لهم ابن أبي العوجاء : نعم.
ثمّ تقدّم ففرّق الناس وقال : يا أبا
عبدالله ، إنّ المجالس أمانات ، ولا بدّ لكلّ من به سعال أن يسعل ، أفتاذن لي في
السؤال؟
فقال له أبوعبدالله 7 : «سل إِن شئت ،.
فقال : إلى كم تدوسون هذا البيدر ، وتلوذون
بهذا الحجر ، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر ، وتهرولون حوله هرولة
البعير إذا نفر ، من فكر في هذا وقدّر علم أنّه فعل غير حكيم ولا ذي نظر ، فقل
إنّك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك اُسّه ونظامه؟
فقال الصادق 7 : «إنّ من أضلّه الله وأعمى قلبه
استوخم الحقّ فلم يستعذبه ، وصار الشيطان وليّه وربّه ، يورده من اهل الهلكة ، وهذا
بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثّهم على تعظيمه وزيارته
وجعله قبلة للمصلّين ، فهو شعبة من رضوانه ، وطريق يؤدّي إلى
غفرانه ، منصوب على
استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال ، خلقه قبل دحو الأرض بألفي عام ، وأحقّ من
اُطيع ـ فيما أمر وانتهى عمّا زجر ـ الله المنشئ للأرواح والصور».
فقال له ابن أبي العوجاء : ذكرت يا أبا
عبدالله فأحلت على غائب.
فقال الصادق 7 : «كيف يكون غائباً ـ يا ويلك ـ من هو
معلقه شاهد ، وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ويعلم أسرارهم ، لا يخلو
منه مكان ولا يشتغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب منه من مكان ، تشهد له بذلك
اثاره وتدلّ عليه أفعاله !! والذي بعثه بالايات المحكمة والبراهين الواضحة محمد 6 جاءنا بهذه العبادة ، فأن شككت في شيء
من أمره فاسأل عنه أوضحه لك ».
قال : فأبلس ابن أبي العوجاء فلم يدرما
يقول ، فانصرف من بين يديه وقال لأصحابه : سألتكم أن تلتمسوا لي جمرة فألقيتموني
على جمرة.
قالوا له : اُسكت ، فوالله لقد فضحتنا
بحيرتك وانقطاعك ، وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه.
فقال : إليّ تقولون هذا ! إنّه ابن من
حلق رؤوس مَن تَرون ، وأشار بيده إلى أهل الموسم .
ومن ذلك : ما روي : أنّ أبا شاكر
الديصاني وقف ذات يوم في مجلسه 7
فقال له : إنّك لأحد النجوم الزواهر ، كان آباؤك بدوراً بواهر واُمّهاتك عقيلات
عباهر ، وعنصرك من
أكرم العناصر ، وإذا ذكر العلماء
__________________
فبك تثنّى الخناصر ،
فخبّرنا أيها البحر الخضمّ الزاخر ما الدليل على حدوث العالم؟
فقال له أبو عبدالله 7 : «من أقرب الدليل على ذلك ما أذكره لك
» ثم دعا ببيضة فوضعها في راحته ثمّ قال : «هذا حصن ملموم ، باطنه غِرقئ رقيق يطيف به كالفضّة السائلة والذهبة
المائعة ، افتشك في ذلك؟»
قال أبو شاكر : لا شكّ فيه.
قال أبو عبدالله 7 : « ثمّ إنه ينفلق عن صورة كالطاووس ، اَدَخله
شيء غير ما عرفت؟»
قال : لا.
قال : «فهذا الدليل على حدوث العالم ».
فقال أبو شاكر : دللت يا أبا عبدالله
فاوضحت ، وقلت فاحسنت ، وذكرت فاوجزت ، وقد علمت أنّا لا نقبل إلاّ ما أدركناه
بأبصارنا ، أو سمعناه بآذاننا ، أو ذقناه بافواهنا ، أو شممناه باُنوفنا ، أو
لمسناه ببشرتنا.
فقال له أبو عبدالله 7 : « ذكرت الحواس الخمس ، وهي لاتنتفع
في الاستنباط إلاّ بدليل ، كما لا تنقطع الظلمة بغير مصباح ».
أراد 7
أنّ الحواس لا توصل إلى العلم بالغائبات إلاّ بالعقل ، وإنّ الذي أراه من حدوث
الصورة معقول يوصل إلى العلم به بالمحسوس.
ومن ذلك : ما روي أنّه سئل عن التوحيد
والعدل فقال : «التوحيد أن لا
__________________
تجوز على ربك ما جاز
عليك ، والعدل أن لا تنسب إِلى خالقك ما لامك عليه » وهذا يؤول في المعنى إلى قول
أميرالمؤمنين 7
: «التوحيدأن لا تتوهّمه ، والعدل أن لا تتّهمه » .
وقيل للصادق 7 : أنت أعلم أم أبوك؟
فقال : «أبي أعلم منّي ، وعلم أبي لي ».
وروى عليّ بن أسباط ، عن داود الرقّي
قال : قلت لأبي عبدالله 7
: كيف أدعو الله أن يرضى عنّي إمامي.
قال : «تقول : اللهم ربّ إمامي وربّي ، وخالق
إمامي وخالقي ، ورازق إمامي ورازقي ، ارض عني وارض عنّي إمامي ».
وما حُفظ عنه وتُلقّي منه في أنواع
العلوم وفنون الحكم أكثر من أن يحويه كتاب ، أو يحصره حساب ، والاقتصار على ما
أوردناه أليق بالباب ، والله الموفّق للصواب.
__________________
(الفصل الخامس )
في ذكر أولاده عليه السلام ونبذ من أخبارهم
كان له 7
عشرة أولاد : إسماعيل ، وعبدالله ، واُمّ فروة ، اُمّهم فاطمة بنت الحسين بن عليّ
بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب :.
وموسى 7
، وإسحاق ، وفاطمة ، ومحمّد ، لاُمّ ولد اسمها حميدة البربريّة.
والعبّاس ، وعليّ ، وأسماء ، لأمّهات
أولاد شتّى.
أما إسماعيل : فكان أكبر إخوته ، وكان
أبوه شديد المحبّة له والبّر به ، وقد كان يظن قوم من الشيعة في حياة الصادق 7 أنّه القائم بعده والخليفة له ، لميل
أبيه إليه وإكرامه له ، ولأنّه أكبر إخوته سنّاً ، فمات في حياة أبيه الصادق 7 بالعريض وحُمل على رقاب الناس إلى أبيه
بالمدينة ، فجزع عليه جزعاً شديداً ، وتقدّم سريره بغير حذاء ولا رداء ، وكان يأمر
بوضع سريره على الأرض قبل دفنه مراراً كثيرة ويكشف عن وجهه وينظر إليه ، يريد 7 إزالة الشبهة عن الذين ظنّوا خلافته له
من بعده ، وتحقيق أمر وفاته عندهم. ودفن بالبقيع ;.
ولمّا مات إسماعيل رجع عن القول بإمامته
بعد أبيه من كان يظنّ ذلك ، وأقام على حياته طائفة لم تكن من خواصّ أبيه بل كانوا
من الأباعد.
__________________
فلمّا مات الصادق 7 انتقل جماعة منهم إلى القول بإمامة
موسى بن جعفر 8
، وافترق الباقون منهم فرقتين : فريق منهم رجعوا عن حياة إسماعيل وقالوا بإمامة
ابنه محمد بن إسماعيل لظنّهم أنّ الإمامة كانت في أبيه وإنّ الابن أحقّ بمقام
الإمامة من الأخ ، وفريق منهم ثبتوا على حياة إسماعيل وهم اليوم شذاذ ، وهذان
الفريقان يسمّيان الإسماعيليّة.
وأما عبدالله بن جعفر : فإنّه كان أكبر
إخوته بعد إسماعيل ، ولم تكن منزلته عند أبيه 7
منزلة غيره من الأولاد ، وكان متّهماً بالخلاف على أبيه في الاعتقاد ، وادّعى
الإمامة بعد وفاة أبي عبدالله 7
، واتبعه قومٌ ثمّ رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة موسى 7 لمّا ظهرعندهم براهين إمامته ، ولم يبق
على القول بإمامة عبدالله الاّ طائفة يسيرة تسمّى الفطحيّة ، وإنّما لزمهم هذا
اللقب لأنّه كان أفطح الرجلين ، ويقال : لأنّ داعيهم إلى ذلك رجل اسفه عبدالله بن
أفطح.
وأما محمد بن جعفر : فكان يرى رأي
الزيديّة في الخروج بالسيف ، وكان سخيّاً شجاعاً ، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وكان
يذبح كلّ يوم كبشاً للضيافة ، وخرج على المامون في سنة تسع وتسعين ومائة ، فخرج
لقتاله عيسى الجلودي فهزم أصحابه وأخذه وأنفذه إلى المأمون ، فوصله وأكرمه ، وكان
مقيماً معه بخراسان يركب إليه في موكب بني عمّه ، وكان المأمون يحتمل منه ما لا
يحتمل السلطان من رعيّته.
وروي : أنّ المأمون أنكر ركوبه إليه في
جماعة الطالبيّة التي خرجت عليه معه ، فخرج التوقيع من المأمون إليهم : لا تركبوا
مع محمّد بن جعفر واركبوا مع عبيدالله بن الحسين. فأبوا أن يركبوا ، ولزموا
منازلهم ، فخرج التوقيع : إركبوا مع من أحببتم. فكانوا يركبون مع محمّد بن جعفر
إذا ركب
إلى المامون ، وينصرفون
بإنصرافه.
وأما إسحاق بن جعفر : فكان ورعاً فاضلاً
مجتهداً ، وروى عنه الناس الحديث والأثار ، وكان ابنُ كاسبِ إذا حدّث عنه قال : حدّثني
الثقة الرضي إسحاق بن جعفر ، وكان يقول بإمَامة أخيه موسى بن جعفر ، وروى عن أبيه
النصّ عليه بالإمامة.
وأما عليّ بن جعفر : فإنّه كان راوية
للحديث ، كثير الفضل والورع ، ولزم أخاه موسى بن جعفر وروى عنه مسائل كثيرة ، وقال
بإمامته ، وإمامة عليّ ابن موسى ، ومحمد بن عليّ :
، وروى من أبيه النصّ على موسى أخيه 8.
وكان العبّاس بن جعفر فاضلاً نبيلاً.
الفهرس الموضوعي
مقدمة التحقيق.................................................................. ٥
متن
الكتاب................................................................... ٣٣
مقدمة
المؤلّف.................................................................. ٣٣
الركن
الاَول : ................................................................ ٣٨
في
ذكر النبي محمّد (ص)........................................................ ٣٩
الباب
الاَول................................................................. ٤١
الفصل
الاَول
: في ذكر مولده
ونسبه ووقت وفاته (ص)....................... ٤٢
الفصل
الثاني : في ذكر أسمائه وشرف أصله ونسبه(ص)....................... ٤٧
الفصل
الثالث : في ذكر مدة حياته (ص).................................... ٥٢
الباب
الثاني : في ذكر آياته و معجزاته (ص)................................... ٥٥
آياته
ومعجزاته (ص) قبل المبعث......................................... ٥٥
آياته
ومعجزاته (ص) قبل المبعث......................................... ٧٠
ذكر
بعض معجزاته (ص)............................................... ٧٤
الباب
الثالث : ........................................................... ١٠١
الفصل
الأول : في ذكر مبدأ المبعث....................................... ١٠٢
الفصل
الثالث : كفاية الله تعالى المستهزئين................................. ١١٣
الفصل
الرابع : الهجرة إلى الحبشة......................................... ١١٥
الفصل
الخامس : ما لاقاه (ص) من أذى المشركين.......................... ١٢٠
الفصل
السادس : إسرائه ودخوله (ص)في شعب أبي طالب.................. ١٢٤
الفصل
السابع : عرضه (ص) نفسه على قبائل العرب....................... ١٣٣
الفصل
الثامن : مكر المشركين برسول الله (ص)وهجرته إلي طالب........... ١٤٥
الباب
الرابع : مغازي رسول الله (ص) وسراياه................................ ١٦٣
غزوة
بدرالكبرى..................................................... ١٦٨
غزوة
السويق........................................................ ١٧٢
غزوة
ذي أمّر........................................................ ١٧٣
غزوة
القردة......................................................... ١٧٤
غزوة
بني قينقاع...................................................... ١٧٥
غزوة
اُحد........................................................... ١٧٦
غزوة
حمراء الأسد.................................................... ١٨٣
غزوة
الرجيع......................................................... ١٨٥
غزوة
بئر معونة....................................................... ١٨٦
غزوة
بني النضير...................................................... ١٨٨
غزوة
بني لحيان....................................................... ١٨٨
غزوة
ذات الرقاع.................................................... ١٨٩
غزوة
بدر الأخيرة.................................................... ١٩٠
غزوة
الخندق......................................................... ١٩٠
غزوة
بني المصطلق.................................................... ١٩٦
سرية
عكاشة بن محصن إلي الغمرة...................................... ٢٠٠
سرية محمّد
بن مسلمة إلي بني عبدالله.................................... ٢٠١
سريّة
زيد بن حارثة إلى الجموم......................................... ٢٠١
سريّة
بن حارثة إلى الطرف............................................ ٢٠١
غزوة
عليّ بن أبي طالب (ع) إلى بني عبدالله............................. ٢٠٢
سريّة
عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل............................. ٢٠٢
بعث
رسول الله (ص) إلى العرينين...................................... ٢٠٢
غزوة
الحديبية........................................................ ٢٠٣
غزوة
خيبر........................................................... ٢٠٧
غزوة
مؤتة........................................................... ٢١٢
غزوة
الفتح.......................................................... ٢١٥
سرية
غالب بن عبدالله إلى بني مدلج.................................... ٢٢٧
سرية
عمرو بن اُمّية إلى بني الدليل...................................... ٢٢٧
سرية
عبدالله بن سهيل إلى بني محارب................................... ٢٢٧
سرية
خالد بن الوليد إلى بني جذيمة..................................... ٢٢٧
غزوة
حنين.......................................................... ٢٢٨
غزوة
الطائف........................................................ ٢٣٣
غزوة
تبوك : ........................................................ ٢٤٣
سرية بأبي
عبيدةإلى بني جذام........................................... ٢٤٤
سرية
خالدا بن الوليد إلي الإكيدر...................................... ٢٤٤
مكر
بعض أصحاب رسول الله (ص) به................................. ٢٤٥
ونزلت
سورة براءة................................................... ٢٤٨
قدوم
الوفود على رسول الله (ص) ..................................... ٢٥٠
قدوم
وفد طي على رسول الله (ص).................................... ٢٥١
قتل
علي (ع) لعمرو بن معدي كرب................................... ٢٥٢
قدوم
وفد نجران...................................................... ٢٥٤
خروجه
(ص) للمباهلة................................................ ٢٥٦
بعثه (ص)
لعلي (ع) إلي اليمين........................................ ٢٥٧
حجّة
الوداع......................................................... ٢٥٩
بيعة غدير
خمّ........................................................ ٢٦١
مرض
رسول الله (ص)................................................ ٢٦٣
وفاة
رسول الله (ص) ودفنه............................................ ٢٦٨
الباب
الخامس : ........................................................... ٢٧٣
الفصل
الأول : أزواج رسول الله (ص) وأولادة............................. ٢٧٤
الفصل
الثاني : أعمامه وعمّاته (ص)...................................... ٢٨١
الفصل
الثالث : قراباته (ص) من جهة اُمّه................................. ٢٨٥
الفصل
الرابع : مواليه ومولياته وجواريه.................................... ٢٨٦
الباب
السادس : ذكر السيّدة الزهراء (ع).................................... ٢٨٩
الفصل
الأول : مولدها وأسمائها وألقابها (ع)............................... ٢٩٠
الفصل
الثاني : عصمتها ومنزلتها من الله تعالى.............................. ٢٩٣
الفصل
الثالث
: وفاتها (ع)
وموضع قبرها .................................. ٣٠٠
الركن
الثاني
في
ذكر الاِمام علي بن أبي طالب (ع).......................................... ٣٠٣
الباب
الأول............................................................... ٣٠٥
الفصل
الأول : ميلاده (ع).............................................. ٣٠٦
الفصل
الثاني : أسمائه وألقابه (ع)......................................... ٣٠٧
الفصل
الثالث : وفاته ومدة خلافته (ع)................................... ٣٠٩
الباب
الثاني : النصوص الدالة على خلافته (ع)............................... ٣١٣
الباب
الثالث : الآيات والدلالات المؤيدة لإمامته (ع).......................... ٣٣٥
الباب
الرابع : مناقبه وفضائله (ع)........................................... ٣٥٧
الفصل
الأول : نبذ من خصائصه التي تفرّد بها.............................. ٣٦٠
الفصل
الثاني : مقاماته في الجهاد مع النبي(ص).............................. ٣٧٤
مبينه
(ع) في فراش النبي (ص)......................................... ٣٧٤
مقاماته
(ع) في غزوة بدر............................................. ٣٧٥
مقاماته
(ع) في غزوة اُحد............................................. ٣٧٦
مقاماته
(ع) في غزوة الأحزاب......................................... ٣٧٩
مواقفه
في بني قريظة................................................... ٣٨٢
مقاماته
المشهورة في غزوة وادي الرمل.................................. ٣٨٢
مقاماته
قبل الفتح..................................................... ٣٨٤
مقاماته(ع)
في فتح مكّة............................................... ٣٨٥
حسن
بلائه (ع) فيما اتّصل بفتح مكّة.................................. ٣٨٦
مقاماته
في غزوة حنين................................................. ٣٨٦
مقاماته
في يوم الطائف................................................ ٣٨٨
الفصل
الثالث : في ذكر سبب استشهاده (ع)............................. ٣٨٩
الفصل
الرابع : موضع قبر (ع) وكيفية دفنه................................ ٣٩٣
الباب
الخامس : أولاد (ع) وعددهم وأسمائهم................................ ٣٩٥
الركن
الثالث :
الأئمّة
من أبناء أمير المؤمنين (ع)............................................... ٣٩٩
الباب
الأول : ذكر الحسن بن علي بن أبي طالب (ع)......................... ٤٠١
الفصل
الأول : مولده ، ومبلغ عمره ، ومدّة خلافته ، ووقت وفاته ، وموضع قبره (ع) ٤٠٢
الفصل
الثاني :
المنصوص عدالّة
على إمامته (ع)............................. ٤٠٤
الفصل
الثالث : طرف من خصائصه ومناقبه (ع)........................... ٤١١
الفصل
الرابع : سبب وفاته (ع).......................................... ٤١٤
الفصل
الخامس : ولد الحسن (ع)وعددهم وأسمائهم......................... ٤١٦
الباب
الثاني : الامام الحسين بن عليّ (ع)..................................... ٤١٩
الفصل
الأول : تاريخ مولده ومبلغ سنه(ع)................................ ٤٢٠
الفصل
الثاني : النصوص الدالة على إمامته (ع)............................. ٤٢١
الفصل
الثالث : بعض خصائصه ومناقبه................................... ٤٢٥
الفصل
الرابع : خروجه (ع) على يزيد بن معاوية........................... ٤٣٤
وصل
كتب أهل الكوفة إلية (ع)...................................... ٤٣٦
قدوم
مسلم بن عقيل الكوفة........................................... ٤٣٧
مقتل
هانئ بن عروة.................................................. ٤٤٠
أسر
مسلم بن عقيل واستشهاد......................................... ٤٤٣
وتوجّه
الحسين (ع) نحو العراق........................................ ٤٤٦
لقاؤة
(ع) بالحرّ بن يزيد.............................................. ٤٤٨
قدوم
عمر بن سعد بالجيش............................................ ٤٥١
ليلة
العاشر من المحرم.................................................. ٤٥٥
يوم
العاشر من المحرم.................................................. ٤٥٨
استشهاد
الحسين (ع)................................................. ٤٦٩
وصل السبايا
إلي الكوفة............................................... ٤٧١
انفاذ
السابا إلى الشام................................................. ٤٧٣
السابا
في مجلس يزيد.................................................. ٤٧٤
الشهداء
مع الحسين (ع).............................................. ٤٧٦
الفصل
الخامس : عدد أولاد الحسين (ع).................................. ٤٧٨
الباب
الثالث : ذكر الإمام الرابع سيّد العابدين (ع)........................... ٤٧٩
الفصل
الأول : ألقابه وكناه ، وتاريخ مولده ، ومبلغ عمره ، ووقت وفاته ، وموضع قبره ٤٨٠
الفصل
الثاني : النصوص الدالة على إمامته (ع)............................. ٤٨٢
الفصل
الثالث : ذكر شيء من معجزاته (ع)............................... ٤٨٥
الفصل
الرابع : بعض مناقبه وفضائله (ع).................................. ٤٨٧
الفصل
الخامس : أولاده (ع) ونبذ من أخبارهم............................ ٤٩٣
الباب
الرابع : ذكر الامام الباقر(ع)......................................... ٤٩٧
الفصل
الأول : تاريخ مولده ، ومبلغ عمره ، ومدة إمامته ، ووقت وفاته ، وموضع قبره ٤٩٨
الفصل
الثاني : الدلائل على إمامته (ع).................................... ٥٠٠
الفصل
الثالث : ذكر بعض دلائله (ع).................................... ٥٠٣
الفصل
الرابع : طرف من مناقبه وخصائصه ، أخباره (ع)................... ٥٠٥
الفصل
الخامس : أولاده (ع) وأسماؤهم.................................... ٥١١
الباب
الخامس : ذكر الامام الصادق (ع).................................... ٥١٣
الفصل
الأول : تاريخ مولده ، ومبلغ سنه ، ومدة إمامته ، ووقت وفاته (ع)... ٥١٤
الفصل
الثاني : النص على إمامته (ع)..................................... ٥١٦
الفصل
الثالث : طرف من والأخبار بالغائبات.............................. ٥٢٠
ومن
الأخبار الصريحة الدالة على إمامته : ............................... ٥٢٩
الفصل
الرابع : طرف من مناقبه وأخباره (ع).............................. ٥٣٥
الفصل
الخامس : أولاده (ع) ونبذ من أخبارهم............................ ٥٤٦
*
* *
|